الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب البيع
جائز بالإجماع؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}
(1)
(وهو) في اللغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، قاله ابن هبيرة، مأخوذ من الباع؛ لأن كل واحد من المتبايعين يمدُّ
كتاب البيع
حقيقة البيع وحكمه، وشروط صحّته وموانعه وما يجوز وما لا يجوز منه
وفيه خمس وثمانون مسألة:
(1)
مسألة: أجمع العلماء على جواز البيع إذا استكمل شروطه - كما سيأتي - ومستند هذا الإجماع قاعدتان: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وقال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} حيث لزم من تلك الآيات جواز البيع. الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا" وقال: "إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من برَّ وصدق"، الثالثة: الاستقراء؛ حيث ثبت بعد استقراء وتتبع أحوال النبي عليه السلام وأحوال أصحابه أنهم كانوا يبيع بعضهم على بعض كل ما يقبل البيع من عقار ومنقول، فإن قلتَ: لِمَ جاز البيع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن حياة الإنسان مع غيره تقتضي أن يأخذ منه بعض الأشياء ويُعطيها إياه؛ لضرورة المعايشة، وهذا العطاء والأخذ أحيانًا يكون تملُّكًا أبديًا، وأحيانًا يكون إلى مدة معيَّنة، وأحيانًا يكون بعوض عيني، وأحيانًا يكون بدين، فنظَّم الشارع طريقة ذلك بشروط ومواصفات سيأتي ذكرها، فتصعب الحياة بدون ذلك، بل قد تؤدِّي إلى النزاعات والقتال، فنظَّم الشارع كتاب البيع: لحفظ حقوق الناس في العاجل والآجل، فإن قلتَ: لمَ جُعل كتاب البيع بعد كتاب العبادات؟ قلتُ: لأن العبادات ضرورة من ضرورات المسلم، فقُدِّم، ولا يُمكنه أن يتعبد الله بصورة كاملة إلا بنشاط وقوة، =
باعه للأخذ والإعطاء، وشرعًا:(مبادلة مال ولو في الذمة) بقول أو معاطاة، والمال عين مباحة النفع بلا حاجة (أو منفعة مباحة) مُطلقًا (كممر) في دار أو غيرها (بمثل أحدهما) مُتعلِّق بمبادلة: أي بمال أو منفعة مباحة: فتناول تسع صور: عين بعين، أو دين، أو منفعة دين بعين، أو دين بشرط الحلول والتقابض قبل التفرّق، أو بمنفعة منفعة بعين، أو دين، أو منفعة، وقوله (على التأبيد) يُخرج الإجارة (غير ربا وقرض) فلا يسميان بيعًا وإن وجدت فيهما المبادلة؛ لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} والمقصود الأعظم في القرض: الإرفاق وإن قصد فيه التملّك أيضًا
(2)
ولا يكون ذلك إلّا بأكل وشرب، واستقرار بسكن، وهذه الأمور لا تتحقق إلّا بشراء، أو بيع، فناسب ذكر البيع بعد العبادة.
(2)
مسألة: البيع لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء آخر عوضًا عنه عن طريق مدِّ الباع والذراع، وهو في الاصطلاح:"مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض" فقوله: "مُبادلة مال" يُريد به: اشتراط جعل مال في مقابلة مال آخر بقول أو معاطاة، ويُقصد بالمال: كل عين مباحة النفع بلا حاجة كالذهب والفضة، والأطعمة والعقارات، والمركوبات ونحو ذلك: فخرج بذلك: ما لا يُباح نفعه كشراء آلات الطرب واللهو؛ حيث إن هذه ليست بمال شرعًا، وخرج أيضًا: ما يُباح نفعه للحاجة مثل كلب الصيد؛ حيث إنه لا يُباح شراؤه إلا لحاجة، وأشار بقوله:"ولو في الذمة" إلى صور البيع التسع المباحة: وهي: أولاها: بيع عين بعين: كأن تقول: "بعتك هذه الدار بتلك الدار" مُشيرًا إليهما، أو تقول: بعتك هذه الدار بمائة ألف ريال نقدًا". ثانيها: بيع عين بدين كأن تقول: "بعتك هذه الدار بمائة ألف ريال في الذمة" ثالثها: بيع عين بمنفعة كقولك: "بعتك هذه السيارة بوضع بنيان على سطح بيتك أنتفع به وأتوسَّع فيه" رابعها: بيع دين بعين كقولك: "بعتك العبد الهارب الموصوف بكذا بألف ريال نقدًا" خامسها: بيع دين بدين كقولك: بعتك السيارة الموصوفة بكذا =
(وينعقد البيع (بإيجاب وقبول) بفتح القاف وحُكي ضمُّها (بعده) أيّ: بعد الإيجاب، فيقول البائع:"بعثك أو ملَّكتُك أو نحوه بكذا" ويقول المشتري: "ابتعتُ، أو قبلتُ ونحوه"(و) يصح القبول أيضًا (قبله) أي: قبل الإيجاب بلفظ أمر أو ماض مُجرَّد عن استفهام ونحوه؛ لأن المعنى حاصل به
(3)
، ويصح القبول (مُتراخيًا عنه) أي: عن
بالسيارة الموصوفة بكذا" سادسها: بيع دين بمنفعة كقولك: "بعتك السيارة الموصوفة بكذا بطريق وممر أمرُّ به وأمشي عليه من بيتك" سابعها: بيع منفعة بعين كقولك: "بعتك هذا الممرّ بألف ريال نقدًا" ثامنها: بيع منفعة بدين كقولك: "بعتك هذا الممر بألف في الذمة" تاسعها: بيع منفعة بمنفعة كقولك: "بعتك هذا الممر من بيتي، بذلك الممر من بيتك"، وقوله: "بمثل أحدهما" الجار والمجرور متعلقان بـ "مبادلة" والمراد: اشتراط: أن يُبادل المال وهو في الذمة، أو المنفعة المباحة بمثل المال، أو المنفعة ولذلك صارت الصور تسع، وقوله: "على التأبيد" يُشير إلى اشتراط: كون المباع يملكه المشتري إلى الأبد، فخرجت بذلك: الإجارة، والإعارة، فلا يكون العقد عليهما بيعًا؛ لكونهما إلى مدَّة مُعيَّنة - كما سيأتي - وقوله: "غير ربا" يشير إلى أن "الربا" لا يكون بيعًا وإن وجدت فيه صفة البيع والتبادل، فلو قال: بعتك ريالًا بريالين" فظاهره: أنه بيع عين بعين، ولكنه ليس ببيع؛ لأن الله تعالى أنكر على الكفار قولهم:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وقوله: "وقرض" يشير به إلى أن "القرض" لا يُسمَّى بيعًا وإن وُجدت فيه مبادلة؛ لكون عقد القرض: عقد إرفاق، وإحسان، وسيأتي بيان ذلك.
(3)
مسألة: ينعقد البيع بالصيغة القولية وهي: "الإيجاب" الصادر من البائع و "القبول" الصادر من المشتري، فيقول البائع:"بعتك هذه الدار بعشرة آلاف ريال" ثم بعد ذلك يقول المشتري: "قبلتُ ذلك" أو "ابتعتُ ذلك" أو "اشتريتُ" أو أي لفظ يُفيد قبوله لهذا البيع، ويصح: أن يكون "القبول" قبل "الإيجاب" بلفظ: الأمر =
الإيجاب ما داما (في مجلسه)؛ لأن حالة المجلس كحالة العقد (فإن تشاغلا بما يقطعه) عرفًا، أو انقضى المجلس قبل القبول:(بطل): لأنهما صارا مُعرضين عن البيع
(4)
وإن
كقول المشتري: "بعني هذه الدار بعشرة آلاف" فيقول البائع: "بعتك، أو بلفظ الماضي كقول المشتري: "اشتريتُ هذه الدار بعشرة آلاف"، لكن لا يصحّ ذلك بلفظ الاستفهام كقول المشتري: "أتبيعني هذه الدار بكذا؟ "، أو بلفظ التّمنِّي والتَّرجى كقوله "لعلك تبيعني هذه الدار" أو كقوله: "ليتك تبيعني هذه الدار"؛ لقاعدتين: الأولى: إجماع الصحابة؛ حيث إن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز البيع إذا تأخَّر القبول عن الإيجاب، فكذلك يجوز إذا تقدَّم القبول على الإيجاب بلفظ الأمر والماضي والجامع: أن كلًّا منهما يُحقِّق المقصود وهو التراضي، فإن قلتَ: لمَ ينعقد البيع بأي صيغة تُفهم المراد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على العباد، فإن قلتَ: لمَ لا يصح بلفظ الاستفهام ونحوها؟ قلتُ: لكونه لا يدل على شيء.
(4)
مسألة: يجوز أن يتأخر القبول عن الإيجاب بشرطين: أولهما: أن يكون القبول بنفس مجلس الإيجاب فمثلًا: يقول البائع: "بعتك هذه الدار بكذا" فيقول المشتري: "قبلتُ ذلك" قبل أن يتفرّقا من مجلسهما، ثانيهما: أن يستمرّ الكلام في ذلك المجلس بشأن بيع تلك الدار - مثلًا - والتفاوض في ذلك، فلا بدَّ لصحّة ذلك من هذين الشرطين: فإن تفرَّقا، أو تشاغلا عن الكلام في الدار - مثلًا - والتفاوض فيها بأخبار الحروب ونحو ذلك ثم عاد المشتري قائلًا:"قبلتُ" فلا صحة لهذا القبول ومن ثمَّ لا يصح البيع؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا" فاشترط عدم التفرُّق في المجلس في صحّة البيع، الثانية: العرف والعادة: حيث جرت عادة الناس على أن الانقطاع عن التفاوض في مسألة بيع عين، والانشغال بشيء آخر لا يتّصل بذلك ثم العود إلى ذلك: أنه لا يُسمَّى بيعًا صحيحًا، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث =
خالف القبول الإيجاب: لم ينعقد، (وهي) أي الصورة المذكورة، أي: الإيجاب والقبول (الصيغة القولية) للبيع
(5)
، (و) ينعقد أيضًا (بمعاطاة وهي) الصيغة (الفعلية) مثل: أن يقول: "أعطني بهذا خبزًا" فيُعطيه ما يُرضيه، أو يقول البائع:"خذ هذا بدرهم" فيأخذه المشتري، أو وضع ثمنه عادة، وأخذه عقبه، فتقوم المعاطاة مقام الإيجاب والقبول؛ للدلالة على الرضا لعدم التعبد فيه
(6)
، وكذا حكم الهبة،
إن ذلك فيه حماية المتبايعين من الغرر والغش والتنازع فقد يُخالف أحدهما الآخر في الثمن؛ نظرًا لغياب ذكر المبيع، والإعراض عنه.
(5)
مسألة: يُشترط: أن يكون كلام البائع في الإيجاب متّفقًا مع كلام المشتري في القبول في صفة السلعة المباعة، وقدر ثمنها، وصفة هذا الثمن، فإن وقع اختلاف كأن يقول البائع:"بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف صحيحة" فيقول المشتري: اشتريتها بعشرين غير صحيحة" فلا يصحّ البيع، للتلازم؛ حيث إن الاتفاق في ذلك يلزم منه صحّته؛ نظرًا لكونه يدل على تراضيهما، ويلزم من عدم الاتفاق في ذلك: عدم الصحة؛ لانعدام التراضي.
تنبيه: قوله: "وهي: أي الصورة المذكورة
…
الصيغة القولية" قد سبق بيانها في مسألة (3).
(6)
مسألة: ينعقد البيع بالصيغة الفعلية، وتُسمَّى بـ "المعاطاة" وهي: ثلاث صور: أولها: أن تكون المعاطاة من البائع كأن يقول المشتري: "أعطني بهذه العشرة تفاحًا" فيأخذ البائع العشرة، ويُعطيه التفاح، ثانيها: أن تكون المعاطاة من المشتري: كأن يقول البائع: "خذ هذا التفاح بعشرة ريالات" فيأخذ المشتري التفاح، ويُعطيه العشرة، ثالثها: أن تكون المعاطاة منهما كأن يضع المشتري عشرة ريالات ويأخذ التفاح، بدون لفظ؛ لقاعدتين: الأولى: الإجماع؛ حيث إنه ثبت بعد استقراء وتتبُّع أحوال الصحابة والتابعين في البيوع أنهم كانوا يتعاملون بالمعاطاة بصورها الثلاث بدون نكير من أحد وهذا إجماع سكوتي منهم على ذلك. الثانية: القياس، =
والهدية، والصدقة
(7)
ولا بأس بذوق المبيع حال الشراء
(8)
(ويُشترط) للبيع سبعة شروط: أحدها: (التراضي منهما) أي من المتعاقدين (فلا يصح) البيع (من مكره بلا حق)؛ لقوله عليه السلام: "إنما البيع عن تراض" رواه ابن حبان
(9)
، فإن أكرهه
بيانه: كما ينعقد البيع بالقبول والإيجاب، فإنه ينعقد بالمعاطاة والجامع: أن كلًّا منهما يدلّ دلالة واضحة على الرضا، وهذا مقصود؛ لعدم ورود التعبُّد بصيغة مُعيّنة في البيع، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو تقيَّد كل بائع ومشتر بلفظ القبول والإيجاب لشقّ على كثير من الناس، فدفعًا لذلك: شرع ذلك، وهذا يُعتبر جوابًا عمَّن قال: لا ينعقد البيع إلّا بإيجاب وقبول.
(7)
مسألة: الهبة والصدقة والهدية تنعقد بالمعاطاة - كما سبق بيانها -؛ للسُّنّة الفعلية؛ حيث كان عليه السلام قد أخذ الهدية التي جاءته من ملك الحبشة، وغيرها، وكان إذا جاءه شيء سأل هل هو هدية أم صدقة؟ فإن كان هدية: أخذها، ولم ينقل عنه قبول أو إيجاب في ذلك، فدلّ على انعقادها بالمعاطاة، والمقصد التيسير على الخلق وهو من أعظم المصالح.
(8)
مسألة: يُباح أن يتذوَّق المشتري السلعة المباعة إذا قصد شراءها، فيتذوَّق التمر، والعسل، ونحو ذلك ولو لم يأذن البائع؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه كمال الرضا المشترط في البيع، أما إذا لم يقصد الشراء: فلا يجوز له أن يتذوَّق من ملك غيره شيئًا إلّا بعد إذنه.
(9)
مسألة: في الأول - من شروط صحّة البيع - وهو: أن يكون المتبايعان مُتراضيين أي: وقع البيع والشراء بكامل الاختيار من البائع والمشتري، فإن أُكرها معًا. أو أُكره أحدهما على البيع أو الشراء، أو فعلا البيع وهما لم يقصداه، وإنما أظهراه ليتخلّصا من ظلم سلطان أو عدو: فلا يصحّ البيع؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فاشترط التراضي بين المتبايعين، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه =
الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه: صحَّ؛ لأنَّه حمل عليه بحق
(10)
، وإن أُكره على وزن مالٍ فباع مُلكه: كُره الشراء منه وصح
(11)
(و) الشرط الثاني (أن يكون العاقد) - وهو: البائع والمشتري - (جائز التصرّف) أي: حرًا مكلَّفًا، رشيدًا (فلا يصحّ تصرّف صبي
السلام: "إنما البيع عن تراضٍ" حيث حصر البيع الصحيح في وقوعه على تراضي المتعاقدين، ثانيهما: قوله: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" حيث حرّم الضرر في المعاملات؛ لأن النفي هنا نهي، والنهي مطلق فيقتضي التحريم، وهو عام؛ لأن "ضرر وضرار" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه؛ لكون البيع بدون تراض بين المتعاقدين فيه ضرر، فرفعه واجب، فاشترط التراضي لذلك وهذا هو المقصد من الحكم.
(10)
مسألة: إذا أكره الحاكم شخصًا على بيع بعض أملاكه لأجل الوفاء بدين قد حلَّ: فإن هذا البيع يصحّ، للقياس: بيانه: كما أنه لو أكره المرتد على الرجوع إلى الإسلام: فإنه يصحّ إسلامه، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما قد أُكره وحُمل على حق.
(11)
مسألة: إذا باع المضطر ملكه كله أو بعضه بثمن مثله، أو أقل من ذلك كأن يُسجن شخص بسبب عدم الوفاء بدينه، فيضطر لبيع ما يملك لأجل إطلاقه: فإن هذا يصح بيعه، مُطلقًا؛ للمصلحة: حيث إن بيعه فيه مصلحة إطلاقه أكثر من مصلحة تحفّظه على أملاكه، فلا يُوجد ضرر عليه، فإن قلتَ: إنه يصح بيعه مع كراهة الشراء منه - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم: حيث إن نفسه متعلِّقة بأملاكه التي باعها اضطرارًا فتلزم الكراهة. قلتُ إن كراهة شراء الآخرين منه يجعلهم يتحرَّجون من الشراء فيتأخَّرون عنه، وهذا يزيد من مشقة حبسه، وقد أشار إلى ذلك ابن تيمية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" ومُراعاة مصلحة تخليصه من سجنه وموافقته على إرادته عندنا أرجح من غيرها.
وسفيه بغير إذن ولي)، فإن أذن: صحَّ: لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أي: اختبروهم وإنما يتحقَّق بتفويض البيع والشراء إليه
(12)
، ويحرم الإذن بلا مصلحة
(13)
،
(12)
مسألة: في الثاني - من شروط صحة البيع - وهو أن يكون المتبايعان جائزي التصرُّف بأن يكون كلّ واحد منهما: بالغًا، عاقلًا، حرًا، رشيدًا - وهو الذي يحسن التصرف في ماله - فلو باع أو اشترى صبي، أو مجنون، أو عبد، أو سفيه: فلا يصح البيع ولا الشراء إلّا إذا أذن ولي الصبي والمجنون والسفيه، وسيد العبد: فإنه يصحّ؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب: حيث قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} حيث أوجب الشارع أن يُدفع إلى اليتيم ماله بشرط: بلوغه سن النكاح وهو: البلوغ، والحكم عليه بأنه رشيد حسن التصرف لا يشتري شيئًا لا فائدة فيه، ولا يُغبن، ودلّ مفهوم الشرط هنا: على عدم جواز تصرّف الصبي، والسفيه في البيع والشراء، والمجنون مثلهما: لعدم الفارق بجامع: قصور العقل عن إدراك حقائق الأمور من باب: "مفهوم الموافقة"، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من باع عبدًا له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع" حيث يلزم من ذلك: عدم صحّة تصرف العبد في البيع والشراء إلّا بإذن سيده، فإن قلتَ: لمَ اشترط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس من أن تضيع بسبب تصرف بعض ناقصي الإدراك.
(13)
مسألة: يحرم على ولي الصبي والمجنون والسفيه أن يأذن فيما باع أو اشترى هؤلاء إلّا إذا وُجدت مصلحة تُضاف إلى أموالهم؛ وإن أذن فيه بلا مصلحة: فإنه يضمنه؛ للسنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام "قد نهى عن إضاعة المال" وهذا النهي مُطلق فيقتضي التحريم، وفساد المنهي عنه، فيضمنه ويأثم، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لأموال وحقوق الصبيان والمجانين، والسفهاء من الضياع.
وينفذ تصرفهما في الشيء اليسير بلا، إذن، وتصرّف العبد بإذن سيده
(14)
(و) الشرط الثالث: (أن تكون العين) المعقود عليها، أو على منفعتها (مباحة النفع من غير حاجة) بخلاف الكلب؛ لأنَّه إنما يُقتنى لصيد أو حرث أو ماشية، وبخلاف جلد ميتة ولو مدبوغًا؛ لأنَّه إنما يُباح في يابس، والعين هنا مقابل المنفعة: فتتناول ما في الذمة (كالبغل والحمار)؛ لأن الناس يتبايعون ذلك في كل عصر من غير نكير (و) كـ (دود القزّ) لأنَّه حيوان طاهر يُقتنى لما يخرج منه (و) كـ (بزره)؛ لأنَّه ينتفع به في المآل (و) كـ (الفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد) كالفهد، والصقر؛ لأنَّه يُباح نفعها واقتناؤها مطلقًا
(15)
(إلا الكلب) فلا يصحّ بيعه؛ لقول ابن مسعود: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم
(14)
مسألة: إذا تصرَّف صبي، ومجنون، وسفيه في شيء يسير لا تقطع به اليد لو سُرق كالشيء الذي ثمنه ثلاثة دراهم، أو خمسة ريالات ونحوها فباع أو اشترى بها: فإن هذا يصحّ وينفذ ولو لم يأذن الولي؛ للتلازم: حيث يلزم من كونه يسيرًا لا يؤثِّر: صحة تصرفه، ولكون ذلك قد جرت به العادة، تنبيه: قوله: "وتصرف العبد بإذن سيده" قد سبق بيانه.
(15)
مسألة: في الثالث - من شروط صحة البيع - وهو: أن تكون العين المعقود عليها أو المعقود على منفعتها مباحة النفع من غير حاجة، وهذا يشمل أكثر السلع كالعقار، وبهيمة الأنعام والألبسة، والمساكن والأواني والزروع، والثمار، والفيلة، وسباع البهائم كالفهود، والأسود، وسباع الطيور كالصقور النافعة، والحمير والبغال، ودود القزِّ، والقز هو: الحرير وبزره - وهو ولده - فهذه يجوز بيعها وشراؤها: سواء كانت كبيرة ينتفع بها حالًا، أو كانت صغيرة لا ينتفع بها إلّا في المآل وسواء كان طاهرًا كالعقار وبهيمة الأنعام، أو اختلف في نجاسته كالحمير والبغال، وسواء كان البيع حالًا أو في الذمة؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم: حيث يلزم من جواز الانتفاع بما سبق ذكره واقتناؤه من غير حاجة: جواز بيعه وشرائه وأخذ عوضًا عنه. الثانية المصلحة؛ حيث إن الذي لا نفع فيه لا يجوز =
عن ثمن الكلب" متّفق عليه
(16)
(17)
، ولا ولا بيع آلة آلة لهو وخمر ولو كانا ذمَّيين
(18)
للمسلم أن يشتغل به بيعًا وشراء واقتناء، وهو المقصد الشرعي منه، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط بأن يكون النفع من غير حاجة؟ قلتُ: لإخراج الكلب: سواء كان كلب صيد أو حرث، أو حراسة ماشية، لكونه لا يُنتفع به إلّا لحاجة، وسيأتي بيان ذلك، تنبيه: قوله: "وبخلاف جلد ميتة ولو مدبوغًا؛ لأنَّه إنما يُباح في يابس": يُشير إلى أنه لا يجوز بيع الجلد ولو دُبغ. قلتُ: الجلد إذا دُبغ: فإنه يطهر، ويجوز بيعه وشراؤه. وقد فصَّلتُ القول في ذلك في مسألتي (10 و 16) من باب "باب الأنية التي تحفظ فيها المياه" من كتاب "الطهارة".
(16)
مسألة: يحرم بيع الكلب، وشراؤه مطلقًا؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن ثمن الكلب" فحرَّم بيع الكلب وشراءه؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم، والفساد ولكونه يلزم من نهيه عن ثمنه: تحريم بيعه وشرائه، فإن قلتَ: لِمَ حُرم ذلك؟ قلتُ: للنهي عن اقتنائه في غير حال الحاجة للصيد، أو حفظ ماشية أو حرث حيث قال عليه السلام:"من اقتنى كلبًا إلّا كلب صيد أو ماشية: فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان" وقال أبو هريرة: "أو كلب حرث" وهو يُشبه في ذلك الخنزير.
(17)
مسألة: يجوز بيع وشراء الهر -: وهو: القط - لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما يجوز بيع الحمار وشراؤه فكذلك الهر مثله، والجامع: إباحة الاقتناء، والانتفاع في كل وهو المقصد منه. الثانية: قول الصحابي: حيث إن ابن عباس قد أجاز ذلك.
(18)
مسألة: يحرم بيع آلات اللّهو كمزمار وأيّة آلة موسيقية، والطبل ونحو ذلك، ويحرّم أيضًا بيع الخمر وكذا شراؤهما وتأجيرهما: سواء كان ذلك بين مسلمين، أو بين مسلم وكافر: للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها ومبتاعها" فحرم بيع الخمر وشراءه؛ لأنَّه توعَّد من يفعل ذلك باللَّعن، وهذا عقاب ولا يُعاقب إلّا على فعل حرام. =
(والحشرات) لا يصحّ بيعها؛ لأنَّه لا نفع فيها
(19)
إلا عِلَقًا لمصّ الدَّم، وديدانًا لصيد السمك، وما يُصاد عليه كبومة شباشا
(20)
(والمصحف) لا يصحّ بيعه، ذكر في "المبدع": أن الأشهر: لا يجوز بيعه، قال أحمد:"لا نعلم في بيع المصحف رخصة قال ابن عمر: وددتُ أن الأيدي تُقطع في بيعها" ولأن تعظيمه واجب، وفي بيعه ابتذال، له ولا يُكره إبداله وشراؤه؛ استنقاذًا. وفي كلام بعضهم: يعني من كافر، ومقتضاه أنه إن كان البائع مسلمًا: حرّم الشراء منه؛ لعدم دعاء الحاجة إليه، بخلاف الكافر، ومفهوم "التنقيح" و "المنتهى". يصحّ بيعه لمسلم
(21)
ثانيهما: قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" حيث حرّم الشارع على المسلم أن يفعل أيَّ شيء يضرُّ به أو يضرُّ بغيره؛ لأن النفي هنا: نهي، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، وهو عام فيشمل آلات اللّهو والخمور وغيرها مما ثبت ضررها قطعًا عاجلًا وآجلًا؛ لأن "ضرر وضرار" نكرة في سياق نفي وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمسلم وللمجتمع الإسلامي من الفساد.
(19)
مسألة: يحرم بيع الحشرات كالجعلان، والخنافس، والفأر، والحيات، والعقارب؛ للمصلحة؛ حيث إنه لا نفع فيها في العاجل ولا في الآجل.
(20)
مسألة: إن وُجد نفع في بعض الحشرات الخاصة: فيجوز بيعه وشراؤه كأن يُنتفع به في مصِّ الدم الفاسد، أو تُجعل ديدانًا وطعمًا في آخر السَّنَّارة التي تنزل في البحر أو النهر لصيد السمك، أو تُجعل خيالًا تنزل عليه الطيور لصيدها به، وهو المراد من قوله:"كبومة شباشا"؛ للاستصحاب: حيث إن الأصل إباحة بيع وشراء كل ما فيه نفع، وإنما حرّم بيع بعض الأشياء؛ نظرًا لضررها، وهذا فيه نفع، فبقي الأصل وهو: الإباحة، والمقصد: نفع المسلم.
(21)
مسألة: يجوز بيع وشراء المصحف من المسلم؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب، حيث =
(22)
(والميتة) لا يصحُّ بيعها؛ لقوله عليه السلام: "إن الله حرَّم بيع الميتة، والخمر
إن الأصل: إباحة بيع وشراء كل ما فيه نفع للاقتناء وغيره، ولا أنفع من المصحف، فيُعمل بالأصل. الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز بيع وشراء كتب العلم وفيها من الآيات والأحاديث وشروحهما ما هو معلوم، فكذلك يجوز بيع المصحف، والجامع: النفع العظيم في كل، بل هذا قياس أولى؛ لأن نفع المصحف لمن تدبَّره لا يُقارن بنفع شيء آخر، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو مُنع بيعه: واقتُصر على الإهداء ونحوه: للحق الناس مشقَّة، ولما عمَّت منفعته؛ نظرًا لبخل أكثر الناس أو إهدائهم لمنافقيهم فقط، فدفعًا لذلك: شرع ما قلناه. فإن قلتَ: لا يجوز بيعه، وهو ما ذكره المصنف هنا؟ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي، حيث قال ابن عمر:"لا تبيعوا المصحف" وهو نهي مطلق، فيقتضي التحريم. الثانية: التلازم؟ حيث يلزم من بيعه: ابتذاله وعدم صيانته وهذا محرم، فيُحرَّم بيعه المؤدِّي إلى ذلك. قلت: أما قول الصحابي: فهو اجتهاد منه ولا يقوى على معارضة اجتهادنا من الاستصحاب، والقياس والمصلحة، وأما التلازم: فلا نسلِّم أن بيعه ابتذال له، بل نقل إلى آخر سيقوم بصيانته مثل البائع، وأكثر فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي مع الاستصحاب والقياس والمصلحة" و "الخلاف في بيعه هل يُعتبر ابتذالًا أو لا؟ "، فإن قلتَ: لمَ خُصِّص الجواز بالمسلم؟ قلتُ: لأنَّه يجب شراء المصحف من الكافر، أو من أيِّ فاسقٍ مستخفٍّ به استنقاذًا له منه، ولا يجوز بيعه عليه؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تعظيم لكلام الله تعالى. تنبيه: قوله: "ولا يُكره إبداله" هذا ورد بناء على قول القائل: "لا يجوز بيعه" وهو المصنف ومن معه وهو مرجوح كما سبق.
(22)
مسألة: يجوز بيع القرد وشراؤه إذا كان نافعًا في حراسة مكان أو متاع، للقياس، =
والأصنام" متفق عليه
(23)
، ويُستثنى منها السمك والجراد
(24)
(و) في (السرجين النجس)؛ لأنَّه كالميتة، وظاهره: أنه يصحّ بيع الطاهر منه قاله في "المبدع"(و) لا (الأدهان النجسة ولا المتنجِّسة)، لقوله عليه السلام:"إنّ الله إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنه"، وللأمر بإراقته
(25)
(ويجوز الاستصباح بها) أي: بالمتنجِّسة على وجه لا تتعدَّى نجاسته كالانتفاع بجلد الميتة المدبوغ (في غير مسجد)؛ لأنَّه يؤدِّي إلى تنجيسه ولا يجوز
بيانه: كما يجوز بيع الصقر وشراؤه؛ بجامع الانتفاع في كل، أما بيعه وشراؤه لأجل التلاعب به والضحك على حركاته، فلا يجوز، للمصلحة: حيث إن فيه إضاعة وقت ومال، للتلاعب وهو لا يجوز.
(23)
مسألة: لا يجوز بيع وشراء الميتة والخنزير؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إن الله حرَّم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام"، وضرر ذلك لا يخفى على أحد، وهو المقصد منه.
(24)
مسألة: يجوز بيع وشراء ميتة السمك والجراد، للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "أحلَّ لنا ميتتان ودمان أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان فالطحال والكبد" ويلزم من إحلال أكله: أنه مُنتفع به، فلزم جواز بيعه وشرائه؛ للانتفاع به، وهو المقصد منه.
(25)
مسألة: لا يجوز بيع أيِّ شيء نجس كالسِّرجين النجس، وهو: السَّماد الذي يوضع للزروع والأشجار المأخوذ من روث حمار، أو عذرة إنسان، وكالأدهان النجسة كدهن شحم الميتة، ولا يجوز أيضًا بيع الأشياء الطاهرة التي ورد عليها شيء نجس فنجَّسه كدهن حيوان طاهر ورد عليها عذرة أو بول إنسان فنجَّسه، أما إن كان السرجين طاهرًا - كروث بهيمة الأنعام - أو أمكن تطهير الدهن المتنجَّس: فيجوز بيعها وشراؤها؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إذا حرَّم الله شيئًا: حرَّم ثمنه" والنجس والمتنجَّس كالسرجين والدهن يحرم أكله، فيلزم من ذلك: تحريم ثمن بيعه، فلزم: عدم جواز بيعه أو شرائه، =
الاستصباح بنجس العين
(26)
ولا يجوز بيع سمٍّ قاتل
(27)
(و) الشرط الرابع: (أن يكون العقد (من مالك) للمعقود عليه (أو من يقوم مقامه) كالوكيل، والولي؛ لقوله
الثانية: القياس، بيانه: كما أن الميتة لا يجوز بيعها فكذلك لا يجوز بيع السرجين النجس والجامع: الضرر في كل، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من الأمر بإراقة الأشياء النجسة كالخمر ولحوم الحمر الأهلية: تحريم بيعها والسرجين النجس مثلها، الرابعة: المصلحة حيث إن السرجين الطاهر يُنتفع به في وضعه كسماد للأشجار والزروع، فلزم: جواز بيعه وشرائه.
(26)
مسألة: يجوز اتخاذ المصابيح والشموع التي تُنير للناس طريقهم من الأدهان المتنجسة بشروط: أولها: أن لا تتعدَّى النجاسة مُحيط المصباح: بأن يسقط على أرض أو ثياب، ثانيها: أن لا يكون المصباح في مسجد، ثالثها: أن لا يكون هذا الدهن مأخوذًا من نجس العين كأن يؤخذ من دهن الخنزير أو الكلب، أو الميتة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام قد سُئل وقيل له: أرأيت شحوم الميتة فإنه تُطلى بها السفن، وتُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال:"لا هو حرام" فحرم نجس العين وما يُؤخذ منه، وهذا قد أثبت الشرط الثالث. الثانية: المصلحة؛ حيث إن هذا الدهن المتنجَّس إذا تعدَّى إلى ما بَعُد عن موضع المصباح أو جُعل في مسجد: فإن مفسدته ستكون أعظم من مصلحة الانتفاع به، وما هذا شأنه: فإنه يمنع منه، وهو المقرر للشرطين الأول والثاني.
(27)
مسألة: لا يجوز بيع السُّمِّ القاتل كسم الأفاعي ونحوها، ولا يجوز التداوي به، أما السم غير القاتل، وهو سم النبات: فيجوز بيعه وشراؤه إن أمكن التداوي بالقليل منه؛ القاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إن الله إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنه" فالله حرَّم أكل السم، وأيَّ شيء ضرره أكثر من نفعه، وهذا يلزم منه: تحريم ثمنه الذي يُؤخذ عن طريق بيعه وهذا يلزم منه: تحريم بيعه. الثانية: المصلحة؛ حيث إن المصلحة تقتضي التداوي بالقليل من السم غير =
عليه السلام لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" رواه ابن ماجه والترمذي، وصححه، وخُصَّ منه المأذون له، لقيامه مقام المالك (فإن باع ملك غيره) بغير إذنه: لم يصحّ ولو مع حضوره وسكوته، ولو أجازه المالك، ما لم يحكم به من يراه (أو اشترى بعين ماله) أي: مال غيره (بلا إذنه: لم يصحّ)
(28)
القاتل، لدفع مفسدة بعض الأمراض.
(28)
مسألة في الرابع - من شروط صحة البيع - وهو: أن يكون العاقد مالكًا للمعقود عليه وقت العقد، أي: أن البائع يملك العين المباعة، والمشتري يملك ما يشتري به، أو أن يكون وكيلًا عن المالك الأصلي في حال حياته، أو وصيًا بالتصرف بعد وفاته، أو وليًا عن غير مكلَّف، أو يكون ناظرًا لوقف، فإن باع ملك غيره أو اشترى بمال غيره بلا إذن منه أو إذن من القاضي: فلا يصحّ البيع: سواء كان هذا الغير قريبًا أو بعيدًا، وسواء كان حاضرًا وقت البيع أو كان غائبًا، وسواء كان ساكتًا أو لا؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "لا تبع ما ليس عندك" فحرَّم الشارع بيع المسلم ما لا يملك أو شراء شيء بما لا يملك وإن وقع فهو فاسد؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، وهو شامل للحاضر والساكت وغيرهما. ثانيهما: قوله عليه السلام: "وَكَّل في البيع والشراء" وهذا يلزم منه: أن الوكيل يتصرَّف كتصرُّف المالك الذي وكَّله، والوصي، والولي، والناظر في الوقف مثل الوكيل؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة": لكون كل واحد منهم قد أذن له الشارع بالتصرُّف، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية أملاك الناس من أن يفقدوها بسبب تصرُّف بعض الظلمة فيها ببيع أو شراء. تنبيه: قوله: "ما لم يحكم به من يراه" يقصد أنه لو حكم قاضٍ من المالكية أو الحنفية أو الشافعية أو الحنابلة بأن البيع أو الشراء يصحّ بعد الإجازة: فإنا نعمل =
ولو أجيز؛ لفوات شرطه
(29)
....... (وإن اشترى له) أي لغيره (في ذمَّته بلا، إذنه، ولم يسمِّه في العقد: صحَّ) العقد؛ لأنَّه مُتصرِّف في ذمَّته، وهي قابلة للتصرُّف، ويصير ملكًا لمن اشترى (له) من حين العقد (بالإجازة)؛ لأنَّه اشتري لأجله، ونزَّل المشتري نفسه منزلة الوكيل، فملكه من اشتُري له كما لو أذن (ولزم) العقد (المشتري بعدمها) أي: عدم الإجازة؛ لأنَّه لم يأذن فيه، فتعيَّن كونه للمشتري (ملكًا) كما لو لم ينوِ غيره، وإن سمَّى في العقد من اشترى له: لم يصح
(30)
،
به، للمصلحة: حيث إن ذلك فيه نبذ للتنازع والاختلاف.
(29)
مسألة: إذا باع زيد ملك عمرو، أو اشترى بمال عمرو شيئًا، وأجازه عمرو على هذا البيع أو الشراء: فإن البيع والشراء يصحّ وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، ورواية عن أحمد؛ للسنة التقريرية: حيث إنه عليه السلام قد أعطى عروة بن الجعد البارقي دينارًا ليشتري به شاة فاشترى عروة شاتين، ثم باع إحداهما بدينار في الطريق، قال: فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والشاة، وأخبرته فقال:"بارك الله في صفقة يمينك" فوافقه على ما فعل، ولم يُفسد بيعه وشراءه، بل أجازه، ولم يتبيَّن من ذلك وكالة بأحد ألفاظها، فإن قلتَ: إنه لا يصح البيع ولا الشراء هنا ولو أجازه المالك فيما بعد، وهو ما ذكره المصنف هنا، للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا تبع ما لا تملك" فأفسد البيع والشراء مُطلقًا: سواء أجاز المالك من باع ملكه بلا إذنه أو لا. قلتُ: إن هذا الحديث مقيَّد بحديث عروة، ثم إنه عقد له مُجيز له حال وقوعه فصح وقفه على إجازته.
فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الحديثين".
(30)
مسألة: إذا اشترى زيد دارًا لعمرو في ذمته - أي بدون مال من عمرو أو إذنه - ولم يُسمِّ زيد عمرًا عند العقد: فالبيع صحيح، فإذا أخبر زيد عمرًا بأنه قد اشترى له دارًا بثمن كذا: فإن أجاز عمرو ذلك وقبله: فالدار تكون مُلكًا له من حين العقد، وإن لم يُجز ذلك ولم يقبله: فالدار تكون مُلكًا لزيد لازمة له، أما إن سمَّى زيد عمرًا عند العقد: فلا يصح البيع؛ القاعدتين: الأولى: القياس وهو من =
وإن باع ما يظنه لغيره: فبان وارثًا، أو وكيلًا: صحَّ
(31)
(ولا يُباع غير المساكن مما فتح عُنوة كأرض الشام ومصر والعراق) وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم؛ لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين، وأما المساكن فيصحّ بيعها: لأن الصحابة اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر وبنوها مساكن وتبايعوها من غير نكير، ولو كانت آلتها من أرض العنوة، أو كانت موجودة حال الفتح، وكأرض العنوة في ذلك ما جلوا عنه فزعًا منَّا، وما صولحوا على أنه لنا، ونُقِره معهم بالخراج، بخلاف ما صولحوا على أنه لهم كالحيرة، وأُلِّيس، وبانقيا، وأرض بني صلوبا من أراضي العراق، فصح بيعها كالتي أسلم أهلها عليها كالمدينة
وجهين: أولهما: كما أن عمرًا لو أذن لزيد في شراء هذه الدار فاشتراها له زيد: فالبيع صحيح، وتكون لعمرو فكذلك إذا اشتراها لعمرو بدون إذنه وأجاز ذلك وقبله مثل ذلك، والجامع: أن زيدًا يُعتبر وكيلًا لعمرو في كلا الحالتين: سواء تقدم أو تأخر، ثانيهما: كما أن زيدًا لو اشترى لنفسه ولم ينوِ أحدًا غيره: فالبيع صحيح، فكذلك إذا نواها لعمرو ولم يُجزه ولم يقبلها، فالبيع صحيح وتكون العقد الدار ملكًا لزيد لازمة له بسبب والجامع: استكمال شروط العقد في كل.
الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تسمية عمرو في العقد وهو لم يأذن، ولم يُوكَّل: صحة البيع؛ لفقدان الشرط السابق، وهو أن يكون العاقد مالكًا للمعقود عليه، وإذا انتفى الشرط: انتفى المشروط، وهو الحكم.
(31)
مسألة: إذا باع ملك غيره فيما يغلب على ظنه، وبعد العقد بان أن ما باعه مُلكه بسبب أنه ورثه، أو بان أنه مُتصرِّف فيه شرعًا كأن يعلم بأنه وكيل، أو وصي، أو ولي، أو ناظر وقف: فالبيع صحيح؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا تبع ما لا تملك" حيث دلَّ مفهوم الصفة على جواز ما يملكه وما ورثه أو كان وكيلًا أو وليًا أو وصيًا أو ناظرًا عليه دخل فيما يملكه ويتصرَّف فيه، فصحَّ البيع؛ نظرًا لتوفّر شرطه.
(بل) يصحّ أن (تؤجّر) أرض العنوة ونحوها؛ لأنها مؤجَّرة في أيدي أربابها بالخراج المضروب عليها في كل عام، وإجارة المؤجر جائزة
(32)
، ولا يجوز بيع رباع مكة، ولا إجارتها؛ لما روي سعيد بن منصور عن مجاهد مرفوعًا:"رباع مكة حرام بيعها، وحرام إجارتها" وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "مكة لا تُباع رباعها، ولا تكرى بيوتها" رواه الأثرم، فإن سكن بأجرة: لم يأثم بدفعها، جزم به في
(32)
مسألة: يجوز بيع وشراء وإجارة الأراضي في ديار المسلمين: سواء كانت مفتوحة صُلحًا، أو عُنوة، أو سواء كان عليها مساكن أو لا؛ للمصلحة: حيث إنه لو مُنع الناس من ذلك بسبب أن بعضها فُتح عُنوة، وبعضها جلوا عنها، وبعضها دفعوا الخراج من أجل إبقائهم عليها: للحق بالناس الحرج والمشقة وصعوبة الحياة؛ لاختفاء تلك المعلومات في الأزمنة المتأخرة، وصعوبة تنظيمها؛ فدفعًا لذلك جاز كل ما قلناه، وأصله: قاعدة: "الضرر يُزال" و "المشقة تجلب التيسير" و "إذا ضاق الأمر اتّسع" و "لا ضرر ولا ضرار"، فإن قلت: إذا فتحت الأرض عُنوة وقهرًا كأرض الشام ومصر، والعراق: فإن أرضها تؤجر، وإن بُني عليها مساكنُ دور: فإن تلك الدور تباع فقط، دون الأرض، والأرض التي جلوا عنها وهربوا منها خوفًا منَّا مثلها، وكذلك ما صالحناهم عليها وكانت بأيديهم بشرط دفع الخراج، أما ما صالحناهم على أنها لهم فقط، أو ما فتحت صلحًا: فيجوز بيع أراضيها وإجارتها ونحو ذلك؛ لإجماع الصحابة السكوتي؛ حيث إن عمر قد فعل ذلك، وتصرَّف الصحابة في عهد عمر على هذا الأساس ولم يُنكر الباقون عليهم فكان إجماعًا سكوتيًا. قلتُ: إن هذا ممكن لما كان المسلمون حديثي عهد بالفتوحات، تُعرف كل أرض ومَنْ فتحها، وبيت مال المسلمين واحد، أما الآن فيشقُ معرفة ذلك، وتصعب الحياة بذلك؛ لكثرة الأراضي، وكثرة الناس، وتعدد الدول الإسلامية، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة العامة مع الإجماع السكوتي".
"المغني" وغيره
(33)
(34)
(ولا يصحّ بيع نقع البئر) وماء العيون؛ لأن ماءها لا يملك؛
(33)
مسألة: يجوز بيع وشراء وتأجير الأراضي والدُّور في مكة، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد وبعض التابعين، ورجَّحه ابن تيمية وابن القيم؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: أنه لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أنزل في دارك لما وصل مكة قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع" يقصد أن عقيل بن أبي طالب قد باع رباع أبي طالب؛ لكونه هو الوارث لها دون إخوته؛ لكونه على دينه، وهذا يلزم منه أن بيع تلك الدور يصح، ولو لم يصح لبقيت دار النبي صلى الله عليه وسلم ونزل بها، ثانيهما: قوله: "من دخل داره فهو آمن" فأضاف الدار إليه بلام التمليك. الثانية: إجماع الصحابة السكوتي: حيث كان الصحابة كأبي بكر، والزبير، وأبي سفيان وغيرهم لهم دور فمنهم، من باعها، ومنهم من تركها لورثته، واشترى عمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف، واشترى معاوية دار الندوة، ولم يُنكر ذلك كله فكان إجماعًا سكوتيًا منهم على جواز البيع والشراء والإجارة لأراضي ودور مكة. الثالثة: القياس، بيانه: كما أنه يجوز بيع وشراء سائر الأراضي في ديار المسلمين فكذلك يجوز ذلك في مكة والجامع: أن كلًّا منها أرض حية لم يرد إليها تمليك لأحد، فإن قلتَ: لمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن المنع من بيع أراضيها ودُورها فيه مشقَّة وحرج وضيق على المسلمين، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (32)، فإن قلتَ: لا يجوز بيع رباع مكة - وهو المنزل والدار الذي يربع ويسكن فيه المسلم - ولا إجارتها، فإن سكن شخص بأجرة: فإنه لا يأثم بدفعها؛ لاضطراه، وهذا ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "مكة لا تُباع، رباعها، ولا تكرى بيوتها" وفي رواية: "رباع مكة حرام بيعها، حرام إجارتها" والنهي للتحريم؛ لأنَّه مطلق قلتُ: هذا الحديث قد ضعَّفه كثير من أئمة، الحديث، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في حديثهم الأخير هل هو ضعيف؟ " فعندنا: ضعيف، وعندهم: قوي.
(34)
مسألة: لا يجوز بيع وإجارة أراضي المناسك كأرض: المسعى، ورمي الجمار، =
لحديث: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار" رواه أبو داود وابن ماجه، بل رب الأرض أحقّ به من غيره؛ لأنَّه صار في ملكه (ولا) يصحّ بيع (ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك)؛ لما تقدَّم
(35)
، وكذا معادن جارية كنفط وملح، وكذا لو عشَّش في أرضه طير؛ لأنَّه لا يملكه به: فلم يجز بيعه
(36)
(ويملكه آخذه)؛ لأنَّه من المباح
(37)
، لكن لا يجوز دخول ملك غيره بغير إذنه، وحرم منع مستأذن بلا ........
والمواقيت المكانية، ومنى، ومزدلفة، وعرفات والطرق المؤدية إليها؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك، ومستند ذلك: المصلحة؛ حيث إنه لو تُعدِّي عليها ومُلِّكت بالشراء: لظلم من اشتراها الحجّاج والمعتمرين بدفع مبالغ عظيمة لأجل استعمالها، وهذا يؤدّي إلى إبطال هذه الشعائر، وهو مناخ من سبق إليه كما قال ذلك النبي عليه السلام.
(35)
مسألة: لا يجوز لزيد أن يبيع الماء النابع من بئر أو عين في أرضه، ولا يجوز له بيع ما ينبت في أرضه من عشب وشوك وشجر إذا نبت من السماء. لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار" فليس كل واحد من الناس بأولى من الآخر في هذه الأشياء. الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود سبب لملكيتها من إحياء، أو شراء، أو إرث: عدم جواز بيعها، فإن قلتَ: لمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس، لا سيما أنهم بحاجة إليها.
(36)
مسألة: إذا وُجد في أرض زيد نفط - وهو: البترول - أو ملح، أو عش طيور، أو أسماك: فلا يجوز له بيع ذلك إذا لم يتضرر، أما إن وُجد ضرر في عدم البيع: فيجوز البيع لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عدم مُلكيته بمجرَّد وجوده في أرضه: عدم جواز البيع، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ضرر عدم بيعه أكثر من ضرر بيعه فيقدَّم أخفُّ الضررين، وهو: بيعه.
(37)
مسألة: إذا أخذ شخص ذلك الماء فوضعه في أواني، أو أحواض، أو برك، أو =
ضرر
(38)
(و) الشرط الخامس: (أن يكون) المعقود عليه (مقدورًا على تسليمه) لأن ما لا يُقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم: فلم يصح بيعه (فلا يصح بيع آبق) علم خبره أو لا؛ لما روي أحمد عن أبي سعيد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد وهو آبق"(و) لا بيع (شارد و) في (طير في هواء) ولو ألف الرجوع إلا أن يكون بمغلق، ولو طال زمن أخذه. (و) لا بيع (سمك في ماء)؛ لأنَّه غرر ما لم يكن مرئيًا بمحوز يسهل أخذه منه؛ لأنَّه معلوم يمكن تسليمه
(39)
. (ولا) يصح بيع (مغصوب من غير غاصبه،
أخذ الحطب والعشب ووضعه في حزم، وفي حرز مثله، وأخذ النفط ووضعه في أوانيه - وهي: البراميل أو المواصير - وأخذ الطير والسمك ووضعه في مكانها، وبذل جهدًا في ذلك كله: فإنه يملكه بذلك، فيجوز بيعه واستعماله وتأجيره؛ للتلازم؛ حيث يلزم من بذل جهد في جمعه ووضعه في حوزته، وحرز مثله، وهو مما يُباح أخذه شرعًا: أن يتملَّكه ويلزم من تملُّكه إياه: جواز بيعه واستعماله وإجارته.
(38)
مسألة: لا يجوز لزيد أن يدخل أرض عمرو لأخذ ماء، أو عشب أو حطب أو طير أو سمك أو نحو ذلك إلا بعد إذنه - أي: إذن عمرو - ولا يجوز لعمرو أن يمنع زيدًا من الدخول لأخذ ذلك بشرط: عدم وجود ضرر على عمرو، فإن وُجد: فله منعه وإن لم يُوجد هذا الضرر ومنعه عمرو: فإن زيدًا يدخل وإن لم يرضَ عمرو؛ لقواعد: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من الدخول بغير إذن عمرو: التصرُّف في ملك غيره وهذا لا يجوز، الثانية: القياس بيانه: كما أن الولي إذا منع موليته من النكاح من غير وجه حق: فإنه يجوز أن يزوِّجها غيره ممن يليه في الولاية عليها، فكذلك هنا إذا منع عمرو زيدًا من الدخول من غير ضرر: فإن زيدًا يدخل وإن لم يأذن عمرو، والجامع منع الآخرين حقوقهم بغير عذر، الثالثة المصلحة؛ حيث إنه إذا وُجد ضرر يلحق بعمرو إذا دخل زيد: فإنه يُمنع زيد من الدخول؛ رفعًا للضرر عن عمرو.
(39)
مسألة: في الخامس - من شروط صحّة البيع وهو أن يكون البائع قادرًا على تسليم =
أو قادر على أخذه) من غاصبه؛ لأنَّه لا يقدر على تسليمه، فإن باعه من غاصبه، أو قادر على أخذه: صحّ؛ لعدم الغرر، فإن عجز بعدُ فله الفسخ
(40)
(و) الشرط
المعقود عليه للمشتري، والمشتري قادرًا على تسليم الثمن للبائع، وبناء على ذلك: لا يصحّ بيع عبد هارب سواء عُلم مكانه المختفي فيه أو لا، ولا يصح بيع بهيمة شاردة ولا طير في هواء، ولا سمك في ماء، ولو وقع: لا يصحّ البيع، إلا إذا كان الطير أو السمك مرئيًا في مكان ممكن أخذه وتسليمه: فهذا يصح بيعه: سواء طال وقت أخذه من مكانه أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه عليه السلام "نهى عن بيع الغرر" وبيع ما لا يمكن تسليمه في الحال فيه غرر على المشتري وعدم علمه بالمبيع؛ لأن الغرر هو: ما طوي عنك علمه، وخفي عليك باطنه والنهي، مطلق فيقتضي التحريم، والفساد، أي: فساد البيع إن وقع وهذا عام لجميع الحالات التي فيها الغرر كبيع عبد هارب، وبيع شيء شارد وسمك في ماء، وطير في هواء؛ لأن الغرر اسم جنس محلى بأل وهو من صيغ العموم. ثانيهما: أنه عليه السلام نهى عن شراء العبد وهو آبق" وذلك لعدم القدرة على تسليم هذا العبد، والطير في الهواء، والبهيمة الشاردة، والسمك في الماء كالعبد الهارب؛ لعدم الفارق؛ من باب "مفهوم الموافقة" بجامع: عدم القدرة على التسليم. الثانية: القياس، بيانه: كما لا يجوز بيع المعدوم فكذلك لا يجوز بيع ما لا يمكن تسليمه والجامع: عدم تمكين المشتري من الانتفاع بالمبيع بعد العقد. الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من القدرة على تسليم الطير، أو السمك الموجودين في موضع معيَّن: صحّة بيعه؛ لتحقُّق الانتفاع بالمبيع بعد العقد، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ هي حماية حقوق المسلمين من الاعتداء عليها، وسلبها ببيع شيء لا يُقدر على تسليمه، أو شراء من لا يستطيع دفع الثمن، فيقع تنازع واختلاف، فدفعًا لذلك: اشتُرط ذلك.
(40)
مسألة: إذا غصب زيد من عمر دارًا: فلا أن يبيعها عمرو إلّا على زيد - =
السادس: (أن يكون) المبيع (معلومًا) عند المتعاقدين؛ لأن جهالة المبيع غرر، ومعرفة المبيع إما (برؤية) له، أو لبعضه الدال عليه مُقارنة، أو مُتقدِّمة بزمن لا يتغيَّر فيه المبيع ظاهرًا، ويلحق بذلك ما عرف بلمسه، أو شمِّه، أو ذوقه (أو صفة) تكفي في السَّلَم، فتقوم مقام الرؤية في بيع ما يجوز السَّلم فيه خاصة
(41)
ولا يصحّ بيع الأنموذج: بأن
وهو الغاصب - أو على بكر القادر على أخذها من زيد فقط، ولكن هذا المشتري - وهو بكر هنا - إذا بان عجزه عن أخذها من زيد: فله فسخ البيع، وأخذ الثمن من عمرو، ويُقبل قول المشتري - وهو بكر - في ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن قدرة عمرو على تسليم الدار المباعة من غاصبها وهو زيد، أو تسليمها لمن يقدر على أخذها من زيد - وهو بكر - يلزم منه: صحّة البيع؛ نظرًا لتوفّر شرطه، وهو: القدرة على التسليم وانتفاء الضرر، ويلزم من عدم القدرة على تسليم الدار لغيرهما، أو عجز بكر عن أخذها: عدم صحّة البيع؛ لانتفاء شرطه - وهو القدرة على التسليم - ووجود الغرر فتكون صحة البيع وعدمها تدور مع وجود الشرط وعدمه.
(41)
مسألة: في السادس - من شروط صحة البيع - وهو: أن تكون السلعة المباعة معلومة لدى البائع والمشتري حين العقد، وهذا العلم يكون بإحدى الطرق التالية؛ أولها: رؤية تلك السلعة ومشاهدتها، أو رؤية بعضها الدالة على بقيتها: سواء كانت تلك الرؤية مقارنة للعقد، أو متقدِّمة عليه بزمن لا تتغيَّر فيه السلعة تغيُّرًا ظاهرًا، وهذا فيما يَكفي فيه الرؤية ثانيها: وصف تلك السلعة وصفًا دقيقًا يكفي عن المشاهدة، وهذا في الشيء الذي لا يمكن انضباطه إلا بالوصف، كما يوصف ما يُسلم به: بأن يذكر البائع كل ما يختلف به الثمن غالبًا، وهذا الوصف يكون بالقول حتى كأنك تراه؛ ويكون بذكر مثيل له مما يُشاهد، ويكون في الأشياء التي يسلم بها كالمكيل والموزون والمعدود والمذروع. ثالثها: سماع صوت السلعة فيما يشترى ليسمع كالمذياع، والأشرطة، رابعها: تذوق السلعة فيما يُشترى ليؤكل كالعسل والتمر ونحوهما. خامسها: شمُّ السلعة فيما يُشترى ليُشم كالطيب ونحوه، =
يُريه صاعًا مثلًا، ويبيعه الصبرة على أنها من جنسه
(42)
.
ويصح بيع الأعمى وشراؤه بالوصف واللَّمس، والشم، والذَّوق فيما يعرفون به كتوكيله
(43)
(فإن اشترى ما لم يره) بلا وصف (أو رآه وجهله) بأن لم يعلم ما هو
سادسها: لمس السلعة فيما يُشترى ليُلبس كالثياب والأقمشة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر" والسلعة إذا لم تكن معلومة لدى المتبايعين: فإن بيعها فيه غرر وجهالة وهذا منهي عنه؛ والنهي مطلق فيقتضي التحريم والفساد. الثانية: القياس، بيانه: كما أن السَّلَم يصح بالوصف - كما قال عليه السلام: "من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم" فكذلك البيع يصح بالوصف، وهذا فيما يمكن ضبطه بالوصف، والسماع، والذوق، والشم، واللمس كالوصف؛ لعدم الفارق من باب مفهوم الموافقة، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية المسلمين من أن يُغرُّون، ويُخدعون، فيقع أكل أموال الناس بالباطل، وهذا حرام بالإجماع، ويؤدي إلى الاختلافات والمنازعات.
(42)
مسألة: بيع الأنموذج - وهو: أن يُظهر البائع صاعًا من البر أو الأرز ويقول: "أبيع عليك ما عندي من البر أو الأرز مثل هذا الصاع، أو هذا الأنموذج" - يصحّ بشرط: أن يكون كله على صفة الصاع المظهر، أو الثوب، أو نحو ذلك؛ للتلازم: حيث يلزم من رؤية بعضه ووصف الباقي ووروده على ما ظهر: صحّة بيعه، فإن قلتَ: لا يصحّ بيع الأنموذج، وهو ما ذكره المصنف هنا: للتلازم؛ حيث يلزم من عدم رؤية المبيع كله وقت العقد: صحّة عدم بيعه؛ لعدم شرطه. قلتُ: هذا لا يمنع صحّة بيعه؛ لكونه بان أن الباقي كالصاع أو الثوب المظهر، فيكون بعضه ظاهرًا، وبعضه موصوفًا فلا غرر ولا جهالة في ذلك فيلزم صحّته، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض التلازمين".
(43)
مسألة: يصح أن يبيع الأعمى ويشتري السلع التي يمكن له معرفتها بطريق =
(أو وصف له بما لا يكفي سَلَمًا: لم يصح) البيع؛ لعدم العلم بالمبيع
(44)
، (ولا يُباع حمل في بطن ولبن في ضرع مُنفردين)؛ للجهالة، فإن باع ذات لبنٍ أو حملٍ: دخلا تبعًا
(45)
الوصف، واللمس، والشم، والذوق، والسماع؛ للتلازم: حيث إن معرفة السلعة المباعة بتلك الطرق يلزم منها: صحّة بيعه، لها، وشرائها؛ لعدم وجود الغرر والجهالة، وبذلك يصح توكيله في البيع والشراء أيضًا؛ لعدم الفارق، وهذا فيه توسعة على الناس، وهو المقصد الشرعي.
(44)
مسألة: إذا قال البائع: "بعتك هذه الدار أو هذه الآلة بكذا" والمشتري لم يرَ داخل تلك الدار أو الآلة ولم يسمع أوصافهما، أو رأى الدار، ولكنه يجهل ما تحتويه من غرف، ودرج، ونحو ذلك، أو رأى الآلة ولكنه جهل منافعها الكثيرة، أو وصف البائع له تلك الدار أو الآلة وصفًا لا يكفي فيما اشتُرط في السَّلَم من وصف كأن يترك وصفًا يختلف بسببه الثمن: فإن البيع لا يصح في تلك الحالات؛ للتلازم: حيث إن عدم رؤية الدار أو الآلة وعدم وصفها وصفًا دقيقًا يلزم منه: عدم صحّة البيع؛ لعدم وجود شرطه وهو: العلم بالمباع عند العقد، فإن قلتَ: لمَ لا يصح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، وهي: أن ذلك يُؤدِّي إلى الجهالة والغرر فينتج عنهما: الاختلاف والتنازع، وأكل أموال الناس بالباطل.
(45)
مسألة: لا يصح بيع حمل في بطن بهيمة، ولا لبن في ضرع بهيمة بأن يقول البائع:"بعتك ما في بطن هذه الشاة دون الشاة نفسها" أو يقول: "بعتك اللَّبن الذي داخل ضرع هذه الشاة، دون الشاة نفسها" أما إذا باع الشاة وهي حامل، أو كان في ضرعها لبن: فإن المحمول به، واللَّبن يتبعان الشاة المباعة فيكونان للمشتري؛ للتلازم: حيث إن عدم رؤية المحمول به واللبن في الضرع، وصعوبة وصفهما وصفًا دقيقًا يلزم منه عدم صحة البيع؛ لعدم وجود شرطه، وهو: العلم بالسلعة المباعة عند العقد، ويلزم من بيع الشاة: أن يتبعها كل ما لم ينفرد عنها =
(ولا) يُباع (مسكٌ في فأرته) أي: الوعاء الذي يكون فيه؛ للجهالة
(46)
(ولا نوى في تمره)؛ للجهالة
(47)
(و) لا (صوف على ظهر)؛ لنهيه عليه السلام عنه في حديث ابن
قبل العقد كصوفها إلّا إذا اشترطه البائع، فإن قلتَ: لمَ لا يصح بيع اللَّبن الذي في الضرع، ولا الحمل الذي في البطن؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه جهالة للمحمول به، واللبن وأوصافهما، ويُؤدِّي ذلك عادة إلى المنازعات والخصومات، وأكل مال الناس بالباطل.
(46)
مسألة: لا يصح بيع مسك في فأرته - وهو: كيس يكون فيه دم يتدلَّى عند سِرِّ غزال المسك، وهو نوع من الظباء -؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز بيع الحمل وهو في البطن فكذلك لا يجوز بيع المسك في فأرته والجامع: جهالة الصفة والمقدار. فإن قلتَ: لمَ لا يصح بيعه؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إنه مجهول العين والصفة، فيكون في بيعه غرر وأكل مال الآخرين بالباطل. فإن قلتَ: يصح بيعه، وهو قول بعض الشافعية وابن القيم واختاره ابن عثيمين؛ للقياس: بيانه: كما يجوز ما مأكوله في جوفه كالرُّمان والبطيخ، فكذلك يجوز بيع المسك في فأرته، والجامع: أن كلًّا منهما جُعل له هذا الوعاء يصونه ويحفظه، ويُجهل ما في وسطه. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنَّه قياس مع الفارق؛ حيث إن ما مأكوله في جوفه إذا أخرج: قبل بيعه: فإنه يفسد ويتلف بعد مُدَّة، أما المسك إذا أخرج: فلا يفسد، بل تبقى رائحته طيبة، ومع الاختلاف: لا قياس، فإن قلتُ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن قسناه على المحمول به؛ لأن المسك أكثر شبهًا به، بجامع؛ الجهالة فيه، وهم قاسوه على ما مأكوله في جوفه؛ لأنَّه أكثر شبهًا به عندهم، فيكون من باب "قياس غلبة الأشباه".
(47)
مسألة: لا يصحّ بيع النَّوى وهو داخل تمره، والبيض وهو داخل الدَّجاجة؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز بيع الحمل وهو في البطن، واللَّبن وهو في الضرع فكذلك لا يجوز بيع النوى والبيض هنا، والجامع: جهالة الصفة والمقدار في كلٍّ =
عباس، ولأنه متصل بالحيوان، فلم يجز إفراده بالعقد كأعضائه
(48)
(و) بلا يع (فجل ونحوه) مما المقصود منه مُستتر بالأرض (قبل قلعه)؛ للجهالة
(49)
(ولا يصح بيع
منهما، والمقصد حماية الناس من الاختلاف والتنازع، وأكل أموال بعضهم بالباطل.
(48)
مسألة: يصح بيع صوف على ظهر بهيمة بشرط: جزِّه في الحال، وعدم تأذِّي الحيوان بذلك؛ للتلازم؛ حيث إن العلم به برؤيته أو وصفه، أو لمسه، والقدرة على تسليمه في الحال: يلزم منه: صحّة بيعه لتوفر شرطه، وانتفاء الجهالة والغرر، وعدم وجود تنازع في ذلك غالبًا، وهذا هو المقصد منه، فإن قلتَ: لا يصح بيع صوف على ظهر وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "نهى عليه السلام أن يُباع صوف على ظهر" وهذا النهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لا يجوز بيع عضو من الحيوان في حياته كيده فكذلك لا يجوز بيع شعره، والجامع: أن كلًّا منهما مُتَّصل بالحيوان فلا يجوز إفراده بالعقد قلتُ: أما الحديث: فيُحتمل أن يكون المراد بالصوف المنهي عن بيعه هو الذي لا يُقدر على تسليمه، أو هو الذي يضرّ الحيوان إذا أُخذ منه، وهذا متفق على أنه لا يصح بيعه وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال، أما القياس: فهو فاسد؛ لأنَّه قياس مع الفارق؛ حيث إن بيع عضو من الحيوان متّصل به وهو حي لا يمكن استلامه إلّا بعد ذبح الحيوان؛ بخلاف الصوف فيُمكن استلامه وإبقاء الحيوان على قيد الحياة، ومع الاختلاف لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في دلالة الحديث هل يتطرَّق إليها الاحتمال أو لا؟ " فعندنا يتطرّق إليها الاحتمال، وعندهم: لا، وكذا:"الاختلاف في الصوف هل هو مثل عضو اللّحم من الحيوان أو لا؟ " فعندنا: يختلفان، وعندهم: يتشابهان.
(49)
مسألة: لا يصحّ بيع الفجل، أو البصل، أو الجزر ونحوها مما يكون المراد من =
الملامسة) بأن يقول: "بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمستَه: فهو عليك بكذا" أو يقول: "أيُّ ثوب لمستَه: فهو لك بكذا"(و) لا بيع (المنابذة) كأن يقول: "أيُّ ثوب نبذتَه إلي - أي: طرحته -: فعليك بكذا"؛ لقول أبي هريرة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة" متفق عليه، وكذا: بيع الحصاة كـ "اِرمِها فعلى أي ثوب وقعت فلك بكذا" ونحوه
(50)
(ولا) بيع (عبد) غير مُعيَّن (من عبيده ونحوه) كشاة من قطيع،
شرائها هو الانتفاع بما استتر بالأرض، دون أوراقه الظاهرة أما إذا قُلع: فيصح بيعه؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز بيع الحمل في البطن فكذلك لا يجوز بيع تلك الأشياء والجامع: جهالة صفة المباع ومقداره وعدم القدرة على رؤيته، مما يؤدِّي إلى الغرر والتنازع وأكل مال الناس بالباطل، وهو المقصد منه، فإن قلتَ: يصح بيع ذلك، وهو قول كثير من المالكية، وهو رواية عن أحمد رجَّحها ابن تيمية؛ للتلازم؛ حيث إن عدم التغرير بذلك؛ لكون أهل الخبرة يعرفون صفات ما ما لم يُر بسبب رؤيتهم لأوراقه الظاهرة يلزم منه: صحته قلتُ: هذا لا يُسلَّم فقد يقع اختلاف، ولو سُلِّم: فإن العارفين لذلك نوادر من الناس - وهم أهل الخبرة - والباقي من الخلق - وهم الأغلب - يجهلون ذلك، فيقع الغرر عليهم، مما يؤدِّي إلى التنازع كما سبق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "الاختلاف: هل ظهور أوراق تلك الأشياء يدل على معرفة الباطن منها أو لا؟ " فعندنا: لا يدل على شيء، وعندهم يدل.
(50)
مسألة: لا يصح بيع الملامسة بأن يقول البائع للمشتري: "أيُّ ثوب لمستَه: فهو عليك بمائة ريال" أو يقول: "أبيعك ثوبي بثوبك" ولا ينظر أحدهما إلى ثوب الآخر، بل يلمسه، وكذا لا يصح بيع المنابذة بأن يقول البائع للمشتري:"أيُّ ثوب نبذته وطرحته عليَّ فهو عليك بمائة ريال"، وكذا: لا يصح بيع الحصاة بأن يقول البائع للمشتري: "اِرم هذه الحصاة فأيُّ ثوب سقطت عليه: فهو لك بمائة ريال، أو يقول البائع: "بعتك من هذه الأرض قدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا =
وشجرة من بستان؛ للجهالة، ولو تساوت القِيَم
(51)
(ولا) يصح (استثناؤه إلا مُعينًا) فلا يصح: "بعتك هؤلاء العبيد إلّا واحدًا"؛ للجهالة، ويصحّ إلّا هذا ونحوه؛ لأنَّه عليه السلام "نهى عن الثُّنيا إلا أن تُعلم" قال الترمذي: حديث صحيح
(52)
(وإن
رميتها بمبلغ خمسين ألف ريال"؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن بيع الملامسة والمنابذة، وبيع الحصاة" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: لمَ لا يصح هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه البيوع الثلاثة فيها جهالة وغرر، وتؤدّي إلى التنازع وأكل أموال الناس بالباطل؛ فإن قلتَ: لمَ خُصِّصت هذه البيوع بالذكر مع أنها داخلة فيما سبق؟ قلتُ: لأنها بيوع كان أهل الجاهلية يجيزونها.
(51)
مسألة: لا يصحّ بيع شيء غير مُعيَّن من أشياء متساوية كأن يقول البائع: "بعتك عبدًا من عبيدي بعشرة آلاف" أو يقول: "بعتكَ شجرة من أشجاري هذه بكذا" أو يقول: "بعتك شاة من هذه المجموعة بكذا"؛ للتلازم؛ حيث إن عدم معرفة المباع بالرؤية ولا بالوصف يلزم منه: عدم صحة البيع؛ لفقدان شرطه، فإن قلتَ: لِمَ لا يصح هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جهالة وغرر، فيؤدِّي إلى أكل مال الناس بالباطل.
(52)
مسألة: لا يصحّ أن يبيع مجموعة من الأغنام أو الأشجار أو العبيد أو السيارات، أو الدُّور ونحو ذلك ويستثني واحدًا مبهمًا كأن يقول البائع:"بعتك هذه الأغنام إلّا واحدة، أو يقول: "بعتك هؤلاء العبيد إلا واحدًا" أما إن استثنى منها واحدًا وعرَّفه بأن أشار إليه قائلًا: "إلّا هذه الشاة" أو "إلّا هذا العبد" أو وصف الشاة المستثناة، والعبد المستثنى بوصف لا يختلط بغيره: فيصح البيع؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن بيع الثُّنيا إلا أن تُعلم" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، فأفسد بيع مجموعة أشياء قد استُثني منها شيء واحد ومبهم، وأثبت صحّة بيع المجموعة إن استُثني شيء قد عُلم بالإشارة، أو بالوصف؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، فإن =
استثنى) بائع (من حيوان يُؤكل رأسه وجلده وأطرافه: صح)؛ لفعله عليه السلام في خروجه من مكة إلى المدينة، رواه أبو الخطاب، فإن امتنع المشتري من ذبحه: لم يُجبر بلا شرط، ولزمته قيمته على التقريب، وللمشتري الفسخ بعيب يختصّ هذا المستثنى (وعكسه) أي: عكس استثناء الأطراف في الحكم استثناء (الشحم والحمل) ونحوه مما لا يصح أفراده بالبيع، فيبطل البيع باستثنائه، وكذا: لو استثنى منه رطلًا من لحم ونحوه
(53)
(ويصحّ بيع ما مأكوله في جوفه كرمَّان وبطِّيخ) وبيض؛ لدعاء الحاجة
قلتَ: لمَ لا يصح الأول، وصحّ في الثاني؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لم يصح في الأول: لوجود الجهالة والغرر فيؤدِّي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وصحّ في الثاني لأن المستثنى المعيَّن: توفَّر فيه شرط صحة البيع.
(53)
مسألة: إذا قال البائع للمشتري: "بعتك هذه الشاة كلها إلّا رأسها، وجلدها، وأطرافها كيدها ورجلها": فإن البيع يصح، فإن اشتُرط البائع ذبحها في الحال: أُجبر المشتري على ذبحها ويُعطى البائع، ما استثناه من الرأس أو الأطراف أو تجب على المشتري قيمة ما استثناه البائع وإن لم يشترط: بقي شريكًا له فيها حتى يذبحها، فإن رأى المشتري في رأس الشاة عيبًا يؤثر في بدنها: فله ردُّها، وأخذ الثمن من البائع، أما إن استثنى البائع شيئًا داخل الشاة كأن يقول:"بعتك هذه الشاة إلّا شحمها أو حملها، أو رطلًا من لحمها": فلا يصح البيع؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "نهى عليه السلام عن بيع الثُّنيا إلا أن تعلم" وهذه الأطراف كالرأس، والرجل واليد معلومة بالرؤية فثبت صحتها؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، ودلَّ أيضًا على أن استثناء الدواخل كالشحم والحمل، وبعض اللَّحم يُبطل البيع؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد. الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد فعل ذلك الاستثناء عند هجرته من مكة إلى المدينة. فإن قلتَ: لِمَ صح في الحالة الأولى، ولم يصح في الثانية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الأطراف ظاهرة تعلم بالرؤية فلا جهالة ولا غرر فيها، ولا يقع التنازع فيها، =
لذلك، ولكونه مصلحة؛ لفساده بإزالته (و) يصح بيع (الباقلاء ونحوه) كالحمُّص، والجوز واللوز (في قشره) يعني ولو تعدَّد قشره؛ لأنَّه مفرد مضاف فيعمّ، وعبارة الأصحاب "في قشريه"؛ لأنَّه مستور بحائل من أصل خلقته أشبه الرُّمَّان
(54)
(و) يصح بيع (الحب المشتدّ في سُنبله): لأنَّه عليه السلام جعل الاشتداد غاية للمنع، وما بعد الغاية يُخالف ما قبلها، فوجب زوال المنع
(55)
(و) الشرط السابع (أن يكون الثمن معلومًا) للمتعاقدين أيضًا كما تقدَّم؛ لأنَّه أحد العوضين فاشترط العلم به كالمبيع
(56)
أما الدواخل كالشحم والحمل، واللحم فلم تعلم برؤية ولا بوصف، فتقع الجهالة والغرر في ذلك، ويقع التنازع فيها عادة.
(54)
مسألة: يصحّ بيع كلّ شيء يُؤكل ما في جوفه دون قشره وظاهره مثل: الرمان، والبطيخ، والبرتقال، والموز، والبيض، والباقلاء - وهو: الفول - واللوز، والحمُّص ونحو ذلك؛ للمصلحة: حيث إن إخراجه من قشره قبل بيعه يُفسده ويُتلفه، فدفعًا لتلك المفسدة: صحَّ بيعه في قشره مع عدم رؤية ما يُستفاد منه.
(55)
مسألة: يصح بيع الحب المشتد وهو داخل سُنبله وقشره؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن بيع الحب حتى يشتدَّ" فأباح الشارع بيع الحب بعد اشتداده، دلّ على ذلك مفهوم الغاية؛ حيث إن ما بعد لفظ "حتى" يخالف في الحكم ما قبلها، وهذا عام لما كان داخل قشره وسنبله، ولما كان خارج ذلك؛ لأن "الحب" جمع معرف بأل وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحب إذا أخرج من قشره غالبًا ما يفسد، فدفعًا لذلك أُجيز ذلك.
(56)
مسألة: في السابع - من شروط صحّة البيع - وهو: أن يكون الثمن معلومًا للمتعاقدين برؤيته جميعه عند العقد، أو مُتقدِّم عليه بزمن لا يتغيَّر فيه، أو بوصف - كما سبق في مسألة (41) -؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُشترط العلم بالسلعة المباعة برؤية أوصفه - كما سبق في الشرط السادس في مسألة (41) - فكذلك يُشترط العلم بالثمن، والجامع: أن كلًّا منهما عوض عن الآخر في هذا =
(فإن باعه برقمه) أي: ثمنه المكتوب عليه، وهما يجهلانه، أو أحدهما: لم يصح؛ للجهالة (أو) باعه (بألف درهم ذهبًا وفضة): لم يصح؛ لأن مقدار كل جنس منهما مجهول (أو) باعه (بما ينقطع به السعر) أي: بما يقف عليه من غير زيادة: لم يصح؛ للجهالة (أو) باعه (بما باع) به (زيد وجهلاه أو) جهله: (أحدهما: لم يصح البيع؛ للجهل بالثمن، وكذا: لو باعه كما يبيع الناس، أو بدينار أو درهم مطلق وثمَّ نقود متساوية رواجًا
(57)
، وإن لم يكن إلا واحدًا، أو غَلَب: صح، وصُرف إليه
(58)
،
البيع، فإذا اشتُرط في أحدهما اشتُرط في الآخر، فإن قلتَ: لمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه محافظة لحقوق الناس من أن تؤكل بالباطل.
(57)
مسألة: إذا جهل المتبايعان أو أحدهما ثمن السلعة: فلا يصحّ البيع، فمثلًا: لو قال البائع للمشتري: "بعتك هذا الثوب بثمنه المكتوب عليه"، أو قال له: بعتك هذه الدار بألف درهم ذهبًا وفضة" أو قال له: "بعتك إيّاها بألف بعضها ذهب، وبعضها فضة" أو قال له:"بعتك هذا الثوب بما ينقطع ويقف عليه السعر في المساومة من غير زيادة" أو قال له: "بعتك إيّاه بالثمن الذي باع به زيد" أو قال له: "بعتك إيّاه بالثمن الذي يبيع به الناس" أو قال له: "بعتك إيّاه بدينار أو درهم" وأطلق وكان الناس في البلد يتعاملون بعدة دنانير، وعدة دراهم يختلف كل واحد منها في الثمن كالريال السعودي والريال القطري وكالدينار الكويتي، والدينار العراقي مثلًا: وكل واحد من المتبايعين يجهل هذا الثمن الذي في تلك الصور السبع، أو كان الجاهل له أحدهما: فلا يصحّ البيع؛ للتلازم؛ حيث إن جهلهما، أو جهل أحدهما بالثمن يلزم منه: عدم صحّة البيع؛ لفقدان شرط البيع - وهو العلم بالثمن - فإن قلتَ: لمَ لا يصح البيع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يؤدِّي إلى أكل أموال الناس بالباطل؛ والتنازع؛ بسبب الجهالة في الثمن.
(58)
مسألة: إذا قال البائع للمشتري: "بعتك هذا الثوب بدينار" وأطلق، وكان أهل البلد أو أغلبهم يتعاملون بدينار معيَّن: فإن البيع يصح ويُصرف إلى ذلك الدينار =
ويكفي علم الثمن بالمشاهدة كصبرة من دراهم، أو فلوس، ووزن صنجة، وملء كيل مجهولين
(59)
(وإن باع ثوبًا أو صبرة) وهي: الكومة المجموعة من الطعام (أو) باع (قطيعًا كل ذراع) من الثوب بكذا (أو) كل (قفيز) من الصبرة بكذا (أو) كل (شاة) من القطيع (بدرهم: صح) البيع، ولو لم يعلما قدر الثوب، والصبرة، والقطيع؛ لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، والثمن معلوم؛ لإشارته إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلَّق بالمتعاقدين، وهي: الكيل، والعد، والذرع
(60)
(وابن باع من الصبرة كل قفيز
المعيَّن فقط؛ للتلازم؛ حيث إن عدم وجود غير هذا النقد مما يُسمَّى بدينار في هذه البلدة، أو غلب تعاملهم به يلزم منه: صحّة البيع؛ لتوفِّر شرط البيع، وهو: العلم بالثمن، وعدم الجهالة.
(59)
مسألة: يُعلم الثمن بطريق المشاهدة كأن يقول البائع: "بعتك هذه الدار بما يساوي وزن هذا الحجر فضة" أو يقول: "بعتك هذه الدار بما يساوي ملء هذا الوعاء، أو هذا الكيس ذهبًا" أو "بما يساوي هذا الكيس بر، أو أرز أو شعير" وهكذا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ذلك: معرفة الثمن بوضوح فلا توجد جهالة، ولا يحصل تنازع غالبًا.
(60)
مسألة: إذا قال البائع للمشتري: "بعتك هذا القماش من الأثواب كل متر أو ذراع بعشرة ريالات" أو قال: "بعتك هذه المجموعة من الطعام - وهي الصبرة والكومة - كل صاع - أو قفيز - بخمسة ريالات - أو قال: "بعتك هذه المجموعة من الأغنام كل شاة بمائة ريال": فإن البيع صحيح، ولو لم يعلما أو أحدهما: قدر القماش، أو قدر الطعام، أو قدر الأغنام للتلازم؛ حيث إن المبيع قد علماه برؤيتهما له، وعلما - أيضًا - الثمن بالتصريح به، ومجموعه عُلم عن طريق ذرع القماش، وكيل الطعام، وعدِّ الأغنام، فيلزم من ذلك: صحّة البيع: لوجود شرطه، فإن قلتَ: لمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تلك المعاملة يحتاجها الناس كثيرًا، وهي لا تؤدِّي إلى الغرر، ولا التنازع غالبًا.
بدرهم): لم يصح؛ لأن "مِنْ" للتبعيض و "كل" للعدد فيكون مجهولًا، بخلاف ما سبق؛ لأن المبيع الكل، لا البعض فانتفت الجهالة، وكذا: لو باعه من الثوب كل ذراع بكذا، أو من القطيع كل شاة بكذا: لم يصح؛ لما ذكر
(61)
(أو) باعه (بمائة درهم إلا دينارًا): لم يصح (وعكسه) بأن باع بدينار أو دنانير إلا درهمًا: لم يصح؛ لأن قيمة المستثنى مجهولة، فيلزم الجهل بالثمن؛ إذ استثناء المجهول من المعلوم يُصيِّره مجهولًا
(62)
(أو باع معلومًا ومجهولًا يتعذَّر علمه) كهذه الفرس، وما في بطن أخرى
(61)
مسألة: إذا قال البائع للمشتري: "بعتك من هذا القماش: كل متر أو ذراع بعشرة ريالات" أو قال: "بعتك من هذه المجموعة من الطعام - والصبرة - كل صاع أو قفيز بخمسة ريالات" أو قال: "بعتك من هذا القطيع من الأغنام: كل شاة بمائة ريال": فالبيع صحيح، وهو قول كثير من العلماء منهم ابن عقيل؛ للقياس، بيانه: كما أنه إذا قال: "أجرتك هذه الدار كل شهر بألف ريال": فإنه يصح فكذلك تصح هذه الصيغ من البيع والجامع: أن كلًّا من تلك الصيغ يعلم منها البائع أو المؤجِّر: العين المباعة والمنفعة وثمنها، فلا جهالة فيهما ولا غرر، فإن قلتَ: إن تلك الصيغ الثلاث لا يصح البيع بها وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن "مِنْ" للتبعيض، و "كل" تفيد العموم في العدد، وهذا يلزم منه عدم معرفة البائع بالمباع من القماش، أو الطعام، أو الأغنام؛ لكونه قابلًا للكثير والقليل، فيلزم عدم صحة البيع؛ لعدم شرطه، وهو: العلم بالمباع قلتُ: بل يعرف البائع الكمية التي سيأخذها المشتري من القماش والطعام والأغنام إذا تمَّ اختياره لها، وهنا يُسلِّمه البائع القدر الذي اختاره بثمنه، وهذا لا جهالة فيه، ولا غرر كالصورة الأولى التي ذكرناها في مسألة (60)، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: هل تعبير البائع بـ "مِنْ" التبعيضية في هذه الصور تلزم منه الجهالة في المباع أو لا؟ فعندنا: لا، وعندهم، نعم.
(62)
مسألة: إذا قال البائع للمشتري: "بعتك هذه الدار بمائة دينار إلّا درهمًا" أو =
(ولم يقل: كل منهما بكذا: لم يصح) البيع؛ لأن الثمن يوزَّع على المبيع بالقيمة، والمجهول لا يمكن تقويمه، فلا طريق إلى معرفة ثمن المعلوم، وكذا: لو باعه بمائة، ورطل خمر، وإن قال: كل منهما بكذا: صحّ في المعلوم بثمنه؛ للعلم به
(63)
(فإن لم
قال: "بعتك إيّاها بألف درهم إلّا دينارًا": فلا يصحّ البيع إن كانت قيمة الدينار والدرهم غير معلومة من قبل الدولة، أما إن كانت معلومة: فيصحّ البيع؛ للتلازم؛ حيث إن قيمة الدينار والدرهم إذا كانت غير معلومة فإن المستثنى ورد من غير جنس المستثنى منه فيلزم من ذلك الجهل بالثمن؛ لأن استثناء المجهول من المعلوم يُحوِّله إلى مجهول؛ لعدم معرفة قيمة المستثنى، وهذا يلزم منه: عدم صحّة البيع؛ لفقدان شرطه، وهذا يُفضي إلى الغرر والتنازع فلذا لم يصحّ، أما إذا عُلمت قيمة الدينار والدرهم من قبل الدولة: فلا جهالة في ذلك؛ لمعرفة الثمن فيصحّ البيع فلو قال: "بعتك هذا الثوب بمائة درهم إلّا دينارًا" وكانت قيمة الدينار الرسمية عشرة دراهم: فتكون قيمة الثوب: تسعين درهمًا وهكذا.
(63)
مسألة: إذا باع معلومًا ومجهولًا بثمن واحد، ولا يمكن معرفة ثمن المجهول: فلا يصحّ البيع فمثلًا: لو قال البائع للمشتري: "بعتك هذه الشاة، وما في بطن تلك الشاة الأخرى بمائة ريال" أو قال: "بعتك هذه الشاة، وكذا رطلًا الخمر بمائة ريال": فلا يصح؛ للتلازم: حيث إن الثمن معلوم، والمبيع قد عُلم بعضه، وجهل البعض الآخر: إما لتعذر علمه؛ لكونه حملًا، أو لكونه لا قيمة له في الإسلام كالرطل من الخمر فيلزم عدم صحّة البيع: لفقدان شرطه، وهو: العلم بالمبيع فإن قلتَ: لمَ لا يصح ذلك؟ قلتُ: لأن الثمن يُقسَّم على المبيع بالقيمة، والحمل، والرطل من الخمر لا يمكن تقويمهما؛ للجهالة فيهما، بخلاف ما لو حدَّد لكل قسم ثمنًا مُعيَّنًا بأن قال:"الشاة بثمانين، وما في بطن الأخرى بعشرين" فإن هذا يصح في الشاة فقط؛ لعدم الجهالة في كل.
يتعذَّر) علم مجهول بيع مع معلوم: (صحّ في المعلوم بقسطه) من الثمن؛ لعدم الجهالة، وهذه إحدى مسائل تفريق الصفقة الثلاث، والثانية: أشير إليها بقوله: (ولو باع مشاعًا بينه وبين غيره كعبد) مُشترك بينهما (أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء) كقفيزين مُتساويين لهما: (صحّ) البيع (في نصيبه بقسطه) من الثمن؛ لفقد الجهالة في الثمن؛ لانقسامه على الأجزاء، ولم يصح في نصيب شريكه؛ لعدم إذنه، والثالثة ذكرها بقوله:(وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو) باع (عبدًا وحرًا أو) باع (خلَّا وخمرًا صفقة واحدة) بثمن واحد: (صح) البيع (في عبده) بقسطه (وفي الخل بقسطه) من الثمن؛ لأن كل واحد منهما له حكم يخصُّه، فإذا اجتمعا: بقيا على حكمهما، ويُقدَّر خمر خلًّا، وحر عبدًا؛ ليتقسَّط الثمن
(64)
(ولمشتر الخيار إن جهل الحال) بين
(64)
مسألة: تفريق الصفقة هي: أن يُجمع بين ما يصح بيعه وما لا يصح بيعه في عقد واحد، ثم يُفرَّق بينها، والمراد بالصفقة: العقد سُمِّي بذلك: نظرًا لكون كل واحد من المتبايعين يُصفِّق بيديه عند العقد، والمراد بتفريقها: تصحيح بعض هذه الصفقة، وإبطال البعض الآخر، وهي صورٌ ثلاث: أولها: أن يقول البائع للمشتري: "بعتك هذا الثوب، وثوبًا آخر صفته كذا وهو يساوي الثوب المشار إليه بمبلغ وقدرة مائة ريال" فيصحّ البيع، ويُحسب الثوب الحاضر بقسطه، وهو: خمسون ريالًا، فيدفعها المشتري، ويأخذ الثوب الحاضر، ثانيها: أن أرضًا أو عبدًا مشتركًا بينه وبين غيره اشتراكًا مُشاعًا: فيصحّ البيع في ملك البائع فقط، دون ملك شريكه، فيكون للمشتري نصف الأرض، أو نصف العبد، وكذلك: إذا باع شخص شيئًا مُشتركًا بينه وبين آخر غير مشاع لكن الثمن ينقسم عليه بالأجزاء مثل: صاعين من الأرز أحدهما للبائع والآخر لشريكه، فخلطهما معًا وباعهما بعشرة، فيصحّ البيع في صاع البائع فقط، ولا يصحّ البيع في شريكه، فيردّ المشتري صاعًا، ويردّ عليه البائع ثمنه وهو: خمسة، ثالثها: أن يبيع شخص عبده وعبد غيره بغير إذن ذلك الغير، أو باع ذلك الشخص عبده وحرًا، أو باع =
إمساك ما فيه البيع بقسطه من الثمن، وبين ردِّ المبيع؛ لتبعيض الصفقة عليه
(65)
وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه، أو باع عبديه لاثنين، أو اشترى عبدين من اثنين، أو وكيلهما بثمن واحد: صحَّ وقسَّط الثمن على قيمتهما
(66)
، وكبيع إجارة، ورهن،
خلًا وخمرًا بعقد واحد بثمن واحد: فالبيع صحيح فيما يخصُّه وهو: عبده، والخل، ويُقوَّم الثمن على حسب تقرير أهل المعرفة، فمثلًا: لو باع عبده وعبد غيره بعشرة آلاف وقدِّر عبد غيره بستة آلاف: فإن عبده يكون بأربعة آلاف، فيُعيد المشتري عبد غير البائع، ويُعيد البائع ستة آلاف ويُعطيها المشتري، وكذلك العمل فيما إذا باع عبدًا، وحرًا، فيُقدَّر الحرّ على أنه عبد فيُقوَّم، وكذلك العمل فيما إذا باع خلًا وخمرًا: فيُقدّر الخمر على أنه خل، ويُقوم ثمنه، ويُخصم من الثمن الكلي، ويُرجع للمشتري، ويؤخذ منه ما لا يحلّ بيعه كالحر، والخمر، للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الجهالة بالمبيع والثمن في الصور الثلاث: صحّة البيع فيها، نظرًا لتوفّر شرطه.
(65)
مسألة: إذا جهل المشتري ما فعله البائع في الصور الثلاث - المذكورة في مسألة (64) -: فهو بالخيار: فإن شاء أمضى البيع، وردَّ ما لا يمكن بيعه، وأخذ قسطه من الثمن، وإن شاء ردَّ البيع كله وأخذ ما دفعه كله، أما إن كان المشتري يعلم ما فعله البائع - من أنه باع حقه وحق غيره ونحو ذلك من الصور السابقة -: فإنه لا خيار له؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الجهالة والغرر وتبعيض الصفقة: صحة البيع فيما هو تحت ملك البائع، ويلزم من عدم علم المشتري بما فعله البائع في الصور الثلاث: ثبوت الخيار له في الصفقة، ويلزم من علمه بما فعله البائع: عدم ثبوت الخيار له؛ لأنَّه دخل في العقد مع رضاه.
(66)
مسألة: إذا باع عبده وعبد غيره بإذنه لشخص بثمن واحد، أو باع عبدين له لشخصين بثمن، واحد أو اشترى عبدين من شخصين أو من وكيلهما بثمن واحد، أو باع شخصان عبديهما لشخصين آخرين بثمن واحد: فالبيع صحيح في =
وصلح ونحوها
(67)
.
فصل: (ولا يصح البيع) ولا الشراء (ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني) أي: الذي عند المنبر عقب جلوس الإمام على المنبر؛ لأنَّه الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصَّ به الحكم؛ لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} والنهي يقتضي الفساد
(68)
، وكذا: قبل النداء لمن منزله بعيد في
تلك الصور الأربع، ويُقسَّط ويُقسَّم الثمن على العبدين فكل يأخذ ما يُقابل عبده؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الجهالة بالثمن والمبيع، وإمكان تقسيط وتقسيم الثمن: صحة البيع؛ لتوفُّر شرطه.
(67)
مسألة الإجارة، والرَّهن، والصلح ونحو ذلك من سائر العقود كالبيع في تفريق الصفقة بصورها الثلاث - كما سبق بيانها في مسألة (64) وما بعدها - فلو أجَّر زيد داره ودار عمرو بغير إذنه: فإن الإجارة تصحّ في دار زيد فقط، دون دار عمرو، ويرد المستأجر دار عمرو، ويُرجع زيد له أجرة دار عمرو، هذا إن شاء، وإن شاء أبطل عقد التأجير كله فله ذلك إن كان جاهلًا بما فعله زيد، أما إن كان عالمًا به: فلا خيار للمستأجر - كما ذكرنا ذلك في مسألة (65) - وكذا القول إن أذن عمرو لزيد في تأجير داره مع دار زيد، ويُقسط بثمن واحد ويُقسط ويُقسَّم الثمن - كما سبق ذكره في مسألة (66) - للتلازم؛ وقد سبق بيانه في مسائل (64 و 65 و 66).
(68)
مسألة: الذي تجب عليه صلاة الجمعة - وهو: الذكر الحر، المكلَّف، المستوطن في بلد له اسم واحد، الذي لا يبعد سكنه عن الجامع أكثر من فرسخ واحد - كما سبق في مسألة (7) من باب الجمعة من كتاب:"الصلاة" - هذا يحرم بيعه وشراؤه بعد النداء الثاني لصلاة الجمعة، وهو الذي يكون بعد جلوس الإمام على المنبر، ولو وقع البيع في هذا الوقت: فلا يصح؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا =
وقت وجوب السعي عليه وتحرم المساومة، والمناداة إذًا؛ لأنها وسيلة للبيع المحرم، وكذا: لو تضايق وقت مكتوبة
(69)
(ويصح) بعد النداء المذكور البيع لحاجة كمضطر
الْبَيْعَ} فحرَّم الشارع البيع بعد النداء الثاني، ويفسد إذا وقع في هذا الوقت؛ لأن النهي في قوله:"وذروا" مطلق، فيقتضي التحريم، والفساد، وهو فساد المنهي عنه، فإن قلتَ: لِمَ خصِّص النداء الوارد في الآية بالنداء الثاني؟ قلتُ: لأنَّه لا يُوجد إلّا نداء واحد في عهده عليه السلام، وهو الذي يكون بعد جلوس الإمام على المنبر، ونزلت الآية بذكره، فيُخصَّص النداء به، أما النداء الأول فقد جعله عثمان رضي الله عنه؛ لاقتضاء المصلحة له، لما كبُرت المدينة وكثُر سكانها ولم يُنكر ذلك الصحابة، فكان إجماعًا سكوتيًا منهم على مشروعية النداء الأول، ومستنده المصلحة، فإن قلتَ: لمَ حرم البيع بعد النداء الثاني، ولا يصح إن وقع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الاشتغال بالبيع والشراء والتجارة عمومًا مشُغل لقلب المسلم عن الانتباه لما يُقال في الخطية، ومشغل له عن صلاته؛ لكونه أهم ما ينشغل به المسلم من أمور معاشه.
(69)
مسألة: يحرم البيع والشراء على من وجبت عليه صلاة الجمعة قبل النداء الثاني لها إذا كان بعيدًا عن الجامع، ولم يبق عنده من الوقت إلا ما يكفي للمشي إليه والوصول حين النداء الثاني، وكذا: تحرم المساومة والمفاوضة على السلعة المباعة بين البائع والمشتري بعد النداء الثاني، وكذا: يحرم أن يقوم البائع بالمناداة على سلعته بعده، وإن لم يشتر منه أحد، وكذا: يحرم البيع والشراء عند دخول الوقت المضيَّق للصلاة المفروضة وهو: آخر وقتها الذي يتَّسع لركعاتها فقط قبل خروج وقتها، وكذا: تحرم جميع المهن والصناعات أيضًا عند دخول الوقت المضيق للمفروضة؛ وإذا وقع بيع في هذه الصور: فلا يصح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من الاشتغال بتلك الصور: وقوع البيع بعد النداء الثاني، أو فوات الخطبة وبعض الصلاة، أو فوات الصلاة المفروضة. وقت الأداء للصلاة المكتوبة بلا عذر، =
إلى طعام، أو سترة ونحوهما إذا وجد ذلك يُباع
(70)
، ويصح أيضًا (النكاح، وسائر العقود) كالقرض، والرَّهن، والضَّمان والإجارة، وإمضاء بيع خيار؛ لأن ذلك يقلُّ وقوعه، فلا تكون إباحته ذريعة إلى فوات الجمعة، أو بعضها، بخلاف البيع
(71)
(ولا
وكلها محرمة، وما يؤدي إلى الحرام حرام مثله، ومعلوم أنه إذا حُرِّم شيء: حُرِّمت جميع مقدماته، فما لا يتم فعل الحرام إلا به: فهو حرام؛ فإن قلت: لِمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المسلم من أن يشتغل عن عبادته التي خُلق لأجلها.
(70)
مسألة: يجوز البيع والشراء بعد النداء الثاني لصلاة الجمعة عند الضَّرورة كأن يضطر مسلم إلى طعام؛ خشية الهلاك أو المرض على نفسه أو على من يعول أو على أي شخص رآه، وكذا: إذا اضطر إلى سترة يستر بها عورته: فإن هذا يجوز له أن يشتريهما ولا يحرم على البائع أن يبيعهما إذا علم الحال؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه إبقاء على النفس وفيه ستر العورة الواجبان، ضرورة، وهذا فيه دفع مفسدة ومضَرَّة، ودفع المفسدة مُقَدَّم على جلب المصلحة، تنبيه: قوله: "الحاجة" يُعبِّر كثير من الفقهاء بالحاجة ويقصدون بها الضرورة، والأولى: أن يُصرِّحوا بلفظ "الضرورة"؛ لكونها هي المقصودة هنا، ولوجود الاختلاف بين الحاجة والضرورة.
(71)
مسألة: تصح سائر العقود والمعاملات - غير البيع - بعد النداء الثاني من يوم الجمعة: كعقد الإجارة والقرض، والرهن، والضمان، وإمضاء بيع فيه خيار أو فسخه، والنكاح ونحو ذلك؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَذَرُوا الْبَيْعَ} حيث دلَّ مفهوم الصفة على جواز العقود الأخرى - غير البيع - وهو واضح؛ فإن قلتَ: لِمَ صحَّت تلك العقود، دون البيع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تلك العقود لا يُلجأ إليها إلّا عند الضرورة عادةً، فتكون نادرة الوقوع، ووقوعها لا يصل إلى درجة انشغال القلب بها عن العبادة؛ لسهولتها على النفس؛ إذ يُمكن إدراك ما فات منها، بخلاف البيع: فهو مُشغل للقلوب؛ لأن المبيع قد خرج ولا يمكن إدراكه =
يصح بيع عصير) ونحوه (ممن يتّخذه خمرًا)؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (ولا) بيع (سلاح في فتنة) بين المسلمين؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم نهى عنه، قاله أحمد قال:"وقد يقتل به، وقد لا يقتل به"، وكذا: بيعه لأهل حرب، أو قطَّاع طريق؛ لأنَّه إعانة على معصية، ولا بيع مأكول ومشموم لمن يشرب عليهما المسكر، ولا قدح لمن يشرب به خمرًا، ولا جوز وبيض لقمار، ويحرم أكله ونحو ذلك
(72)
(ولا) بيع
فيشتدُّ هذا على قلب المسلم، فيؤدِّي إلى انشغاله عن الصلاة، فإن قلتَ: إن جميع العقود: سواء كان عقد بيع، أو غيره تحرم بعد النداء الثاني للجمعة، وهو قول بعض العلماء من الحنابلة وغيرهم، وأيَّده ابن عثيمين؛ للقياس، بيانه: كما أنه يحرَّم عقد البيع فكذلك سائر العقود مثله، والجامع: أن كلًّا منها يُعتبر عقد معاوضة مُشغل للقلب عن الصلاة. قلتُ: إن هذا قياس فاسد؛ لأمرين: أولهما: أنه قياس مع النص؛ حيث إن مفهوم قوله تعالى: "وذروا البيع" دلَّ على جواز هذه العقود - غير البيع - بعد النداء الثاني وقد سبق، ثانيهما: أنه قياس مع الفارق؛ لأن البيع كثير الوقوع بين الناس؛ لكونه مصدر رزق كثير منهم، وهو مشغل للقلب عادة - كما سبق بيانه - بخلاف غير البيع من العقود: فإنه نادر الوقوع، لكون الناس لا يتعاملون بها إلّا عند الضرورة، وغير مشغل للقلب عادة - كما سبق بيانه - ومع وجود النص والفارق: لا قياس فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض القياس مع النص".
(72)
مسألة: إذا غلب على ظنّك أن المشتري لشيء عندك سيستعمله بالمحرمات بعلامات وقرائن: فلا يجوز لك أن تبيعه ذلك الشيء، فمثلًا: إذا غلب على ظنك أن المشتري لهذا العنب، أو الشعير سيجعله خمرًا، أو أن المشتري لهذا السلاح، أو التروس، أو الدروع سيستعمله في فتنة بين المسلمين، أو حرب، أو قطع طريق، أو أن المشتري لهذا المأكول، أو الطيب سيشرب عليه ما يُسكره، أو المشتري لهذا الإناء سيستعمله لحفظ الخمر، أو أن المشتري لهذا البيض أو الجوز، أو البندق سيستعمله للقمار، أو =
(عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه)؛ لأنَّه ممنوع من استدامة مُلكه عليه؛ لما فيه من الصَّغار فمنع من ابتدائه، فإن كان يعتق عليه بالشراء: صح؛ لأنَّه وسيلة إلى حُرِّيته
(73)
(وإن أسلم) قنٌّ (في يده) أي: يد كافر، أو عند مُشتريه منه، ثم ردَّه لنحو
المشتري لهذا العبد سيستعمله للواط، أو المشتري لهذه الجارية سيستعملها للزنا، أو المشتري لهذه الدار سيستعملها للمعاصي والمنكرات: فإن البيع عليه حرام ولا يصح إذا وقع، أما إن وقع الشكّ في ذلك: فالبيع صحيح، ولكنه مكروه، أما إن لم يغلب على الظن شيء، ولم يشك: فالبيع جائز بلا كراهة؛ للكتاب: حيث قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} حيث حرّم البيع المؤدِّي إلى محرم؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، وهو عام لكلّ ما ذكرناه من الصور؛ لأن "الإثم" و "العدوان" لفظ مفرد محلَّى بأل، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لمَ حُرِّم البيع هنا ولا يصح؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن ذلك فيه حماية أفراد المسلمين، والمجتمع الإسلامي من المعاصي والمنكرات، والحروب والفتن، ودفع مفاسد هذه الأمور، مُقدَّم على جلب مصالح البيع والشراء [فرع] يحرم أكل ما اكتُسب بواسطة القمار؛ للتلازم، حيث يلزم من كونه قد أُخذ بطريق غير شرعي: أنه حرام أكله [فرع ثان]: الإجارة والإعارة كالبيع في هذه المسألة وهي مسألة (72).
(73)
مسألة: إذا كان بيع العبد المسلم على كافر وسيلة إلى إعتاقه كأن يكون العبد ذا رحم محرم كابن الكافر وإن نزل، أو أبيه وإن علا ونحو ذلك، أو علَّق السَّيد العتق على بيعه على كافر بأن يقول البائع للكافر:"إذا ملكت هذا العبد فهو حُرٌّ" ففي هاتين الصورتين يصح بيع العبد المسلم على الكافر، ولا يصحّ بيعه عليه في غيرهما؛ للمصلحة: حيث إن بيعه على كافر إذا كان سببًا ووسيلة إلى عتقه فإنه يصح؛ دفعًا لمفسدة الرِّق، وإن لم يكن البيع سببًا لعتقه: فلا يصح؛ دفعًا لمفسدة الذُّل والصَّغار التي ستلحق العبد المسلم إذا كان تحت ذلك الكافر؛ قياسًا على استحباب شراء العبيد المسلمين الذين تحت الكفار.
عيب: (أُجبر على إزالة مُلكه) عنه بنحو: بيع أو هبة، أو عتق؛ لقوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (ولا تكفي مكاتبته)؛ لأنها لا تُزيل ملك سيده عنه، ولا بيعه بخيار؛ لعدم انقطاع علقه عنه
(74)
(وإن جمع) في عقد (بين بيع وكتابة) بأن باع عبده شيئًا وكاتبه بعوض واحد صفقة واحدة (أو) جمع بين (بيع وصرف) أو إجارة، أو خلع، أو نكاح بعوض واحد:(صح) البيع، وما جُمع إليه (في غير الكتابة) فيبطل البيع؛ لأنَّه باع ماله لماله، وتصحّ هي؛ لأن البطلان وُجد في البيع فاختُصَّ به (ويُقسَّط العوض عليهما) أي: على المبيع وما جمع إليه بالقيم
(75)
(74)
مسألة: إذا أسلم عبد بيد كافر أو أسلم عند مشتريه من كافر فردّه المشتري إلى الكافر بعيب وجده فيه فإن إمام المسلمين أو نائبه، يجبر ذلك الكافر على إزالة مُلكه عن هذا العبد عن طريق: بيعه على مسلم، أو هبته له، أو إعتاقه، ولا يُقبل من الكافر: أن يُكاتب العبد - بأن يشتري العبد نفسه من سيده الكافر على أقساط يُسدِّدها على مراحل - ولا يُقبل من الكافر أن يبيعه بالخيار؛ لقواعد، الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه" حيث دلَّ هذان النصَّان على عدم جواز إبقاء العبد المسلم تحت يد الكافر؛ لكون إبقائه فيه تسليط الكافر عليه، وهذا مخالف لمنطوق الآية والحديث؛ لأن ذلك يُعتبر من أفراد عموم هذين النَّصَّين؛ لأن "سبيل" نكرة في سياق نفي، و "الإسلام" مفرد محلى بأل، وهما من صيغ العموم، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من عقد المكاتبة، والعقد الذي فيه خيار: عدم انقطاع العبد المسلم عن الكافر، مما يُؤدِّي إلى إذلال العبد: فلزم عدم قبول المكاتبة والبيع بالخيار من الكافر.
(75)
مسألة: إذا جمع بين بيع وصرف بأن قال البائع للمشتري: "بعتك دينارًا بصاع أرز وعشرة دراهم" أو جمع بين بيع ونكاح قائلًا: "بعتك هذه الدار وزوجتك أختي بخمسين ألف". أو جمع بين بيع وإجارة قائلًا: "بعتك هذه السيارة، =
(ويحرم بيعه على بيع أخيه) المسلم (كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة)، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبع بعضكم على بيع بعض"(و) يحرم أيضًا (شراؤه على شرائه كأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة)؛ لأنَّه في معنى البيع المنهي عنه، ومحل ذلك: إذا وقع في زمن الخيارين؛ (ليفسخ) المقول له العقد (ويعقد معه) وكذا: سومه على سومه بعد الرضا صريحاً، لا بعد رد (ويبطل العقد فيهما) أي: في البيع على بيعه والشراء على شرائه، ويصح في السوم على سومه، والإجارة كالبيع في ذلك
(76)
، ويحرم بيع حاضر لباد، ويبطل إن قدم لبيع سلعته بسعر يومها جاهلًا
وأجرتك هذه الدار لمدة سنة بعشرين ألف": فالبيع صحيح في تلك الصور الثلاث، ويقسط ويقسم الثمن على المباع وما جُمع إليه على حسب قيمة كل واحد في السوق عند أهل الخبرة والعدالة، لكنه إذا جمع بين بيع ومكاتبة قائلًا لعبده: "بعتك هذه الدار وكاتبتك بمائة ألف": فإن المكاتبة صحيحة، والبيع فاسد؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما يصحّ بيع ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه بثمن واحد، ويُقسَّط ويُقسَّم الثمن على قيمتهما فكذلك يصح البيع وما جُمع معه في الصور الثلاث السابقة ويُقسَّط ويُقسَّم الثمن على كل من المباع وما جمع معه كل بحسبه، والجامع: أن كلًّا منهما فيه عقد واحد، وعوض واحد، وممكن تقسيط وتقسيم الثمن، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من جمع بيع دار ومكاتبة: أن يبيع ماله لماله، أو ملكه لملكه؛ لأن العبد ملك للسَّيد، فيكون قد باع داره - التي هي ملكه - على عبده - الذي هو ملكه أيضًا - وهذا منع من صحّة البيع؛ لكونه خاصًا بالبيع، ويلزم منه: صحّة المكاتبة؛ لعدم وجود مانع من صحتها، فتصحّ بقسطها من الثمن، فائدة: الصرف مبادلة نقد بنقد، أي: مبادلة دنانير بدراهم، ودولارات بريالات كما سيأتي، والمكاتبة: أن يشتري العبد نفسه من سيده على أقساط يُسدِّد على مراحل، فإذا تمَّ السداد: عتق العبد.
(76)
مسألة: يحرم بيع المسلم على بيع أخيه المسلم مثل: أن يبيع زيد ثوبًا بعشرة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ريالات على عمرو فيقول بكر لعمرو - في وقت خيار المجلس أو الشرط بين زيد وعمرو -: "أنا أبيعك مثله بتسعة" ويحرم أيضًا شراؤه على شرائه مثل: أن يبيع زيد ثوبًا على عمرو بتسعة، فيقول بكر - في وقت الخيارين -:"كيف تبيعه بهذا الثمن؟ فأنا لا أبيع مثله إلّا بعشرة"، وبكر يقصد من هذا: أن يفسخ عمرو عقد البيع مع زيد، ويتركه ويعقد معه - أعني بكر - فهذا هو المحرم، ولو وقع عقد مع بكر في هاتين الصورتين: فلا صحّة لهذا العقد، ويحرم أيضًا: السوم على السوم بعد رضا البائع والسائم: كأن يقول عمرو لزيد: "أنا أشتري هذا الثوب منك بعشرة" فقبل زيد، بعد ذلك قال بكر:"أنا أشتريه باثني عشر"، ولكن لو باع زيد على بكر ذلك الثوب باثني عشر: فإنه يصح، مع إثم بكر، وهذا الكلام يصح في الإجارة ونحوها من العقود؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" فحرم البيع على البيع، ويلزم منه: تحريم الشراء على الشراء، ويفسد العقد إن وقع البيع؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، الثانية: المصلحة؛ حيث إن تلك التصرُّفات - وهي البيع على البيع، والشراء على الشراء، والسوم على السوم وسائر العقود - تؤدِّي إلى العداوة والبغضاء بين المتعاملين بذلك، مما يُفضي إلى الفتن والتقاطع بين الناس، فشرع دفع ذلك، ودفع مفاسد تلك المعاملات مُقدَّم على جلب مصالحها، فإن قلتَ: لِمَ صحّ العقد في مسألة السوم على السوم مع التحريم؟ قلتُ: لأن المنهي عنه في الحديث السابق هو البيع على البيع، ويستلزم ذلك الشراء على الشراء، والسوم أُلحق بهما في التحريم لاقتضاء المصلحة لذلك كما سبق بيانه، وهذا لا يؤدي إلى إبطال العقد، فرع: المراد بالسوم هنا هو: الزيادة في الثمن بعد رضا البائع ولكن قبل العقد، وليس المراد ما يُقال في السوق عادة عند تعريض سلعة للبيع - "مَنْ يزيد؟ " فإن هذا يجوز؛ للإجماع؛ حيث إن المسلمين يفعلون ذلك =
بسعرها وقصده الحاضر، وبالناس حاجة إليها
(77)
(ومن باع ربويًا بنسيئة) أي: مؤجَّل، وكذا: حالٌّ لم يُقبض (واعتاض عن ثمنه ما لا يُباع به نسيئة) كثمن بُرٍّ اعتاض عنه بُرًّا، أو غيره من المكيلات: لم يجز؛ لأنه ذريعة لبيع ربوي بربوي نسيئة، وإن اشترى من المشتري طعامًا، بدراهم، وسلَّمها إليه، ثم أخذها منه وفاءً، أو لم يُسلِّمها إليه، لكن قاصَّه: جاز
(78)
(أو اشترى شيئًا) ولو غير ربوي (نقدًا بدون ما
بدون نكير من أحد.
(77)
مسألة: يحرم بيع حاضر - وهو: من يستوطن البلدان - لواحد من أهل البادية الغريب عن الأسواق وصفة ذلك: "أن يقدم زيد من أهل البادية بسلعة لا يعرف سعرها في داخل البلد وأراد بيعها بسعر يومها، وكان الناس بحاجة إليها، وأراد عمرو من أهل الحضر عارف لسعرها: أن يبيع عن زيد تلك السلعة" فإذا توفّرت تلك الشروط: فهو حرام وإذا باعها عمرو لزيد فلا يصح البيع؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "ولا يبع حاضر لباد" حيث حرم بيع الحاضر سلعة شخص من أهل البادية، وأفسد هذا البيع إن وقع؛ لأن النهي مطلق فيقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: لِمَ حُرِّم ذلك، وفسد البيع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع بعض الرزق على الناس، وهذا محرم، وقد وردت رواية تشير إلى ذلك وهي قوله عليه السلام:"دعوا الناس يرزق بعضهم من بعض" فرع: إذا لم يُباشر عمرو بيع سلعة زيد ولكنه أشار إليه ونصحه، وبيَّن له أسعار السوق لمثل هذه السلعة: فهذا غير محرم؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".
(78)
مسألة: إذا باع زيد على عمرو عشرين صاعًا من البر بثمن مؤجَّل وقدره مائة ريال يدفعه بعد سنة من العقد، فلما دارت السنة وحلَّ قبض الثمن - وهو مائة ريال -: طالب زيد به، فقال عمرو: "خذ خمسين صاعًا من التمر بدلًا من المائة =
باع به نسيئة) أو حالًا لم يقبض (لا بالعكس: لم يجز)؛ لأنه ذريعة إلى الربا، ليبيع ألفًا بخمسمائة، وتُسمَّى "مسألة العينة" وقوله:"لا بالعكس" يعني: لا إن اشتراه بأكثر مما باعه به، فإنه جائز، كما لو اشتراه بمثله، وأما عكس مسألة العينة بأن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة: فنقل أبو داود يجوز بلا حيلة، ونقل حرب: أنها مثل "مسألة العينة" وجزم به المصنف في "الإقناع" وصاحب "المنتهى" وقدَّمه في "المبدع" وغيره قال في "شرح المنتهى": وهو: المذهب؛ لأنه يُتَّخذ وسيلة للربا كمسألة العينة. وكذا: العقد الأول فيهما؛ حيث كان وسيلة إلى الثاني فيحرم، ولا يصح
(79)
ريال" فهذا جائز، وهو قول كثير من العلماء منهم ابن قدامة وابن تيمية، وكذا: إن اشترى زيد من عمرو طعامًا بمائة ريال، وسلَّم زيد المائة إلى عمرو، ثم أخذها زيد منه وفاءً عن ثمن البر السابق، أو لم يُسلِّم زيد المائة لعمرو، ولكنه قال له: إن تلك المائة التي هي ثمن الطعام عن تلك المائة التي هي ثمن البر وإن زاد أو نقص: كمله أحدهما - وهذه المقاصَّة - فهذا أيضًا جائز؛ للتلازم؛ حيث إن بُعْد هاتين الصورتين عن التعامل بالربا: يلزم منه صحتهما، فإن قلتَ: إن الصورة الأولى لا تجوز - وهو ما ذكره المصنف هنا - للمصلحة: حيث إنها حيلة ووسيلة إلى التعامل بالربا؛ لكونه وقع مع ربوي، وهو: البر، والحيَل إلى الحرام: حرام، فيُمنع؛ سدًا للذرائع. قلتُ: كون هذا حيلة إلى التعامل بالربا بعيد، وما كان بعيدًا فهو نادر، والنادر لا بأس بوقوعه إذا وجد عذر - كما أشار إلى ذلك ابن قدامة وابن تيمية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في تلك الصورة هل هي من صور الربا أو لا"؟ فعندنا: لا، وعندهم: نعم.
(79)
مسألة: لا يصح البيع بالعينة، وهي: صور أولها: أن يبيع زيد على عمرو سيارة بعشرة آلاف ريال تُدفع بعد سنة، ثم يشتريها زيد من عمرو بثمانية آلاف حالًا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونقدًا، ثانيها: أن يحتاج زيد ألف ريال نقدًا، فيذهب إلى عمرو ويطلب منه ذلك، فيذهب عمرو إلى بكر فيشتري منه كمية من الأرز مثلًا فيبيعها عمرو على زيد بألف ومائتين إلى سنة، فيُلامسها بيده، ثم يشتريها بكر من زيد بتسعمائة نقدًا، وكمية الأرز لم تتحرَّك من مكانها، ولم يكن قصد عمرو الشراء، ولكنه أراد أن يكسب من وراء هذه العملية، ثالثها: أن يذهب زيد إلى عمرو ويقول له: "أنا أريد هذه الدار، أو هذه السيارة"، فيذهب عمرو ويشتريها من أصحابها بمائة ألف - مثلًا - ثم يبيعها على زيد بمائة وعشرين ألفًا إلى سنة أو أقساطًا على عدد من السنوات، وهذا منتشر فعله هذه الأيام. فهذه صور البيع بالعينة، وهي حرام، أما عكس مسألة العينة فهو جائز، وصورة ذلك: أن يبيع زيد على عمرو سيارة بعشرة آلاف نقدًا، ثم يشتريها زيد بعشرة نقدًا، أو يشتريها باثني عشر ألف نقدًا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزروع وتركتم الجهاد: سلَّط الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه من قلوبكم حتى ترجعوا إلى دينكم" فحرَّم البيع بالعينة؛ لأنه توعَّد على من باع بها، والتوعُّد عقاب، ولا يُعاقب إلّا على فعل حرام، وتلك الصور الثلاث تسمَّى عينة؛ لأن العاقد أخذ عينًا وأُعطى عينًا فيما يظهر، وهو الثمن والمثمن، ويُسمِّي المتعامل بذلك بيعًا، وهو في الحقيقة حيلة إلى الربا وذلك لكون العقد الأول لم يُفصل إلا لأجل الثاني -، فإن قلتَ: لِمَ حرَمت هذه الطريقة المسمَّاة بالعينة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنك لو نظرت إلى تلك الصور الثلاث: لوجدت أن البيع بها حيلة وخداع على الله تعالى في التعامل بالربا لوجود الظلم على الفقراء، وعدم الرحمة بهم فإن قلتَ: لِمَ جاز عكس العينة؟ قلتُ: لعدم وجود حيلة وخداع، وظلم؛ لأن ذلك المحتاج قد اشتُريت منه سلعته بثمن مساوٍ للثمن الذي اشتراها =
(وإن اشتراه) أي: اشترى المبيع في مسألة العينة أو عكسها (بغير جنسه): بأن باعه بذهب، ثم اشتراه بفضة، أو بالعكس (أو) اشتراه (بعد قبض ثمنه أو بعد تغيُّر صفته:) بأن هزل العبد، أو نسي صنعته، أو تخرَّق الثوب (أو) اشتراه (من غير مشتريه): بأن باعه مشتريه، أو وهبه، ونحوه، ثم اشتراه بائعه ممّن صار إليه: جاز (أو اشتراه أبوه) أي: أبو بائعه (أو ابنه) أو مكاتبه، أو زوجته:(جاز) الشراء ما لم يكن حيلة على التوصل إلى فعل مسألة العينة
(80)
ومن احتاج إلى نقد فاشترى ما
به، أو أعلى منه، فلم يُوجد ظلم عليه.
(80)
مسألة: يجوز أن تُشترى السلعة المباعة في مسألة العينة وصورها أو عكسها في خمس صور: أولها: إذا باع زيد على عمرو سيارة بمائة ألف ريال إلى سنة، ثم اشتراها زيد بغير جنس الثمن كأن اشتراها بخمسين ألف جنيهًا، أو اشتراها بدار أو العكس: ثانيها: إذا باع زيد سيارة على عمرو بمائة ألف ريالًا إلى سنة، وبعد مُضي السنة قبض زيد الثمن، وهو مائة ألف ثم بعد ذلك اشترى زيد تلك السيارة بخمسين ألف ريالًا. ثالثها: إذا باع زيد سيارة على عمرو بمائة ألف ريال إلى سنة، وبعد مُدَّة تعيَّبت تلك السيارة بفسادها: فاشتراها زيد بعشرين ألف ريال، رابعها: إذا باع زيد على عمرو سيارة بمائة ألف إلى سنة، ثم باعها عمرو على بكر بثمانين ألف، ثم اشتراها زيد من بكر بسبعين ألف، أو اشتراها زيد من وارث عمرو لما مات، خامسها: إذا باع زيد سيارة على عمرو بمائة ألف، ثم اشتراها والد زيد، أو ابن زيد من عمرو بثمانين أو أقل أو أكثر. ففي تلك الصور الخمس يجوز شراء السلعة المباعة في مسألة العينة؛ للتلازم؛ حيث إن اختلاف الجنس، وقبض الثمن بعد حلول المدة، ووجود العيب في السلعة، وكون البائع قد اشتراها من غير الذي باعها عليه: سواء كان قريبًا أو لا: يلزم منه عدم وجود حيلة إلى الربا، وهذا يجعل البيع والشراء صحيحًا.
يُساوي مائة بأكثر؛ ليتوسَّع بثمنه: فلا بأس، وتُسمَّى "مسألة التورُّق"
(81)
، ويحرم التسعير
(82)
، والاحتكار في قوت آدمي، ويُجبر على بيعه كما يبيع الناس
(83)
، ولا
(81)
مسألة: يصحّ البيع بالتورُّق عند الحاجة، وصورة ذلك: أن يذهب زيد إلى عمرو صاحب سيارة مثلًا فيشتري زيد من عمرو تلك السيارة بأعلى من ثمنها الآن في السوق، ثم يبيعها على غيره بثمنها في السوق، فمثلًا: إذا كانت السيارة تساوي أربعين ألفًا، فإن زيدًا يشتريها من عمرو بخمسين ألفًا ينقدها له بعد سنة من عقد البيع، ثم يذهب زيد، ويبيعها على غيره نقدًا، فيقضي بهذا النقد حاجته، هذا يصحّ؛ للمصلحة: حيث إن الحاجة قد تُلجيء المسلم إلى ذلك، فأبِيحت؛ سدًا لحاجته، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّيت بالتورُّق؟ قلتُ: لأن مقصود المشتري هو أخذ الورق والفضة؛ ليسدَّ حاجته فيها.
(82)
مسألة: يجوز تسعير السلع - وهو: أن يضع الإمام أو نائبه سعرًا لكلّ سلعة يُلزم به التجار - ولكن بشروط: أولها: أن يمتنع التجار عن بيع السلع التي يضطر الناس إليها بسعر المثل، ثانيها: أن ينظر المسعِّر إلى الثمن الذي اشترى التاجر تلك السلعة به عند التسعير حتى لا يُظلم، ثالثها: أن يُزال هذا التسعير عند زوال الضرورة التي دعت إليه، فإن توفَّرت تلك الشروط: جاز، أما إن تخلّف شرط منها: فالتسعير حرام؛ للمصلحة: حيث إن مصلحة الناس، ودفع المفسدة عنهم إذا لم يتم إلا بالتسعير: قد أجاز ذلك؛ دفعًا لتلك المفسدة، وإن لم يُحتج إليه: فلا يجوز التسعير؛ لإفضائه إلى ظلم التجار.
(83)
مسألة: يحرم الاحتكار في قوت الآدميين - وهو: أن يشتري التاجر ما يستطعمه الناس ويقتاتونه، ويحبسه عنده مع حاجتهم إليه، ولا يُخرجها إلّا بعد أن يغلى ثمنها عليهم - وبناء عليه: يجب على الإمام أو نائبه على إجباره على بيع ما احتكره بالسعر الذي يبيع به الناس؛ للمصلحة: حيث إن ذلك يُعتبر ظلمًا لعموم الناس، ودفع الظلم واجب على الأفراد والحكّام، ولتلك المصلحة يُجبر أيُّ شخص يُخبئ =
يكره ادِّخار قوت أهله ودوابه
(84)
، ويُسنُّ الإشهاد على البيع
(85)
.
الأسلحة أن يبيعها على المجاهدين في سبيل الله، والأمثلة على ذلك كثيرة.
(84)
مسألة: يُباح للمسلم أن يدَّخر بعض الأطعمة السنة والسنتين لنفسه ولأهله ودوابه وما يخصُّه بشرط: أن لا ينوي بذلك التجارة؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "كنتُ نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة أما الآن فكلوا، وادَّخروا، وتصدّقوا". فأباح الادّخار للحوم، وغيرها من الأطعمة مثلها؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة".
(85)
مسألة: يُستحب: أن يُشهد المسلم على بيعه وشرائه إن كانت السلعة غالية الثمن؛ للكتاب: حيث قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وصرفت هذا الأمر من الوجوب إلى الندب الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} والمقصد من ذلك: حفظ حقوق الناس، وقطع التنازع والاختلاف.
هذه آخر مسائل: (حقيقة البيع وحكمه، وشروط صحّته وموانعه وما يجوز وما لا يجوز منه، ويليه: باب "بيان الصحيح والفاسد من الشروط التي يشترطها أحد المتبايعين".
باب الشروط في البيع
والشرط هنا: إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة، ومحل المعتبر منها: صلب العقد، وهي ضربان
(1)
، ذكر الأول منهما بقوله (منها صحيح) وهو: ما وافق مقتضى العقد، وهو ثلاثة أنواع
(2)
: أحدها: شرط مقتضى البيع كالتقابض، وحلول الثمن، فلا يُؤثِّر فيه؛ لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد،
باب بيان الصحيح والفاسد من الشروط التي يشترطها أحد المتبايعين
وفيه سبع عشرة مسألة:
(1)
مسألة: المراد به: أن يشترط المتعاقدان، أو أحدهما شرطًا، أو شروطًا فيها مصلحة للمشترط، ويلتزم بذلك الآخر، ويقارن هذا الاشتراط العقد، وإن تقدَّم على العقد قليلًا: فلا بأس، وإن تأخر في وقت خيار المجلس وخيار الشرط: فلا بأس، وبعض تلك الشروط صحيح، والبعض الآخر فاسد، وإليك بيانها.
(2)
مسألة: الشروط الصحيحة هي: كلُّ شرط وافق مقتضى العقد الشرعي، وترتَّب عليه ولم ينه عنه الشارع، ولم يُبطله، للاستصحاب: حيث إن الأصل في العقود والشروط: الصحة إلّا إذا ورد دليل من الشارع ينهى عنه فيكون المنهي عنه فاسدًا بحكم الشارع، أما ما لم يرد من الشارع نهي عنه: فنستصحب الأصل فيه وهو: الصحة، فإن قلتَ: لِمَ كان الأصل في العقود والشروط الصحة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن البيوع والمعاملات كلها لا يستغني عنها أحد، فجَعْل الأصل فيها الصحة هو المناسب لمراعاة أحوال الناس، وهو من باب التيسير والتوسعة على الناس؛ فيُحكم على كل شرط بالصحة إذا لم نعلم دليلًا شرعيًا ينهى عنه.
تنبيه: الشروط الصحيحة ثلاثة أنواع، سيأتي بيانها.
فلذلك أسقطه المصنف
(3)
، الثاني: شرط ما كان من مصلحة العقد (كالرهن) المعيَّن أو الضامن المعيَّن (و) كـ (تأجيل الثمن) أو بعضه إلى مدة معلومة (و) كشرط صفة في المبيع كـ (كون العبد كاتبًا، أو خصيًا، أو مسلمًا) أو خياطًا مثلًا (والأمة بكرًا) أو تحيض، والدابة هملاجة، والفهد - أو نحوه - صيودًا فيصح، فإن وفى بالشرط، وإلا فلصاحبه الفسخ، أو أرش فقد الصفة، وإن تعذَّر ردٌّ: تعيَّن أرش
(4)
، وإن شرط
(3)
مسألة: في الأول - من أنواع الشروط الصحيحة التي يشترطها المتبايعان - وهو: أن يشترطا أو أحدهما شروطًا هي أصلًا ثابتة؛ لاقتضاء عقد البيع لها، ولحكم الشرع فيها: كأن يشترط المتبايعان أو أحدهما قبض السلعة، وقبض الثمن، وردَّ المبيع عند وجود عيب مُعتبر شرعًا، فهذا يُعتبر تأكيدًا لذلك لا تأصيل؛ لذلك لم يذكر ذلك أكثر الفقهاء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود العقد: اشتراط ذلك بدون أن يُصرِّح بها أحد المتبايعين.
(4)
مسألة: في الثاني - من أنواع الشروط الصحيحة التي يشترطها المتبايعان - وهو: أن يشترطا أو أحدهما شروطًا فيها مصلحة العقد تعود للمشترط له: كأن يقول البائع: "بعتك هذه السيارة بخمسين ألف ريال تحلّ بعد سنة مثلًا، لكن بشرط: أن أرهن دارك هذه، فإن لم تعطني تلك الخمسين بعد مضي السنة: أبيع دارك، وآخذ الخمسين ألف من ثمنها" أو يقول: "بعتك تلك السيارة بخمسين ألف بشرط: أن يضمنك أو يكفلك فلان ويُعيِّنه"، أو يقول المشتري:"اشتريت تلك السيارة بخمسين ألف بشرط: أن تكون مؤجَّلة إلى سنة، أو بعضها مؤجَّل وهو: عشرون ألف منها لمدّة سنة" أو يقول المشتري: "اشتريتُ هذا العبد بشرط: أن يكون كاتبًا، أو مقطوع الخصيتين، أو مسلمًا، أو خياطًا، أو غوَّاصًا، أو راميًا" أو يقول: "اشتريت هذه الأمة بكذا بشرط: أن تكون بكرًا أو أنها تحيض" أو يقول: "اشتريت هذه الدابة بكذا بشرط: أن تكون سريعة المشي" ونحو ذلك من الشروط: فإن هذا البيع صحيح والشرط صحيح، فإن تحقَّق الشرط الذي =
صفة فبان أعلى منها: فلا خيار
(5)
(و) الثالث: شرط بائع نفعًا معلومًا في مبيع غير
اشترطه أحدهما: فإنه يُمضي البيع، وإن لم يتحقق: فللمشترط الخيار بين أمرين: أولهما: إما أن يفسخ العقد، ويردّ السلعة ويأخذ البائع سلعته، والمشتري ثمنه الذي دفعه، ثانيهما: أن يأخذ أرش وثمن فقد الصفة التي اشترطها في السلعة المباعة وطريقة ذلك: أن يقوَّم العبد الخياط بعشرة آلاف مثلًا، ويقوم غير الخياط بثمانية، فيرد البائع على المشتري ألفين أرشًا لفقد الصفة التي اشترطها ولم يجدها، وهذا الأرش يتعيَّن إن تعذر رد السلعة بأن مات البائع - مثلًا -؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا" فأثبت صحّة أيِّ شرطٍ لا يوجد فيه إحلال حرام، أو تحريم حلال، وتحقق ذلك فيما ذكرناه من الشروط السابقة، حيث لا مانع منها شرعًا؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل في الشروط، الصحة إلا ما ورد في الشرع النهي عنه، وهذه الشروط لم يرد في الشرع النهي عنها، فتكون صحيحة على الأصل.
(5)
مسألة: إذا اشترط المشتري شرطًا بالسلعة بأن يُريدها على صفة فبانت بصفة أحسن وأعلى مما اشترطه كأن يشترط في العبد أن يكون كاتبًا، فبان عالمًا - بعد شرائه له: فله الفسخ، ورد العبد، وأخذ ما دفعه ثمنًا من البائع؛ للمصلحة؛ حيث إن اشتراط ذلك فيه مصلحة للمشتري؛ لكون العبد العالم قد يشتغل بعلمه عن خدمة من اشتراه أو أن من اشتراه سيراعيه؛ نظرًا لعلمه، وبذلك يخسر خدمته، وتقلّ قيمته إذا أراد بيعه، فإن قلتَ: ليس له الفسخ في هذه الحالة، ولا الإرش وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث يلزم من وجود ما اشترطه وزيادة: إلزامه بالبيع؛ لأن في ذلك مصلحته وزيادة، قلتُ: إن اشتراط أي مُشتر لأي شرط له مقصد عنده ومصلحة قد لا تكون مصلحة عند غيره، فقد تكون صفة العلم في العبد من أعظم المصالح عند زيد، ولكنها ليست مصلحة عند =
وطء ودواعيه (نحو: أن يشترط البائع سكنى الدار) أو نحوها (شهرًا، وحملان البعير) أو نحوه المبيع (إلى موضع مُعيَّن)؛ لما روى جابر: "أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملًا، واشترط ظهره إلى المدينة" متفق عليه، واحتجّ في "التعليق" و"الانتصار" وغيرهما "بشراء عثمان من صهيب أرضًا، واشترط وقفها عليه وعلى عقبه" ذكره في "المبدع" ومقتضاه: صحة الشرط المذكور، ولبائع إجارة، وإعارة ما استثنى، وإن تعذَّر انتفاعه بسبب مشتر: فعليه أجرة المثل له (أو شرط المشتري على البائع) نفعًا معلومًا في مبيع كـ (حمل الحطب) المبيع إلى موضع معلوم (أو تكسيره، أو خياطة الثوب) المبيع (أو تفصيله) إذا بيَّن نوع الخياطة أو التفصيل، واحتج أحمد لذلك بما روى أن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي جرزة حطب، وشارطه على حملها، ولأنه بيع وإجارة: فالبائع كالأجير، وإن تراضيا على أخذ أجرته ولو بلا عذر: جاز
(6)
(وإن جمع بين شرطين) من غير
عمرو؛ لكون العبد يُشترى للخدمة، لا للفتوى ونحو ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين".
(6)
مسألة: في الثالث - من أنواع الشروط الصحيحة التي يشترطها المتبايعان - وهو: أن يشترطا، أو أحدهما شروطًا فيها نفع معلوم يكون في مبيع - غير وطء ومقدِّماته - كأن يقول البائع: بعتك هذه الدار بمائة ألف بشرط: أن أسكنها سنة أو شهرًا" أو يقول: "بعتك هذا البعير بألف بشرط: أن أركبه إلى البلدة الفلانية، فيوفي المشتري بهذا: فإن لم يمكّن المشتري البائع من ذلك: فعليه أن يستأجر للبائع دارًا يسكنها سنة أو شهرًا على حسب الشرط، وعليه أن يستأجر للبائع بعيرًا أو سيارة توصله إلى البلدة المذكورة، وإن أعطاه مقابل ذلك الشرط نقودًا برضى بينهما جاز، وأيضًا، من الشروط الصحيحة في ذلك، أن يقول المشتري للبائع:"اشتريت هذا الحطب، أو هذا التمر بشرط: أن توصله إلى منزلي، أو يقول: "اشتريت هذا الثوب بشرط: أن تفصِّله عليّ أو تخيطه بطريقة معيّنة وإن أعطى البائع المشتري نقودًا عِوَضًا عن هذا الشرط جاز، والإجارة هنا كالبيع تمامًا؛ لقاعدتين: =
النوعين الأولين كحمل حطب، وتكسيره، وخياطة ثوب وتفصيله:(بطل البيع)؛ لما روى أبو داود، والترمذي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يحلُّ سلف، وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك" قال الترمذي: حديث حسن صحيح
(7)
، والضرب الثاني من الشروط أشار إليه بقوله (ومنها فاسد) وهو: ما يُنافي
الأولى: السنة التقريرية؛ حيث إنه عليه السلام قد اشترى جملًا من جابر بن عبد الله، واشترط جابر أن يركب عليه إلى المدينة، فوافقه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فلو لم يصحّ البيع مع الشرط: لما وافق عليه السلام على ذلك؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل في الشروط الصحة - كما سبق بيانه - فتكون هذه الشروط صحيحة؛ لعدم ورود ما يُبطلها من الشارع؛ استصحابًا للأصل. فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منافع، ودفع مفاسد عن المسلمين، فإن قلتَ: لا يصح بيع وشرط؛ للسنة القولية: حيث نهى عليه السلام: "عن بيع وشرط" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد قلتُ: هذا الحديث لم يصح إسناده، كما قال ابن القيم، وهو مخالف للسنة التقريرية والاستصحاب السابق ذكرهما، فإن قلتَ: ما الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في صحّة حديث النهي عن بيع وشرط" فعندنا: لم يصحّ، وعندهم: يصح.
(7)
مسألة: يصح أن يشترط البائع أو المشتري شرطين فأكثر في عقد واحد: إذا اتّفقا على ذلك، وكان في مصلحة العقد، وكان الشرطان غير منهي عنهما شرعًا: فيصحّ أن يشترط البائع رهنًا، وضمانًا معًا، ويصحّ أن يشترط المشتري:"أن يكون العبد - مثلًا - كاتبًا، وأن يؤجَّل ثمنه إلى سنة" ويصح: أن يشترط البائع: أن يسكن الدار التي باعها سنة وأن يسكن قريبه في دار المشتري الثانية سنة" ويصح أن يشترط المشتري: "أن يقوم البائع بخياطة الثوب الذي اشتراه منه، وتفصيله، وإيصاله إلى منزله" ذهب إلى ذلك كثير من العلماء المحققين منهم ابن =
مُقتضى العقد، وهو ثلاثة أنواع
(8)
أحدها: (يبطل العقد) من أصله (كاشتراط أحدهما على الآخر عقدًا آخر كَسَلف) أي: سَلَم (وقرض، وبيع، وإجارة، وصرف) للثمن أو غيره، وشركة، وهو:"بيعتان في بيعة" المنهي عنه، قاله أحمد
(9)
، الثاني: ما يصح معه البيع، وقد ذكره بقوله: (وإن شرط:
تيمية؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل في الشروط الصحّة إلّا ما نهى عنها الشارع، وجمع الشروط المتّفق عليها من المتبايعين مع عدم النهي عنها: لم يرد من الشارع النهي عنها فنستصحب ذلك، ونعمل به، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون الشرطين في مصلحة المتعاقدين أو العقد: صحتهما؛ إذ لا مانع من ذلك، فإن قلتَ: لا يصح ذلك وإذا وجد: فإن البيع يبطل وهو ما ذكره المصنف هنا، للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك" ولفظ "لا يحل" من صيغ الحرام الصريحة قلتُ: المقصود بالشرطين المنهي عنهما: الشرطان اللذان ليسا في مصلحة العقد كما فسّره الإمام أحمد، واللذان فيهما أو في أحدهما محذور شرعي كأن يشترط البائع على المشتري:"أن لا يطأ الأمة التي باعها عليه وأن لا يبيعها على أحد غيره" قال ابن القيم: "كل شرط خالف حكم الله وكتابه: فهو باطل، وما لم يخالف حكمه: فهو لازم" قلتُ: وهذا عام كشرط الواحد والأكثر منه فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في المقصود من الشرطين في الحديث".
(8)
مسألة: الشروط الفاسدة في البيع هي: كل شرط خالف مقتضى العقد الشرعي، وتنافى مع ما يقتضيه، وورد من الشارع ما يُبطله ويُفسده، تنبيه: الشروط الفاسدة ثلاثة أنواع، وسيأتي بيانها.
(9)
مسألة: في الأول - من أنواع الشروط الفاسدة التي يشترطها المتبايعان - وهو: أن يشترطا أو أحدهما شرطًا يفسد ويُبطل العقد كله بسبب اشتراط عقد في عقد، وهو المسمَّى "بالبيعتين في بيعة" وهو: اشتراط أحد المتبايعين على الآخر عقدًا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
آخر يضاف إلى عقد البيع مثل: أن يقول البائع للمشتري: "بعتك هذه الدار بمائة ألف بشرط: أن تبيعني سيارتك بعشرين ألف" أو يقول المشتري: "اشتريتُ منك تلك الدار بمائة ألف بشرط: أن تسلفني أو تسلمني الآن ألف ريال وأعطيك عنها مائة صاع من الأرز بعد سنة" أو يقول البائع: "بعتك هذه الدار بمائة ألف بشرط: أن تؤجرني دارك الأخرى بعشرين ألف لمدّة سنة" أو يقول: "اشتريتُ هذه الدار بعشرة آلاف دينار ذهبًا بشرط أن تصرفها بكذا دراهم" أو يقول: "بعتك هذه الدار بكذا بشرط: أن تشاركني في المصنع الفلاني" فكل ذلك يُبطل أصل البيع؟ لقواعد: الأولى: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "لا يحلُّ بيع وسَلَف" فنهى عن الجمع بين عقد البيع، وعقد السلف - أو السَّلَم - والنهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، وثانيهما: أنه عليه السلام "نهى عن بيعتين في بيعة" وشرط السلف، والقرض، والإجارة، والصرف، والشركة مع البيع يُعتبر بيعتان في بيعة واحدة، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، وهو فساد العقد كله. الثانية: القياس، بيانه: كما أنه لا يجوز نكاح الشغار - وهو: قول الأب: "أزوجك ابنتي بشرط أن تزوجني ابنتك" ونحوه - فكذلك لا يجوز اشتراط أحد المتعاقدين عقدًا آخر، والجامع: إدخال عقد في عقد في كل. الثالثة: قول الصحابي؛ حيث قال ابن مسعود: "صفقتان في صفقة ربا"، والصفقة: هي البيع، وهذا يلزم منه: التحريم؛ لكونه يُؤدِّي إلى محرم، فإن قلتَ: لِمَ كان هذا الشرط يُبطل البيع كله؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك وسيلة إلى الربا، وأكل مال الناس بالباطل؛ لوجود استغلال المشترط للآخر؛ فإن قلتَ: تصحّ تلك الشروط، ويصحّ البيع، وهو قول الإمام مالك، وتبعه بعض العلماء كابن عثيمين؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في المعاملات والشروط الصحة والحلّ، ولم يُوجد ما يمنع تلك الشروط. قلتُ: إن السنة =
أن لا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع، وإلا: ردُّه أو) شرط أن (لا يبيع) المبيع (ولا يهبـ) ـه (ولا يعتقـ) ـه (أو) شرط (إن أعتق فالولاء له) أي: للبائع (أو) شرط البائع على المشتري: (أن يفعل ذلك) أي: أن يبيع المبيع، أو يهبه ونحوه:(بطل الشرط وحده)؛ لقوله عليه السلام: "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله: فهو باطل وإن كان مائة شرط" متفق عليه، والبيع صحيح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة أبطل الشرط، ولم يُبطل العقد
(10)
(إلا إذا شرط) البائع (العتق) على المشتري، فيصح الشرط أيضًا،
القولية، والقياس، وقول الصحابي، والمصلحة التي ذكرناها قد غيَّرت ذلك الأصل من الحل إلى الحرمة، ثم إن تساهل الناس في تلك الشروط يؤدِّي غالبًا إلى استغلال الناس بشروط يشترطونها في بيوعهم. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في تلك الأدلة هل غيرت ما استصحب من الأصل أم لا" فعندنا: نعم، وعندهم: لا.
(10)
مسألة: في الثاني - من أنواع الشروط الفاسدة التي يشترطها المتبايعان - وهو: أن يشترطا أو أحدهما شرطًا فاسدًا؛ لمنافاته لمقتضى البيع شرعًا، ولكنه لا يُفسد عقد البيع، أي: يصحّ البيع دون الشرط مثل: أن يقول المشتري: "اشتريتُ منك هذه الثياب بألف بشرط: أن لا أخسر في السوق إذا بعتها" أو يقول: "اشتريتها بألف بشرط: أن أبيعها في السوق وإن لم أبعها فسأردَّها إليك وآخذ ثمنها" أو يقول البائع: "أبيعك هذه الدار بكذا بشرط: أن لا تبيعها على أحد، ولا تهبها لأحد، أو لا تتصدَّق بها على أحد" أو يقول: "أبيعك هذا العبد بكذا بشرط: أنك إذا أعتقته "فالولاء لي" - أي: يكون كأنه من أقاربي - أو يقول: "بعتك هذا العبد بكذا بشرط: أن تبيعه على فلان، أو تهبه له" ونحو ذلك، فهذه الشروط باطلة" ويصح البيع: سواء رضي المتبايعان أو لا، وسواء كان في ذلك الشرط مصلحة لهما أو لا؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط" والمراد: أن =
ويُجبر المشتري على العتق إن أباه، والولاء له، فإن أصرَّ: أعتقه حاكم
(11)
، وكذا: شرط رهن فاسد كخمر، ومجهول، وخيار أو أجل مجهولين، ونحو ذلك، فيصح البيع، ويفسد الشرط
(12)
(و) إن قال البائع: (بعتك) كذا بكذا (على أن تنقدني الثمن
أي شرط في المعاملات لم ترد الموافقة عليه من الشارع: فهو باطل لوحده؛ ثانيهما: أن عائشة أرادت شراء بريرة فأبى مالكوها إلا بشرط: أن يكون لهم الولاء، فذكرت ذلك للنبي عليه السلام فقال:"خذيها واشترطي لهم الولاء" ثم قال: "إنما الولاء لمن أعتق" حيث لزم من ذلك إبطال الشرط فقط، ولم يُبطل العقد بدليل قوله:"خذيها" أي: بالبيع، فإن قلتَ: لِمَ بطل الشرط وصحَّ البيع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا الشرط يُعتبر تصرُّف في حقوق الآخرين وأملاكهم، وهذا يؤدِّي إلى إذلالهم والنيل من كرامتهم، ولم يُوجد ما يمنع من صحة البيع؛ للتوسعة.
(11)
مسألة: إذا اشترط البائع العتق على مشتري عبده قائلًا: "بعتك هذا العبد بكذا بشرط: أن تعتقه بعد مُدَّة"، فقال المشتري:"قبلتُ": فإن الشرط يصح وكذا: البيع، ويُجبره الحاكم على إعتاقه، فإن أبى المشتري: أعتقه الحاكم للسنة القولية: حيث إن عائشة لما أرادت شراء بريرة اشترط عليها أسيادها عتقها وولاءها، فأنكر النبي عليه السلام شرط الولاء بقوله: "الولاء لمن أعتق- وأقرَّ العتق، وهذا من لوازم إنكاره، للولاء، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ الشرط هنا مع البيع؟ قلتُ: لأن الشارع يتشوَّف إلى العنق، ويحثُّ عليه.
(12)
مسألة: إذا اشترط أحد المتبايعين شرطًا لا يُتعامل به في الإسلام، أو اشترط شرطًا غير معين في الزمن: فلا يصح هذا الشرط، ويصحّ البيع كأن يقول البائع:"بعتك هذا الثوب بمائة تعطيني إيّاها بعد شهرين بشرط أن أرهن عندي هذا الإناء من الخمر، أو هذا الخنزير" أو "بشرط: أن يضمنك أحد أقربائك بدون تعيين" أو قال له: "بعتك هذه الدار بكذا بشرط: أن يكون لي الخيار" بدون تعيين مُدَّة هذا الخيار؛ للتلازم؛ حيث يلزم من فساد التعامل =
إلى ثلاث) ليال مثلًا، أو على أن ترهنيه بثمنه (وإلا) تفعل ذلك:(فلا بيع بيننا) وقبل المشتري: (صح) البيع والتعليق كما لو شرط الخيار، وينفسخ إن لم يفعل
(13)
(و) الثالث: ما لا ينعقد معه بيع نحو: (بعتك إن جئتني بكذا أو) إن (رضي زيد) بكذا، وكذا: تعليق القبول (أو يقول) الراهن (للمرتهن: إن جئتك بحقك) في محله (وإلا: فالرهن لك: لا يصح البيع)؛ لقوله عليه السلام: "لا يغلق الرهن من صاحبه" رواه الأثرم، وفسَّره أحمد بذلك، وكذا: كل بيع عُلِّق على شرط مستقبل غير إن شاء الله
(14)
وغير "بيع العربون": بأن يدفع بعد العقد شيئًا، ويقول: "إن أخذت المبيع:
بالمحرمات بيعًا وشراء كالخمر والخنزير، وعدم تحديد الضامن، ووقت الخيار: عدم صحة الشرط ويلزم من استكمال عقد البيع لشروطه: صحة البيع.
(13)
مسألة: إذا اشترط البائع تعليق البيع بمدة: فإن هذا الشرط صحيح؛ كأن يقول: بعتك هذه الدار بمائة ألف بشرط: أن تُسلِّمني هذا المبلغ قبل ثلاثة أيام، فإن لم تفعل فلا بيع بيننا" فقبل المشتري ذلك، فإن أعطاه الثمن قبل ثلاثة أيام: تمّ البيع، وإن لم يفعل المشتري ذلك: فالبائع له الحق بفسخ البيع، وكأن يقول: "بعتك هذا الحمار بشرط أن ترهنيه بثمنه" وكأن يقول المشتري: "اشتريتُ منك هذه الدار بشرط: أن أقبضها بعد شهر" فهذا كله صحيح؛ للقياس؛ بيانه: كما أن أحد المتبايعين لو اشترط الخيار لمدة معيّنة: فإنه يصحّ فكذلك يصح البيع إذا شرط له مدة لقبض الثمن والمثمن، والجامع: أن كلًّا منهما فيه مهلة بمدة معلومة، ولا غرر ولا جهالة في ذلك، فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلتُ: لكونه تعليقًا للفسخ، لا للعقد.
(14)
مسألة: في الثالث - من أنواع الشروط الفاسدة التي يشترطها المتبايعان - وهو: أن يشترطا أو أحدهما شرطًا فيه تعليق عقد بالشروط - غير لفظ - إن شاء الله - وإن لم يتحقق: لا يتم البيع مثل: أن يقول البائع: "بعتك هذه الدار بمائة ألف إن جئتني بسيارة كذا، أو يقول: بعتك كذا بكذا إن رضي زيد" أو يقول المشتري: "قبلتُ هذا البيع إن رضي عمرو" أو يقول: "اشتريتُ منك هذه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السيارة بعشرة آلاف، وليست معي الآن، وخذ هذا الحصان رهينة عندك، فإن أتيت بالعشرة الآلاف بعد ثلاثة أيام وإلّا فالحصان لك" فلم يأت المشتري بذلك فالحصان للبائع، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يُغلق الرهن من صاحبه" ومعناه ما ذكرناه، وفسد؛ لأنه مغلق بالمستقبل، الثانية: التلازم؛ حيث إن مقتضى العقد في البيع الجزم في العقد، ولعل الملك من البائع للمشتري بعد تمام العقد مباشرة، وشرط التعليق يمنع ذلك: فيلزم بطلانه، فإن جاء المشتري بالسيارة، أو رضي زيد، أو عمرو، أو أتاه بالثمن في مسألة الرهن ورضي البائع والمشتري: فإن البيع ينعقد من حين ذلك، ولا يُنظر إلى ما سبق، وعلى ذلك يكون نماء المبيع الواقع بين العقد الأول والثاني للبائع دون المشتري، فإن قلتَ: لِمَ بطل البيع هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يقع عادة اختلاف بين البائع والمشتري بسبب مثل تلك الشروط، مما يؤدِّي إلى الإضرار بأحد المتعاقدين، فدفعًا لذلك: أبطل الشارع الشرط والبيع، فإن قلتَ: إن البيع المعلَّق على شرط صحيح، وهو رواية عن أحمد، وقال به ابن تيمية، وتبعه ابن القيم، وابن عثيمين؛ للتلازم؛ حيث إن استكمال شروط البيع، وانتفاء موانعه، وعدم الغرر في ذلك: يلزم منه صحّة البيع، قلتُ: لم تتم شروط البيع؛ حيث إن مقتضى عقد البيع: التنجيز وهو: انتقال ملك المبيع إلى المشتري بعد العقد مباشرة، والتعليق لا يُحقِّق ذلك، بل يكون عقد غير مجزوم به، ثم إن مثل تلك الشروط تؤدِّي إلى المنازعات، فبطل الشرط والبيع هنا؛ حماية للمجتمع من التنازع، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في التنجيز في العقد هل يُعتبر شرطًا أو لا؟ " فعندنا: شرط، وعندهم: ليس بشرط، وكذا: "هل تؤدي تلك الشروط إلى التنازع أو لا"؟ فعندنا: تؤدي، وعندهم: لا، وكذا: "الاختلاف في تفسير حديث: "لا يغلق الرهن من صاحبه" فإن قلتَ: لِمَ جاز شرط مشيئة الله فيقول =
أتممتُ الثمن وإلا: فهو لك" فيصح؛ لفعل عمر رضي الله عنه، والمدفوع للبائع إن لم يتم البيع، والإجارة مثله
(15)
(وإن باعه) شيئًا (وشرط) في البيع (البراءة من كل عيب
البائع: "بعتك إن شاء الله" ويقول المشتري: "قبلتُ إن شاء الله؟ قلتُ: لأنه لم يقصد بذلك التردُّد في البيع ومنع الجزم فيه، بل قصد التبرك بذكر الله تعالى.
(15)
مسألة: بيع العربون يصح، وهو: أن يقول المشتري: "اشتريتُ هذه الدار منك بمائة ألف، وخذ هذه الخمسة الآلاف عربونًا لئلا تبيع على غيري، فإن أتيت لك بالخمسة والتسعين الباقية فقد تمّ بيع الدار لي، وإن لم آت لك بذلك فالعربون لك" ويتّفقان على مدة إتيانه بكامل المبلغ، وكذا يقول:"قد استأجرت منك هذه الدار بعشرة آلاف بالسنة، وخذ هذه الألف عربونًا لئلا تؤجرها على غيري، فإن أتيت لك بالتسعة الباقية: فقد تمّ عقد الإجار، وإن لم آت بها: فالألف لك" ويتّفقان على مدة إتيانه بكامل المبلغ؛ لقول وفعل الصحابي: حيث إن عمر قد فعله لما اشترى دار السجن من صفوان بن أمية، وأجازه ابن عمر، فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن البائع سيمنع بيع تلك السلعة - وهي: الدار - أو تأجيرها مُدَّة من الزمن بسبب أن ذلك المشتري قد حجزها، فإذا لم يأت بالباقي من الثمن: فإن البائع يستحق العربون مُقابل لذلك التوقّف في البيع والتأجير، وأيضًا: إن المشتري لو ترك تلك السلعة: فإن أي مشتر آخر سيقول: ما تركها فلان إلّا لعيب قد اكتشفه فيها، فينتشر هذا الاعتقاد، فيُقلل من قيمتها، فاستحق البائع هذا العربون في مقابل هذا الاعتقاد بالعيب، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي بالعربون؟ قلتُ: لأن المشتري يُعرب فيه ويُبيِّن أنه جازم على الشراء أو الاستئجار، لئلا يملكه غيره، فإن قلتَ: لا يصح بيع العربون وهو: قول مالك والشافعي، وأكثر الحنفية وكثير من الحنابلة ولا يستحق البائع ما أعطاه إياه المشتري عربونًا إذا لم يُتم البيع؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام: "نهى عن بيع العربون" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، الثانية: =
مجهول) أو من عيب كذا إن كان: (لم يبرأ) البائع: فإن وجد المشتري بالمبيع عيبًا: فله الخيار؛ لأنه إنما يثبت بعد البيع، فلا يسقط بإسقاطه قبله، وإن سمَّى العيب، أو أبرأه المشتري بعد العقد: برئ
(16)
(وإن باعه دارًا) أو نحوها مما يُذرع (على أنها عشرة
قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس منعه الثالثة: التلازم؛ حيث إن لكل شيء عوض، والبائع إن أخذ العربون: فإنه يأخذه بلا عوض فيلزم بطلانه، قلتُ: أما الحديث فقد ضعَّفه كثير من أئمة الحديث، أما قول الصحابي وهو ابن عباس: فهو معارض بقول صحابي آخر - وهما: عمر وابنه - فلا يكون حجة، أما التلازم: فهو باطل؛ لأن البائع يستحق العربون عوضًا عن انتظاره، ومنع بيع وتأجير الدار مُدة، وانتشار وجود عيب؛ فيه فدفعًا للضرر على البائع استحق العربون، أما لو اشتراه المشتري: فإنه يُحسب من الثمن الكلي؛ لكون البائع راضيًا بذلك، ولم ينتشر وجود عيب فانتفى الضرر عن البائع فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: الإختلاف في حديث "النهي عن بيع العربون".
(16)
مسألة: إذا اشترط البائع البراءة من كل عيب مجهول في المبيع قبل العقد كأن يقول: "بعتك هذه الدار بمائة ألف بشرط: أن تُبرأني من كل عيب أجهله فيها" فقال المشتري: "قبلتُ البيع وأنت بريء من كل عيب": فإن هذا الشرط لا يصحّ، ولا يبرأ البائع بذلك، فإذا وجد المشتري عيبًا في الدار بعد العقد: فله الخيار: فإن شاء ردَّ المبيع، وأخذ الثمن من البائع، وإن شاء أمضى البيع: سواء كان العيب ظاهرًا أو باطنًا، أما إن سمَّى العيب بأن قال البائع:"هذا الجدار - الذي في الدار المباعة - سيسقط؛ لكونه مبني من مواد غير قوية" أو أبرأه المشتري بعد تمام عقد البيع من كل عيب معلوم ومجهول: فإن البائع يبرأ، ولا خيار للمشتري؛ للتلازم؛ حيث إن الإبراء لا يثبت للمشتري إلا بعد ثبوت المبيع في ذمَّته: فإذا أبرأه المشتري بعد تمام عقد البيع: فإنه يبرأ؛ لكونه يملك ذلك، ويلزم من ذلك: أن الإبراء لا يتمّ إذا أبرأه المشتري قبل أو مع العقد فيثبت الخيار للمشتري، ويلزم من تسمية العيب =
أذرع فبانت أكثر) من عشرة (أو أقل) منها: (صح) البيع، والزيادة للبائع، والنقص عليه (ولمن جهله) أي: الحال من زيادة أو نقص (وفات غرضه الخيار) فلكل منهما الفسخ ما لم يعط البائع الزيادة للمشتري مجانًا في المسألة الأولى، أو يرضى المشتري بأخذه بكل الثمن في الثانية؛ لعدم فوات الغرض، وإن تراضيا على المعاوضة عن الزيادة أو النقص: جاز، ولا يُجبر أحدهما على ذلك، وإن كان المبيع نحو صبرة على أنها عشرة أقفزة فبانت أقلّ أو أكثر: صح البيع، ولا خيار، والزيادة للبائع والنقص عليه
(17)
.
وتعيينه: إبراء البائع؛ نظرًا لدخول المشتري على بصيرة ورضى به، فإن قلتَ: لِمَ لا يبرأ البائع في الحالة الأولى؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حقوق الناس من أن تضيع بتحايل الظلمة عليها بمثل تلك الشروط.
(17)
مسألة: إذا باع زيد على عمرو أرضًا على أنها عشرة أمتار، فبانت أكثر من عشرة - كأن كانت أحد عشر مترًا - وكانا يجهلان ذلك قبل البيع: فإن البيع صحيح، والزيادة - وهي المتر - للبائع: إن شاء المشتري فسخ البيع لذلك، إلا أن يُعطي البائع ذلك المتر للمشتري مجانًا فلا يصح الفسخ، وكذا: إن باع زيد على عمرو أرضًا على أنها عشرة أمتار، فبانت تسعة وكانا يجهلان ذلك قبل البيع: فإن البيع يصح والنقص يحسب على البائع: فإن شاء المشتري فسخ البيع بسبب ذلك، إلا أن يرضى بتلك التسعة بكامل الثمن، ويُسقط حقه، وإن حصل التراضي بينهما على المعاوضة عن الزيادة والنقصان: بأن أعطى البائع المشتري ثمن المتر الناقص، أو أعطى المشتري البائع ثمن المتر الزائد، وحصل التراضي بذلك؛ فهذا جائز لكن لا يُجبر أحدهما عليه؛ للتلازم؛ حيث إنه لما التزم كل من البائع والمشتري بالعقد على عشرة أمتار: لزم كل واحد منهما ما يقتضيه، وبناء على ذلك: يردُّ المشتري الزائد على البائع، ويرد البائع ثمن ما نقص على المشتري بحسبه، ويلزم من عدم الالتزام بالعقد: الخيار، ويلزم من إسقاط كل واحد حقه: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عدم الخيار، (فرع): يثبت الخيار للمغبون بشرطين: أولهما: الجهل بمقدار المبيع كما سبق، فإن كان عالمًا بهذا المقدار: فلا خيار له، ثانيهما: فوات غرض المشتري بأن اشترى هذه الأرض على أنها عشرة أمتار لغرض بنائها حانوتًا فبانت أقل من ذلك ونحو ذلك مما يمنع تحقيق غرضه: فله الخيار في إمضاء البيع، أو ردِّه؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه دفع مضرة عن المتعاقدين (فرع ثان): إذا باع بُرًّا على أنه عشرة أصواع فبان تسعة، أو بان أحد عشر صاعًا: فالبيع صحيح، والزيادة تُردُّ إلى البائع، والنقص يحسب عليه، فيرد ثمنه للمشتري - كما سبق بيانه، ولكن لا خيار لأحد المتبايعين هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه لا ضرر في رد الزائد إن زاد ولا ضرر في أخذ الناقص بقسطه، بخلاف ما قلناه في عشرة الأمتار من الأرض: فإنه يوجد ضرر على المشتري إن نقصت، ويوجد ضرر على البائع إن زادت، فيلزم من ذلك: الخيار؛ لدفع هذا الضرر.
هذه آخر مسائل باب "بيان الصحيح والفاسد من الشروط التي يشترطها أحد المتبايعين" ويليه باب "الخيار".
باب الخيار وقبض المبيع والإقالة
الخيار: اسم مصدر "اختار" أي: طلب خير الأمرين: من الإمضاء والفسخ (وهو) ثمانية (أقسام
(1)
الأول: خيار المجلس) بكسر اللام: موضع الجلوس، والمراد هنا: مكان التبايع (يثبت) خيار المجلس (في البيع)؛ لحديث ابن عمر يرفعه: "إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا، وكانا جميعًا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خيَّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك: فقد وجب البيع "متفق عليه"
(2)
،
باب الخيار وقبض المبيع والإقالة
وفيه مائة وخمس مسائل:
(1)
مسألة: الخيار لغة: اسم مصدر من "اختارَ، يختار، اختيارًا"، ضد الإلزام بشيء من الأمور المخيَّر بينها، وهو: اصطلاحًا: أن يطلب أحد البائعين خير الأمرين: إما إمضاء البيع بعد عقده، والالتزام به، أو فسخه وتركه، وهذا يحصل إما بنفس أحد المتبايعين أو عن طريق القاضي، فائدة: ينقسم الخيار إلى ثمانية أقسام؛ للاستقراء: حيث إنها ثبتت بعد الاستقراء والتتبُّع، كما سيأتي بيانها.
(2)
مسألة: في الأول - من أقسام الخيار - وهو: خيار المجلس، والمراد به: المتبايعان بالخيار ما لم تتفرق أبدانهما عن مكان العقد: سواء كانا جالسين، أو قائمين، أو مستلقيين، وهو ثابت ومشروع ولو لم يشترطه أحد المتعاقدين؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا، وكانا جميعًا" وقوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا" والمراد: ما لم يتفرّقا بأبدانهما ويذهب كل واحد عن الآخر، وقد خصَّصه بذلك فعل بعض الصحابة كابن عمر فقد كان إذا وقع تبايع بينه وبين غيره: قام وذهب ثم عاد، فإن قلتَ: لِمَ شُرع خيار المجلس؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمتعاقدين فقد ينخدع الشخص بعقد بيع، فجعل الشارع هذا الخيار طريقًا للتخلُّص منه، دفعًا =
لكن يُستثنى من البيع: الكتابة، وتولي طرفي العقد، وشراء من يعتق عليه، أو اعترف بحريته قبل الشراء
(3)
(و) كالبيع (الصلح بمعناه) كما لو أقرّ بدين أو عين ثم صالحه عنه بعوض، وقسمة التراضي، والهبة على عوض؛ لأنها نوع من البيع (و) كبيع أيضًا (إجارة)؛ لأنها عقد معاوضة، أشبهت البيع (و) كذا (الصَّرف والسَّلَم)؛ لتناول البيع لهما
(4)
.............................
للمفسدة عنه، قال ابن القيم:"وهو من محاسن هذه الشريعة الكاملة" فإن قلتَ: لِمَ سُمَّي بخيار المجلس؟ قلتُ: لأن غالب البيوع تكون بين متعاقدين جالسين.
(3)
مسألة: خيار المجلس لا يثبت في العقود اللازمة التي لا يُقصد فيها العوض مثل: النكاح، والخلع، والطلاق، والكتابة - وهي: أن يشتري العبد نفسه من سيده على أقساط - وكذا: إذا تولَّى شخص البيع والشراء: بأن يُوكل زيد بكرًا بأن يبيع داره، ويوكل عمرو بكرًا بأن يشتري تلك الدار له من زيد، وكذا: إذا اشترى زيد أباه أو أمه ونحوه ممن يعتق عليه، وكذا: لو أقرّ العبد الذي سيشتريه زيد بأنه حر قبل عقد الشراء؛ للتلازم؛ حيث إن النكاح والطلاق والخلع، والمكاتبة لم يقصد بها حقيقة العوض، بل قُصد فعل خير فلن يفوت أحد المتبايعين الخيار شيء يُغبن فيه أو يندم عليه: فلزم عدم ثبوت الخيار في ذلك، ويلزم من تولّي شخص واحد البيع والشراء: عدم الخيار؛ لعدم وجود تفرّق؛ إذ هو شخص واحد، ويلزم من شراء من يعتق عليه، أو إقراره بحريته: عدم الخيار؛ لعدم قبوله للبيع أصلًا.
(4)
مسألة: يثبت خيار المجلس في العقود اللازمة التي يُقصد بها العوض مثل "البيع" كما سبق "والصلح" - كأن يُقرُّ زيد بأن عنده لعمرو مائة صاع من تمر، ثم يُصالحه عمرو بأن يعطيه زيد عنها خمسمائة ريال - وكذا:"قسمة التراضي" - كأن يتقاسم زيد وعمرو ما بينهما مما تدخله الشراكة على عوض - وكذا: "الهبة على عِوَض" - كأن يهب زيد عمرًا سيارة بعوض معلوم - وكذا: "الإجارة" - وكذا: "الصرف" - =
(دون سائر العقود) كالمساقاة، والحوالة، والوقف، والرَّهن، والضَّمان
(5)
(ولكل من المتبايعين) ومن في معناهما ممن تقدَّم (الخيار ما لم يتفرقا عرفًا بأبدانهما) من مكان التبايع، فإن كانا في مكان واسع كصحراء: فبأن يمشي أحدهما مستدبرًا لصاحبه خطوات، وإن كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت: فبأن يُفارقه من بيت إلى بيت، أو إلى نحو صُفَّة، وإن كانا في دار صغيرة: فإذا صعد أحدهما السطح، أو خرج منها: فقد افترقا، وإن كانا في سفينة كبيرة: فبصعود أحدهما أعلاها إن كانا أسفل، أو بالعكس، وإن كانت صغيرة: فبخروج أحدهما منها
(6)
، ولو حجز بينهما بحاجز
كأن يبيع زيد على عمرو ذهبًا بفضة أو العكس -، وكذا:"السَّلَم" - كأن يقول زيد: "اشتريتُ منك تمرًا صفته كذا واستلمه بعد سنة بألف نقدًا فهذه العقود يثبت فيها خيار المجلس؛ للقياس، بيانه: كما أن خيار المجلس ثابت بين المتبايعين، فكذلك يثبت بين المتصالحين، والمتقاسمين، والواهب والموهوب على عوض، والمؤجر والمستأجر، والصارفين، والمتعاملين بالسلم بجامع: أن كلًّا من تلك العقود لازمة، ويُقصد منها العوض الذي يُلحق الضرر بأحد المتعاملين فهي كالبيع تمامًا في ذلك فدفعًا للضرر وجد ذلك الخيار، وهو المقصد منه.
(5)
مسألة: لا يثبت خيار المجلس في العقود الجائزة، وإن قصد فيها العِوض مثل: المساقاة، والمزارعة، والحوالة، والضمان، والوقف، والشركة، والوكالة، والكفالة، والوصية، والعارية، والمسابقة، والهبة بغير عوض، والجعالة، والوديعة، والمضاربة، ونحوها؛ للتلازم؛ حيث إن كون هذه العقود جائزة يلزم منه التمكّن من فسخها بأصل وضعها، فيلزم عدم حاجتها إلى خيار؛ لأن الخيار قد وُضع لحماية أحد المتعاقدين من الضرر، وهنا لا يُوجد ضرر، إذ يستطيع أحد المتعاقدين التخلُّص بموجب العقد فيها، وهو المقصد منه.
(6)
مسألة: يحصل التفرُّق بين المتعاقدين في البيع والصلح وغيرهما من العقود اللّازمة التي يقصد فيها العوض - كما سبق في مسألة (4) - ويتمّ العقد بالتفرّق بأبدانهما =
كحائط، أو ناما: لم يُعدُّ تفرُّقًا؛ لبقائهما بأبدانهما بمحل العقد، ولو طالت المدَّة
(7)
من مكان التبايع على حسب عرف وعادة الناس فيما يسمُّونه تفرُّقًا: فإن كان المتعاقدان في صحراء فيحصل التفرّق بأن يمشي أحدهما بقدر لا يسمع كلام الآخر، وهذا يكون بخطوات كثيرة، وإن كانا في دار كبيرة: فإن التفرّق يحصل إذا خرج أحدهما من غرفة التبايع تاركًا صاحبه ودخل في غرفة أخرى، وإن كانا في دار صغيرة: فإن التفرق يحصل إذا صعد أحدهما سطحها، تاركًا صاحبه في الأسفل مكان التبايع، أو نزل أحدهما تاركًا السطح مكان التبايع، وإن كانا في سفينة كبيرة: فإن التفرّق يحصل إذا صعد أحدهما أعلاها تاركًا صاحبه أسفلها، وإن كانا في سفينة صغيرة: فإن التفرّق يحصل إذا خرج أحدهما منها، وهكذا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا" حيث دلَّ مفهوم الشرط على أنهما إذا تفرقا: فلا خيار، وخُصِّص التفرق هنا بالتفرّق بالأبدان بقول الصحابي؛ حيث إن ابن عمر كان يفعل ذلك. الثانية: العرف والعادة، حيث إن ما أورده الشارع مُطلقًا بدون تحديد، يُرجع إلى عادة الناس في تحديده، وعقلاء الناس السليمة المتوسطة وورد عنها هذا التحديد الذي مثَّلنا عليه في المسألة وعدُّوه تفرقًا ينفي الخيار.
(7)
مسألة: لا يحصل التفرّق بين المتعاقدين بوضع حائط يحجز بينهما، أو أن يناما معًا، أو أرخيا بينهما سترًا في نفس مكان التبايع، وكذا: لو قاما معًا ومشيا أو سافرا معًا ولم يتفرّقا: فإن الخيار باق وإن طال الزمن سواء أقاما طوعًا أو كرهًا، وكذا لو تفرقا فزعًا من حيوان، أو عدو ونحو ذلك: لا يُعتبر تفرقًا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" حيث أثبت الخيار إذا لم يفترقا، وهذه الصور التي ذكرناها لا تعتبر تفرقًا في عرف عقلاء الناس المتوسطين في عقولهم، فيبقى الخيار، فإن قلتَ: لِمَ لا يحصل التفرق بذلك؟ قلتُ: لكون تلك الصور وما شابهها يمكن لهما أن يتفاهما من خلالها؛ نظرًا =
(وإن نفياه) أي: الخيار: بأن تبايعا على أن لا خيار بينهما: لزم بمجرَّد العقد (أو أسقطاه) أي: الخيار بعد العقد: (سقط)؛ لأن الخيار حق للعاقد، فسقط بإسقاطه (وإن أسقطه أحدهما) أي: أحد المتبايعين، أو قال لصاحبه:"اختر": سقط خياره و (بقي خيار الآخر)؛ لأنه لم يحصل منه إسقاط لخياره، بخلاف صاحبه
(8)
، وتحرم الفرقة خشية الفسخ
(9)
،
لوجودهما معًا والمكره وعلى التفرق لا يعتبر تفرقًا.
(8)
مسألة: إذا اتفق المتعاقدان على أنه لا خيار بينهما: فإن خيار المجلس يسقط، ويلزم العقد بعده مباشرة، وكذا: إن أسقط المتعاقدان الخيار بعد مُضي مدة قصيرة وهما في المجلس، فإنه يسقط، ويلزم البيع من إسقاطهما له، وكذا: إن أسقطه أحدهما: فيسقط خياره فقط بأن قال لصاحبه: "اختر أنت" ويبقى خيار الآخر على حاله؛ للتلازم؛ حيث إن الخيار من حق المتبايعين ما داما في المجلس فيلزم من إسقاطه لحقه: سقوط الخيار كمن أسقط حقه من الشفعة أو الدَّين.
(9)
مسألة: يحرم أن يُفارق أحد المتبايعين مكان التبايع ومجلسه وهو يقصد إلزام البيع للآخر، ويخشى أن يفسخه الآخر، للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا يحلُّ له أن يُفارقه؛ خشية أن يستقيله"، والمراد: خشية الإقالة، وهي: فسخ النادم، ولفظ "لا يحل" من صيغ التحريم الصريحة، فإن قلتَ: لِمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه اعتداء من بعض الناس على حقوق الآخرين بغير حق؛ لأن الخيار من حق العاقد، فلا بدَّ أن يستوفي كل حقه، فإن قلتَ: إن هذا لا يحرم وهو قول بعض العلماء منهم أبو يعلى، لفعل الصحابي؛ حيث كان ابن عمر يفعل ذلك، قلتُ: يُحتمل أن السنة القولية التي ذكرناها لم تبلغ ابن عمر، وعلى فرض أنها بلغته فلا حجّة لفعل صحابي إذا عارض السنة ويحتمل أنه لم يقصد إلزام البيع، وإذا تطرق الإحتمال إلى الدليل بطل به الإستدلال فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة مع فعل الصحابي". =
وينقطع الخيار بموت أحدهما
(10)
لا بجنونه
(11)
(وإذا مضت مدَّته) بأن تفرَّقا كما تقدم: (لزم البيع) بلا خلاف
(12)
. القسم (الثاني) من أقسام الخيار: خيار الشرط بـ (أن يشترطاه) أي: يشترط المتعاقدان الخيار (في) صلب (العقد) أو بعده في مدة خيار المجلس، أو الشرط (مدة معلومة ولو طويلة)؛ لقوله عليه السلام:"المسلمون على شروطهم"
(13)
، ولا يصح
(10)
مسألة: إذا مات أحد المتبايعين أثناء خيار المجلس: فإن الخيار ينقطع ويبطل ويلزم البيع؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا" وفرقة الموت تسمَّى فرقة إجماعًا، فيقع البيع؛ لانقطاع الخيار.
(11)
مسألة: إذا جُنَّ أحد المتبايعين في أثناء المجلس: فلا ينقطع الخيار، ولا يبطل؛ ولا يلزم البيع، فلو أفاق: فهو على خياره، ولا يتولى ذلك وليه؛ للتلازم؛ حيث إن الجنون لا يُخرج الملك من مالكه المجنون، بل يكون المال له فيلزم: أن يبقى على خياره إذا أفاق، ويلزم من كون الرغبة لا تُعلم إلا من جهة الراغب: أن لا يتولّى الخيار عن المجنون وليه.
(12)
مسألة: إذا تفرَّق كل واحد من المتبايعين بأبدانهما من مكان ومجلس البيع بعد العقد: فإنه يلزمهما البيع، فليس لأحدهما الرد إلّا بعيب؛ للإجماع، حيث أجمع العلماء على ذلك، ومستند هذا الإجماع السنة القولية وهو قوله عليه السلام:"فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع".
(13)
مسألة: في الثاني - من أقسام الخيار - وهو: خيار الشرط: أن يشترط المتبايعان أو أحدهما الخيار في أثناء العقد وصلبه، أو بعده في زمن خيار المجلس، أو خيار الشرط مدَّة معلومة طويلة أو قصيرة كأن يشترطان الخيار قبل التفرق لمدة عشرة أيام، وقبل أن تنتهي العشرة، اشترطا الخيار لمدة ثلاثة أيام أخرى وهكذا، فهذا كله جائز؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" حيث أوجب التزام كل بشرطه التي التزم به. الثانية: القياس بيانه: كما أنه يجوز أن يشترط المشتري: أن يؤجِّل على البائع الثمن مدة معلومة ولو طويلة، =
اشتراطه بعد لزوم العقد
(14)
، ولا إلى أجل مجهول
(15)
، ولا في عقد حيلة؛ ليربح في قرض، فيحرم، ولا يصح البيع
(16)
(وابتداؤها) أي: ابتداء مدة الخيار (من العقد)
فكذلك يجوز أن يشترط المشتري والبائع الخيار مدة معلومة ولو طويلة، والجامع: أن كلًّا منهما حق للمتبايعين، فيُرجع في تقديره إلى مشترطه، لعلمه بما يُناسبه في حفظ حقوقه، وهو المقصد منه.
(14)
مسألة: لا يصحّ اشتراط خيار الشرط بعد أن يلزم العقد المتبايعين، ويُنفَّذ، وبعد انقضاء وقت خيار المجلس، وخيار الشرط، فلو اشترط المشتري وهو في المجلس قائلًا:"لي الخيار ثلاثة أيام" فلما انقضت الثلاثة ولزم البيع: قال: أريد الخيار ثلاثة أيام أُخر: فلا يصح الشرط، ويصح البيع؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لزوم العقد: سقوط حق أحد المتبايعين في الخيار، فإن قلتَ: لِمَ لا يصح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إنه لو صحَّ ذلك: لما تمَّ بيع على أحد.
(15)
مسألة: لا يصح اشتراط الخيار إلى أجل مجهول، لم يُحدَّد له نهاية، ولا الأبد، ولا أن يشترط الخيار إلى مشيئة فلان، ولا أن يُعلِّقه على شيء يقع أو لا: كنزول مطر أو مجيء زيد من سفر ونحو ذلك فهنا: لا يصح الشرط، ويصح البيع؛ للتلازم؛ لأن خيار الشرط لا بد أن تكون له مُدَّة ينتهي بها الخيار، ليستكمل البيع، أو الفسخ، فيلزم من عدم وضوح المدة المشترطة للخيار: بطلان شرطه؛ فإن قلتَ: لِم لا يصح ذلك؟ قلتُ: لكون ذلك يفوت فائدة العقود.
(16)
مسألة: لا يصح اشتراط الخيار في عقد حيلة إلى ربح في قرض، وصورة ذلك: أن يقول زيد لعمرو: "اقرضني مائة ألف ريال، أنتفع بها، وأعطيك هذه الدار تنتفع بها، فإذا رددت إليك المائة تردّ علي داري"، فيقول عمرو:"بعني تلك الدار بمائة ألف ونشترط الخيار مدة معلومة، فإذا انتفعت أنت بالمائة، وانتفعت أنا بالدار في مدة الخيار: نفسخ البيع، وتأخذ أنت الدار، وآخذ أنا المائة" فكأن زيدًا أقرضه المائة التي سمَّياها ثمنًا، وشرط عليه الانتفاع بها زمن الخيار وربح هو الانتفاع من =
إن شرط في العقد، وإلا: فمن حين اشترط (وإذا مضت مدّته) أي: مدَّة الخيار، ولم يفسخ: لزم البيع (أو قطعاه) أي: قطع المتعاقدان الخيار: (بطل) ولزم البيع كما لو لم يشترطاه
(17)
(ويثبت) خيار الشرط (في البيع، والصلح) والقسمة والهبة (بمعناه) أي: بمعنى البيع كالصلح بعوّض عن عين، أو دين مُقرِّبه، وقسمة التراضي، وهبة الثواب؛ لأنها أنواع من البيع (و) في (الإجارة في الذمة) كخياطة ثوب (أو) في إجارة (على مدة لا تلي العقد) كسنة ثلاث في سنة اثنتين: إذا شرطه مدة تنقضي قبل دخول سنة ثلاث، فإن وليت المدة العقد كشهر من الآن: لم يصحّ شرط الخيار؛ لئلا يُؤدِّي إلى فوات بعض المنافع المعقود عليها، أو استيفائها في مدة الخيار، وكلاهما غير
الدار زمن فيكون قرضًا جرَّ نفعًا بتلك الحيلة، فيحرم ذلك ولا يصح البيع؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك فيه تعامل بالربا بدون قصد البيع فيلزم منه التحريم، وعدم صحّة العقد؛ لأن عمرًا هنا دفع لزيد مائة ألف، ثم أخذها عمرو كاملة وزيادة عليها منفعة دار زيد، مع أن زيدًا لا يعلم هل ينتفع بالمائة التي أخذها عمرو أو لا؟ فهو محتمل، فإن قلتَ: لِمَ يحرم ولا يصح البيع؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جهالة، وغرر، فيفضي غالبًا إلى التنازع والاختلاف، فدفعًا لذلك حُرِّم.
(17)
مسألة: تبدأ مُدَّة خيار الشرط: من اشتراطه حال العقد، لا من حين التفرّق، أما إن شرطاه بعد العقد أثناء المجلس، أو في زمن خيار الشرط - كما سبق في مسألة (13) -: فإن مدة خيار الشرط تبدأ من حين اشتُرط، وتنتهي مدته: عند انقضاء مدته المشترطة للخيار، فإذا مضت مدته وأحدهما لم يفسخ البيع: فإنه يلزم البيع، وكذا: تنتهي مدة خيار الشرط: إذا قطعاه باختيارهما: فيلزم البيع حينئذٍ؛ للتلازم؛ حيث إن الشروط تقتضي ابتداءً وانتهاء؛ للإلزام بالعقد، فيلزم من انتهاء وقت الشرط المتفق عليه، أو قطعه باتفاقهما: لزوم البيع؛ نظرًا لخلوّه عن المعارض.
جائز
(18)
، ولا يثبت خيار الشرط في غير ما ذكر كصرف، وسَلَم، وضمان،
(18)
مسألة: يثبت خيار الشرط في البيع والصلح بعوض - بأن يقول "أعطني عن المائة التي عندك لي عشرة أصواع من البر مصالحة عن ذلك الدين بشرط: أن يكون لي الخيار ثلاثًا" وكذا يثبت في قسمة التراضي بأن يقول: "رضيت بأن يكون لي كذا، ولك كذا من الشركة التي بيننا بشرط أن يكون لي الخيار ثلاثًا" وكذلك يثبت في هبة الثواب: بأن يقول: "وهبتك هذا الحذاء على أن تهبني ذلك السيف بشرط: أن يكون الخيار لي خمسة أيام" وكذا: يثبت في الإجارة في الذمة كأن يقول: "أستأجرك على أن تخيط لي ثوبًا مستقبلًا بكذا بشرط: أن يكون لي الخيار يومًا" وكذا: يثبت في إجارة على مدة لا تلي عقد الإجارة كأن يقول: "أجَّرتك هذه الدار لمدة سنة بعشرة آلاف على أن تبدأ المدة من أول شهر صفر من هذه السنة، ونحن الآن في الثامن عشر من محرم، واشترط الخيار بيننا من هذا الوقت إلى التاسع والعشرين من محرم، فهذا الخيار جائز؛ وكذلك يثبت في إجارة تبدأ من حين العقد، أي: تلي العقد كأن يقول: "أجرتك هذه الدار لمدة عام بعشرة آلاف، ويكون ابتداء مدة الإجار من العقد" فقال المستأجر:"قبلتُ لكن لي الخيار لمدة خمسة أيام" وهو قول كثير من العلماء منهم أبو يعلى، وأيَّده ابن عثيمين لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن خيار الشرط يجوز في البيع مطلقًا، فكذلك يجوز فيما سبق ذكره في العقود مطلقًا، والجامع: أن كلًّا منها بيع، والبيع قسمان: بيع أعيان، وبيع منافع، الثانية: المصلحة؛ حيث إنه لا ضرر ولا غرر ولا جهالة في اشتراط الخيار في تلك العقود فإن قلتَ: إذا كانت مدَّة الإجارة تلي العقد: فإن خيار الشرط هنا لا يصحّ - وهو الذي ذكره المصنف هنا - للمصلحة: حيث إن هذا يُؤدِّي إلى فوات بعض المنافع المعقود عليها من أجل الشرط؛ حيث إن الدار ستبقى في مدَّة الخيار بدون استعمال، أو تستعمل في مدَّة الخيار، وكلاهما فيه ضرر على المؤجِّر قلتُ: إن المؤجِّر قد أسقط هذه المنافع برضاه، واتّفقا على ذلك. فإن قلتَ: ما سبب =
وكفالة
(19)
، ويصحَّ شرطه للمتعاقدين، ولو وكيلين
(20)
(وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه: صحَّ) الشرط، وثبت له الخيار وحده؛ لأن الحق لهما، فكيفما تراضيا به: جاز
(21)
(و) إن شرطاه (إلى الغد أو الليل): صح و (يسقط بأوله) أي: أول الغد، أو الليل؛ لأن "إلى" لانتهاء الغاية: فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها، وإلى صلاة: يسقط بدخول وقتها
(22)
(و) يجوز (لمن له الخيار الفسخ ولو مع غيبة) صاحبه (الآخر
الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين".
(19)
مسألة: لا يثبت ولا يصح خيار الشرط في السلم، والصَّرف، والضمان، والكفالة ونحوها من العقود؛ للتلازم؛ حيث إن هذه العقود تقتضي شرعًا: أن لا يبقى بين المتعاقدين عِلْقة بعد التفرّق بدليل: اشتراط القبض: فيلزم عدم صحة خيار الشرط فيها؛ لكونه يقتضي وجود علقة بينهما، فيُخالف المقصود من هذه العقود.
(20)
مسألة: يصحّ خيار الشرط بأي طريقة أرادها المتعاقدان: سواء اتّفقا في المدة أو تفاوتا: بأن شرطاه للبائع يومًا، وللمشتري ثلاثة أيام، وسواء كان المتعاقدان أصليين أو وكيلين عنهما؛ للمصلحة: حيث إن خيار الشرط حق لهما، جُوِّز؛ رفقًا بهما، وحفظًا لحقوقهما، فإذا تراضيا على طريقة مشروعة في هذا الخيار كالتفاوت، وتوكيل كل واحد منهما وكيل عنه: فيصحَّ؛ توسعة عليهما.
(21)
مسألة: يصح خيار الشرط لواحد من المتعاقدين دون الآخر إذا اتّفقا على ذلك، فيثبت خيار الشرط لمشترطه فقط؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إسقاط أحدهما لحقه في اشتراط الخيار: سقوطه كالدَّائن يسقط الدَّين عن المدين.
(22)
مسألة: إذا قال أحد المتبايعين: "لي الخيار إلى الغد" فإن الخيار ينتهي بأول طلوع الفجر من صباح الغد، وإذا قال:"لي الخيار إلى الليل": فإن الخيار ينتهي بغروب الشمس، وإذا قال:"لي الخيار إلى صلاة العصر" فإن الخيار ينتهي بأول دخول وقت صلاة العصر؛ للتلازم؛ حيث إن طلوع الفجر أول الغد، وغروب =
و) مع (سخطه) كالطلاق
(23)
(والملك) في المبيع (مدة الخيارين) أي: خيار الشرط وخيار المجلس (للمشتري): سواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما؛ لقوله عليه السلام:"من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" رواه مسلم، فجعل المال للمبتاع باشتراطه، وهو عام في كل بيع، فشمل بيع الخيار (وله) أي: للمشتري (نماؤه) أي: نماء المبيع (المنفصل) كالثمرة (وكسبه) في مدة الخيارين ولو فسخه بعد؛ لأنه نماء ملكه الداخل في ضمانه؛ لحديث "الخراج بالضمان" صحَّحه الترمذي، وأما النماء المتّصل - كالسَّمن -: فإنه يتبع العين مع الفسخ؛ لتعذُّر انفصاله
(24)
(ويحرم ولا
الشمس أول الليل، وأول دخول الوقت: أول ما تصلى فيه العصر فيلزم انتهاء وقت الخيار بذلك؛ حيث إن حرف "إلى" لانتهاء الغاية، فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها، فلا يدخل الغد، ولا الليل ولا الصلاة.
(23)
مسألة: إذا ثبت الخيار للمتبايعين فيجوز لأحدهما: أن يفسخ البيع مطلقًا: أي: سواء كان ذلك بحضور الآخر، أو بغيابه، وسواء كان برضى الآخر أو سخطه وغضبه؛ للقياس، بيانه: كما أن الطلاق يقع من الزوج لزوجته: سواء كانت حاضرة أو غائبة وسواء كانت راضية أو ساخطة، فكذلك فسخ البيع أثناء الخيار والجامع: أن كلًّا منهما قد رفع عقدًا لا يفتقر إلى رضى صاحبه فلم يفتقر إلى حضوره ورضاه؛ فإن قلتَ: لا يفسخ البيع في زمن الخيار إلا بحضور صاحبه، وهو قول بعض العلماء؛ للقياس، بيانه: كما أنه لا يجوز فسخ المودَع للوديعة إلا بحضور المودِع، فكذلك الحال هنا قلتُ: هذا فاسد! لأنه قياس مع الفارق؛ لأنه لا حق للمودَع في الوديعة؛ بخلاف المباع فالمشتري له حق فيه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض القياسين" فنحن قسناه على الطلاق؛ لأنه أكثر شبهًا به، وهم قاسوه على الوديعة؛ لأنه أكثر شبهًا بها، وهذا يُسمَّى "قياس غلبة الأشباه".
(24)
مسألة: ملك العين المباعة أثناء خيار المجلس وخيار الشرط يكون للمشتري: =
يصحّ تصرُّف أحدهما في المبيع و) لا في (عِوَضه المعيَّن فيها) أي: في مُدَّة الخيارين (بغير إذن الآخر) فلا يتصرَّف المشتري في المبيع بغير إذن البائع إلّا معه: كأن آجره له، ولا يتصرَّف البائع في الثمن المعيَّن زمن الخيارين إلا بإذن المشتري أو معه كأن استأجر منه به عينًا
(25)
، هذا إن كان التصرُّف (بغير تجربة المبيع)، فإن تصرَّف؛ لتجربته كركوب
سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما، فكل ما يكون في هذه العين من نماء منفصل كثمرة نخلة يشتريها، أو كسب عبد، وسيارة اشتراهما: يكون للمشتري في مدة الخيارين حتى لو فسخ هذا المشتري البيع، أما إن كان ذلك النماء مُتَّصلًا لا يُمكن فصله كسمن الشاة المباعة التي فيها الخيار: فإنه يكون للبائع عند فسخ البيع، للسنة القولية: وهو قوله عليه السلام: "من باع عبدًا، وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع" حيث بيَّن هنا: أن الأصل: أن العبد - وهي سلعة مباعة - يكون للمشتري بمجرَّد العقد، فيلزم من ذلك: أن المبيع دخل في ملك المشتري بمجرَّد العقد، وتدخل مدَّة الخيار في ذلك؛ لكون ما بعد العقد مباشرة عام في الأزمان، فيشمل مدة الخيارين وما بعدها، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك للمشتري أثناء مدة الخيارين؟ قلتُ: لكون العين المباعة يملكها المشتري بعد العقد مباشرة، والنماء والكسب حصلا في وقت ملكه لها فله خراجه كما أن عليه ضمانه كما قال عليه السلام:"الخراج بالضمان" فإذا كان المشتري يغرم ما يحصل للعين المباعة أثناء مدة الخيار، فكذلك يغنم النماء والكسب الحاصلين من العين المباعة، فإن قلتَ: لِمَ كان النماء المتصل للبائع عند الفسخ؟ قلتُ: نظرًا لتعذُّر انفصاله عن العين المباعة، ولتضرُّر البائع بانفصاله.
(25)
مسألة: يحرم أن يتصرَّف البائع في الثمن المعيَّن في زمن خيار المجلس وخيار الشرط إلا إذا أذن له المشتري، أو كان هذا التصرُّف الواقع من البائع حدث مع المشتري - في غير تجربة - كأن يستأجر البائع عينًا من المشتري بذلك الثمن المعين، فيصح، ويكون ذلك إمضاء، وكذلك يحرم أن يتصرَّف المشتري في العين المباعة =
دابة؛ لينظر سيرها، وحلب دابة؛ ليعلم قدر لبنها: لم يبطل خياره؛ لأن ذلك هو المقصود من الخيار كاستخدام الرقيق
(26)
(إلا عتق المشتري) لمبيع زمن الخيار، فينفذ مع الحرمة، ويسقط خيار البائع حينئذٍ
(27)
(وتصرُّف المشتري) في المبيع بشرط الخيار
في مُدَّة الخيارين إلّا إذا أذن له البائع أو كان هذا التصرُّف من المشتري حدث مع البائع كأن يؤجِّر المشتري المبيع للبائع فيصح، ويكون ذلك إمضاء للبيع، وإذا تصرَّف البائع، أو المشتري في الثمن أو المبيع: بهبة، أو وقف، أو بيع، أو شراء: فلا يصح ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن الثمن ليس مُلكًا للبائع، والمبيع ليس مُلكًا للمشتري فعلاقة كُلِّ واحد بما يخصُّه لم تنقطع فيلزم: عدم جواز تصرف أحدهما بما قبضه، ويلزم: عدم صحّة التصرُّف إن وقع؛ لأنه تصرُّف بما لا يملك، ويلزم من إذن أحدهما للآخر بالتصرُّف، أو التصرُّف معه: صحَّة ذلك؛ لأن كل واحد منهما قد أسقط حقه بالإذن.
(26)
مسألة: إذا أراد أن يتحقَّق من صلاحية السلعة المباعة كأن يُجرِّبها؛ ليرى ذلك: فيركب الدابة ليرى طريقة سيرها، ويحلب الشاة ليعلم قدر لبنها، وقيادة السيارة ليعلم سيرها، واستخدام العبد ليرى قوته وسرعته في العمل، ونحو ذلك: فهذا جائز ولا يُبطل الخيار؛ للمصلحة: حيث إن الخيار شُرع ليستوضح المشتري صلاحية المبيع، والتأكد من ذلك، ولا يمكن ذلك إلا بتجربته واستعماله، فلزم، ولا يُبطل الخيار؛ لكونه هو المقصود منه، تنبيه: قوله: "كاستخدام الرقيق" يريد به الاستدلال على المسألة بالقياس على استخدام الرقيق في وقت الخيار قلتُ: هذا لا يصح؛ لأن استخدام الرقيق هو مثال للمسألة.
(27)
مسألة: إذا باع زيد عبدًا على عمرو، واشترط المشتري - وهو عمرو - الخيار، فأعتق ذلك المشتري العبد فيصح ذلك مع التحريم، ويعتق العبد، وإن لم تنته مدة الخيار، للتلازم؛ حيث يلزم من تشوُّف الشرع للعتق، والحثّ عليه: صحّة العتق ووقوعه وإن كان في زمن الخيار، ويلزم من وجود حق البائع في الخيار: حرمة =
له زمنه بنحو وقف، أو بيع، أو هبة أو لمس لشهوة:(فسخٌ لخياره) وإمضاء للبيع؛ لأنه دليل الرضى به، بخلاف تجربة المبيع واستخدامه، وتصرُّف البائع في المبيع إذا كان الخيار له وحده ليس فسخًا للبيع
(28)
ويبطل خيارهما مطلقًا بتلف مبيع بعد قبض، وبإتلاف مشترٍ إياه مُطلقًا
(29)
(ومن مات منهما) أي: من البائع والمشتري بشرط: الخيار: (بطل خياره) فلا يُورث إن لم يكن طالب به قبل موته كالشفعة، وحدّ القذف
(30)
(الثالث) من أقسام الخيار: "خيار الغبن" (إذا غبن في المبيع غبنًا يخرج عن
تصرُّف المشتري بذلك.
(28)
مسألة: إذا تصرَّف المشتري في السلعة التي اشتراها أثناء مُدَّة الخيار: بأن أوقفها أو باعها، أو وهبها لأحد، أو رهنها أو نحو ذلك أو لمس الأمة بشهوة: فإن هذا يعتبر فسخًا لخياره، وإمضاء للبيع، أما تصرُّف البائع في السلعة التي باعها في وقت خياره لوحده لا يُعتبر فسخًا للبيع؛ للتلازم؛ حيث إن تصرُّف المشتري بالسلعة التي اشتراها بمثل تلك التصرفات دليل على أنه رضي بها مُلكًا، فيلزم من ذلك فسخ خياره، وإمضاءً منه للبيع، ويلزم من انتقال السلعة من ملك البائع: أن تصرفه فيها لا يُعتبر فسخًا للبيع، فلا يكون ذلك التصرُّف لاسترجاع المبيع. تنبيه: قوله: "بخلاف تجربة المبيع واستخدامه" قلتُ: قد سبق: أن التحقق من صلاحية السلعة من قبَل المشتري في وقت الخيار: جائز، ولا يُبطل الخيار في مسألة (26).
(29)
مسألة: إذا تلفت السلعة المباعة في مدة خيار المجلس، أو خيار الشرط بعد القبض: فإنه يبطل خيار البائع والمشتري وينفسخ البيع، وكذلك يبطل الخيار بإتلاف المشتري للسلعة المباعة: سواء قبض أو لا: للتلازم؛ حيث يلزم من تلف السلعة المباعة: زوال الخيار فيها، ويلزم من استقرار الثمن في ذمة المشتري: أنه إذا أتلفها: سقط خياره، ولزمه البيع، فيضمن ذلك.
(30)
مسألة: إذا مات البائع أو المشتري في مُدَّة الخيار: فإن خيار الميت يبطل إذا لم =
العادة)؛ لأنه لم يرد الشرع بتحديده، فرجع فيه إلى العرف
(31)
، وله ثلاث صور:
يُطالب به قبل موته، أما إن طالب به قبل موته: فإن الخيار يورث، أما خيار الحي منهما: فهو باق على حاله؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إنه يلزم من لفظ "الخيار" تخيير بين إمضاء وفسخ، وهذه صفة ذاتية تخص الشخص نفسه كعلمه وقدرته، وهذا لا يورث فيلزم من ذلك: أن لا يورث الخيار، الثانية: القياس بيانه: كما أن الشفعة وحد القذف لا تورث عن شخص إلّا إذا طالب بهما قبل موته فكذلك الخيار ليس من حق الورثة إلا إذا كان مُورِّثهم قد طالب به قبل موته، والجامع: أن كلًّا منها حق يُورث إذا علمت مطالبة المورِّث بها، فإن قلتَ: لِمَ لا يُورث حق الخيار كغيره من الحقوق؟ قلتُ: لعدم علمنا بنية الميت هل كان يريد الفسخ، أو يريد الإمضاء، ولاختلاف الورثة عادة في ذلك.
(31)
مسألة: في الثالث - من أقسام الخيار - وهو خيار الغبن، وهو: الخدعة في البيع: بأن يبيع سلعته بثمن أقل مما تستحق، أو يشتري سلعة بأكثر مما تستحق: فمثلًا: لو باع زيد ثوبًا بستة ريالات، وهو في الحقيقة يساوي عشرة، أو اشترى ثوبًا بعشرة وهو لا يساوي إلّا خمسة، وقال أهل الخبرة بالثياب: إن البائع أو المشتري مغبون في ذلك غبنًا يخرج عن العادة في ذلك: فإن لهما الخيار وردُّ المبيع، وأخذ الثمن، أو الإمضاء في البيع؛ القاعدتين: الأولى: السنة القولية وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه" والمغبون والمغلوب في البيعة لم تطب نفسه فيشمله عموم هذا النص؛ لأن "مال" نكرة في سياق نفي وهو من صيغ العموم، فلا يحل، فاستحق الخيار لذلك؛ لأن النفي هنا نهي، وهو مُطلق فيقتضي التحريم والفساد ثانيهما: قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "ضرر وضرار" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، وذلك لأن بيع السلعة بثمن أقل مما تستحق ضرر على البائع، وشراءها بثمن أكثر مما تستحق =
إحداها: تلقِّي الركبان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقَّوا الجلب، فمن تلقَّاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق: فهو بالخيار" رواه مسلم (و) الثانية المشار إليها بقوله: (بزيادة الناجش) الذي لا يُريد شراء، ولو بلا مواطأة، ومنه:"أعطيتُ كذا" وهو كاذب؛ لتغريره بالمشتري، الثالثة: ذكرها بقوله: (والمسترسل) وهو من جهل القيمة، ولا يحسن يُماكس: من: استرسل: إذا اطمأنَّ، واستأنس، فإذا غُبن: ثبت له الخيار
(32)
،
ضرر على المشتري، وهذا منهي عنه، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، الثانية: العرف والعادة؛ حيث إن الشيء الذي لم يرد تحديده من قبل الشارع: فإنه يرجع إلى تحديد أصحاب الخبرة في تلك السلعة من المتوسطين في عقولهم، فإن قلتَ: لِمَ ثبت خيار الغبن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس الذين قد يقعون في مثل ذلك، فيُمكَّنون من ردِّ سلعته، أو ثمنه، أو إمضاء البيع.
(32)
مسألة: يثبت خيار الغبن في ثلاث صور: أولها: إذا جلب شخص سلعة لسوق لا يعرف سعر تلك السلعة" فمثلًا: لو جلب زيد بعيرًا وتلقَّاه عمرو قبل دخوله لذلك السوق، فاشترى عمرو ذلك البعير من زيد، فلما دخل زيد السوق وجد أنه باعه بأقل من ثمنه بكثير: فإن لزيد الخيار: فإن شاء أمضى البيع، وإن شاء ردَّ بعيره، وردَّ الثمن على عمرو، وهذا يُسمَّى بـ "تلقي الركبان"، ثانيها: إذا زاد شخص في ثمن سلعة، وهو لا يُريد شراءها، وإنما يريد نفع البائع أو الإضرار بالمشتري، أو يُريدهما معًا، ولو لم يتفق هذا مع البائع، أو زاد البائع نفسه في ثمن سلعته قائلًا: "إني اشتريتها بكذا" أو قائلًا: "إني قد أُعطيتُ بها كذا" وهو كاذب؛ لأجل أن يغرَّ المشتري بذلك، وهذا يُسمَّى "زيادة النجش" فإن المغبون له حق الخيار. ثالثها: إذا كان الشخص جاهلًا بقيمة السلعة، أو كان يعلم السلع، لكنه لا يحسن المماكسة - وهو المكاسرة والأخذ والرَّد في الثمن - فاشترى سلعة بسبب اطمئنانه للبائع - بعشرة وهي لا تساوي خمسة عند أهل الخبرة - وهذا يُسمَّى بـ "المسترسل" وهو: المطمئن الواثق بالبائع، فهذا له حق الخيار؛ =
ولا إرش مع إمساك
(33)
، والغبن محرم
(34)
، ...................
للسنة القولية: وهي من وجوه: أولها: قوله عليه السلام: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقَّاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق: فهو بالخيار" أي: أن الجالب إذا وجد نفسه أنه مغبون فهو بالخيار: إن شاء أمضى البيع، وإن شاء أخذ سلعته من المشتري وردَّ ثمنها، والنهي هنا مطلق فيقتضي التحريم، وفساد البيع، لذلك ثبت له الخيار، ثانيها: أنه عليه السلام: "نهى عن النجش" أي: لا يزيد أحدكم في ثمن سلعة لا يريد شراءها، أو لا تزيدوا في ثمن سلعتكم كذبًا، والنهي مطلق فيقتضي التحريم وفساد البيع، لذا ثبت الخيار، ثالثها: أنه عليه السلام "نهى عن بيع الغرر" ولا شك أن من باع على المسترسل سلعة بأعلى من ثمنها فقد غرَّه، وغلبه، وتحايل على أكل ماله بغير حق والنهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم وفساد البيع، لذلك ثبت الخيار للمسترسل: فإن قلتَ: لِمَ ثبت الخيار في تلك الصور؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق بعض المسلمين الذين قد لا تسمح ظروفهم وأحوالهم من معرفة ما يجري في الأسواق من أسعار ونحوها.
(33)
مسألة: إذا أمضى المغبون البيع، وأمسك العين المباعة في تلك الصور الثلاث - التي في مسألة (32) - ونحوها مما شابهها: فلا يستحق أرش أو عِوَض عن الغبن الذي أصابه، بل الخيار بين أمرين فقط: إمّا ردُّ المبيع وأخذ ثمنه الذي دفعه، أو إمضاء البيع؛ للاستقراء؛ حيث إنه ثبت بعد استقراء النصوص المثبتة لخيار الغبن: أن الشارع لم يجعل له الأرش والعِوَض.
(34)
مسألة: يُحرَّم الغبن في صوره الثلاث السابقة - في مسألة (32) - وما شابهها، ويحرم التسبُّب إليه؛ للسنة القولية؛ وهي من أوجه ثلاثة - وقد سبق ذكرها في مسألة (32) - فإن قلتَ: لِمَ حُرِّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه غشٌّ للآخرين، وتغرير بهم مما يؤدِّي إلى أكل أموال الناس بالباطل.
وخياره على التراخي
(35)
(الرابع) من أقسم الخيار: (خيار التَّدليس) من الدلسة وهي الظلمة، فيثبت بما يزيد به الثمن (كتسويد شعر الجارية، وتجعيده) أي: جعله جعدًا وهو ضد السبط (وجمع ماء الرحى) أي: الماء الذي تدور به الرحى (وإرساله عند عرضها) للبيع؛ لأنه إذا أرسله بعد حبسه: اشتدَّ دوران الرحى حين ذلك، فيظنُّ المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في الثمن، فإذا تبيَّن له التدليس: ثبت له الخيار، وكذا تصرية اللَّبن في ضرع بهيمة الأنعام؛ لحديث أبي هريرة يرفعه:"لا تصرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها: فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردَّها، وصاعًا من تمر" متفق عليه
(36)
، ..............................
(35)
مسألة: خيار الغبن يكون على التراخي، فالمغبون له الخيار بعدما يطَّلع ويعلم أنه غُبن في شرائه للسلعة وإن بَعُد عن زمن البيع، فلا يسقط هذا الخيار إلّا بقرائن تدلّ على رضا المغبون: كتصرُّفه بالسلعة ببيع أو هدية، أو نحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المشتري سلعة ثم اطَّلع على عيب فيها فله الخيار ولو بعد مدة طويلة - كما سيأتي في مسألة (48)، فكذلك من اشترى سلعة ثم علم أنه مغبون فيها فله الخيار ولو بعد مدة طويلة، والجامع: أن كلًّا منهما ثبت لإزالة ضرر أحد المتبايعين، وهذا لا يحدد له وقت.
(36)
مسألة: في الرابع - من أقسام الخيار - وهو: خيار التدليس، والمراد بذلك: أن يقوم البائع بتحسين مظهر سلعته بينما هي قبيحة في الباطن، فيكون المشتري في ظلمة لا يرى القبح الذي أخفي عليه فيرغب فيها، كأن يكتم العيب الذي في تلك السلعة، أو أن يغسل الثوب بمادة تجعله كأنه لم يُستعمل من قبل، ويبيعه على أنه جديد، أو يجعل الطعام الجيد ظاهرًا، والرديء باطنًا، أو أن يصبغ بيتًا أو سيارة فيبيعهما على أنهما جديدان، أو أنه يصبغ شعر الجارية، أو العبد بالسواد، ليُبيِّن أنهما شابان، أو يجمع الماء في الرحى - وهو الذي يرفع الماء من النهر ليُسقى به -، فإذا أراد بيع ذلك: فتح هذا بقوة فتدور الرحى دورانًا =
وخيار التدليس على التراخي
(37)
إلا المصراة، فيُخيَّر ثلاثة أيام منذ علم بين إمساك
سريعًا، فيظن المشتري أن ذلك بسبب قوتها، أو يجمع اللبن في ضرع البهيمة؛ ليظن المشتري أن حليبها كثير فيزيد المشتري بالثمن لأجل ذلك، فإذا تبين المشتري أن ذلك كله تدليس وخداع فيما بعد فله حق الخيار إن شاء ردَّ السلعة، وأخذ الثمن الذي دفعه، وإن شاء أمضى البيع، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، وهو من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "لا تصرُّوا الإبل والغنم فمن ابتاعها: فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردَّها وصاعًا من تمر" فنهى الشارع عن تصرية اللبن في الضرع، وهو: جمعه فيه؛ ليُبيِّن للمشتري أنها ذات لبن كثير، وهذا النهي مطلق، فيقتضي التحريم، وفساد البيع، لذلك جعل للمشتري المدلَّس عليه هنا الخيار، ثانيهما: أنه عليه السلام لما علم أن بائع الطعام قد جعل الرديء أسفل، والجيّد منه أعلى قال:"من غشَّنا فليس منا" وهذا عام؛ لأن "مَنْ" الشرطية من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه؛ حيث إن التدليس على الآخرين من أعظم الغش، الثانية: القياس، بيانه: كما أن التدليس بجمع اللبن في الضرع حرام ومفسد للبيع، وفيه الخيار، فكذلك سائر أنواع التدليس وصوره السابق ذكرها في أول المسألة، والجامع: أن كلًّا منها يزيد في الثمن؛ نظرًا لما أظهره البائع من الحسن، فيكون قد أخذ مالًا بغير حق، وهو المقصد منه.
(37)
مسألة: خيار التدليس يكون على التراخي، فالمدلَّس عليه، والمغشوش، وهو المشتري هنا له الخيار بعدما يعلم أنه قد دُلِّس عليه، وأن البائع قد أظهر له شيئًا لا يُوجد في الحقيقة، وإن كان ذلك بعد مُدَّة طويلة، فلا يسقط الخيار هنا: لا بعد أن تثبت قرائن تدل على رضى المشتري: ببيع السلعة التي اشتراها، أو هبتها ونحو ذلك؛ للقياس على خيار العيب الذي سيأتي في مسألة (48) تنبيه: هذا في غير التدليس بالمصراة.
بلا أرش، ورد صاع تمر سليم إن حلبها، فإن عدم التمر: فقيمته، ويُقبل ردُّ اللَّبن بحاله
(38)
(الخامس) من أقسام الخيار: (خيار العيب) وما بمعناه (وهو) أي: العيب: (ما ينقص قيمة المبيع) عادة، فما عدَّه التجار في عرفهم مُنقصًا: أنيط الحكم به، وما
(38)
مسألة: إذا دلَّس البائع وصرَّ وجمع اللَّبن في ضرع البهيمة، وعلم المشتري بذلك فله الخيار ثلاثة أيام فقط: فإن لم يحلبها: ردَّها إن شاء وأخذ ثمنه الذي دفعه، وإن شاء أمسكها وأمضى البيع، أما إن حلبها: فإن كان اللَّبن بحاله لم يتغيَّر، وأراد ردَّها: فإنه يردها ولبنها إلى البائع، ويأخذ ثمنه الذي دفعه، أما إن تغيَّر اللبن أو استهلكه وأراد ردَّها: فإنه يردَّها إلى البائع وصاعًا من تمر غير مغشوش، فإن لم يجد هذا الصاع من التمر: فإنه يرد قيمته؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردَّها وصاعًا من تمر" حيث دل مفهوم الزمن على أنه إذا اكتشف التدليس قبل أن يحلبها يردّها لوحدها، ووردت زيادة عند مسلم وهي:"فهو بالخيار ثلاثة أيام" وهي زيادة ثقة مقبولة ويدل مفهوم الزمان أيضًا على أنها إذا مضت بطل خياره، فإن قلتَ: لِمَ كان الخيار في المصراة ثلاثة أيام فقط؟ قلتُ: لأنه يُعرف بتلك الأيام حاصل لبنها عادة، فإن قلتَ: لِمَ يردها مع صاع من تمر بدلًا عن اللَّبن إذا تغيَّر، أو استهلك؟ قلتُ: عِوضًا عن اللبن الموجود أثناء العقد؛ لكونه ملكًا للبائع، أما ما وُجد بعد ذلك فهو ملك للمشتري وإن كان في زمن الخيار، فإن قلتَ: لم تُردُّ البهيمة مع اللبن إذا لم يتغيَّر؟ قلتُ: لأن التمر شرع بدلًا عن اللَّبن، فإذا وجد المبدل بحاله، بطل البدل وهو التمر، فإن قلتَ: لِمَ خصِّص التمر هنا؟ قلتُ: لأنه غالب قوت أهل الحجاز في عهده عليه السلام، ولأنه يؤكل مع اللَّبن عادة، فإن قلتَ: لِمَ قُدِّر ذلك بالصاع مع أن اللَّبن قد يزيد وقد ينقص؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قطع للتشاجر والنزاع في مثل هذه الأمور.
لا: فلا
(39)
، والعيب (كمرضه) على جميع حالاته في جميع الحيوانات (وفقد عضو) كإصبع (وسن، أو زيادتهما، وزنا الرقيق) إذا بلغ عشرًا من عبد أو أمة (وسرقته) وشربه مُسكرًا (وإباقه، وبوله في الفراش) وكونه أعسر، لا يعمل بيمينه عملها المعتاد، وعدم ختان ذكر كبير، وعثرة مركوب وحرنه ونحوه، وبُخر، وحَوَل، وخرس، وطرش، وكلف، وقرع، وحمل أمة، وطول مُدَّة نقل ما في دار مبيعة عرفًا، وكونها ينزلها الجند
(40)
لا سقوط آيات يسيرة من مصحف ونحوه، ولا حمَّى وصداع
(39)
مسألة: في الخامس - من أقسام الخيار - وهو: خيار العيب، وهو: أن يطَّلع المشتري أن في السلعة التي اشتراها عيبًا ينقص من قيمتها في عرف أهل الخبرة والعقل من التجار، فهذا مخيَّر بين أن يُمسك المبيع، ويأخذ الأرش عن العيب، أو يرد المبيع ويأخذ الثمن للقياس، بيانه: كما أن الخيار يثبت بالتصرية - كما سبق في مسألتي (36 و 38)(36)، فكذلك يثبت بالعيب والجامع: إخفاء حقيقة الأمر عن المشتري، فإن قلتَ: لِمَ ثبت خيار العيب؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فيه حماية لحقوق المسلمين من يستولي عليها الظلمة بسبب التدليس، والغش والخداع، تنبيه: سيأتي بيان طريقة الخيار هنا، والأرش في مسألة (42).
(40)
مسألة: العيوب التي يثبت بسببها الخيار هي: كل شيء يُوجد بالسلعة المباعة يتسبَّب في نقص قيمة السلعة نقصًا يُفوِّت به غرضًا صحيحًا أراده المشتري إذا كان الغالب في جنس السلعة المباعة عدمه، وأمثلة العيوب كثيرة لا يمكن حصرها على مرِّ العصور، ومنها: مرض حيوان أو رقيق، ونقص عضو في حيوان، أو رقيق كإصبع، أو رجل، أو سن من رقيق، أو زيادة ذلك مما يُشوِّه المنظر، أو زنا رقيق، أو لواطه أو ثبوت خبثه، أو خناثته، أو سرقته، أو شربه الخمر؛ أو كان معروفًا بالهرب والإباقة، أو بوله في الفراش، أو كان أعسرًا لا يعمل بيمينه، أو كان غير مختون وهو كبير في السن أو كان أبخرًا أو في إحدى عينيه حول، أو كان أخرسًا لا يتكلَّم، أو كان أطرشًا لا يسمع غالبًا، أو كان فيه =
يسيرين، ولا ثيوبة، أو كفر، أو عدم حيض، ولا معرفة غناء
(41)
(فإذا علم المشتري العيب بعد) العقد: (أمسكه بأرشه) إن شاء؛ لأن المتبايعين تراضيا على أن العوض في
كَلُفُ - وهو: من تغيَّرت بشرته بلون بين السواد والحمرة -، أو كان أقرعًا وهو الأصلع، أو أجذمًا، أو كان كثير الكذب والحمق، أو لا أدب ولا وقار في موضعهما، أو كانت الأمة حاملًا، لكونه يُضعف نشاطها، أو كانت الدار المباعة فيها أثاث طال نقله عنها في عرف التجار؛ لتأخر تسليمها للمشتري فيتضرَّر، أو وجد المشتري فيها حشرات لا يزول، أو كان الجار لهذه الدار جار سوء أو كان ينزلها جند من الظلمة، أو كان ممن لا يخرج إلّا بمشقة ونحوها مما شابهها، فهذه عيوب معتبرة، للمصلحة: حيث ثبت بعد التتبّع والاستقراء أن هذه العيوب وما شابهها تُنقص من قيمة السلعة المباعة - فيلحق الضرر المشتري، فيكون الثمن لا يُعادل السلعة، فثبت له الخيار بها؛ حماية له تنبيه: جعل المصنف وبعض الفقهاء: كون الجار لتلك الدار المباعة جار سوء، أو كان النازل للدار المباعة من الجنود ونحو ذلك في معنى العيب، وليست عيبًا، قلتُ: هذه تعتبر عيوبًا حقيقية في الدار المباعة يثبت لأجلها الخيار؛ لأنها تضرّ بالمشتري.
(41)
مسألة: العيوب التي لا تُثبت الخيار هي: كل شيء يُوجد في السلعة المباعة مما يكثر وجوده في مثلها، ولا يُفوِّت على المشتري غرضًا أراده، ولا يُنقص من ثمنها كثيرًا، ومنها: سقوط آيات قليلة جدًا من مصحف، أو أوراق من كتاب علم، أو وجود مرض عارض كالحمَّى، أو الصداع في الرقيق، أو كون الأمة ليست بكرًا، أو كون الرقيق كافرًا أو كون الأمة لا تحيض، أو كونها تعرف الغناء، أو كون الرقيق لا يعرف الحجامة، أو الطبخ، فهذه ليست عيوبًا مُعتبرة عند أهل الخبرة والعدالة من التجار؛ للتلازم؛ حيث إن كثرة وجودها في السلع المباعة، وعدم اشتراط صفة مُعيَّنة في السلعة وعدم تأثُّر ما اشتُريت لأجله، يلزم من ذلك: أنه يُتسامح بمثل تلك العيوب، ولا يثبت بسببها الخيار للمشتري.
مقابلة المبيع، فكل جزء منه يُقابله جزء من الثمن، ومع العيب فات جزء من المبيع، فله الرجوع ببدله وهو الأرش (وهو) أي: الأرش (قسط ما بين قيمة الصحة والعيب) فيقوَّم المبيع صحيحًا، ثم معيبًا، ويؤخذ قسط ما بينهما من الثمن، فإن قوم صحيحًا بعشرة ومعيبًا بثمانية: رجع بخمس الثمن قليلًا كان أو كثيرًا، وإن أفضى أخذ الأرش إلى ربا كشراء حلي فضة بزنته دراهم: أمسك مجانًا إن شاء (أو ردَّه وأخذ الثمن) المدفوع للبائع، وكذا: لو أُبرئ المشتري من الثمن، أو وهب له، ثم فسخ البيع لعيب، أو غيره: رجع بالثمن على البائع
(42)
، وإن علم المشتري قبل العقد
(42)
مسألة: إذا علم المشتري العيب الذي في السلعة التي باعها بعد العقد فيُخيَّر بين أمرين: أولهما: أن يمسك السلعة التي اشتراها بأرشها - وهو: أن يدفع البائع للمشتري الفارق بين قيمتها صحيحة، وقيمتها معيبة، وهذا يضعه أهل الخبرة والعدالة من التجّار، فمثلًا: إذا كانت قيمة العبد صحيحًا عشرة آلاف، وقيمته معيبًا ثمانية: فإن البائع يدفع للمشتري ألفين عِوَضًا عن ذلك العيب إن تراضيا على ذلك، ثانيهما: أو يردُّ المشتري السلعة التي اشتراها ويأخذ كامل الثمن الذي دفعه، أما إن كان دفع الأرش هذا يؤدِّي إلى ربا فهو بالخيار: أما أن يمسك المبيع ويُمضي البيع مجانًا، أو يرده ويأخذ ثمنه الذي دفعه، ويسقط الأرش كأن يشتري زيد ذهبًا بزنته دنانير ونحو ذلك؛ للتلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: أن المتبايعين قد تراضيا في أن يكون الثمن في مقابلة المبيع الصحيح كله، فيكون كل جزء منه يُقابله جزء من الثمن، فإذا وجد عيب فيه: فإنه يُفوِّت جزءًا من المبيع لم يستوفيه المشتري، فيلزم: أن يأخذ المشتري بدلًا عن ذلك العيب من البائع، وهذا هو الأرش. ثانيهما: أنه يلزم من إفضاء أخذ الأرش إلى التعامل بالربا: بطلان الأرش، فيكون مُخيرًا بين إمضاء البيع، أو الردّ فقط؛ لئلا يقع بالربا المنهي عنه (فرع): إذا أبرئ المشتري من الثمن، أو وُهب له من قبل البائع، ثم فسخ المشتري البيع بسبب العيب أو التدليس أو نحو ذلك: فإنه يرجع بكل الثمن؛ =
بعيب المبيع، أو حدث العيب بعد العقد: فلا خيار له
(43)
إلّا في مكيل ونحوه تعيَّب قبل قبضه
(44)
(وإن تلف المبيع) المعيب (أو عتق العبد) أو لم يعلم عيبه حتى صبغ الثوب، أو نسجه، أو وهب المبيع، أو باعه، أو بعضه (تعيَّن الأرش)؛ لتعذُّر الرَّدِّ، وعدم وجود الرضا به ناقصًا
(45)
، وإن دلَّس البائع: بأن علم العيب، وكتمه عن
للتلازم؛ حيث يلزم من فسخه للبيع: استحقاقه لجميع الثمن.
(43)
مسألة: يسقط خيار العيب في صورتين: أولهما: إذا كان المشتري عالمًا بعيب السلعة التي اشتراها قبل العقد؛ للتلازم؛ حيث إن علمه بالعيب قبل العقد ومع ذلك اشتراه فهذا يقتضي رضاه بهذا العيب فيلزمه البيع، فلا خيار، ثانيهما: إذا حدث العيب في السلعة بعد العقد؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من خروج السلعة من ملك البائع بسبب العقد سليمة: ملزم للبيع، فلا خيار، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وهي حماية البائع من الظلم.
(44)
مسألة: إذا اشترى شخص مكيلًا، أو موزونًا، أو معدودًا، أو ثمر على شجر أو نحو ذلك وتعيَّب بعد العقد وقبل قبض المشتري له: فإن المشتري له الخيار بين إمضاء البيع مع الأرش، أو ردِّ السلعة المباعة وأخذ ثمنها الذي دفعه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ضمان البائع لهذه الأمور إلى قبض المشتري لها: ثبوت الخيار فيما لو تعيَّبت ولو بعد العقد؛ لكونها ليست تحت يد المشتري فلا يُلزم المشتري بشيء لم يكن من فعله، لأنه ظلم له، وهو المقصود منه.
(45)
مسألة: يتعيَّن أخذ المشتري للأرش، ويسقط الرَّد في ثلاث صور: أولها: إذا تلفت السلعة المباعة بأكل ونحوه، ثم علم المشتري أنها معيبة، ثانيها: إذا عتق العبد عند المشتري ثم علم أنه معيب، ثالثها: إذا صبغ المشتري الثوب أو نسجه، أو غسله، أو وهب المشتري المبيع، أو باعه، أو رهنه أو أوقفه، أو فعل ذلك ببعضه، ثم علم المشتري أنه معيب، ففي هذه الصور وما شابهها: يتعيَّن الأرش؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعذُّر ردِّ المبيع، وفوات رضا المشتري به في حالة كونه معيبًا: تعيُّن =
المشتري، فمات المبيع، أو أبق: ذهب على البائع؛ لأنه غرَّه، وردَّ للمشتري ما أخذه
(46)
(وإن اشترى ما لم يُعلم عيبه بدون كسره كجوز هند، وبيض نعام فكسره، فوجده فاسدًا، فأمسكه: فله أرشه، وإن ردَّه: ردَّ أرش كسره) الذي تبقى له معه قيمة وأخذ ثمنه؛ لأن عقد البيع يقتضي السلامة، ويتعيَّن أرش مع كسر لا تبقى معه قيمة (وإن كان) المبيع (كبيض دجاج) فكسره، فوجده فاسدًا:(رجع بكل الثمن)؛ لأنا تبيَّنا فساد العقد من أصله؛ لكونه وقع على ما لا نفع فيه، وليس عليه رد فاسد ذلك إلى بائعه؛ لعدم الفائدة فيه
(47)
(وخيار عيب متراخ)؛ لأنه لدفع ضرر مُتحقق، فلم يبطل
ووجب الأرش فقط على البائع، ويأخذه المشتري؛ لكونه في مقابلة الجزء المعيب في المبيع - كما سبق بيانه - وهو المقصد منه.
(46)
مسألة: إذا علم البائع عيبًا في السلعة، ودلَّسها على مشترٍ، فلم يُبينها له عند العقد فمات أو هرب العبد ونحو ذلك - مما كان البائع يعلم أنه سيكون من عبده أو حيوانه الذي باعه مثلًا -: فإن هذا يُحسب على البائع، ويأخذ المشتري الثمن الذي دفعه كاملًا، وكذلك يدفع البائع للمشتري ما دفعه بسبب تضرُّر من ذلك المبيع فمثلًا: لو كان البائع يعرف أن تلك الأمة لو وطأها أحد لحصل منها عيب كذا، ولكنه أخفاه عن المشتري، فوطأها المشتري بعد شرائها فحصل ذلك العيب: فإنه يردها ويأخذ ثمنه الذي دفعه لها من البائع، للسنة القولية: حيث إنه عليه السلام "قد نهى عن بيع الغرر"، والبائع قد دلَّس وغرَّ المشتري، فيحرم ويفسد البيع؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، وهذا فيه حماية للمشتري من غش وتدليس البائعين الظلمة، وهو المقصد الشرعي منه.
(47)
مسألة: إذا اشترى ما لا يمكن أن يُعرف عيبه إلا بعد كسره، وإزالة قشره، فكسره المشتري فظهر عيبه: فله حالتان: الحالة الأولى: إذا كان للمعيب قيمة ونفع ولو كان مكسورًا كبيض النعام، أو جوز الهند، أو البطيخ - حيث يُمكن أن تأكله البهائم -: فالمشتري بالخيار: إما أن يرد المبيع ويأخذ ما دفعه من ثمن، ويرد أرش =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كسره - بأن يدفع للبائع الفارق بين ثمن البطيخ غير المكسور، والبطيخ المكسور مثلًا أو يقبل تلك السلعة - وهي البطيخ مثلًا - ويدفع له البائع أرش ذلك العيب - كما سبق بيانه -؛ للقياس وهو من وجهين: أولهما: كما أنه لو اشترى عبدًا فبان له أنه معيب: فله الخيار بين ردِّه إلى البائع أو إمضاء البيع مع دفع البائع له أرش هذا العيب فكذلك الحالة هنا، والجامع: أن كلًّا منهما فيه عقد للبيع يقتضي السلامة من كل عيب لم يطلع عليه المشتري، فيثبت الخيار له بعد ذلك، ثانيهما: كما أن مشتري المصراة وحلبها فوجدها غير ما كانت عليه عند البيع: له الخيار: إن شاء ردها ورد مع ذلك صاعًا من تمر، وإن شاء أمضى البيع، فكذلك الحالة هنا: فإنه يردها ويرد أرش كسرها معها، والجامع: أن كلًّا من اللَّبن، والسلعة المكسورة يُنتفع به، وكلًّا منهما فيه نقص لا يمنع الرد، الحالة الثانية: إذا لم يكن للمعيب قيمة بعد كسره كبيض الدجاج الفاسد، والرمان الفاسد، وجوز الهند الذي كسر كسرًا لا يُستفاد منه: فالمشتري يأخذ ثمنه كاملًا من البائع، ولا يلزم المشتري ردُّه إلى البائع، وإن كان بعضه فاسدًا: فإن البائع يُرجع للمشتري ما يُقابل ذلك الفاسد من الثمن بنسبته؛ للتلازم؛ حيث إن من شروط صحة البيع: أن يكون المعقود عليه عين يُنتفع به - كما سبق في مسألة (15) من "حقيقة البيع، وحكمه وشروطه .. " والبيض الفاسد لا يُنتفع به قبل كسره أو بعده، فيلزم من ذلك: عدم صحة البيع أصلًا، فيأخذ المشتري ما دفعه كاملًا؛ لأن انتفاء الشرط يلزم منه عدم الحكم، وهو: عدم صحّة البيع. فإن قلتَ: لِمَ شرع ذلك التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه محافظة على حقوق المشتري؛ لئلا يؤخذ ماله بغير حق بهذه الطريقة، وللمحافظة على حقوق البائع؛ لئلا يذهب المبيع المكسور الذي يُنتفع به مع دفعه للأرش فيتضرَّر، فإن قلتَ: لِمَ لا يردّ المشتري المكسور الذي لا يُنتفع به إلى البائع؟ قلتُ: لعدم قيمته الشرعية، =
بالتأخير (ما لم يُوجد دليل الرضا) كتصرف فيه بإجارة، أو إعارة أو نحوهما عالمًا بعيبه، واستعماله لغير تجربة
(48)
(ولا يفتقر) الفسخ للعيب (إلى حكم، ولا رضا ولا حضور صاحبه) أي: البائع كالطلاق
(49)
، ولمشتر مع غيره معيبًا، أو بشرط خيار: الفسخ في نصيبه ولو رضي الآخر
(50)
. ...............................
وهو معنى قوله: "ويتعيَّن أرش مع كسر لا تبقى معه قيمة".
(48)
مسألة: خيار العيب يكون على التراخي، أي أن المشتري إذا اكتشف العيب بعد مدة طويلة: فله حق الخيار؛ فلا يسقط خياره إلّا بعد أن تثبت قرائن وأدلة على رضاه بالسلعة المباعة كأن يتصرَّف بها ببيعها، أو إجارتها، أو إعارتها، أو هبتها أو وطئها إن كانت جارية، وهو عالم بعيبها، أو استعملها لغير تجربة كركوب دابة ونحو ذلك.؛ للمصلحة: حيث إن خيار العيب ثبت لدفع الضرر المتحقق عن المشتري، وهذا الدفع يصح ولو تأخر وقته؛ تحقيقًا للعدالة، وقطعًا لوسائل الغش التي يستعملها بعض الظلمة.
(فرع) إن استعمل ذلك وهو جاهل: فلا يؤثر ذلك الاستعمال، وهو على خياره وقد سبق.
(49)
مسألة: إذا أراد المشتري أن يفسخ البيع ويرد المبيع المعيب: فله ذلك مُطلقًا، أي: سواء رضي البائع، أو لا، وسواء كان البائع حاضرًا أو لا، وسواء تولَّى ذلك بنفسه، أو استعان بقاضٍ أو حاكم، لا فرق؛ للقياس؛ بيانه كما أن الطلاق يقع من الزوج على الزوجة مُطلقًا، فكذلك الحالة هنا، والجامع: أن كلًّا منهما رفع عقدًا مستحقًا له، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه رفع الضرر عن المشتري؛ لأنه لو انتظر حضور البائع، أو رضاه، أو حضور حاكم أو نحو ذلك: لزاد ضرر المشتري.
(50)
مسألة: إذا اشترى زيد وعمرو سلعة من بكر، فوجدا تلك السلعة معيبة: فإنه يجوز لزيد أن يفسخ نصيبه من العقد ولو رضي عمرو به، وكذا: لو اشترى بكر =
والمبيع بعد فسخ أمانة بيد مشتر
(51)
(وإن اختلفا) أي: البائع والمشتري في معيب (عند مَنْ حدث العيب؟) مع الاحتمال: (فقول مشتر مع يمينه) إن لم يخرج عن يده؛ لأن الأصل: عدم القبض في الجزء الفائت، فكان القول: قول من ينفيه، فيحلف أنه اشتراه وبه العيب أو أنه ما حدث عنده، ويردُّه (وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما) كالإصبع الزائد، والجرح الطريء الذي لا يحتمل أن يكون قبل العقد:(قبل) قول المشتري في المثال الأول، والبائع في المثال الثاني (بلا يمين)؛ لعدم الحاجة إليه
(52)
،
سلعة من زيد وعمرو فوجدها معيبة: فيجوز لبكر أن يفسخ نصيب زيد وإمساك نصيب عمرو، ويُحسب القسط من الثمن في ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن نصيبه هو جميع ما ملكه في العقد، وقد وقع معيبًا فلزم جواز ردِّه بالخيار؛ لعدم وجود مانع من ذلك.
(51)
مسألة: إذا عزم المشتري على فسخ البيع، فإن السلعة المباعة تكون أمانة في يده حتى يُسلِّمها البائع أو وكيله، وإن تلفت بيده بسبب تفريطٍ منه: فيضمنها، وإن كان ذلك بدون تفريط: فلا يضمنها؛ وإن كان البائع غائبًا وخشي على المبيع الفساد فإنه يبيعها ويكون ثمنها دينًا في ذمته متى ما حضر البائع أعطاه إياه أو ورثته، للقياس، بيانه: كما أن الوديعة تكون أمانة بيد المودَع، يضمنها عند تلفها بتفريط، ولا يضمنها بدون ذلك، ويبيعها إن خشي عليها، ويكون ثمنها في ذمته متى ما حضر المودِع سلَّمها له، أو لورثته، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما حاصلة باليد، وأن ذلك في مصلحة البائع.
(52)
مسألة: إذا اختلف البائع والمشتري في زمن حدوث العيب: بأن قال البائع: "إن العيب حدث بعد العقد فلا خيار لك" وقال المشتري: "إن العيب كان موجودًا قبل العقد فلي الخيار" فله حالتان: الحالة الأولى: إن كان العيب، يحتمل حدوثه قبل العقد وبعده مثل كون الثوب مخروقًا، أو جنون عبد، أو كثير التبول في فراشه: فيُقبل قول البائع مع يمينه - وهو قول الجمهور - فيحلف أن هذا العيب لم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يكن موجودًا قبل العقد، وأنه باعه سليمًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بيّنة فالقول: ما يقول صاحب السلعة أو يترادَّان" وصاحب السلعة هو: البائع، الثانية: الاستصحاب، لأن الأصل: عدم وجود العيب في المبيع، فقول المشتري:"إن العيب كان موجودًا قبل العقد" خلاف الأصل؛ لكونه مشكوكًا فيه، فنستصحب الأصل، وهو: خلوّ السلعة من العيب، ويلزم من ذلك: أنه يُقبل قول البائع، فلا خيار للمشتري، فإن قلتَ: لِمَ وجبت اليمين على البائع؟ قلتُ: لأن البائع ينكر ما ادَّعاه المشتري من وجود العيب قبل العقد؛ "واليمين على من أنكر" كما قال عليه السلام، فإن قلتَ: إنه يُقبل قول المشتري مع يمينه في هذه الحالة، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه يُقبل قول المشتري في "كونه قبض المبيع أو لا مع يمينه" فكذلك هذه الحالة مثل ذلك، والجامع: القبض أو عدمه في كل، ففي الأصل: عدم قبض السلعة، وفي الفرع: عدم قبض الجزء الفائت بسبب العيب. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الأصل: وهو: "قبض المشتري للسلعة أولا" أكثر وضوحًا وبيانًا لإثباته، وعدم ذلك من الفرع، وهو:"حدوث العيب المحتمل قبل أو بعد العقد" ومع الفرق: لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة والاستصحاب". الحالة الثانية: إن كان العيب، لا يحتمل إلّا قول أحد المتبايعين فقط بسبب قرينة وُجدت كقول مشتر:"إنه وُجد في العبد إصبع زائد" أو قوله: "إن في رأس العبد شجة مندملة قديمة": فيُقبل قول المشتري هنا بدون يمين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من القرينة الحالية: صدق المشتري، إذ لا يمكن ذلك بعد العقد. أما لو قال مشتر:"إن في العبد - جرح يسيل الدم منه الآن" وأنكره البائع قائلًا: "إن هذا حدث بعد العقد" فيُقبل قول البائع بدون يمين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من القرينة الحالية: =
ويُقبل قول بائع: إن المبيع المعيب ليس المردود
(53)
، إلا في خيار شرط: فقول مشتر
(54)
، وقول قابض في ثابت في ذمة: من ثمن، وقرض، وسَلَم، ونحوه إن لم يخرج عن يده. وقول مشتر في عين ثمن مُعيَّن بعقد
(55)
، ومن اشترى متاعًا، فوجده
صدق قول البائع؛ إذ لا يمكن أن يكون ذلك قبل العقد، فإن قلتَ: لِمَ يُقبل قول أحدهما هنا بلا يمين؟ قلتُ: لأن اليمين شُرعت تقوية للقول، وكلامهما هنا لا يحتاج إلى تقوية، فإن قلتَ: لِمَ كان هذا التفصيل في هاتين الحالتين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحري لمنع الظلم.
(53)
مسألة: إذا ردَّ المشتري السلعة إلى البائع؛ لعيب فيها، فأنكر البائع كون ما ردَّه المشتري هي سلعته، قائلًا:"ليست هذه السلعة التي بعتها لك": ولا توجد بيّنة: فإنه يقبل قول البائع مع يمينه؛ للتلازم؛ حيث إن البائع منكر، ومنكر استحقاق الفسخ، فيلزم قبول قول المنكر؛ مع يمينه؛ لأن "اليمين على المنكر".
(54)
مسألة: إذا ردَّ المشتري السلعة إلى البائع في خيار الشرط، فأنكر البائع أن تلك السلعة هي سلعته التي باعها: فيُقبل قول المشتري؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اتفاقهما على استحقاق الفسخ والردّ بعد مُضي الوقت المشروط في الخيار: أن يُقبل قول المشتري في عين السلعة؛ أي: كأن البائع معترف بأنها سلعته بذلك.
(55)
مسألة: إذا ثبت في ذمة بكر لزيد صاع ثمن سلعة مباعة، أو هو قرض، أو سَلَم، أو أجرة، فأعطاه بكر لزيد، وبعدما قبضه زيد من بكر: ردَّه زيد بسبب عيب وجده فيه، وأنكر بكر قائلًا:"إن الصاع المردود ليس هو الصاع الذي دفعته إليك": فهنا يُقبل قول القابض - وهو هنا زيد - مع يمينه بشرط: عدم خروج ذلك الصاع من تحت يد القابض المشاهدة وهو زيد، للاستصحاب؛ حيث إن الأصل بقاء شغل ذمة بكر بذلك الصاع، فيُعمل بهذا الأصل، فيلزم بكرًا - على ذلك - قبول الصاع، وعدم ردِّه. (فرع): الثمن يُشابه المثمن - وهي السلعة =
خيرًا مما اشترى: فعليه ردُّه إلى بائعه
(56)
(السادس) من أقسام الخيار (خيار في البيع بتخيير الثمن متى بان) الثمن (أقل أو أكثر) مما أُخبر به
(57)
(ويثبت) في أنواعه الأربعة (في التولية) وهي: بيع برأس المال (و) في (الشركة) وهي: بيع بعضه بقسطه من الثمن و"أشركتك" ينصرف إلى نصفه (و) في (المرابحة) وهي: بيعه بثمنه وربح
المباعة - في الرد بالعيب ونحو ذلك: فيُقبل قول المشتري فيه إلّا في خيار الشرط: فإنه يُقبل قول البائع كما سبق في مسائل (53 و 54 و 55).
(56)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر طعامًا على أنه رديء بمائة ريال، فبان بعد شرائه له: أنه طعام جيد يساوي مائتي ريال وكان بكر يجهل ذلك: فيجب على زيد أن يردُّه إلى بكر، أو يُعطي بكرًا الفرق، فيُسلِّمه مائة أخرى؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو اشترى من بكر طعامًا على أنه جيد بمائتي ريال، فبان أنه رديء لا يساوي إلّا مائة: فإنه يردّه إلى بكر، أو يأخذ الفارق - وهو الأرش - وهو مائة ريال، فكذلك العكس والجامع: منع أكل أموال الناس بالباطل، وهو المقصد منه.
(57)
مسألة في السادس - من أقسام الخيار - وهو: خيار في البيع يثبت عند إخبار البائع للمشتري بخلاف الواقع، فللمشتري الخيار: كأن يشتري زيد سيارة بثمانية آلاف، فيقول بكر له:"بعني هذه السيارة برأس مالها" فيقول زيد: "قد بعتها عليك برأس مالها وهو عشرة آلاف ثم تبيّن لبكر أن زيدًا قد كذب عليه، وأن رأس مالها ثمانية فقط: فيثبت لبكر الخيار: إن شاء ردَّ السيارة، وأخذ ثمنها الذي دفعه، وإن شاء أمسكها ويُعطيه زيد ألفين إن رضي - للقياس؛ بيانه كما أن زيدًا لو باع عبدًا على بكر على أنه كاتب، فبان بعد العقد: أنه ليس بكاتب: فإن لبكر الخيار كما سبق، فكذلك الحال هنا: والجامع: التدليس في كل، فإن قلتَ: لِمَ ثبت الخيار هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق المسلمين من الظلمة والكذابين المدلِّسين.
معلوم، وإن قال:"على أن أربح في كل عشرة درهمًا": كُره (و) في (المواضعة) وهي: بيعه برأس ماله وخسران معلوم (ولا بدَّ في جميعها) أي: الصور الأربع (من معرفة المشتري) والبائع (رأس المال)؛ لأن ذلك شرط لصحة البيع، فإن فات: لم يصحّ، وما ذكره من ثبوت الخيار في الصور الأربع تبع فيه "المقنع" وهو رواية، والمذهب: أنه متى بان رأس المال أقل: حُطَّ الزائد، ويحط قسطه في مرابحة، وينقصه في مواضعه ولا خيار للمشتري
(58)
، ..................................
(58)
مسألة: يثبت الخيار في البيع في القسم السادس من أقسام الخيار في صور أربع: أولها: التولية، وهي: بيع السلعة برأس مالها، من قولهم:"ولَّيتك المبيع كما توليته أنا" كأن يشتري زيد دارًا بخمسين ألفًا، فيقول لبكر:"بعتها عليك برأس مالها" وهو: خمسون ألفًا، ثانيها: الشركة وهي: بيع زيد لبكر نصف الدار بقسطه من الثمن - وهو خمسة وعشرون ألفًا - أو يقول زيد لبكر: "أشركتك فيها" فيكون لبكر نصفها؛ لأن المشاركة تلزم منها تسوية الشريكين غالبًا، ثالثها: المرابحة، وهي: أن يبيع زيد على بكر الدار برأس مالها وربح مبلغ معلوم: كأن يقول زيد لبكر: "بعتك تلك الدار برأس مالها - خمسون ألفًا - وربح خمسة آلاف"، فقبل بكر بذلك: فيصحّ ذلك، وإن قال:"بعتك إياها برأس مالها - وهو خمسون - وربح عن كل عشرة آلاف مائة ريال": فقد كره أحمد هذه العبارة؛ لكونها مشابهة لعبارة الربا وهي قولهم: "بعتك دراهم بدراهم" رابعها: المواضعة وهي: أن يضع زيد وينقص من رأس مالها فيقول لبكر: "بعتك إياها بخسارة عشرة آلاف من رأس المال الذي اشتريتها به"، فهذه الصور صحيحة ويثبت الخيار فيها: إن أخبر البائع وهو زيد هنا بخلاف ما اشترى الدار به، وهذا بشرط: أن يكون البائع - وهو زيد - والمشتري - وهو بكر - عارفين لرأس المال الذي اشترى زيد به تلك الدار؛ للتلازم؛ حيث إن تلك الصور لا جهالة ولا غرر في المبيع، ولا في الثمن، فلزم: صحتها، ويلزم من عدم معرفة الثمن الحقيقي =
ولا تقبل دعوى بائع غلطًا في رأس المال بلا بيِّنة
(59)
(وإن اشترى) السلعة (بثمن مؤجَّل أو) اشترى (ممن لا تُقبل شهادته له) كأبيه، وابنه، وزوجته (أو) اشترى شيئًا (بأكثر من ثمنه حيلة) أو محاباة، أو لرغبة تخصّه، أو موسم فات (أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن) الذي اشتراها به (ولم يبين ذلك) للمشتري (في تخبيره بالثمن: فللمشتر الخيار بين الإمساك والرد) كالتدليس والمذهب فيما إذا بان الثمن مُؤجَّلًا أنه يُؤجِّل على المشتري ولا خيار؛ لزوال الضرر كما في "الإقناع"
للدار المشتراة فيه - وهو رأس مالها -: عدم صحة البيع؛ نظرًا لجهالة الثمن وهو شرط في صحّة البيع، ويلزم من انتفائه: انتفاء المشروط، فإن قلتَ: إن الخيار لا يكون في تلك الصور وهو مذهب الحنابلة المعتمد، فإذا باع زيد تلك الدار بستين ألفًا، وكان رأس مالها الذي اشتراها به خمسين: فإن البائع يُعيد للمشتري وهو بكر عشرة آلاف، وكذا إذا شاركه بنصفها وادّعى زيد أن ثمنها ستون: فإنه يُعيد إليه خمسة وكذلك يفعل في المرابحة وهكذا. قلتُ: إن ثبوت الخيار في تلك الصور أولى وأصلح من عدمه؛ لمراعاة مصلحة الطرفين، ودرء المفسدة عنهما.
(59)
مسألة: إذا غلط أو سها البائع في تلك الصور الأربع السابقة في مسألة (58) فأخبر: "أنه اشترى الدار بخمسين ثم قال: غلطتُ أو نسيتُ، بل اشتريتها بستين، فأبيعها عليك بستين": فإنه لا يُقبل قوله هذا إلا بأدلة أو قرائن أو بينات، فإن أثبت بيِّنة على أنه اشتراها بستين: قُبلَ وإن لم يُثبت ذلك: يُعتمد أنه قد اشتراها بخمسين وهو رأس مالها؛ للقياس، بيانه: كما أن المضارب إذا أقرّ بأنه ربح ألفًا مثلًا، ثم قال: غلطتُ، بل ربحت ثمانمائة، فلا يُقبل إلا ببينة، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما قد أقرّ بالثمن، وتعلَّق به حق الغير، والمقصد: حماية أموال الناس.
و"المنتهى"
(60)
(وما يُزاد في ثمن، أو يُحطُّ منه) أي: من الثمن (في مُدَّة خيار): مجلس
(60)
مسألة: للمشتري الخيار إذا أخبره البائع برأس مال السلعة التي زيد في ثمنها؛ لغرض من الأغراض، ولم يعلم المشتري بذلك الغرض، وهذا يكون في صور سبع: أولها: أن يشتري زيد سيارة بعشرة آلاف مؤجلة إلى سنة، فباعها على بكر برأس مالها ولم يخبر زيد بأنه اشتراها بعشرة مُؤجَّلة، فبان بعد العقد الأمر: فللمشترِ - وهو بكر - الخيار: إن شاء ردَّها إلى زيد وأخذ ما دفعه ثمنًا لها، وإن شاء أمضى البيع، وأخذ الفارق بين بيعها عاجلًا، وبيعها مؤجلًا؛ حيث إن يفرق في الثمن. ثانيها: أن يشتري زيد دارًا من شخص لا تُقبل شهادته له كأن يشتريها من أبيه أو ابنه بعشرة آلاف فباعها على بكر برأس مالها - وهو ثمانية - ولم يخبر زيدًا بكرًا أنه اشتراها أصلًا من أبيه، فعلم ذلك بكر بعد العقد: فلبكر الخيار: إن شاء ردَّها، وأخذ ثمنها، وإن شاء أخذ الفارق بين شرائها من هذا القريب، وبين شرائها من الغريب؛ لأن العادة جرت على أن الشخص إذا اشترى من قريب له: فإنه لا يماكس، فيكون في السعر زيادة قد ظُلم بها بكر، ثالثها: أن يشتري زيد دارًا بعشرة آلاف من صديقه محاباة، فباعها على بكر برأس مالها، ولم يُخبر بكرًا بأنه اشتراها من صديقه: فللمشتري - وهو بكر - الخيار، كما قلنا في الصورة الثانية، رابعها: أن يشتري زيد دارًا من شخص بأكثر من ثمنها حيلة كأن يتخلص من دين له عليه، فباعها على بكر برأس مالها الذي دفعه زيد - وهو عشرة آلاف -، وعلم بكر بعد العقد: أن زيدًا اشتراها من المدين له حيلة: فللمشتري - وهو هنا بكر - الخيار: فإن شاء ردَّها، وأخذ الذي دفعه، وإن شاء أمسكها مع دفع زيد له الفارق بين شرائها بحيلة وبدون حيلة؛ لأن العادة اقتضت أن المشتري بحيلة يختلف عن المشتري بغير حيلة، خامسها: أن يشتري زيد سلعة لحاجة ماسة بأكثر من ثمنها كأن يشتري دارًا بجواره، أو أمة لتربي ولده، فباعها على بكر برأس ثمنها، ولم يخبر زيد بكرًا بذلك فعلم بعد العقد: فللمشتري =
أو شرط (أو يُؤخذ أرشًا لعيب أو) لـ (جناية عليه) أي: على المبيع، ولو بعد لزوم البيع:(يلحق برأس ماله و) يجب أن (يُخبر به) كأصله، وكذا: ما يُزاد في مبيع، أو أجل، أو خيار، أو يُنقص منه في مدة خيار، فيُلحق بعقد
(61)
(وإن كان ذلك) أي:
الخيار - كما قلنا في الصورة الرابعة - سادسها: أن يشتري زيد سيارة قَبل موسم الحج بعشرة آلاف، فيبيعها على بكر برأس مالها بعد الحج، ولم يعلمه أنه اشتراها قبل الموسم، فعلم بكر بذلك: فله الخيار، لأن العادة غلاء ثمن السيارات الصالحة للحج قبل موسمه، وانخفاضه بعده. سابعها: أن يشتري زيد أرضًا بخمسين ألفًا، ثم يبيع نصفها بنصف رأس مالها على بكر - وهو خمسة وعشرون ألفًا - ثم تبيَّن لبكر أن هذه الأرض التي اشتراها بعض تلك الأرض التي اشتراها زيد، وأن زيدًا باع نصفها بقسطه من الثمن: فللمشتري الخيار بين الرد، والإمضاء مع دفع الفارق من البائع وهو زيد؛ لأن العادة اختلاف الثمن باختلاف الاتجاهات، وهذه الصور السبع يثبت فيها الخيار؛ للقياس، بيانه: كما يثبت الخيار بالتدليس والعيب فكذلك يثبت الخيار في هذه الصورة والجامع: أن البائع في هذه الصور قد أخفى عن المشتري شيئًا يتغيَّر الثمن بسببه، فإن قلتَ: إنه في الصورة الأولى: لا خيار للمشتري، بل يُؤجِّل له، كما اشتراه وهو مُؤجَّلًا، وهو قول بعض الحنابلة؛ للمصلحة: حيث يلزم من زوال الضرر بذلك: زوال الخيار قلتُ: إن ثبوت الخيار للمشتري أصلح، وأكثر توسيعًا عليه من الإلزام. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض المصلحتين".
(61)
مسألة: إذا أراد المشتري أن يبيع السلعة التي اشتراها برأس مالها: فيجب عليه أن يُخبر المشتري منه بما حصل من زيادة أو نقصان، أو أرش أضيف، أو أنقص من رأس مالها الذي عُقد عليه وذلك في أثناء خيار المجلس والشرط، وهذا في صور أربع: أولها: أن يشتري زيد من بكر ثوبًا بعشرة ريالات، ثم في أثناء الخيار زاده بكر ريالين: فإنهما يُلحقان برأس المال - وهو العشرة - فيكون اثني عشر =
ما ذكر من زيادة أو حطٍّ (بعد لزوم البيع) بفوات الخيارين: (لم يُلحق به) أي: بالعقد، فلا يلزم أن يُخبر به
(62)
، لا إن جنى المبيع ففداه المشتري؛ لأنه لم يزد به المبيع
ريالًا - فإذا جاء محمد يُريد شراء الثوب من زيد برأس ماله: فإن زيدًا يُخبره بأن رأس ماله اثنا عشر. ثانيها: لو نقَّص بكر من ثمن الثوب ريالين في مُدَّة الخيارين، فاشتراه محمد من زيد برأس ماله: فعلى زيد أن يُخبره بأن رأس ماله ثمانية، ثالثها: لو وجد زيد عيبًا في الثوب الذي اشتراه بعشرة، وقوِّم هذا العيب بأربعة فدفعها بائع الثوب لزيد، فجاء محمد فاشترى الثوب برأس ماله: فعلى زيد أن يُخبره بأن رأس ماله ستة فقط، وتكون هذه الصور قبل لزوم البيع. رابعها: إذا اشترى زيد عبدًا بعشرة آلاف فجُني عليه جناية كان تقدير أرشها ألفين، فعلى زيد أن يُخبر من أراد شراءه - وهو محمد - بذلك، وهذه الصورة تصح ولو بعد لزوم البيع، وهذه الصور الأربع يجب أن يُخبر بها المشتري من زيد، وكذا ما يزاد في أجل ووقت البيع، أو خيار، أو يُنقص منه، فكل ذلك، يجب أن يُحاط به من أراد الشراء من زيد مما يغلب على الظن تأثر ثمنه به؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام: عن بيع الغرر" وهذا عام؛ لأن "بيع" نكرة في سياق النفي، وهو من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن زيدًا لو لم يُخبر محمدًا بتلك التفصيلات: للحقه غرر وجهالة؛ وهذا منهي عنه، والنهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق المسلمين من أن يتحايل عليها الظلمة فيأكلونها بالباطل.
(62)
مسألة: إذا مضى وقت خيار المجلس والشرط، ولزم البيع، ثم زاد البائع وهو بكر على المشتري - وهو زيد - بعض المال، أو نقص منه، أو زاد، أو نقص زيد ذلك ونحو ذلك: فهذا لا يُلحق برأس المال - ولا يجب أن يُخبر زيد محمدًا - الذي يُريد أن يشتري من زيد السلعة برأس مالها -؛ للتلازم؛ حيث إن تمام البيع ولزومه: يلزم منه تسليم السلعة، واستلام الثمن، دون زيادة أو نقصان، والبائع =
ذاتًا ولا قيمة
(63)
(وإن أخبر بالحال) بأن يقول: "اشتريته بكذا" أو "زدته" أو "نقصته كذا" ونحوه: (فحسن)؛ لأنه أبلغ في الصدق
(64)
، ولا يلزم الإخبار بأخذ نماء، واستخدام ووطء إن لم يُنقصه
(65)
، وإن اشترى شيئًا بعشرة مثلًا، وعمل فيه صنعة،
وهو بكر لا دخل له فيما ملكه زيد؛ فيكون رأس المال مُستقرًا على ما كان عليه العقد.
(63)
مسألة: إذا اشترى زيد عبدًا فجنى هذا العبد جناية كأن قتل هذا العبد شخصًا آخر، أو جرحه، وهذا أوجب قودًا، أو مالًا، فدفع المشتري - وهو زيد - خمسة آلاف للمجنى عليه كفدية، أو أرش، فلا تُلحق هذه الخمسة برأس ماله الذي اشتراه به زيد، ولو كان ذلك في مدة خيار الشرط، أو المجلس، وكذا: المؤنة والكسوة، وأجرة الحمل، والأدوية لا تلحق برأس ماله: فلو أتى بكر ليشتري ذلك العبد لا يلزم زيد أن يخبره بذلك كله؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك لا يؤثِّر في زيادة قيمته، أو ذاته، أو يُنقص من ذلك فلزم عدم الحاجة إلى إخباره.
(64)
مسألة: يُستحب: أن يُخبر زيد بجميع ما حصل من الأحوال لهذا العبد الذي أراد بكر شراءه برأس ماله كأن يُخبره بأنه اشتراه بكذا، ثم بعته بكذا، ثم اشتريته بزيادة، أو صرفت عليه كذا، أو اشتريته مع غيره بكذا، فخذه بقسطه ونحو ذلك مما لا يؤثر في الثمن ولا يجب ذلك، للمصلحة: حيث إن الإخبار بحقيقة الحال بالتفاصيل - وإن لم يكن واجبًا - أبلغ في الصدق، وأقرب إلى الحق، وأبعد عن التدليس، وأحوط لدين المسلم.
(65)
مسألة: إذا اشترى زيد شاة، ثم أخذ نماءها كجزه لصوفها؛ أو حلب لبنها اللذين غير موجودين عند العقد، أو اشترى عبدًا فاستخدمه؛ أو اشترى أمة ثيبًا فوطئها، فجاء بكر واشترى من زيد تلك الأشياء برأس مالها: فلا يجب على زيد أن يُخبره بأنه أخذ الصوف واللبن من الشاة، أو استخدم العبد، أو وطأ الأمة الثيب بشرط: أن لا يُنقص ذلك الشاة، أو العبد، أو الأمة، ويُؤثِّر على أثمانها؛ =
أو دفع أجرة كيله، أو مخزنه: أخبر بالحال، ولا يجوز أن يجمع ذلك ويقول:"تحصَّل عليَّ بكذا"
(66)
، وما باعه اثنان مرابحة: فثمنه بحسب ملكيهما، لا على رأس ماليهما
(67)
(السابع) من أقسام الخيار (خيار) يثبت (لاختلاف المتبايعين) في الجملة
(68)
(فإذا اختلفا) هما أو ورثتهما، أو أحدهما وورثة الآخر (في قدر الثمن)
للتلازم؛ حيث إن ذلك لا يُؤثِّر في زيادة قيمتها، أو ذاتها، أو نقصان ذلك: فلزم عدم الحاجة إلى إخباره، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك الشرط؟ قلتُ: للاحتراز من الاستعمال الذي يُنقص من ثمن السلعة كأن يشتري أمة بكرًا، فيطأها ففي هذه الحالة يجب أن يُخبر بكرًا إذا أراد شراءها برأس مالها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نقصان ثمنها بذلك: وجوب إخباره بذلك؛ لئلا يُغرُّ، وهذا هو المقصد منه.
(66)
مسألة: إذا اشترى زيد ثيابًا بمائة مثلًا، ثم صبغها أو استأجر مخزنًا لها، أو استأجر من يحملها بمائة أخرى، وجاء بكر وأراد شراءها برأس مالها: فيجب على زيد أن يُخبره بتفاصيل ذلك على وجهه، ولا يجوز له: أن يجمع ذلك بنفسه ويقول: إن رأس مالها مائتان؛ للتلازم؛ حيث إن جمع ذلك تلبيس، وتغرير على المشتري - وهو بكر هنا - فلزم: إخباره؛ ليشتري بكر، وهو عارف بكل شيء عن المبيع، وهو المقصد هنا.
(67)
مسألة: إذا اشترى زيد نصف الدار بخمسين ألفًا من بكر، واشترى محمد النصف الآخر من تلك الدار بمائة ألف، ثم باع زيد ومحمد تلك الدار يريدان المرابحة فيها بعقد واحد بثمن وقدره مائتا ألف: فإن هذا الثمن يُقسَّم بينهما على حسب مُلكية كلّ واحد منهما من الدار، ولا يُنظر هنا لرأس مال كلّ واحد منهما، فيأخذ زيد مائة ألف، ومحمد مائة ألف كذلك بالتساوي؛ للتلازم؛ حيث إن الثمن عوض عن المبيع - وهو الدار هنا - وكل واحد منهما يملك نصف الدار، فيلزم أن يُقسَّم ثمنها بينهما بالتساوي، ولا مدخل لرأس مالهما هنا.
(68)
مسألة: في السابع - من أقسام الخيار - وهو: خيار يثبت لاختلاف المتبايعين في =
بأن قال بائع: "بعتكه بمائة" وقال مشتر "بثمانين" ولا بيِّنة لهما، أو تعارضت بينتاهما:(تحالفا) ولو كانت السلعة تالفة: (فيحلف بائع أولًا: "ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا" ثم يحلف المشتري: "ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا") وإنما بدأ بالنفي؛ لأنه الأصل في اليمين (ولكل) من المتبايعين بعد التحالف (الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر) وكذا: إجارة، وإن رضي أحدهما بقول الآخر، أو حلف أحدهما ونكل الآخر: أقرَّ العقد (فإن كانت السلعة) التي فسخ البيع فيها بعد التحالف (تالفة: رجعا إلى قيمة مثلها) ويُقبل قول المشتري فيها؛ لأنه غارم
(69)
، وفي
بعض الصور إذا لم توجد بيّنة لأحدهما؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بيِّنة، فالقول قول البائع، أو يترادَّان" حيث بيَّن هنا: أن البائع والمشتري إذا اختلفا فيما بينهما في قدر الثمن، أو الصفة أو نحو ذلك ولا بيّنة: فهما بالخيار إن أرادا أمضيا البيع، أو ردّ البائع الثمن، ورد المشتري السلعة المباعة، فإن قلتَ: لِمَ ثبت هذا الخيار؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة، ومنع من أكل أموال الناس بالباطل. تنبيه: إذا اختلف البائع والمشتري في شيء يخص المبيع أو الثمن يمكن الاختلاف فيه فإن لكل خلاف حكمه المناسب له، وهذا يكون في مسائل سيأتي فيما يلي (من 69 إلى 77).
(69)
مسألة: إذا اختلف البائع والمشتري، أو ورثتهما، أو أحدهما وورثة الآخر في قدر ثمن السلعة المباعة بأن قال البائع:"بعتك السيارة بعشرة آلاف" وقال المشتري: "اشتريتها بثمانية" ولا توجد بيّنة أو قرينة تدلّ على ترجيح قول أحدهما؛ أو أثبت كلّ واحد منهما بيّنة، ولكنهما متعارضتان تمام التعارض فأسقطت إحداهما الأخرى: ففي هذه الحالة يتحالفان: فيحلف البائع أولًا قائلًا: "والله ما بعتها بثمانية، بل بعتها بعشرة" ثم يحلف المشتري قائلًا: "والله ما اشتريتها بعشرة وإنما اشتريتها بثمانية" فإن امتنع أحدهما عن الحلف: أقرّ العقد على الثمن الذي قاله الحالف، فإن لم يرض أحدهما بقول وحلف الآخر: فهما =
قدر المبيع
(70)
(فإن اختلفا في صفتها) أي: صفة السلعة التالفة: بأن قال البائع: "كان العبد كاتبًا" وأنكره المشتري: (فقول مشتر)؛ لأنه غارم
(71)
، وإذا تحالفا في
بالخيار: إن شاء أحدهما فسخ البيع، أو شاء أن يقبل قول الآخر ويُخطِّي نفسه: فإنه يُمضي البيع وهذا عام فيشمل السلعة الموجودة - كأن تكون السيارة المباعة أمامهما - أو تالفة ومفقودة، فإن كانت موجودة: فلا إشكال، وإن كانت تالفة: فإنهما يُقدِّران قيمتها بقيمة مثلها بأن تُوصف هذه السيارة وصفًا دقيقًا عند ذوي الخبرة والعدالة فيقوِّمونها بثمن مثلها، ويُلزم المشتري بذلك الثمن إن لم يفسخ، ويقبل قول المشتري في قيمة المبيع التالف مع يمينه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم البيّنة، أو تعارضهما: أنهما متساويان، ويلزم من كون أحدهما مدّع والآخر منكر: أن يتحالفا، ويلزم من قوة جانب البائع؛ لكون المبيع يُرد إليه: أن يبدأ أولًا بالحلف ولا يُعتد بما بدأ المشتري، ويلزم من كون المشتري غارم، وملزم نفسه ما التزمه بالعقد: أن يُقبل قوله إذا كانت السلعة تالفة فإن قلتَ: لِمَ يُجمع بين النفي والإثبات في اليمين؟ قلتُ: لأن هذا أبلغ وأصرح في الدعوى؛ ليكون دافعًا لما ادّعاه خصمه بالنفي ومثبتًا لما ادّعاه هو بالإثبات، فإن قلتَ: لِمَ يُبدأ بالنفي في الحلف؟ قلتُ: لأن النفي هو الأصل في اليمين، ولا يُعتد فيما إذا قُدِّم الإثبات.
(70)
مسألة: إذا اختلف البائع والمشتري في قدر المبيع كأن يقول البائع: "بعتك ثوبين" فيقول المشتري: "بل بعتني ثوبًا واحدًا" فإنه يُقبل قول المشتري مع يمينه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه غارمًا، وملزم نفسه بما التزمه بالعقد: أن يُقبل قوله مع يمينه؛ لكونه هو الذي سيدفع الثمن، ولزم اليمين؛ للاحتياط وللتأكيد.
(71)
مسألة: إذا اختلف البائع والمشتري في صفة السلعة المباعة التالفة كأن تكون السيارة المباعة قد تلفت وفُقدت فقال البائع: "إنها جديدة" وقال المشتري: "إنها قديمة": ولا بيّنة لهما: فإنه يُقبل قول المشتري مع يمينه؛ للتلازم؛ وقد بيناه في مسألة (70).
الإجارة، وفسخت بعد فراغ المدة: فأجرة المثل، وفي أثنائها بالقسط
(72)
(وإذا فسخ العقد) بعد التحالف: (انفسخ ظاهرًا وباطنًا) في حق كل منهما كالرَّدِّ بالعيب
(73)
(72)
مسألة: إذا اختلف المؤجِّر والمستأجر في قدر أجرة الدار فقال المؤجِّر: "والله ما أجَّرته بثمانية وإنما أجَّرته بعشرة" وقال المستأجر: "والله ما استأجرت بعشرة، وإنما استأجرت بثمانية": فلكل منهما الفسخ بعد التحالف إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، وإن كان المستأجر في الدار: فإنه تحسب أجرة المثل، وإن أخرجه المؤجِّر قبل فراغ مدة الأجرة وفي أثنائها: فإنه يُحسب من أجرة المثل بحسبه، للقياس على البيع؛ لأن الأجرة بيع منافع وقد سبق بيانه.
(73)
مسألة: إذا اختلف البائع والمشتري في ثمن المبيع، أو قدره، أو وصفته، ثم تحالفا، فإن العقد ينفسخ في ظاهره، دون باطنه؛ إذ لو تبيَّن لأحدهما بعد الفسخ صدق الآخر: فإنه يلزمه السعي إلى الصادق منهما، والتحلُّل منه - حيث إنه مظلوم - والخروج من تلك المظلمة، وهو قول كثير من العلماء كابن قدامة في "المغني" وأيّده ابن عثيمين؛ للتلازم؛ حيث إن اتّضاح كذب أحدهما، وصدق الآخر: يلزم منه إن الصادق هو صاحب الحق، فيجب أن يُردَّ إليه حقه، وهو من باب رد المظالم إلى أهلها، فإن قلتَ: بل إن الفسخ يكون ظاهرًا فيتصرَّف البائع تصرُّف الملاك في المبيع، وكذلك ينفسخ باطنًا، فلو تبيَّن فيما بعد صدق أحدهما: لم يلزم الكاذب إعلام الصادق، ولا استحلاله، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أن المشتري إذا وجد في المبيع عيبًا، ثم فسخ المشتري بسبب هذا العيب: فإن العقد ينفسخ ظاهرًا وباطنًا ولو اطّلع المشتري أنه لا عيب فيما بعد، لا يلزمه إعلام صاحبه فكذلك هنا والجامع: الاطلاع على خلاف ما اعتقده. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن العيب قد يعتقده المشتري في وقت لا يعتقده في وقت آخر، ولا يعتقده البائع وقد لا يختلفان فيه، بخلاف الاختلاف في الثمن، أو المبيع، أو الصفة فهو واضح لهما، فإن قلتَ: ما سبب =
(وإن اختلفا في أجل): بأن يقول المشتري: "اشتريته بكذا مُؤجَّلًا" وأنكره البائع (أو) اختلفا في (شرط) صحيح، أو فاسد كرهن أو ضمين أو قدرهما:(فقول من ينفيه) بيمينه؛ لأن الأصل: عدمه
(74)
(وإن اختلفا في عين المبيع) كبعتني هذا العبد، قال: بل هذه الجارية: (تحالفا وبطل) أي: فسخ (البيع) كما لو اختلفا في الثمن، وعنه: القول قول بائع بيمينه؛ لأنه كالغارم وهي المذهب، وجزم بها في "الإقناع" و"المنتهى" وغيرهما، وكذا لو اختلفا في قدر المبيع
(75)
وإن سمَّيا نقدًا، واختلفا في
الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف هل خيار الاختلاف بين المتبايعين كخيار العيب عند الفسخ؟ ".
(74)
مسألة: إذا اختلف البائع والمشتري في أجل بأن قال المشتري: "اشتريت هذا الثوب بعشرة مُؤجَّلة إلى سنة" ونفى ذلك البائع قائلًا: "بعته عليك بعشرة عاجلة"، أو اختلفا في شرط بأن قال البائع:"بعت عليك هذه الدار بألف بشرط أن أسكنها سنة" ونفى ذلك المشتري قائلًا: "اشتريتها بدون ذلك الشرط" أو اختلفا في مقداره بأن قال البائع: "بعتك هذه الدار بشرط: سكناها سنة فنفى ذلك المشتري قائلًا: "بل بشرط سكناها شهرًا" أو اختلفا في رهن بأن قال البائع: "بعتكها مع شرط رهنك دارًا أخرى" فنفى المشتري ذلك قائلًا: "ما رهنتُ عندك شيئًا" ونحو ذلك، ولا تُوجد بيِّنة لأحدهما: فإنه يُقبل قول من ينفي ذلك المدَّعى مع يمينه، وهو هنا المشتري - إلّا الصورة الأولى فهو البائع -؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: النفي، وهو العدم، فيُستصحب هذا الأصل ويُعمل به، إذا لم توجد قرينة تغيّر الحال.
(75)
مسألة: إذا اختلف البائع والمشتري في عين السلعة المباعة كأن يقول البائع: "بعتك هذه الدار" فيقول المشتري: "بل بعتني هذا الحانوت": فإنه يحلف كل واحد منهما على ما زعمه فإذا لم يرضَ أحدهما بقول الآخر: فإنه يُفسخ البيع؛ للقياس، بيانه: كما أنهما إذا اختلفا في قدر الثمن هل هو عشرة أو ثمانية: فإنهما =
صفته: أخذ نقد البلد، ثم غالبه رواجًا، ثم الوسط إن استوت
(76)
(وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده) من المبيع والثمن (حتى يقبض العوض) بأن قال البائع: "لا أُسلِّم المبيع حتى أقبض الثمن" وقال المشتري: "لا أُسلِّم الثمن حتى أستلم المبيع"(والثمن عين) أي: معين: (نصب عدل) أي: نصبه الحاكم (يقبض منهما) المبيع والثمن
يتحالفان، فإن لم يرض أحدهما بقول الآخر: فإنه يُفسخ البيع فكذلك هنا والجامع: أن كلًّا منهما يدَّعي شيئًا ينكره الآخر، فإن قلتَ: إنه يُقبل قول البائع مع يمينه هنا، وهو رواية عن أحمد، وقاله بعض الحنابلة؛ للقياس، بيانه: كما أن الغارم للشيء، وهو الملزم نفسه ما التزمه بالعقد هو الذي يُقبل قوله عند المنازعات فكذلك هنا في هذه الحالة يُقبل قول البائع والجامع: أن كلًّا منهما قد التزم ما التزمه بالعقد، والبائع يكون أعلم بالسلعة المباعة عادة. قلتُ: هذا لا يُسلَّم؛ لكون المشتري مثل البائع في هذا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن قسنا الاختلاف في العين المباعة على الخلاف في قدر الثمن؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهم قاسوا البائع فقط على الغارم، لكونه أكثر شبهًا به عندهم وهذا هو قياس الشبهة. تنبيه: قوله: "وكذا لو اختلفا في قدر المبيع" يشير به إلى أن المتبايعين لو اختلفا في قدر المبيع كأن يقول البائع: "بعتك ثوبين" فيقول المشتري: "بل بعتني ثلاثة": فإنه يُقبل قول البائع مع يمينه. قلتُ: قد سبق أنه يُقبل قول المشتري هنا وذلك في مسألة (70).
(76)
مسألة: إذا باع زيد على بكر ثوبًا بعشرة دنانير واختلف في صفة تلك الدنانير: فإن بكرًا يعطيه من الدنانير التي يتعامل بها البلد، وإن كان أهل البلد يتعاملون بدنانير مختلفة في الصفة والثمن كدنانير أردنية ودنانير عراقية مثلًا: فإن بكرًا يُعطي زيدًا عشرة دنانير مما يتعامل به أغلب أهل البلد، فإن كانوا يتعاملون بهما على السواء: فإن بكرًا يُعطي زيدًا خمسة من الدنانير الأردنية، وخمسة من الدنانير العراقية؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تحقيق العدالة المطلوبة في ذلك.
(ويسلِّم المبيع) للمشتري (ثم الثمن) للبائع؛ لجريان عادة الناس بذلك (وإن كان) الثمن (دينًا حالًّا: أُجبر بائع) على تسليم المبيع؛ لتعلُّق حق المشتري بعينه (ثم) أُجبر (مشتر إن كان الثمن في المجلس)؛ لوجوب دفعه عليه فورًا؛ لتمكُّنه منه (وإن كان) دينًا (غائبًا في البلد) أو فيما دون مسافة القصر: (حُجر عليه) أي: على المشتري (في المبيع وبقية ماله حتى يُحضره)؛ خوفًا من أن يتصرَّف في ماله تصرُّفًا يضرّ بالبائع (وإن كان) المال (غائبًا بعيدًا) مسافة القصر، أو غيبه بمسافة القصر (عنها) أي: عن البلد (والمشتري معسر) يعني: أو ظهر: أن المشتري معسر (فلبائع الفسخ)؛ لتعذُّر الثمن عليه كما لو كان المشتري مُفلسًا، وكذا: مُؤجِّر بنقد حال
(77)
(ويثبت الخيار للخلف
(77)
مسألة: إذا اختلف البائع والمشتري في تسليم السلعة، والثمن أيهما يُبدأ به أولًا؟ فقال البائع:"لا أُسلِّم السلعة لك حتى أقبض الثمن منك" وقال المشتري: "وأنا لا أسلِّمك الثمن حتى أقبض السلعة: فلذلك حالات أربع الحالة الأولى: إن كان الثمن عينًا من نقد أو عرض: فإن القاضي يجعل رجلًا عدلًا يقبض السلعة والثمن منهما، ثم يُعطي السلعة للمشتري، ويعطي الثمن للبائع؛ للعرف والعادة؛ حيث اعتاد الناس على ذلك، الحالة الثانية: إن كان الثمن غير مُعيَّن في المجلس، وهو دين حالٌّ كأن يقول المشتري: "بعني هذا الثوب بعشرة" فقال البائع: "بعتكه بعشرة" فهنا الثمن غير معيَّن، فيكون دينًا، فهنا يُجبر البائع على تسليم الثوب للمشتري، ثم يُجبر المشتري على تسليم العشرة للبائع؛ للتلازم؛ حيث إن البائع يُجبر أولًا على تسليم المبيع للمشتري؛ نظرًا لتعلّق حقه بعينه، فيكون أولًا، ويُجبر مشتر على دفع الثمن ثانيًا، لكونه لا ثمن إلا لمثمن، فلا يُدفع ثمن قبل أن يُوجد مثمن. الحالة الثالثة: إن كان الثمن دينًا غائبًا دون مسافة قصر - أقل من (82 كم) - بأن قال المشتري "اشتريت منك هذا الثوب بعشرة وهذه العشرة موجودة في منزلي، وهو يبعد من هنا بمسافة دون مسافة قصر" فقال البائع:"بعتكه بذلك" ويأخذه البائع ولكن يُمنع المشتري أن يتصرَّف بذلك =
في الصفة) إذا باعه شيئًا موصوفًا (ولتغير ما تقدَّمت رؤيته) العقد، وبذلك تمَّت أقسام الخيار ثمانية
(78)
، فصل: في التصرُّف في المبيع قبل قبضه، وما يحصل به قبضه (ومن اشترى مكيلًا ونحوه) وهو الموزون، والمعدود، والمذروع:(صح) البيع (ولزم
الثوب، وفي بقية أملاكه حتى يُحضر العشرة؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية للبائع من أن يُتصرَّف بالثوب تصرُّفًا يضرُّ به وبحقوقه، الحالة الرابعة: إن كان الثمن دينًا غائبًا في موضع بينه وبين موضع التبايع مسافة قصر فأكثر - وهي (82 كم) - كأن يقول المشتري: "إن ثمن هذا الثوب الذي اشتريته منك في مكان بعيد مسافة قصر أو أكثر": فللبائع الفسخ، وأخذ سلعته، وهو الثوب؛ للمصلحة: حيث إنه يُحتمل أن يُؤخِّر المشتري الثمن فيتضرَّر بذلك البائع، فدفعًا لذلك: جُعل له الفسخ كمعاملة المفلس، وكذلك يكون الحكم إذا اتّضح أن المشتري معسر لا يستطيع دفع الثمن. (فرع) إذا اختلف مُؤجِّر مع مستأجر في تسليم السلعة المستأجرة، والأجرة أيهما الذي يُقدم أولًا: ففي ذلك تلك الأحوال الأربعة السابقة (فرع ثان): في الحالة الرابعة: البائع له الخيار إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضى البيع، وصبر على إعسار المشتري كمعاملة المفلس.
(78)
مسألة: في الثامن - من أقسام الخيار - وهو: خيار الاختلاف في الصفة، أو تغيُّر ما تقدَّمت رؤيته، وصورة الأول: أن يقول المشتري للبائع: "أنت وصفت الدار التي بعتنيها بكذا وكذا" فيقول البائع: "أنا ما وصفتها بما تقول، بل وصفتها بكذا وكذا": وصورة الثاني: أن يقول المشتري للبائع: "هذه ليست الدار التي رأيتها، بل تغيَّرت"، وكان هذا قبل العقد: ففي هاتين الصورتين يثبت الخيار: فإن قبل أحدهما قول الآخر: أمضيا البيع، وإن لم يقبل أحدهما قول الآخر: فلكل واحد الفسخ؛ للمصلحة: حيث إن كل واحد منكر لقول الآخر ولا بيّنة، فيفسخ كل واحد منهما البيع؛ حماية له من ظلم الآخر. تنبيه: قد سبق بيان هاتين الصورتين في أول كتاب البيع.
بالعقد)؛ حيث لا خيار (ولم يصح تصرُّفه فيه) ببيع، أو هبة، أو إجارة، أو رهن، أو حوالة (حتى يقبضه)؛ لقوله عليه السلام:"من ابتاع طعامًا: فلا يبعه حتى يستوفيه" متّفق عليه، ويصحّ عتقه، وجعله مهرًا، وعِوَض خلع، ووصية به، وإن اشترى المكيل ونحوه جزافًا: صحّ التصرُّف فيه قبل قبضه؛ لقول ابن عمر رضي الله عنه: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا: فهو من مال المشتري"
(79)
(وإن
(79)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر شيئًا مكيلًا أو موزونًا كالبر والتمر، أو معدودًا كالبطيخ، أو مذروعًا كالأقمشة: فإن هذا صحيح، ويلزم بمجرّد العقد، بلا خيار، ولكن لا يجوز للمشتري - وهو زيد هنا - أن يتصرَّف بما اشتراه تصرُّفًا فيه عوض قبل قبضه كبيعه، أو رهنه، أو إجارته، أو هبته: سواء كان البيع لهذه الأمور جاء جزافًا، أو بغير ذلك، أما إن تصرّف فيه قبل قبضه تصرّفًا لا يُقصد منه العوض كأن يعتق المشتري العبيد الذين اشتراهم قبل عدِّهم، أو أن يجعل الطعام الذي اشتراه مهرًا، أو عوضًا عن خُلع، أو أوصى به: فإنه يجوز ولو لم يقبضه؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من ابتاع طعامًا: فلا يبعه حتى يستوفيه" والنهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، ومفهوم الغاية دلَّ على أنه إذا استوفاه وقبضه: فيُباح له أن يتصرَّف به ومفهوم الموافقة دل على أن أيَّ شيء فيه عِوَض كالإجارة، والرهن، والهبة بعوض، ونحوها، لا يجوز التصرُّف فيه كالبيع، لأن المقصود هو: أن المشتري قد لا يستطيع تسليم السلعة التي اشتراها لمن اشتراها منه قبل قبضها من بكر؛ لكون بكر قد يطمع فيمنع عين السلعة وهو عام لبيع الطعام أي: سواء كان جزافًا أو جملة وغير ذلك؛ لأن "مَنْ" من صيغ العموم ويدل مفهوم الصفة على: أن غير البيع مما لا عِوَض فيه يجوز أن يتصرَّف فيه قبل قبضه كأن يُعتقه، أو يجعله مهرًا ونحو ذلك، فإن قلتَ: لِمَ جاز للمشتري أن يتصرَّف بالمبيع قبل قبضه إن كان في عتق أو مهر، أو عوض خلع، أو وصية؟ قلتُ: لقوة سراية العتق، ولاغتفار الغرر اليسير في المهور وعوض الخلع، =
تلف) المبيع بكيل ونحوه أو بعضه (قبل) قبضه (فمن ضمان البائع)، وكذا: لو تعيَّب قبل قبضه (وإن تلف) المبيع المذكور (بآفة سماوية) لا صنع لآدمي فيها: (بطل) أي: انفسخ (البيع) وإن بقي البعض: خُيِّر المشتري في أخذه بقسطه من الثمن (وإن أتلفه) أي: المبيع بكيل أو نحوه (آدمي) سواء كان هو البائع، أو أجنبيًا:(خُيِّر مشتر بين فسخ) البيع، ويُرجع على بائع بما أخذ من ثمنه (و) بين (إمضاء ومطالبة مُتلفة ببدله) أي: بمثله إن كان مثليًا، أو قيمته إن كان متقوِّمًا
(80)
، وإن تلف بفعل مشتر: فلا
ولأن الوصية ملحقة بالإرث، وتصحّ بالمعدوم، فإن قلتَ: إن ما بيع جُزافًا وجملة من مكيل ونحوه يجوز أن يتصرَّف المشتري فيه قبل قبضه، وهو قول المصنف هنا - للسنة القولية: حيث قال ابن عمر: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعًا فهو من مال المشتري" وإذا قال الصحابي: "من السنة" فإن المقصود: سنة النبي عليه السلام، وهو دالّ على جواز التصرُّف فيما بيع جملة وجزافًا قبل قبضه. قلتُ: هذا معارض للسنة التي ذكرناها؛ لعمومه، ومعارض لنهي النبي عليه السلام عن البيع جُزافًا في أعلى السوق إلى أن ينقلوه، فيقدَّمان على حديثهم؛ لقوتهما فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين".
(80)
مسألة: إذا تلف المبيع - من مكيل ونحوه - أو تلف بعضه، أو تعيَّب قبل أن يقبضه المشتري: فإنه يضمنه بائعه، ويفسخ البيع، فيُعطي البائع الثمن للمشتري، أو يُعطيه بدله إن كان له بديل ومثيل، أو يُعطيه قيمته إن كان مُتقوِّمًا، وإن تلف كله، بآفة سماوية كأمطار، واحتراق: انفسخ البيع، ورُدَّ للمشتري ثمنه الذي دفعه فيه، أما إن تلف بعضه، وبقي البعض الآخر: خُيِّر المشتري بين أن يفسخ البيع، ويأخذ الثمن، أو يُمضي البيع ويدفع البائع له ما يُقابل ما تلف من المبيع، وكذلك الحكم: إن أتلفه آدمي؛ للتلازم؛ حيث إن السلعة المباعة يضمنها البائع حتى يقبضها المشتري فيلزم من تلفها قبل قبضها: أن يكون ضمانها على البائع، ويثبت الخيار للمشتري دفعًا للضرر عنه. (فرع) إن أتلفه آدمي: فإن على البائع =
خيار له؛ لأن إتلافه كقبضه
(81)
(وما عداه) أي: عدا ما اشتري بكيل أو وزن، أو عدٍّ، أو ذرع كالعبد والدار (يجوز تصرُّف المشتري فيه قبل قبضه)؛ لقول ابن عمر: كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم، فنأخذ عنها الدنانير وبالعكس، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لا بأس أن تُؤخذ بسعر يومها ما لم يتفرَّقا وبينهما شيء" رواه الخمسة، إلا المبيع بصفة، أو رؤية مُتقدِّمة: فلا يصح التصرُّف فيه قبل قبضه
(82)
(وإن تلف ما عدا
مطالبة ذلك المتلف له، وليس ذلك على المشتري؛ لملكية البائع له.
(81)
مسألة: إذا أتلف المشتري السلعة التي اشتراها قبل قبضها من البائع: فإنه يلزم البيع ولا خيار للمشتري، بل عليه أن يدفع ثمنه للبائع إن لم يكن قد دفعه: سواء كان هذا الإتلاف وقع عمدًا أو خطأ؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المشتري لو قبض المبيع ثم أتلفه: فإنه يلزمه ثمنه، فكذلك لو أتلفه قبل قبضه يلزمه ذلك والجامع: حرمان البائع منه بفعل المشتري.
(82)
مسألة: إذا اشترى زيد عقارًا، أو عبيدًا، أو ثيابًا ونحو ذلك من بكر - غير مكيل أو موزون أو معدود، أو مذروع -: فلا يجوز للمشتري أن يتصرَّف بها ببيع أو إجارة أو نحو ذلك على محمد قبل قبضها، وهو قول الجمهور؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما لا يجوز فعل ذلك في المكيل والموزون، والمعدود، والمذروع، كما سبق في مسألة (79)، فكذلك لا يجوز ذلك في غيرها من المبيعات والجامع: دفع الضَّرر عن المشتري - وهو هنا زيد - فقد لا يمكنِّه بكر من تسليم العين المباعة لمحمد، فيقع الضرر. الثانية: قول الصحابي: حيث إنه لما روي قوله عليه السلام: "من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه" قال ابن عباس: "ولا أحسب غير ذلك إلا مثله"، فإن قلتَ: يجوز للمشتري للعقارات، والحيوانات ونحوها - غير المكيلات والموزونات والمعدودات والمذروعات - أن يتصرف بها قبل قبضها ببيع ونحوه، وهو قول المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث إن ابن عمر قال: كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير =
المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه) أي ضمان المشتري؛ لقوله عليه السلام: "الخراج بالضَّمان" وهذا المبيع للمشتري: فضمانه عليه، وهذا (ما لم يمنعه بائع من قبضه)، فإن منعه حتى تلف: ضمنه ضمان غصب
(83)
، والثمر على الشجر، والمبيع بصفة، أو رؤية سابقة من ضمان بائع
(84)
، ومن تعيَّن مُلكه في موروث أو وصية، أو غنيمة:
وبالعكس، فسألنا النبي عليه السلام فقال: لا بأس أن تؤخذ بسعر يومها، ما لم يتفرقا وبينهما شيء" قلتُ: هذا لا يدل على جواز تصرُّف المشتري بالمبيع قبل قبضه، بل يدل على جواز صرف الفضة بالذهب وصرف الذهب بالفضة، وهذا جائز بالشرطين المذكورين في الحديث وهما: أن يكون ذلك بالتقابض بالمجلس، والتراضي، وعدم الزيادة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يصلح حديث ابن عمر للاستدلال به على جواز بيع المشتري للسلعة التي اشتراها قبل قبضها أو لا؟ " فعندنا: "لا، وعندهم: نعم، تنبيه: قوله: "إلا المبيع بصفة" إلى قوله: "قبل قبضه" هذا يقال فيه كما قلنا في مسألتي (79 و 82).
(83)
مسألة: إذا تلف المبيع - غير المكيل والموزون، والمعدود، والمذروع - كالعقارات والثياب ونحوهما: يكون من ضمان المشتري بشرط تمكّنه من قبضه: سواء قبضه فعلًا أو لا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الخراج بالضمان" فخراج المبيع وغلَّته وفائدته لمن هو في ضمانه، وإذا تمكّن المشتري من قبض المبيع فإنه له وضمانه عليه فيسبب ذلك: أن يكون الخراج له، ولم يكن له ردٌّ على البائع، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: لأنه إذا لم يُمكّن البائع المشتري من قبض المبيع، وتلف: فإن البائع هو الذي يضمنه ضمان، غصب، لكونه غصبه حقَّه بلا عذر، فيجب أن يُسلِّم هذا البائع المبيع ونماءه المتصل والمنفصل للمشتري، ولا يكون ضمان عقد: بأن يضمن أحدهما دون الآخر.
(84)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر شيئًا، وتلف هذا المبيع: فإن المشتري لا يضمنه، ويكون الضمان على البائع في أحوال ستة: أولها: إذا اشترى مكيلًا، أو موزونًا، =
فله التصرُّف فيه قبل قبضه
(85)
(ويحصل قبض ما بيع بكيل) بالكيل (أو) بيع بـ (وزن) بالوزن (أو) بيع بـ (عَدِّ) بالعدِّ (أو) بيع بـ (ذرع بذلك) الذرع؛ لحديث عثمان يرفعه: "إذا بعتَ فكِلْ، وإذا ابتعتَ فاكتل" رواه الإمام، وشرطه: حضور مستحق، أو نائبه
(86)
، .................................
أو معدودًا، أو مذروعًا، ثانيها: إذا اشترى شيئًا موصوفًا له مثلًا، ثالثها: إذا اشترى شيئًا قد رآه قبل العقد بمدة، رابعها: إذا اشترى شيئًا قد منعه البائع من قبضه، خامسها: إذا اشترى ثمرًا على شجرة قبل جَذِّه إلى أن يجذَّه المشتري، سادسها: إذا اشترى حبًّا في زرعه؛ للتلازم؛ حيث إن المبيع مُتعلِّق في هذه الأحوال بالتوفية والتسليم بناء على السلامة: فيلزم من تلفها: أن يضمنها بائع؛ لكون المشتري لم يقبضه قبضًا صحيحًا، وأدخله في حرزه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حماية لحق المشتري.
(85)
مسألة: إذا ثبت لزيد أنه قد ورث دارًا، أو أوصى له بكر بدار، أو غنمها - مثلًا -: فإن له أن يتصرَّف بها ببيع، أو هدية، أو إجارة أو نحو ذلك من التصرّفات ولو لم يقبض تلك الدار؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم العقد عليها عقد معاوضة؛ لأنه ملكها بإرث، أو وصية، أو غنيمة -: أن ملكه لها ملك تام، فلا يحتمل الغرر، أو الفسخ.
(86)
مسألة: يحصل قبض ما بيع بكيل، أو وزن، أو عدٍّ، أو ذرع بنفس الكيل، وبنفس الوزن، وبنفس العد، وبنفس الذرع؛ بشرط: حضور مستحق المبيع، وهو المشتري والبائع، أو نائبه؛ للسنة القولية؛ حيث قال عليه السلام:"إذا بعتَ فكِلْ، وإذا ابتعت فاكتل" حيث يلزم من ذلك حضور المشتري، والبائع، أو وكيلهما، ودلّ بمفهوم الموافقة على أن الوزن والعدّ والذرع مثل الكيل، لعدم الفارق. فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لأن إبعاده عن جنسه من المكيلات والموزونات والمعدودات والمذروعات: يُعتبر نقلًا.
ويصح استنابة من عليه الحق للمستحق
(87)
، ومؤنة كيَّال، ووزَّان، وعدَّاد ونحوه على باذل
(88)
، ولا يضمن ناقد حاذق أمين خطأ
(89)
(و) يحصل القبض (في صبرة وما يُنقل) كثياب وحيوان (بنقله
(90)
و) يحصل القبض في (ما يُتناول) كالجواهر والأثمان
(87)
مسألة: يصحّ أن يقوم المشتري بتوكيل البائع، ويصح العكس في الكيل والوزن والعدِّ والذرع كأن يقول المشتري:"قم بالكيل لي" أو يقول البائع: "اكتل لي من هذا"؛ للقياس، بيانه: كما يجوز لكل واحد منهما أن يُوكِّل عنه شخصًا بعيدًا، فكذلك يجوز أن يُوكِّل كل واحد الآخر والجامع: أن كلًّا منهما قد استوثق من الآخر، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للتوسعة على المسلمين.
(88)
مسألة: أجرة الكيَّال، والوزَّان، والعدَّاد، والقائم بالذرع، وتصفية الثمر، والحب ونحو ذلك على بائع؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعلُّق حق التوفية على البائع: أن تكون الأجرة عليه؛ لأن الوفاء للمشتري، وتسليمه ما اشتراه لا تحصل إلّا بذلك.
(89)
مسألة: إذا قام شخص بالكيل أو الوزن أو العد، أو الذرع وأخطأ بأن أتلف بعض المكيل، أو الموزون، أو المعدود، أو المذروع: فلا يضمن ما أتلفه بشرط: أن يكون حاذقًا بالكيل، أو الوزن ونحوهما، وأمينًا عدلًا، أما إن لم يكن حاذقًا في مهنته، أو كان كذلك، ولكنه ليس بأمين وعدل: فإنه يضمن ما أتلفه: سواء كان ذلك الشخص قد فعل ذلك بأجرة أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المودَع لا يضمن الوديعة إذا تلفت تحت يده إذا وضعها في حرزها، وهو أمين عدل، ويضمنها إذا لم يكن كذلك، فكذلك هذا الكيال، والوزَّان، والعداد، والذارع مثله، والجامع: أن كلًّا منهما قد اؤتمن على عمل. فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية أموال الناس من أن تؤخذ بالباطل.
(90)
مسألة: يحصل قبض ما بيع مما يُنقل كالصبرة من الطعام - وهي: المجموعة من الطعام تشترى كلها جميعًا صفقة واحدة -، والثياب، والحيوان، والعبيد، =
(بتناوله)؛ إذ العرف فيه ذلك
(91)
(وغيره) أي: غير ما ذكر كالعقار، والثمرة على الشجرة قبضه (بتخليته) بلا حائل: بأن يفتح له باب الدار، أو يُسلِّمه مفتاحها ونحوه وإن كان فيها متاع للبائع، قاله الزركشي
(92)
، ويُعتبر بجواز قبض مشاع ينقل إذن شريكه
(93)
(والإقالة) مستحبة؛ لما روى ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أقال
والأثاث ونحو ذلك بنقله من مكانه إلى مكان آخر، وإن كان قريبًا؛ للسنة القولية: حيث ورد: "كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق فنهاهم النبي عليه السلام أن يبيعوه حتى ينقلوه"، فثبت أنه يحصل قبض ما بيع بالنقل وغير الطعام مثل الطعام؛ لعدم الفارق، لقبولها للنقل، بل غير الطعام أولى بالنقل من الطعام، فيكون من باب "مفهوم الموافقة الأولى"، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حماية أموال كل واحد من اختلاطها بغيرها، نبذًا للتنازع (فرع) أجرة النقل لذلك على قابض وهو المشتري، لمصلحته؛ وهي إبعاد ماله عن غيره.
(91)
مسألة: يحصل قبض المبيع الذي يمكن تناوله باليد كالجواهر، والأثمان: بنفس قبضه باليد؛ للعرف والعادة؛ حيث تعارف الناس على ذلك بدون نكير.
(92)
مسألة: يحصل قبض غير ما سبق - في مسائل (86 و 90 و 91) - كالعقارات: من دور ودكاكين، وسيارات، وثمار ونحو ذلك: بأن يتخلَّى البائع عنه، ويُسلِّمه للمشتري ولا يحول بينهما كأن يفتح له باب الدار، أو يُسلِّمه مفتاحها: سواء وُجد فيها متاع للبائع أو لا، أو يُعطيه مفتاح السيارة؛ للعرف والعادة؛ حيث تعارف الناس على ذلك.
(93)
مسألة: إذا اشترى زيد سهمًا لبكر في شراكته مع محمد شراكة مشاعة وهو يُنقل فإنه يحصل قبضه: عندما يأذن شريكه محمد؛ للتلازم؛ حيث إن قبضه نقله، ولا يُنقل إلّا إذا نقل حصة شريكه: فيلزم إذن شريكه في هذا، ويُسلِّم البائع - وهو بكر - كل الشركة، فيُسلِّم المشتري وهو زيد نصيبه الذي اشتراه منه، ويُسلِّم =
مسلمًا: أقال الله عثرته يوم القيامة"
(94)
وهي (فسخ)؛ لأنها عبارة عن الرفع والإزالة يُقال: "أقال الله عثرتك" أي: أزالها، فكانت فسخًا للبيع، لا بيعًا
(95)
، فـ (تجوز قبل قبض المبيع) ولو نحو مكيل
(96)
، ولا تجوز إلّا (بمثل الثمن) الأول قدرًا ونوعًا؛ لأن العقد إذا ارتفع: رجع كل منهما بما كان له
(97)
، وتجوز بعد نداء
شريكه الأول - وهو محمد - السهم الآخر، أما إن كان ما فيه الشركة، مشاعًا لا يُنقل: فيحصل قبض زيد: بتخلية بكر عن نصيبه فقط، ولا يُعتبر إذن الشريك الآخر - وهو محمد - للتلازم؛ حيث إن التخلية هو طريق القبض هنا فيلزم.
(94)
مسألة: الإقالة - وهي أن يُقيل أحد المتبايعين، ولا يلزمه بالعقد، فيردُّ البائع الثمن إلى المشتري، أو يردُّ المشتري إلى البائع سلعته - مستحبة؛ للسنة القولية؛ حيث قال عليه السلام:"من أقال مسلمًا ببيعة: أقال الله عثرته يوم القيامة": أي: غفر الله زلَّته وخطيئته، ويلزم من الاشتراط هنا: حكم الاستحباب، فإن قلتَ: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه قد يحصل ندم منهما، أو من أحدهما على البيع أو الشراء، فيُحسُّ بوقوع الضرر عليه، فدفعًا لذلك: استُحبت الاستقالة.
(95)
مسألة: الإقالة فسخ لعقد البيع، أي: رفع له من حين الفسخ، لا من أصله، فيكون ما حصل من نماء وكسب متّصل أو منفصل قبل الإقالة فهو للمشتري؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لفظ "الإقالة": الرفع والإزالة، وهذا معنى الفسخ، فتكون الإقالة فسخ.
(96)
مسألة: تجوز الإقالة مُطلقًا: أي سواء كان قبل القبض أو بعده، وسواء كان المبيع مكيلًا أو موزونًا، أو معدودًا، أو مذروعًا، أو غير ذلك من أنواع السلع؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أقال مسلمًا ببيعة: أقال الله عثرته" وهذا عام لما ذكرناه؛ لأن "مَنْ" الشرطية من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الإقالة فسخ والفسخ لا يُعتبر فيه القبض ولا نوع المبيع.
(97)
مسألة: إذا وقعت الإقالة: فيجب أن يردَّ البائع الثمن بجنسه، وقدره ونوعه إلى =
الجمعة
(98)
، ولا يلزم إعادة كيل أو وزن
(99)
، وتصح من مضارب، وشريك
(100)
، وبلفظ صلح وبيع، ومعاطاة
(101)
، ولا يحنث بها من حلف:"لا يبيع"
(102)
(ولا
المشتري، ويجب أن يردَّ المشتري السلعة بجنسها وقدرها، ونوعها. دون زيادة كل واحد منهما بحق الآخر في ذلك، ولا نقصانه؛ للتلازم؛ حيث إن الإقالة فسخ، وهو ارتفاع العقد، ويلزم من ذلك: رجوع كل واحد منهما بما كان له قبل العقد، فيحرم أن يأخذ كلُّ واحد أكثر من حقه.
(98)
مسألة: تجوز الإقالة بعد النداء الثاني لصلاة الجمعة؛ للتلازم؛ حيث إن كون الإقالة ليست بيعًا يلزم منه: جوازها بعد النداء الثاني للجمعة؛ لكون النهي قد ورد على ما فيه معاوضة في بيع ونحوه؛ لقوله تعالى: {وذورا البيع} فإن قلت: لِمَ فرِّق بين الإقالة والبيع هنا؟ قلتُ: لأن البيع مشغل لقلب المؤمن عن الصلاة، والإصغاء لما يُقال في الخطبة؛ حيث سيُفكر المشتري بالسلعة التي اشتراها، وسيفكر البائع بالثمن الذي قبضه وهذا قد اعتاد الناس عليه وعلى كل شيء جديد، أما الإقالة: فستُريح قلب المؤمن؛ إذ فيه تخلُّص مما قد يُشغل قلبه.
(99)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر مبيعاً مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، أو مذروعاً، وأقال أحدهما الآخر وردَّ كل واحد لصاحبه ما أخذه منه: فلا يلزم إعادة كيل المكيل، ولا وزن الموزون، ولا عدَّ المعدود، ولا ذرع المذروع؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الإقالة رفعاً للعقد وإزالة له: عدم الاحتياج لإعادة ذلك.
(100)
مسألة: تصح الإقالة من شريك مضارب ونحوه، سواء أذن شريكه أولا؛ للسنة القولية: وهو حديث: "من أقال مسلمًا ببيعة
…
" حيث إنه عام لما ذكر.
(101)
مسألة: تصح الإقالة بأيِّ لفظ دلَّ على معنى: الإزالة والفسخ: كلفظ "صلح" أو بيع، أو معاطاة؛ للقياس، بيانه: كما أن البيع يصح في كل لفظ فيه معنى البيع، فكذلك الإقالة، والجامع: حصول المقصود من الكل.
(102)
مسألة: من حلف قائلاً: "والله لا أبيعنَّ" فإنه لا يحنث إذا أقال أحدًا في =
خيار فيها) أي: لا يثبت في الإقالة خيار مجلس، ولا خيار شرط ونحوه (ولا شفعة) فيها؛ لأنها ليست بيعًا
(103)
، ولا تصح مع تلف مثمن، أو موت عاقد، ولا بزيادة على ثمن، أو نقصه، أو غير جنسه
(104)
، ومؤنة ردِّ مبيع تقايلاه على بائع
(105)
.
بيعة، أو أُقيل هو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونها ليست بيعًا: عدم الحنث بها إذا حلف بالبيع.
(103)
مسألة: لا يثبت في الإقالة أيُّ نوع من أنواع الخيار الثمانية، ولا شفعة فيها؛ للتلازم؛ حيث إن المقتضي للخيار، والشفعة هو البيع، فيلزم عدم ثبوتهما في الإقالة؛ لأنها فسخ، وليست بيعًا.
(104)
مسألة: لا تصح الإقالة في حالات خمس: أولها: إذا تلفت السلعة المباعة أما إذا تلف الثمن فتصح، ثانيها: إذا مات أحد المتعاقدين، أو غاب، ثالثها: إذا زاد أحد المتبايعين على الثمن، رابعها: إذا نقَّص أحدهما من الثمن، خامسها: إذا ردَّ غير جنس السلعة أو ثمنها؛ للتلازم؛ حيث إن فوات محل الفسخ، وعدم إمكان الإقالة من غير العاقد نفسه، ووجوب ردِّ الأمر على ما كان عليه قبل العقد في الإقالة من قدر الثمن والمثمن وجنسهما يلزم منه: عدم صحتها في تلك الأحوال.
(105)
مسألة: إذا قبل البائع إقالة المشتري: فأجرة نقل ومؤنة المبيع على ذلك البائع؛ للتلازم؛ حيث يلزم من رضاه ببقاء المبيع أمانة بيد المشتري: أن مؤونتها عليه بعد التقايل كالوديعة
هذه آخر مسائل باب "الخيار، وقبض المبيع، والإقالة" ويليه باب "الربا والصرف".
باب الرِّبا والصَّرف
"الربا" مقصور، وهو: لغة: الزيادة؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي: علت، وشرعًا: زيادة في شيء مخصوص، والإجماع على تحريمه؛ لقوله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا}
(1)
و "الصَّرف": بيع نقد بنقد، قيل: سُمِّي به لصريفهما،
باب الرِّبا والصَّرف
وفيه ثلاث وأربعون مسألة:
(1)
مسألة: "الربا" لغة: الزيادة من قولهم: "ربى الشيء يربو" أي: زاد وعلا وهو في الاصطلاح: الزيادة في أشياء مخصوصة يُحرَّم بينها التفاضل في البيع، فإن قلت: لِمَ قُيِّد التعريف بـ "الأشياء المخصوصة"؟ قلتُ: لأن الربا والزيادة يحرم في أشياء مخصوصة وهي: الأموال الربوية وهي: ستة: "بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح" ويُقاس عليها كل شيء موزون مثل الذهب، والفضة، وكل شيء مكيل مثل البر، والتمر، والشعير والملح كالأرز والذرة، وكل ما يُعطي الطعام شهية كالتوابل وهي مكيلة، فكل تلك الأمور لا يجوز الترابي فيها إجماعًا: سواء كان ربا فضل - وهو الزيادة الحالية: كبيع صاع بُرٍّ جيد بصاعين بُرٍّ رديء - أو كان ربا نسيئة - وهو التأجيل بزيادة، كأن يبيعه سيارة بعشرة آلاف إلى سنة، فإذا انتهت السنة قال البائع للمشتري:"أُمهلك إلى سنة أخرى ويكون السعر عشرين ألفًا"، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وهو عام لربا الفضل، ولربا النسيئة؛ لأن لفظ "الرِّبا" اسم جنس معرَّف بأل، وهو من صيغ العموم، الثانية: السنة القولية وهي من وجوه: أولها: قوله عليه السلام: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير والملح بالملح مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" فاشترط في بيع المثل =
وهو: تصويتهما في الميزان، وقيل: لانصرافهما عن مقتضى البياعات: من عدم جواز التفرّق قبل القبض ونحوه، والربا: نوعان: ربا فضل، وربا نسيئة
(2)
و (يُحرَّم ربا الفضل في) كل (مكيل) بيع بجنسه مطعوماً كان كالبر، أو غيره كالأشنان (و) في كل (موزون بيع بجنسه) مطعوماً كان كالسكَّر، أو لا كالكتَّان؛ لحديث عبادة بن الصامت
بالمثل: أن يكون كل واحد من المباع مثل الآخر بدون زيادة أو نقصان، وأن يكون يدًا بيد، أما إن لم يكن كذلك: فهذا هو بيع الربا المحرم. ثانيها: قوله: "اجتنبوا السبع الموبقات" ثم قال: "وأكل الربا" ثالثها: قوله: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه" والإهلاك بسبب الربا واللعن عقاب، ولا يُعاقب الشارع إلّا على فعل محرم، فيكون الربا حرامًا. الثالثة: المصلحة؛ حيث إن ربا الفضل قصد الشارع تحريمه كما ورد في الحديث؛ لما فيه من الزيادة على الفقير، أو المحتاج، فيستمر في مُعاناة فقره، وحُرِّم ربا النسيئة؛ لكونه يؤدِّي إلى ربا الفضل، ووسيلة إلى الوقوع فيه، وكل ذلك من أجل حماية المجتمع من ظلم بعض الناس لبعض، وأكل أموال بعضهم بالباطل، فيُفضي إلى التباغض والتناحر، والتنازع.
(2)
مسألة: "الصَّرف" لغة: النقل والرَّد، ومنه قولهم:"صرفتُ الدابة" أي: رددتها، و "صرفتُ كلامي" أي: نقلته من معنى إلى معنى، وهو في الاصطلاح: بيع نقد بنقد: سواء اتَّحد الجنس كصرف دنانير عراقية بدنانير أردنية أو اختلف كصرف دنانير بدراهم، وهو جائز بشرطه كما سيأتي في مسألة (34) فإن قلت: لِم سُمِّي بذلك؟ قلتُ: نظرًا لانصراف حكمها عن مُقتضى البياعات في بعض الصور، وقيل: لظهور صوت الدراهم والدنانير في الميزان، والصوت يُسمَّى عند العرب: صريفاً، والأول أولى؛ لعلاقته بما نحن فيه، تنبيه: قوله: "والربا نوعان .. إلخ" قد سبق بيانه في مسألة (1)، فإن قلت: لِمَ جاز الصرف في الشريعة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن بعض النقود أفضل من بعض من حيث القيمة والانتشار، فلذلك جاز؛ للتوسعة على الناس في ذلك.
مرفوعًا: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلًا بمثل، يدًا بيد" رواه أحمد ومسلم، ولا ربا في ماء، ولا فيما لا يوزن عرفًا لصناعته كفلوس غير ذهب وفضة، ولا في مطعوم لا يُكال، ولا يُوزن كبيض وجوز (ويجب فيه) أي: يُشترط في بيع مكيل أو موزون بجنسه مع التماثل (الحلول والقبض) من الجانبين بالمجلس؛ لقوله عليه السلام فيما سبق: "يدًا بيد"
(3)
(3)
مسألة: يحرم ربا الفضل في كل شيء مكيل - من التمر، والبر، والشعير والملح - بيع بجنسه: سواء كان مطعوماً مثل ما سبق وما يُقاس عليها كالأرز والعدس، أو كان غير مطعوم كحب القطن، والأشنان، وفي كل شيء موزون بيع بجنسه كالذهب والفضة، أو ما قيس عليهما كالسكَّر، والكتان، فلا يباع ما سبق إلّا بشرطين: أولهما: التساوي والتماثل، وهذا لا يُعرف إلا بمعيار شرعي وهو: الكيل والوزن؛ للسنة القولية: وهو قوله: "مثلًا بمثل سواء بسوا" وقد سبق هذا الحديث في مسألة (1). فاشترط التماثل والتساوي، ثانيهما: أن يقبض المشتري المبيع، ويقبض البائع الثمن في الحال قبل التفرق؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "يدًا بيد" في الحديث السابق؛ حيث اشترط الحلول، والتقابض، فيحرم - على هذا - بيع بر ببر إلّا بهذين الشرطين، فإن باع صاعًا من البر الجيد بصاعين من بر رديء: فلا يجوز؛ للزيادة، لكن لو باع صاعًا من بر بعشرة أصواعٍ من شعير أو تمر، أو ملح: لجاز ذلك؛ لكونه ليس من جنسه، ولو باع صاعًا من بر حالاً، بصاع من بر إلى سنة: فيحرم؛ لعدم التقابض في الحال، والحاصل: أنه لا ربا فيما لا يُكال، ولا يُوزن عرفًا، لصناعته - كفلوس غير الذهب والفضة، ومعمول الصفر، والنحاس، والرصاص، والماء، والبيض، وجوز الهند، والتفاح، والبرتقال، والبطيخ، والرمان -؛ إذ لم تكن هذه الأشياء تُكال ولا توزن - فيجوز بيع إناء بإناءين، وبيع تفاحة بتفاحتين، وبيضة ببيضتين، وماء قليل بماء كثير، وبالعكس، وبيع دار بدارين، وسيارة بسيارتين، =
(ولا يُباع مكيل بجنسه إلا كيلاً) فلا يُباع بجنسه وزنًا، ولو تمرة بتمرة (ولا) يُباع (موزون بجنسه إلا وزنًا) فلا يصح كيلاً؛ لقوله عليه السلام:"الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل، والشعير بالشعير كيلاً بكيل" رواه الأثرم من حديث عبادة بن الصامت، ولأن ما خُولف معياره الشرعي لا يتحقق فيه التماثل، والجهل به كالعلم بالتفاضل، ولو كيْل المكيل، أو وُزن الموزون فكانا سواء: صح (ولا) يُباع (بعضه) أي: بعض المكيل أو الموزون (ببعض) من جنسه (جزافاً)؛ لما تقدم ما لم يعلما تساويهما في المعيار الشرعي، فلو باعه صبرة بأخرى وعلما كيلهما وتساويهما، أو تبايعاهما مثلًا بمثل، وكيلتا فكانتا سواء: صح، وكذا: زُبرة حديد بأخرى من جنسها
(4)
(فإن اختلف الجنس) كبر بشعير،
وثوب بثوبين، وعبد بعبدين، وكتاب بكتابين وهكذا؛ لكون هذه الأشياء ليست ربوية؛ لانعدام إما الكيل أو الوزن فيها.
(4)
مسألة: تكون المساواة والقبض المشروطين: ببيع كل مكيل بجنسه كيلاً - وهو: تقدير الشيء بالحجم - وببيع كل موزون بجنسه وزنًا - وهو: تقدير الشيء بالثقل والخفَّة - وبناء على ذلك: فلا بدَّ أن يُباع البر، والتمر، والشعير، والملح، والأرز، والذرة بما يُساويه عن طريق المكيال، ولا بدَّ أن يُباع الذهب، والفضة بما يساويه وزنًا، فلو بيع برٌّ بجنسه وزنًا: فلا يصح، ولو بيع ذهب بجنسه كيلاً: فلا يصح، وكذلك لا يجوز بيع بعض المكيل ببعض من جنسه جُزافاً - وهو بيع الشيء بالشيء بلا كيل ولا وزن -؛ لعدم معرفة التساوي، ولو بيع مجموعة من البر بمجموعة من البر، وعلم البائع والمشتري كيلهما وتساويهما: لصح البيع، ولو بيعت زبرة وكومة من الحديد بأخرى من جنسه: وعلما تساويهما بالمعيار الشرعي لصح أيضًا، أما إذا لم يعلما ذلك: فلا يصح؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل"، الثانية: التلازم؛ حيث إن جعل الشارع معياراً شرعيًا =
وحديد بنحاس: (جازت الثلاثة) أي: الكيل، والوزن، والجزاف؛ لقوله عليه السلام:"إذا اختلفت هذه الأشياء: فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد" رواه مسلم وأبو داود
(5)
(والجنس: ماله اسم خاص يشمل أنواعاً) فالجنس هو: الشامل لأشياء
تُعرف فيه مقادير الأشياء - وهو: الكيل لما يُكال، والوزن لما يُوزن -: يلزم منه عدم صحة بيع شيء بشيء من جنسه إلّا بهذا التماثل، فإن خُولف: لزم منه عدم تحقق ذلك، مما يؤدِّي إلى عدم صحته الشرعية.
(5)
مسألة: إذا باع زيد شيئًا ربوياً بربوي من جنسه - وهي الأشياء الستة: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح - فلا يصح إلا بشرطين: أولهما: التقابض في المجلس قبل التفرُّق، ثانيهما: التساوي دون زيادة، وهذا يُعرف بالمعيار الشرعي - وهو: الكيل لما يُكال، والوزن لما يُوزن - وقد سبق هذا في مسألة (3)، أما إذا باع ربوياً بربوي من غير جنسه كبيع البر بالشعير: فإنه يُشترط الشرط الأول فقط - وهو التقابض في المجلس - دون الشرط الثاني: فيجوز على هذا: أن يُباع عن طريق الكيل، أو الوزن ويُباع جزافاً - بدون علم بقدره -: فيُباع صاع بر بصاعين من شعير ونحو ذلك، ويُباع بر بتمر وزنًا، ويُباع بعض البر ببعض التمر جزافاً، وإن لم يعلم التقدير؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اختلاف الجنس: جواز هذا البيع، أما إذا اختلفت الثلاثة - وهو: الكيل، والوزن، والجزاف: فلا يُشترط شيء، أي: يجوز البيع مُطلقاً: فلو بيع ربوي بغير ربوي، فيجوز التفاضل، ويجوز التفرّق قبل القبض مثل: أن يبيع برًا بثوب، أو أرز بسيارة أو تمر بعبد ونحو ذلك؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "فإذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" والمراد: يجوز بيع المكيل بالموزون، والموزون بالمكيل، والجزاف بالمكيل والموزون؛ وبيع بيع بعضه ببعض كيلاً، ووزناً، وجزافاً، ولكن بشرط: أن يكون يدًا بيد.
مختلفة بأنواعها، والنوع: هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها، وقد يكون النوع جنسًا، وبالعكس، والمراد هنا: الجنس الأخص والنوع الأخص، فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهو جنس، وقد مثَّله بقوله:(كبر ونحوه) من شعير وتمر، وملح (وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز، والأدهان) أجناس؛ لأن الفرع يتبع الأصل، فلما كانت أصول هذه أجناساً: وجب أن تكون هذه أجناساً، فدقيق الحنطة جنس، ودقيق الذرة جنس، وكذا البواقي
(6)
(واللحم أجناس باختلاف أصوله)؛ لأنه فرع أصول هي أجناس، فكان أجناساً كالأخباز
(7)
، والضأن، والمعز جنس واحد، ولحم البقر والجواميس جنس، ولحم الإبل جنس وهكذا
(8)
(وكذا
(6)
مسألة: الجنس: هو الذي تحته عدد من أنواع مختلفة: فالحيوان جنس تحته نوعان: "حيوان ناطق" و "حيوان غير ناطق"، والنوع - وهو الحيوان الناطق -: تحته عدد من الأشخاص، وهو زيد وبكر ومحمد وهكذا، وكذلك:"البر" جنس تحته أنواع هي: "القمح" و "اللقيمي" و "الحنطة"، وكل نوع يتميز بشيء لا يتميز به الآخر، و "النوع" وهو "القمح" تحته أشخاص وهي:"القمح الأحمر، والقمح الأسود" وهكذا، وكذلك يقال في "الشعير" و "التمر" و "الملح"، وما تفرَّع عن الأجناس: أجناس لكنها تابعة لأصولها في جريان الربا: فدقيق الحنطة جنس يتبع الحنطة ودقيق الشعير جنس يتبع الشعير وهكذا.
(7)
مسألة: يُعتبر لحم كل حيوان بعينه جنس، لا يُباع بعضه ببعض إلا بالشرطين السابقين في مسألة (5) وكل جنس تابع لأصله؛ للقياس، بيانه: كما أن خبز البر من جنس أصله البر، فلا يجوز بيع البر بخبزه، فكذلك اللحم من جنس الحيوان الذي أُخذ منه فلا يجوز بيع الناقة بلحم ناقة أخرى.
(8)
مسألة: الضأن والمعز من جنس واحد، فلا يجوز بيع لحم الضأن بالمعز، أو العكس إلّا بالشرطين السابقين في مسألة (5)؛ لاتحاد الجنس، ولذلك يقال في البقرة والجاموسة هما من جنس واحد.
اللَّبن) أجناس باختلاف أصوله؛ لما تقدَّم
(9)
(واللحم، والشحم، والكبد) والقلب، والإلية، والطحال، والرئة، والأكارع (أجناس)؛ لأنها مختلفة في الاسم والخلقة، فيجوز بيع جنس منها بآخر متفاضلاً
(10)
، (ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه)؛ لما روى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع اللحم بالحيوان"(ويصح) بيع اللحم (بـ) حيوان من (غير جنسه) كلحم ضأن ببقرة؛ لأنه ليس أصله، ولا جنسه: فجاز، كما لو بيع بغير مأكول
(11)
(ولا يجوز بيع حب) كبر (بدقيقه ولا سويقه)؛ لتعذُّر التساوي؛ لأن أجزاء الحب تنتشر بالطحن، والنار قد أخذت من السويق، وإن بيع الحب بدقيق أو سويق من غير جنسه: صحَّ؛ لعدم
(9)
مسألة: اللَّبن من جنس الحيوان الذي حُلب منه، ولذا: فلا يجوز بيع صاع من لبن البقر بصاع أو أكثر من لبن بقر آخر؛ لاتحاد الجنس، لكن يجوز بيع صاع من لبن بقر بصاع أو أكثر من لبن غنم، للتلازم؛ حيث يلزم من اختلاف الجنس: جوازه.
(10)
مسألة: ما يوجد داخل الحيوان من لحم وشحم وكبد، وقلب، ورئة، ومصران، ونحوها أجناس مختلطة بعضها عن البعض الآخر، فيجوز أن يشتري كيلو من اللحم بأكثر منه من الشحم، أو يشتري قلباً ورئة بكيلو من اللحم؛ إذا كان يدًا بيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اختلاف ذلك في جنسه: جوازه.
(11)
مسألة: لا يصح بيع لحم بحيوان من جنس ذلك الحيوان الذي أخذ منه ذلك اللحم كبيع لحم ضأن بضأن حي، أما إن بيع ذلك اللحم بغير جنسه: فيصح مثل أن يبيع لحم ضأن ببقرة حية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "نهى عليه السلام عن بيع اللحم بالحيوان" والتلازم هو الذي خصَّصه وحمله على جنسه؛ لكونه أصله وجنسه الذي لا يفترق عنه، الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز بيع اللحم بثوب، فكذلك يجوز بيع لحم الضأن بغير جنسه كبقرة والجامع: أن كلاًّ منهما ليس بأصله، ولا جنسه.
اعتبار التساوي إذًا
(12)
(و) لا بيع (نيئة بمطبوخه) كالحنطة بالهريسة، أو الخبز بالنشأ؛ لأن النار تعقد أجزاء المطبوخ، فلا يحصل التساوي
(13)
(و) لا بيع (أصله بعصير) كزيتون بزيت، وسمسم بشيرج، وعنب بعصيره
(14)
(و) لا بيع (خالصه بمشوبه) كحنطة فيها شعير بخالصه، ولبن مشوب بخالص؛ لانتفاء التساوي المشترط، إلا أن يكون الخلط يسيرًا، وكذا: بيع اللَّبن بالكشك، ولا بيع الهريسة، والحريرة، والفالوذج، والسنبوسك بعضه ببعض، ولا بيع نوع منها بنوع آخر
(15)
(و) لا بيع
(12)
مسألة: إذا باع برًا بدقيق البر - وهو طحينه - أو باع برًا بسويقه - وهو: الحب المحمَّص بالنار -: فلا يصح؛ أما إن باع البر بدقيق الشعير، أو باع الشعير بسويق البر: فيصح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون دقيق البر من جنس البر وسويق البر من جنس البر، وتعذُّر تساويهما: عدم صحّة ذلك، ويلزم من عدم اعتبار التساوي إذا اختلفت الأجناس: صحة بيع دقيق البر بالشعير، وبيع سويق البر، بالتمر، فإن قلت: لِمَ شرع الحكم في الحالة الأولى؟ قلتُ: لأن البر إذا طُحن يزيد كيله، وإذا حُمِّص الحب لأجل السويق ينقص كيله، فلم يستويا.
(13)
مسألة: لا يصح بيع نيء بر وشعير ونحوهما بمطبوخهما؛ لكن يجوز بيع نيء البر بمطبوخ الشعير أو التمر؛ للتلازم، وقد بيّناه في المسألة (12)، فإن قلت: لِمَ شرع الحكم هنا؟ قلت: لأن المطبوخ يكون فيه ماء عادة، وهذا يزيد من كيله فلم يجز.
(14)
مسألة: لا يصح بيع أصل شيء بعصيره كبيع الزيتون بعصيره - وهو زيت الزيتون - وبيع العنب: بعصيره - ونحو ذلك ويصح بيع الشيء بعصير غيره كبيع الزيتون بعصير العنب، وبيع العنب بزيت الزيتون وهكذا؛ للتلازم، وقد بيّناه في مسألة (12).
(15)
مسألة: لا يصح بيع شيء خالص بشيء مشوب من الأنواع الربوية كبيع اللَّبن الخالص الصافي بلبن قد وُضع فيه تمر أو طحين ونحو ذلك، أو بيع بر خالص ببر قد وضع فيه شعير، ولحم ونحو ذلك، ولا بيع نوع منها بنوع آخر مشوب كبيع =
(رطبه بيابسه) كبيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب؛ لما روى مالك وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر قال: "أينقص الرطب إذا يبس؟ " قالوا: نعم، فنهى عن ذلك
(16)
(ويجوز بيع دقيقه) أي: دقيق الرِّبوي (بدقيقه إذا استويا في النعومة)؛ لأنهما تساويا حال العقد على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان (و) يجوز بيع (مطبوخه بمطبوخه) كسمن بقري بسمن بقري مثلًا بمثل (و) يجوز بيع (خبزه بخبزه إذا استويا في النشاف)، فإن كان أحدهما أكثر رطوبة من الآخر: لم يحصل التساوي المشترط، ويُعتبر التماثل في الخبز بالوزن كالنشأ؛ لأنه يقدر به عادة، ولا يمكن كيله، لكن إن يبس ودُقَّ، وصار فتيتاً: بيع بمثله كيلاً (و) يباع (عصيره بعصيره) كماء عنب بماء عنب (ورطبه برطبه) كالرُّطب والعنب بمثله؛ لتساويهما
(17)
، ولا يصح بيع المحاقلة وهي: بيع الحبِّ المشتدِّ في سنبله بجنسه، ويصح
خبز بهريسة، لكن يصح بيع بر خالص بشعير ليس بخالص؛ للتلازم وقد بيّناه في مسألة (12).
(16)
مسألة: لا يصح بيع رطب شيء من الربوي بشيء من يابسه كبيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام: "نهى عن بيع الرطب بالتمر اليابس" والنهي مطلق فيقتضي التحريم والفساد، الثانية: التلازم؛ حيث إن عدم تساويهما؛ إذ أحدهما أنقص من الآخر: يلزم منه: عدم الصحة، فيكون من باب الربا. تنبيه: ما ذكره المصنف هي أنواع من الأطعمة في عصره، ويُمكن أن يُمثَّل لذلك بالأطعمة المعاصرة.
(17)
مسألة: إذا تساوت الأشياء الربوية مع بعضها في الكيل والصفة: فيجوز بيعها ببعضها؛ ولذا: يجوز بيع الدقيق بالدقيق من جنسه، ويجوز بيع مطبوخ الأرز بمطبوخ الأرز، والسمن بالسمن، ويجوز بيع يابسه بيابسه كبيع الخبز، بالخبز ويجوز بيع عصيره بعصيره كبيع عصير العنب بعصير العنب، ويجوز بيع رطبه برطبه كبيع رُطب التمر برطب تمر آخر، والعنب بالعنب وهذا كله بشرط: =
بغير جنسه
(18)
، ولا بيع المزابنة وهي: بيع الرُّطب على النخل بالتمر
(19)
؛ إلا في
التساوي والمثلية والتقابض في الحال بين السلعتين؛ أما إن اختلف الدقيق عن الدقيق الآخر بثقل، أو بكثرة ماء، أو اختلف الخبز عن الخبز الآخر بأي اختلاف يؤثر في الثمن والمصلحة: فلا يجوز البيع؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلًا بمثل، سواء بسواء يدًا بيد" فاشتراط في بيع الطعام بالطعام التماثل، والتساوي، والتقابض، ودلّ بمفهوم الصفة: على أنه إذا اختلف أحدهما عن الآخر: فلا يصح البيع، تنبيه: قد يكون فيما سبق من المسائل بعض تكرار الأمثلة وهذا يفعله كثير من العلماء، للمصلحة: حيث إن الناس بحاجة لأن يُصوَّر لهم ما يجري فيه الربا من الأطعمة وما لا يجري.
(18)
مسألة: يحرم بيع المحاقلة وهو: أن يبيع المزارع حبَّ الزرع المشتد وهو ما زال في سُنبله بحبٍّ من جنسه. كأن يبيع حبَّ بُرٍّ وهو في سنبله ببرٍّ ليس في سُنبله وإذا وقع فهو فاسد. ويصح بيع حب بُرٍّ مشتد في سنبله بحب من غير جنسه كبيعه بحب الشعير، أو بالتمر ونحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "نهى عليه السلام عن بيع المحاقلة" والنهي مُطلق فيقتضي التحريم، والفساد، الثانية: التلازم، حيث يلزم من الجهل بالتساوي بين الحبِّ في سُنبله، وبين الحبِّ في غير سُنبله: عدم صحّة البيع، ويلزم من اشتراط التساوي بين الحب في سُنبله والحب من الشعير، أو التمر: صحة البيع إذا وُجد التقابض، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المسلمين من الظلم؛ لعدم التساوي بين المبيعين، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي ذلك بالمحاقلة؟ قلتُ: أخذًا من الحقل، وهو المكان الذي فيه زرع تشعَّب ورقه - كما في المصباح (144) -.
(19)
مسألة: يُحرم بيع المزابنة وهو: أن يبيع المزارع الرُّطب على رؤوس النخل بالتمر يابساً كيلاً، وإذا وقع البيع: فهو فاسد؛ للسنة القولية: حيث نهى عليه السلام =
العرايا: بأن يبيعه خرصاً بمثل ما يؤول إليه إذا جفَّ كيلاً فيما دون خمسة أوسق لمحتاجٍ لرطبٍ، ولا ثمن معه بشرط الحلول والتقابض قبل التفرُّق، ففي نخل بتخليته، وفي تمر بكيل
(20)
، ................................................
عن بيع التمر بالتمر إلّا أصحاب العرايا" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التمر والرطب على رؤوس النخل يختلف كيله ووزنه عن التمر اليابس، فلا يحصل تساو بينهما، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي ذلك بالمزابنة؟ قلتُ: أخذًا من زبن، يزبن والمراد: الدافع، ومنه قيل للمشتري "زبون"؛ لأنه يدفع غيره عن أخذ المبيع - كما في المصباح (251) - فائدة: لا يصح بيع كل رطب بيابس كبيع العنب بالزبيب؛ قياسًا على ما سبق.
(20)
مسألة: - تصح العرايا - وهي: بيع الرطب على النخلة بمثله تمراً كيلاً - وهي: مستثناة من "بيع المزابنة" بشروط: أولها: أن يكون هذا عن طريق الخرص وهو تخمين العارف بأن هذا الرطب إذا جف يساوي ذلك التمر كيلاً: بأن يقول: "هذا الرُّطب إذا جف يُساوي عشرين كيلوجرام تمراً، فيُعطيه المشتري هذه العشرين، ويأخذ النخلة التي فيها الرُّطب، ثانيها: أن لا يزيد من التمر عن أربعة أوسق، ثالثها: أن يكون المشتري بحاجة إلى ذلك. رابعها: أن لا يُوجد مع المشتري نقد يشتري به رُطباً، خامسها: أن يكون الرطب لا زال موجودًا على رؤوس النخل، سادسها: أن يوجد تقابض وحلول في مجلس العقد، وتُقبض النخلة بأن يُخلِّي البائع بينها وبين المشتري، ويُقبض التمر بمجرَّد الكيل؛ للسنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما أنه عليه السلام "نهى عن بيع المزابنة ورخَّص في العرايا بأن تشترى بخرصها يأكلها أهلها رُطباً" وفي رواية: "فيما دون خمسة أوسق" وهي زيادة ثقة مقبولة، ثانيهما: أنه شكى إلى رسول الله عليه السلام أناس لا نقد معهم يبتاعون به رُطباً، ويأكلون مع الناس، وعندهم فضول قوتهم من التمر، فرخَّص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر، وهذان النصان قد أثبتا الشروط الأربعة =
ولا تصح في بقية الثمار
(21)
(ولا يُباع ربوي بجنسه، ومعه) أي: مع أحد العوضين
الأولى، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط الخامس؟ قلتُ: للمصلحة؛ إذ لو جُذَّ الرطب من النخل لفسد، وفاتت الفائدة منه، فإن قلتَ: لِمَ اشترط السادس؟ قلتُ: لأنه بيع مكيل بمكيل من جنسه فالرطب من جنس التمر، فاعتبر فيه التقابض والحلول، فإن قلتَ: لِمَ أُبيحت العرايا؟ قلتُ: للمصلحة، وهي مراعاة هذا الفقير الذي لا يقدر على شراء رُطب، فأباح الشارع له هذه الطريقة للتخلُّص من الحرج وكذا: لمراعاة المزارع الذي باع نخلاً على شخص فتأذى المزارع من ذلك الشخص فيشتريها منه بتمر كيلاً، فإن قلتَ: لِمَ سمي ذلك بالعرايا؟ قلتُ: لأن مفرده: العرية وهي: التخلية والعزل، وأطلقت على النخلة التي تعزل عن المساومة عند بيع النخل، فيُعريها صاحبها رجلًا محتاجًا، - كما ورد في اللسان (15/ 50) وقد أطال ابن منظور الكلام فيها على غير عادته، فإن قلتَ: لِمَ حُدِّد ما يحصل فيه العرايا بما دون خمسة أوسق؟ قلتُ: لئلا يصل إلى الحدّ الذي يوجب الزكاة.
(21)
مسألة: تصح العرايا في كل الثمار مما يُشابه الرُّطب مع التمر، مثل: بيع العنب بالزبيب بالشروط السابقة - في مسألة (20) - وهو مذهب أكثر العلماء، للقياس؛ بيانه: كما يجوز بيع الرطب بالتمر، فكذلك يجوز بيع العنب بالزبيب والجامع: سدِّ حاجة الفقير، ومراعاة حاله، فإن قلتَ: لا تصح العرايا في بقية الثمار، وهو ما ذكره المصنف هنا للسنة القولية: حيث إنه عليه السلام: "قد نهى عن بيع المزابنة ورخَّص في العرايا" وقرن الترخيص ببيع العرايا يلزم منه: عدم جوازها في غير الرطب مع التمر، قلتُ: إن المقصود هو: سدُّ حاجة الفقير الذي لا يستطيع أكل ثمر في وقته، وهذا يصدق على الرطب مع التمر وغيره من الثمار، من باب: جواز جريان القياس في الرخص - وقد بينته في كتابي: "الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس" فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "الخلاف في جريان القياس في الرخص" فعندنا: يجوز، وعندهم: لا يجوز.
(أو معهما من غير جنسهما) كمدِّ عجوة ودرهم بدرهمين، أو بمدَّي عجوة، أو بمد ودرهم؛ لما روى أبو داود عن فضالة بن عبيد قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير، أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا، حتى تميّز بينهما" قال: فردَّه حتى ميَّز بينهما
(22)
، فإن كان ما مع الرِّبوي يسيرًا لا يُقصد كخبز فيه ملح بمثله، فوجوده كعدمه
(23)
(ولا) يُباع (تمر بلا نوى بما) أي: بتمر (فيه
(22)
مسألة: لا يصح بيع شيء ربوي - وهي الأشياء الستة الذهب والفضة، والتمر، والبر، والشعير، والملح - بشيء ربوي آخر مع وجود شيء من غير جنسهما في العوضين، أو في أحدهما، وهي مسألة تسمَّى بـ "مسألة: بيع مد عجوة ودرهم" كأن يبيع صاعًا من تمر، بصاع تمر آخر ودرهم، أو يبيع درهمين بدرهم وصاع من بر وهكذا، ولو مع فرض التساوي في الأثمان؛ للسنة القولية: حيث إن رجلًا قد اشترى قلادة فيها ذهب وخرز بتسعة دنانير فقال عليه السلام: "لا حتى تميز بينهما" وفي رواية: أنه أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع واحدة، ثم قال: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن"، وهذا يدلّ على إعطاء كل شيء ما يُساويه من الثمن، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن هذا يؤدِّي إلى الربا؛ لوجود زيادة بدون مقابل، أو جهل في ذلك؛ لقيام ذلك على التخمين، وهذا طريق إلى أكل أموال الناس بالباطل، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي ذلك بـ "مُدِّ عجوة؟ قلتُ: لأن العجوة تمر معروف بالمدينة، فيقول: المشتري مثلًا: "أعطني مُدَّاً من تمر العجوة ودرهم وأعطيك درهمين ومد عجوة" أو نحو ذلك، ومعروف: أن "المدَّ" ربع صاع بمكيل المدينة.
(23)
مسألة: إذا اختلط بالشيء الربوي شيء قليل من الربوي أو غيره، فيجوز بيعه بالربوي كبيع تمر لا دبس فيه، بمثله، وبيع خبز فيه ملح بمثله، وبيع الدار الذي في سقفها بعض الذهب اليسير، بالذهب؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك غير مقصود عادة: جواز بيعه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك =
نوى)؛ لاشتمال أحدهما على ما ليس من جنسه، وكذا: لو نزع النوى، ثم باع التمر والنوى بتمر ونوى
(24)
(ويُباع النوى بتمر فيه نوى و) يُباع (لبن و) يُباع (صوف بشاة ذات لبن وصوف)؛ لأن النوى في التمر، واللبن والصوف في الشاة غير مقصود كدار مموَّه سقفها بذهب: بذهب صح، وكذا: درهم فيه نحاس بمثله، أو بنحاس، ونخلة عليها ثمرة بمثلها، أو بثمر
(25)
، ويصح بيع نوعي جنس بنوعيه أو نوعه كحنطة حمراء وسوداء ببيضاء، وتمر معقلي وبرنى بإبراهيمي وصيحاني
(26)
(ومردُّ) أي: مرجع (الكيل لعرف المدينة) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (و) مرجع (الوزن لعرف مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم)؛ لما روى عبد الملك بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة"(وما لا عرف له هناك) أي: بالمدينة ومكة: (اعتُبر عرفه في موضعه)؛
فيه رفع الحرج.
(24)
مسألة: لا يصح بيع تمر بلا نوى بتمر فيه نوى، ولا بيع التمر بلا نوى واشترى به تمراً، ونوى؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يصح بيع "مدِّ عجوة ودرهم" كما في مسألة (22) - فكذلك لا يصح البيع هنا؛ والجامع: الجهل بالتساوي في كل، وهذا يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل.
(25)
مسألة: يصح بيع النوى بتمر فيه نوى، وبيع لبن بشاة ذات لبن، وبيع صوف بشاة ذات صوف ونحوها من الصور: سواء وجد التفاضل أو لا، وسواء كانت الشاة حية أو مذكاة؛ للقياس؛ بيانه: كما يصح بيع دار قد جعل في سقفها الذهب القليل جدًا بذهب فكذلك يجوز البيع في تلك الصور الثلاث والجامع: عدم قصد تلك الزيادة في البيع، وهذا مثل ما قيل في مسألة (23).
(26)
مسألة: يصح بيع نوعين من جنس واحد بنوع واحد منه كبيع حنطة سوداء وحمراء بحنطة بيضاء، وتمر سكَّري، وتمر نبتة بتمر إخلاص بشرط: التساوي في الكيل، والمثلية والتقابض؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم اعتبار الجودة: صحة ذلك.
لأن ما لا عرف له في الشرع يُرجع فيه إلى العرف كالقبض، والحرز، فإن اختلفت البلاد: اعتبر الغالب، فإن لم يكن: رُدَّ إلى أقرب ما يُشبهه بالحجاز
(27)
، وكل مائع مكيل
(28)
، ....................................................................
(27)
مسألة: مرجع كون الشيء مكيلاً إلى ما تعارف عليه أهل المدينة، ومرجع كون الشيء موزوناً إلى ما تعارف عليه أهل مكة وذلك في عهده عليه السلام، أما مرجع غير أهل مكة والمدينة فهو ما تعارفوا عليه: فإن كان أهل البلد يتبايعونه بالكيل فهو مكيل، وإن كانوا يتبايعونه بالوزن: فهو موزون، وإن كانوا يتبايعونه بالعد: فهو معدود، فإن وُجد الأمران في بلد واحد: عمل بالأغلب كيلاً أو وزنًا، فإن لم يوجد عُرف عندهم: فعل به كما يفعل بأقربها إلى الحجاز لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، حيث قال عليه السلام:"المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة" ويُحمل كلامه عليه السلام على بيان الأحكام، فما كان مكيلاً بالمدينة في زمنه عليه السلام: فإنه ينصرف إليه التحريم بتفاضل الكيل، وهكذا يُقال في الموزون في مكة، فلا يجوز أن يتغيَّر بعد ذلك، الثانية: العرف والعادة؛ حيث إن ما لم يُحدَّد من الشارع: فإنه يُرجع في تحديده إلى عرف الناس في غالب أفعالهم كالقبض، والحرز، والتفرُّق، والأقل والأكثر من الدَّم الذي يُفسد الوضوء، والأقل والأكثر من الحركة، التي تُبطل الصلاة، ونحو ذلك، فإن قلت: إن الحبوب كالبر والأرز نحوهما يُباع الآن بالوزن، لا بالكيل، وهذه مخالفة للنَّص؟ قلتُ: يُباع هذا بالدراهم والريالات وما سواها من الأثمان، لكن إذا أردنا بيع صاع من بر بصاع مثله: فلا بدَّ من اعتبار الكيل هنا، ثم إنه لو وقع ذلك: فإنه وقع بالقياس؛ حيث إن قد قيس الصاع بالكيلو، فقُدِّر بأنه ثلاثة كيلوجرام، فكأن ذلك قد كيل بالصاع.
(28)
مسألة: جميع المائعات والسوائل إذا أريد بيعها فإنها تباع بالكيل كالألبان، والعصيرات، والأدهان، ونحو ذلك، وجميع الجامدات يُباع بالوزن كالذهب =
ويجوز التعامل بكيل لم يُعهد
(29)
.
فصل (ويحرم ربا النسيئة) من النسأ بالمدِّ، وهو: التأخير (في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل) وهي: الكيل والوزن (ليس أحدهما) أي: أحد الجنسين (نقدًا)، فإن كان أحدهما نقدًا كحديد بذهب أو فضة: جاز النسأ، وإلا لانسدَّ باب "السَّلَم" في الموزونات غالبًا إلّا صرف فلوس نافقة بنقد، فيشترط فيه الحلول والقبض، واختار ابن عقيل وغيره: لا، وتبعه في "الإقناع"(كالمكيلين والموزونين) ولو من جنسين، فإذا بيع برٌّ بشعير، أو حديد بنحاس: اعتبر الحلول والتقابض قبل التفرّق (وإن تفرّقا قبل القبض: بطل) العقد؛ لقوله عليه السلام: "إذا اختلفت هذه الأصناف: فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد" والمراد به: القبض
(30)
(وإن باع مكيلاً
والفضة، والحديد، والحرير، واللحوم، والصوف ونحو ذلك، وما لا يختلف فيه الكيل والوزن كالأدهان يُباع بعضه كيلاً، ويُباع بعضه الآخر وزنًا، فيجوز هذا وهذا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إن عليه السلام قد توضأ بالمد، وهذا يلزم منه أن السوائل جميعًا تُكال، الثانية: المصلحة؛ حيث إن المناسب للسوائل الكيل، والمناسب لغيرها الوزن؛ لحفظ أموال الناس.
(29)
مسألة: إذا تعارف أهل بلد على كيل يتبايعون به، أو وزن: فإنه يجوز أن يُتعامل بذلك عند البيع والشراء وإن لم يكن ذلك معهوداً فيما سبق من الأزمنة؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تيسير على المسلمين، لا سيما عند عدم وجود ما يمنع ذلك.
(30)
مسألة: يحرم ربا النسيئة، وهو:"تأخير القبض في بيع كل جنسين اتّفقا في علَّة ربا الفضل، وهي: الكيل والوزن، ليس أحدهما نقدًا"، فإذا بيع مكيل بمكيل، أو موزون بموزون، وافترق البائع والمشتري قبل القبض: بطل العقد فمثلاً: لو باع صاعًا من بر بصاع من شعير: فلا يجوز النسأ في ذلك؛ لاتفاقهما في الكيل الذي هو علة ربا الفضل، أو باع رصاصاً بحديد: فلا يجوز النسأ في ذلك؛ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لاتفاقهما في الوزن، وهو علَّة رب الفضل، فلا بدَّ في ذلك من التقابض والحلول قبل التفرق، فإن تفرقا قبل القبض: بطل البيع، أما لو باع حديداً بدنانير أو باع صاعًا من بر بريالات: فيصح النسأ والتأخير للمبيع، أو الثمن؛ لكون أحدهما ليس نقدًا، فلم تُوجد علَّة الرِّبا فيهما؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية وهي من وجوه: أولها: قوله عليه السلام: "إنما الربا في النسيئة" فبيَّن: أن الربا في مثل ما قلناه، ثانيهما: قوله: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد" فاشترط لصحة بيع أحد الجنسين بمثله: التقابض في المجلس، فلا يجوز مؤخَّراً ومؤجَّلاً، ثالثها: قوله عليه السلام: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم" حيث دلَّ هذا على صحة النسأ والتأخير إذا كان أحد العوضين نقدًا؛ لكونه لو لم يصح النسأ والتأخير في ذلك لسدّ باب السَّلَم في الموزونات والمكيلات، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن بيع الذهب بالفضة يحرم التفرّق قبل القبض فيه، وإن تفرّقا: بطل البيع، فكذلك هنا، والجامع: أنهما مالان من الأموال التي يجري فيهما الربا وعلّتهما واحدة، وهي الوزن، والكيل، فإن قلتَ: ما سبب حصر النبي عليه السلام الربا في النسيئة مع تقسيمه إلى ربا الفضل، والنسيئة؟ قلتُ: خُصَّ ربا النسيئة بهذا الذكر؛ لكونه أعظم وأخطر من ربا الفضل، وأقربهما إلى أكل أموال الناس بالباطل، وهذا مثل قوله عليه السلام:"الحج عرفة": أي: أن أعظم ركن من أركان الحج هو: عرفة، وهذا واقع في ربا النسيئة، فلو باع زيد على بكر ثوباً بمائة ريال يدفعها بكر بعد سنة، ثم مضت السنة ولم يدفعها بكر، فقال له زيد: نؤخر عليك ونزيدها إلى مائتين إلى العام الذي بعده وهكذا: لكان ذلك أعظم الخطر على المجتمع (فرع) إذا صرف فلوسًا نافقة بنقد: فلا يجوز فيه نسأ وتأخير أحد العِوضين، أي: يُشترط الحلول والتقابض في ذلك، وهو قول أكثر العلماء؛ =
بموزون) أو عكسه: (جاز التفرُّق قبل القبض و) جاز (النسأ): لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علَّة ربا الفضل، أشبه الثياب بالحيوان
(31)
(وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النسأ)؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو: أن يأخذ على قلائص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة" رواه أحمد والدارقطني وصحَّحه، وإذا جاز في الجنس الواحد: ففي الجنسين أولى
(32)
(ولا يجوز بيع الدَّين
للتلازم؛ حيث يلزم من كون الفلوس النافقة مشبهة للنقد: إلحاقها به، وقيل: غير ذلك، بدون استدلال.
(31)
مسألة: إذا باع مكيلاً بموزون، أو باع موزوناً بمكيل: جاز البيع مطلقًا: أي: سواء تفرَّق البائع والمشتري قبل القبض أو لا، وسواء أُخِّر أحد العوضين أو لا، فيجوز بيع البر باللحم، ويجوز بيع التمر بالفضة، ونحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز بيع الثياب بالحيوان، وبالعكس مُطلقًا فكذلك يجوز البيع هنا والجامع: أنه في كل منهما لم يتفق المبيع والثمن في علة ربا الفضل - وهي: الوزن والكيل -.
(32)
مسألة: الأشياء التي لا تُوجد فيها كيل ولا وزن - وهي: غير الرِّبوية - يجوز فيها النسأ مطلقًا أي: سواء بيع بجنسه أو لا، وسواء كان متفاضلاً أو لا، فيجوز - على هذا - بيع البعير بالبعير، وبالبعيرين وأكثر، ويجوز بيع بعير بمائة ثوب حاضرة أو غائبة إلى سنة، أو إلى أكثر، وكذا: في جميع الأقمشة، والعقارات، والسيارات، والحيوانات؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام: "قد أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ البعير بالبعيرين والثلاثة إلى إبل الصدقة" وذلك في الاستعداد للغزو، وهذا صريح في جواز النسأ والتفاضل كما قال ابن القيم، الثانية: فعل الصحابي وهو من وجهين: أولهما: أن ابن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه، ثانيهما: أن رافع بن خديج اشترى بعيرًا ببعيرين، وأعطاه أحدهما وقال:"آتيك بالآخر غداً"، فإن قلت: لِمَ =
بالدَّين) حكاه ابن المنذر إجماعًا؛ لحديث: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكاليء بالكاليء" وهو: بيع ما في الذمة بثمن مُؤجَّل لمن هو عليه، وكذا: بحالٍّ لم يُقبض قبل التفرُّق، وجعله رأس مال سَلَم
(33)
.
فصل: (ومتى افترق المتصارفان) بأبدانهما كما تقدَّم في خيار المجلس (قبل قبض الكل) أي: كل العِوض المعقود عليه في الجانبين (أو) قبل قبض (البعض) منه: (بطل العقد فيما لم يُقبض): سواء كان الكل أو البعض؛ لأن القبض شرط لصحة العقد؛ لقوله عليه السلام: "وبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد" ولا يضرُّ طول المجلس
جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذه الأشياء ليست بربوية، ولا تخص ما يستطعمونه الناس في يومهم وليلتهم، فإن قلتَ: لِمَ ذكر هنا جواز بيع النسأ ولم يذكر جواز الفضل؟ قلتُ: لأن النسأ إذا جاز فمن باب أولى: جواز الفضل، ولكن لا يجوز العكس: فقد يجوز الفضل كبيع صاع بر بصاعين شعير ولكن لا يجوز في ذلك النسأ؛ لأنه لا بدَّ من التقابض فيه والحلول كما سبق.
(33)
مسألة: يحرم بيع الدَّين بالدَّين وإذا وقع فهو فاسد كأن يبيع زيد على بكر ثوبين بعشرين صاعًا من البر يدفعها بكر بعد سنة، فيقول زيد بعد مُضي شهر أو أكثر:"اشتر مني تلك الأصواع العشرين بمائة ريال في الذمة" فيشتريها بكر بمائة في الذمة تحل بعد سنة أو أكثر، وهذا بيع النسيئة بالنسيئة، أو يقول زيد:"جعلتُ ما في ذمتك وهي العشرون صاعًا رأس مال سَلَم على أن تعطيني بدلها كذا" أو يقول زيد: "بعتك تلك العشرين صاعًا التي في ذمتك بمائة" ولكن لم يقبض زيد تلك المائة وتفرقا، وهذه صور بيع الدين بالدين؛ للسنة القولية: حيث نهى عليه السلام: "عن بيع الكالئ بالكالئ" والنهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم والفساد؛ فإن قلتَ: لِمَ يحرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ضرر على المعسر، الذي هو المشتري وهو بكر هنا - حيث يُزاد عليه الثمن حيلة، وهذا فيه أكل أموال الناس بالباطل.
مع تلازمهما، ولو مشيا إلى منزل أحدهما مصطحبين؛ صح، وقبض الوكيل قبل مفارقة مُوكِّله المجلس كقبض مُوكِّله ولو مات أحدهما قبل القبض فسد العقد
(34)
(والدراهم والدنانير تتعيَّن بالتَّعيين في العقد)؛ لأنها عوض مشار إليه في العقد، فوجب أن تتعيَّن كسائر الأعواض (فلا تُبدَّل) بل يلزم تسليمها إذا طُولب بها؛ لوقوع العقد على عينها
(35)
..........................................................
(34)
مسألة: يُشترط في صحة الصَّرف - وهو: بيع نقد بنقد - أن يقبض المشتري المبيع ويقبض البائع الثمن في مجلس العقد، وعدم تفرقهما بأبدانهما، أو وكيلهما قبل ذلك، فإن تفرَّقا أو مات أحدهما: فإن البيع يفسد، ولو تقابضا البعض دون البعض الآخر: فيصح فيما قُبض وبطل العقد فيما لم يُقبض، فمثلاً: لو اشترى زيد ألف درهم بمائة دينار، أو اشترى أربعمائة ريال بمائة دولار: فإنه يصح إذا تقابض البائع والمشتري الثمن والمثمن في نفس المجلس، ولا يصح بدون ذلك؛ للسنة القولية: وهي من وجوه: أولها: قوله عليه السلام: "وبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد" حيث أوجب: التقابض في المجلس؛ لأن ذلك هو اللازم من قوله: "يدًا بيد" ولأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، ثانيها: أنه عليه السلام "قد نهى عن بيع الذهب بالورق ديناً" ثالثها: أنه نهى "أن يُباع غائب بناجز منها" والنهي في النَّصَّين مطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد، وعليه: فيفسد البيع والصرف إذا تفرّقا قبل التقابض بموت أو غيره، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التأخير في مثل ذلك يؤدي عادة إلى الاختلاف والتنازع، فيفضي إلى أكل أموال الناس بالباطل.
(35)
مسألة: النقود والأثمان كالدراهم والدنانير، والريالات التي يُباع بها ويُشترى تتعيَّن إذا عيّنها البائع والمشتري عند العقد، ويحصل التعيين بالرؤية، وبالقول، وبالإشارة: سواء ضُمَّ إليها اسم النقد أو لا كقوله: "بعتك هذا الثوب بهذه الدراهم" أو "بعتك هذا بهذه" أو "بعتك هذه الدنانير بهذه الدراهم"، ولذا: لا =
(وإن وجدها مغصوبة: بطل) العقد كالمبيع إذا ظهر مُستحقاً
(36)
وإن تلفت قبل القبض فمن مال بائع إن لم تحتج لوزن أو عدٍّ
(37)
(و) إن وجدها (معيبة من جنسها) كالوضوح في الذهب، والسواد في الفضة:(أمسك) بلا أرش إن تعاقدا على مثلين كدرهم فضة بمثله، وإلا: فله أخذه في المجلس، وكذا: بعده من غير الجنس (أو ردَّ)
يجوز للبائع أو للمشتري أن يُبدل ذلك بغير ما عُيِّن عند العقد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن سائر الأعواض تتعيَّن عند العقد، ولا يجوز إبدالها كبيع هذا البعير بهذه الثياب فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلاًّ منها عوض في عقد، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنهما قد يُعيِّنان النقدين، أو أحدهما؛ لغرض قصداه، فإذا أُبدل: فات عليهما أو على أحدهما هذا الغرض والمقصد، فتلحقه مفسدة، فدفعاً لذلك شرع هذا.
(36)
مسألة: إذا ظهر أن الدراهم أو الدنانير المعينة مغصوبة أو مسروقة: فالعقد يبطل، فمثلاً: لو اشترى زيد من بكر ثوباً بعشرة دراهم، فتبيَّن أن تلك العشرة قد سرقها زيد: فالعقد يبطل؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو اشترى زيد من بكر ثوباً بعشرة فتبين أن الثوب مغصوب أو مسروق؛ فإنه يبطل العقد، فكذلك العكس، والجامع: أن كلاًّ منهما قد أجرى العقد على ما لا يملكه، ولا يجوز بيع ما لا يُملك، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية أموال الناس وحقوقهم من السرقة.
(37)
مسألة: إذا تلفت الدراهم أو الدنانير المعيَّنة بعقد قبل القبض: فإنه يحسب من مال البائع، إن لم تحتج الدراهم والدنانير لوزن أو عد، أما إن احتاجت لهما أو لأحدهما: فإنه يُحسب من مال المشتري؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المبيع المعين لو تلف: فإنه يُحسب من مال البائع، فكذلك الحال هنا، والجامع: التعيين في كل، فإن قلتَ: لِمَ كان يُحسب من مال المشتري - وهو الباذل - إذا احتيج إلى وزن أو عد؟ قلتُ: لتأخيره القبض على البائع.
العقد للعيب
(38)
، وإن وجدها معيبة من غير جنسها كما لو وجد الدراهم نحاسا: بطل العقد؛ لأنه باعه غير ما سمَّى له
(39)
. (ويحرم الربا بين المسلم والحربي) بأن يأخذ المسلم زيادة من الحربي؛ لعموم ما تقدَّم من الأدلة (و) يحرم الربا (بين المسلمين مطلقًا بدار إسلام أو حرب)؛ لما تقدَّم
(40)
، ........................................
(38)
مسألة: إذا وجد المشتري الدراهم أو الدنانير معيبة بعيب من جنسها كوجود البياض في الذهب، والسواد في الفضة، والشقوق فيهما ونحو ذلك: فهو بالخيار: إن شاء أمسك بلا إرش، إذا تعاقدا على مثلين كبيع درهم بدرهم، أو بيع دينار بدينار، أما إن كان العقد على غير المثلين: كبيع درهم بدينار: فله أخذ الأرش في المجلس، أو بعده من غير جنسه فيأخذ بعض البر كأرش لذلك، وإن شاء: ردَّ المبيع بسبب ذلك العيب، ولا يأخذ بدله؛ للتلازم؛ حيث إن العقد قد تمَّ على عوضين سليمين، ويلزم من وجود العيب: عدم السلامة، فيلزم الردُّ، فإن أسقط حقه: فإنه يُمسكه بلا أرش - أي: لا يأخذ بدل هذا العيب -، فإن قلتَ: لِمَ لا يأخذ الأرش؟ قلتُ: لأنه لو أخذ الأرش: للزم من ذلك زيادة في بيع الجنس بجنسه، وهذا ربا.
(39)
مسألة: إذا وجد المشتري الدراهم أو الدنانير معيبة بعيب من غير جنسها: بطل عقد البيع: سواء كان العيب كثيرًا أو قليلًا كما لو وجد الدراهم نحاساً أو رصاصاً، للقياس؛ بيانه: كما لو باعه فرساً بألف ريال فبان للمشتري: أنه ليس بفرس بل بغل: فإنه يبطل البيع، فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما قد باعه غير ما سُمِّي له.
(40)
مسألة: ربا الفضل، وربا النسيئة يحرمان بين المسلمين الموجودين في ديار الإسلام أو في ديار الحرب، ويحرمان بين المسلم والكافر مطلقًا؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب وهو من وجهين: أولهما: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وهذا عام فيشمل أفراد المسلمين، وعام في الأماكن؛ لأن "الربا" اسم جنس قد =
إلّا بين سيد ورقيقه
(41)
، وإذا كان له على آخر دنانير فقضاه دراهم شيئًا فشيئًا، فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدينار: صحّ، وإن لم يفعل ذلك، ثم تحاسبا بعد فصارفه بها وقت المحاسبة: لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين
(42)
، وإن قبض أحدهما من
عُرِّف بأل وهو من صيغ العموم، ثانيهما: قوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وهو عام مطلقًا - كما سبق - ولفظ "ذروا" فيه "واو الجمع" وهي من صيغ العموم أيضًا ولفظ "ذروا" أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، وترك الواجب حرام، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "إنما الربا في النسيئة" وهو عام كما سبق، ثانيهما: قوله: "فمن زاد أو استزاد فقد أربى" وهو عام لأن "من" الشرطية من صيغ العموم، الثالثة: القياس بيانه: كما أن الربا محرَّم بين المسلمين في ديارهم، فكذلك محرم بين المسلمين وغيرهم من الكفار في ديار المسلمين، أو في ديار الكفار، والجامع: دفع الضرَّر في كل، وهو المقصد من ذلك الحكم.
(41)
مسألة: ربا الفضل، أو النسيئة يجوزان بين السيد ورقيقه: سواء كان ذلك الرقيق مُدبَّراً - وهو المعتق بعد وفاة السيد - أو كانت أم ولد - وهي: التي أتت بولد من سيدها - أو مكاتباً إذا قال له: "سأعطيك تسعة عن عشرة وهو آخر قسط الأقساط التي عليّ لك"؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كون المال والعبد ملكًا للسيد: جواز ذلك؛ إذ لا ضرر على أحد فيه وهو المقصد منه.
(42)
مسألة: إذا كان زيد يُطالب بكراً عشرة دنانير: فبدأ بكر يقضي ما عليه بالدراهم شيئًا فشيئًا ويقول له: "هذه الأربعة دراهم عن دينارين، كل شيء بما يُقابله": فإن هذا يصح هذا الصَّرف، أما إن أعطاه الدراهم ويسكت، ثم حاسبه بعد ذلك فصارفه بها وقت المحاسبة: فلا تصح المصارفة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ذلك أن يكون بيع دين بدين؛ لكونهما تبايعا في الذمَّة، وهذا لا يصح ويلزم من قوله =
الآخر ما له عليه، ثم صارفه بعين وذمَّة: صحَّ
(43)
.
له: "إن هذه الأربعة دراهم عن دينارين": صحة ذلك؛ لعدم وجود المانع منه شرعًا.
(43)
مسألة: إذا كان زيد يُطالب بكراً عشرة دنانير، فقضى بكر ذلك بدراهم شيئًا فشيئًا، ولم يحسب عليه كل درهم بحسابه من العشرة دنانير، فلما تمت مقابلة كل دينار من الدرهم: أخذ بكر من زيد الدراهم ثم مدَّها إلى زيد قائلاً: "هذه عمّا في ذمّتي من الدنانير، فيكون مصارفاً له بعين وذمّة: فإن هذا يصح؛ للتلازم؛ حيث إن وجود عين وذمّة في هذا يلزم منه: صحة ذلك، فلا محذور فيه.
هذه آخر مسائل باب "الربا والصرف" ويليه باب "بيع الأصول والثمار".
باب بيع الأصول والثمار
"الأصول": جمع أصل، وهو: وهو ما يتفرَّع عنه غيره، والمراد هنا: الدور، والأرض، والشجر، "والثمار": جمع ثمر، كجبل وجبال، وواحد الثمر: ثمرة، (إذا باع دارًا) أو وهبها، أو رهنها، أو وقفها، أو أقرَّ، أو أوصى بها:(شمل) العقد (أرضها) أي: إذا كانت الأرض يصح بيعها، فإن لم يجز كسواد العراق فلا (و) شمل (بناءها وسقفها) لأنهما داخلان في مُسمَّى الدار (و) شمل (الباب المنصوب) وحلقته (والسُّلَّم، والرَّف المسمورين والخابية المدفونة) والرحى المنصوبة، لأنه متصل بها؛ لمصلحتها، أشبه الحيطان، وكذا المعدن الجامد، وما فيها من شجر وعرش (دون ما هو مودع فيها من كنز) وهو المال المدفون (وحجر) مدفون (ومنفصل منها كحبل ودلو، وبكرة، وقفل ومفتاح) ومعدن جار وماء نبع، وحجر رحى فوقاني؛ لأنه غير متصل بها، واللفظ لا يتناوله، ولو كانت الصيغة المتلفظ بها الطاحونة، أو المعصرة: دخل الفوقاني كالتحتاني
(1)
(وإن باع أرضاً) أو وهبها، أو وقفها، أو رهنها، أو
باب بيع الأصول والثمار
وفيه ثمان وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: إذا باع زيد دارًا على بكر: فإنه يلزم من هذا البيع والعقد: أن يملك بكر كل ما هو متصل بها لمصلحتها كأرضها، وسقفها، وحيطانها، وسطحها، ومفتاحها، والسلالم، والرفوف المنصوبة، وأي شيء مدفون فيها كالخوابي، والرحى التحتاني المدفون، وبابها، وحلقته، والمعدن المدفون فيها كذهب وفضة، وكل شجر ونخل، وعرش تُقام عليها الأشجار والعنب، أما ما هو منفصل عنها مثل الكنز المدفون فيها من ذهب أو فضة، أو حجر مدفون، أو حبل البئر، والدلو، والبكرة، والفرش، والأثاث، وحَجَر الرحى الفوقاني، وماء جارٍ إلى غير تلك الدار المباعة فلا يتبعها؛ للمصلحة: حيث إن =
أقرَّ، أو أوصى بها (ولو لم يقل: بحقوقها: شمل) العقد (غرسها وبناءها) لأنهما من حقوقها، وكذا: إن باع ونحوه بستاناً؛ لأنه اسم للأرض، والشجر والحائط
(2)
(وإن كان فيها زرع) لا يُحصد إلّا مرة (كبر، وشعير: فلبائع) ونحوه (مبقى) إلى أول وقت أخذه بلا أجرة، ما لم يشترطه مشتر (وإن كان) الزرع (يُجزُّ) مرارًا كرطبة وبقول (أو يُلقط مرارًا) كقثَّاء، وباذنجان و كذا: نحو ورد (فأصوله للمشتري)؛ لأنها تراد للبقاء
ما لا يمكن الاستفادة من الدار استفادة كاملة إلّا به يتبعها؛ وهو غير المنفصل كالأمثلة السابقة وهي تشبه الحيطان، أما ما يمكن الاستفادة بالدار بدونها وهي المنفصلة - كما سبق من الأمثلة - فلا يتبعها، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: حتى يعرف كل واحد من المتبايعين ما له وما عليه، (فرع) إذا نُصَّ على أن الطاحونة، أو المعصرة تابعة للبيع: فإنه يدخل في عقد البيع الرحى الفوقاني والتحتاني، وكل شيء يخص ذلك؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من النص على ذلك: دخولهما (فرع ثان): المفتاح متصل بالدار، وهو من مصالحها فيدخل ضمن عقد البيع من باب التلازم، تنبيه: قوله: "إذا كانت الأرض يصح بيعها" يحترز به عن الأرض الموقوفة، فلا يصح بيعها كما سيأتي، تنبيه آخر: قوله: "فإن لم يجز كسواد العراق: فلا" هذا أورده على مذهبه، وقد بيّنا في مسألة (32) من "حقيقة البيع وحكمه وشروط صحته وموانعه" جواز بيع أراضي العراق كغيرها من أراضي ديار الإسلام.
(2)
مسألة: إذا باع زيد أرضاً، أو بستاناً، أو مزرعة على بكر: فإنه يلزم من هذا العقد والبيع: أن يملك بكر كل ما وُجد في هذه الأرض من غرس، وبناء، وأشجار؛ للتلازم؛ حيث يلزم من العقد: أن يتبع المشتري كل ما ذكر، لأن العقد يقتضيها (فرع) حكم هبة الأرض والبستان والمزرعة أو الدار، أو رهنها، أو وقفها، أو الإقرار بها، أو الوصية بها ونحو ذلك كحكم بيعها فيما يتبع.
فهي كالشجرة (والجزَّة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع)، وكذا: زهر تُفتح؛ لأنه كالثمر الموبَّر، وعلى البائع قطعها في الحال (وإن اشترط المشتري ذلك: صح) الشرط، وكان له كالثمر المؤبَّر إذا اشترطه مشتري الشجر
(3)
، ويثبت الخيار لمشترٍ ظنَّ دخول ما ليس له من زرع وثمر كما لو جهل وجودهما
(4)
، ولا يشمل بيع قرية
(3)
مسألة: إذا كان في تلك الأرض التي باعها زرع كالبر والشعير ونحوهما مما يحصد مرَّة واحدة في العام: فإنه يكون للبائع ونحوه كواهب، وراهن، ومقر، وموصي بها، فعلى هذا: يُبقى حتى يأتي وقت حصده فيأخذه البائع بدون دفع أُجرة، أما إن كان في تلك الأرض المباعة زرع، يُحصد، أو يُجزُّ، أو يُلقط عدَّة مرَّات في العام الواحد كالنعناع، والكراث، والقتِّ، والخيار، وبعض أنواع القرع ونحو ذلك: فإنَّ أول حصدةٍ، وأول جزَّة، وأول لقطة ظاهرة عند العقد تكون للبائع، أما أصول الشجر فهي للمشتري، وإن اشترط المشتري: أن يكون هذا الزرع الذي يحصد أو يُلقط، أو يُجزُّ مرَّة، أو مرَّات له: فإنه يصح هذا الشرط إذا تراضيا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تمام العقد على بيع الأرض ما ذكرناه؛ لكون العادة قد اقتضت ذلك، ويلزم: أن لا يتبع الزرع المحصود أو الملقوط للمشتري؛ لكون البائع هو المودع له في الأرض كالكنز، ويلزم من اشتراط المشتري أو البائع أيِّ شرط: العمل به؛ لكون المسلمين على شروطهم، وهو كالثمر المؤبَّر والمقصد منه: بيان حقوق كل واحد من المتبايعين كما سبق.
(4)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر أرضاً فيها زرع ونخل، وكان زيد جاهلاً: فظن دخول بعض المزروعات، والثمار الظاهرة في ملكه، أي: اعتقد أنه يملك كل شيء من حين العقد؛ وكان ممن يجهل مثله فبان أنه ليس له: فإنه له الخيار: إن شاء أمسك وأمضى البيع، وإن شاء ردَّ؛ للتلازم؛ حيث يلزم من جهله لذلك: تضرُّره بفوات منفعة البيع، والخيار شُرع لرفع الضرَّر فيثبت له (فرع) يُقبل قول =
مزارعها بلا نص أو قرينة
(5)
.
فصل: (ومن باع) أو وهب، أو رهن (نخلاً تشقَّق طلعه) ولو لم يؤبَّر:(فـ) الثمر (لبائع مُبقى إلى الجذاذ إلا أن يشترطه مشتر) ونحوه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبَّر: فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترطه المبتاع) متفق عليه. والتأبير: التلقيح، وإنما نصَّ عليه والحكم منوط بالتَّشقُّق؛ لملازمته له غالبًا، وكذا: لو صالح بالنخل، أو جعله أجرة، أو صداقاً، أو عوض عن خلع
(6)
، بخلاف وقف، ووصية: فإن
مدّعي الجهل مع يمينه على أنه يجهل ذلك، ويُفعل به كما يُفعل فيما لو جهل البائع وجود الزرع والثمر: فله الخيار.
(5)
مسألة: إذا باع زيد على بكر قرية: فإن البيع يشمل الدور، والأسوار فقط، ولا يشمل المزارع الموجودة فيها إلا إذا وُجد دليل يدلُّ على شمول البيع للمزارع كنص: بأن يقول زيد: "بعتك هذه القرية بمزارعها وثمارها" أو قرينة كأن يقول زيد: "بعتك هذه القرية وأرضها" أو بذل بكر ثمناً يصلح للقرية ولمزارعها؛ للتلازم؛ حيث إن العقد على بيع القرية يقتضي بيع الدور والأسوار فقط فيلزم ذلك، دون دخول المزارع، لعدم اقتضاء العقد لها، ولزم من ذكر الدليل على دخول المزارع: دخولها؛ عملًا به.
(6)
مسألة: إذا باع زيد على بكر نخلاً بعد أن أبَّره - أي: لقَّحه زيد بوضع طلع الفحل على طلع النخل -: فإن الثمر يكون للبائع - وهو زيد هنا - فيجب على بكر أن يُبقيه على النخل إلى وقت جذاذ النخل، فيأخذه البائع، أما إن اشترط المشتري - وهو هنا بكر - قائلاً:"اشتريت منك هذا النخل بشرط: أن يكون هذا الثمر معه" وقبل البائع: فيصح ذلك! للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبَّر: فثمرتها للذي باعها إلّا إن يشترطه المبتاع" فعلَّق الحكم - وهو: كون الثمرة للبائع - بما إذا أبَّره، ودلَّ مفهوم الزمان على أن الثمر يكون للمشتري قبل التأبير، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن البائع قد =
الثمرة تدخل فيهما: أُبِّرت أو لم تؤبَّر كفسخ لعيب ونحوه
(7)
(وكذلك) أي: كالنخل (شجر العنب، والتوت، والرمان وغيره) كجمِّيز من كل شجر، لا قشر على ثمرته، فإذا بيع ونحوه بعد ظهور الثمرة: كانت للبائع ونحوه (و) كذا (ما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه: جمع "كُم" وهو: الغلاف (كالورد)
بذل جهده في سقيه ومُراعاته حتى وبَّره، فدفعاً للضَّرر: جُعلت ثمرته له، فإن قلت: لِمَ وجب على المشتري أن يُبقيه للبائع حتى الجذاذ؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن لا نفع فيه إلا بعد أن يحين جذاذه؛ لكونه صالحًا للأكل، وهذا على حسب العادة والعرف، فإن قلتَ: إنه يكون للبائع بعد أن يتشقَّق طلعه وظهر: سواء حصل تأبيره، أو لا وهو ما ذكره المصنف هنا: للتلازم؛ حيث إن تشققه ملازم للتأبير غالبًا قلتُ: لا داعي لهذا مع نصّه عليه على أن الحكم منوط بتأبيره، والتشقق لا يلزم منه التأبير فقد يُؤبِّره البائع بعد تشققه، وقد لا يُؤبِّره، فلذا نصَّ الشارع على التأبير؛ ليكون أوضح، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل تحقق التشقق يلزم منه تحقق التأبير أو لا؟ فعندنا: لا، وعندهم: نعم، (فرع) حكم من وهب نخلاً أو رهنه، أو صالح به، أو دفعه جعلاً أو أجرة عمل، أو دفعه صداقاً، أو دفعه عوضًا خلع، أو عوض طلاق، أو عتق: كحكم من باعه بعد تأبيره؛ حيث يكون الثمر لمن وهب، أو رهن، أو صالح، أو الجاعل، أو المؤجِّر، أو الدافع صداقاً، أو عوضًا، أو المعتوق، إلا أن يشترطه الموهوب والمرتهن، أو المصالح به، أو المستأجر، أو المدفوع لها صداقاً، أو عوضًا مخالعة لها، أو المطلقة، أو المعتق؛ للقياس على البائع.
(7)
مسألة: إذا أوقف زيد نخله، أو أوصى به: فإن الثمر يكون لمن أوقف عليهم، أو الموصى لهم، دون زيد: سواء أُبِّرت، أو لم تؤبَّر، للمصلحة: حيث إن المقصود هو: نفع الموقوف عليهم، والموصى لهم: فدخل الثمر العاجل في ذلك، لاستعجال انتفاعهم.
والبنفسج (والقطن) الذي يحمل في كل سنة؛ لأن ذلك كله بمثابة تشقُّق الطلع (وما قبل ذلك) أي: قبل التشقق في الطلع والظهور في نحو العنب، والتوت والمشمش، والخروج من الأكمام في نحو الورد، والقطن (والورق: فلمشتر) ونحوه، لمفهوم الحديث السابق في النخل، وما عداه: فبالقياس عليه
(8)
، وإن تشقَّق أو ظهر بعض ثمره ولو من نوع واحد: فهو لبائع، وغيره لمشتر إلّا في شجرة: فالكل لبائع ونحوه
(9)
(8)
مسألة: إذا باع زيد شجراً على بكر: ففيه تفصيل من حيث ما يتبع البائع والمشتري هو كما يلي: أولًا: إذا كانت ثمرته في أكمام وغلاف، ثم تتفتَّح فتظهر كالقطن، والورد، والياسمين، والنَّرجس، والبنفسج: فما تفتَّح منه: فهو للبائع، وما لم يتفتَّح منه: فهو للمشتري، ثانيًا: ما ظهرت ثمرته بارزة لا قشر عليها ولا نور كالتين، والتوت، والعنب: فما ظهرت ثمرته ونفعه: فهو للبائع، وما لم تظهر فهو للمشتري، ثالثًا: ما يظهر في قشره، ثم يبقى فيه إلى حين الأكل كالموز، والرمان: فما ظهر: فهو للبائع، وما لم يظهر: فهو للمشتري، رابعاً: ما يظهر في قشرين كالجوز واللوز: فما ظهر فللبائع وما لم يظهر: فللمشتري، خامسًا: ما يظهر نوره، ثم يتناثر فتظهر الثمرة كالتفاح والمشمش، والخوخ: فما ظهر نوره وثمرته: فللبائع، وما لم تظهر فللمشتري سادسًا: الأوراق والأغصان، وسائر أجزاء الشجرة المباعة: للمشتري؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن النخل إذا ظهر طلعه فأبِّرت: فإنه للبائع، وإن لم يظهر أو لم تؤبَّر فهو للمشتري فكذلك تلك الأشجار مثل النخل والجامع: أن كلاًّ منهما له ثمر له ظهور وخفاء، ثانيهما: كما أن الحيطان والأسقف للمشتري للدار فكذلك الأغصان والأوراق تابعة للمشتري، والجامع: أنه لا يتم الاستفادة من المبيع إلّا به، فهو يُعتبر من أجزائها وخلق لمصلحتها.
(9)
مسألة: إذا ظهر بعض طلع النخل، أو بعض ثمر الشجر من نوع واحد: فإن الكل يكون للبائع؛ للمصلحة: حيث إنه لو لم يُجعل كله للبائع: للحق الضَّرر بكل من =
ولكل السقي؛ لمصلحة، ولو تضرَّر الآخر
(10)
(ولا يُباع ثمر قبل بدو صلاحه)؛ لأنه عليه السلام: "نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع" متفق عليه، والنهي يقتضي الفساد (ولا) يُباع (زرع قبل اشتداد حبِّه)؛ لما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري"
(11)
(ولا) تُباع (رطبة وبقل، ولا قثاء
البائع والمشتري بسبب الاشتراك، وكثرة الاختلاف في ذلك عادة، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن طلع النخل، وثمر الشجر من النوع الواحد يتلاحق ويتقارب، فإن قلتَ: إنه إذا ظهر بعض طلع النخل: فإن للبائع ما ظهر، دون ما لم يظهر، أما إن ظهر بعض ثمر الشجر: فإن الكل يكون للبائع قلتُ: لم أجد دليلًا على هذا التفريق لا سيما في النوع الأول؛ لكون العادة اقتضت أنه إذا ظهر طلع نخلة: فإنه يظهر طلع النخلة الأخرى أو يقرب من ذلك بوقت لا يتحمَّل هذا التفريق.
(10)
مسألة: إذا باع زيد نخلاً على بكر بعد تأبيرها: أو شجراً بعد ظهور طلعها: فالثمر للبائع، وله سقي ذلك حتى الجذاذ: سواء تضرَّر المشتري أو لم يتضرَّر، وكذلك المشتري يسقي أصول النخل والشجر، سواء تضرَّر البائع أو لا، ويُرجع في ذلك إلى أهل الخبرة بالمزروعات والمغروسات؛ للتلازم؛ حيث إن العقد يقتضي أن يهتم كلٌّ بما يملكه، فلزم: أن يفعل فيه ما تقتضيه مصلحته.
(11)
مسألة: يحرم بيع ثمر من نخل أو شجر قبل أن يحمرَّ أو يصفرَّ، وهو: ظهور صلاحه للأكل، ويحرم بيع الزرع من بُرٍّ، أو ذرة، أو أرز ونحوها قبل أن يشتدَّ حبُّه ويصلب، وإذا وقع بيع هذين النوعين قبل ذلك: فإن البيع فاسد؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يشتدَّ ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري" والمراد بالزهو: هو بدو الصلاح، بيَّنه الحديث الآخر؛ "حيث نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها" والنهي هنا =
ونحوه كباذنجان، دون الأصل) أي: منفردة عن أصولها؛ لأن ما في الأرض مستور مغيَّب، وما يحدث منه معدوم، فلم يجز بيعه كالذي يحدث من الثمرة
(12)
فإن أُبيع الثمر قبل بدو صلاحه بأصوله، أو الزرع الأخضر بأرضه، أو أبيعا لمالك أصلهما، أو أبيع قثاء ونحوه مع أصله: صح البيع؛ لأن الثمر إذا أبيع مع الشجر، والزرع إذا أبيع مع الأرض: دخلا تبعًا في البيع، فلم يضرُّ احتمال الغرر، وإذا أبيعا لمالك الأصل: فقد حصل التسليم للمشتري على الكمال
(13)
(إلا) إذا باع الثمرة قبل بدو
مطلق، فيقتضي التحريم، والفساد، فإن قلت: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه بعد بدو الصلاح، واشتداد الحب يبعد وجود عاهة في الثمر والحب عادة، وقبل ذلك: لا تؤمن العاهة والمرض فيها كما أشار إلى ذلك الحديث السابق، وهذا فيه حماية للمشتري من الضرر.
(12)
مسألة: النبات الذي يُنتفع بأصوله التي تحت الأرض كالرَّطبة - وهي: علف مفضّل لدى البهائم - والبقل - وهي ما اخضرَّت به الأرض - والقثَّاء - وهو: الخيار - والباميا، والباذنجان: هذه كلها لا يجوز بيعها منفردة دون أصولها وعروقها المغيبة في الأرض؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز بيع شيء لم يحدث من الثمرة، فكذلك لا يجوز بيع تلك النباتات لوحدها، بل لا بدَّ من بيعها مع أصولها والجامع: أنه في كل منها بيع معدوم؛ حيث إنه مستور مُغيَّب، ومعلوم: أن بيع المعدوم لا يجوز، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه غرر وجهالة يُؤدِّي إلى أكل أموال الناس بالباطل.
(13)
مسألة: يصح بيع الثمر قبل بدو صلاحه مع أصوله وهو شجره، وكذا: يصح بيع الزرع الأخضر قبل اشتداد الحب مع أرضه، وكذا: يصح ما سبق إذا بيعا على مالك أرضهما وأصول شجرهما، وكذا: إن بيع القثَّاء، والبقل، والباذنجان مع أصوله، ولو لم تُبع معه أرضه؛ للتلازم؛ حيث إن بيع الثمر، والزرع مع أصله وأرضه يلزم منه أن الثمر والزرع الأخضر قد دخلا تبعًا في البيع، وقد يكون فيه =
صلاحها، أو الزرع قبل اشتداد حبِّه (بشرط: القطع في الحال) فيصح: إن انتفع بهما؛ لأن المنع من البيع لخوف التلف، وحدوث العاهة، وهذا مأمون فيما يقطع (أو) إلا إذا باع الرطبة والبقول (جزَّة) موجودة فـ (جزَّة) فيصح؛ لأنه معلوم لا جهالة فيه ولا غرر (أو) إلا إذا باع القثاء ونحوها (لقطة) موجودة فـ (لقطة) موجودة؛ لما تقدَّم، وما لم يُخلق: لم يجز بيعه
(14)
(والحصاد) لزرع، والجذاذ لثمر (واللقاط) لقثاء ونحوها (على المشتري)؛ لأنه نقل لملكه، وتفريغ لملك البائع عنه فهو كنقل الطعام
(15)
(وإن باعه) أي الثمر قبل بدو صلاحه، أو الزرع قبل اشتداد حبه،
غرر وجهالة يسيران محتملان كما احتملت الجهالة في بيع اللَّبن في الضرع مع الشاة، والنوى في التمر مع التمر فيلزم من ذلك: صحة البيع، ويلزم من بيع الثمر لمالك الشجر، والزرع الأخضر لمالك الأرض: صحة البيع أيضًا؛ لكونه قد ملك الثمر والزرع والأصول، والأرض: فلم يكن فيه جهالة.
(14)
مسألة: يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع قبل اشتداد حبه، والرطبة والبقول والقثاء ونحو ذلك بشرط: أن يقوم المشتري بقطعه وجزِّه ولقطه بعد العقد مباشرة؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك لا غرر فيه ولا جهالة فيلزم صحته، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا مضرَّة على أحد في ذلك؛ لأن المنع من البيع بدون ذلك الشرط كان لخوف التلف وضرر المشتري ولكن هذا الخوف غير موجود هنا؛ لكونه سيقوم بقطعه وجزه ولقطه بعد العقد مباشرة، لذلك لا يصح بيع ما لم يخلق من الثمر ونحوه؛ لعدم التمكّن من قطعه، أو جزه أو لقطه، ولكونه معدوماً، والمعدوم لا يصح بيعه.
(15)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر شجراً بعد بدو صلاح ثمره، أو زرعًا بعد اشتداد حبه، أو باذنجاناً أو قثاء: فإن حصاد الزرع، وجذاذ الثمر، ولقط القثاء ونحو ذلك على المشتري؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيداً لو اشترى طعاماً من بكر: فإن نقل الطعام وحمله على المشتري - وهو زيد هنا - فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه =
أو القثاء ونحوه (مطلقًا) أي: من غير ذكر قطع، ولا تبقية: لم يصح البيع؛ لما تقدَّم (أو) باعه ذلك (بشرط البقاء): لم يصح البيع؛ لما تقدَّم
(16)
(أو اشترى ثمرًا لم يبد صلاحه بشرط القطع، وتركه حتى بدا) صلاحه: بطل البيع بزيادته:؛ لئلا يُجعل ذلك ذريعة إلى شراء الثمرة قبل بدو صلاحها، وتركها حتى يبدو صلاحها، وكذا: زرع أخضر بيع بشرط: القطع، ثم ترك حتى اشتد حبُّه (أو) اشترى (جزَّة) ظاهرة من بقل أو رطبة (أو) اشترى (لقطة) ظاهرة من قثاء ونحوها، ثم تركهما (فنمتا): بطل البيع؛ لئلا يُتّخذ حيلة على بيع الرطبة ونحوها، والقثاء ونحوها بغير شرط القطع
(17)
(أو
في كل منهما نقل لما دخل تحت مُلكه، وتفريغ لملك البائع عنه، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك على المشتري، بينما كان نقل مكيل وموزون على البائع؟ قلتُ: لأن المكيل والموزون يُعتبران من مؤنة تسليم المبيع، وهو على البائع، أما هنا: فإن التسليم يحصل بالتخلية بدون قطع، أو جز، أو حصد، ولذلك يجوز بيعها والتصرُّف فيها وهي لم تقطع أو تحصد أو تجز أو تلقط، وهذا هو سبب التفرقة بين الأمرين.
(16)
مسألة: إذا باع شخص ثمرة قبل بدو صلاحها، أو زرعًا قبل اشتداد حبِّه، أو قثاء أو نحوه مطلقًا، ولم تشترط التبقية، ولا القطع، ولا الحصد، أو باع ذلك بشرط البقاء؛ فلا يصح البيع في الحالتين؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يشتد ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري" والنهي هنا مُطلق، فيقتضي فساد المنهي عنه، وقد سبق بيان ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه غرر وجهالة تؤدِّي إلى أكل أموال الناس بالباطل.
(17)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر ثمرًا لم يبد صلاحه بشرط القطع، أو اشترى زرعًا أخضر لم يشتد بشرط القطع، أو اشترى جزَّة ظاهرة من بقول أو رطبة أو كراث، أو قت أو نحو ذلك، أو اشترى لقطة مما يُلقط كالقثاء والبطيخ ولكن المشتري - وهو زيد - ترك الثمر حتى بدا صلاحه، وترك الزرع حتى اشتدَّ، وترك =
اشترى ما بدا صلاحه) من ثمر (وحصل) معه (آخر واشتبها): بطل البيع، قدَّمه في "المقنع" وغيره، والصحيح: أن البيع صحيح، وإن علم قدر الثمرة الحادثة دفع للبائع، والباقي للمشتري، وإلا: اصطلحا، ولا يبطل البيع؛ لأن المبيع اختلط بغيره، ولم يتعذَّر تسليمه، والفرق بين هذه والتي قبلها: اتخاذه حيلة على شراء الثمرة قبل بدوّ صلاحها كما تقدَّم
(18)
(أو) اشترى رطباً (عرية) - وتقدَّمت صورتها في الربا - فتركها (فأتمرت) أي: صارت تمراً: (بطل) البيع؛ لأنه إنما جاز للحاجة إلى أكل الرطب فإذا أتمر: تبيّنا عدم الحاجة: سواء كان الترك لعذر أو لا (والكل) أي: الثمرة وما حدث معها على ما سبق (للبائع)؛ لفساد البيع
(19)
(وإذا بدا) أي: ظهر (ماله صلاح في
ما يُجزُّ وما يُلقط حتى كبُر ونما: فإن البيع يبطل؛ للمصلحة: حيث إن ذلك قد يُتخذ ذريعة وحيلة لشراء هذه الأشياء وتركها؛ ليستفيد المشتري ويتضرر البائع، فسداً لذلك: بطل البيع من أصله، ويأخذ المشتري الثمن الذي دفعه، وهذا هو المقصد الشرعي منه.
(18)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر ثمرًا قد بدا صلاحه، أو زرعًا قد اشتد حبه واختلط معه غيره، واشتبه به، وتعسَّر التمييز بينهما: فإن البيع يبطل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من هذا الاختلاط، وعدم التمييز بين المباح وغيره: بطلان البيع كبر جيد قد اختلط ببر رديء، أو كثوب صوف قد اختلط بثوب حرير ونحو ذلك. (فرع) إن وُجد تمييز بينه وبين المشتبه به: فلا يبطل البيع؛ للتلازم؛ حيث يُمكن تسليم المبيع فلزم صحته. تنبيه: لا داعي لذكر الخلاف هنا؛ لأن المسألة مفروضة فيما لا يمكن التمييز، فإن قلتَ: إن المبيع اختلط بغيره، ولم يتعذَّر تسليمه قلتُ: إنه لا يمكن تسليم المبيع إذا اختلط بغيره اختلاطاً لا يمكن التمييز بينه وبين المختلط به، فلا فرق بين هذه المسألة، ومسألة (18) من حيث الحكم، ويُوجد فرق بينهما من حيث الدليل.
(19)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر عَريَّة - وهي: شراء نخلة فيها رُطب بقدر خرصها =
الثمرة، واشتدَّ الحبُّ: جاز بيعه) أي: بيع ما ذكر من الثمرة والحب (مطلقًا) أي من غير شرط (و) جاز بيعه (بشرط التبقية) أي: تبقية الثمر إلى الجذاذ، والزرع إلى الحصاد؛ لأمن العاهة ببدو الصلاح
(20)
(وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ) وله قطعه في الحال، وله بيعه قبل جذِّه
(21)
(ويلزم البائع سقيه) بسقي الشجرة الذي هو
تمراً - كما سبق في مسألة (20) من باب "الربا والصرف" - وتركها المشتري - وهو زيد - حتى صار الرُّطب تمراً: فإن البيع يبطل: سواء كان المشتري تركها لعذرٍ أو لا، للتلازم؛ حيث إن العريَّة قد رُخِّص فيها؛ ليأكل المحتاج من رطبها، فلما تركها حتى أتمرت: تبيَّنا عدم حاجته إلى الرطب: فيلزم عدم صحة البيع؛ لكونه انقلب إلى بيع المزابنة المنهي عنه (فرع) لما بطل البيع في المسائل (16 و 17 و 18 و 19) فإن المبيع كله: من ثمر ونحوه يعود للبائع، ويُرجع الثمن كاملًا إلى المشتري؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من بطلان البيع: إرجاع المبيع إلى البائع، وإرجاع الثمن إلى المشتري.
(20)
مسألة: إذا ظهر وبدا صلاح الثمرة، واشتدَّ الحب: جاز بيعهما مُطلقًا من غير اشتراط، وجاز بيعهما بشرط القطع، وبشرط تبقيتهما إلى الجذاذ والحصاد؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن بيع الحب حتى يشتدَّ، وتأمن العاهة" حيث دلّ مفهوم الغاية على جواز بيع ذلك بعد بدو الصلاح، واشتداد الحب وأمن العاهة وهذا يلزم منه إبقاؤه؛ لأن ما يُقطع في الحال لا يُخاف العاهة عليه، وإذا بدا صلاحه فقد أُمنت العاهة، فيلزم من ذلك جواز بيعه مُبقى؛ نظرًا لزوال علَّة المنع، وهذا هو المقصد منه.
(21)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر ثمرًا بعد بدو صلاحه، أو زرعًا بعد اشتداد حبه: فله - أي: للمشتري - أن يُبقيه إلى الجذاذ والحصاد، وله أن يقطعه في الحال، وله أن يبيعه أو يهبه ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن هذا الثمر، والحب قد أصبح في ملك المشتري بسبب قبضه من البائع بتخلية البائع له، فيلزم من ذلك =
عليها (إن احتاج إلى ذلك) أي: إلى السقي، وكذا: لو لم يحتج إليه؛ لأنه يجب عليه تسليمه كاملًا فلزمه سقيه (وإن تضرَّر الأصل) بالسقي، ويُجبر عليه إن أبي
(22)
، بخلاف ما إذا باع الأصل، وعليه ثمر للبائع: فإنه لا يلزم المشتري سقيها؛ لأن البائع لم يملكها من جهته
(23)
(وإن تلفت) ثمرة أبيعت بعد بدو صلاحها دون أصلها قبل أوان جذاذها (بآفة سماوية) وهي: ما لا صنع لآدمي فيها كالريح، والحر والعطش:(رجع) ولو بعد القبض (على البائع): لحديث جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح" رواه مسلم، ولأن التخلية في ذلك ليست بقبض تام، وإن كان التالف يسيرًا لا ينضبط: فات على المشتري (وإن أتلفه) أي: الثمر المبيع على ما تقدَّم (آدمي) ولو البائع: (خُيِّر مشتر بين الفسخ) ومطالبة البائع بما دفع من الثمن (والإمضاء) أي: البقاء على البيع (ومطالبة المتلف) بالبدل
(24)
(وصلاح بعض) ثمرة (الشجرة
تصرف المشتري فيه تصرُّفاً مطلقًا كسائر السلع المباعة المقبوضة.
(22)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر ثمرًا بعد بدو صلاحه، أو زرعًا بعد اشتداد حبه: فإنه يلزم البائع - وهو بكر هنا - سقي شجر الثمر، وزرع الحب إن احتاج إلى ذلك السقي، ويلزمه أيضًا حراسته بما يُحرس مثله: سواء تضرر الأصل - وهو الشجر - بالسقي أو لا، وإن امتنع البائع عن ذلك: أجبره الحاكم على ذلك؛ للتلازم؛ حيث إنه لا يُمكن للبائع أن يُسلِّمه للمشتري إلّا إذا صلح للانتفاع به، ولا يُمكن ذلك إلّا بسقيه حتى يتكامل فلزمه سقيه، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق المشتري.
(23)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر الشجر والنخل وعليها ثمر للبائع - وهو بكر -: لا يلزم المشتري - وهو زيد هنا - سقي ذلك الشجر أو النخل إذا لم يشترطه البائع؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم مُلكية البائع للثمرة من جهة المشتري: عدم إلزام المشتري على سقيها.
(24)
مسألة: إذا اشترى ثمرًا بعد بدو صلاحه، أو زرعًا بعد اشتداد حبه، ثم تلف =
صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان)؛ لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشقُّ
(25)
ذلك: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن كان التلف بآفة سماوية وجائحة تلفاً كثيرًا كالريح، والأمطار الكثيرة، أو حر شديد، أو برد شديد، أو جراد ونحو ذلك: فإن البيع يبطل، ويأخذ المشتري الثمن الذي دفعه من البائع؛ ثانيًا: إن كان التلف يسيرًا كأن يأكل منه الطير أو يتساقط: فإنه يُحسب على المشتري، ثالثًا: إن كان التلف بفعل آدمي - ولو كان البائع -: فإن المشتري يُخيَّر بين فسخ البيع، ويأخذ ما دفعه من البائع أو إمضاء البيع، ويُطالب المشتري البائع ببدل الثمرة أو الحب المتلف والبائع يُطالب المتلِف؛ لقواعد؛ الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من باع ثمرًا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئًا، على ما يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم؟! " وهذا يدلّ على وجوب رد الثمن للمشتري إذا تلف المبيع؛ لكون البيع قد فسد؛ لأن النهي هنا مطلق، وهو يقتضي الفساد، الثانية: المصلحة؛ حيث إن التلف اليسير قد لا يسلم منه أحد، ويصعب التحرُّز منه: فكان فواته يُحسب على المشتري، الثالثة: القياس بيانه: كما أن المكيل إذا أتلفه آدمي قبل القبض: فإن للمشتري الخيار، فكذلك الحالة الثالثة. والجامع: أن كلاًّ منهما لم يتم فيه القبض بالتمام؛ حيث إن التخلية ليست قبضاً تاماً؛ الرابعة: التلازم؛ حيث إن كون مؤنته على البائع إلى تتمَّة صلاحه: أن يلزمه ضمانه إذا تلف بآفة سماوية، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس من أن يتحايل عليها الظلمة فتُؤكل بالباطل.
(25)
مسألة: إذا ظهر صلاح بعض ثمرة شجرة أو نخلة واحدة في بستان يتكوَّن من عدّة أشجار ونخل: فهو يُعتبر صلاحًا لجميع الثمار التي في الأشجار الأخرى، وكذلك النخل، وصلاح بعض الحب الموجود في سنبلة واحدة يُعتبر صلاحًا لجميع الزرع الذي في تلك الأرض، من جنسه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ظهور =
(ويبدو الصلاح في ثمر النخل: أن تحمرَّ أو تصفرَّ)؛ لأنه عليه السلام "نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو" قيل لأنس: وما زهوها؟ قال: تحمار أو تصفار (وفي العنب: أن يتموَّه حلوا)؛ لقول أنس: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى يسودّ" رواه أحمد، ورواته ثقات، قاله في "المبدع" (وفي بقية الثمر) كالتفاح والبطيخ:(أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله)؛ لأنه عليه السلام "نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب" متفق عليه، والصلاح في نحو قثاء: أن يؤكل عادة، وفي حبٍّ: أن يشتدَّ، أو يبيّض
(26)
(ومن باع
صلاح بعضه: صلاح كله لكون الشجر أو الزرع متقارباً في الصلاح عادة وعرفاً إذا كان من جنس واحد، وهذا فيه تيسير؛ فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن اعتبار الصلاح في كل شجرة أو سنبلة يشق على الناس، فدفعاً لذلك: شُرع هذا.
(26)
مسألة: طريقة معرفة بدو الصلاح في الثمار والحبوب، وكل شيء يُلقظ: فيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن كان الثمر ثمر نخل: فيكون بدو صلاحه حين يحمرُّ بلحه أو يصفرُّ، ولو لم يكمل هذا الاحمرار والاصفرار، ثانيًا: إن كان الثمر عنباً فبدو صلاحه إذا ظهرت حلاوته، وظهر ماؤه: سواء كان لونه أسوداً أو أبيضاً، ثالثًا: إن كان الثمر يُلقط - غير النخل والعنب - مثل التفاح والبرتقال، والبطيخ، والرمان، والمشمش، والخوخ، والجوز، والقثاء والباذنجان: فبدو صلاحه يكون حين ينضج ويطيب أكله عادة وعند أهل الخبرة فيه، رابعاً: إن كان الثمر حبًا فبدو صلاحه يكون عند اشتداده، وصُلب حبه؛ للسنة القولية وهي من وجوه: أولها: "نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة حتى تزهو" وفسَّر أنس زهوها بأنه الاحمرار أو الاصفرار، وتفسير الصحابي للحديث مقدَّم على غيره، لكون قوله حجّة، ثانيها:"نهيه عليه السلام عن بيع السنبل حتى يشتدَّ حبُّه" ثالثها: "نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة حتى يطيب أكلها" وهذا على حسب عرف الناس وعاداتهم، إذ لكل ثمرة وقت يطيب أكله فيه، وبداية احمرار، أو اصفرار الثمرة، أو اشتداد الحب، أو =
عبدًا) أو أمة (له مال: فماله لبائعه إلّا أن يشترطه المشتري)؛ لحديث ابن عمر مرفوعًا: "من باع عبدًا وله مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع" رواه مسلم (فإن كان قصده) أي: المشتري (المال) الذي مع العبد (اشترط علمه) أي: العلم بالمال (وسائر شروط البيع)؛ لأنه مبيع مقصود أشبه ما لو ضمَّ إليه عينًا أخرى (وإلا) يكن قصده المال: (فلا) يُشترط له شروط البيع، وصحّ شرطه ولو كان مجهولاً؛ لأنه دخل تبعًا أشبه أساسات الحيطان، وسواء كان مثل الثمن أو فوقه أو دونه، وإذا شرط مال العبد، ثم ردَّه بإقالة أو غيرها: ردَّه معه (وثياب الجمال) التي على العبد المبيع (للبائع)؛ لأنها زيادة على العادة، ولا يتعلَّق بها حاجة العبد (و) ثياب لبس (العادة للمشتري)؛ لجريان العادة ببيعها معه
(27)
، ويشمل بيع دابة كفرس لجاماً
طيب الأكل للثمرة هو علامة جعلها الشارع لبدء صلاحية تلك الثمرة، وحدَّد بها وقت جواز بيعها كما حدَّد الشارع وقت البلوغ بالخمسة عشر سنة، أو الإنبات من القبل، أو خروج المني، والحيض عند المرأة، فإن قلتَ: لِمَ حُدِّد ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تفريق بين وقت الصلاحية والجواز ووقت عدم ذلك.
(27)
مسألة: إذا اشترى شخص عبدًا له مال، أو عليه شيء من الألبسة له قيمة: ففيه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن كان للعبد مال، أو عليه ذهب أو فضة: فإن ذلك كله للبائع إلّا إذا اشترطه المشتري قائلاً: "اشتريته وماله من مال يدخل معه" وقبل البائع، فهنا يكون العبد وماله للمشتري على حسب الشرط؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من باع عبدًا له مال: فماله لبائعه إلّا أن يشترطه المبتاع": أي: إذا اشترطه المشتري: فلا يكون المال للبائع، بل للمشتري؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي. فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: لأن العقد قد تمَّ على عين العبد، دون ماله فيبقى المال لا يتناوله عقد البيع، ثانيًا: إن كان العبد له مال، وكان قصد المشتري للعبد هو: الحصول على ماله، دون العبد نفسه، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واشترط بأن يكون ماله مع بيعه: فيصح اشتراط ذلك - كما سبق في الحالة الأولى -، ولكن يُشترط في ذلك: أن يُوجد فيه شرائط صحة البيع السابقة، ومنها: أن يكون المال معلوم القدر، وأن لا يؤدِّي ذلك إلى التعامل بالربا - كما قلنا في بيع عينين في بيعة واحدة -؛ للقياس؛ بيانه: كما تشترط شروط البيع في بيع عينين في بيعه واحدة: من علم بحقيقة العينين وعدم وجود ربا بينها وبين الثمن، فكذلك في بيع العبد إذا قصد المشتري ماله: فإنه يُشترط فيه ذلك، والجامع: أن كلاً من شراء العبد وماله، وشراء العينين في بيعة واحدة مقصود في البيع، ثالثًا: إذا لم يقصد من شرائه الحصول على مال العبد، وإنما قصد العبد؛ لينتفع به: فهذا لا يُشترط علمه بمال العبد، ولا يُشترط شيء من شروط البيع، ويصحّ أن يشترط: أن يكون مال العبد له: سواء علم مقدار مال العبد حال العقد، أو جهله، وسواء كان المال من جنس الثمن أو لا، وسواء كان المال عينًا أو ديناً، وسواء كان مال العبد مثل ثمنه، أو فوقه أو دونه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن أساسيات الحيطان، والتمويه بالذهب في السقوف، والحمل في البطون تدخل في المبيع تبعًا إذا لم تُقصد بنفسها، ولا يشترط علمها ولا شروط البيع فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلاً منهما غير مقصود في العقد، فصار تبعًا، وحكم التابع حكم المتبوع، رابعاً: إذا ردَّ المشتري العبد الذي له مال بأي سبب من أسباب الرَّد بإقالة، أو خيار، أو بعيب، أو تدليس: فيجب على المشتري هذا أن يرد معه ماله، وإن تلف ماله فيردُّ قيمته؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه قد ردَّ العبد بذلك السبب فكذلك ماله مثله والجامع: أن كلاًّ منهما عين مال أخذه المشتري به فيردَّه بالفسخ، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قيمة العبد تزيد بسبب هذا المال، وتنقص بسبب انعدامه وهذا إضرار بالبائع، فيجب على المشتري أن يدفع ما يُزيل هذا النقص، خامسًا: إذا كان على العبد ثياب زينة وجمال: فهي =
ومقوداً، ونعلاً
(28)
.
للبائع إلا إذا اشترطه المشتري كما قلنا فيما إذا كان له مال، أما إن كانت ثيابه عادية: فهي للمشتري؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنه لو باع دارًا فيها بسط وستائر وأثاث فاخر: فإن هذه الأمور للبائع، فكذلك ثياب الزينة التي على العبد تابعة للبائع، الثانية: العرف والعادة؛ حيث جرت العادة والعرف على أن الثياب العادية التي على العبد أثناء البيع تكون للمشتري؛ لكون ذلك يُتسامح فيه (فرع): الأمة كالعبد فيما سبق من تلك الأحكام الخمسة في المسألة السابقة.
(28)
مسألة: إذا باع دابة: فإنه يتبع تلك الدابة أمور ثلاثة: أولها: المقود، وهو الشيء الذي يقود به الإنسان الحيوان: سواء كان حبلاً أو لا، ثانيها: اللجام، وهو: ما يُجعل في فم الدابة، ثالثها: النعل، وهو: الشيء الذي يُجعل واقياً لأرجل الحيوان من الأرض؛ لقاعدتين: الأولى: العرف والعادة؛ حيث جرت العادة عند الناس، أن تلك الأمور الثلاثة تابعة للمشتري، الثانية: المصلحة؛ حيث إنه لا يمكن للمشتري أن يذهب بالدابة بسلام من موضع البيع إلى داره إلّا بتوفر هذه الأشياء الثلاثة. هذه آخر مسائل باب: "بيع الأصول والثمار" ويليه باب "السَّلَم".
باب السَّلَم
هو: لغة أهل الحجاز، و "السَّلَف" لغة أهل العراق، وسُمِّي سَلَماً؛ لتسليم رأس المال في المجلس وسلفاً؛ لتقديمه (وهو) شرعًا. (عقد على موصوف) ينضبط بالصفة (في الذمة) فلا يصحّ في عين كهذه الدار (مؤجَّل) بأجل معلوم (بثمن مقبوض بمجلس العقد)
(1)
، وهو جائز بالإجماع؛ لقوله عليه السلام:"من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم" متفق عليه
(2)
(ويصح) السَّلم
باب السَّلَم
وفيه ثلاث وأربعون مسألة:
(1)
مسألة: السَّلَم لغة مأخوذ من تسليم شيء معلوم، وهو في الاصطلاح:"عقد على شيء يصحّ بيعه موصوف في الذمّة مؤجَّل بأجل معلوم بثمن مقبوض بمجلس العقد" والمراد به: تعجيل الثمن وتأخير المثمن، وصورته: أن يبيع زيد سلعة في الذمة موصوفة مؤجَّلة بزمن محدَّد بمائة ريال يدفعها المشتري في مجلس العقد، ويقبضه البائع - وهو زيد هنا -، ويؤخَّر السلعة إلى وقت معروف عند المتبايعين، فلا يصح ذلك على عين مثل قوله:"بعتك هذه الدار"، وهو نوع من البيع لذلك تُشترط له شروط صحة البيع، ولهذه المعاملة شروط وصفات سيأتي بيانها، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي سَلَماً؟ قلتُ: نظرًا لتسليم رأس المال، وهو الثمن في مجلس العقد، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي سَلَفًا؟ قلتُ: نظرًا لتقديم رأس المال وهو الثمن في مجلس العقد، والسلف هو المتقدم من كل شيء، لذلك سُمِّي المتقدمون من أهل السنة والجماعة بالسَّلف، والسلف والسلم واحد في الحكم، تنبيه: قوله: "السلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق" قلتُ: هذا فيه نظر؛ حيث إنه عليه السلام قد وجد أهل المدينة يسلفون فقال: "من أسلف".
(2)
مسألة: السلم جائز؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك، ومستند الإجماع =
(بألفاظ البيع)؛ لأنه بيع حقيقة (و) بلفظ (السَّلَم والسلف)؛ لأنهما حقيقة فيه؛ إذ هما اسم للبيع الذي عُجِّل ثمنه، وأُجِّل مثمنه - (بشروط سبعة) زائدة على شروط البيع، والجار متعلِّق بـ "يصح"
(3)
(أحدها: انضباط صفاته) التي يختلف الثمن باختلافها اختلافًا كثيرًا ظاهرًا: لأن ما لا يمكن ضبط صفاته يختلف كثيرًا، فيفضي إلى المنازعة والمشاقة (بمكيل) أي: كمكيل من حبوب وثمار، وخلٍّ ودُهن، ولبن ونحوها (وموزون) من قطن، وحرير، وصوف، ونحاس، وزئبق، وشبٍّ، وكبريت،
قاعدتان: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} والأجل إما أن يكون بتأجيل الثمن أو المثمن، ولفظ الآية عام لهما، أيَّد ذلك ابن عباس، حيث قال "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مُسمَّى قد أحلَّه الله في كتابه وأذن فيه" ثم قرأ هذه الآية، الثانية: السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام: "لما قدم المدينة وجد الناس يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال: "من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وهذا يلزم منه إباحة السلم والسلف بشرط سيأتي بيانها، فإن قلتَ: لِمَ أُبيح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن البائع يستفيد من الثمن المعجَّل لشراء حوائجه، والمشتري يستفيد برخص الثمن في السلعة المؤجلة؛ حيث جرت العادة: أن السلعة إذا كانت مؤجَّلة فإن ثمنها يكون أقلَّ من ثمنها فيما لو كانت معجَّلة.
(3)
مسألة: السلم يصح بكل لفظ صحَّ في البيع كقول البائع: "بعتك ما صفته كذا وكيله كذا إلى الوقت كذا بمائة ريال تسلمها إليّ في هذا المجلس" ويصح بلفظ "السلم" و "السلف"؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون السلم نوعًا من أنواع البيع: صحة انعقاده بألفاظ البيع، ويلزم من كونه يُسلم ويُسلف في هذه المعاملة: صحة انعقادها بهذين اللَّفظين، لكونهما حقيقة فيها. تنبيه: يصح السَّلَم بشروط سبعة خاصة بهذه المعاملة - وهي: السَّلم والسَّلف وهو: تعجيل الثمن وتأجيل المثمن - وإليك بيانها بالتفصيل في المسائل الآتية.
وشحم، ولحم نيء ولو مع عظمه إن عيَّن موضع قطع (ومذروع) من ثياب وخيوط
(4)
(وأما المعدود المختلف كالفواكه) المعدودة كرمَّان: فلا يصح السَّلم فيه؛ لاختلافه بالصغر والكبر (و) كـ (البقول)؛ لأنها تختلف، ولا يمكن تقديرها بالحزم (و) كـ (الجلود) لأنها تختلف ولا يمكن ذرعها؛ لاختلاف الأطراف (و) كـ (الرؤوس) والأكارع؛ لأن أكثر ذلك العظام والمشافر (و) كـ (الأواني المختلفة الرؤوس، والأوساط كالقماقم، والأسطال الضيقة الرؤوس)؛ لاختلافها (و) كـ (الجواهر) واللؤلؤ، والعقيق ونحوه؛ لأنها تختلف اختلافًا متبايناً بالصغر والكِبر، وحُسن التدوير، وزيادة الضوء، والصفا (و) كـ (الحامل من الحيوان) كأمة حامل؛ لأن الصفة لا تأتي على ذلك، والولد مجهول غير محقَّق، وكذا: لو أسلم في أمة وولدها؛ لندرة جمعهما الصفة
(5)
(وكل مغشوش)؛ لأن غشَّه يمنع العلم بالقدر المقصود منه.
(4)
مسألة: في الأول - من شروط صحة السَّلم - وهو: أن تكون السلعة المباعة المؤجَّلة مما تُضبط صفاتها بحيث لا تختلف اختلافًا يُؤثِّر بالثمن كأن تكون من المكيلات كالحبوب، والثمار واللبن، ودهن، وخلّ، ونحو ذلك، أو تكون السلعة من الموزونات كالقطن والنحاس، أو اللحم، أو الشحم ونحوها، أو تكون السلعة من المذروعات كالأقمشة ونحوها؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم ووزن معلوم" والكيل والوزن مما يمكن ضبطه، والذرع مثلهما؛ لعدم الفارق، فيكون من باب "مفهوم الموافقة" فلزم من ذلك: اشتراط هذا الشرط، فإن قلتَ: لِم شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المكيل والموزون، والمذروع لا يمكن أن تتغيَّر صفاتها وإن طال الزمن، وهذا يُبعد من الاختلاف والمنازعات بين المتبايعين غالبًا.
(5)
مسألة: لا يصح السلم في أي شيء لا يمكن ضبطه بالصفة بأن تكون آحادها ومفرداتها متفاوتة كل واحدة مختلفة عن الأخرى بصفة كالمعدودات من تفاح وبرتقال، ورُمَّان ونحوها، والبقول، والجلود، والرؤوس، والأكارع من بهيمة =
فإن كانت الأثمان خالصة: صحّ السَّلم فيها ويكون رأس المال غيرها
(6)
، ويصح السَّلم في فلوس، ويكون رأس المال عَرَضاً
(7)
(وما يجمع أخلاطاً) مقصودة (غير متميزة كالغالية) والندِّ (والمعاجين) التي يُتداوى بها (فلا يصح السَّلَم فيه)؛ لعدم انضباطه
(8)
(ويصح) السَّلَم (في الحيوان) ولو آدمياً؛ لحديث أبي رافع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم
الأنعام، وجميع الجواهر، والياقوت والمرجان، والحامل من الحيوانات، والإماء، وجميع ما يحتمل الغشُّ كالألبان ونحوها، وجميع الأواني مختلف الرؤوس، والأوساط، وحُسن التدوير وعدم ذلك: فهذا كله لا يصح السَّلَم فيه؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من عدم ضبط صفته، ووجود التفاوت فيه: عدم صحة السَّلَم فيه؛ لكونه قد فقد شرطاً من شروطه - وهو ضبط الصفة - وإذا عدم الشرط: عدم الحكم؛ فإن قلتَ: لِم شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا يؤدِّي إلى المنازعات والاختلافات بين البائع والمشتري؛ حيث إن كل واحد منهما يدَّعي ما هو في مصلحته، مما سيفضي إلى الغرر، وأكل مال الناس بالباطل. (فرع) المعدود الذي ينضبط كعدد من الثياب موصوفة يجوز السلم فيه للتلازم: حيث يلزم من انضباطه؛ جواز السلم فيه؛ لعدم الغرر فيه.
(6)
مسألة: لا يصح السَّلم في الأثمان المغشوشة كأن يسلم نقد مقبوض في مجلس العقد بنقد مغشوش بعد سنة، أما إن كان الثمن صحيحًا خالصًا: فإنه يصح السلم فيه بشرط: أن يكون رأس المال غير تلك الأثمان؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم ضبطه وعدم جواز إسلام أحد النقدين في الآخر: عدم صحَّة السَّلم فيه، ويلزم من كون رأس المال من غيرها: صحَّة السَّلَم؛ فإن قلتَ: لِمَ شُرِّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن السلم في المغشوش يُفضي إلى بيع الغرر المنهي عنه.
(7)
مسألة: يصح السَّلَم في فلوس: سواء كانت وزنًا أو عَدَّاً بشرط: أن يكون رأس المال عَرَضاً من عروض التجارة: للتلازم؛ حيث يلزم من ضبطه: صحة السَّلَم فيه.
(8)
مسألة: لا يصح السَّلَم في شيء يجمع أخلاطاً بعضها متميزة وبعضها غير متميزة =
استسلف من رجل بكراً" رواه مسلم
(9)
(و) يصح أيضًا في (الثياب المنسوجة من نوعين) كالكتَّان، والقطن ونحوهما؛ لأن ضبطها ممكن، وكذا: نشاب، ونبل مريشان، وخفاف، ورماح (و) يصح أيضًا في (ما خلطه) بكسر الخاء (غير مقصود كالجبن) فيه الإنفحة (وخلُّ التمر) فيه الماء (والسكنجبين) فيه الخلُّ (ونحوها) كالشيرج، والخبز، والعجين
(10)
الشرط (الثاني: ذكر الجنس والنوع) أي: جنس المسلم فيه ونوعه (وكل وصف يختلف به) أي: بسببه (الثمن) اختلافًا (ظاهرًا) كلونه وقدره، وبلده (وحداثته وقِدَمَه) ولا يجب استقصاء كل الصفات؛ لأنه قد يتعذَّر،
كالغالية - وهي: الطيب المركَّب من مسك وعنبر وعود ودهن - والنَّدِّ - وهو: الطيب المخلوط بمسكٍ وكافور - والمعاجين - وهي: الأشياء التي تُعجن مع بعضها للتداوي بها -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم ضبط ما سبق ذكره: عدم صحة السلم فيه؛ لكونه فقد شرطاً من شروطه، فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جهالة، وهذا فيه غرر لا يجوز.
(9)
مسألة: يصح السَّلَم في الحيوانات والآدمي كالعبيد إذا أمكن ضبطه بالوصف بالسن، والعلامات، وذكر الأجل؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث أمر عليه السلام عبد الله بن عمرو بن العاص أن يبتاع البعير بالبعيرين، وبالأبعرة إلى مجيء "الصدقة" وهذا فيه تقديم الثمن وهو البعير الواحد على المثمن وهما البعيران، وهذا هو السلم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد استسلف بكراً من رجل، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن الحيوان والعبد يصح أن يكونا صداقاً فكذلك يصح أن يُسلم فيهما، والجامع أن كلاًّ منها مال يُشترى ويُباع، ويمكن ضبطه، ولا يقع فيه غرر ولا جهالة غالبًا.
(10)
مسألة: يصح السَّلَم في الثياب المنسوجة من نوعين قصداً كالثياب المنسوجة من القطن والكتان، والسهم الفارسي، والعربي، وما جُعل فيه ريش، والخف المنسوج من نوعين، ونحو ذلك، ويصح في المختلط من غير قصد كالجبن الذي =
ولا ما لا يختلف به الثمن، لعدم الاحتياج إليه
(11)
(ولا يصح شرط) المتعاقدين
خالطته الأنفحة - وهو شيء يؤخذ عند أول ولادة البهيمة -، وكذا: خلُّ التمر المختلط بالماء، وكذا: السكنجبين - وهو مركّب من سكر وخل -، وكذا: الخبز المختلط بالملح، ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يُمكن ضبطه بالصفة، ولا يقع فيه تفاوت عادة: فلزم صحّة السلم فيه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك لا جهالة فيه، فلا يؤدي إلى الغرر المنهي عنه.
(11)
مسألة: في الثاني - من شروط صحة السَّلَم - وهو: أن توصف السلعة المباعة المسلم فيها وصفاً يؤثِّر في الثمن تأثيراً ظاهرًا فيقول البائع: "بعتك بهذه المائة عشرين صاعًا من بر، من نوع اللقيمي الجديد الجيد الوارد من القصيم أو من الأحساء - مثلًا - الأحمر" فيُشترط ذكر تلك الصفات في السلعة المسلم بها، أي: لا بدَّ من ذكر جنس المباع، ونوعه، ووقت إنتاجه، وكونه جيدًا أو رديئاً، والبلد الذي أُنتج به، ولونه؛ لكون ذلك يؤثِّر في ثمنه، أما الذي لا يؤثر: فلا يُذكر، ولا يُشترط ذكر جميع صفاته؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن الثمن يُشترط فيه العلم بجميع صفاته، فكذلك المثمن - وهو المسلم فيه، أي: يُشترط في كل واحد ما يُشترط في الآخر - الثانية: السبرُ والتقسيم؛ حيث إن العلم بالمباع شرط في صحة البيع - كما سبق - وطريق العلم به إما الرؤية، أو الوصف، ولا ثالث لهما، والرؤية في السلم مُتعذِّرة، فتعيَّن الوصف الدقيق. فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تلك الصفات وإن كثرت إلا أنها تجعل المشتري يدخل على بيّنة تمنع الاختلاف بين المتعاقدين، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط ذكر جميع الصفات؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك مُتعسِّر، فيندر التعامل بالسَّلَمَ، فإن قلتَ: لِمَ لا تُذكر الأوصاف التي لا يختلف فيها الثمن؟ قلتُ: لكون الحاجة هي التي دعت إلى ذكر الأوصاف؛ لمنع الاختلاف في الثمن، أما ما لا يُؤثِّر فيه: فلا حاجة إلى بيانه.
(الأردأ، أو الأجود)؛ لأنه لا ينحصر؛ إذ ما من رديء أو جيد إلا ويحتمل وجود أردأ أو أجود منه
(12)
(بل) يصح شرط (جيِّد ورديء)، ويجزئ: ما يصدق عليه أنه جيِّد أو رديء، فيُنزَّل الوصف على أقلِّ درجة
(13)
(فإن جاء) المسلم إليه (بما شرط) للمسلم: لزمه أخذه (أو) جاءه بـ (أجود منه) أي: من المسلم فيه (من نوعه ولو قبل محلِّه) أي: حلوله (ولا ضرر في قبضه: لزمه أخذه)؛ لأنه جاءه بما تناوله العقد وزيادة تنفعه
(14)
، وإن جاء بدون ما وصف، أو بغير نوعه من جنسه: فله أخذه ولا
(12)
مسألة لا يصح أن يشترط المتعاقدان أو أحدهما أن يكون المباع - المسلم فيه - أجود ما في السوق؛ للتلازم؛ حيث يلزم من هذا الشرط: حصول الاختلاف بينهما غالبًا؛ لأنه ما فيه شيء أجود إلّا ويحتمل وجود ما هو أجود منه، وقطع الاختلاف واجب: فلم يصح ذلك، وهذا هو المقصد منه، (فرع): يصح اشتراط: كون المباع أردأ شيء في السوق؛ للتلازم؛ حيث يلزم من القدرة على تسلُّم ما هو خير منه: صحة ذلك، وقطع التنازع به، فإن قلتَ: لا يصح الاشتراط هنا أيضًا - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود شيء رديء إلا ويُحتمل وجود ما هو أردأ منه: وقوع التنازع قلتُ: يُقطع التنازع بتسليمه ما هو أجود منه قليلًا.
(13)
مسألة: يصح: أن يُشترط كون المباع - وهو: المسلم فيه - جيِّداً، أو رديئاً من تمر، أو بُرٍّ ونحوهما؛ فإذا جاء وقت التسليم يُسلَّم المشتري أقلَّ درجة في الجودة أو الرداءة، أو فوقه مما يصدق عليه أنه جيد أو رديء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إمكان الحصول عليه: صحة ذلك. فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لا يحصل بسبب ذلك اختلاف غالبًا.
(14)
مسألة: إذا جاء البائع بالمباع - وهو المسلم فيه - مع توفِّر شرطه، أو جاء به بأجود من ذلك الشرط: لزم المشتري أن يقبضه إذا لم يتضرَّر بقبضه: سواء في وقت حلوله، أو قبله أو بعده، للتلازم؛ حيث إن البائع قد حقَّق للمشتري ما =
يلزمه
(15)
، وإن جاءه بجنس آخر: لم يجز له قبوله
(16)
، وإن قبض المسلم فيه فوجد به عيبًا: فله ردُّه وإمساكه مع الأرش
(17)
الشرط (الثالث: ذكر قدره) أي: قدر المسلم
تناوله العقد بينهما وزيادة تعجيله، وما هو أجود منه فيلزم: أن يقبضه، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط عدم الضرر في قبضه؟ قلتُ: لأنه إذا وُجد الضَّرر على المشتري عندما يُقدِّم له البائع سلعته على الوقت المحدَّد: فلا يلزمه أن يقبله؛ لأنه له غرض في تأخيره، بأن يكون بحاجة إلى أكله في ذلك الوقت، أو كان الوقت مخوفاً يخشى المشتري من قبضه، فلا يلزمه قبضه قبل حلول وقته.
(15)
مسألة: إذا جاء البائع بالمباع - وهو المسلم فيه - بدون ما وصفه به، أو جاء بالمباع من الجنس الذي أتُّفق عليه، ولكنه بغير نوعه كأن يتّفقان على أنه ضأن، ثم أتاه بمعز: فيُباح للمشتري أن يأخذ ذلك، ولكن لا يلزمه ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن الحقَّ له، وقد رضي به بدون صفاته، وبغير نوعه، فيكون قد أسقط حقه فيلزم إباحة أخذه، ويلزم من عدم توفّر صفاته ونوعه التي اتفق عليها: عدم إلزامه بأخذ ذلك؛ لكون ذلك من حقه.
(16)
مسألة: إذا جاء البائع بالمباع - وهو المسلم فيه - بغير جنسه التي اتفق البائع والمشتري عليه كأن يتّفقا على أنه بر، فيُعطيه تمراً: فلا يجوز للمشتري أن يأخذه ويقبله؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره" وفي لفظ: "فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه" فحرم الشارع صرف المسلم فيه إلى غيره وهو: استبدال جنسه بجنس غيره، ولو أخذه لا يُجزئ عن الأصل؛ لأن النهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس من أن يُتحايل عليها فتُؤكل بالباطل؛ حيث إن الأخذ قد يأخذ في وقت، ثم يتسخَّط طول عمره؛ لما فات عليه من فوائد ما أسلم فيه.
(17)
مسألة: إذا قبض المشتري المسلم فيه - كالتمر أو البر - فوجد فيه عيبًا: فهو =
فيه (بكيل) معهود فيما يُكال (أو وزن) معهود فيما يُوزن؛ لحديث: "من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم" متفق عليه (أو ذرع يُعلم) عند العامة؛ لأنه إذا كان مجهولاً: تعذَّر الاستيفاء به عند التلف فيفوته العلم بالمسلم فيه
(18)
فإن شرطا مكيلاً غير معلوم بعينه، أو صنجة غير معلومة بعينها: لم يصح،
بالخيار: إن شاء ردَّه، وأخذ الثمن الذي دفعه في مجلس العقد، وإن شاء أمسكه وأمضى البيع، وأخذ أرش ذلك العيب - كما سبق في البيع -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ذلك جائز في سائر البيوع فكذلك يجوز في المسلم فيه، والجامع: أن كلاًّ منها أنواع من البيوع.
(18)
مسألة: في الثالث - من شروط صحة السَّلَمَ - وهو: أن يُذكر قدر المسلم فيه، ويكون ذلك معلومًا ومعروفاً لدى أكثر الناس: فيُعلم قدره بالكيل فيما يُكال كالحبوب والتمر، ويُعلم قدره بالوزن فيما يوزن كالحديد والنحاس، ويُعلم قدره بالذرع فيما يُذرع كالقماش؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم ووزن معلوم" فقد أوجب: أن يُبيَّن قدر ما يُكال بالكيل، ويُبيَّن قدر ما يوزن بالوزن، والمذروع مثلهما؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الثمن معلوم قدره إن كان ذهبًا فمعلوم به، وإن كان فضة فمعلومة به فكذلك يُشترط في المثمن العلم بقدره كيلاً في المكيلات، ووزناً في الموزونات، وذرعاً في المذروعات والجامع: أن كلاًّ منهما عوض عن الآخر، فإذا كانت معرفة قدر الثمن وجنسه شرطاً في السلم، فكذلك يجب أن تكون معرفة قدر الآخر وجنسه شرطاً، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو كان المسلم فيه مجهولاً: لتعذَّر الاستيفاء به عند تلف المسلم فيه - وهو العين المباعة -، فيحصل بسبب ذلك اختلاف المتعاقدين مما يؤدِّي إلى أكل أموال الناس بالباطل.
وإن كان معلومًا: صحّ السلم دون التعيين
(19)
(وإن أسلم في المكيل) كالبر، والشيرج (وزنًا، أو في الموزون) كالحديد (كيلاً: لم يصح) السلم؛ لأنه قدَّره بغير ما هو مقدَّر به، فلم يجز، كما لو أسلم في المذروع وزنًا، ولا يصح في فواكه معدودة كرمَّان، وسفرجل ولو وزنًا
(20)
، الشرط (الرابع: ذكر أجل معلوم) للحديث
(19)
مسألة: إذا اتفقا على شرط مكيل غير معلوم بعينه عند أكثر الناس، أو اتفقا على شرط وزن غير معلوم عند أكثر الناس: فلا يصح السَّلَم، أما إن كانا معلومين عند فلان: فإنه يصح السَّلم فيما اعتاد الناس كيله ووزنه، دون ما عيناه من كيل، أو وزن فلان؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم العلم في الكيل، أو الوزن: عدم صحة السلم، ويلزم من علم ذلك ولو كان خاصًا بواحد معين له كيل، أو وزن معلوم: صحته إذا كيل، أو وزن فيما تعارف الناس عليه.
(20)
مسألة: يصح السلم في المكيل وزنًا، وفي الموزون كيلاً، وفي المعدود وزنًا أو كيلاً وهو رواية عن أحمد، وهو قول كثير من العلماء؛ للتلازم؛ حيث إن الغرض والقصد هو تسليمه المسلم فيه من غير تنازع واختلاف، فإذا عُرف قدر الشيء معرفة دقيقة بوزن، أو كيل فيما تعارف عليه أكثر الناس: فإنه يلزم صحة السلم فيه كصحة البيع في ذلك، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس بأن يتعاملوا بما جرت عليه العادة والعرف عندهم، فإن قلتَ: لا يصح السلم في الموزونات كيلاً، ولا العكس - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه مبيعاً يُشترط فيه معرفة قدره: أن لا يصح السلم فيه بغير ما هو مقدَّر به كما لا يصح أن يُسلم في المذروع وزنًا، لذلك لا يصح السلم في المعدود ولو وزن؛ لكونه غير مقدَّر بالوزن، بل بالعدد قلتُ: إن المقصود باشتراط ذكر قدر المسلم فيه كيلاً في المكيلات، ووزناً في الموزونات هو: قطع المنازعات بين المتبايعين عند تلف المسلم فيه، ويمكن تحقق هذا القصد إذا أسلم في الموزون كيلاً، وأسلم في المكيلات وزنًا، وأسلم في المعدودات كيلاً ووزناً إذا عُرف مقدار ذلك معرفة دقيقة بأيِّ طريق؛ وهذا فيه مصلحة عامة؛ إذ =
السابق، ولأن الحلول يُخرجه عن اسمه ومعناه ويُعتبر: أن يكون الأجل (له وقع في الثمن) عادة كشهر (فلا يصح) السَّلم إن أسلم (حالاً)؛ لما سبق (ولا) إن أسلم إلى أجل مجهول كـ (إلى الحصاد والجذاذ) وقدوم الحاج؛ لأنه يختلف، فلم يكن معلومًا (ولا) يصح السلم (إلى) أجل قريب كـ (يوم) ونحوه؛ لأنه لا وقع له في الثمن
(21)
(إلا) أن يُسلم (في شيء يأخذه منه كل يوم) أجزاءً معلومة (كخبز ولحم ونحوهما) من
يختلف الناس في العصور، فقد يكون ما يوزن في بعض العصور: يُكال، وقد يكون ما يُكال يوزن كما هو في العصر الحالي؛ حيث إن الحبوب تُكال وتُوزن، وهذا فيه توسعة على الناس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "الخلاف في تعارض لفظ الحديث مع العمل بمقصده" فعملنا بالمقصد منه - وعملوا: باللفظ فقط، دون مقصده.
(21)
مسألة: في الرابع - من شروط صحة السَّلَم - وهو: أن يكون المسلم فيه مؤجَّلاً إلى مُدَّة معلومة للمتعاقدين، مؤثِّرة في الثمن، ومساعدة لأصحاب السلع المسلم فيها كالمزارعين والتجار على حسب العادة، فلا يصح السَّلم في سلعة مقبوضة في مجلس العقد، ولا يصح السَّلم إلى أجل غير محدَّدة تحديداً دقيقاً ولا يصح السلم إلى مدة قصيرة لا تؤثِّر في الرفق بالثمن كيوم أو يومين، للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم" فاشترط لصحة السَّلم: كونه إلى أجل محدَّد يستفيد منه الطرفان؛ لأن الأمر هنا مُطلق، فيقتضي الوجوب، فيلزم منه: اشتراطه الأجل؛ إذ لا يصح بدونه، ودلَّ مفهوم الصفة من ذلك على عدم صحة السلم إذا لم يُوجد الأجل، وعدم صحته إذا لم يكن هذا الأجل معلومًا، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن السَّلم قد شُرع لمراعاة المتعاقدين؛ حيث إن صاحب السلعة المسلم فيها سينتفع بالمال المقدم له، والدافع للثمن سينتفع برخص السلعة المؤجَّلة، وأُجِّل ذلك إلى وقت محدَّد عندهما لمنع اختلاف المتعاقدين في وقت =
كل ما يصح السلم فيه؛ إذ الحاجة داعية إلى ذلك، فإن قبض البعض وتعذَّر الباقي: رجع بقسطه من الثمن، ولا يجعل للباقي فضلاً على المقبوض؛ لتماثل أجزائه، بل يُقسِّط الثمن عليهما بالسوية
(22)
الشرط (الخامس: أن يُوجد) المسلم فيه (غالبًا في
التسليم، فإن قلتَ: لِمَ لا يصح السلم حالاً؟ قلتُ: للتلازم؛ حيث يلزم من حقيقة السلم ومعناه: أن لا يكون حالاً؛ إذ لو كان حالاً: لكان بيعًا عادياً، فإن قلتَ: لِمَ اشترط: أن يكون الأجل مؤثراً في الثمن؟ قلتُ: حتى لا يتعامل الناس بالسلم في اليوم واليومين والثلاثة؛ لأن العادة جرت: أن لا يتأثر الثمن في رخصه بالنسبة للمشتري، ولا أن ينتفع البائع من استلامه مُقدَّمًا. (فرع): يصح السَّلم إلى الجذاذ والحصاد وإلى قدوم الحاج؛ للعرف والعادة؛ حيث إن وقت الجذاذ والحصاد وقدوم الحاج معروف عادة وعُرفاً فلا يتسبَّب ذلك في اختلاف المتبايعين؛ لكونه لا يتفاوت، ويُسلَّم المسلم فيه - وهو: السلعة المباعة - عند أول الجذاذ، وأول الحصاد، وأول حاج يقدم؛ لكونه يصدق عليه ذلك، فإن قلتَ: لا يصح السلم إلى الجذاذ والحصاد وإلى قدوم الحاج وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن وقت الحصاد والجذاذ وقدوم الحاج يختلف باختلاف الأحوال، فيتسبَّب في وقوع الخلاف بين المتبايعين في وقت تسلُّم السلعة، فدفعاً لذلك لا يصح السلم في ذلك؟ قلتُ: بل يصح والاختلاف لا يقع في مثل هذه المواعيد عادة، وإذا ارتفعت المفسدة: صح ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل يحصل اختلاف في مثل هذه المواعيد أولًا؟ فعندنا: لا يحصل عادة، وعندهم: يحصل.
(22)
مسألة: إذا أسلم في شيء يأخذ منه كل يوم أو كل شهر قسطاً كأن يُعطي زيد بكراً مائة ريال في المجلس ويقول له سآخذ منك كل يوم خبزاً بريال واحد حتى تنتهي المائة: فيصح السلم في ذلك، فإن أخذ زيد بالمائة كلها: يكون بكر قد برأت ذمته، وإن أخذ بنصفها فقط، فإن بكراً يُعيد إليه النصف الباقي - وهي =
محلِّه) بكسر الحاء، أي: وقت حلوله؛ لوجوب تسليمه إذًا، فإن كان لا يُوجد فيه، أو يُوجد نادرًا كالسَّلم في العنب والرطب إلى الشتاء: لم يصح
(23)
(و) يُعتبر أيضًا وجود المسلم فيه في (مكان الوفاء) غالبًا، فلا يصح إن أسلم في ثمرة بستان صغير مُعيَّن، أو قرية صغيرة، أو في نتاج من فحل بني فلان، أو غنمه، أو مثل هذا الثوب؛ لأنه لا يؤمن تلفه، وانقطاعه
(24)
و (لا) يُعتبر وجود المسلم فيه (وقت
خمسون - من غير تفاضل؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن كل بيع يجوز إلى أجل واحد، فكذلك، يجوز إلى عدَّة آجال، وعدة أوقات، والجامع: أن كلاً منها يُسمَّى بيعًا، ولا جهالة ولا غرر فيه، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تماثل أجزاء المثمن: المقبوض وغيره: أن يرجع بكر الثمن الذي لم يأخذ زيد به خبزاً - وهو نصفه - إلى زيد بدون فضل، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الناس يحتاجون لمثل هذه الطريقة، فأبيحت.
(23)
مسألة: في الخامس - من شروط صحة السلم - وهو: أن يكون المباع - وهو المسلم فيه المؤجَّل - موجودًا غالبًا في وقت حلوله؛ ليتمكَّن البائع من تسليمه والوفاء به في وقت الانتفاع به، أما إن كان لا يُوجد أصلًا في الوقت المحدَّد كبيع العبد الهارب، أو كان يُوجد ولكنه نادر كأن يبيع عنباً، أو رطباً إلى وقت الشتاء: فإن هذا لا يصح؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن تسليم المباع - وهو المسلم فيه - من شروط صحة السلم فيلزم من وجوده غالبًا صحة السَّلم، ويلزم من عدم وجوده: عدم صحته؛ الثانية: القياس؛ بيانه: كما لا يصح بيع العبد الهارب في مجلس العقد، فكذلك لا يصح بيعه سَلَماً، والجامع: عدم القدرة على تسليم المباع في وقت الحلول في كل، فإن قلتَ: لِمَ اشترط هذا الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية وضمان الثمن الذي دفعه المسلم؛ وفيه منع من الغرر.
(24)
مسألة: لا يصح السَّلم إذا عيَّن مكانًا ضيِّقاً لتسليم المسلم فيه كأن يقول: =
العقد)؛ لأنه ليس وقت وجوب التسليم
(25)
(فإن) أسلم إلى محل يوجد فيه غالبًا فـ (تعذَّر) المسلم فيه: بأن لم تحمل الثمار تلك السنة (أو) تعذَّر (بعضه: فله) أي: لربِّ السلم (الصبر) إلى أن يُوجد فيُطالب به (أو فسخ) العقد في (الكل) إن تعذَّر الكل (أو) في (البعض) المتعذِّر (ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه) أي: عوض الثمن التالف؛ لأن العقد إذا زال: وجب ردُّ الثمن، ويجب ردُّ عينه إن كان باقياً، أو عوضه إن كان تالفاً؛ أي: مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان مُتقوِّمًا، هذا: إن فسخ في الكل، فإن فسخ في البعض فبقسطه
(26)
، الشرط (السادس: أن يقبض الثمن
"أبيعُك بهذه الدراهم التي سلَّمتني إيّاها ثمر هذا البستان الصغير جدًا بعينه"، وكذا لا يصح إذا عيَّن شيئًا معينًا لا يُمكنه أن يحيد عنه كقوله:"بعتك بعيرًا يكون من نتاج فحل بني زيد بهذه الدنانير التي سلمتني إياها" أو يقول: "بعتك ثوباً مثل هذا الثوب الذي عليك أسلمه لك فيما بعد" أو يقول: "بعتك بهذه الدراهم شاة من شياه زيد" ونحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يصح السلم في شيء قدَّره بمكيال معين كصاع فلان، أو قدره بصنجة معينة كميزان فلان - كما سبق - فكذلك لا يجوز السلم هنا والجامع: أن كلاً منها لا يُؤمن تلفه وانقطاعه، فيتضرَّر المتبايعان.
(25)
مسألة: لا يُشترط في السَّلم وجود المسلم فيه حال العقد، بل يصح السَّلم: سواء كان المسلم فيه موجودًا حال العقد، أو كان بعضه موجودًا، أو كان معدوماً؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجلٍ معلوم" وهذا مطلق في وجود المسلم فيه وعدمه؛ حيث سكت عن هذا، وهذا يلزم منه عدم اشتراط ذلك. فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين؛ إذ لو اشتُرط ذلك: لضاق عليهم الأمر، ولما أسلموا سنتين وثلاث.
(26)
مسألة: إذا تعذَّر على البائع أن يُسلِّم المباع - وهو المسلم فيه - عند حلول وقته =
تاماً)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء فليُسلف" الحديث، أي: فليُعط قال الشافعي؛ لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يُفارق من أسلفه، ويُشترط: أن يكون رأس مال السلم (معلومًا قدره ووصفه) كالمسلم فيه، فلا يصح بصبرة لا يعلمان قدرها، ولا بجوهر ونحوه مما لا ينضبط بالصفة، ويكون القبض (قبل التفرُّق) من المجلس، وكل مالين حُرِّم النسأ فيهما: لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر؛ لأن السلم من شرطه التأجيل (وإن قبض البعض) من الثمن في المجلس (ثم افترقا) قبل قبض الباقي: (بطل فيما عداه) أي: عدا المقبوض، وصحَّ في المقبوض، ولو جعل ديناً سَلَماً: لم يصح
(27)
وأمانة، أو عينًا مغصوبة، أو عارية
بسبب عدم وجود ثمار في تلك السنة، أو تعذَّر أن يُسلِّم بعضه: فالمشتري له الخيار - وهو الدافع للثمن في مجلس العقد -: إن شاء صبر إلى أن يُوجد المباع في سنة أخرى أو بعضه، فيستوفي، وإن شاء فسخ العقد، ويأخذ رأس المال الذي دفعه إن كان موجودًا، أو عوضه إن كان غير موجود بعينه، وإن فسخ في بعض المباع دون بعض: فإنه يأخذ الثمن الذي يُقابل ما لم يأخذه بقسطه؛ للمصلحة: حيث إن هذا المال قد دفعه ليأخذ عوضًا عنه الشيء المباع، فلما تعذَّر التسليم، يُرجع إليه ثمنه؛ لئلا يُؤكل بالباطل.
(27)
مسألة: في السادس - من شروط صحة السلم - وهو: أن يقبض المسلم إليه - وهو البائع - أو وكيله الثمن تاماً معلومًا قدره ووصفه وذلك في مجلس العقد قبل أن يتفرّق المتعاقدان، فإن تفرقا قبل القبض: بطل السَّلم، وإن قبض البائع بعض الثمن في المجلس ثم تفرقا قبل قبض الباقي: صح في المقبوض، وبطل فيما لم يقبض؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم" فيلزم من قوله: "فليُسلف" اشتراط قبض الثمن في مجلس العقد، والمراد بذلك: فليُعط في مجلس العقد، لكونه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يُفارق من أسلفه - وهو تعليل الشافعي - الثانية: =
يصح؛ لأنه في معنى القبض
(28)
(وإن أسلم) ثمناً واحدًا (في جنس) كبر (إلى أجلين) كرجب وشعبان مثلًا (أو عكسه) بأن أسلم في جنسين كبر وشعير إلى أجل كرجب مثلًا (صح) السلم (إن بيَّن) قدر (كل جنس وثمنه) في المسألة الثانية بأن يقول: "أسلمتك دينارين: أحدهما في اردبِّ قمح صفته كذا، وأجله كذا، والثاني في اردبيَّن شعيراً صفته كذا والأجل كذا"(و) صح أيضًا إن بيَّن (قسط كل أجل) في المسألة الأولى بأن يقول: "أسلمتك دينارين: أحدهما في إردبِّ قمح إلى رجب والآخر في
القياس وهو من وجوه: أولها: كما أن الصَّرف لا يصح إلا بالدفع في المجلس فكذلك السلم لا يصحّ إلا بدفع الثمن في المجلس، والجامع: أن كلاً منهما عقد معاوضة لا يجوز فيه تأخير الثمن، ثانيها: أن المباع وهو المسلم فيه لا يصح إلا إذا كان معلومًا قدره ووصفه فكذلك الثمن مثله، والجامع: أن كلاًّ منهما عوض فيُشترط في أحدهما ما يُشترط في الآخر، ثالثها: أنه كما يجوز بيع تفريق الصفقة، وتقسيم الثمن على كليهما، فكذلك يجوز السلم فيما قبض من الثمن دون ما لم يُقبض، الثالثة: التلازم؛ حيث إنه يلزم من عدم قبض الثمن في مجلس العقد في السلم: أن يكون بيع دين بدين وهذا لا يجوز، فيلزم دفع الثمن حتى لا يلزم هذا اللازم الباطل، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قبض الثمن فيه مراعاة لحال البائع - وهو صاحب السلعة - وقد شُرع السلم من أجل ذلك، وفي بيان قدره وصفته منع للاختلاف والتنازع بين المتعاقدين، كما قلنا في بيان المباع وهو المسلم فيه.
(28)
مسألة: إذا جعل زيد عبدًا أمانة عند بكر، أو أن بكراً قد غصب هذا العبد من زيد، أو أنه استعاره منه ثم اشترى زيد بهذا العبد مائة صاع من بُرٍّ يُسلِّمها بكر لزيد بعد الحصاد: فإن هذا السلم يصح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قبض بكر للثمن - وهو هنا العبد - وتأجيل المثمن - وهو البر-: أن يصح ذلك؛ لوجود حقيقة السلم هنا.
اردبِّ وربع مثلًا إلى شعبان" فإن لم يُبيِّن ما ذكر فيهما: لم يصح؛ لأن مقابل كل من الجنسين، أو الأجلين مجهول
(29)
، الشرط (السابع: أن يُسلم في الذِّمَّة فلا يصح) السلم (في عين) كدار وشجرة؛ لأنها رُبَّما تلفت قبل أوان تسليمها
(30)
، (و) لا يُشترط ذكر مكان الوفاء؛ لأنه عليه السلام لم يذكره، بل (يجب الوفاء موضع
(29)
مسألة: إذا أسلم ثمناً واحدًا في جنس واحد إلى أجلين: كأن يقول زيد في شهر محرم: "أسلمتك ألف ريال على أن تسلِّمني أربعين صاعًا من البر في أول رجب، وأن تسلمني خمسين صاعًا في أول شعبان من هذه السنة": فإن هذا يصح بشرط: أن يُبيِّن قسط كل شهر - كما مثَّلنا، وكذا: يصح عكسه: بأن يُسلِّمه زيد ثمناً واحدًا في جنسين إلى أجل واحد كأن يقول زيد: "أسلمتك ألف ريال على أن تُسلِّمني تسعين صاعًا من البر والشعير في أول رجب" فهذا يصح بشرط: أن يُبيِّن كلَّ جنسٍ وثمنه بأن يقول سبعمائة ريال لسبعين صاعًا من البر صفته كذا، وثلاثمائة ريال لعشرين صاعًا من الشعير صفته كذا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن بيع الأعيان يجوز إلى أجل وإلى أجلين وأكثر، وكما يجوز بيع جنسين بثمن واحد فكذلك السَّلم مثله، والجامع: أن كلاً منها يعتبر بيعًا، فإن قلتَ: لِمَ صحّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك في الصورتين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه إذا لم يُبيِّن ما ذكر فإنه يؤدِّي إلى الغرر والجهالة، وهو يفضي إلى أكل مال المسلم بالباطل.
(30)
مسألة: في السابع - من شروط صحة السَّلم - وهو: أن يُسلم في الذِّمَّة، فلا يصح السَّلم في عين: كأن يستلم زيد عشرة آلاف من بكر في دار موجودة الآن وهذا قد سبق الكلام عنه في الشرط الرابع وهو: "أن يكون المسلم فيه مُؤجَّلاً إلى مدة معلومة" - وذلك في مسألة (21) -؛ حيث إن المؤجَّل لا يكون إلّا في الذِّمَّة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إمكان تسليمه واستلامه وبيعه في الحال: عدم صحة السَّلم فيه، ورُبَّما تلفت العين قبل وقت استلامها.
العقد)؛ لأن العقد يقتضي التسليم في مكانه، وله أخذه في غيره إن رضيا
(31)
، ولو قال:"خذه وأجرة حمله إلى موضع الوفاء": لم يجز
(32)
(ويصح شرطه) أي: الوفاء (في غيره) أي: غير مكان العقد؛ لأنه بيع، فصحّ شرط الإيفاء في غير مكانه كبيوع الأعيان
(33)
، وإن شرطا الوفاء موضع العقد: كان تأكيدًا
(34)
(وإن عقدا) السَّلم (ببر) ية (أو بحر: شرطاه) أي: مكان الوفاء لزوماً، وإلا: فسد السَّلم؛ لتعذُّر الوفاء
(31)
مسألة: لا يُشترط ذكر مكان الوفاء، وتسليم المسلم فيه، بل يجب الوفاء في موضع العقد إن كان صالحًا لذلك عادة، فإن لم يكن صالحًا: فإن المسلم فيه يستلمه مُستحقه في أي مكان يصلح له، وتراضيا عليه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم" فلم يذكر مكان الوفاء، فلم يُشترط، الثانية: العرف والعادة؛ حيث دلَّت العادة على أن الوفاء يكون في مكان العقد فاكتفي بذلك عن ذكره والشرط العرفي كاللفظ، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
(32)
مسألة: إذا قال البائع للمشتري في وقت تسليم المسلم فيه: "خذه وأجرة حمله إلى موضع الوفاء": فإن هذا لا يصح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون هذا معاوضة عن بعض السَّلم: عدم صحته.
(33)
مسألة: يصح أن يشترط المتعاقدان: أن يقوم البائع بالوفاء بالمسلم فيه في غير مكان العقد؛ للقياس؛ بيانه: كما يصحّ ذلك في بيع الأعيان فكذلك يصح في السَّلم والجامع: أن كلاً منها يُسمَّى بيعًا، ولا جهالة في ذلك ولا غرر، وهو المقصد منه.
(34)
مسألة: إذا شرط المتعاقدان: أن يكون مكان الوفاء بالمسلم فيه مكان العقد: فإن هذا يكون تأكيدًا لما يقتضيه العقد؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو اشترطا تعيين الكيل الذي يتعاملان به المشهور: فإنه يصحّ ذلك ويكون تأكيدًا فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما شرطاً ما يقتضيه العقد بالقول.
موضع العقد، وليس بعض الأماكن سواه أولى من بعض فاشترط تعيينه بالقول كالكيل
(35)
، ويُقبل قول المسلم إليه في تعيينه مع يمينه
(36)
(ولا يصح بيع المسلم فيه) لمن هو عليه أو غيره (قبل قبضه)؛ لنهيه عليه السلام: "عن بيع الطعام قبل قبضه"
(37)
(35)
مسألة: يجب أن يشترط المتعاقدان في السَّلم مكان الوفاء وتسليم المسلم فيه؛ ويتّفقان عليه إذا عقدا السَّلم في الصحراء، أو البحر، أو دار حرب، فإن لم يذكرا ذلك: فإن السلم يفسد: للقياس، بيانه: كما يجب اشتراط تعيين الوفاء بالكيل قولًا إذا كان المسلم فيه مما يجوز فيه الوزن والكيل، فكذلك يجب ذكر مكان الوفاء إذا عقدا السَّلم في صحراء، أو بحر، أو دار حرب، أو أي مكان لا يمكن التسليم فيه، والجامع: قطع النزاع والاختلاف في كل؛ لكون كل مكان في الصحراء أو في البحر ليس بأولى من له المكان الآخر فيقع التنازع فدفعاً لذلك شرع هذا، فإن قلتَ: لِمَ يفسد السلم أن لم يُعينا مكانًا للوفاء به؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يتعذَّر الوفاء في مكان العقد الذي يقتضيه؛ لما ذكرنا، وهذا يؤدي إلى فساد العقد كله، وأيُّ عقد يؤدِّي إلى تنازع بين المتعاقدين: فهو باطل.
(36)
مسألة: إذا اختلف المتعاقدان في مكان الوفاء واستلام المسلم فيه - وهو المباع -: فقال المشتري: "إني أستلم في السوق الفلاني"، وقال البائع - وهو: المسلم إليه: "إني سأسلِّمك في داري": فإنه يُقبل قول البائع وهو المسلم إليه مع يمينه أنه صادق في هذا المكان؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُقبل قول الغارم مع يمينه فيما غرم، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلاً منهما غارم فيما لو تلف المباع.
(37)
مسألة: لا يصح للمشتري أن يبيع المسلم فيه - وهو العين المباعة المؤجَّلة - قبل أن يقبضه: سواء كان هذا البيع على بائعه - وهو المسلم إليه - أو غيره؛ للسنة القولية: حيث نهى عليه السلام: "عن بيع الطعام حتى يستوفيه" وفي رواية "قبل قبضه"، فحرَّم بيع المسلم فيه - وهو المباع - قبل قبضه من البائع وهو المسلم إليه، ولو باع المشتري ذلك: كان البيع فاسدًا، لأن النهي مطلق فيقتضي التحريم =
(ولا) يصح أيضًا (هبته) لغير من هو عليه؛ لعدم القدرة على تسليمه
(38)
(ولا الحوالة به)؛ لأنها لا تصلح إلا على دين مستقر، والسَّلم عرضة للفسخ (ولا) الحوالة (عليه) أي: على المسلم فيه، أو رأس ماله بعد فسخ
(39)
(ولا أخذ عوضه)؛ لقوله عليه
والفساد، والمنهي عن بيع السلعة على البائع وغيره، فهو عام لهما؛ لأن "بيع" نكرة في سياق نفي، وهو النهي، فإن قلتَ: لِمَ لا يصح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن بيعه قبل قبضه قد لا يمكنه من تسليمه للمشتري الجديد، وقد يستغلُّه البائع - وهو المسلم إليه - فيشتريه بثمن بخس، فيكون فيه أكل مال الآخرين بالباطل.
(38)
مسألة: لا يصح للمشتري: أن يهبّ المسلم فيه - وهو: العين المباعة المؤجَّلة - قبل أن يقبضه ذلك المشتري، أما إن أراد هبته للمسلم إليه وهو البائع: فيصح؛ للقياس، بيانه: كما لا تصح هبة المباع عينًا قبل قبضه من البائع فكذلك لا تصح هنا والجامع: أن كلاً منها لا يُقدر على تسليمه، فإن قلتَ: لِمَ صحت هبته لبائعه؟ قلتُ: لأن المسلم فيه وهو المباع في يده فيستطيع الاستفادة منه.
(39)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر عشرين صاعًا من البر، وقبض بكر ثمنها من زيد - وهو مائة ريال - واتّفقا على أن يُسلم بكرٌ البرَّ هذا بعد سنة، وكان محمد يُطالب زيداً بمائة ريال، فحوَّله زيد على بكر ليأخذ، ذلك البر منه عن المائة التي يُطالبه بها: فلا يصح ذلك، وكذلك لا يصح لبكر أن يُحوِّل زيداً إلى خالد ليأخذ منه ذلك البر - بدلًا عن مائة كان يُطالبه بها -، وكذلك: لا يصح لزيد أن يُحوِّل محمدًا إلى بكر ليأخذ منه رأس ماله بعد فسخه للبيع وقبل قبضه، للتلازم؛ حيث إن الحوالة لا تصحّ إلا على دين مستقر والمسلم فيه - وهو العين المؤجَّلة - غير مستقر؛ لكونه عرضة للفسخ، ورأس المال الذي لم يُقبض عرضه لعدم القدرة على استلامه فلزم من ذلك: عدم صحة الحوالة به ولا عليه ولا الحوالة على رأس ماله بعد الفسخ وقبل قبضه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه غرر وجهالة، ووقوع تنازع غالبًا، فدفعاً لذلك لا تصح =
السلام: "من أسلم في شيء: فلا يصرفه إلى غيره" وسواء فيما ذُكر إذا كان المسلم فيه موجودًا أو معدوماً، والعوض مثله في القيمة، أو أقل، أو أكثر
(40)
، وتصح الإقالة في السَّلم
(41)
(ولا يصح) أخذ (الرَّهن والكفيل به) أي: بدين السَّلم، رويت كراهته عن علي، وابن عباس، وابن عمر؛ إذ وضع الرهن للاستيفاء من ثمنه عند تعذُّر
الصور الثلاث السابقة.
(40)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر عشرين صاعًا من الشعير بمائة ريال، واستلم بكر تلك المائة في مجلس العقد، واتفقا على أن يقع استلام الشعير بعد سنة: فلا يصح أن يأخذ زيد تمراً عن الشعير قبل قبض الشعير: سواء كان العِوض - وهو: التمر - أقلَّ أو أكثر أو مساويًا لقيمة الشعير، وسواء كان المسلم فيه - وهو: الشعير - موجودًا أو معدوماً بل لا بدَّ أن يأخذ زيد المسلم فيه - وهو الشعير - بعينه - أو يأخذ ما دفعه وهو - وهو المائة -؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أسلم في شيء: فلا يصرفه إلى غيره" فحرم أخذ غير المسلم فيه، ولو أخذه لا يصح؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد، وهو عام لما ذكرنا؛ لأن "مَنْ" الشرطية من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن أخذه العِوض عن المسلم فيه يُعتبر بيعًا للمسلم فيه بذلك العوض، أي: بيع الشعير بالتمر قبل قبض الشعير ولا يجوز بيع الشيء قبل قبضه - كما سبق -، لكونه يُؤدِّي إلى الاختلاف والتنازع فدفعاً لذلك: شرع هذا.
(41)
مسألة: تصح الإقالة في جميع ما أُسلم فيه، أو بعضه: بأن يقول أحد المتعاقدين: "أقلني من هذه البيعة أو بعضها" فإن قبل الآخر: فإن البائع - وهو المسلم إليه - يرد الثمن إلى المشتري - وهو المسلم - إن كان بقاياً، وإن لم يكن باقياً: ردَّ مثله، أو قيمته؛ للقياس: بيانه: كما تصحّ الإقالة في بيع الأعيان فكذلك تصح في بيع المؤجَّل والجامع: أن كلاً منها يُسمَّى بيعًا، وفيه إبراء لذمة الآخر من أي تعلُّقات لازمة.
الاستيفاء من الغريم، ولا يمكن استيفاء المسلم فيه من عين الرهن، ولا من ذمَّة الضامن؛ حذراً من أن يصرفه إلى غيره
(42)
، ويصحّ بيع دين مستقر كقرض، أو ثمن مبيع لمن هو عليه بشرط قبض عوضه في المجلس، وتصحّ هبة كل دين لمن هو عليه، ولا يجوز لغيره، وتصحّ استنابة من عليه الحق للمستحق
(43)
.
(42)
مسألة: إذا اشترى زيد من بكر أصواعاً من بر بعشرة آلاف، واستلم بكر ثمنها هذا في مجلس العقد، واتفقا على أن يقع استلام الأصواع من البائع - وهو المسلم إليه - بعد سنة: فإنه لا يصح أن يرهن بكر هذه الأصوع عند محمد عن دين يُطالبه به محمد هذا، ولا يصح أن يكفل بكر أحدًا بهذا المسلم فيه؛ للتلازم؛ حيث إن الرهن إنما يجوز بشيء يُمكن استيفاؤه من ثمنه عند تعذُّر الاستيفاء من الغريم، وكذلك الكفالة بالمسلم فيه، ولا يمكن استيفاء المسلم فيه من عين الرهن، ولا من ذمة الضامن؛ فقد يصرفه إلى غير المسلم فيه فلزم عدم صحته، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع للتحايل لأكل أموال الناس بالباطل.
(43)
مسألة: إذا كان زيد يُطالب بكراً بألف دينار ديناً عليه لزيد: فيصح أن يبيع زيد تلك الدنانير على بكر ويأخذ عنها دراهم، أو إبل، أو غنم، ويصح أن يهبها زيد لبكر بشرط: قبض عوضه في المجلس العقد والتفرق ولا شيء بينهما، ولا يصح بيع ذلك الدَّين - وهي ألف دينار - لغير بكر؛ للسنة القولية: حيث كان الصحابة يبيعون الإبل بالبقيع بالدنانير، ويأخذون عنها الدراهم فسألوا النبي عليه السلام فقال:"لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء" فلا بدَّ من هذا الشرط لهذا النوع من البيع، وخصِّص هذا ببيعه على من هو عليه الدين، أما غيره فلا يصح؛ لأنه غير قادر على تسليمه، ولا يصح بيع دين غير مستقر كدين كتابة عبد؛ لكونه قد يعدل العبد عن الكتابة، تنبيه: قوله: "وتصح استنابة من عليه الحق للمستحق" قد سبق بيان ذلك في باب "الخيار".
هذه آخر مسائل باب "السَّلم" ويليه باب "القرض".
باب القرض
بفتح القاف، وحكي كسرها، ومعناه لغة: القطع، واصطلاحًا: دفع مال لمن ينتفع به ويردُّ بدله
(1)
، وهو جائز بالإجماع (وهو مندوب)؛ لقوله عليه السلام في حديث ابن مسعود:"ما من مسلم يُقرض مسلمًا قرضاً مرَّتين إلا كان كصدقة مرَّة" وهو مباح للمقترض وليس من المسألة المكروهة؛ لفعله عليه السلام
(2)
(وما يصح
باب القرض
وفيه سبع عشرة مسألة:
(1)
مسألة: القرض: لغة: القطع، ومنه قولهم:"أقرض زيد بكراً" أي: قطع له شيئًا من ماله ليعطيه بكراً، وهو في الاصطلاح: أن يدفع زيد لبكر مالًا بدون عوض لينتفع به بكر، ويردُّ بكر بدله بعد الانتفاع بالأول، فإن قلتَ: لِمَ جُعل باب القرض بعد باب السَّلم؟ قلتُ: لأن فيه شبهاً من السَّلم والسلف؛ حيث إن فيه دفع مال في المجلس، وتأجيل سداده بدون عوض، لذلك يُسمَّى عند العامة "السَّلف" فإن قلتَ: لِم جُعل باب القرض في باب المعاملات والمعاوضات مع أنه من باب الإرفاق والتبرّع؟ قلتُ: لأن فيه نوع معاملة مسلم مع أخيه المسلم، وهذا خلاف قاعدة "المعاملات"؛ حيث إنه لا عوض فيه، فإن قلتَ: ما الفرق بينه وبين الهبة والعارية؟ قلتُ: إن الشيء المعار يردُّ بنفسه، والموهوب لا يُردُّ أصلًا، أما الشيء المقترَض فيُردُّ بدله.
(2)
مسألة: إذا طلب زيد من بكر قرضاً: فإن هذا الاقتراض مباح من زيد ويُستحب لبكر أن يُقرض زيداً إن استطاع؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر" الثانية: السنة الفعلية حيث إنه عليه السلام: "قد استسلف بكراً" - وهو: الصغير من الإبل، ونظراً لهاتين القاعدتين: قد أجمع العلماء على جوازه، فإن قلتَ: لِمَ استُحب القرض؟ =
بيعه) من نقد أو عرض: (صح قرضه) مكيلاً كان أو موزوناً أو غيرهما؛ لأنه عليه السلام استسلف بكراً (إلا بني آدم) فلا يصح قرضهم؛ لأنه لم يُنقل، ولا هو من المرافق، ويُفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها ثم يردُّها
(3)
، ويُشترط معرفة قدر القرض، ووصفه، وأن يكون المقرض ممن يصحُّ تبرُّعه
(4)
، ويصح بلفظه، وبلفظ "السَّلف"، وكل ما أدَّى معناهما، وإن قال:"ملكتك" ولا قرينة على ردِّ بدل: فهبة
(5)
(ويملك)
قلتُ: للمصلحة؛ لأن فيه رفقاً بالمحاويج: فقد يحتاج مسلم مالًا وليس عنده ما يرهنه، ولا يتحمَّل الدَّين، ففتح الشارع هذا الباب؛ لينتفع المقرض والمقترض، فالمقترض ينتفع بالأجر العظيم الذي وعده الله إيّاه قال عليه السلام:"من نفَّس عن مسلم كربة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كُرب الآخرة" والمقترض ينتفع في قضاء حاجته، وبهذا يحلُّ التعاون والتعاضد في المجتمع، فإن قلت: لِمَ كان القرض أفضل من الصدقة؟ قلتُ: لأن المستقرض لا يطلب قرضاً إلا من حاجة ماسة قد ألمّت به، بخلاف من تُصدِّق عليه فقد يكون عنده قوت يومه.
(3)
مسألة: يصحُّ قرض كل شيء صحَّ بيعه من مكيلٍ، وموزونٍ، ومذروعٍ ومعدودٍ ومنافع إلا بني آدم كالعبيد والإماء فلا يصح القرض فيهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون هذه الأشياء تنفع الآخرين من غير ضرر على الآخرين: صحة قرضها، ويلزم من وجود الضَّرر على الآدميين - كالعبيد والإماء -: عدم صحة قرضهم.
(4)
مسألة: يُشترط لصحة القرض شرطان: أولهما: أن يكون الشيء المقترض معلومًا قدره ووصفه - كما في السَّلم - ثانيهما: أن يكون المقرض ممن يصحَّ بيعه وتبرُّعه، فلا يُقرض صبي ومجنون، ولا يُقرض وليهما من مالهما، ولا ناظر وقف منه ونحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أن السَّلم يُشترط فيه ذلك فكذلك القرض، والجامع: أن كلاًّ منهما مال يجوز فيه الاختلاف فيه، فاشترط ذلك فيه؛ لدفع ذلك، وهو المقصد منه.
(5)
مسألة: يصح القرض بأيِّ صيغة تُفهم بأن المراد هو القرض مثل: "أقرضتك" أو =
القرض (بقبضه) كالهبة، ويتم بالقبول، وله الشراء به من مُقرضه
(6)
(فلا يلزم ردُّ عينه)؛ للزومه بالقبض (بل يثبت بدله في ذمَّته) أي: ذمَّة المقترض (حالاً ولو أجَّله) المقرض؛ لأنه عقد مُنع فيه من التفاضل: فمنع الأجل فيه كالصَّرف، قال الإمام: القرض حال، وينبغي: أن يفي بوعده
(7)
(فإن ردَّه المقترض) أي: ردَّ القرض بعينه:
"سلَّفتك" أو "ملكتك هذا على أن تردَّ عليَّ بدله" أو "خذ هذا انتفع به وردَّ عليّ بدله" أو قال زيد لبكر: "أقرضني" فقال بكر: "خذ هذا" ونحو ذلك، أما إن قال:"ملَّكتك هذا" ولم توجد قرينة على ردِّ بدله: فإن يكون هبة لا قرض؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لفظ "القرض" و "السلف" وما يُفهم ذلك: أن المراد القرض؛ لوروده في الشرع، ويلزم من لفظ "ملكتك" بدون قرينة تدل على ردِّ البدل: أن المراد الهبة؛ عملًا بالظاهر؛ لكون التمليك من غير عوض هبة.
(6)
مسألة: يملك المقترض الشيء المقترض بقبضه من المقرِض، وليس للمقرض استرجاعه، ويتم القرض بقبول المقترض، ولذا فللمقترض التصرُّف بكل حرية بهذا القرض ومنه: أن يشتري به من مُقرضه أيَّ شيء؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الهبة تملك بقبضها، ويتصرَّف القابض لها كما شاء بها فكذلك القرض مثلها، والجامع: أن كلاًّ منهما عقد لازم يقف التصرُّف فيه على القبض فيُوقف الملك عليه.
(7)
مسألة: إذا قبض المقترض الشيء المقترض وملكه بذلك: فلا يجب عليه ردُّ عين ذلك الشيء المقترض، بل الذي يثبت في ذمته بدله، وللمقرض طلب بدله من المقترض في الحال، فإن أجَّله: فلا يُعتبر ذلك التأجيل؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن الشيء المتلف يجب على المتلف بدله حالاً ولا يجب عليه عينه، فكذلك المقترض هنا، والجامع: أن كلاًّ منهما فيه سبب يُوجب ردَّ المثل في المثليات، ثانيهما: كما أن الصَّرف لا يجوز التأجيل فيه بل يُشترط أن يكون حالاً، فكذلك القرض مثله، والجامع: أن كلاًّ منهما عقد يُمنع فيه التفاضل فمنع =
(لزم) المقرض (قبوله) إن كان مثلياً؛ لأنه ردَّه على صفة حقِّه: سواء تغيَّر سعره أو لا، حيث لم يتعيَّب
(8)
، وإن كان مُتقوِّماً: لم يلزم المقرض قبوله، وله الطلب بالقيمة
(9)
(وإن كانت) الدراهم التي وقع القرض عليها (مكسَّرة أو) كان القرض (فلوسًا فمنع السلطان المعاملة بها) أي: بالدراهم المكسَّرة أو الفلوس: (فله) أي: للمقرض (القيمة وقت القرض)؛ لأنه كالعيب، فلا يلزمه قبولها، وسواء كانت باقية أو استهلكها، وتكون القيمة من غير جنس الدراهم، وكذلك المغشوشة إذا حرَّمها
الأجل فيهما، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه تيسير على المقترض بأن لا يُطالب بالعين؛ لكونها قد تتلف، وعلى المقرض: بأن يكون له المطالبة بحقه في الحال؛ لكونه متبرعاً فقد يحتاج حقَّه؛ لسدِّ حاجته، ويُستحب للمقترض أن يفي بوعده وهو: ردُّه بأي وقت شاء المقرض.
(8)
مسألة: إذا ردَّ المقترِض عين المال المقترَض: وكان هذا المال مثلياً كالمكيلات والموزونات: فيلزم المقرض قبوله وأخذه: سواء نقص سعره أو زاد إلا إذا تعيَّب المقرض بعيب - كأن يُصيب البر مثلًا رطوبة فتفسده - فلا يلزم المقرِض قبوله؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن المسلم فيه لو رُدَّ: فإنه يلزم المسلم إليه قبوله، فكذلك هنا، والجامع: أنه في كل منهما ردٌّ على صفته التي أخذه بها؛ الثانية: المصلحة؛ حيث إن المقرِض يتضرَّر إذا رد إليه المقترض القرض وهو معيب، فدفعاً لذلك لا يلزمه أخذه.
(9)
مسألة: إذا ردّ المقترض عين المال المقرَض وكان متقومًا كالثياب والحيوانات وكل شيء - غير المكيل والموزون - مما لا مثل له: فلا يلزم المقرض قبوله، بل يُطالب المقرض المقترض بالقيمة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشيء إذا تلف وهو لا مثل له: فإنه يجب على المتلف قيمة ذلك الشيء، فكذلك الحال هنا، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ضمان حق المقرض.
السلطان
(10)
(ويردُّ) المقترض (المثل) أي: مثل ما أقترضه (في المثليات)؛ لأن المثل أقرب شبهاً من القيمة، فيجب رد مثل فلوس غلت، أو رخصت، أو كسدت (و) يرد (القيمة في غيرها) من المتقومات، وتكون القيمة في جوهر ونحوه يوم قبضه، وفيما يصح سلم فيه يوم قرضه (فإن أعوز) أي: تعذَّر (المثل: فالقيمة إذًا) أي: وقت إعوازه؛ لأنها حينئذٍ تثبت في الذمة
(11)
(ويحرم) اشتراط (كل شرط جرَّ نفعًا) كأن يُسكنُه داره، أو يقضيه خيرًا منه؛ لأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة: أخرجه عن موضوعه
(12)
(وإن بدأ به) أي: بما فيه نفع كسكنى داره (بلا شرط) ولا
(10)
مسألة إذا أقرض زيد بكراً نقودًا مكسَّرة، أو مقصوصة، أو أقرضه فلوسًا منع السلطان التعامل بها، وأصدر غيرها: فيجب على المقترض - وهو بكر - قيمتها وقت القرض، وهو: ثبوتها في ذمَّة المقترض: سواء كانت باقية، أو مستهلكة فيقوم بكر بتقويمها، ثم يُعطي زيداً قيمتها كما قال الإمام أحمد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشيء إذا أصابه عيب عند المشتري وأراد ردَّه: فإنه يردُّ قيمته، فكذلك هنا؛ والجامع: وقوع العيب في كل؛ لكون منع السلطان لها، وكسرها منع لإنفاقها، وإبطال لماليتها، وهذا كله حماية لحقوق المقرض.
(11)
مسألة: يجب على المقترض أن يردَّ على المقرض مثل ما اقترضه إن كان له مثل كفلوس وكيل وموزون يصح السَّلم فيه - كما سبق - بدون نقصان القيمة، أو زيادتها، أما إن لم يكن له مثل، أو تعذَّر المثل كالمتقوِّمات مثل الثياب، والحيوانات، والجواهر مما لا يُضبط بالصفة يوم قبضه: فإنه يُقوَّم في وقت وجوبه في الذمة - وهو حين القرض -؛ للتلازم؛ حيث إن المثل أقرب شبهاً بما أقرضه إياه من شبهه بالقيمة فيلزم: أن يُلحق بما يُماثله بدلًا من قيمته، ويلزم من عجزه عن إيجاد المثل للشيء المقرض: أن يثبت في ذمته قيمة القرض؛ لكونه لا يقدر إلّا على ذلك، وهذا فيه مراعاة لحالة المقترض، وعدم النقص من حق المقرض.
(12)
مسألة: يحرم على المقرض: أن يشترط على المقترض شرطاً يقتضي جرَّ نفعًا إلى =
مواطأة، بعد الوفاء: جاز، لا قبله (أو أعطاه أجود) بلا شرط: جاز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فردَّ خيرًا منه، وقال:"خيركم أحسنكم قضاء" متفق عليه (أو) أعطاه (هدية بعد الوفاء: جاز)؛ لأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضًا في القرض، ولا وسيلة إليه
(13)
(فإن تبرَّع) المقترض (لمقرضه قبل وفائه بشيء: لم تجر عادته به) قبل القرض: (لم يجز إلا أن ينوي) المقرض (مكافأته) على ذلك الشيء (أو احتسابه من دينه) فيجوز
المقرض بأن يقول زيد لبكر: "أنا سأقرضك عشرة آلاف بشرط: أن تجعلني أسكن دارك شهرًا" أو "بشرط أن تردَّ برًا جيدًا عن البر الذي أقرضتك إيّاه" أو نحو ذلك؛ لقول الصحابي؛ حيث قال ابن مسعود: "كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا"، وقال ابن عمر:"سلف تُسلِّفه تريد به وجه الله فلك وجه الله، وسلف تريد به وجه صاحبك فلك وجه صاحبك، وسلف لتأخذ به طيبًا بخبيث فذلك الربا"، فإن قلتَ: لِمَ حرم هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القرض عقد إرفاق بالآخرين، وقربة إلى الله، فإذا شُرط ذلك: كان استغلالاً لهذا المقترض وتحايل لأكل ماله بغير حق؛ لكونه قد زاده ما اشترطه، وهذا هو الربا، وإخراج عن ما وضع له.
(13)
مسألة: إذا بدأ المقترض فأعطى ما فيه نفع للمقرض كان يسكنه المقترض داره، أو راعاه في أجرة شيء، أو أعطاه شيئًا أجود مما أعطاه المقرض، أو أزيد منه، في القدر أو الصفة أو أعطاه هدية بدون شرط، أو مواطأة واتفاق وذلك بعد وفاء القرض، وردَّ المقترَض: فإن ذلك كله جائز؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "خيركم أحسنكم قضاء" ويلزم من ذلك الإحسان: أن يزيد المقترض في القرض عند الوفاء؛ الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد استسلف بكراً - وهو الصغير من الإبل - فردَّ خيرًا منه. الثالثة: التلازم؛ حيث إن المقترض لما لم يجعل ما زاده عند الوفاء عِوضًا في القرض، ولا وسيلة إليه: فإنه يلزم منه: جوازه، فإن قلتَ: لِمَ جُعل ذلك جائزاً؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُعتبر من مكارم الأخلاق التي حثَّ الشارع عليها ومن باب جزاء الإحسان =
له قبوله؛ لحديث أنس مرفوعًا قال: "إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه، أو حمله على الدابة فلا يركبها، ولا يقبله إلّا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" رواه ابن ماجه وفي سنده جهالة
(14)
(وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر: لزمته) الأثمان أي:
بالإحسان.
(14)
مسألة: إذا تبرَّع المقترض - وهو زيد - بشيء وأعطاه مُقرضه - وهو بكر - قبل وفائه القرض: فله حالات ثلاث: الحالة الأولى: إن كان من عادة زيد أن يتبرَّع ويُهدي بكراً شيئًا قبل أن تحصل بينهما عملية القرض بمدة: فإنه يجوز لمقرضه - وهو بكر - أن يأخذ ذلك التبرع المعتاد؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك لا يُؤدِّي إلى الزيادة؛ لكون العادة جارية بينهما بذلك فيلزم جواز ذلك الحالة الثانية: إذا لم تكن بينهما عادة في مثل ذلك، ولكنه تبرَّع له بنية مجازاته، وفعل مثل ما فعل معه من النفع، أو نوى بهذا التبرُّع: أن يحسب المقرض هذا من دينه، وأن يخصمه منه: فيجوز للمقترض أن يأخذ ذلك وأن يقوم بخصمه؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وهذا عام؛ لأن "الأعمال" جمع معرف بأل وهو من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن المقترض أراد المكافأة، أو الاحتساب من دينه: فلا مانع منه، الحالة الثالثة: إذا لم تكن لزيد - وهو المقترض - عادة بالتبرّع للمقرض - وهو بكر -، ولم ينوِ شيئًا: فلا يجوز للمقرض أن يأخذ شيئًا؛ لسد الذرائع؛ حيث إن ذلك قد يُتَّخذ ذريعة إلى تأخير الدَّين؛ نظرًا لأخذ هذا التبرّع أو الهدية، أو أي منفعة، فيؤدِّي إلى الربا؛ لكونه سيعود إليه ماله مع أخذ الفضل - وهو: المتبرَّع به أو الهدية الآتي من المقترض - فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه أجيز الأخذ في الحالتين الأوليين، لتحقيق التواصل والألفة والمحبة والترابط بين المسلمين، ولم يُجز في الثالثة؛ لكونه يؤدّي إلى باطل - وهو الربا - وما أدَّى إلى باطل فهو باطل، تنبيه: قوله "إلا أن ينوي المقرض مكافأته" قلتُ: الصحيح في العبارة: "إلا أن =
مثلها؛ لأنه أمكنه قضاء الحق من غير ضرر فلزمه، ولأن القيمة لا تختلف فانتفى الضرر (و) يجب (فيما لحمله مؤنة قيمته) ببلد القرض؛ لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه، ولا يلزمه المثل في البلد الآخر؛ لأنه لا يلزمه حمله إليه (فإن لم تكن) قيمته (ببلد القرض أنقص) صوابه:"أكثر" فإن كانت القيمة ببلد القرض أكثر: لزم مثل المثلي؛ لعدم الضرر إذًا
(15)
، ولا يُجبر ربُّ الدَّين على أخذ قرضه ببلد آخر إلا فيما لا مؤنة
ينوي المقترض
…
كما بيّنته في المسألة، تنبيه آخر: الحديث لا يصحّ الاستدلال به؛ لضعفه.
(15)
مسألة: إذا أقرض زيد بكراً شيئًا في بغداد، وطالب زيد بكراً بأن يُسلِّمه الشيء المقرض في مكة: فله حالتان: الحالة الأولى: إن كان القرض أثماناً، أو ما لا مؤنة لحمله: فإنه يلزم المقترض أن يدفع مثل تلك الأثمان، لا عينها، أو قيمتها في مكة؛ للتلازم؛ حيث إن المقترض أمكنه قضاء القرض من غير ضرر عليه من حمل، أو اختلاف قيمة: فلزم المقترض أن يدفع القرض في مكة؛ إذ لا فرض بينها وبين بغداد في ذلك، الحالة الثانية: إن كان القرض غير أثمان، أو في حملة مشقة ومؤنة كالحديد: فلا يلزم المقترض أن يقضيه في مكّة ولا غيرها، وتجب قيمته في بلد القرض - وهو بغداد - بشرط: أن تكون القيمة قد روعي فيها قيمته في بلد القرض، ولا تكون أنقص من قيمته في بلد الطلب - وهو مكة -؛ للتلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: أن مكان تسليم القرض هو المكان الذي استلم القرض فيه فيلزم اعتبار القيمة فيه، دون نقصان أو زيادة، ولا تُعتبر قيمته في بلد المطالبة - وهو مكة هنا - مطلقًا، ثانيهما: أن وفائه في بلد المطالبة فيه - وهو مكة هنا - يلزم منه أن تزيد القيمة أو تنقص عن قيمة القرض فتكون هناك زيادة تؤدّي إلى الربا المحرم، وكذا: يلزم من حمل القرض - كالحديد ونحوه - إلى بلد المطالبة فيه وهو مكة هنا - أن يلحق المقترض ضرر في حمله، والضرر يزال، فوجب ما ذكرناه، لقطع الحيل التي تؤدِّي إلى أكل مال الناس بالباطل.
لحمله مع أمن البلد والطريق
(16)
، وإذا قال:"اقترض لي مائة ولك عشرة": صحَّ؛ لأنها في مقابلة ما بذله من جاهه، ولو قال:"اضمنِّي فيها ولك ذلك": لم يجز
(17)
.
(16)
مسألة: إذا استلم المقترض القرض في بغداد - مثلًا - وأراد أن يوفي المقرض في بلد آخر كمكة مثلًا: فلا يُجبر المقرض: أن يأخذ ذلك ويستلمه في مكة - مثلًا -: فإن المقرض يُخيَّر بين أن يأخذه وبين أن يمتنع: سواء كان الطريق آمنًا أو لا، وسواء كان لحمله مؤنة أو لا، وسواء تضرَّر المقرض أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن مكان القرض - وهو بغداد هنا - هو الذي يجب تسليم القرض فيه: فيلزم الوفاء به، وهذا من حق المقرض إلا إذا أسقط المقترض حقه، فيكون كغيره ممن يُسقطون حقوقهم، فإن قلتَ: إنه إذا كان لا مؤنة لحمل القرض كالأثمان مع أمن الطريق والبلد: فإنه يلزم المقرض قبول الشيء الذي أقرضه واستلامه وهذا ما ذكره المصنف هنا، للتلازم؛ حيث يلزم من عدم لحوق الضرر إلى المقرض: أن يقبل ذلك قلتُ: إن تقدير الضرر وعدمه راجع إلى المقرض: فهو بالخيار في ذلك؛ لأن الحقَّ له، فلا يُلزم بشيء؛ لأن إلزامه بشيء قد يُلحق به الضرر من حيث لا نعلم فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".
(17)
مسألة: إذا قال زيد لبكر: "اقترض لي من محمد مائة درهم ولك عشرة منها وأعطني التسعين" فإن ذلك يصح، ولا يصح أن يقول زيد لبكر:"أقترض لي من محمد مائة واضمنِّي فيها ولك عشرة منها"؛ للتلازم؛ حيث إن الصيغة الأولى لا ضمان فيها، وأخذ بكر أجرته على توسطه بين زيد ومحمد فلزم صحتها، أما الصيغة الثانية ففيها ضمان وهو بمثابة قرض جرَّ نفعًا: فلزم عدم صحته؛ لأنه يؤدي إلى الربا.
هذه آخر مسائل باب "القرض" ويليه باب "الرَّهن".
باب الرَّهن
هو لغة: الثبوت والدوام، يُقال:"ماء راهن" أي: راكد، و "نعمة راهنة" أي: دائمة، وشرعًا: توثقة دين بعين يُمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها
(1)
وهو جائز: بالإجماع
(2)
، ...........................................
باب الرَّهن
وفيه خمس وستون مسألة:
(1)
مسألة: الرَّهن لغة هو: الحبس الثابت والدائم، يُقال "ماء راهن" أي: راكد محبوس عن الجريان، و"نعمة راهنة" أي: دائمة محبوسة عليك وكل ما احتُبس به شيء: فهو رهينة، ومُرتهنة، وهو في الإصطلاح:"المال الذي جُعل وثيقة عند المرتهن؛ ليستوفي منه أو من ثمنه إن تعذَّر استيفاؤه من غريمه - وهو الراهن" - فمثلًا: لو اشترى زيد من بكر سيارة بمائة ألف ريال على أن يدفع المائة بعد سنة، واشترط بكر أن يرهن زيد داره عنده، فرهن زيد تلك الدار، فإذا مضت تلك السنة ولم يدفع زيد المائة: فإنه يحقُّ لبكر أن يبيع تلك الدار، ويأخذ حقَّه - هو المائة - ويرد الباقي إلى زيد إن بقي شيء، فإن قلت: لِمَ جُعل باب الرهن بعد باب القرض؟ قلتُ: لأن القرض دين، فزيد قد يمتنع أن يُقرض بكرًا إلا إذا أخذ منه شيئًا؛ ليستوثق لنفسه من أن ماله الذي أقرضه لن يؤكل بالباطل.
(2)
مسألة: الرَّهن جائز في السفر والحضر؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} فأجاز الرهن هنا، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إن عائشة قالت: "اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا من يهودي ورهنه درعه"، وهذا يدلّ على جوازه في الحضر. الثالثة: الإجماع على جوازه في السفر، فإن قلتَ: لِمَ جاز الرهن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه المحافظة على مال المرتهن من التحايل على أخذه بالباطل، ودفع التنازع. والاختلاف. فإن قلتَ: =
ولا يصح بدون إيجاب وقبول، أو ما يدلَّ عليهما
(3)
، ويُعتبر معرفة قدره، وجنسه، وصفته
(4)
، وكون راهن جائز التصرُّف مالكًا للمرهون أو مأذونًا له فيه
(5)
و (يصح)
لا يصح الرهن إلّا في السفر ومع عدم الكاتب؛ للكتاب؛ حيث إن الآية السابقة قد اشترطت ذلك قلتُ: إن الرَّهن جائز في السفر والحضر: سواء وجد كاتب أو لا، وسواء كان ذلك في السفر أو لا، وما ذكرته الآية قد خرج مخرج الأغلب؛ لأن الأغلب عند الناس عدم وجود كاتب في السفر، وعدم وجود النقد فيه، فبيَّنت الآية ذلك، فيكون لا مفهوم لذلك الشرط - كما بينتُ ذلك في شروط مفهوم المخالفة الاثني عشر في كتابي المهذَّب (4/ 1802) - والسنة الفعلية تؤيد ذلك كما سبق، وكان وجوده في المدينة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الشرط الموجود في الآية هل له مفهوم أو لا؟ فعندنا: لا مفهوم له، وعندهم: له مفهوم.
(3)
مسألة: يُشترط لصحة الرهن: أن يُوجد إيجاب وقبول من الراهن والمرتهن كقول الراهن: "رهنتك هذا الشيء" فيقول المرتهن: "قبلتُ ذلك الشيء رهنًا عن ديني عليك"، أو ما يدلّ على ذلك ولو لم تكن الصيغة مُصرَّحًا بها، بأن يُعطي الراهن المرتهن شيئًا يساوي الدَّين الذي عليه أو يُقاربه؛ للتلازم؛ حيث إن الرهن فيه استلام وتسليم بين متعاقدين فيلزم الإيجاب والقبول وما يدل على ذلك، وذلك لبيان أنهما قصدا ذلك.
(4)
مسألة: يُشترط لصحة الرهن: أن يكون الشيء المرهون معروفًا لدى المتعاقدين من حيث العلم بقدره وقيمته، والعلم بجنسه - هل هو من العقارات أو الحيوانات أو الثياب؟ - والعلم بصفته التي يختلف الثمن باختلافها؛ للتلازم؛ حيث إن المرهون وثيقة بحق فيلزم اشتراط العلم بها؛ لكونه لا يحصل التوثيق بدون معرفة ذلك. فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع للجهالة والغرر.
(5)
مسألة: يُشترط لصحة الرهن: أن يكون الراهن جائز التصرف فيكون مُكلَّفًا، =
الرهن (في كل عين يجوز بيعها)؛ لأن القصد منه الاستيثاق بالدَّين؛ ليتوصَّل إلى استيفائه من ثمن الرهن عند تعذُّره من الراهن، وهذا مُتحقق في كل عين يجوز بيعها
(6)
(حتى المكاتب)؛ لأنه يجوز بيعه، ويُمكَّن من الكسب وما يؤدِّيه من النجوم رهن معه، وإن عجز: ثبت الرهن فيه وفي كسبه، وإن عتق بقي ما أدَّاه رهنًا، ولا يصح شرط منعه من التصرف، والمعلَّق عتقه بصفة إن كانت تُوجد قبل حلول الدَّين: لم يصح رهنه وإلا: صحَّ
(7)
، ويصح الرهن (مع الحق) بأن يقول: "بعتك هذا بعشرة إلى شهر
مالكًا للشيء المرهون، غير محجور عليه، أو يكون قد أذن الشارع له بالتصرُّف فيه كولي على مال صبي ومجنون وسفيه، وأن يكون قد استعار أو استأجر عينًا يصح رهنه مدة استعارته أو استئجاره، للتلازم؛ حيث إن رهن شيء عند آخر هو نوع تصرُّف في ذلك الشيء: فيلزم اشتراط ذلك؛ إذ لا يصح رهنه بدونه، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لأموال الآخرين أن تُرتهن بدون علم، وفيه منع للتحايل لأكل أموال الناس بالباطل.
(6)
مسألة: يصح أن يُرهن كلُّ عين يجوز بيعها: سواء كانت نقدًا أو لا، وسواء كانت مؤجَّرة، أو جُعْلًا، أو لا، إلا المنافع: فلا يجوز رهنها مع أنه يصح بيعها؛ للتلازم؛ حيث إن كل ما يجوز بيعه يلزم منه تحقُّق مقصود الرَّهن وهو: الاستيثاق بالدَّين؛ ليتوصَّل المرتهن من ثمن العين المرهونة، ليأخذ حقَّه منه إن تعذَّر استيفاء الدَّين من الغريم الراهن للعين، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: لأن كل ما كان محلًّا للبيع كان محلًّا لحكمة الرهن، وكل شيء محل حكمته.
(7)
مسألة: المكاتب - وهو: العبد الذي اشترى نفسه من سيده بأقساط ونجوم يُسدِّدها هذا العبد لسيده على مدة - لا يصح للسَّيد أن يرهنه؛ للتلازم؛ حيث إن استدامة القبض شرط في الرهن، والكتابة تقتضي عدم استدامة القبض؛ لأنه سيعتق نفسه بتسديده لثمنه: فيلزم من ذلك عدم صحة رهنه؛ وذلك لحرمان المرتهن منه في هذه الحالة، وبهذا تفوت مصلحته، فإن قلتَ: يصحّ للسيد أن يرهن المكاتب، =
ترهنني بها عبدك هذا" فيقول: "اشتريته منك ورهنته"؛ لأن الحاجة داعية إلى جوازه إذًا
(8)
(و) يصح (بعده) أي: بعد الحق بالإجماع
(9)
، ولا يجوز قبله؛ لأنه وثيقة بحق،
وهو ما ذكره المصنف هنا - ويُمكّن هذا المكاتب من الكسب ليفي وليُسدِّد ما عليه لسيده، وهذا المكسب يكون مرهونًا مثله، فإن عجز: فإن الرهن يثبت فيه وفيما اكتسبه وإن عتق بسبب تسديده لثمنه: يكون هذا الثمن مرهونًا، ولا يصح رهنًا له يمنعه من كسبه، ولا يصح رهنه إن عُلِّق عتقه بصفة كأن يقول السَّيد:"هو حرٌّ إذا دخل رمضان وحلول الدَّين عند دخول ذلك الرمضان" حيث لا يمكن بيعه عند حلول الحق؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز بيعه: فإنه يجوز رهنه والجامع: أنه ثمن في كل، يستطيع المرتهن الاستفادة منه قلتُ: إن عقد رهنه مناف لعقد مكاتبته، فلا يجتمعان؛ إذ يفوت مقصود الرهن؛ لأن هذا العبد سيعتق بمجرَّد تسديده لثمنه فيتضرَّر المرتهن، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في مقتضى عقد الرهن هل يُنافي مقتضى عقد المكاتبة أو لا؟ " فعندنا: لا يجتمعان، وعندهم: يجتمعان.
(8)
مسألة: يصح الرَّهن عقد البيع وفي صلبه ومع الحق كأن يقول زيد: "بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف تعطيني إيّاها بعد سنة بشرط: أن ترهن عندي دارك هذه" فيقول المشتري - وهو بكر هنا -: "قبلتُ ذلك، ورهنتُ الدار"! للمصلحة: حيث إن الحاجة داعية إلى ثبوته بذلك؛ ليحفظ المرتهن حقه.
(9)
مسألة: يصح الرَّهن بعد الحق وبعد العقد كأن يقول زيد: "بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف تحلُّ بعد سنة" فيقول بكر: "اشتريت ذلك" ثم بعد ذلك يقول زيد: أريد أن ترهن عندي شيئًا استوثق من ذلك فيقول بكر: "أرهن داري" فيقبل زيد قائلًا: "قبلتُ"؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك ومستنده قاعدتان: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وإن كنتم على سفر فلم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} ؛ حيث إن الشارع جعل الرهن بدلًا عن الكتابة فيكون الرهن في محل =
فلم يجز قبل ثبوته، ولأنه تابع للحق فلا يسبقه
(10)
، ويُعتبر: أن يكون (بدين ثابت) أو مآله إليه حتى على عين مضمونة كعارية، ومقبوض بعقد فاسد، ونفع إجارة في ذمَّة
(11)
لا على دين كتابة، أو دية على عاقلة قبل الحلول، ولا بعهدة مبيع، وثمن
الكتابة، فيلزم أن يكون الرهن بعد وجوب الحق؛ لأن محلَّ الكتابة هو بعد وجوب الحق، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الضَّمان يكون بعد وجوب الحق فكذلك الرهن والجامع: أن كلًّا منهما عن دين ثابت تدعو الحاجة إلى الوثيقة به.
(10)
مسألة: يصح الرَّهن قبل الحق، بأن يذكر الراهن شيئًا قبل عقد البيع بينهما إذا كان الكلام متصلًا فمثلًا يصح أن يقول زيد - وهو الراهن - "رهنتك هذه الدار بعشرة آلاف تقرضنيها إلى بعد سنة" فيقول المرتهن "قبلتُ"؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز ذلك في الضمان فكذلك يجوز في الرهن والجامع: أن كلًّا منهما عن دين ثابت وأنه وثيقة بالحق، فلا يُفرَّق بين تقديم ذلك أو تأخيره، فإن قلتَ: إنه لا يصح الرَّهن قبل الحق، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشهادة لا تصح قبل ثبوت المشهود لأجله، فكذلك الرهن لا يصح قبل وجوب الحق، والجامع: أن كلًّا منهما تابع للحق فلا يسبقه قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأنه لا بدَّ من بيان المشهود عليه للشاهدين قبل أن يُدليا بشهادتهما، بخلاف الرهن فهو يجري بين المتبايعين، وإذا وقع تقديم الرهن في العبارة فقط: فلا بأس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: تعارض القياسين حيث إنه تنازع الفرع أصلان فنحن ألحقنا الرهن بالضمان؛ لكونه أكثر شبهًا به عندنا، وهم ألحقوه بالشهادة لأنه أكثر شبهًا بها، وهذا يُسمَّى "قياس غلبة الأشباه".
(11)
مسألة: يُشترط في الرهن: أن يكون بدين ثابت كقرض كأن يقول الراهن: "أقرضني عشرة آلاف أعطيك إياها بعد سنة وأرهن داري" وكشيء يؤول إليه =
وأُجرة معينين، ونفع نحو دار مُعيَّنة
(12)
(ويلزم) الرهن بالقبض (في حق الراهن فقط)؛ لأن الحظ فيه لغيره، فلزم من جهته كالضمان في حق الضامن
(13)
(ويصح رهن المشاع) لأنه يجوز بيعه في محل الحق
(14)
، ثم إن رضي الشريك والمرتهن بكونه في
كثمن شيء في مدة خيار، وكشيء مضمون مثل العارية، ويصحّ أخذ الرهن على شيء مقبوض بعقد فاسد، ويصحّ أخذ الرهن على نفع إجارة في الذمَّة؛ كمن استؤجر لبناء دار، وقيل له:"نرهن دكانك فإن لم تفعل: بعنا دكانك واستأجرنا من يبني تلك الدار" ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن ثبوت الدَّين هو الذي يُقابل ذلك الشيء المرهون فلزم اشتراطه.
(12)
مسألة: لا يصحّ الرهن بدين غير ثابت كدين كتابة - وهي إذا اشترى العبد نفسه على أقساط - فلا يأخذ السَّيد عليه رهنًا، وكدية العاقلة قبل حلوله، وكشيء تابع لمبيع، وكثمن وأجرة معينين عند شخص آخر، ومنافع دار معيّنة؛ للتلازم؛ حيث إن الدَّين هنا غير ثابت؛ إذ يُحتمل أن يعجز العبد، أو يُعجز نفسه عن السداد، ويُحتمل أن تموت العاقلة أو تفقد التكليف قبل الحلول، ويُحتمل عدم ثبوت الثمن والأجرة والنفع في الذمة فلزم عدم صحة الرهن فيه.
(13)
مسألة: الرهن عقد لازم في حقِّ الراهن بعد القبض، وهو عقد جائز في حق المرتهن، يستطيع أن يفسخه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الضامن عقده لازم يلتزم بما ضمنه ويُلزم به فكذلك الراهن، وكما أن المضمون له عقده جائز يستطيع أن يستمر عليه وأن يفسخه فكذلك المرتهن، والجامع: أن الحظ في الضامن والراهن لغيرهما، وأن الحظ في المضمون له والمرتهن لهما، فكل واحد منهما له الفسخ إن شاء، فيكون إسقاطًا لحقهما، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المرتهن.
(14)
مسألة: يصح رهن المشاع: كأن يكون زيد ومحمد شريكين في دار فيصح لزيد أن يقترض من بكر عشرة آلاف مثلًا على أن يدفعه له بعد سنة ويرهن نصيبه من =
يد أحدهما، أو غيرهما: جاز، وإن اختلفا: جعله حاكم بيد أمين أمانة، أو بأجرة
(15)
(ويجوز رهن المبيع) قبل قبضه (غير المكيل والموزون) والمذروع والمعدود (على ثمنه وغيره) عند بائعه وغيره؛ لأنه يصحُّ بيعه، بخلاف المكيل ونحوه: فإنه لا يصح بيعه قبل قبضه، فكذلك رهنه
(16)
(وما لا يجوز بيعه) كالوقف، وأم الولد (لا
تلك الدار؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يصح بيع نصيبه من تلك الدار، ويصح أن يوفي منه ديونه فكذلك يصح رهنه والجامع: أن كلًّا منهما يُمكن استيفاء الدَّين من ثمنه في زمن حلول ذلك الدين.
(15)
مسألة: إذا رهن زيد نصيبه من الشراكة عند بكر - ففيه ثلاث حالات: الحالة الأولى: إن كان بعض المرهون مما لا يُنقل - كالعقار -: فإن الراهن - وهو زيد - يُخلي بين هذا العقار وبين المرتهن - وهو بكر -: سواء حضر شريكه أو لم يحضر، أذن أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن هذه التخلية ليس فيها اعتداء على حصَّة شريكه فيلزم صحة ذلك الحالة الثانية: إن كان بعض المرهون مما يُنقل - كالثياب والدواب - ورضي شريك زيد - الراهن - وبكر - وهو: المرتهن - أن يكون المرهون بيد أحدهما، أو غيرهما: فإنه يجوز؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الملك والحق لا يتعدَّاهما: جواز فعلهما ذلك، الحالة الثالثة: إن كان بعض المرهون مما يُنقل واختلف شريك زيد مع المرتهن - وهو بكر - فيمن يُجعل عنده: فإن الحاكم يستلم الشيء المرهون، ويجعله بيد أمين حتى يفي زيد ما عليه من الدَّين، أو يُباع ذلك المرهون ويقبض المرتهن - وهو بكر - حقَّه، ثم يُرجع الباقي إلى زيد - إن بقي شيء -؛ للتلازم؛ حيث إن شريك زيد لا يلزمه تسليم ما لم يرهنه هو لبكر، وبكر - وهو المرتهن - لا يلزمه ترك الشيء المرهون بيد شريك زيد: فيلزم أن يقوم الحاكم باستلام المرهون وما تعلَّق به ويجعله بيد أمينة ولو بأجرة؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر: فلزم ما قلناه.
(16)
مسألة: يصح رهن أيِّ شيء يصح أن يكون مبيعًا قبل قبضه على ثمنه أو غير =
يصح رهنه)؛ لعدم حصول مقصود الرَّهن منه
(17)
(إلا الثمرة والزَّرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع) فيصحّ رهنهما مع أنه لا يصحّ بيعهما بدونه؛ لأن النهي عن البيع؛ لعدم الأمن من العاهة، ولهذا أمر بوضع الجوائح، وبتقدير تلفهما لا يفوت حق المرتهن من الدَّين؛ لتعلُّقه بذمَّة الراهن
(18)
ويصح رهن الجارية دون
ثمنه، على بائعه أو غيره - أما المكيل، والموزون، والمعدود، والمذروع فلا يصح رهنه قبل قبضه؛ للقياس وهو من وجهين: أولهما: كما يصح بيع المبيع - غير المكيل والموزون - قبل قبضه، فكذلك يصح رهنه قبل قبضه، والجامع: أن كلًّا منهما مستحق للقبض وهو مشابه لرهن الشيء بعد قبضه؛ لكون الثمن في الذمة دين، والمبيع ملك للمشتري فجاز رهن ذلك المبيع ثانيهما: كما لا يصح بيع المكيل، والموزون، والمذروع، والمعدود قبل قبضه فكذلك لا يصح رهن تلك الأشياء قبل قبضها والجامع: أن كلًّا منها لا يصح بربح، ولا برأس ماله، ولا يصح هبته قبل قبضه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لأموال المتبايعين من التحايل عليها أو أكلها بالباطل.
(17)
مسألة: كل ما لا يصح بيعه لا يصح رهنه مثل: الوقف، وأم الولد، والعبد والحيوان الهاربين، والطير في الهواء، والسمك في الماء، والعين المرهونة سابقًا؛ للمصلحة: حيث إن المقصود من الرهن: أن يستوفي المرتهن دينه من ثمن هذا المرهون عند تعذُّر سداد الراهن للدَّين الذي عليه، وهذا لا يمكن فيما لا يصح بيعه؛ لعدم التمكّن من العين المرهونة والتصرُّف بها بالبيع، ولو جاز ذلك لتضرَّر المرتهن.
(18)
مسألة: يصح رهن ثمرة الشجرة قبل بدو صلاحها -كظهور صفاره وحماره في التمر، وحلاوته ومائه في العنب، ويصح رهن الزَّرع الأخضر قبل بدوّ صلاحه - كاشتداد الحب - فيصحّ رهنهما وإن لم يُشترط القطع مباشرة، وإن كان هذا ممّا لا يصح بيعه؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن بيع الثمر حتى يبدو =
ولدها، وعكسه، ويُباعان، ويختصُّ المرتهن بما قابل الرهن من الثمن
(19)
(ولا يلزم الرهن) في حقِّ الراهن (إلّا بالقبض) كقبض المبيع؛ لقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} ولا فرق بين المكيل وغيره، وسواء كان القبض من المرتهن، أو مَنْ اتفقا عليه
(20)
،
صلاحه حتى تؤمن العاهة" "ونهى عن بيع الحب حتى يشتدّ" فتكون العلَّة من ذلك النهي عن بيع هو: الخوف من أن تصيبه العاهة فيُحرم المشتري منه، فيكون هذا من باب بيع ما فيه غرر وجهالة وهو منهي عنه أيضًا ودلّ مفهوم العلّة منه على أن ما لا غرر فيه ولا جهالة، أو ما كان فيه غرر وجهالة قليلة جائز بيعه، والرهن يقل فيه الغرر؛ لكون الثمرة أو الزرع متى تلفت عاد المرتهن إلى الراهن وأخذ حقه الذي في ذمته، بخلاف البيع فلم يصحّ قبل بدوّ صلاحهما؛ لأن الغرر فيه وخشية التلف وارد غالبًا لذلك أمر عليه السلام: "بوضع الجوائح" قائلًا: "بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " أما رهنه: فجائز؛ لقلَّة ذلك، وتوسعة على المسلمين.
(19)
مسألة: يصحُّ رهن الأمة دون ولدها، ويصحُّ رهن ولدها دونها، فإن لم يدفع الراهن ما عليه من الدَّين: فإن المرتهن - يبيع الأمة وولدها معها - وإن كانت الأمة هي المرهونة فقط، أو كان ولدها هو المرهون فقط -، ويأخذ المرتهن دينه، والباقي - إن بقي شيء - يُرجعه إلى الراهن؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز البيع في ذلك فكذلك يجوز الرهن فيه والجامع: أن كلًّا منهما يُمكن أن يستوفي المرتهن دينه منه، فإن قلتَ: لِمَ يبيع الأمة وولدها وإن كانت الأمة هي المرهونة، وكذا الحال في الولد؟ قلتُ: لأنه لا يجوز بيع الأمة دون ولدها أو بيع الولد دون أُمِّه الأمة؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تفريق بين دي الرحم.
(20)
مسألة: الرهن لا يلزم الراهن: إلّا بشرط أن يقبض المرتهن العين المرهونة، وذلك بتسليم الراهن العين المرهونة للمرتهن، ورفع يده عنها، أو تسليم مَنْ اتّفق عليه الراهن والمرتهن أن تكون تلك العين المرهونة عنده: سواء كان المرهون =
والرهن قبل القبض صحيح، وليس بلازم فللراهن فسخه، والتصرُّف فيه
(21)
، فإن تصرَّف فيه بنحو بيع أو عتق: بطل، أو بنحو إجارة، أو تدبير لا يبطل؛ لأنه لا يمنع من البيع
(22)
(واستدامته) أي: القبض (شرط) في: اللُّزوم؛ للآية، وكالابتداء
(23)
مكيلًا أو موزونًا أو غيرهما؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فرهان مقبوضة} فاشترط للزوم الرَّهن: القبض للمرهون؛ ليكون وثيقة عند المرتهن يبيعه إن لم يفِ الراهن بدينه، أما قبل القبض: فليس بوثيقة يستطيع المرتهن بيعه ليستفيد من ثمنه وهذا هو المقصد الشرعي منه.
(21)
مسألة: يصحُّ رهن شيء لم يقبضه المرتهن من الراهن، ولكنه ليس بلازم في حقِّ الراهن: فيجوز للراهن أن يفسخه، وأن يتصرَّف فيه بأي تصرُّف شاء، للتلازم؛ حيث إن عدم وجود شرط الرَّهن - وهو: قبض المرتهن له - يلزم منه: صحة الرهن، وعدم لزومه في حقِّ الراهن، فيتصرَّف فيه كيفما شاء.
(22)
مسألة: إذا تصرَّف الراهن في المرهون قبل أن يقبضه المرتهن: ففيه حالتان: الحالة الأولى: إن كان تصرُّفه هذا مُزيلًا لملكيته له: كأن يبيع الراهن المرهون، أو كان المرهون عبدًا فيعتقه أو يبيعه: فإن الرهن يبطل؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من بيعه أو إعتاقه: عدم استفادة المرتهن من ذلك المرهون للاستيفاء منه لسداد دينه الذي على الراهن، فيكون باطلًا، لفقدان المقصد من مشروعية الرهن، الحالة الثانية: إن كان تصرَّف الراهن في المرهون لا يُزيل ملكيته له كأن يؤجِّر الشيء المرهون، أو يُكاتبه، أو يُزوج الأمة، أو يتدبَّر فيه بهدم بعضه وبناء البعض الآخر ونحو ذلك: فلا يبطل الرهن؛ للتلازم؛ حيث إن التصرُّف الذي لا يخرج المرهون من ملكه لا يمنع من بيع المرتهن له، واستيفاء حقه الذي على الراهن، فوجد المقصد من الرهن.
(23)
مسألة: يشترط في قبض المرتهن للمرهون: أن يستمر ذلك القبض في يد المرتهن حتى يأخذ حقه من الراهن، أو في يد مَنْ اتفقا عليه، وهو شرط لبقاء لزوم =
(فإن أخرجه) المرتهن (إلى الراهن باختياره) ولو كان نيابة عنه: (زال لزومه)؛ لزوال استدامة القبض، وبقي العقد كأنه لم يُوجد فيه قبض
(24)
، ولو آجره، أو أعاره لمرتهن أو غيره بإذنه: فلزومه باق
(25)
(فإن ردَّه) أي: ردَّ الراهن الرهن (إليه) أي: إلى المرتهن: (عاد لزومه إليه)؛ لأنه أقبضه باختياره فلزم كالابتداء، ولا يحتاج إلى تجديد عقد لبقائه
(26)
، ...............................................
عقده؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فرهان مقبوضة} حيث إنه يلزم من لفظ "مقبوضة" استمرار القبض إلى استيفاء المرتهن لدينه، أو بيع هذا المرهون الثانية: القياس، بيانه: كما أنه يُشترط القبض في لزوم الرهن ابتداء، فكذلك يُشترط استدامة هذا القبض؛ لكون هذه الاستدامة في القبض يُحقِّق للمرتهن الغرض الذي من أجله شُرع الرهن، وهو أن يبيعه المرتهن ويأخذ حقه إن لم يفِ الراهن بدينه، وهذا هو المقصد منه.
(24)
مسألة: إذا أخرج المرتهن العين المرهونة من يده وسلَّمها للراهن باختياره، أو بواسطة نائبه: فإنه يزول استدامة القبض، ويُوجد العقد وكأنه لم يُوجد فيه قبض مرهون؛ للتلازم؛ حيث إن استدامة القبض شرط في لزوم المرهون، فيلزم من إعطاء المرتهن العين المرهونة باختياره للراهن: إزالة هذه الاستدامة، (فرع): يجب على الراهن أن يدفع المرهون إذا طلبه المرتهن؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {اوفوا بالعقود} وهذا عام؛ لأن "العقود" جمع معرَّف بأل، وهو من صيغ العموم، فيشمل الرهن؛ لأنه عقد.
(25)
مسألة: إذا أخرج المرتهن العين المرهونة وسلَّمها للراهن ثم أجَّرها الراهن لمرتهن أو لغيره، أو أعارها لأحدهما بإذن المرتهن: فإن لزوم الرهن باق لم يتغيَّر؛ للتلازم؛ حيث إن هذا التصرف لا يمنع المرتهن أن يبيع العين المرهونة إذا لم يفِ الراهن بدينه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في مسألة (22).
(26)
مسألة: إذا أخرج المرتهن العين المرهونة وسلَّمها للراهن، ثم ردَّ الراهن هذه =
ولو استعار شيئًا ليرهنه: جاز
(27)
، ولربِّه الرجوع قبل إقباضه لا بعده
(28)
، لكن له مطالبة الراهن بفكاكه مُطلقًا
(29)
، ومتى حلَّ الحقُّ ولم يقضه: فللمرتهن بيعه،
العين المرهونة إلى المرتهن: فإن لزوم الرهن يعود إلى الراهن بحكم العقد الأول ولا يحتاج إلى عقد جديد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن لزوم الرهن يكون بالقبض ابتداء، فكذلك يكون في هذه الحالة والجامع: أن كلًّا منهما إحد حالتي الإلزام فيه، فإن قلتَ: لِمَ لا يحتاج إلى عقد جديد؟ قلتُ: للاستصحاب؛ حيث إنه لم يطرأ عليه ما يُغيُّره أو يُبطله؛ قياسًا على ما لو تأخر قبض المرهون عن العقد.
(27)
مسألة: إذا استعار زيد من بكرٍ إناءً ليرهنه عند محمد؛ لكون محمدًا قد أعطى زيدًا دينًا بقيمة مائة درهم - مثلًا -: فإن ذلك جائز بشرط أن يذكر زيد لبكر: أنه سيرهن ذلك الإناء عند محمد - وهو المرتهن - بسبب دين أخذه منه وقدره كذا والمدة كذا؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز استعمال الشيء المستعار - وهو الإناء هنا - فكذلك يجوز رهنه، والجامع: أنه في كل منهما قابل للتلف؛ فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذكر القدر، وجنسه، والمدة يُوجد ضرر بسبب اختلافها.
(28)
مسألة: يجوز للمعير - وهو بكر في مسألة (27) - أن يرجع في إذنه لرهن ذلك الإناء الذي أخذه منه زيد ليرهنه عند محمد وذلك قبل أن يقبض المرتهن - وهو محمد هنا - ذلك الإناء، ولا يجوز لبكر - المعير - أن يرجع في ذلك بعد قبض المرتهن لذلك الإناء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الرجوع حقًا قبل القبض: جواز الرجوع، ويلزم من قبض المرهون - والمستعار وهو الإناء -: أن لا يجوز؛ لأنه لزم الراهن بقبض المرهون منه.
(29)
مسألة: يجوز للمعير - وهو بكر في مسألة (27) - أن يُطالب المستعير - وهو زيد، وهو الراهن - بأن يفكَّ عن إنائه - وهو المرهون عند محمد المرتهن ذلك الرهن، وهذا مطلق، أي: سواء عيَّن زيد مدة الرهن، أو لا، وسواء عيَّن مُدَّة العارية =
واستيفاء دينه منه، ويرجع المعير بقيمته أو مثله، وإن تلف ضمنه الراهن وهو المستعير ولو لم يُفرِّط المرتهن
(30)
(ولا ينفذ تصرُّف واحد منهما) أي من الراهن، والمرتهن (فيه) أي: في الرهن المقبوض (بغير إذن الآخر)، لأنه يُفوِّت على الآخر حقِّه
(31)
، فإن لم يتفقا على المنافع: لم يجز الانتفاع، وكانت معطَّلة، وإن اتفقا على الإجارة أو
أو لا، وسواء كان الدَّين حالًا على زيد، أو لا، للتلازم؛ حيث يلزم من كون العارية غير لازمة: جواز المطالبة بها.
(30)
مسألة: إذا لم يفِ زيد بدينه الذي عليه: فإن للمرتهن - وهو محمد في مسألة (27) - أن يبيع ذلك الإناء المستعار - وهو المرهون - وأخذ دينه - وهو المائة درهم - منه، والباقي - إن بقي شيء - يُسلِّمه للراهن - وهو زيد -، والمعير - وهو بكر - يرجع إلى المستعير منه الإناء - وهو زيد - ويُطالبه بمثل الإناء الذي أعاره إياه، أو بقيمته، وإن تلف ذلك الإناء: فإن الراهن - وهو المستعير وهو زيد - يضمنه: سواء فرَّط المرتهن - وهو محمد - أو لم يُفرِّط - للتلازم؛ حيث إن مقتضى الرَّهن يلزم منه: بيع المرهون إن لم يف الراهن بدينه، فإن قلتَ: لِمَ يضمن المستعير العارية مطلقًا؟ قلتُ: لأن العارية مضمونة مطلقًا: أي: سواء أتلفها بنفسه، أو تلفت بآفة سماوية.
(31)
مسألة: لا يجوز أن يتصرَّف المرتهن والراهن في العين المرهونة والتي قبضها المرتهن إلّا بإذن أحدهما للآخر، فلو تصرَّف أحدهما بها ببيع أو هبة أو وقف، أو رهن مرة ثانية بدون إذن الآخر: فإن هذا التصرُّف باطل؛ للتلازم؛ حيث إن تلك العين المرهونة لا زالت داخلة في ملك الراهن، فلو تصرَّف فيها المرتهن: للزم أن يكون قد تصرَّف في ملك غيره، وهي أيضًا وثيقة في يد المرتهن؛ ليستوفي منها دينه إن لم يُعطه الراهن حقَّه في الوقت المحدَّد، فلو تصرَّف فيها الراهن: للزم إبطال حق المرتهن من تلك الوثيقة ولأزال المقصود من مشروعية الرَّهن، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن تصرُّف أحدهما بدون إذن الآخر يُفوِّت حقَّ الآخر فيها.
الإعارة: جاز
(32)
، ولا يمنع الراهن من سقي شجر وتلقيح، ومداواة، وفصد،
(32)
مسألة: يجوز للراهن: أن ينتفع من العين المرهونة بإجارتها، أو إعارتها مدة لا يتأخر انقضاؤها عن حلول الدَّين، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ "حيث "نهى عليه السلام عن إضاعة المال" وهذا عام؛ لأن "إضاعة المال" منكَّر مضاف إلى معرفة، وهو من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه لأن تعطيل منفعة العين المرهونة يُعتبر من إضاعة المال، فيكون داخلًا في المنهي عنه، بل يكون تعطيله محرمًا؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، الثانية: التلازم؛ حيث إن العين المرهونة لا زالت داخلة في ملك الراهن في مُدَّة الدَّين، والمقصود من الرهن هو: الاستيثاق، واستيفاء الدين من ثمن العين المرهونة عند تعذُّر استيفاء ذلك من ذمة الراهن، وهذا يلزم منه: أن الراهن ينتفع منه بما لا يُزيل ملكه عنه، فإن قلتُ: إن اتفق الراهن والمرتهن على إجارة العين المرهونة أو إعارتها والانتفاع بذلك: جاز، وإن لم يتفقا: لم يجز، وتبقى العين المرهونة معطَّلة عن الانتفاع بها حتى يُفكُّ الرهن - وهو ما ما ذكره المصنف هنا -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المبيع الذي لم يُدفع ثمنه لا يتصرَّف فيه البائع والمشتري فكذلك العين المرهونة مثله والجامع: أن كلًّا منهما عين محبوسة ليست حقًا للطَّرفين قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن العين المرهونة قد ثبتت ملكيتها للراهن، وإنما جعلها عند المرتهن وثيقة ليؤكِّد له أنه سيفي بدينه، فله الانتفاع بها بخلاف العين المباعة التي لم يُدفع ثمنها فهي في وقت الخيار أو في وقت مهلة النظر وهو عادة يكون وقتًا قصيرًا جدًا لا يحتمل الانتفاع أو عدمه، أما العين المرهونة فوقتها عادة طويل جدًا يحتمل الانتفاع، ومع الفرق: لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "معارضة القياس الخاص للنص العام"، فعندنا: يعمل بالنص العام، وعندهم يُعمل بالقياس الخاص.
وإنزاء فحل على مرهون، بل من قطع سلعة خطرة
(33)
(إلا عتق الراهن) المرهون: (فإنه يصحّ مع الإثم)؛ لأنه مبني على السراية والتغليب (وتؤخذ قيمته) حال الإعتاق من الراهن؛ لأنه أبطل حق المرتهن من الوثيقة، وتكون (رهنًا مكانه) لأنها بدل عنه، وكذا: لو قتله، أو أحبل الأمة بلا إذن المرتهن، أو أقرَّ بالعتق وكذَّبه
(34)
(ونماء
(33)
مسألة: لا يجوز للمرتهن أن يمنع الراهن من فعل أي شيء ينفع العين المرهونة، أو يدفع عنها فسادًا: كسقي شجر مرهون، أو تلقيح نخل مرهون، أو مداواة وفصد عبد مرهون، أو جلب الفحل من البهائم لإنزائه على الأنثى من البهائم المرهونة ونحو ذلك من أي شيء يُزيل أيَّ أذى عن المرهون؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة للمرهون، ودفع مفسدة عنه، فيكون في ذلك زيادة في حق المرتهن، من غير أن يلحقه ضرر.
(34)
مسألة: إذا كانت العين المرهونة عبدًا: فأعتق الراهن ذلك العبد: فالعبد يعتق، مع أن الراهن يأثم بذلك، ويأخذ المرتهن قيمة ذلك العبد المعتق، لتكون رهنًا مكان العبد، وكذلك: يصح ذلك إذا رهن أمة وأعتقها، وكذلك: يصح إذا قتل العبد أو الأمة، وكذلك: يصح ذلك إذا جامع الراهن الأمة وحملت منه بغير إذن المرتهن؛ للتلازم؛ وهو من وجوه: أولها: أن الراهن يملك العين المرهونة: فإذا كانت عبدًا أو أمة فأعتقهما: فيلزم من ذلك أن يقع العتق؛ لكونه تصرَّف في ملكه في شيء مبني على سراية العتق فيه فيما إذا أعتق نصيبه من عبد فيه شراكة، وفي شيء يتشوَّف الشارع إلى فعله والحثّ عليه. ثانيها: أن العين المرهونة - وهي هنا العبد أو الأمة - وهي: وثيقة من حق المرتهن فيلزم أن يأثم الراهن إذا أعتقه؛ لكونه حرم المرتهن من حقه بهذه الطريقة. ثالثها: أن جعل قيمة العين المرهونة مكان تلك العين من لوازم عقد الرهن؛ لئلا يُبطل المقصود من الرهن، فيكون هذا بدلًا عن تلك العين، فائدة: قتل العين المرهونة، ووطأ الأمة المرهونة ونحو ذلك مثل عتقهما تمامًا فيما سبق. (فرع): إذا أقرَّ الراهن بعتق العبد، وكذبه =
الرهن) المتصل والمنفصل كالسمن، وتعلم الصنعة، والولد، والثمرة، والصوف (وكسبه، وأرش الجناية عليه ملحق به) أي: بالرهن، فيكون رهنًا معه، ويُباع معه؛ لوفاء الدَّين إذا بيع (ومؤنته) أي الرهن (على الراهن)؛ لحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه" رواه الشافعي والدارقطني، وقال: إسناده حسن صحيح (و) على الراهن أيضًا (كفنه) ومؤنة تجهيزه بالمعروف؛ لأن ذلك تابع لمؤنته (و) عليه أيضًا (أجرة مخزنه) إن كان مخزونًا، وأجرة حفظه
(35)
(وهو أمانة في يد المرتهن)؛ للخبر السابق،
المرتهن واختلفا: فيلزم الراهن قيمته تكون رهنًا عند المرتهن (فرع ثان) إن أعتق الراهن ذلك العبد بإذن المرتهن: فإنه ينفذ، ولا تكون قيمته رهنًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إسقاطه حقه: عدم مطالبة الراهن ببدل عن العبد.
(35)
مسألة: جميع ما يُتحصَّل عليه من نماء للعين المرهونة وزيادة فيها: من كسب عبد، أو إرش جناية عليه، أو تعلُّم عبد لصنعة، وإخراج سمن من بهيمة، أو ولد لها، أو ثمر في شجر، أو زرع، أو صوف من بهائم ونحو ذلك: فإنه يلحق بتلك العين المرهونة فيكون مرهونًا معه، فإذا بيعت تلك العين المرهونة؛ ليستوفي المرتهن دينه من ثمنها: فإن تلك الزيادات تُباع معها، فيأخذ المرتهن حقَّه، ويُردُّ الباقي إلى الراهن - إن بقي شيء - ومؤنة العين المرهونة كإطعامها وكسوتها، وأجرة حفظها ونفقات تجهيزها لو ماتت - كموت عبد أو أمة -، وسقيه وسقيها، وجذاذها، ومداواتها، وعلفها ونحو ذلك يكون على الراهن؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه، وعليه غرمه" فلزم من ذلك: أن يكون غنم ومكسب وزيادة هذا المرهون تابع للراهن إذا بيع المرهون ترجع إليه ما زاد عن دينه، وعلى الراهن غرمه وهلاكه ونفقته، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون الرهن ملكًا للراهن قبل أن يبيعه المرتهن: أن يكون غنمه ونفقته على الراهن، للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه =
ولو قبل عقد الرهن كبعد الوفاء (إن تلف من غير تعدٍّ) ولا تفريط (منه) أي: من المرتهن: (فلا شيء عليه) قاله علي رضي الله عنه؛ لأنه أمانة في يده كالوديعة، فإن تعدَّى أو فرَّط: ضمن
(36)
(ولا يسقط بهلاكه) أي: الرهن (شيء من دينه)؛ لأنه كان ثابتًا في ذمة الراهن قبل التلف، ولم يُوجد ما يُسقطه فبقي بحاله، وكما لو دفع إليه عبدًا ليبيعه، ويستوفي حقَّه من ثمنه فمات
(37)
(وإن تلف بعضه) أي: الرهن (فباقيه
حماية لحق الراهن والمرتهن.
(36)
مسألة: العين المرهونة أمانة في يد المرتهن إذا قبضها ولو قبل عقد الرهن؛ فإن تلفت في يده بسبب تعدٍّ أو تفريط منه كأن يستعملها ونحو ذلك: فإنه يضمنها للراهن - إن سدَّد الراهن دينه في وقت حلوله -، أما إن تلفت بغير تعدٍّ منه أو تفريط: فلا شيء عليه؛ لقواعد، الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه" فالمرتهن قد أُؤتمن على العين المرهونة الثانية: القياس، بيانه: كما أن الوديعة إذا تلفت بتعدٍ وتفريط من المودَع: فإنه يضمنها، وإذا تلفت بآفة سماوية: فلا يضمنها، فكذلك العين المرهونة مثلها، والجامع: أن كلًّا منهما عقد على عين للحفاظ عليها إلى حين. الثالثة: قول الصحابي؛ حيث قد روي عن علي: أنه لا شيء على المرتهن إذا تلفت العين المرهونة في يده، من غير تفريط، ودلَّ مفهوم الصفة على أنه يضمن إذا فرَّط وتلفت، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الراهن.
(37)
مسألة: إذا تلفت العين المرهونة وهلكت بأي سبب كأن تنهدم الدار، بدون تعدٍّ أو تفريط من المرتهن: فإن الدَّين الذي على الراهن يبقى على حاله لا يسقط شيء منه؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن الدَّين لا يسقط إلا بأحد أمرين: إما أن يُسدِّد الراهن الدَّين الذي في ذمته للمرتهن، أو يقوم المرتهن ببيع العين المرهونة، ويأخذ حقَّه من ثمنها، ولا ثالث لهما، وتلف العين المرهونة من غير تعد أو تفريط من المرتهن ليس أحدهما فيلزم ثبوت ذلك الدين كله في ذمة الراهن؛ لعدم =
رهن بجميع الدَّين)؛ لأن الدَّين كلَّه مُتعلِّق بجميع أجزاء الرَّهن
(38)
، (ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدَّين)؛ لما سبق: سواء كان مما تُمكن قسمته أو لا
(39)
، ويُقبل قول
وجود ما يُسقطه فيبقى على حاله؛ الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو دفع إلى بكر عبدًا ليبيعه ويستوفي بكر حقه الذي على زيد من ثمنه، ثم مات ذلك العبد: فإن حق بكر الذي يُطالب به زيدًا لا يسقط، فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما تُوجد عين محبوسة في يده بعقد على استيفاء حق له عليه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المرتهن.
(38)
مسألة: إذا تلف بعض العين المرهونة كأن ينهدم جزء من الدار المرهونة: فإن البعض الآخر يبقى مرهونًا: بجميع الدين الذي يُطالب المرتهن الراهن به؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن العين كلها مرهونة، فلما تلف بعضها بقي البعض الآخر رهنًا؛ لعدم وجود ما يُغيِّره عن ذلك، وتلف بعضه لا يصلح أن يكون مُغيِّرًا، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يأتي دليل يُغيِّر الحالة، ولم يُوجد ذلك الدليل، فيبقى الحكم على الأصل، الثانية: التلازم؛ حيث إن جملة العين مرهونة، فإذا تلف بعضها يلزم أن يبقى البعض الآخر مرهونًا؛ لكونه من الجملة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الراهن؛ إذ لا يجب عليه تعويض المرتهن عمّا تلف؛ لكونه ليس بسببه.
(39)
مسألة: إذا قضى الراهن بعض دينه وأعطاه للمرتهن: فإن العين المرهونة لا ينفكّ بعضها بسبب قضاء هذا البعض من الدين: سواء كانت تلك العين المرهونة مما يُمكن قسمته كالثياب، أو لا كالدار، وبناء على ذلك: فإن العين المرهونة لا ينفكّ رهنها إلا بعد أن يقضي الراهن جميع دينه؛ للتلازم؛ حيث إن الدَّين متعلق بجميع أجزاء العين المرهونة، فتكون العين المرهونة محبوسة بكل جزء من أجزاء الدَّين، فيلزم من ذلك: أن لا ينفك بعضها بقضاء بعض الدَّين، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المرتهن؛ حيث إنه =
المرتهن في التلف
(40)
، وإن ادَّعاه بحادث ظاهر: كُلِّف بينة بالحادث وقُبل قوله في التلف، وعدم التفريط، ونحوه
(41)
(وتجوز الزيادة فيه) أي: في الرهن: بأن رهنه عبدًا بمائة، ثم رهنه عليها ثوبًا؛ لأنه زيادة استيثاق
(42)
(دون) الزيادة في (دينه) فإذا رهنه
يُحتمل: أن لا يقضي الراهن باقي الدَّين، فيتضرَّر المرتهن، فدفعًا لذلك شُرّع هذا.
(40)
مسألة: إذا تلفت العين المرهونة عند المرتهن ولم يذكر سببًا للتلف، أو ذكر سببًا لا يُمكنه إظهاره كسرقته مثلًا - بدون تعد من المرتهن -: فإنه يُقبل قوله إذا ادَّعى تلفه مع يمينه، فإن امتنع عن اليمين: فإنه يتحمَّل قيمة العين المرهونة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المودَع إذا ادَّعى تلف الوديعة بآفة سماوية: فإنه يُقبل قوله مع يمينه، وإن امتنع عن اليمين: فإنه يتحمَّل قيمة الوديعة، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما أمانة في يد من أخذها فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المرتهن، واليمين فيه احتياط.
(41)
مسألة: إذا تلفت العين المرهونة عند المرتهن، وذكر سببًا ظاهرًا للتلف وهو الحادث الظاهر كأن يقول:"إنها احترقت، أو أصابتها السيول" أو نحو ذلك، فإن الراهن يطلب من المرتهن بيّنة ودليل يشهد بذلك الحادث الظاهر الذي أصاب العين المرهونة حتى تلفت، فإذا أقام البيّنة على ذلك: قبل قوله بدون يمين، وإن لم يُقم بيّنة: فإنه يتحمَّل قيمة العين المرهونة؛ للقياس؛ على الوديعة في ذلك وقد سبق بيانه، فإن قلتَ: لِمَ طُلب من المرتهن البيّنة على ذلك؟ قلتُ: لعدم خفاء ذلك الحادث، ولضمان حق الراهن. (فرع): إذا ادَّعى المرتهن أن العين المرهونة قد تلفت بدون تعدٍّ منه أو تفريط: فإنه يُقبل قوله مع يمينه؛ للقياس على الوديعة، وقد سبق في مسألة (40).
(42)
مسألة: يجوز أن يزيد الراهن في العين المرهونة، فلو رهن زيد عند بكر دارًا - بسبب دين لبكر على زيد -: فإنه يجوز لزيد أن يزيد ذلك حانوتًا ونحوه، فتكون العين المرهونة عند بكر دارًا وحانوتًا معًا بنفس الدَّين الذي على زيد؛ للقياس؛ =
عبدًا بمائة: لم يصح جعله رهنًا بخمسين مع المائة، ولو كان يُساوي ذلك؛ لأن الرهن اشتغل بالمائة الأولى، والمشغول لا يُشغل
(43)
(وإن رهن) واحد (عند اثنين شيئًا) على دين لهما (فوفَّى أحدهما): انفكَّ في نصيبه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة عقدين، فكأنه رهن كل واحد منهما النصف منفردًا، ثم إن طلب المقاسمة: أجيب إليها إن كان الرهن مكيلًا أو موزونًا
(44)
(أو رهناه شيئًا فاستوفى من أحدهما: انفكَّ
بيانه: كما أن العين المرهونة - وهي: الدار - جائزة، فكذلك تجوز العين الأخرى - وهي: الحانوت - والجامع: أن كلًّا منهما وثيقة تكون عند المرتهن؛ للاستيثاق، قلتُ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه استيثاق وزيادة وهذا يؤكد صدق الرهن.
(43)
مسألة: لا يجوز أن يزيد الراهن في دينه: كأن يرهن زيد دارًا عند بكر بدين لبكر على زيد مقداره عشرة آلاف ريال، فلا يجوز جعل الدار رهنًا بعشرين ألف، ولو كانت الدار تساوي ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون تلك الدار مرهونة: أن لا تُرهن مرة أخرى بدين آخر، فتكون عينًا مرهونة بدينين معًا؛ لكون الدار مشغولة بالرهن الأول فلا تُشغل مرة أخرى، فإن قلتَ: لِمَ لا يجوز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة التنازع عند سداد أحد الدينين.
(44)
مسألة: إذا استدان زيد من بكر عشرة آلاف ريال، واستدان من محمد عشرة آلاف أيضًا، ورهنهما زيد عينًا واحدة: فإن ذلك جائز، ويكون نصف العين المرهونة يخصُّ بكرًا، والنصف الآخر منها يخصُّ محمدًا: فإذا قضى زيد دين بكر وأعطاه العشرة التي أخذها منه: انفك الرهن الذي يخصُّ نصيبه - أي: انفكّ نصف العين المرهونة، فخرجت حصته من الرهن - فإن كانت العين المرهونة لا تنقسم كالدار بقيت كلها بيد مرتهن النصف الآخر - وهو محمد هنا - بعضها رهن وبعضها وديعة، وإن كانت تنقسم كالمكيلات والموزونات: فإن الراهن - وهو زيد - يأخذ نصفه الذي انفكّ ويُبقي النصف الآخر في يد المرتهن الآخر - وهو =
في نصيبه)؛ لأن الرَّاهنُ مُتعدِّد: فلو رهن اثنان عبدًا لهما عند اثنين بألفٍ فهذه أربعة عقود، ويصير كل ربع منه رهنًا بمائتين وخمسين
(45)
، ومتى قضى بعض دينه، أو
محمد -؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز بيع العين الواحدة على اثنين فكذلك يجوز رهنها عند دائنين، والجامع: أنه لكل واحد منهما عقد يخصه، فكأنه عقدين منفصلين، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ فقد لا يملك الراهن إلّا عينًا واحدة، وهو محتاج لهذين الدينين، ففتح له الشارع هذا الباب. فإن قلتَ: لِمَ فُرِّق بين المنقسم وغيره؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لملك الراهن، والمرتهن الآخر - وهو محمد هنا -.
(45)
مسألة: إذا استدان زيد من بكر عشرة آلاف، واستدان محمد من بكر أيضًا عشرة آلاف، ورهناه - أي: زيد ومحمد عند بكر هذا - دارًا هما شركاء فيها - مثلاً -: فإن هذا جائز، ويكون المرتهن - وهو بكر هنا - قد ارتهن تلك الدار، المشتركان فيها، كل نصف منها بحسبه، فإذا استوفى بكر من زيد العشرة الآلاف التي تخصُّه: فإنه ينفكُّ نصيبه من العين المرهونة - وهو: نصف الدار -؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز للاثنين بيع العين التي يشتركان فيها على شخص واحد، فكذلك يجوز أن يرهناها عنده، والجامع: أن لكلّ واحد منهما عقد، يخصُّه، فيتعلَّق كل منهما بنصيبه؛ فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ فقد لا يملك الراهن إلا جُزءًا من عين، وهو محتاج لذلك الدَّين، ففتح الله له ذلك الباب، (فرع): رهن ما يُشترك فيها جائز عند واحد واثنين فيكون كل واحد مُتعلِّق بنصيبه، ولو كثُر الشركاء فمثلًا: لو أن تلك الدار يشترك فيها زيد ومحمد، وهي تساوي عشرة آلاف ورهناها عند بكر وخالد، فيكون هذه عقد عقدين؛ لكونه رهن نصيبه عند بكر وخالد، ومحمد مثله، فتكون هذه أربعة عقود؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون كل قسط ملك شخصٍ مُعيَّن يستطيع بيعه: جوازه.
أبريء منه، وببعضه رهن، أو كفيل: فعمَّا نواه، فإن أطلق: صرفه إلى أيِّهما شاء
(46)
(ومتى حلَّ الدَّين): لزم الراهن الإيفاء كالدَّين الذي لا رهن به
(47)
(و) إن (امتنع من وفائه: فإن كان الراهن أذن للمرتهن، أو العدل) الذي تحت يده الرهن (في بيعه: باعه)؛ لأنه مأذون له فيه، فلا يحتاج لتجديد إذن من الراهن وإن كان البائع العدل: اعتبر إذن المرتهن أيضًا (ووفَّى الدَّين)؛ لأنه المقصود بالبيع، وإن فضل من ثمنه شيء: فلمالكه، وإن بقي منه شيء فعلى الراهن (وإلا) يأذن في البيع ولم يوف: (أجبره
(46)
مسألة: إذا قضى الراهن بعض دينه، أو أُبرئ من بعض دينه، وبعض ذلك الدَّين فيه عين مرهونة عند المرتهن، أو كفيل قد كفله فيها: فإن ما قضاه يقع عمّا نواه منهما، فلو كان عليه دين قدره ألف ريال، بخمسمائة منها قد رهن عينًا عنها أو كفله أحدهم عنها فقضى خمسمائة ونوى أنه يقضي عن البعض الذي فيه الرهن أو الكفيل: فإنه يقع عنه، وينفكُّ الرهن، أو يبرأ الكفيل، فإن لم ينوِ ذلك البعض: فإن الرهن أو الكفالة يبقيان بحالهما دون تغيير أما إن أطلق: فينصرف إلى أيهما شاء المبرئ؛ للتلازم؛ حيث إن النية لأحدهما: تُعيِّن، وتبرأ الذمة بسببها، وبخلاف ما لم ينوِ ذلك البعض: فيلزم عدم البراءة من الرهن أو الكفيل، ويلزم من إطلاقه: انصرافه إلى أيهما شاء؛ لأن التعيين له.
(47)
مسألة: إذا حان وقت الوفاء بالدَّين: فيجب على الراهن أن يوفي بدينه، ويُسلِّمه لمستحقه وهو المرتهن فورًا بدون مماطلة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الدَّين الذي لا رهن فيه يجب الوفاء به إذا حان وقته فورًا فكذلك الدَّين الذي فيه رهن والجامع: أن الذِّمَّة مُنشغلة في كل منهما بسبب العقد فيهما، فإن قلتَ: لِمَ وجب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الوفاء بالدَّين في وقته يُعتبر بمنزلة الشكر والامتنان للذي أعطاه إياه، وتسبَّب في تنفيس كربته، فكما أن الذي أعطاه الدَّين قد رحمه وقضى حاجته، فكذلك ينبغي أن يفعل هذا المستدين، قال تعالى في ذلك:{فليؤد الذي أئتمن أمانته، وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا} .
الحاكم على وفائه، أو بيع الرهن)؛ لأن هذا شأن الحاكم، فإن امتنع: حبسه، أو عزَّره حتى يفعل (فإن لم يفعل) أي: أصرَّ على الامتناع، أو كان غائبًا، أو تغيَّب:(باعه الحاكم ووفَّى دينه)؛ لأنه حق تعيَّن عليه فقام الحاكم مقامه فيه، وليس للمرتهن بيعه إلّا بإذن ربِّه أو الحاكم
(48)
.
(48)
مسألة: إذا حان وقت الوفاء بالدَّين وامتنع الراهن عن الوفاء بذلك الدَّين فله حالتان: الحالة الأولى: إن كان الراهن قد أذن للمرتهن، أو الشخص العدل الذي اتفقا على أن تكون العين المرهونة عنده: أن يبيع تلك العين المرهونة إن لم يقض دينه: فإن المرتهن يبيع تلك العين المرهونة، وكذا: الشخص العدل يبيعها بإذن المرتهن، ويستوفي المرتهن دينه من ثمنها، فإن بقي شيء من ثمنها أرجعه إلى الراهن، وإن لم يوف ثمنها دينه رجع المرتهن وأخذ الباقي من الدَّين من الراهن؛ للاستصحاب؛ حيث إن الراهن قد أذن من أول العقد للمرتهن، أو للشخص العدل في بيع العين المرهونة إن لم يقضِ دينه، فنستصحب هذا الإذن، ونعمل به، ولا يحتاج إلى إذن جديد، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يمنع رجوع الراهن عن هذا الإذن فيُفوِّت على المرتهن حقه، فإن قلتَ: لِمَ يُستأذن المرتهن إن كان بائع العين المرهونة هو: الشخص العدل؟ قلتُ: لكون الحق له، فلا بدَّ من أخذ إذنه في حقوقه، الحالة الثانية: إن كان الراهن لم يأذن ببيع العين المرهونة، ولم يوف دينه: فإن الحاكم - وهو القاضي - يُجبر الراهن على الوفاء بدينه، أو يبيع العين المرهونة ليستوفي المرتهن دينه من ثمنه، فإن لم يفعل أحد الأمرين: فإن الحاكم يُعزِّر الراهن بحبسٍ أو أيِّ شيء يُجعله يخرج الحقَّ ويُعطيه مستحقه وهو: المرتهن: فإن لم يفعل ذلك: أو كان الراهن غائبًا، أو قصد التغيُّب؛ لأجل الامتناع عن الوفاء أو بيع العين المرهونة: فإن الحاكم يبيعه، ويُعطي المرتهن حقه، والباقي يُعطيه الراهن - إن بقي شيء -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن للحاكم أن يستوفي للدائن من جنس دينه من غير رهن إذا امتنع المدين =
فصل: (ويكون) الرهن (عند من اتفقا عليه)، فإذا اتفقا أن يكون تحت يد جائز التصرُّف: صح، وقام قبضه مقام قبض المرتهن، ولا يجوز تحت يد صبي، أو عبد بغير إذن سيده، أو مكاتب بغير جُعل إلّا بإذن سيده
(49)
وإن شرط جعله بين اثنين: لم ينفرد أحدهما بحفظه
(50)
، وليس للراهن ولا للمرتهن إذا لم يتفقا، ولا للحاكم نقله
فكذلك الحال هنا، والجامع: التجانس وإحقاق الحق، ومنع الظلم في كل، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حماية لحق المرتهن، ومنع من أن تؤكل أمواله بالباطل.
(49)
مسألة: إذا اتفق الراهن والمرتهن على أن تكون العين المرهونة عند شخص آخر جائز التصرُّف عدل - وهو: المكلَّف الحر الذي لم يُحجر عليه -: فإن ذلك جائز، ويكون هذا الشخص كالوكيل عن المرتهن، فينوب عنه في قبض العين المرهونة؛ حيث إن قبضه يقوم مقام قبض المرتهن لها، وبناء عليه: فلا يجوز جعل العين المرهونة تحت يد صبي ولا مجنون ولا سفيه ولا فاسق ولا عبد ولا مكاتب بغير جُعل إلا بعد أن يأذن سيدهما؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز توكيل جائز التصرُّف العدل في كل مُباع يُقبض، فكذلك العين المرهونة يجوز التوكيل في قبضها، والجامع: أن كلًّا منهما قبضٌ في عقد، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قطع للتنازع والاختلاف؛ فإن قلتَ: لِمَ لا تُجعل العين المرهونة تحت أيدي من ذكروا؟ قلتُ: لأن هؤلاء ليس لهم التبرع بمنافع العين المرهونة، أما المكاتب بجعل فيجوز أن تجعل العين المرهونة بيده ولو لم يأذن سيده؛ لأن له الكسب بغير إذن سيده، فإن قلتَ: لِمَ اشترطت العدالة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يضمن عدم ميله إلى أحدهما.
(50)
مسألة: إذا اشترط كل من الراهن والمرتهن جعل العين المرهونة بينهما او بين عدلين أخرين: فإنه لا يجوز أن ينفرد بحفظها أحدهما، بل أن يحفظاها معًا بأن يجعلاها في مخزن كل واحد يحفظ عنده مفتاحًا لذلك المخزن، وإن تغيَّرت حال =
عن يد العدل إلّا أن تتغيَّر حاله
(51)
، وللوكيل ردُّه عليهما، لا على أحدهما
(52)
(وإن
أحدهما: أُقيم عدل مكانه؛ للقياس؛ بيانه: كما أنَّ الوصيين على مال صبي أو مجنون لا ينفرد بحفظه أحدهما، بل يُجعل في موضعٍ يفتحانه معًا فكذلك العين المرهونة لا ينفرد بها المرتهن أو الراهن، بل تكون معهما معًا، والجامع: أن كلًّا منهما لم يتراضيا إلا بحفظ ذلك معًا، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الراهن والمرتهن.
(51)
مسألة: إذا اتفق المرتهن والراهن على جعل العين المرهونة عند شخص جائز التصرف عدل: فلا يجوز لأحدهما ولا للحاكم نقله من يد هذا العدل إلى غيره إلّا إذا تغيَّر حال هذا العدل إلى فسق، أو ضعف، أو اختلال عقل ونحو ذلك: فيجوز لهما أو لأحدهما أو للحاكم نقله منه، أما إن اتفقا على نقله من ذلك العدل: فيجوز نقله: سواء تغيَّرت حاله أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب حيث إنهما قد رضيا بذلك العدل في الابتداء، فيُستصحب ذلك ويعمل عند عدم وجود دليل يُغيِّر الحالة، ولم يُوجد ذلك فلم يجز، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تغيُّر حال العدل إلى الفسق ونحوه جواز نقله منه إلى عدل آخر، ويلزم من اتفاق الراهن والمرتهن على نقله منه وإن كان عدلًا: جواز نقله؛ لأن الحق لهما فقط (فرع): إذا ادَّعى الراهن أو المرتهن أن حال العدل الذي عنده العين المرهونة قد تغيَّر وأنكر الآخر: فإنه يُرفع الأمر إلى الحاكم - وهو القاضي - فيبحث عن ذلك: فإن بان صدق أحدهما: عمل به؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اختلافهما في ذلك: رفع الأمر إلى الحاكم؛ لأنه هو المرجع لقطع التنازع (فرع ثان) إذا اختلفا في الشخص الذي تُوضع عنده العين المرهونة: فإن الحاكم يضعه عند عدل؛ للتلازم؛ كما سبق فإن قلتَ: لِمَ شرع ذلك التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حق الراهن والمرتهن.
(52)
مسألة: إذا اتفق المرتهن والراهن على أن يجعلا العين المرهونة عند شخص عدل، =
أذنا له في البيع) أي: بيع الرهن: (لم يُبع إلّا بنقد البلد)؛ لأن الحظ فيه لرواجه، فإن تعدَّد: باع بجنس الدَّين، فإن عدم: فبما ظنه أصلح، فإن تساوت: عيَّنه حاكم، وإن عيَّنا نقدًا: تعيَّن، ولم تجز مخالفتهما، فإن اختلفا: لم يُقبل قول واحد منهما، ويُرفع الأمر إلى الحاكم، ويأمر ببيعه بنقد البلد: سواء كان من جنس الحق، أو لم يكن، وافق قول أحدهما أو لا
(53)
(وإن) باع بإذنهما و (قبض الثمن فتلف في يده) من غير
ثم أراد هذا العدل - وهو الوكيل عنهما - أن يردّها عليهما: فله ذلك، وعليهما قبولها، ولا يجوز لذلك العدل أن يردَّ العين المرهونة إلى الراهن فقط، أو المرتهن فقط؛ للتلازم؛ حيث إن كون ذلك العدل أمينًا متطوعًا بحفظ العين المرهونة. يلزم منه التخلِّي عنها متى شاء، ويلزم منه: أن يقبل المرتهن والراهن منه ذلك؛ شكرًا له على ما فعل، ويلزم من قبضها منهما: أن يردَّها إليهما معًا، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حثٌّ على التعاون بين المسلمين (فرع): لا يجوز للعدل الذي عنده العين المرهونة أن يدفعها إلى عدل آخر من غير إذن الراهن والمرتهن، إلّا إذا امتنعا عن قبولها منه بعد إجبار الحاكم لهما فلم يقبلاها: فإنه يجوز أن يجعلها عند عدل آخر؛ للتلازم؛ حيث إنه يكون بذلك معذورًا فيلزم أن لا يضمنها إذا جعلها عند عدل آخر، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ لحقوق المسلمين.
(53)
مسألة: إذا أذن الراهن والمرتهن لذلك العدل الذي عنده العين المرهونة بأن يبيع تلك العين ففي ذلك حالات: الحالة الأولى: أن يبيع تلك العين بنقد البلد إن لم يتعدَّد النقد؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة زيادة ثمنها، نظرًا لرواجها وإنفاقها، الحالة الثانية: إن تعدَّد النقد: فإنه يبيعها بجنس الدَّين الذي على الراهن ولو مع عدم التساوي: فإن كان الدَّين دراهم باعها بدراهم وإن كان الدين دنانير باعها بدنانير؛ للمصلحة: حيث إن ذلك أقرب إلى وفاء الحق لأصحابه، الحالة الثالثة: إذا عدم جنس الدَّين: فإنه يبيعها بما يغلب على ظنه أنه =
تفريط: (فمن ضمان الراهن)؛ لأن الثمن في يد العدل أمانة فهو كالوكيل
(54)
(وإن
الأصلح والأحظ للراهن والمرتهن؛ للمصلحة: وهي واضحة، الحالة الرابعة: إن لم يغلب على ظنه أنه أصلح وتساوت النقود عنده: فإنه يُرفع الأمر إلى الحاكم - وهو القاضي -، فيُعيِّن له ما يبيعه به؛ للمصلحة: حيث إن الحاكم لا يفعل شيئًا إلّا إذا كان هو الأصلح عادة، الحالة الخامسة: إذا عيّن الراهن والمرتهن نقدًا معينًا: وجب أن يبيع العدل العين المرهونة بما عيَّناه، ولا تجوز مخالفتهما؛ للتلازم؛ حيث إن العدل وكيل عنهما فتلزمه طاعتهما. الحالة السادسة: إذا اختلف الراهن والمرتهن في النقد الذي تباع به العين المرهونة: فإنه يُرفع الأمر إلى الحاكم فيأمر بأن يُباع بنقد البلد: سواء كان من جنس الدَّين الذي على الراهن، أو لم يكن، وسواء كان ما أمر به الحاكم قد وافق قول أحدهما أو لا؛ للمصلحة: حيث إن الحاكم لا يأمر إلّا بما هو الأصلح والأحظ لهما عادة وعرفًا.
(54)
مسألة: إذا باع العدل العين المرهونة التي تحت يده بإذنهما، وقبض ثمنها، وتلف هذا الثمن في يده من غير تعدٍّ ولا تفريط: فإن هذا الثمن يضمنه الراهن؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه إذا تلف في يد الوكيل شيء من غير تفريط: فإن موكِّله هو الذي يضمنه، وليس الوكيل، فكذلك هنا لا يضمن الشخص العدل الذي تلف في يده ثمن العين المرهونة من غير تفريط بل هو من ضمان الراهن، والجامع: أن كلًّا من الوكيل، والعدل الذي تحت يده العين المرهونة مؤتمن على المال الذي تحت أيديهما، فإن قلتَ: إن ذلك من ضمان المرتهن؛ للتلازم؛ حيث إن العدل وكيل عن المرتهن في قبض العين المرهونة فيلزم من تلف ثمنها أنه من ضمانه. قلتُ: إن العدل وكيل عن الراهن في قبض ثمن العين المرهونة، لأنها لا زالت في ملك الراهن فهو أمين له في قبضه فيلزم: أنه إذا أتلف كان من ضمان موكله - وهو الراهن - فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في العدل هل هو وكيل للمرتهن في قبض العين المرهونة وثمنها أو لا؟ " فعندنا: أنه وكيل عنهما =
ادَّعى) العدل (دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بيِّنة) للعدل بدفعه للمرتهن (ولم يكن) الدفع (بحضور الراهن: ضمن) العدل؛ لأنه فرَّط؛ حيث لم يُشهد، ولأنه إنما أذن له في قضاء مبرئ، ولم يحصل فيرجع المرتهن على راهن، ثم هو على العدل، وإن كان القضاء ببينة: لم يضمن، لعدم تفريطه: سواء كانت البيِّنة قائمة أو معدومة كما لو كان بحضرة الراهن؛ لأنه لا يعدُّ مفرِّطًا (كوكيل) في قضاء الدين فحكمه حكم العدل فيما تقدَّم، لأنه في معناه
(55)
(وإن شرط: أن لا يبيعه) المرتهن (إذا حلَّ الدَّين): ففاسد؛ لأنه شرط يُنافي مقتضى العقد، كشرطه: أن لا يستوفي الدَّين من ثمنه، أو لا يُباع ما خيف تلفه
(56)
(أو) شرط (إن جاءه بحقه في وقت كذا وإلاّ: فالرهن له) أي: للمرتهن
في قبض العين المرهونة، ووكيل عن الراهن في قبض ثمنها إذا بيعت، وعندهم: أنه وكيل عن المرتهن في قبض العين المرهونة وثمنها.
(55)
مسألة: إذا باع العدل العين المرهونة التي بيده، وقبض ثمنها، وقال: إنه دفع هذا الثمن للمرتهن، وأنكر المرتهن قبض ثمنها من العدل، ولم تُوجد بيّنة عند العدل تثبت صدق دعواه - وهي: أنه دفع ثمنها للمرتهن - ولم يحضر الراهن عند هذا الدفع: فإن العدل يضمن ذلك الثمن، فيجب عليه أن يدفع الثمن للمرتهن من عنده، فإن لم يدفع ذلك العدل شيئًا: فإن المرتهن يُطالب الراهن بدينه كاملًا، والراهن يُطالب العدل بثمن تلك العين المرهونة التي باعها، أما إن أثبت بيّنة على أنه سلَّم ثمن العين المرهونة للمرتهن: فلا يضمن ذلك العدل ثمنها: سواء كانت تلك البيِّنة موجودة أو معدومة؛ للتلازم؛ حيث إن تفريط العدل بسبب عدم إثبات بينة على تسليمه الثمن للمرتهن وعدم القضاء المبرئ للذمّة يلزم منه: أنه يضمن ثمن العين المرهونة، ويلزم من عدم تفريطه - حيث أثبت بينة على تسليم الثمن للمرتهن -: أنه لا يضمن ثمنها، فيكون في ذلك كالوكيل في قضاء الدَّين عن آخر، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس.
(56)
مسألة: إذا اشترط الراهن قائلًا للمرتهن "إني أرهن عندك داري هذه لأجل =
بدينه: (لم يصح الشرط وحده)؛ لقوله عليه السلام: "لا يغلق الرهن" رواه الأثرم، وفسَّره الإمام بذلك، ويصح الرهن؛ للخبر
(57)
(ويُقبل قول راهن في قدر الدَّين):
الدَّين الذي عندي لك بشرط: أن لا تبيعها إن لم أقضِ لك دينك": فإن هذا الشرط فاسد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الراهن لو شرط: أن لا يستوفي المرتهن من ثمن العين المرهونة عند عدم الوفاء بدينه أو شرط: أن لا تُباع العين المرهونة إذا خيف من تلفها كالبطيخ ونحوه: فإن هذا الشرط فاسد بالإجماع، فكذلك ما نحن فيه لا يصح، والجامع: أن كلًّا من تلك الشروط منافية لمقتضى عقد الرهن، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تفويت لحق المرتهن.
(57)
مسألة: إذا اشترط الراهن قائلًا للمرتهن: "إن جئتك بدينك في وقت كذا ففكَّ داري المرهونة لديك، وإن لم آتك به فالرهن لك - وهي الدار -": فإن هذا الشرط يصح؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز البيع المعلَّق على شرط فكذلك يجوز الرهن المعلَّق على شرط، والجامع: أن كلًّا منهما قد تدعو الحاجة إليه، ولا يترتَّب على كل منهما أيُّ محذور فإن قلتَ: لا يصح هذا الشرط، ويصح الرهن وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا يُغلق الرهن" وما ذُكر من الشرط هو: إغلاق للرهن كما فسَّره الإمام أحمد وهو منهي عنه، والنهي مطلق فيقتضي التحريم والفساد، فيفسد الشرط، وتسميته رهنًا مع أنه مُغلق يلزم منه: أن الرهن صحيح قلتُ: "إن المراد بغلق الرهن: أن المرتهن يتملَّك الرهن بغير إذن مالكه إذا لم يقضه الراهن حقه، فهذا هو الذي أبطله النبي عليه السلام بقوله: "لا يُغلق الرهن" وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحول: فلم يُبطله الشرع، ذكر ذلك ابن القيم، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن الراهن والمرتهن إذا اتفقا على أن العين المرهونة للمرتهن إذا لم يوفه الراهن: فهو أصلح لهما من رفع الأمر إلى الحاكم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في تفسير إغلاق الرهن الوارد في الحديث".
بأن قال المرتهن: هو رهن بألف وقال الراهن: بل بمائة فقط (و) يُقبل قوله أيضًا في قدر (الرهن) فإذا قال المرتهن: أرهنتني هذا العبد والأمة، وقال الراهن: بل العبد وحده: فقوله؛ لأنه منكر (و) يُقبل قوله أيضًا في (ردِّه) بأن قال المرتهن: رددته إليك، وأنكر الراهن: فقوله؛ لأن الأصل معه، والمرتهن قبض العين لمنفعته: فلم يُقبل قوله في الرَّد كالمستأجر (و) يُقبل قوله أيضًا في (كونه عصيرًا لا خمرًا) في عقد شُرط فيه بأن قال: "بعتك كذا بكذا على أن ترهنني هذا العصير، وقبل على ذلك، وأقبضه له، ثم قال المرتهن: كان خمرًا فلي فسخ البيع، وقال الراهن: بل كان عصيرًا فلا فسخ: فقوله؛ لأن الأصل السلامة
(58)
(وإن أقرَّ) الراهن (أنه) أي: أن الرهن (ملك غيره): قبل على نفسه دون المرتهن، فيلزمه ردُّه للمقرِّ له إذا انفكّ الرهن (أو)
(58)
مسألة: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدَّين بأن قال المرتهن: "هذه الدار رهن بعشرة آلاف ريال دين عندك" فقال الراهن: "بل إنها رهن بثمانية آلاف عندي لك"، أو اختلفا في قدر العين المرهونة بأن قال المرتهن:"قد جعلت عندي هذه الدار وهذه السيارة رهنًا لما في ذمتك من دين" فقال الراهن: "بل رهنتُ عندك الدار فقط" أو اختلفا في رد العين المرهونة وعدم ذلك بأن قال المرتهن: "إني رددتُ إليك العين المرهونة وهي الدار" فقال الراهن: "ما رددت إليّ شيئًا"، أو اختلفا في منفعة العين المرهونة بأن قال المرتهن:"أنت رهنت عندي خمرًا: فيصحّ لي فسخ البيع" فقال الراهن: "بل رهنتُ عندك عصيرًا: فلا يصح الفسخ": فإنه يُقبل قول الراهن مع يمينه في تلك الصور الأربع، للاستصحاب؛ حيث إن الأصل براءة الذمة من أيِّ زيادة في دين، أو عين مرهونة، أو ردٍّ أو فساد، فيُستصحب هذا الأصل، فيُعمل به، فقُبل قول من ينفيها، فإن قلتَ: لِمَ يُقبل قوله مع يمينه؟ قلتُ: لأنه منكر، والمنكر يُقبل قوله مع يمينه، للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه" والمدَّعى عليه عادة يكون هو المنكر.
أقرَّ (أنه) أي: الرهن: (جنى: قبل) إقرار الراهن (على نفسه) لا على المرتهن إن كذَّبه؛ لأنه متهم في حقه، وقول الغير على غيره غير مقبول (وحكم بإقراره بعد فكه) أي: فكَّ الرهن بوفاء الدَّين، أو الإبراء منه (إلا أن يُصدِّقه المرتهن) فيبطل الرهن؛ لوجود المقتضي السالم عن المعارض، ويسلم للمقرّ له به
(59)
.
فصل: (وللمرتهن أن يركب) من الرهن (ما يُركب و) أن (يحلب ما يُحلب بقدر نفقته) متحرِّيًا العدل (بلا إذن) راهن؛ لقوله عليه السلام: "الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدُّر يُشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب
(59)
مسألة: إذا رهن زيد داره عند بكر، ثم أقرَّ الراهن - وهو زيد - بأن هذه العين المرهونة - وهي الدار - ملك لمحمد، أو أقرَّ الراهن - وهو زيد - بأن عبده المرهون قد جنى جناية فيها أرش: فله حالتان: الحالة الأولى: إن كذَّب المرتهنُ - وهو بكر - فيما أقرَّ به الراهن - وهو زيد -: فإنه يُقبل إقرار الراهن - وهو زيد - على نفسه ولا يُقبل إقراره على المرتهن - وهو بكر -؛ للتلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: إن الإقرار سيِّد الشهود في إثبات الحقوق فيلزم منه: قبول إقراره على نفسه، ويُحكم على ذلك بناء على ذلك، ثانيهما: أن تكذيب المرتهن - وهو بكر - للراهن يلزم منه: عدم قبول إقراره على المرتهن؛ لكونه خصمه، فهو متهم عند المرتهن، وبناء عليه: أنه إذا فكَّ المرتهن العين المرهونة - بسبب وفاء الراهن -: فإنه يُحكم بذلك الإقرار من الراهن، فيلزمه ردُّ العين المرهونة إلى المقرِّ له ودفع إرش الجناية إلى المجني عليه، الحالة الثانية: إن صدَّق المرتهن - وهو بكر - ما أقرَّ به الراهن - وهو زيد -: فإن الرهن يبطل مباشرة، وتُسلَّم العين المرهونة إلى المقرِّ له؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تصديق المرتهن لما قاله الراهن: الإقرار والاعتراف بإبطال الرهن اتفاقًا؛ لوجود المقتضي لذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس.
النفقة" رواه البخاري وتُسترضع بقدر نفقتها
(60)
، وما عدا ذلك من الرهن لا ينتفع به إلّا بإذن مالكه
(61)
(وإن أنفق على) الحيوان (الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه) أي:
(60)
مسألة: إذا كانت العين المرهونة مما يُركب أو تُحلب من البهائم: فيجوز للمرتهن أن يركب ما يُركب، ويحلب ما يُحلب بقدر ما يُنفق عليها من علف وماء وحرز، ويفعل هذا بلا إذن الراهن، ولكن بشرط: أن يعدل ويُنصف في ركوبها وحلبها؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا ولبن الدُّر يُشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" حيث إن النفقة تكون في مقابل الركوب والشرب، وهذا يكون للمرتهن؛ لكون العين المرهونة تحت يده، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن العين المرهونة تحت يد المرتهن، ويُوجد فيها نفع، فإذا لم يركبها ولم يحلبها ذهب نفعها بدون أن يستفيد منه أحد، وهذا من إضاعة المال التي نهى الشارع عنها، ثم إن عدم ركوبها، وحلبها مُفسد لها فجلبًا لتلك المنافع، ودفعًا لتلك المفاسد: شُرّع ذلك، فيكون في ذلك مصلحة للراهن والمرتهن كما ذكر ذلك ابن القيم، فإن قلت: لِمَ اشتُرط في الركوب الإنصاف؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن عدم الانصاف فيه إضرار بالعين المرهونة، فيُفضي إلى إلحاق الضرر بحقِّ الراهن.
(61)
مسألة إذا لم تكن العين المرهونة مما يُركب أو تُحلب: فإنه لا يجوز للمرتهن أن ينتفع بها بأي نفع إلّا بعد إذن الراهن؛ للتلازم؛ حيث إن العين المرهونة ملك للراهن، فيملك كل ما يتّصل به من نماء وزيادة فيلزم: عدم جواز الانتفاع بها إلّا بإذن مالكها، فإن قلتَ: لِمَ لا يجوز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الراهن، فإن قلتَ: لِمَ جاز للمرتهن ركوب المركوب وحلب المحلوب في مسألة (60)؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه أُذن للمرتهن بأن يركب ما يُركب ويحلب ما يُحلب؛ جلبًا لمصلحة العين المرهونة، ودفعًا للمفسدة عنها فاستُثني لذلك.
إمكان استئذانه: (لم يرجع) على الراهن، ولو نوى الرجوع؛ لأنه متبرِّع، أو مُفرِّط؛ حيث لم يستأذن المالك مع قدرته عليه (وإن تعذَّر) استئذانه، وأنفق بنية الرجوع:(رجع) على الراهن (ولو لم يستأذن الحاكم)؛ لاحتياجه لحراسة حقِّه (وكذا وديعة) وعارية (ودواب مستأجرة هرب ربُّها) فله الرجوع إذا أنفق على ذلك بنيّة الرجوع عند تعذُّر إذن مالكها بالأقل مما أنفق، أو نفقة المثل
(62)
(ولو خرب الرهن) إن كان دارًا
(62)
مسألة: إذا أنفق المرتهن على العين المرهونة كأن أنفق على حيوان ونحوه بغير إذن الراهن: فله حالتان: الحالة الأولى: إذا أمكن استئذان الراهن؛ نظرًا لتيسُّر ذلك، ومع ذلك لم يستأذنه المرتهن، وأنفق على العين المرهونة: فإنه لا يرجع إلى الراهن ويأخذ منه تلك النفقة، بل يتحمَّلها هو؛ للتلازم؛ حيث إن إنفاق المرتهن على العين المرهونة بدون استئذان الراهن مع إمكان ذلك وتيسُّره، نفهم منه: أنه أخرج ذلك عن طريق التبرُّع والصدقة، فيلزم من ذلك عدم جواز أخذ العِوَض عنه؛ قياسًا على الصدقة العامة؛ حيث لا يجوز أخذ العوض عنها حكمًا وإلزامًا، الحالة الثانية: إذا لم يُمكن استئذان الراهن؛ نظرًا لغيبته، وأنفق المرتهن على العين المرهونة ناويًا الرجوع إلى الراهن وأخذ تلك النفقة أو مثلها منه: فإن له الحق بمطالبته بها، ولو لم يستأذن الحاكم - وهو القاضي - بتلك النفقة؛ للتلازم؛ حيث إن الراهن قام بواجب عن الراهن لم يُمكنه استئذانه فيه، فلزم أن تكون تلك النفقة دينًا على الراهن يُلزم بدفعها للمرتهن - وهو المنفق على العين المرهونة -، فإن قلتَ: إنه يجب على الراهن دفع ما أنفقه المرتهن مُطلقًا: أي: سواء كان المرتهن قد استأذنه أو لا، فيُسوَّى بين الحالتين، وهذا قول كثير من متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيم؛ للقياس، بيانه: كما أن المرضعة المستأجرة تفعل ما فيه صلاح للمولود سواء أذن والده أو لا، فكذلك المرتهن مثلها والجامع: أن كلًّا منهما قد فعل ما فيه صلاح الأمانة التي عنده قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن المرضعة هي أعلم بمصلحة هذا المولود وما يكفيه من =
(فعمره) المرتهن (بلا إذن) الراهن: (رجع بآلته فقط) لأنها ملكه، لا بما يحفظ به مالية الدار، وأجرة المعمرين؛ لأن العمارة ليست واجبة على الراهن، فلم يكن لغيره أن ينوب عنه فيها، بخلاف نفقة الحيوان لحرمته في نفسه
(63)
، وإن جنى الرهن ووجب
اللَّبن، ولم تُوجد جد عند والده حيلة لإنقاذ ولده إلّا هذه الطريقة، بخلاف العين المرهونة فقد يكون الراهن قد أخَّر النفقة على العين المرهونة لغرض أراده، فتسرَّع المرتهن فأنفق بدون إذنه مع قدرة الراهن على ذلك، وقد يُنفق المرتهن نفقة غالية الثمن، والراهن لا يُطيق ذلك، فدفعًا لذلك شُرّع عدم مطالبة المرتهن للراهن بدفع نفقته التي أنفقها بدون إذنه - وهو مستطيع على ذلك - دون الحالة الثانية؛ حيث يستويان: فالراهن يجب عليه دفع النفقة التي أنفقها المرتهن؛ لأن المرتهن منع تضرُّر العين المرهونة - في حين عدم استطاعته على استئذانه - فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المرتهن المنفق هل يُشبه المرضعة أو لا؟ فعندنا: لا، وعندهم: نعم. (فرع): إذا أنفق المودَع على الوديعة، والمستعير على العارية، والمستأجر للدواب عليها واحتاجت للنفقة عليها: ففيها الحالتان السابقتان بنفس التفصيل.
(63)
مسألة: إذا خربت العين المرهونة كدارٍ انهدمت فعمرها المرتهن إعمارًا كعمارها الأول: فإنه يرجع إلى الراهن ويأخذ منه جميع تكاليف ذلك الإعمار كما قال القاضي أبو يعلى وكثير من العلماء سواء أذن الراهن أو لا؛ للمصلحة: حيث إن إعادة إعمارها يزيد من قيمتها فيما لو بيعت، وترجع الفائدة إلى الراهن والمرتهن، فإن قلتَ: إنه لا يرجع إلى الراهن، ولا يأخذ منه شيئًا، وإنما يرجع إليه بما يُفوِّت به ماله وهو قول المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن عمارة العين المرهونة لا تجب على الراهن: فيلزم منه: أن لا ينوب عنه فيها غيره قلتُ: إن المرتهن قام بعمل فيه مصلحة الراهن والمرتهن، ولا يُوجد محذور فيه؛ حيث إنه سيزيد ثمنها إذا عُمِّرت بخلاف ما لو لم تُعمَّر. تنبيه: هذه المسألة مخالفة لمسألة (62)؛ حيث =
مال: خُيِّر سيده بين فدائه وبيعه وتسليمه إلى ولي الجناية فيملكه، فإن فداه: فهو رهن بحاله، وإن باعه، أو سلَّمه في الجناية: بطل الرَّهن، وإن لم يستغرق الأرش قيمته: بيع منه بقدره، وباقيه رهن
(64)
، وإن جُني عليه: فالخصم سيده، فإن أخذ الأرش: كان رهنًا، وإن اقتصَّ: فعليه قيمة أقلَّ العبدين: الجاني والمجني عليه قيمة تكون رهنًا مكانه
(65)
.
إن الحيوان محتاج إلى النفقة؛ للمصلحة؛ حيث إنه لا يبقى بلا إنفاق.
(64)
مسألة: إذا كانت العين المرهونة عبدًا فجنى هذا العبد جناية فيها أرش ومال: فإن هذا يتعلَّق برقبة الجاني، ويُقدَّم على حق مرتهنه، وحينئذ يخبر سيده - وهو الراهن - بين أمور ثلاثة: أولها: إما أن يفديه سيده، ويدفع هذا المال المستحق للمجني عليه، ويستمر على حاله - وهو كونه رهنًا عند المرتهن؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قيام حق المرتهن، واستمرار سببه: استمرار رهنيته، ثانيها: وإما أن يبيعه سيده، ويأخذ من ثمنه مالًا ويدفعه للمجني عليه، ثالثها: وإما أن يُسلِّم السيد ذلك العبد إلى المجني عليه فيأخذ مال تلك الجناية، ويُرجع الباقي إلى سيده، وإذا باعه سيده، أو سلَّمه للمجني عليه: فإنه يُبطل الرهن؛ للقياس؛ بيانه: كما لو تلفت العين المرهونة: فإن الرهن يبطل فكذلك إذا باعه الراهن أو سلمه للمجني عليه. والجامع: عدم صلاحيته محلًّا للرهن، فإن قلتَ: لِمَ قُدِّم حقُّ المجني عليه على حق المرتهن؟ قلتُ: لقوة حق الجنايات على غيرها، (فرع): إن كان مال الجناية لا يستغرق ثمن العبد: فإنه يُباع العبد، ويُعطى المجني عليه حقه والباقي يبقى على رهنيته إن رضي المرتهن؛ للتلازم؛ حيث بيع العبد كان للضرورة فيلزم تقدير ذلك بقدرها، ويلزم بقاء الرهن على ما هو عليه عند التراضي؛ لزوال المعارض.
(65)
مسألة: إذا كانت العين المرهونة عبدًا فجُني عليه جناية توجب قصاصًا أو مالًا؛ فالذي يُطالب بالقصاص أو المال هو سيد ذلك العبد - وهو الراهن -: فإن أخذ سيده الأرش والمال مكان العبد: فإن ذلك المال يكون رهنًا عند المرتهن وإن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اقتصَّ من العبد الذي قتله من غير إذن المرتهن عمدًا: فيجب على ذلك السيد - وهو الراهن -: أن يدفع للمرتهن قيمة تكون أقل قيمتي العبدين: الجاني والمجني عليه، وتكون هذه القيمة عينًا مرهونة مكان العبد؛ للتلازم؛ حيث إن السيد - وهو الراهن - هو المالك للعبد: فيلزم أن يُطالب بملكه، وعوضًا عن الضرر الذي لحقه، ويلزم من تفويت العبد على المرتهن أن يجعل قيمته رهنًا عنده بدلًا عنه، ويلزم من ذلك: جعل أقل القيمتين للعبدين رهنًا؛ لأنه هو اليقين، فيتعلّق حق المرتهن به.
هذه آخر مسائل باب "الرهن" ويليه باب "الضمان والكفالة"
باب الضَّمان
مأخوذ من الضمن، فذمَّة الضامن في ذمَّة المضمون عنه، ومعناه شرعًا: التزام ما وجب على غيره مع بقائه وما قد يجب
(1)
، ويصح بلفظ ضمين وكفيل، وقبيل،
باب الضَّمان والكفالة
وفيه ثلاث وثلاثون مسألة:
(1)
مسألة: الضَّمان لغة: الالتزام ومنه قول الشخص: "أنا ضامن وضمين المال" أي: التزمته، وقوله:"ضمَّنته المال": أي: ألزمته إيّاه، وهو مشتق من "الضمن" وهو في الاصطلاح:"أن يلتزم عدل يصح تبرُّعه ما وجب وما سيجب على غيره مع بقاء ذلك على المضمون عنه" مثال ضمان ما وجب: أن يشتري زيد سيارة بعشرة آلاف مؤجَّلة إلى سنة من بكر، وضمن محمد زيدًا قائلًا لبكر:"أنا أضمنه: فإن لم يأت لك زيد بالعشرة في الوقت المحدَّد فإني أدفعها لك" ومثال ضمان ما سيجب: أن يستأجر زيد بكرًا على بناء حائط بعشرة آلاف فيقول محمد لبكر: "أنا أضمن زيدًا إن أنت أكملت البناء وإن لم يدفع لك العشرة فأنا أدفعها" وذلك لأن العشرة الآلاف لا يتقرَّر وجوبها إلّا بعد البناء، وقوله:"مع بقاء ذلك على المضمون عنه" يُشير به: أن ضمان محمد لزيد - وهو المضمون عنه - لا يسقط هذا الواجب - وهي العشرة آلاف - عن زيد، بل يكون هذا المال واجبًا على الضامن - وهو محمد - وعلى المضمون عنه - وهو زيد - أيُّهما دفع أولًا سقط عن الآخر؛ للتلازم؛ حيث إن الحق واحد للمضمون له، فإذا استوفى المضمون له حقَّه: لزم من ذلك زوال تعلُّقه بهما معًا، فائدة: أركان الضمان أربعة: 1 - مضمون - وهو الحق وهو العشرة آلاف هنا. 2 - مضمون له وهو صاحب الحق - وهو بكر هنا. 3 - مضمون عنه وهو الآخذ لهذا الحق - وهو زيد هنا. 4 - وضامن وهو الذي التزم بدفع الحق عن غيره - وهو هنا محمد.
وحميل، وزعيم، "وتحملتُ دينك" أو "ضمنته" أو "هو عندي" ونحو ذلك
(2)
وبإشارة مفهومة من أخرس
(3)
و (لا يصح) الضمان (إلا من جائز التصرُّف)؛ لأنه إيجاب
(2)
مسألة: يصح الضمان بكل لفظ فهُم منه الضمان على حسب العرف والعادة كأن يقول الضامن لغيره: "أنا ضامن" أو "كفيل" أو "قبيل" أو "ضمين" أو "حميل" أو "زعيم" أو "صبير" أو قوله: "بعه عليه وأنا أعطيك الثمن" أو "اتركه ولا تطالبه وأنا أعطيك ما عليه" أو "حقُّك عندي" أو "أتحمَّل ما عليه" ونحو ذلك من العبارات المفهمة للضمان؛ للقياس؛ كما أن الحرز الذي تحفظ فيه الأموال، والقبض، وكثرة الدم الذي ينتقض الوضوء بها، أو كثرة الحركة التي تُبطل الصلاة يُرجع فيها إلى عرف وعادة أوساط الناس فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منها لم يرد من الشارع تحديده بشيء، وما لم يرد تحديده يُرجع فيه إلى العرف، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
(3)
مسألة: يصح الضمان من الأخرس بواسطة إشارة تُظهر أنه التزم ما على غيره من مال؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المتلفظ بأي لفظ يُفهم الضمان يصح ضمانه فكذلك إشارة الأخرس المفهمة للضمان تصح والجامع: إفهام الضمان في كل. فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير معاملة الآخرين والتوسعة عليهم. (فرع): الضمان جائز؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} و "الزعيم" هو: الكفيل كما فسَّره به ابن عباس، وتفسير الصحابي مقبول؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "الزَّعيم غارم" ومعلوم: أن الغارم هو الضامن، الثالثة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على جواز الضمان فإن قلتَ: لِمَ جاز الضمان؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على الناس، بل تدعو الحاجة والضرورة إلى الضمان لمن لم يجد من يُعطيه نقودًا إلّا به كما قال ابن القيم.
مال، فلا يصح من صغير، ولا سفيه
(4)
، ويصح من مفلس؛ لأنه تصرُّف في ذمته
(5)
، ومن قنٍّ ومكاتب بإذن سيدهما، ويُؤخذ مما بيد مكاتب، وما ضمنه قنٌّ من سيده
(6)
، (ولرب الحق مطالبة من شاء منهما) أي: من المضمون والضامن (في الحياة
(4)
مسألة: يُشترط في الضامن: أن يكون جائز التصرُّف - وهو: الحر المكلَّف، سواء كان رجلًا أو امرأة - وعليه: فلا يصح ضمان الصبي والمجنون والسفيه، والعبد والمكاتب بغير إذن سيدهما؛ للقياس؛ بيانه: كما أن البائع والمشتري يُشترط فيهما أن يكونا جائزي التصرُّف فكذلك الضامن، والجامع: أن كلًّا منهما يُوجب على نفسه مالًا بعقد، وهذا لا يلتزم به إلّا جائز التصرُّف، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الضمان وثيقة تكون عند المضمون له، إن لم يدفع المضمون عنه: يُطالب الضامن بالدفع، وجائز التصرُّف ومن له حق التبرُّع هو الذي يستطيع أن يفي بما ضمنه، بخلاف الصبي والمجنون والسفيه؛ حيث إنهم لا يملكون شيئًا بالفعل، وبخلاف العبد والمكاتب؛ حيث إنهم لا يملكون شيئًا بالفعل ولا بالقوة.
(5)
مسألة: يصح الضمان من المفلس - وهو: الذي لا مال عنده -، ولو كان محجورًا عليه؛ للتلازم؛ حيث إن ضمانه تصرُّف منه في ذمته، وهو مُكلَّف حرٌّ له حقُّ التبرُّع والتصرف فيلزم منه: صحة ضمانه؛ إذ لا مانع منه شرعًا، فإن قلتَ: لِمَ صح ضمانه مع الحجر عليه؟ قلتُ: لأن الحجر عليه كان لأجل ماله؛ لوفاء الغرماء، ولم يُحجر عليه في ذمته (فرع): يُطالب المفلس المحجور عليه بما ضمنه بعد فكِّ الحجر عنه؛ للتلازم؛ حيث إن تقدُّم حق الغرماء يلزم تأخير المطالبة بما ضمنه إلى أن يُفكُّ الحجر.
(6)
مسألة: يصح ضمان العبد إذا أذن سيده بذلك، ويأخذ المضمون له الحق - وهو المال المضمون - من سيده الذي أذن له بذلك، ويصح ضمان المكاتب - وهو الذي اشترى نفسه من سيده بمال يقضيه له على فترات - إذا أذن هذا السيد =
والموت)؛ لأن الحق ثابت في ذمتهما، فملك مطالبة من شاء منهما؛ لحديث "الزعيم غارم" رواه أبو داود، والترمذي، وحسَّنه
(7)
(فإن برئت ذمَّة المضمون عنه) من الدَّين
الذي باعه على نفسه، ويأخذ المضمون له الحق - وهو المال المضمون - من يد ذلك المكاتب، للقياس؛ بيانه: كما أن السيد لو أذن لعبده ولمكاتبه بالتصرُّف في بعض البيوع التي تخصهما فإن ذلك يصح، ويتحمَّل السيد ما وجب عليهما من الحقوق فكذلك ضمانهما إذا أذن سيدهما، ويتحمَّل السيد ما وجب عليهما، أو تأخير سداد ثمن المكاتب، والجامع: أن الحجر في كل منهما لحماية حق السيد فإذا أذن انفكَّ ذلك الحجر، فإن قلتَ: لِمَ يأخذ المضمون له المال من سيد العبد مع أن العبد هو الذي ضمن؟ قلتُ: لأن السيد لما أذن للعبد بالضمان: تعلَّق الحق بذمته كما لو أذن له بالاستدانة.
(7)
مسألة: صاحب الحق - وهو المضمون له - لا يُطالب الضامن إلا إذا تعذَّرت مطالبة المضمون عنه - وهو قول مالك في إحدى الروايتين عنه وكثير من العلماء -؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن المرتهن لا يبيع العين المرهونة إلّا بعد تعذُّر الاستيفاء من الراهن فكذلك المضمون له لا يُطالب الضامن إلّا بعد تعذُّر أخذ حقه من المضمون عنه، والجامع: أن كلًّا من العين المرهونة والضامن وثيقة يُقصد منها حفظ الحق؛ لئلا يضيع حق المضمون له والمرتهن، الثانية: العرف والعادة؛ حيث إنه قد اعتاد الناس على مطالبة الأصل - وهو المضمون عنه الذي أخذ المال - أولًا، فإن تعذَّرت تلك المطالبة بسبب غيابه أو إفلاسه، أو مماطلته: فإنهم يطالبون الضامن، ومن طالب الضامن مع قدرته على مطالبة المضمون عنه فهو مستقبح غير طارق للطريق السوي في المطالبة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: لأن المضمون عنه هو الذي أخذ المال من المضمون له واستفاد منه، دون الضامن، فيكون المضمون عنه هو أصل في المطالبة، والضامن بديلًا عنه، ولا يمكن أن يُذهب إلى البدل أن المبدل موجود كالتراب مع الماء، فإن =
المضمون بإبراء، أو قضاء، أو حوالة ونحوها:(برئت ذمة الضامن)؛ لأنه تبع له
(8)
،
قلتَ: إن المضمون له يُطالب من شاء منهما في الحياة أو بعد الممات؛ ولو كان المضمون عنه مليًا باذلًا - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المضمون له حق مطالبة المضمون عنه - وهو الأصل - فكذلك له حق مطالبة الضامن، والجامع: ثبوت الحق في ذمة كل منهما، فلا فرق بينهما، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن المضمون عنه هو الأصل والمبدل، والضامن هو التبع والبدل، فلا يُمكن تساويهما في المطالبة؛ نظرًا لتقدُّم الأصل على التبع، وتقدُّم المبدل على البدل في الأحكام كلها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن قسنا الضامن على العين المرهونة؛ لأنه أكثر شبهًا بها، وهم قاسوا الضامن على المضمون عنه؛ لكثرة شبهه به عندهم، وهذا يُسمَّى بـ "قياس غلبة الأشباه" تنبيه: قوله عليه السلام: "الزعيم غارم" لا يصح للاستدلال به على أن المضمون له يُطالب من شاء منهما لأنه يُحتمل أن يكون الزعيم - وهو الضامن - غارمًا للمال الذي قد يفوت بسبب عدم دفع المضمون عنه له للمضمون له بعد مطالبته إيَّاه، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن منه، ويؤيد ما ذكرناه.
(8)
مسألة: إذا برئت ذمة المضمون عنه بسبب قضائه للدَّين الذي عليه، أو بسبب أن المضمون له قد أبرأه، أو بسبب أن المضمون عنه قد أحال المضمون له على مليء ورضي المضمون له بذلك: فإن ذمة الضامن تبرأ، ولا يُطالب بشيء؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العين المرهونة تنفكّ إذا قضى الراهن ما عليه من الدَّين، أو أبرأه المرتهن، أو أحال الراهن المرتهن إلى مليء ورضي المرتهن فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا من الضامن والعين المرهونة وثيقة للاحتياط من أن المال سيعود لمستحقه، - وهو المضمون له، والمرتهن - فإذا عاد: فلا فائدة من التمسّك بالضامن، أو العين المرهونة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: لأن الضامن تبع =
(لا عكسه)، فلا يبرأ المضمون عنه ببراءة الضامن؛ لأن الأصل لا يبرأ ببراءة التبع
(9)
، وإذا تعدَّد الضامن: لم يبرأ أحدهم ببراءة الآخر، ويبرؤون بإبراء المضمون عنه
(10)
(ولا يُعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه ولا) معرفته للمضمون (له)؛ لأنه لا يُعتبر رضاهما، فكذا معرفتهما
(11)
(بل) يُعتبر (رضى الضامن): لأن الضمان تبرُّع
للمضمون عنه، فإذا برئت ذمة الأصل فقد برئت ذمة الفرع والتبع.
(9)
مسألة إذا برئت ذمَّة الضامن - بأن أقرَّ المضمون له أن الضامن قد برئت ذمته -: فإن ذمة المضمون عنه لا تبرأ، ويحق للمضمون له أن يُطالبه بالدَّين؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العين المرهونة لو انفسخت من غير استيفاء المرتهن حقه من الراهن: فلا يسقط الحق عن الراهن، وتبقى ذمته مشغولة به، فكذلك الضامن لو برئت ذمته: فإن المضمون عنه لا تبرأ ذمته، والجامع: أن كلًّا من العين المرهونة والضامن وثيقة انحلَّت من غير استيفاء الدَّين والحق، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: لأن الأصل لا يبرأ بسبب براءة التبع؛ حيث إن الضامن تبع.
(10)
مسألة: إذا ضمن شخصان أو أكثر شخصًا واحدًا والتزموا بدفع ما عليه إن عجز عن ذلك وأبرأ المضمون له أحد الضامنين: فإن ذمة الضامن الآخر لا تبرأ، أما إذا برئت ذمة المضمون عنه بسبب قضائه للدين ونحوه: فإن جميع الضامنين تبرأ ذممهم؛ للتلازم؛ حيث إن إن إبراء أحد الضامنين لا تعلُّق له بالضامن الآخر؛ لكونه غير فرع له فيلزم عدم إبراء ذمَّة الآخر، ويلزم من إبراء المضمون عنه: إبراء جميع الضامنين؛ لأنهم يتعلَّقون به، وهم فروع له، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المضمون له.
(11)
مسألة: لا يُشترط في صحة الضمان: أن يكون الضامن عارفًا للمضمون عنه، فيصح أن يقول زيد لبكر:"من استدان منك شيئًا فأنا أضمنه"، ولا يُشترط أيضًا: أن يكون الضامن عارفًا للمضمون له، فيصح أن يقول زيد:"من باع بكرًا شيئًا أو أقرضه فأنا أضمنه"؛ للتلازم؛ حيث إن الضمان هو التزام حقٍّ - =
بالتزام الحق، فاعتبر له الرضى كالتبرُّع بالأعيان
(12)
(ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم)؛ لقوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنابه زعيم} وهو غير معلوم؛ لأنه يختلف
(13)
(و) يصح أيضًا ضمان ما يؤول إلى الوجوب كـ (العواري والمغصوب والمقبوض بسوم) إن ساومه وقطع ثمنه، أو ساومه فقط؛ ليريه أهله: إن رضوه وإلا ردَّ، وإن أخذه ليريه أهله بلا مساومة، ولا قطع ثمن: فغير مضمون
(14)
(و) يصح
كما سبق تعريفه في مسألة (1) - والتزام ذلك يكون ولو جُهل المضمون عنه، أو المضمون له فيلزم: عدم اشتراط معرفتهما، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: لأن المقصود والغرض هو دفع الحق والمال للمضمون له، فإذا حصل ذلك المقصود، فاشتراط معرفة ذلك زيادة لا يُحتاج إليها.
(12)
مسألة: يُشترط في صحة الضمان: أن يكون الضامن راضيًا، فلا صحَّة لضمان مُكره عليه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن التبرُّع بالأعيان لا يصحّ إلّا برضى المتبرِّع، فكذلك الضمان لا يصح إلا برضى الضامن والجامع: أن كلًّا منهما قد تبرَّع بالتزام حق، فلا يُعتبر: لا بالرضى منه، فإن قلتَ: لِمَ يُشترط ذلك؟ قلتُ: لكونه لا دفع إلّا برضى والضامن هو الذي سيدفع الحق إن لم يدفع المضمون عنه ذلك الحق.
(13)
مسألة: لا يُشترط في صحة الضمان: أن يكون الشيء المضمون معلومًا، فيصح ضمان المجهول كأن يقول زيد لبكر:"أنا ضامن لك ما على محمد، أو ما يُقرُّ لك به محمد من مال" وهذا يُشترط فيه: أن يكون مآله إلى العلم، ومعرفة مقداره؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم} ومعلوم: أن حمل البعير غير معلوم؛ لاختلاف كثرة الحمل وقلَّته باختلاف الإبل، وقوة تحمُّل بعضها دون بعض للحمل، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: لكونه التزام حق في الذمة من غير معاوضة حالية.
(14)
مسألة: يصح ضمان ما يؤول إلى الوجوب - كما سبق بيانه في تعريف الضمان في مسألة (1) - كالعارية - أو المغصوب، وما يُجعل من جُعْل لمن بنى شيئًا، أو =
ضمان (عهدة مبيع): بأن يضمن الثمن إذا استحقّ المبيع، أو رد بعيب، أو الأرش إن خرج معيبًا، أو يضمن الثمن للبائع قبل تسليمه، أو إن ظهر به عيب أو استحق فيصح؛ لدعاء الحاجة إليه، وألفاظ ضمان العهدة:"ضمنت عهدته" أو "دركه" ونحوهما
(15)
، ويصح أيضًا ضمان ما يجب: بأن يضمن ما يلزمه من دين، أو ما
نفقة مستقبلة، ونحو ذلك، والمراد من ضمانها: ضمان استنقاذها، أو ردها، أو قيمتها عند تلفها، وكذلك يصح ضمان المقبوض بسوم وقطع للثمن بأن يساوم زيد بكرًا على سلعة ويقطع بثمنها، ثم يأخذها زيد ليريها أهل بيته: فإن رضوا بها أخذها، وإن لم يرضوا بها: ردَّها على بكر: فإنه يصح أن يضمن محمد ما أخذها زيد، أما إن لم يقطع بالثمن، ولم يساوم: فلا صحة للضمان؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "الزعيم غارم" وهو عام للواجب المستقر، ولغيره، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن الحقوق الثابتة في الذمة يصحّ ضمانها فكذلك العواري والغصوب، والجامع: أن كلًّا منها مضمونة على من هي في يده، فإن قلتَ: لِمَ لا يُضمن ما لم يُساوم عليه، ولم يقطع بالثمن؟ قلتُ: لعدم قبضه على وجه العوض.
(15)
مسألة: يصح ضمان عهدة مبيع: بأن يضمن محمد الثمن عن بائع لمشتر، وهو الواجب بالبيع قبل تسليمه إن ظهر المبيع مستحقًا لغير بائع، أو رد المبيع على بائع بعيب، أو دفع أرش جناية إن ظهر به عيب؛ للمصلحة: حيث إن الحاجة داعية إلى ذلك، فلو مُنع الضمان في مثل ذلك: لتضرَّر كثير من الناس؛ حيث قد يؤدي إلى امتناع المعاملات مع كثير من الناس غير المعروفين، فصحّ الضمان في ذلك؛ دفعًا لذلك (فرع): صيغ الضمان بالعهدة هي أن يقول الضامن هنا: "ضمنتُ عهدته" أو يقول لمشتر: "ضمنت خلاصك منه" أو يقول: "متى خرج المبيع مستحقًا: فقد ضمنتُ لك الثمن" ونحو ذلك مما يدل على المراد من غير تقييد بصيغة معينة.
يُداينه زيد لعمرو ونحوه
(16)
وللضامن إبطاله قبل وجوبه
(17)
(لا ضمان الأمانات) كوديعة، ومال شركة، وعين مؤجَّرة؛ لأنها غير مضمونة على صاحب اليد فكذا ضامنه
(18)
(بل) يصح ضمان (التعدِّي فيها) أي: في الأمانات؛ لأنها حينئذٍ تكون مضمونة على من هي بيده كالمغصوب
(19)
، وإن قضى الضامن الدَّين بنية الرجوع: رجع، وإلا: فلا، وكذا كفيل، وكل مؤدٍ عن غيره دينًا واجبًا
(20)
(16)
مسألة: يصح ضمان ما وجب كأن يقول محمد الضامن: "أضمن ما يُقضى به على زيد" أو "أضمن ما يدل الدليل على أنه مطالب به" أو "أضمن كل ما يُقرُّ به" ويصحّ ضمان ما لا يجب ولكنه يؤول إلى الوجوب بقول محمد الضامن "أضمن ما سيجب من الأجرة على زيد" وكذا في مهر قبل الدخول وهكذا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون هذه الحقوق لازمة وجواز إسقاطها: جواز ضمانها.
(17)
مسألة: يجوز للضامن إبطال ضمان ما يجب قبل وجوبه على المضمون عنه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم اشتغال ذمته به: جواز إبطاله؛ لأن الأمور منوطة بانشغال الذمة بها أو عدم ذلك.
(18)
مسألة: لا يصح ضمان الأمانات كالوديعة، والعين المؤجَّرة، ومال شركة، وعين مدفوعة إلى خياط وقصَّار؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الوديعة لا يضمنها من هي بيده إذا تلفت وبلا تفريط منه، فكذلك الضامن لا يضمنها من باب أولى؛ لأنه فرع عنه.
(19)
مسألة: يصح ضمان التعدِّي في الأمانات كأن يقول محمد لبكر: "ادفع لزيد الخياط وأنا أضمن عدم تعديه" أي: ضامن لما دفعته إليه إذا تعدَّى أو تلف بفعله، فيكون إن تلف بغير فعله، أو بلا تفريط: فلا شيء على الضامن؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المغصوب والمعار يصح ضمانهما فكذلك هنا والجامع: أن كلًّا منها يضمنها من هي بيده، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس.
(20)
مسألة: إذا قضى الضامن دين المضمون عنه وأعطاه المضمون له بنية الرجوع إلى =
غير نحو زكاة
(21)
.
فصل: في الكفالة، وهي: التزام رشيد إحضار من عليه حق ما لي لربِّه، وتنعقد بما ينعقد به ضمان
(22)
، ...............................................
المضمون عنه وأخذ ما دفعه الضامن منه، أو قضى الكفيل دين المكفول به بنيّة الرجوع إليه وأخذه منه، أو أدَّى شخص عن غيره شيئًا واجبًا كمن أنفق على زوجة غيره بنيّة الرجوع إلى زوجها، أو أنفق شخص على أولاد غيره بنية الرجوع إلى وليهم: فإن الضامن، أو الكفيل، والمنفق الناوي الرجوع: يرجع إلى المضمون عنه، أو المكفول به، أو الزوج أو ولي الأولاد، أما إن لم ينوِ واحد ممن سبق الرجوع إلى من عليه الحق: فلا يرجع إليه، وليس له حق المطالبة بما دفعه؛ للقياس؛ وهو من وجهين: أولهما: كما أن القاضي إذا قضى دينًا عن شخص عند امتناعه وهو ناوي أن يرجع إليه به: فإنه يُطالب ذلك الشخص بما عليه، فكذلك هؤلاء - أعني الضامن، والكفيل، والمنفق - يطالبون المضمون عنه، والمكفول به والذي يجب عليه الإنفاق والجامع: أن كلًّا منهم مبرئ من دين واجب، فكان من ضمان والتزام من هو عليه ثانيهما: كما أن المتصدِّق عن غيره لا يرجع إلى المتصدَّق عنه فيه فكذلك من الضامن أو الكفيل أو المنفق الذي يدفع عن غيره ولا ينوي الرجوع إلى المضمون عنه، أو المكفول به، أو من وجب عليه الإنفاق: لا يُرجع إليهم، والجامع: أن كلًّا منهم متبرِّع متطوع بما فعله.
(21)
مسألة: إذا دفع زيد عن بكر مالًا واجبًا على بكر يفتقر إلى النية: كأن تجب على بكر زكاة، أو كفارة، أو نذر فدفعه عنه زيد: فلا يرجع زيد إلى بكر ليأخذ ما دفعه منه، ولا تبرأ ذمة بكر؛ للتلازم؛ حيث إن صحة براءة الذمة عند دفع ذلك شروط بوجود النية عند من وجب عليه الحق، فيلزم من عدم النية: عدم صحة براءة الذمة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: لأن تلك الأعمال فيها قربة إلى الله، ولا تصح هذا إلّا بنية وقصد.
(22)
مسألة: الكفالة لغة: الالتزام، وهي في الاصطلاح: التزام شخص رشيد بإحضار =
وإن ضمن معرفته: أخذ به
(23)
(وتصح الكفالة بـ) بدن (كل) إنسان عنده (عين
من تعلَّق به حق مالي من دين أو عاريَّة أو نحوهما لرب الحقِّ، فإن قلتَ: ما الفرق بين الكفالة والضمان؟ قلتُ: الفرق هو: أن الكفالة عقد واقع على بدن المكفول به، فالكفيل ملتزم بإحضار بدن المكفول به، أما الضمان فهو عقد واقع على الحق الذي على المضمون عنه، فيضمنه الضامن ويرجعه إلى المضمون له إن امتنع المضمون عنه عن الدفع: سواء أحضر بدن المضمون عنه أو لا. (فرع): الكفالة جائزة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقًا من الله لتأتنني به إلا أن يُحاط بكم} فمنع يعقوب أن يخرج يوسف مع إخوته إلّا إذا تكفَّلوا بأن يُرجعوه معهم، الثانية: السنة القولية؛ حيث إن رجلًا لزم غريمًا له حتى يقضي أو يأتي بجميل فقال عليه السلام: "أنا أحمل" فإن قلتَ: لِمَ جازت الكفالة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحاجة تدعو إلى الاستيثاق بضمان المال أو البدن، وضمان المال - وقد سبق بيانه فيما قبل هذه المسألة - قد يمتنع منه بعض الناس فلو لم تجز الكفالة، بالنفس لأدّى إلى منع بعض المعاملات المحتاج إليها فيحصل بعض الضيق والحرج فدفعًا لذلك: جازت الكفالة (فرع ثان): تنعقد الكفالة بالصيغ التي ينعقد بها الضمان كما سبق في مسألة (2) كقول الكفيل: "أنا ضمين ببدنه" و"زعيم به"؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الكفالة، نوعًا من الضمان: أن تكون صيغه تصلح صيغًا لها.
(23)
مسألة: إذا ضمن شخص معرفة المستدين: صحَّ ذلك، كما لو جاء زيد ليستدين من بكر، فقال بكر:"أنا لا أعرفك وأنا لا أعطي من لا أعرفه" فقال محمد لبكر: "أنا ضمنتُ لك معرفته، أعرِّفك من هو، وأين سكنه": فإن هذا يُقبل، ويُؤخذ بإحضاره، فإن لم يحضر المستدين - وهو زيد - أو هرب: فإن بكرًا يُطالب محمدًا بإحضاره، فإن عجز محمد عن إحضاره: فإنه يضمن ما عليه ويُسلِّمه لبكر؛ للقياس؛ بيانه: كما لو قال محمد لبكر تكفَّلتُ بإحضار زيد: فإنه يصح، =
مضمونة) كعارية ليردَّها، أو بدلها (و) تصحّ أيضًا (ببدن من عليه دين) ولو جهله الكفيل؛ لأن كلًّا منهما حق مالي، فصحَّت الكفالة به كالضمان
(24)
و (لا) تصح ببدن من عليه (حد) لله تعالى كالزنا أو لآدمي كالقذف؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "لا كفالة في حدٍّ"(ولا) ببدن من عليه (قصاص)؛ لأنه لا يمكن استيفاؤه من غير الجاني، ولا بزوجة وشاهد
(25)
، .........................
فكذلك لو قال له "أنا ضمنت لك معرفته" والجامع: أن كلًّا منهما توثقة لمن له المال وهو هنا بكر.
(24)
مسألة: يصح أن يُكفل بدن كل من يلزمه الحضور لمجلس الحكم بسبب دين لازم، أو يؤول إلى اللزوم، أو بسبب عين مضمونة كعارية، ومغصوبة؛ ليردَّها إن كانت باقية، أو يرد بدلها: ويصحّ هذا مطلقًا، أي: سواء كان الكفيل عالمًا بالمال وبقدر العارية أو المغصوب أو جاهلًا به إذا كان مما يؤول إلى العلم؛ للقياس؛ بيانه: كما يصح ضمان الدَّين اللازم، والعين ولو كان مجهولًا فكذلك تصح الكفالة به والجامع: أن كلًّا من الدَّين والعين حق مالي، وهو قياس أولى؛ حيث إن الدَّين يصح ضمانه ولو كان مجهولًا إذا آل إلى العلم مع أنه التزام بالمال ابتداء فتكون الكفالة التي لا تتعلَّق بالمال ابتداء أولى بالصحة، وهذا لحفظ الحقوق، وهو المقصد منه.
(25)
مسألة: لا يصح أن يُكفل بدن من عليه حدٌّ سواء كان هذا الحد حقًا من حقوق الله تعالى كحد الزنا، والسرقة، أو شرب الخمر، أو كان حقًا من حقوق الآدميين كحد القذف، ولا يصح أن يُكفل بدن من عليه قصاص، ولا يصح أن يكفل شخص زوجة لزوجها في حق الزوجية، ولايصح أن يُكفل شاهد؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من الكفالة: استيفاء الحق من الكفيل إن لم يُحضر المكفول، وهذا لا يمكن في الحدود والقصاص، والزوجة لزوجها، والشاهد؛ لكون الحق عليهم يستحيل استيفاؤه من الكفيل فلزم عدم صحة الكفالة في مثل =
ولا بمجهول
(26)
، أو إلى أجل مجهول
(27)
، وتصح:"إذا قدم الحاج: فأنا كفيل بزيد شهرًا"
(28)
(ويُعتبر رضى الكفيل)؛ لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه (لا) رضى
تلك الأمور، فإن قلتَ: يصح أن يُكفل بدن من عليه حد لآدمي، وهو قول مالك، ورواية لأحمد، ورجَّحه ابن تيمية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه حقًا لآدمي: أن تصح الكفالة به كسائر حقوق الآدميين قلتُ: هذا بعيد؛ لأن الحدود عقوبات وزواجر بدنية، ولا يُعاقب ولا يُزجر بدنيًا إلا نفس فاعل ذلك؛ لعموم قوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين" فعندنا يُرجَّع الأول؛ لتقوية المصلحة له، وعندهم: يُرجع الثاني. تنبيه: حديث: "لا كفالة في حد" لايصح الاستدلال به؛ لأنه ضعيف، والضعيف لا يحتج به في إثبات الأحكام.
(26)
مسألة: لا يصح أن يُكفل بدن شخص مجهول؛ للتلازم؛ حيث إن هذا لا يمكن تسليمه لصاحب الحق عند طلبه فلزم عدم صحة ذلك.
(27)
مسألة: لا يصح أن يكفل بدن شخص إلى أجل مجهول كأن يقول زيد لبكر: "إذا هبَّت الرياح فأنا كفيل بإحضار محمد" ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث لا يُمكن أن يُطالب هذا بإحضاره إلا إذا هبَّت الرياح، وهذا أمره مجهول فلا يصح كالبيع المؤجَّل إلى وقت مجهول.
(28)
مسألة: يصح أن يكفل بدن شخص إلى وقت معلوم عادة وعرفًا كقوله: "إذا قدم الحاج فأنا كفيل بإحضار محمد" أو يقول: "إذا حصد الزرع، أو جُزَّ النخل فأنا كفيل بإحضار محمد" ونحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما يصح البيع المؤجّل ثمنه بذلك التوقيت فكذلك تصح الكفالة والجامع: أنه في كل منهما قد جُهل له أجل لا يمنع من حصول المقصود منه ولا غرر ولا جهالة فيه، فلا يقع تنازع وهذا هو المقصد منه.
(مكفول به) أوله كالضمان
(29)
(فإن مات) المكفول: برئ الكفيل؛ لأن الحضور سقط عنه (أو تلفت العين بفعل الله تعالى) قبل المطالبة: برئ الكفيل؛ لأن تلفها بمنزلة موت المكفول به، فإن تلفت بفعل آدمي: فعلى المتلف بدلها ولم يبرأ الكفيل (أو سلَّم) المكفول (نفسه: برئ الكفيل)؛ لأن الأصل: أداء ما على الكفيل، أشبه ما لو قضى المضمون عنه الدَّين، وكذا يبرأ الكفيل إذا سلَّم المكفول بمحل العقد وقد حلَّ الأجل أو لا، بلا ضرر في قبضه، وليس ثمَّ يد حائلة ظالمة
(30)
، وإن تعذر إحضار
(29)
مسألة: يشترط في صحة الكفالة: أن يرضى الكفيل، ولا يُشترط في ذلك رضى مكفول به، ولا رضى مكفول له، بل يصح أن يكفل زيد بكرًا لمحمد وإن لم يرضَ بكر ولا محمد؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أنه يُشترط رضى الضامن - كما سبق - ولا يُشترط رضى المضمون عنه، فكذلك هنا يُشترط رضى الكفيل، ولا يُشترط رضى المكفول به، والجامع: أن كلًّا من الضامن والكفيل قد التزم حقًا ابتداء، فلا يلزمه هذا الحق إلّا برضاه، وأن كلًّا من المضمون عنه والمكفول قد حمَّل غيره قضاء ما عليه فيكون ذلك من صالحه، فلا يُشترط رضاه. ثانيهما: كما أن المشهود له لا يُشترط رضاه في صحة الشهادة فكذلك المكفول له والجامع: أن كلًّا من الشهادة والكفالة وثيقة له لا قبض فيها فتصحّ بدون رضى، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حقوق الآخرين.
(30)
مسألة: تبرأ ذمة الكفيل في أربع حالات: الحالة الأولى: إذا مات المكفول: فإن ذمة الكفيل تبرأ؛ للتلازم؛ حيث إن سقوط إحضاره نظرًا لموته يلزم منه: براءة ذمة الكفيل؛ لعدم وجود شيء يُحضره، الحالة الثانية: إذا تلفت العين المكفول بها بسبب فعل الله تعالى قبل المطالبة: فإن ذمة الكفيل تبرأ، أما إن تلفت العين بفعل آدمي: فإن ذمة الكفيل لا تبرأ، ويُطالب هذا الآدمي الذي أتلفها ببدل عنها؛ للتلازم؛ لأن تلف العين المكفول بها يتسبَّب في هدم ركن من أركان الكفالة فيلزم =
المكفول مع حياته، أو غاب ومضى زمن يمكن إحضاره فيه: ضمن ما عليه إن لم يشترط البراءة منه
(31)
، ......................................................
منه: براءة ذمة الكفيل؛ لعدم وجود شيء يُطالب بسببه بخلاف تلفها بسبب آدمي: فلا تبرأ ذمة الكفيل بذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود متلف العين: انشغال الذمة بذلك فيُطالب متلفها ببدلها، الحالة الثالثة: إذا سلَّم المكفول نفسه للمكفول له: فإن ذمة الكفيل تبرأ؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ذمة الضامن تبرأ إذا قضى المضمون عنه الدَّين الذي عليه وأعطاه للمضمون له، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما قد حصل ما لزمه من أجله ففي الضمان: دفع المضمون عنه الدين الذي عليه، وفي الكفالة قد سلَّم المكفول نفسه للمكفول له. الحالة الرابعة: إذا سلَّم الكفيل المكفول للمكفول له بمحل العقد: سواء بعد حلول الأجل أو قبله بدون إضرار يلحق بالمكفول له عند قبضه: فإن ذمة الكفيل تبرأ، ما إن حصل ضرر بتسليم المكفول المكفول له قبل حلول أجله: فإن ذمَّة الكفيل لا تبرأ؛ للتلازم؛ حيث إن الكفيل قام بما عليه - وهو: تسليم المكفول للمكفول له - فيلزم منه: براءة ذمته، ويلزم من تسليمه له مع حصول بعض الضرر على المكفول له قبل الحلول: عدم براءة ذمة الكفيل؛ دفعًا لذلك الضرر؛ حيث إن هذا يُفوِّت عليه بعض حقوقه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا التفصيل هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للكفيل، وللمكفول له كما هو واضح من تلك الحالات الأربع.
(31)
مسألة: إذا تعذَّر إحضار المكفول مع حياته، أو امتنع الكفيل من إحضاره، أو غاب المكفول زمنًا يمكن إحضاره فيه: فإن الكفيل يضمن ما على المكفول من الدَّين هذا إذا لم يشترط الكفيل البراءة من الدَّين عند تعذُّر إحضار المكفول، أما إن اشترط ذلك قائلًا:"أنا أكفله، ولكني لا أضمن ما عليه من الدَّين إن لم أحضره": فإنه لا يضمن ما عليه إن لم يُحضره؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ =
ومن كفله اثنان فسلَّمه أحدهما: لم يبرأ الآخر
(32)
وإن سلَّم نفسه: برئا
(33)
.
حيث قال عليه السلام: "الزعيم غارم"، وهذا عام للضمان والكفالة، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من استثناء ضمان ما عليه: عدم ضمان ما عليه إن لم يُحضره؛ عملًا بشرطه، وهو هذا الاستثناء.
(32)
مسألة: إذا كفل زيد وبكر محمدًا معًا، أو منفردين، فسلَّم زيد محمدًا للمكفول له - وهو خالد -: فإن ذمة زيد تبرأ، ولا تبرأ ذمة بكر؛ للتلازم؛ حيث إن انحلال إحدى الوثيقتين بتسليم المكفول لا يلزم منه انحلال الوثيقة الأخرى؛ قياسًا على ما لو أُبرأ أحدهما دون الآخر.
(33)
مسألة: إذا كفل زيد وبكر محمدًا: فسلَّم محمد نفسه للمكفول له - وهو خالد -: فإن ذمة زيد وبكر تبرأ؛ للتلازم؛ حيث إن أداء الأصل - وهو المكفول - ما وجب على زيد وبكر - وهو: إحضار نفسه للمكفول له - يلزم منه إبراء ذمة الكفيلين - وهما زيد وبكر - لزوال ما في ذمتهما من إحضاره.
هذه آخر مسائل باب "الضمان والكفالة" ويليه باب "الحوالة"
باب الحوالة
مشتقة من التحوُّل؛ لأنها تُحوِّل الحقَّ من ذمة إلى ذمة أخرى
(1)
، وتنعقد بأحلتك، وأتبعتك بدينك على فلان ونحوه
(2)
و (لا تصح) الحوالة (إلا على دين
باب الحوالة
وفيه ثنتان وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: الحوالة لغة: مشتقة من التحوُّل وهو: الانتقال من شيء إلى شيء آخر ومنه قولهم: "تحوَّل فلان من داره إلى دار أخرى" أي: انتقل، وهي في الاصطلاح: نقل دين من ذمة شخص إلى ذمة شخص آخر يطالبه المحيل بدين، فمثلًا: زيد يُطالب بكرًا بعشرة آلاف فأحال بكر زيدًا إلى محمد؛ ليُطالبه بدينه: فإن زيدًا المحال يتحوَّل بالمطالبة بدينه إلى محمد - المحال عليه - ويترك بكرًا - المحيل - وهذا يكون بشروط سيأتي بيانها. (فرع): الحوالة جائزة؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على جوازها، ومستند ذلك السنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أحيل بحقه على مليء فليحتل" وصرفت المصلحة هذا الأمر من الوجوب إلى الإباحة والجواز؛ حيث إن المحافظة على حق المحال واجبة؛ لئلا يُحال إلى ذمة شخص بغير رضاه، فإن قلتَ: لِمَ جازت الحوالة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن نقل الدَّين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فيه توسعة وتنفيس عن المحيل، وفيه إبقاء ومحافظة على حقّ المحال.
(2)
مسألة: تنعقد الحوالة بلفظ "أحلتك بحقك على محمد" أو "اتبعتك بدينك على محمد"؛ للسنة القولية: حيث ورد هذان اللفظان عنه عليه السلام فقال: "من أحيل بحقه على مليء فليحتل" وقال: "مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليُتبع"، وتنعقد بأي لفظ يُفهم منه الحوالة كقول المحيل:"أطلب حقك من محمد" أو "خذ حقك منه"؛ للتلازم؛ حيث إن تلك الألفاظ يحصل منها مقصود =
مستقر)؛ إذ مقتضاها إلزام المحال عليه بالدَّين مطلقًا، وما ليس بمستقر عرضة للسقوط، فلا تصح على مال كتابة، أو سَلَم، أو صداق قبل دخول، أو ثمن مدة خيار، ونحوها
(3)
، وإن أحاله على من لا دين عليه: فهي وكالة
(4)
والحوالة على ما له
الحوالة: فلزم انعقادها بها تنبيه: اشترط لصحة الحوالة ستة شروط سيأتي بيانها.
(3)
مسألة: في الأول - من شروط صحة الحوالة - وهو: أن يُحيل بكر زيدًا على محمد - المحال عليه - الذي يُطالبه بكر بدين مستقر كأن يكون لبكر ثمن مبيع عند محمد أو قرض ونحو ذلك، أما إن كان الدَّين الذي على المحال عليه - وهو محمد - غير مستقر: كأن يكون محمد عبدًا لبكر فاشترى محمد نفسه منه على مبلغ يُقسِّطه عليه على فترات - وهي المكاتبة -، أو كان محمد قد أخذ نقودًا من بكر في مجلس العقد؛ ليُسلِّمه سلعة يُسلم فيها، أو أخذت امرأة صداقًا من بكر ولم يدخل بها بكر، أو باع بكر على محمد سلعة بثمن وهما في مدة خيار المجلس أو الشرط، أو نحو ذلك: فإن الحوالة لا تصح؛ للمصلحة: حيث إن بكرًا إذا أحال زيدًا على محمد الذي له عليه دين مستقر: فإن زيدًا يستطيع استيفاء حقه من محمد؛ لاستقرار الدَّين عليه، وعدم قدرة محمد على إبطاله، أما لو أحاله على محمد الذي له عليه دين غير مستقر كدين مكاتبة، أو سَلَم، أو صداق لامرأة لم يدخل بها، أو كان محمد في مدة الخيار: فإن زيدًا قد لا يستطيع أخذ حقه من محمد؛ لاحتمال أن يقوم محمد بإسقاط ذلك الدَّين: فقد يُعجز نفسه عن المكاتبة، وقد ينقض السلم، وقد لا يشتري السلعة من كان مدة الخيار، وقد لا يدخل بكر بالمرأة التي دفع إليها الصداق فيفوت بذلك حق المحال - وهو زيد - وهذا يؤدِّي إلى التنازع.
(4)
مسألة: إذا أحال بكر زيدًا على محمد، وبكر لا يُطالب محمدًا بأي دين: فإن ذلك لا تكون حوالة، بل هي وكالة؛ حيث إن بكرًا يقوم بتوكيل محمد بتسديد ما عليه من الدين لزيد؛ للتلازم؛ حيث إن كون الحوالة نقل دين من ذمة شخص إلى ذمة =
في الديوان، أو الوقف إذن في الاستيفاء
(5)
(ولا يُعتبر استقرار المحال به) فإن أحال المكاتب سيده، أو الزوج زوجته: صح؛ لأن له تسليمه، وحوالته تقوم مقام تسليمه
(6)
(ويُشترط) أيضًا للحوالة: (اتفاق الدَّينين) أى: تماثلهما (جنسًا) كدنانير بدنانير، أو دراهم بدراهم، فإن أحال من عليه ذهب بفضة أو عكسه: لم يصح (ووصفًا) كصحاح بصحاح، أو مضروبة بمثلها، فإن اختلفا: لم يصح (ووقتًا) أي: حلولًا، أو تأجيلًا أجلًا واحدًا، فلو كان أحدهما حالًا، والآخر مؤجَّلًا، أو أحدهما يحل بعد شهر، والآخر بعد شهرين: لم يصح (وقدرًا)، فلا يصح بخمسة على ستة؛ لأنها إرفاق كالقرض، فلو جُوِّزت مع الاختلاف: لصار المطلوب منها الفضل فتخرج عن موضوعها
(7)
(ولا يُؤثِّر الفاضل) في بطلان الحوالة، فلو أحال بخمسة من
شخص آخر يُطالبه المحيل بدين فيلزم من الحوالة على شخص آخر لا يُطالبه بشيء: أن تكون وكالة، وهذا هو الفرق بين الحوالة والوكالة.
(5)
مسألة: إذا أحال بكر - الذى هو ناظر وقف - زيدًا - الذي هو من المستحقين من مال ذلك الوقف - إلى محمد - الذي عنده شيء من ربع ذلك الوقف كأجرة مثلًا -: فإن هذا لا يُسمَّى حوالة، وإنما ذلك وكالة؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يُعتبر إذنًا لزيد بالاستيفاء، وهذا يلزم منه: أن يكون ذلك وكالة؛ لتوفّر حقيقة الوكالة عليه.
(6)
مسألة: لا يُشترط في صحة الحوالة: استقرار المحال به من دين ونحوه: فلو أحال المكاتب - وهو العبد الذي اشترى نفسه - سيده إلى شخص آخر أو أحال الزوج زوجته بصداقها إلى آخر قبل الدخول: فإن الحوالة تصح بمال المكاتب، وتبرأ ذمة المكاتب، والزوج بمجرَّد الحوالة، ويكون عقد الحوالة بمنزلة القبض؛ للتلازم؛ حيث إن الواجب على المحيل - وهما المكاتب والزوج هنا - هو تسليم المحال - وهما: السيد، والزوجة هنا - ثمن المكاتبة، والصداق، ويلزم من قبول المحال ذلك: صحة الحوالة؛ لكون تلك الحوالة تُنزَّل منزلة تسليمه ذلك.
(7)
مسألة: في الثاني - من شروط صحة الحوالة - وهو: أن يتماثل الدَّين الذي على =
عشرة على خمسة، أو بخمسة على خمسة من عشرة: صحَّت؛ لاتفاق ما وقعت فيه الحوالة، والفاضل باق بحاله لربِّه
(8)
(وإذا صحَّت) الحوالة: بأن اجتمعت شروطها:
المحيل مع الدَّين الذي على المحال عليه في أمور أولها: تماثلهما في جنس الدَّين، فإذا كان زيد يُطالب بكرًا ذهبًا، وأراد بكر أن يُحيله إلى شخص آخر فلا بدَّ أن يُحيله على شخص يطالبه بكر بذهب، ولا يُحيله إلى شخص يُطالبه بكر بفضة، فإن فعل: فلا تصحّ الحوالة، ثانيها: تماثلهما في صفة الدَّين فإذا كان زيد يُطالب ذهبًا صحاح: فإن بكرًا يُحيله إلى شخص يُطالبه بكر بذهب صحاح، ولا يُحيله إلى شخص يُطالبه بذهب فاسد فإن فعل: فلا تصحّ الحوالة، ثالثها: تماثلهما في وقت حلول الدَّين، فلا بدَّ أن يكون وقت حلول الدَّين عند المحيل هو نفس وقت حلول الدَّين عند المحال عليه، دون تأخير أو تقديم، فلو كان الدين الذي عند المحيل حالًا، والذي عند المحال عليه مؤجَّلًا أو العكس، أو كان أحدهما مؤجلًا إلى شهر، والآخر مؤجلًا إلى شهرين: لم تصح الحوالة، رابعها: تماثلهما في قدر الدَّين، فلا تصحّ الحوالة بخمسة على ستة ونحو ذلك، أو بخمسة على ثمانية؛ للمصلحة؛ حيث إنه لو اختلف دين المحيل عن المحال عليه في جنس، أو صفة، أو وقت حلول، أو قدر لأدَّى إلى تفاضل، واختلاف وزيادة أو نقصان أو نحو ذلك، مما يُفضي إلى تفويت بعض الحق عن مستحقه، فتكون بذلك خارجة عن موضوعها وهو: الإرفاق بالناس وقضاء حاجتهم، فدفعًا لذلك شرع هذا.
(8)
مسألة: الفاضل من المال المحال به أو المحال عليه لا يُؤثِّر في بطلان الحوالة، فلو كان زيد يُطالب بكرًا بدين قدره عشرة آلاف، وكان بكر يُطالب محمدًا بدين قدره خمسة آلاف، وأحال بكر زيدًا على محمد بخمسة من تلك العشرة ليأخذها من محمد: لصحَّت الحوالة، وإن فضل شيء من دين زيد على بكر، وكذلك: لو كان زيد يُطالب بكرًا بخمسة آلاف، وبكر يُطالب محمدًا بدين قدره عشرة آلاف، وأحال بكر زيدًا على محمد بأن يأخذ منه خمسة من العشرة التي عنده له: لصحَّت =
(نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل) بمجرَّد الحوالة، فلا يملك المحتال الرجوع على المحيل بحال: سواء أمكن استيفاء الحق أو تعذَّر لمطل أو فلس أو موت، أو غيرها
(9)
، وإن تراضى المحتال والمحال عليه على خير من الحق، أو دونه في الصفة أو القدر، أو تعجيله، أو تأجيله، أو عوضه: جاز
(10)
(ويُعتبر) لصحّة الحوالة (رضاه) أي: رضى المحيل؛ لأن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة الدَّين على المحال
الحوالة، وإن فضل شيء من دين بكر على محمد، للتلازم؛ حيث يلزم من اتفاق ما وقعت فيه الحوالة: صحتها، والفاضل في الصورتين يكون لربِّ الدَّين الأصلي.
(9)
مسألة: إذا اجتمعت شروط الحوالة الستة - كما سبق في مسألتي (3 و 7) وكما سيأتي في مسائل (11 و 12 و 13 و 15): فإنه بمجرَّد ذلك تنقل الحق - وهو المال المحال به - من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وبذلك تبرأ ذمة المحيل، ولا يملك المحال حينئذٍ الرجوع إلى المحيل مطلقًا: أي: سواء أمكن استيفاء الحق، أو تعذَّر بسبب مطل المحال عليه، أو إفلاسه، أو موته؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المحال لو أبرأ المحيل من دينه: فإن ذمَّة المحيل تبرأ، فكذلك ذمة المحيل تبرأ إذا أحال المحال على المحال عليه، ورضي المحال والجامع: أنه في كل منهما تحوَّل الحق عن المحيل برضى المحال، فلا حق عليه لأحد، وهذا هو المقصود من مشروعية الحوالة.
(10)
مسألة: إذا تمَّت الحوالة بشروطها، ووقع اتفاق بين المحال، والمحال عليه على شيء أكثر من الحق - وهو المال المدين -، أو أقل في صفته، أو قدره، أو تعجيل المؤجَّل منه، أو تأجيل المعجَّل، أو أن يأخذ المحال عوضًا عن الدَّين، وتراضيا على ذلك: فإن هذا يصح؛ للتلازم؛ حيث إنه لما تمَّت الحوالة بشروطها: أصبح الحق لهما يستطيع أحدهما إسقاطه عن الآخر برضاه، فيلزم جواز ذلك؛ لكون الحق لا يتعدَّاهما، (فرع): إن أخذ المحال عوضًا عن الدين من المحال عليه فلا بدَّ أن يكون هذا العوض من جنسه، فإن كان من غير جنسه فيشترط فيه التقابض في مجلس العقد - كما قلنا في ربا النسيئة -.
عليه
(11)
، ويُعتبر أيضًا علم المال
(12)
، وأن يكون مما يثبت مثله في الذمّة بالإتلاف من الأثمان، والحبوب ونحوها
(13)
و (لا) يُعتبر (رضى المحال عليه)؛ لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض فلزم المحال عليه الدفع إليه
(14)
(ولا رضى المحتال) إن أُحيل (على ملئ) ويُجبر على اتباعه؛ لحديث أبي
(11)
مسألة: في الثالث - من شروط صحة الحوالة -: وهو: أن يكون المحيل راضيًا بهذه الإحالة؛ للتلازم؛ حيث إن الحق - وهو الدَّين - عليه، فلا يلزمه أداؤه. على جهة الدَّين الذي على المحال عليه فيلزم من ذلك رضى المحيل لسداد هذا الدَّين من غريمه - وهو المحال عليه -، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إنه لو أكره المحيل على الإحالة فقد يشقُّ عليه، فدفعًا لذلك شرع هذا.
(12)
مسألة: في الرابع - من شروط صحة الحوالة - وهو: أن يكون المال - وهو الحق وهو الدَّين - المحال به وعليه - معلومًا للعاقدين بحيث يكون كل من الدينين مما يصحّ السَّلَم فيه: مثليًا كان أو لا؛ للمصلحة: حيث إن هذا العلم يمنع الجهالة عند التسليم، فدفعًا للغرر والجهالة والاختلاف: اشترط ذلك.
(13)
مسألة: في الخامس - من شروط صحة الحوالة - وهو: أن يكون المحال به - وهو الدَّين وهو الحق والمال - مما يثبت مثله في الذِّمَّة إذا تلف بأي سبب كأثمان الأشياء والثمار والحبوب، مما يُكال، أو يوزن، أما ما لا يثبت مثله كالمتقوِّمات: فلا تجوز الإحالة في شيء منها، وكذا ما لا يوزن، أو لا يُكال لا تصح الحوالة فيه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن السَّلَم يُشترط فيه ذلك فكذلك الحوالة مثله، والجامع: قطع الخلاف والتنازع في كل.
(14)
مسألة: لا يُشترط في صحة الحوالة: أن يكون المحال عليه راضيًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يجوز للمحيل أن يُقيم وكيلًا للمطالبة بحقه من المحال عليه ولو لم يرض المحال عليه، فكذلك يجوز أن يُحيل المحيل على المحال عليه شخصًا يطالبه بدين - وهو: المحال - بدون رضى المحال عليه، والجامع: أن كلًّا من الوكيل والمحال قد أقامه المحيل مقام =
هريرة يرفعه: "مطل الغني ظلم وإن أتبع أحدكم على مليء فليتبع" متفق عليه، وفي لفظ:"من أحيل بحقه على مليء فليحتل" والمليء: القادر بماله، وقوله، وبدنه: فماله: القدرة على الوفاء، وقوله: أن لا يكون مماطلًا وبدنه: إمكان حضوره إلى مجلس الحاكم، قاله الزركشي
(15)
(وإن كان) المحال عليه (مُفلسًا ولم يكن) المحتال (رضي)
نفسه في القبض والاستيفاء من المحيل عليه، فلزم المحال عليه الدفع إلى من أتاه من قِبَل المحيل، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط رضى المحال عليه؟ قلتُ: لأن المحال عليه يجب عليه الدفع: سواء كان هذا الدفع للمحيل، أو للمحال، أو للوكيل.
(15)
مسألة: في السادس - من شروط صحّة الحوالة -: وهو أن يكون المحال راضيًا بأن يأخذ دينه من المحال عليه سواء كان المحال عليه مليئًا أو لا - وهو قول جمهور العلماء -؛ للمصلحة: حيث إن حق المحال في ذمة المحيل برضاه، فلا يجوز نقله إلى المحال عليه بغير رضاه؛ إذ قد يكون المحال عليه كثير المماطلة، أو قد توجد بين المحال والمحال عليه عداوة، فيلحق الضرر بالمحال، فدفعًا لذلك: اشتُرط رضى المحال، فإن قلتَ: لا يُشترط رضى المحال، فإذا أحيل شخص إلى مليء وقادر: فإنه يُجبر على قبول ذلك، ويجب عليه طلب حقه من المحال عليه؛ - وهو ما ذكره المصنف هنا، وهو قول كثير من الحنابلة؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أحيل على مليء فليحتل" فأوجب على المحال قبول الإحالة إذا أُحيل على مليء؟ لأن الأمر في قوله: "فليحتل" مطلق، وهو يقتضي الوجوب - قلتُ: إن المصلحة التي ذكرناها فيما سبق قد صرفت الأمر - الوارد في قوله: "فليحتل" - من الوجوب إلى الاستحباب؛ حماية وحفظًا لحقوق المسلمين. فائدة: اشترط أكثر الحنابلة في وجوب قبول الحوالة على المحال وإن لم يرضَ: أن يكون المحال عليه قادرًا على الوفاء من ماله، وأن لا يكون مماطلًا، وأن يُمكن إحضاره في مجلس الحكم والقضاء؛ احترازًا من الوالد، ومن الغائب عن البلد، وعن السلطان الذي لا يمكن إحضاره؛ فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف هل تصلح المصلحة أن تكون صارفة للأمر الوارد في =
بالحوالة عليه: (رجع به) أي: بدينه على المحيل؛ لأن الفلس عيب، ولم يرض به: فاستحقّ الرجوع كالمبيع المعيب، فإن رضي بالحوالة: فلا رجوع له إن لم يشترط الملاءة؛ لتفريطه
(16)
(ومن أحيل بثمن مبيع) بأن أحال المشتري البائع به على من له عليه دين فبان البيع باطلًا: فلا حوالة (أو أُحيل به) أي: بالثمن، (عليه) بأن أحال البائع على المشتري مدينه بالثمن، (فبان البيع باطلًا) بأن بان المبيع مستحقًا، أو حرًا، أو خمرًا:(فلا حوالة)؛ لظهور: أن لا ثمن على المشتري؛ لبطلان البيع، والحوالة فرع على لزوم الثمن، ويبقى الحق على ما كان عليه أولًا
(17)
(وإذا فسخ البيع) بتقايل، أو
الحديث من الوجوب إلى الندب أو لا؟ " فعندنا: تصلح، وعندهم: لا تصلح.
(16)
مسألة: يحق للمحال الرجوع إلى المحيل ويأخذ حقه منه بدلًا من المحال عليه إذا توفَّر أمران: أولهما: أن يكون المحال عليه مُفلسًا ثانيهما: أن يكون المحال لم يرض بتلك الحوالة، بل أُكرِه عليها، أما إن كان مليئًا وقد رضي المحال بالحوالة ولم يشترط كونه مليئًا: فلا يستحق الرجوع - وإن لم يأخذ حقه من المحال عليه كما سبق في مسألة (9) - لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أنه إذا بان للمشتري وجود عيب في السلعة التي اشتراها: فإنه يرجع إلى البائع إذا لم يرضَ به، فكذلك المحال الذي أُحيل إلى المحال عليه المفلس ولم يرضَ به يرجع إلى المحيل، والجامع: وجود عيب يستحق بسببه الرجوع، وهو العيب في السلعة، والإفلاس في المحال عليه. الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من رضى المحال بالإحالة على مفلس: عدم رجوعه إلى المحيل؛ نظرًا لزوال شغل ذمة المحيل بسبب رضى المحال، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المحال.
(17)
مسألة: تبطل الحوالة في صورتين: الصورة الأولى: إذا اشترى زيد من بكر سلعة بعشرة آلاف ريال، وكان زيد يُطالب محمدًا بدين قدره عشرة آلاف ريال، فأحال زيد بكرًا على محمد ليأخذ منه ثمن تلك السلعة - وهي العشرة الآلاف - لكن بان بطلان البيع الواقع بين زيد وبكر بأي شيء تسبَّب في بطلانه: فلا صحّة للحوالة =
خيار عيب أو نحوه: (لم تبطل) الحوالة، لأن عقد البيع لم يرتفع، فلم يسقط الثمن، فلم تبطل الحوالة، وللمشتري الرجوع على البائع؛ لأنه لما ردَّ المعوَّض: استحقّ الرجوع بالعوض (ولهما أن يُحيلا) أي: للبائع أن يحيل (المشتري على من أحاله المشتري عليه في الصورة الأولى، وللمشتري أن يُحيل المحتال عليه على البائع في الثانية
(18)
، وإذا اختلفا فقال:"أحلتك" قال: "بل وكَّلتني" أو بالعكس: فقول مدّعي الوكالة
(19)
، وإن اتفقا
فيرجع المشتري - وهو زيد - على محمد - وهو من كان عليه دينه وكأن الحوالة لم تكن، الصورة الثانية: إذا أحال البائع - وهو بكر - مدينه - وهو محمد - على المشتري - وهو زيد - بالثمن بأن يأخذ منه ثمن السلعة التي اشتراها؛ لأنه يُطالب البائع - وهو بكر - بقدر هذا الثمن فبان أن البيع باطل بأن كانت السلعة التي يعتقد أنها عبد بان أنه حر، أو كانت السلعة خمرًا لا يصح بيعهما: فلا تصح الحوالة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من بطلان البيع عدم لزوم الثمن، وإذا لم يلزم الثمن: فلا حوالة؛ لكون الحوالة فرعًا على لزوم الثمن فتبطل الحوالة؛ نظرًا لبطلان أصلها.
(18)
مسألة: إذا فسخ البيع بسبب خيار عيب، أو إقالة أحدهما للآخر بعد قبض الحق - وهو مال المحال به -: فإن الحوالة لا تبطل؛ للتلازم؛ حيث إن عقد البيع لم يرتفع، ويلزم من ذلك: عدم سقوط الثمن، والحوالة مرتبطة بالثمن؛ حيث يلزم من وجود الثمن وجود الحوالة، فيكون المحيل قد نقل المحال نقلًا صحيحًا وبرأ من الثمن، ويبرأ المحال عليه من دين المشتري، ويرجع المشتري إلى البائع ليأخذ حقه منه - بعد فسخ البيع - ويحق للبائع أن يُحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه في الصورة الأولى - في مسألة (17) - وهي ما إذا أحال المشتري البائع على من له عليه دين -؛ نظرًا لثبوت دينه على من أحاله المشتري عليه؛ قياسًا على سائر الديون المستقرة، وكذلك: يحق للمشتري أن يُحيل المحال عليه على البائع في الصورة الثانية - التي في مسألة (17) - وهي: ما إذا أحال البائع على المشتري مدينه؛ نظرًا لثبوته عليه؛ قياسًا على الدَّين.
(19)
مسألة: إذا اختلف زيد مع بكر: فقال بكر لزيد: "أحلتك على محمد لتأخذ ما =
على "أحلتك" أو "أحلتك بدَيني"، وادَّعى أحدهما إرادة الوكالة: صُدِّق
(20)
، وإن اتفقا على:"أحلتك بدينك": فقول مدعي الحوالة
(21)
وإذا طالب الدائن المدين فقال: "أحلت علي فلانًا الغائب" وأنكر رب المال: قبل قوله مع يمينه، ويُعمل بالبيّنة
(22)
.
علي لك منه" فقال زيد: "بل وكَّلتني أن آخذ ذلك منه"، أو قال بكر: "وكَّلتك" فقال زيد: "بل أحلتني": فإنه يُقبل قول مدَّعي الوكالة في القبض؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قول مدَّعي الوكالة: أن الحق باق، وهو الأصل: فيلزم قبول قوله؛ استصحابًا لبقائه؛ ولكون التغيير يحتاج إلى دليل.
(20)
مسألة: إذا اتفق رب الدَّين - وهو زيد - والمدين - وهو بكر - على قول المدين - وهو بكر - لرب الدين - وهو زيد -: "أحلتك على محمد" أو قوله: "أحلتك بديني على محمد" وادَّعى زيد إرادة الوكالة من ذلك، وادَّعى بكر إرادة الحوالة: فإنه يُقبل قول من ادَّعى إرادة الوكالة مع يمينه؛ للتلازم؛ حيث إن الأصل بقاء الدَّين على كل من المحيل - وهو بكر - والمحال عليه - وهو محمد - في حين أن مدّعي الحوالة يدّعي نقله فلزم صدق ما قاله مدَّعى الوكالة؛ لكونه مبقيًا على الأصل، وهو بقاء الدين.
(21)
مسألة: إذا اتفق زيد - وهو رب الدين - على قول مدين له - وهو بكر: "أحلتك بدينك" وادعى أحدهما إرادة الحوالة والأخر ادعى إرادة الوكالة ولا بينة، فإنه يقبل قول مدعي الحوالة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من الحوالة بدينه: عدم احتمال الوكالة.
(22)
مسألة إذا طالب محمد بكرًا قائلًا: "إنّك قد أحلتَ علي زيدًا الغائب" فأنكر بكر -: فإنه يُقبل قول بكر مع يمينه إن لم توجد بيّنة، وإن وُجدت بيّنة على ما ادّعاه محمد: عمل بها، وكذلك إذا قال زيد لمحمد:"إن بكرًا الغائب قد أحالني عليك" فأنكر محمد: فإنه يُقبل قول محمد مع يمينه إلا إذا أقام زيد بينة على ما قاله: فإنه يُعمل بها؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "البينة على المدَّعي واليمين على من أنكر" وهو واضح الدلالة، وهو عام لما نحن فيه.
هذه آخر مسائل باب "الحوالة" ويليه باب "الصلح".
باب الصلح
هو لغة: قطع المنازعة، وشرعًا: معاقدة يُتوصَّل بها إلى إصلاح بين متخاصمين
(1)
والصلح في الأموال قسمان: على إقرار، وهو المشار إليه بقوله: (إذا
باب الصلح
وفيه ست وأربعون مسألة:
(1)
مسألة: الصلح لغة: التوفيق بين خصمين، لقطع المنازعة بينهما، وإعلان السلم بينهما فيكون قطع المنازعة والسلم: ثمرة للتوفيق، واصطلاحًا: هو: "معاقدة بين اثنين، أو طائفتين يُتوصَّل بسببها إلى إصلاح بينهما؛ لقطع النزاع الواقع بسبب الأموال" فإن قلتَ: لِمَ خُصِّص ذلك بالأموال؟ قلتُ: لأن العلماء أجمعوا على جواز الصلح في خمسة أنواع: أولها: الصلح بين المسلمين والكفار - وقد سبق في باب الجهاد - ثانيها: الصلح بين أهل عدل وبغي - وسيأتي في باب: قتال أهل البغي -، ثالثها: الصلح بين زوجين خيف انفصالهما - وسيأتي في باب عشرة النساء - رابعها: الصلح بين متخاصمين في غير الأموال وهو متفرق في عدة أبواب ستأتي، خامسها: الصلح بينهما في الأموال، وهو هذا الباب الذي نحن فيه (فرع): الصلح العادل مستحب بالإجماع، ومستنده قواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} وقال: {والصلح خير} حيث وصف الصلح في الآيتين بأنه خير، وكل خير مأمور به، وقال:{فأصلحوا بينهما} فأوجب الإصلاح بين كل طائفتين؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، والوجوب مستلزم للجواز، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحلَّ حرامًا" وهو عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "الصلح" اسم جنس عرف بأل =
أقرَّ له بدين أو عين فأسقط) عنه من الدين بعضه (أو وهب) من العين (البعض وترك الباقي) أي: لم يُبرئ منه ولم يهبه: (صح)؛ لأن الإنسان لا يُمنع من إسقاط بعض حقه كما لا يُمنع من استيفائه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: "كلَّم غرماء جابر؛ ليضعوا عنه"
(2)
ومحل صحة ذلك إن لم يكن بلفظ الصلح، فإن وقع بلفظه: لم يصح؛ لأنه صالح عن بعض
وهو من صيغ العموم، وقد بين اشتراط العدالة في الصلح في قوله:"إلا صلحًا حرَّم حلالًا .. " فهذا ليس بجائز؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث قال عمر: "ردُّوا الخصوم حتى يصطلحوا" فأمر بالصلح بين الخصوم إن كان للصلح وجه فإن قلتَ: لِمَ شُرع الصلح؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه يتسبَّب في اجتماع المسلمين، وتآلف قلوبهم، ولذلك حسن الكذب لأجل الصلح، وللمصلح من الأجر أعظم من أجر الصائم القائم تطوعًا.
(2)
مسألة: إذا كان زيد يُطالب بكرًا بعشرة آلاف ريال، وأقرَّ بكر بذلك، أو كان زيد يُطالب بكرًا بعين كعشرة ثياب، وأقرَّ بكر بهذه العين، فأسقط المقرُّ له - وهو زيد - من الدَّين بعضه كألف، أو أسقط من العين بعضه كثوب مثلًا أو وهب الألف والثوب للمقرِّ - وهو بكر -، وترك التسعة الآلاف، والتسعة ثياب بدون إسقاط، أو هبة، أو إبراء: فإن هذا يصح، ويكون زيد مطالبًا لبكر بتسعة آلاف، وتسعة ثياب؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام "قد كلَّم غرماء جابر بن عبد الله ليضعوا عنه" و"قد أشار عليه السلام على غرماء الذي أصيب في حديقته بأن يضعوا عنه النصف، فأخذوه منه" وهذا لأجل الصلح ونبذ التنازع، ودفع المشقة، فلو لم يكن ذلك الإسقاط جائزًا لما أشار به عليه السلام. الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز للمسلم أن يستوفي حقه كاملًا بدون منع من أحد، فكذلك يجوز له إسقاط بعض حقه والجامع: أن كلًّا منهما له كامل التصرّف فيما يملكه تنبيه: لا يصح الإسقاط إلا بأربعة شروط ستأتي.
ماله ببعض: فهو هضم للحق
(3)
، ومحلُّه أيضًا (إن لم يكن شرطاه) بأن يقول:"بشرط: أن تعطيني كذا" أو "على أن تعطيني أو تعوضني كذا" ويقبل على ذلك، فلا يصح؛ لأنه يفضي إلى المعاوضة، فكأنه عاوض عن بعض حقه ببعض، واسم "يكن" ضمير الشأن، وفي بعض النسخ:"إن لم يكن شرطًا" أي: بشرط
(4)
ومحلُّه أيضًا: أن
(3)
مسألة: في الأول - من شروط صحة الإسقاط -: وهو: أن يكون بلفظ الهبة أو الإبراء أو الإسقاط، دون التلفُّظ بلفظ "الصلح"، فإن كان بلفظ "الصلح" فلا يصحّ الإسقاط؛ للتلازم؛ حيث إن لفظ "الإسقاط" أو "الهبة" أو "الإبراء" لا يقتضي معاوضة والصلح يقتضي معاوضة، فلو سمَّاه صلحًا مع أنه تنازل عن بعض ماله بدون معاوضة: لكان هذا ظلم وغصب وهضم لحقه، فيلزم ابتعادًا عن ذلك: أن يتلفظ بالإسقاط، أو الهبة أو الإبراء، فإن قلتَ: إذا لم يتلفظ بلفظ "الصلح" خرج عن كونه من باب الصلح قلتُ: لا يخرج، بل هو صلح في المعنى والمقصود؛ إذ المقصود من ذلك كله هو: قطع المنازعة، وهذا يحصل بغير لفظ الصلح، وسمَّى كثير من العلماء ذلك صلحًا ولا مانع من ذلك؛ لأن الخلاف في اللفظ فقط.
(4)
مسألة: في الثاني - من شروط صحة الإسقاط - وهو: أن لا يشترط المقرُّ له - وهو زيد - على المقرِّ - وهو بكر - العوض من أجل ذلك الإسقاط كأن يقول زيد لبكر: "سأسقط عنك ألفًا من عشرة آلاف، وتعوضني أو تعطيني هذا الثوب": فإن اشترط ذلك وقبل الآخر: فلا يصح هذا الإسقاط، أو الإبراء، أو الهبة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط العوض التناقض مع مقتضى الإسقاط، أو الإبراء، أو الهبة؛ لأنها تكون بدون عِوَض تنبيه: الصحيح في عبارة المتن: "إن لم يكن شرطًا" وقد ورد في بعض نسخه كذلك؛ لأن المراد: إن لم يكن المسقط، أو الواهب، أو المبرئ قد شرط ذلك الشرط.
لا يمنعه حقه بدونه، وإلا بطل؛ لأنه أكل لمال الغير بالباطل
(5)
(و) محلُّه أيضًا: أن لا يكون (ممن لا يصلح تبرُّعه) كمكاتب، وناظر وقف، وولي صغير ومجنون؛ لأنه تبرُّع، وهؤلاء لا يملكونه
(6)
، إلا إن أنكر من عليه الحق ولا بيّنة؛ لأن استيفاء البعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه
(7)
(وإن وضع) رب الدَّين (بعض)
(5)
مسألة: في الثالث - من شروط صحة الإسقاط - وهو: أن لا يمنع المقرُّ - وهو بكر - حقَّ المقرِّ له - وهو زيد - بدون هذا الإسقاط، أو الإبراء، أو الهبة، فإن منعه حقَّه بأن قال بكر لزيد:"لن أعطيك حقَّك إلّا بعد أن تسقط عني بعض الدَّين" فأسقط زيد عنه ذلك البعض لذلك: فإنه لا يصح؛ للتلازم؛ حيث إن منع بكر حق زيد بدون الإسقاط يلزم منه أكل لمال الغير بالباطل، وهذا محرَّم.
(6)
مسألة: في الرابع - من شروط صحة الإسقاط - وهو: أن يكون المسقط، والواهب والمبرئ ممن يصحّ تبرُّعه، وهو الحر المكلَّف صحيح الملك، أما إذا لم يصح تبرُّعه كالعبد، والمكاتب - قبل أن يُسدِّد ما عليه لسيده - وولي الصغير والمجنون، والسفيه وناظر الوقف: فإنه لا يصح أن يسقط أو يُبرئ، أو يُوهب شيئًا للغير؛ للتلازم؛ حيث إن الإسقاط يصح ممّن يملك ما يُسقط منه، تمام الملك، ويستطيع التبرّع منه: فيلزم أن هؤلاء لا يصح منهم الإسقاط أو التبرُّع مما تحت ولا يتّهم من أموال؛ لكونهم لا يملكونه.
(7)
مسألة: إذا كان زيد وليًا على صبي، وكان بكر عنده لهذا الصبي ألفا ريال مثلًا، وطالبه بهما زيد؛ بناء على أنه ولي على الصبي، وأنكر بكر هذا المبلغ، ولا تُوجد بيّنة عند الصبي ووليه: فيجوز للولي وهو زيد - أن يُسقط بعض هذا المال عن بكر؛ لأجل أن يدفع باقيه لزيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إنكار بكر لكل المبلغ: جواز إسقاط زيد لبعضه لأجل أن يدفع الباقي؛ لأن أخذ البعض من الحق والمال أولى من تركه كله؛ حيث إن الذي لا يدرك كله لا يُترك كله، وهو من باب "تعارض المفسدتين.
الدَّين (الحال وأجَّل باقيه: صح الإسقاط فقط)؛ لأنه أسقط عن طيب نفسه، ولا مانع من صحته، ولم يصح التأجيل؛ لأن الحالَّ لا يتأجَّل
(8)
، وكذا: لو صالحه عن مائة صحاح بخمسين مكسَّرة: فهو إبراء من الخمسين، ووعد في الأخرى ما لم يقع بلفظ "الصلح" فلا يصح كما تقدم
(9)
(وإن صالح عن المؤجَّل ببعضه حالًا): لم يصح
(8)
مسألة: إذا أسقط المقرُّ له - وهو زيد - بعض الدّين الذي حلَّ الذي له على المقر - وهو بكر - كأن يكون له على بكر عشرة آلاف، فأسقط عنه ألفين، وأجَّل الباقي - وهو: ثمانية آلاف -: فإنه يصحّ الإسقاط والتأجيل معًا - وهو قول بعض العلماء كابن تيمية وابن القيم وغيرهما -؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز لصاحب الدَّين أن يُسقط دينه كله عن المدين، فكذلك يصح له أن يسقط بعضه وكما يجوز له أن يُؤجِّل قبض القرض والعارية، فكذلك يجوز تأجيل الدَّين بدون زيادة أو فائدة ترجع إلى المؤجِّل والجامع: أن كلًّا منهما أسقط حقه بطيب نفس منه وبدون فائدة أو زيادة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الإسقاط والتأجيل فيه تنفيس على المؤجَّل له، والمسقَط عنه مع عدم وجود مفسدة فإن قلتَ: إنه يصح الإسقاط، دون التأجيل هنا - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الدَّين حالًّا: عدم تأجيله قلتُ: بل يتأجل الدَّين الحال؛ لكون تعجيله وتأجيله من حق رب الدَّين: فإن أجَّله فقد أسقط حقه برضاه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "الخلاف في تأجيل الدَّين الحال هل هو من حق صاحب الدَّين وربه أو لا؟ " فعندنا: أنه من حقِّه، وعندهم: أنه ليس من حقِّه.
(9)
مسألة: إذا صالح صاحب الدَّين المدين عن مائة دينار صحيحة بخمسين مكسَّرة ووعد في الخمسين الأخرى: فيصحّ الإبراء في الخمسين، دون أن يجعل الخمسين الأخرى مكسَّرة بشرط: أن لا يقع هذا بلفظ "الصلح"، فإن وقع بلفظه: فلا يصح ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن كونه وقع بطريقة الوعد: لا يلزم الوفاء به ويلزم =
في غير الكتابة؛ لأنه يبذل القدر الذي يحطُّه عوضًا عن تعجيل ما في ذمَّته. وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز (أو بالعكس): بأن صالح عن الحال ببعضه مُؤجَّلًا: لم يصح إن كان بلفظ "الصلح" كما تقدَّم، فإن كان بلفظ "الإبراء" ونحوه: صح الإسقاط دون التأجيل وتقدَّم
(10)
، (أو أقرَّ له ببيت) ادَّعاه (فصالحه على سكناه) ولو
من اقتضاء صيغة الصلح: المعاوضة: عدم جواز وقوع ذلك الإسقاط بلفظ الصلح؛ لكون الإسقاط لا يقتضي المعاوضة، وكونه قبل مكسَّرة عن صحاح هو: إسقاط.
(10)
مسألة: إذا كان زيد يُطالب بكرًا بدين قدره ألفا ريال مؤجَّلة إلى سنة، وقبل مضي السنة قال زيد لبكر:"أعطني ألفًا الآن نقدًا، وأسقط عنك الباقي صلحًا" فإن هذا يصح: سواء كان كاتبًا أو لا؛ لقول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس قال في ذلك "لا بأس به" فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المسقط وهو زيد ينتفع بذلك المعجَّل، وبكر ينتفع بذلك المسقط، في حين عدم وجود أي نوع من أنواع الربا، تنبيه: يصح عكس المسألة السابقة: بأن صالح عن الدَّين الحال ببعضه مؤجَّلًا كأن يُسقط بعض الحال ويُؤجِّل باقيه بدون عوض وقد سبق بيانه في مسألة (8) فإن قلتَ: لا يصح ما جاء في المسألة وعكسها، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز إعطاؤه عشرة حالَّة بعشرين مؤجَّلة فكذلك لا يجوز الصلح عن المؤجل ببعضه حالًا، والجامع: أنه في كل منهما يبذل القدر الذي يحطُّه ليكون عوضًا عن تعجيل ما في ذمته وهذا فيه نوع ربا، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث لا توجد صورة الربا؛ بل هذا عكسه؛ حيث إن الربا يتضمَّن الزيادة في أحد العِوَضين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمَّن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فحصل النفع للطرفين كما بينتُ سابقًا، أما عكس المسألة فتصح، وقد أجبت عن دليل المخالفين وهو التلازم في مسألة (8) (فرع): يصح الصلح إذا عجَّل المكاتب بعض الثمن، وأسقط عنه سيده =
مدَّة معيّنة كسنة (أو) على أن (يبني له فوقه غرفة) أو صالحه على بعضه: لم يصح الصلح؛ لأنه صالحه عن ملكه على ملكه، أو منفعته، وإن فعل ذلك: كان تبرُّعًا، متى شاء: أخرجه وإن فعله على سبيل المصالحة معتقدًا وجوبه عليه بالصلح: رجع عليه بأجرة ما سكن وأخذ ما كان بيده من الدار؛ لأنه أخذه بعقد فاسد
(11)
(أو صالح مُكلَّفًا؛ ليُقر له بالعبودية): أي: بأنه مملوكه: لم يصح (أو) صالح (امرأة لتقرّ له بالزوجية بعوض: لم يصح) الصلح؛ لأن ذلك صلح يُحلُّ حرامًا؛ لأن إرفاق النفس،
الباقي، هذا عند المخالفين؛ للتلازم؛ حيث إن المسقط هو سيده فتلزم صحته؛ لأنه ليس بين المكاتب وسيده ربا، أما عندنا فيصحّ: سواء كان مكاتبًا أو لا كما تقدَّم.
(11)
مسألة: إذا أقرَّ زيد بأن هذا البيت لبكر، فصالح المقرُّ له - وهو بكر - على أن يسكنه المقرّ مدة مُعيَّنة كسنة، أو غير معيّنة، أو على أن يبني له فوق البيت غرفة، أو على أن يأخذ بعض البيت برضى كامل: فإن هذا الصلح يصح؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يصح أن يهب صاحب الدار نصف داره لغيره، أو أن يُبرأه من نصف دينه برضاه فكذلك يصح أن يُصالحه على ما ذكرناه، والجامع: الرضى بترك بعض حقه في حين عدم وجود محذور، فإن قلتَ: لا يصح الصلح - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ وإن فعل ذلك: فإنه لا يكون صلحًا، بل تبرع من بكر فيه معنى المصالحة قد اعتقد وجوب ذلك بالصلح، ولبكر الرجوع إلى زيد وأخذ منه أجرة المدة التي سكن البيت فيها، وأخذ الغرفة؛ للتلازم؛ حيث إن كونه قد صالحه عن ملكه على ملكه أو منفعته يلزم منه بأنه أخذه بعقد فاسد والعقد الفاسد يترتّب عليه الصلح الفاسد قلتُ: هذا لا يلزم؛ لأن صاحب الدار وهو المقرّ له وهو بكر - قد صالح المقرَّ - وهو المدَّعى عليه - بتمام رضاه من غير أن يترتَّب على ذلك محذور شرعي، أما إن كان صاحب الدار - وهو بكر - مُكرهًا على ذلك فإنه لا يصح هذا الصلح؛ لكونه قد تمّ بدون رضى، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض التلازم مع القياس".
وبذل المرأة نفسها بعِوَض لا يجوز
(12)
(وإن بذلاهما) أي: دفع المدَّعى عليه العبودية، والمرأة المدعى عليها الزوجية عوَضًا (له) أي: للمدعي (صلحًا عن دعواه: صح)؛ لأنه يجوز أن يعتق عبده، ويفارق امرأته بعوض، ومن علم بكذب دعواه: لم يبح له أخذ العِوَض؛ لأنه أكل لمال الغير بالباطل
(13)
(وإن قال: أقرّ لي بديني وأعطيك منه كذا، ففعل) أي: فأقرَّ بالدَّين: (صح الإقرار)؛ لأنه أقر بحق يحرم عليه إنكاره، و
(12)
مسألة: لا يجوز الصلح على شيء لا يجوز أخذ العِوَض عنه: كأن يدَّعي زيد أن بكرًا هذا عبده، فينكر بكر ذلك، فيُصالحه زيد على مال ليُقرَّ له بالعبودية، أو يدَّعي زيد أن تلك المرأة زوجته فتنكر ذلك، فيُصالحها زيد على مال لتقرُّ له بالزوجية، فهذا كله لا يصح؛ للتلازم؛ حيث إن إقرار الحرّ بأنه عبد، أو إقرار المرأة بأنها زوجة ببدل مال يُتفق عليه يلزم منه تحليل الحرام؛ لأن إرقاق الحرّ نفسه حرام، وبذل المرأة نفسها ببدل أو غير بدل حرام، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حماية لحقوق الناس.
(13)
مسألة: إذا ادَّعى زيد بأن بكرًا هذا عبد له، أو ادَّعى بأن هذه المرأة زوجته فبذل بكر مالًا ليدفع عن نفسه دعوى زيد عن طريق الصلح ويُكفّ عنه وبذلت تلك المرأة لتدفع عنها دعوى زيد عن طريق الصلح، ويكفّ عنها: فإنه يجوز ذلك؛ للقياس؛ بيانه كما أنه يجوز للرجل أن يُعتق عبده، ويفارق زوجته بعوض، فكذلك يجوز ما نحن فيه، بل هذا أولى، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه دفاع عن النفس (فرع): إذا علم زيد بأنه كاذب في دعواه: أن بكرًا عبد له أو أن دعواه أن فلانة زوجته بعد أخذ العوض منهما لما نفيا ذلك عن نفسيهما: فإن هذا العِوَض يكون حرامًا عليه؛ للتلازم؛ حيث إنه أقرَّ بأنه كاذب في ذلك فيلزم أنه أخذ ذلك العِوَض بدون مقابل، فيكون قد أكل مال الغير بالباطل، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المسلم من نفسه.
(لا) يصح (الصلح)؛ لأنه يجب عليه الإقرار بما عليه من الحق، فلم يحلّ له أخذ العوض عليه، فإن أخذ شيئًا: ردَّه
(14)
، وإن صالحه عن الحق بغير جنسه كما لو اعترف له بعين أو دين فعوَّضه عنه ما يجوز تعويضه: صح: فإن كان بنقد عن نقد: فصرف، وإن كان بعوض: فبيع، يُعتبر له ما يُعتبر فيه، ويصح بلفظ "صلح" وما يؤدِّي معناه، وإن كان بمنفعة كسكنى دار: فإجارة، وإن صالحت المعترفة بدين أو عين بتزويج نفسها: صح، ويكون صداقًا، وإن صالح عمّا في الذمّة بشيء في الذمّة: لم يجز التفرّق قبل القبض؛ لأنه بيع دين بدين، وإن صالح عن دين بغير جنسه: جاز مطلقًا، وبجنسه: لا يجوز بأقل أو أكثر على وجه المعاوضة
(15)
، ويصح الصلح عن
(14)
مسألة: إذا قال زيد لبكر: "أقر لي بديني الذي عليك وهو ألف ريال وأعطيك منه مائة ريال" فأقرّ بكر بذلك: فإن الإقرار صحيح، ويُعمل به، فيجب على بكر أن يدفع ألف ريال لزيد، ولا يصح الصلح: فلا يُجبر زيد على إعطاء بكر المائة، فإن أخذ بكر شيئًا: فيجب عليه أن يردُّه؛ للتلازم؛ حيث إن بكرًا قد أقرَّ بشيء يحرم عليه إنكاره فيلزمه ما أقرَّ به كله، بدون عوض ويلزم من عدم العِوَض: عدم صحة الصلح؛ إذ لا يصح الصلح إلّا بعوض، ويلزم من إقرار بكر بكامل الألف: وجوب ردِّ ما أخذه؛ لبيان كذبه بسبب إقراره فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لأموال الناس من أن تؤكل بالباطل، (فرع): الصلح على الإقرار نوعان: أولهما: الصلح على إقرار الواقع على جنس الحق المقرر به، وقد سبق في المسائل السابقة، ثانيهما: الصلح على إقرار واقع على غير جنس الحق المقرّ به وسيأتي بيانه في المسألتين الآتيتين.
(15)
مسألة: الصلح عن الحق المقرّ به بغير جنسه: كاعترافه له بعين أو دين فعوَّضه عنه بما يجوز التعويض عنه يقع في صور أولها: أن يكون الصلح بنقد عن نقد مثل إذا أقرّ زيد لبكر بألف درهم فصالحه بكر بمائة دينار، أو العكس: فإن هذا يُعتبر معاملة بالصَّرف، يُشترط له شروط الصرف السابقة. ثانيها: أن يكون =
مجهول تعذَّر علمه من دين أو عين بمعلوم، فإن لم يتعذَّر علمه: فكبراءة من مجهول
(16)
. فصل: القسم الثاني: صلح على إنكار، وقد ذكره بقوله: (ومن ادِّعي عليه
الصلح بعِوَض عن ثمن، كعشرة دراهم بثوب أو صلح بعِوَض عن عِوَض كثوب بثوب، فهذا يُعتبر معاملة بالبيع يُشترط له ما يشترط للبيع؛ وهذا يصح بلفظ "صلح" أو بأي لفظ يُؤدِّي إلى معناه كلفظ "هبة" و "بيع" ونحوهما، قياسًا على سائر المعاوضات ثالثها: أن يكون الصلح عن نقد أو عِوَض مقرّ به بمنفعة كسكنى دار، أو عمل عبد عنده، فهذا يُعتبر معاملة بالإجارة يُشترط له ما يُشترط للإجارة. رابعها: إذا أقرَّت امرأة بأن هذا الألف ريال لبكر، أو أن هذا البيت له، فصالحها بكر على أن يكون ذلك صداقًا لها ويتزوجها به: صحَّ الصلح والنكاح، فيُشترط فيه ما يُشترط للنكاح، خامسها: إذا أقرّ زيد: بأن في ذمّته ألف ريال لبكر هي قرض عليه له فصالحه بكر بأن يدفع له عنها مائة صاع من البر: صحَّ ذلك بشرط: أن لا يتفرّقا قبل القبض؛ لكونه بيع دين بدين فيما إذا تفرّقا قبل القبض وهو منهي عنه وقد سبق بيانه في الربا والصرف. سادسها: إذا أقرّ زيد بأن عليه دين لبكر - غير دين سَلَم - فصالحه على أن يأخذ منه شيئًا غير جنس الدَّين كثياب بعشرة ريالات: فإن هذا يجوز: سواء كان المأخوذ أقلّ من الدَّين، أو أكثر، أو مساويًا بشرط: أن يتقابضا قبل التفرّق؛ أما إن أخذ منه شيئًا من جنس الدَّين كبر ببر: فيجوز بشرط: التساوي بين المأخوذ والدَّين، وأن يكون على وجه المعاوضة، وقد سبق بيانه في الربا والصرف.
(16)
مسألة: إذا كان لبكر على زيد دين، أو عين، وجهلا مقدار ذلك الدين، وصفة تلك العين، وتعذَّر علم ذلك عليهما: فإنه يصح الصلح عن ذلك بشيء معلوم بأن يتراضيا على أن يدفع زيد لبكر نقودًا عن ما جهلاه، وكل واحد يُسامح الآخر فيما زاد أو نقص وكذلك فيما لم يتعذَّر علمه يصحّ الصلح عنه بشيء معلوم، ويُبرئ كل واحد صاحبه من أي نقص أو زيادة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة =
بعين أو دين فسكت، أو أنكر وهو يجهله) أي: يجهل ما ادُّعي به عليه (ثم صالح) عنه (بمال) حالٍّ أو مؤجَّل: (صح) الصلح؛ لعموم قوله عليه السلام "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حرامًا" رواه أبو داود، والترمذي وقال:"حسن صحيح" وصحَّحه الحاكم
(17)
، ومن ادُّعي عليه بوديعة أو تفريط فيها أو
القولية؛ حيث قال عليه السلام:- "لرجلين اختصما في مواريث درست بينهما -: "استهما وتوخيا الحق، وليُحلِّل أحدكما صاحبه" الثانية: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قطع للنزاع، وعدم إشغال الذمة بشيء قد تراضيا على إسقاطه. (فرع): الصلح في الأموال قسمان: أولهما: صلح على إقرار، وقد سبق بيانه في المسائل السابقة، ثانيهما: صلح على إنكار أو سكوت، وسيأتي بيانه في المسائل الآتية.
(17)
مسألة: إذا ادَّعى زيد على بكر فقال زيد: "إن لي عندك عينًا كعبد" أو قال: "إن لي عندك دينًا كألف ريال" فأنكر بكر، أو سكت، وهو - في حال السكوت أو الإنكار - يجهل ما ادَّعاه عليه زيد من العين أو الدَّين، ثم صالح - أعني بكر - عن ذلك بمال يدفعه لزيد معجَّل أو مؤجَّل: فإن هذا الصلح صحيح؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الصلح جائز بين المسلمين" وهو عام فيشمل ما نحن فيه وغيره؛ لأن "الصلح" اسم جنس معرَّف بأل، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لا يصح على الإنكار فلا يشمله عموم الحديث؛ للتلازم؛ حيث إنه مُتضمِّن للمعاوضة عمّا لا تصحّ المعاوضة عليه فيلزم عدم صحته؛ لكون المدَّعى عليه - وهو بكر لم يُقر بشيء فيكون مخالفًا لقواعد الشرع. قلتُ: بل يصحّ الصلح على الإنكار كما قلنا فيشمله الحديث بعمومه، وهو وقع على معاوضة وهي: أن المنكر - وهو بكر - قد افتدى نفسه من الدعوى واليمين وتكليف إقامة البيّنة، ويدفع ما يدفعه لأجل ذلك، والمدعي - وهو زيد - أخذ ما أخذه عوضًا عن حقه الذي يعتقد ثبوته، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "الخلاف في وجود عِوَض في هذا الاتفاق" فعندنا توجد معاوضة حقيقية: فصحّ الصلح، وعندهم: =
قراض، فأنكر، وصالح على مال: فهو جائز، ذكره في "الشرح" وغيره
(18)
(وهو) أي: صلح الإنكار (للمدَّعي بيع)؛ لأنه يعتقده عوضًا عن ماله فلزمه حكم اعتقاده (يُردُّ معيبه) أي: معيب ما أخذه من العِوَض (ويفسخ الصلح) كما لو اشترى شيئًا فوجده معيبًا (ويؤخذ منه) العِوَض إن كان شِقصًا (بشفعة)؛ لأنه بيع
(19)
، وإن صالحه ببعض عين المدَّعى به: فهو فيه كمنكر
(20)
(و) الصلح (للآخر) المنكر (إبراء)؛
لا توجد معاوضة حقيقية فلم يصح.
(18)
مسألة: إذا ادَّعى زيد على بكر فقال له: "إن لي عندك وديعة" أو قال له: "إن لي عندك وديعة فتلفت بسبب تفريط منك" أو قال له: "إن لي عندك مالًا قد أقرضتك إيّاه" ونحو ذلك، فأنكر بكر، أو سكت، فصالح بكر عن ذلك بمال يدفعه إلى زيد معجَّل أو مؤجَّل: فإن هذا الصلح جائز؛ للسنة القولية: وهي ما ذكرناها في مسألة (17)، والمقصد كما سبق فيها تنبيه: نص ابن قدامة أبو الفرج على ذلك في كتابه: "الشرح الكبير".
(19)
مسألة: صلح الإنكار - الذي سبق في مسألتي (17 و 18) - له أحكام البيع للمدَّعي - وهو زيد -: فإن وجد زيد العِوَض الذي دفعه إليه المدَّعى عليه - وهو بكر - معيبًا: فله ردُّه إليه ويفسخ الصلح، وإن وجده شقصًا يشفع فيه: فإنه يأخذ من بكر عوضه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن بكرًا لو اشترى من زيد سلعة: فإن له أحكام البيع، فكذلك يكون ذلك في صلح الإنكار كما قلنا والجامع: أنه في كل منهما يعتقد زيد أن هذا المال الذي دفعه إليه بكر عوض عن سلعته فيكون في الصلح بيعًا باعتبار اعتقاده.
(20)
مسألة: إذا ادَّعى زيد على بكر فقال: "إن نصف الدار التي بيدك لي" فأنكر المدعى عليه - وهو بكر - فصالحه المدَّعي - وهو زيد - ببعض هذه العين التي بيده - وهي الدار - على ربعها: فإنه يصح ذلك، ولكن لا يكون حكم ذلك حكم البيع، بل يكون حكم المدعي في هذا الصلح كحكم المدَّعى عليه - وهو المنكر -: =
لأنه دفع المال افتداء ليمينه، وإزالة للضرر عنه، لا عوضًا عن حق يعتقده (فلا ردَّ) لما صالح عنه بعيب يجده فيه (ولا شفعة) فيه؛ لاعتقاده أنه ليس بِعوَض
(21)
(وإن كذب أحدهما) في دعواه أو إنكاره، وعلم بكذب نفسه:(لم يصح) الصلح (في حقه باطنًا)؛ لأنه عالم بالحق، قادر على إيصاله لمستحقه، غير معتقد أنه محق (وما أخذه حرام) عليه؛ لأنه أكل للمال بالباطل
(22)
، .....................................
فلا يرد زيد بعيب ونحوه؛ للتلازم؛ حيث إن المدَّعي - وهو زيد - يعتقد أنه أخذ بعض عين ماله مسترجعًا ممّن هو عنده فيلزم: أن لا يكون لذلك أحكام البيع، وهذا فيه حماية لحق المدّعى عليه.
(21)
مسألة: صلح الإنكار - الذي سبق في مسألتي (17 و 18) - له أحكام الإبراء للمدَّعى عليه - وهو بكر - وليس بيعًا؛ فليس له رد ما صالح عليه بعيب ونحوه ولا شفعة فيه إن كان شقصًا من عقار؛ للمصلحة: حيث إن المدَّعى عليه قد سكت أو أنكر ما ادَّعاه عليه زيد، ودفع ذلك المال لا لاعتقاده أن لزيد حقًا له، وإنما دفعه له؛ لإزالة الضرر عن نفسه؛ صيانة لنفسه عن التبذُّل والخصومة التي قد لا تليق به، ولافتداء يمينه - كما سبق بيانه -؛ وهذا لا يُسمَّى عوضًا حقيقة، وهذا فيه حماية لحق المدعي، وهو المقصد منه.
(22)
مسألة: إذا ادَّعى زيد على بكر فقال لبكر: "لي عليك دين" وكذب زيد في ذلك - أي: ادَّعى شيئًا يعلم أنه ليس له -، أو أن بكرًا أنكر ذلك أو سكت وكذب في إنكاره وسكوته - أي: أنكر شيئًا يعلم أنه حق لزيد -، وصالح أحدهما الآخر: فإن هذا الصلح باطل في حق من علم كذب نفسه، وما أخذه أحدهما من الآخر يكون حرامًا، ولو حكم به حاكم؛ للتلازم؛ حيث إن أحدهما قادر على إيصاله الحق لمستحقه معتقد أنه لا يستحق ذلك، ومع ذلك لم يفعل فيلزم من ذلك: أنه أكل مال الآخر بالباطل، وهو محرَّم بالإجماع، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لأموال وحقوق الآخرين.
وإن صالح عن المنكر أجنبي بغير إذنه: صح، ولم يرجع عليه
(23)
، ويصح الصلح عن قصاص، وسكنى دار، وعيب بقليل وكثير
(24)
(ولا يصح) الصلح (بعوض عن حد
(23)
مسألة: إذا ادَّعى زيد على بكر فقال زيد: "إن لي عندك ألف ريال" فأنكر بكر، فصالح عن المنكر - وهو بكر - محمد، بأن يُسقط عنه مائتي ريال، ويدفع محمد عن بكر ثمانمائة فيصح ذلك، ولا يرجع محمد على المنكر - وهو بكر - ليأخذ منه ما دفعه لزيد - وهي: الثمانمائة - وإن نوى الرجوع إليه عند الصلح هذا إن لم يأذن بكر بالصلح، أما إن أذن بذلك الصلح: فإنه يرجع إلى بكر فيأخذ ما دفعه لزيد - وهي: الثمانمائة إن نوى الرجوع؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما يصح أن يقضي محمد دين بكر إلى زيد فكذلك يصح أن يُصالح عنه بدفع مبلغ من المال عنه لزيد، والجامع: أنه في كل منهما قصد، براءته وقطع الخصومة عنه الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تبرُّع محمد، بالصلح بهذا المبلغ: عدم الرجوع إلى بكر ليأخذ منه المبلغ الذي صالح زيدًا عليه؛ لكون محمد قد أدَّى عن بكر مالًا عن طريق صلح لم يأذن له فيه، ولا في الأداء، ويلزم من إذن بكر لمحمد في الصلح على ذلك: رجوع محمَّد إلى بكر ليأخذ منه ذلك المبلغ إن نوى الرجوع أثناء الصلح فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلت للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قطع التنازع بين المسلمين.
(24)
مسألة: يصح الصلح عن كل ما يجوز أخذ العِوَض عنه: سواء كان مما يجوز بيعه أو مما لا يجوز بيعه وسواء مع إقرار أو إنكار، فيصح الصلح عن القصاص، والصلح عن سكنى الدار إذا اشترطه البائع بمبلغ والصلح عن عيب المبيع، والصلح عن قيمة المتلف بأكثر أو أقل؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن الحسن والحسين وسعيد بن العاص قد بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سبع ديات، فأبى أن يقبلها، فلو لم يصح الصلح في ذلك لما فعل هؤلاء الصحابة ذلك، والصلح بأقل، والصور المذكورة مثل ذلك؛ لعدم الفارق.
سرقة وقذف) أو غيرهما؛ لأنه ليس بمال، ولا يؤول إليه
(25)
(ولا) عن (حق شفعة) أو خيار؛ لأنهما لِمَ يُشرعا لاستفادة مال، وإنما شُرع الخيار للنظر في الأحظ، والشفعة؛ لإزالة الضَّرر بالشركة
(26)
(ولا) عن (ترك شهادة) بحق أو باطل
(27)
(25)
مسألة: لا يصح الصلح عن أي حدّ من الحدود الشرعية، فلو صالح الزاني، أو السارق أو شارب الخمر، أو القاذف شخصًا رآه يفعل ذلك على أن لا يرفعه للسلطان بعوض مالي أو عيني: فلا يصح الصلح، للقياس؛ بيانه: كما أنَّه لا يصح له الصلح وأخذ العوض عن سائر ما لا حق له فيه فكذلك لا يصح الصلح وأخذ العوض عن الحدود، والجامع أن كلًّا منها ليس بحق له ولا ماله، ولا يؤول إليه فلم يجز الاعتياض عنه، فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: لأن هذه الحدود شُرعت للزَّجر، والصلح ليس بزجر، فإن قلتَ: إن حدَّ القذف حق لآدمي فلِمَ لا يصح الصلح عنه بعوض كالقِصاص؟ قلتُ: لأمرين: أولهما: أنَّه حق ليس بمال، ولهذا لا يسقط إلى بدل بخلاف القصاص: فإنه يسقط بعوض، لكونه حافظًا للنفس، ثانيهما: أن حدَّ القذف شُرع لتنزيه العرض، فلا يجوز أن يعتاظ المسلم عن عرضه بمال، فإن قلت: لِمَ سقط حد القذف بدون عوض؟ قلتُ: لكونه حقًّا للمقذوف، فإن أسقط حقَّه فلا بأس، فيكون في ذلك كالقصاص، هذا بناء على أن حق الإسقاط للآدمي.
(26)
مسألة: لا يصح الصلح عن حق الشفعة، ولا عن حق الخيار في البيع؛ للتلازم؛ حيث إنهما لِمَ يُشرعا من أجل استفادة زيادة مال بل شُرعت الشفعة لإزالة الضرر من شراكة المشتري الجديد، وشُرع الخيار لأجل أن يكون عند المشتري والبائع مهلة للنظر في الأصلح لهما أو لأحدهما: فلم يصح الاعتياض عنهما بعوض فلزم من ذلك: عدم صحة الصلح فيهما.
(27)
مسألة: لا يصح الصلح عن ترك شهادة على شخص بحق الله تعالى، أو لأي آدمي أو بباطل: بأن يُصالح زيد بكرًا على عوض بأن لا يشهد عليه بحق تلزمه =
(وتسقط الشفعة) إذا صالح عنها؛ لرضاه بتركها، ويرد العوض (و) كذا حكم (الحد) والخيار
(28)
، وإن صالحه على أن يُجري على أرضه أو سطحه ماء معلومًا: صح؛ لدعاء الحاجة إليه، فإن كان بعوض مع بقاء ملكه: فإجارة، وإلا: فبيع، ولا يُشترط في الإجارة هنا: بيان المدَّة؛ للحاجة ويجوز شراء ممر في ملكه، وموضع في حائط يجعله بابًا، وبقعة يحفرها بئرًا، وعلوّ بيت يبني عليه بنيانًا موصوفًا، ويصح فعله صلحًا أبدًا، أو إجارة مدَّة معلومة
(29)
(وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره)
= الشهادة به كدين ونحوه، أو حق الله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة، أو يصالحه على أن لا يشهد عليه بالزور كأن يقول زيد لبكر:"أعطني ألف ريال وإلا شهدتُ عليك بالسرقة أو الزنا" ونحو ذلك؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالًا" فالصلح الذي يحل الحرام، أو يحرم الحلال لا يجوز؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، وما نحن فيه منه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق المسلمين من أموال وأعراض وهو معلوم.
(28)
مسألة: إذا وقع الصلح عن حق الشفعة والخيار على عوض ووقع الصلح عن الحد، بعوض: فإنه يسقط حق الشفعة وحق الخيار ويرد العوض الذي أخذه بسبب هذا الصلح، ويرد العوض الذي أخذه بسبب الصلح عن الحدود إلى من أُخذ منه؛ للتلازم؛ حيث إن رضاه بترك الشفعة والخيار لزم منه إسقاطهما عنه ويلزم من فساد الصلح ردُّ العوض إلى من أخذ منه.
(29)
مسألة: إذا صالح زيد، بكرًا على أن يُجري على أرضه أو على سطحه ماء، أو يفتح ممرًا في ملكه أو يفتح موضعًا في حائطه يجعله بابًا لداره، أو يحفر في أرضه بئرًا، أو يبني على أرضه، أو بنيانه بنيانًا آخر يستفيد منه: فإن ذلك يصح: سواء فعل ذلك صلحًا أبدًا، أومدة معلومة، وسواء كان ببيع، أو إجارة، وسواء كانت مدة الإجارة مبينة أو لا، ولكن ذلك يُشترط فيه ما يُشترط في البيع أو =
الخاص به، أو المشترك (أو) حصل غصن شجرته في (قراره) أي: قرار غيره الخاص، أو المشترك أي في أرضه، وطالبه بإزالة ذلك:(أزاله) وجوبًا: إما بقطعه، أوليِّه إلى ناحية أخرى فإن أبي مالك الغصن إزالته:(لواه) مالك الهواء (إن أمكن، وإلا) يمكن: (فله قطعه)؛ لأنه إخلاء لملكه الواجب إخلاؤه، ولا يفتقر إلى حكم حاكم
(30)
، ولا يجبر المالك على الإزالة؛ لأنه ليس من فعله
(31)
، وإن أتلفه
= الإجارة: أن يُعلم صفة ما يُباع أو يُؤجَّر صلحًا بأن يكون معلومًا طولًا وعرضًا، وعمقًا، وأن يعلم العِوَض إن وُجد؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز لبكر أن يبيع أي سلعة لزيد فكذلك يجوز أن يُصالحه على عوض بشيء من أملاكه، والجامع: أن كلًّا منهما فيه نفع مقصود، دون وجود محذور فيه، فإن قلت: لِمَ صح ذلك؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن الناس يحتاجون ذلك كثيرًا قديمًا وحديثًا.
(30)
مسألة: إذا كان لزيد شجرة في منزله أو بستانه وامتدّ غصن منها إلى جاره بكر، وأخذ هذا الغصن حيّزًا من هواء بكر الخاص به، أو أخذ حيِّزًا من قرار بكر وملكه فطلب بكر من زيد أن يُزيل عنه ذلك الغصن: فيجب على زيد أن يُزيله، فإن أبي زيد ذلك فيجوز لبكر أن يُنحِّيه عن ملكه وهوائه بأن يلويه إن استطاع، فإن لِمَ يستطع فلبكر قطعه ولا شيء عليه ولا يحتاج ذلك إلى حكم حاكم؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما يجوز قتل الصائل والهاجم عليه إذا لِمَ يندفع إلّا بالقتل فكذلك يجوز لبكر أن يقطع هذا الغصن إذا لِمَ يمكن ليِّه إلّا بالقطع، والجامع: دفع الأذى والضرر في كل. الثانية: التلازم؛ حيث إن الهواء والقرار ملكٌ لبكر، فأزال بكر ما في ملكه دون تعدٍّ على ملك الغير فيلزم جواز إزالته بدون الحاجة إلى حكم حاكم في ذلك، فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المسلمين من تعدِّي الآخرين عليهم.
(31)
مسألة: إذا طلب بكر من زيد أن يُزيل ذلك الغصن الذي امتدَّ من شجرته - أعني شجرة زيد كما في مسألة (30) -: فإن زيدًا يُجبر على إزالته، وإذا أتلف =
مالك الهواء مع إمكان ليِّه: ضمنه
(32)
، وإن صالحه على بقاء الغصن بعوض: لم يجز
(33)
، وإن اتفقا على أن الثمرة بينهما ونحوه: صح جائزًا، وكذا حكم عرق
= ذلك الغصن شيئًا من أملاك بكر: فإن زيدًا يضمن ذلك ويدفع قيمته؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا يجبر على حفظ بهيمته من أن تعتدي على زروع الغير، وإذا أتلفت شيئًا من ذلك فإنه يضمن ما أتلفته، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا من البهيمة والغصن من أملاك زيد، فيكون عليه الغرم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حقوق الجار، فإن قلتَ: إن المالك للغصن - وهو زيد - لا يُجبر على إزالته، وإذا أتلف شيئًا: فلا يضمنه - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للقياس؛ بيانه كما لا يُجبر على إزالة ما في ملك غيره ولا يضمن ما أتلفه، فكذلك لا يُجبر على إزالة غصن شجرته الذي امتد إلى ملك غيره ولا يضمن ما أتلفه والجامع أن كلًّا منهما ليس من فعل المالك - وهو زيد - قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن هذا الغصن قد امتدَّ شجرته التي يقوم بسقيها والاعتناء بها، ويستطيع إزالتها مع أغصانها، بخلاف ملك الغير فلا يستطيع فعل ذلك فيه، ومع الفرق: لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض القياسين" فنحن ألحقنا الغصن الممتد إلى هواء الجار بالبهيمة التي اعتدّت على زرع الغير؛ لأنه أكثر شبهًا بها، وهم ألحقوا الغصن الممتد إلى هواء الجار بملك الغير؛ لأنه أكثر شبهًا به عندهم، وهذا "قياس غلبة الأشباه".
(32)
مسألة: إذا أتلف بكر - وهو مالك الهواء - الغصن وقطعه - كما في مسألة (30) - مع أنَّه يستطيع دفع أذاه بليِّه وتنحيته: فإنه يضمنه، ويجب عليه دفع قيمته لصاحب الشجرة - وهو زيد -؛ للقياس؛ بيانه كما أنَّه لوقتل الصائل مع إمكان دفعه بدون قتله: فإنه يأثم، ويضمنه فكذلك الحال هنا، والجامع: التعدِّي في كل.
(33)
مسألة: إذا صالح مالك الغصن - وهو زيد - بكرًا - وهو جاره مالك الهواء كما =
شجرة حصل على أرض غيره
(34)
(ويجوز في الدرب النافذ فتح الأبواب للاستطراق)؛ لأنه لم يتعيَّن له مالك، ولا ضرر فيه على المجتازين
(35)
و (لا) يجوز
= في مسألة (30) - على أن يبقيه ممتدًّا في هوائه وملكه بعوض يتّفقان عليه: فإن ذلك يصح؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه منفعة لهما، وإبعاد عن القطع؛ لكونه ضررًا، فإن قلتَ: لا يصح ذلك - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث إن الجهالة بالمصالح عليه؛ لكونه يزيد في الرطب، وينقص في اليابس: يلزم منها: عدم صحّته قلتُ: إن تلك الجهالة لا تمنع الصحة والجواز؛ لكون الزيادة في الرطب أو النقص في اليابس لا تمنع التسليم وهذا معتاد متعارف عليه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "الخلاف هل توجد جهالة في المصالح عليه أولا؟ " فعندنا: لا وعندهم: نعم.
(34)
مسألة: إذا صالح مالك الغصن - وهو زيد - بكرًا - وهو جاره، مالك الهواء كما في مسألة (30) - على أن يبقي الغصن ممتدًّا في هوائه وملكه، وله ثمرة ذلك الغصن أو تكون ثمرته بينهما مناصفة: فإن ذلك يصح صلحًا جائزًا، ولا يلزم، فلو امتنع زيد عن دفع ما صالح به بكرًا من الثمرة بعد مضي مدة: فإنه لا يلزم بذلك، ولكنه يلزم بأجرة المثل؛ للسنة القولية حيث قال عليه السلام:"الصلح جائز بين المسلمين" وهذا عام فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "الصلح" اسم مفرد معرّف بأل وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ صح ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منفعة زيد، لئلا يقطع غصنه، ومنفعة بكر في الانتفاع في الثمرة، فإن قلتَ: لِمَ صحّ جوازًا، ولا يلزم؟ قلتُ: لجهالة العوض، فالأصل: عدم جوازه، ولكنه استثني؛ للمصلحة ولعدم المانع منه (فرع): الحكم في عرق شجرة زيد إذا امتدَّ إلى أرض جاره بكر كالحكم في غصنه إذا امتدَّ في هوائه وفي ملكه على التفصيل السابق في المسائل (30 إلى 34).
(35)
مسألة: يجوز للشخص: أن يفتح أبوابًا ونوافذ للاستطراق والتهوية في الطرق =
(إخراج روشن) على أطراف خشب أو نحوه مدفونة في الحائط (و) لا إخراج (ساباط) وهو: المستوفي للطريق كله على جدارين (و) لا إخراج (دكَّة) بفتح الدال، وهي: الدكان والمصطبة - بكر الميم (و) لا إخراج (ميزاب) ولو لم يضرُّ بالمارة، إلا أن يأذن إمام أو نائبه ولا ضرر؛ لأنه نائب المسلمين فجرى مجرى إذنهم
(36)
(ولا يفعل
= النافذة، أو على الأراضي المفتوحة؛ للمصلحة: حيث إن فيه مصلحة له، ولا مفسدة ولا ضرر على غيره من المجتازين والمارَّة، وهو حقٌّ لجميع المسلمين، وهو منهم.
(36)
مسألة: لا يجوز للشخص أن يُخرج روشنًا، أو أي شيء يخرجه من بيته إلى الشارع، ولا يخرج ساباطًا - وهو: الشيء الذي يصل جدار بجدار آخر في الجهة الأخرى -، ولا يُخرج ميزابًا - وهو الذي يخرج منه الماء غير المرغوب فيه من المنزل إلى الشارع - هذا كله لا يجوز إلّا بشرطين: أولهما: عدم الضرر على الآخرين، ثانيهما: أن يأذن الإمام أو نائبه - وهو ممثَّل الآن بوزارة الشؤون البلدية -، فإن عُدم الضرر، وأذن الإمام أو نائبه: جاز فعل تلك الأمور الثلاثة وما ماثلها؛ للمصلحة حيث إن الناس بحاجة إلى فعل تلك الأمور إن لم يكن بها ضرر على الغير، واعتاد الناس فعلها بدون نكير، أما إن كان فيها ضرر: فلا يجوز فعلها: دفعًا للضرر، (فرع): الدَّكَّة - وهي موضع يُبنى بجانب الباب من الخارج يُجلس عليها - لا يجوز بناؤها سواء أذن الإمام أو نائبه أولا؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تضييق طريق المسلمين، ومراقبة المارَّة وهو مضربهم، فدفعًا لذلك لم يجز، فإن قلتَ: يجوز بناء الدَّكة - وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن بعض الناس يكون بيته ضيِّق فيبني تلك الدَّكة ليجلس عليها هو وضيوفه؛ للحاجة قلت: إن الأصل: عدم جواز وضع الروشن، والساباط، والميزاب ولكن المصلحة الضرورية هي التي جوَّزت وضعها، استثناء؛ مراعاة لظروف وأحوال الناس، أما الدَّكة فلا ضرورة في وضعها، فتبقى على =
ذلك) أي: لا يُخرج روشنًا، ولا ساباطًا، ولا دكة، ولا ميزابًا (في ملك جار ودرب مشترك) غير نافذ (بلا إذن المستحق) أي: الجار، أو أهل الدَّرب؛ لأن المنع لحق المستحق، فإذا رضي بإسقاطه: جاز
(37)
، ويجوز نقل باب في درب غير نافذ إلى أوله بلا ضرر
(38)
= الأصل، وهو: عدم جواز وضعها في طريق المسلمين، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" فنتمسَّك نحن بمصلحة الأصل وهو: عدم جواز وضع الدكة؛ لأنها تضيق الطريق بدون ضرورة، وهم يتمسَّكون بالمصلحة الحاجية فيجيزون وضعها. (فرع ثان): إذا تضرَّر أحد الجيران في وضع ساباط، أو ميزاب أو روشن وطالب بإزالته: فإنه يُزال؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه دفع ضرر عن مسلم، ودفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة. (فرع ثالث) إذا أذن الإمام بوضع ما سبق ذكره من روشن وساباط فإنه يكفي عن إذن بقية المسلمين؛ للتلازم؛ حيث إن عدم تصوُّر إذن جميع المسلمين يلزم منه: نيابة إمام المسلمين عنهم، تنبيه: قوله: "ولو لم يضرّ بالمارَّة" قلت: هذا لا يُسلَّم؛ حيث إن ذلك إذا لم يضر بالمارَّة: فإنه يجوز وضعه كما سبق بيانه.
(37)
مسألة: لا يجوز للشخص أن يُخرج روشنًا، ولا ساباطًا، ولا ميزابًا ويجعله يمتدُّ إلى ملك جاره، وهوائه، ولا يمتدُّ إلى درب وطريق مشترك بينه وبين شخص آخر، وهو غير نافذ إلا إذا أذن ذلك الجار، أو ذلك الشريك: فيجوز بعد رضاه؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه دفع ضرر عن جاره أو شريكه، ودفع المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، أما إذا رضي ذلك الجار أو الشريك: فيجوز؛ لكونه قد أسقط حقه.
(38)
مسألة: يجوز للشخص أن ينقل بابه الذي في داخل دربٍ غير نافذٍ، ويجعله في أول ذلك الدَّرب بشرط: عدم وجود ضرر على غيره كأن يفتحه أمام باب غيره، أو يصعد إلى هذا الباب الذي فتحه بحيث يطَّلع على بيت غيره، فإن كان ذلك: =
لا إلى داخل إن لم يأذن من فوقه، ويكون إعارة
(39)
، ويحرم أن يُحدث بملكه ما يضرُّ بجاره كحمام، ورحى، وتنور، وله منعه، كدق، وسقي يتعدَّى، وحرم أن يتصرَّف في جدار جار، أو مشترك بفتح طاق، أو ضرب وتد ونحوه بلا إذنه
(40)
(وليس له وضع خشبة على حائط جاره) أو حائط مشترك (إلّا عند الضرورة) فيجوز (إذا لم يُمكنه التسقيف إلّا به) ولا ضرر؛ لحديث أبي هريرة يرفعه: "لا يمنعنَّ جار جاره أن
= فلا يجوز؛ للمصلحة حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة له، أما إن تضرَّر الآخر بذلك: فلا يجوز دفعًا للضرر، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
(39)
مسألة: لا يجوز للشخص أن ينقل بابه الذي في وسط، أو أول درب غير نافذ ويجعله في داخله إن لِمَ يأذن له من هو داخل الدَّرب، فإن أذن جاز، ويكون إعارة من الذي أذن وبناء عليه: إن سدَّه ثم أراد فتحه: فإنه لا بدَّ أن يطلب أذنًا جديدًا؛ للمصلحة: حيث إنه يُقدَّم بابه إلى موضع لا يستعمله طريقًا له فيتضرّر غيره بدون فائدة له، فإن أذن وهو داخل الدرب: فقد أسقط حقه.
(40)
مسألة: يحرم على الشخص: أن يؤذي جاره بفعل شيء في ملكه يتسبَّب في ضرر جاره: كأن يضع حمامًا بجواره يؤذيه برائحته أو رطوبته، أو أن يجعل رحى طاحونة يؤذيه بصوتها، أو يضع تنُّورًا يخبز فيه الخبز يؤذيه برائحته أو رماده، أو يضع قمامته أمام باب جاره، أو يتصرَّف في جدار جاره، أو جدار مشترك بينهما بفتح طاقة، أو ضرب وتد ونحو ذلك بلا إذن ذلك الجار؛ فإن فعل ذلك فلجاره منعه، ورفع الأمر إلى الحاكم إن أبى؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "ضرر وضرار" نكرة في سياق نفي، وهومن صيغ العموم، والنفي هنا: نهي، وهو مطلق فيقتضي التحريم والفساد الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن للجار منع جاره من دَقٍّ في حدادة، ومنعه من سقي يضر بزرعه أو بجدرانه فكذلك له منعه من فعل تلك الأمور، والجامع: دفع الضرر في كل، وهو المقصد منه.
يضع خشبه على جداره" ثم يقول أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينَّ بها بين أكتافكم" متفق عليه (وكذلك) حائط (المسجد وغيره) كحائط نحو يتيم، فيجوز لجاره وضع خشبة عليه إذا لم يُمكن تسقيف إلّا به بلا ضرر؛ لما تقدَّم
(41)
(وإذا انهدم جدارهما) المشترك، أو سقفهما (أو خيف ضرره) بسقوطه (فطلب أحدهما أن يعمر الآخر معه: أُجبر عليه إن امتنع؛ لقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار"، فإن
(41)
مسألة: يحرم على الشخص: أن يضع خشبه على حائط جاره، أو على حائط مسجد أو وقف، أو حائط يتيم، أو مجنون أو صبي، أو مكاتب إلّا إذا اضطر هذا الشخص إلى وضع خشبة على ذلك الحائط فيجوز كأن يسقف بها ونحو ذلك بشرط: عدم الإضرار بجدار الجار أو المسجد أو الوقف، فإن كان فيه ضرر على غيره: فلا يجوز وإن كان مضطرًا إلى ذلك؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "لا يمنعن جار جاره أن يضع خشبه على جداره" حيث حرّم منع الجار لجاره من وضع خشبه على جداره؛ لأن النهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم وهو عام فيشمل وضعها للضرورة وغيرها؛ لأن "جاره" نكرة أضيف إلى معرفة، وهذا من صيغ العموم، ثانيهما: قوله: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" حيث حرَّم الإضرار بالآخرين، لأن النفي هنا نهي، وهو مطلق فيقتضي التحريم، وهو عام فيشمل الجار وغيره وضع الخشب وغير ذلك؛ لأن "ضرر، وضرار" نكرة في سياق نفي وهو من صيغ العموم، وهذا مخصص للحديث الأول - وهو: لا يمنعن جار جاره .. " - فيكون في حالة عدم الضرورة، فيكون المراد: يحرم على الجار أن يمنع جاره من وضع خشبه على جداره إذا لم يتضرَّر ذلك الجار، أما إن تضرَّر: فيجوز لهذا الجار أن يمنعه عملًا بالحديثين وسيأتي زيادة بيان لذلك في مسألة (15) من باب "العارية"؛ فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قضاء حاجة المضطر، ودفع الضرر عن الآخرين؛ لأن دفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، وفيه حثّ على التعاون.
أبى أخذ حاكم من ماله وأنفق عليه وإن بناه شريك شركة بنية رجوع: رجع (وكذا النهر، والدولاب والقناة) المشتركة، إذا احتاجت لعمارة، ولا يمنع شريك من عمارة، فإن فعل: فالماء على الشركة
(42)
، وإن أعطى قوم قناتهم أو نحوها لمن يعمرها، وله منها جزء معلوم: صح
(43)
، ومن له علو: لم يلزمه عمارة سفله إذا
(42)
مسألة: إذا انهدم الجدار الذي بين بيت زيد، وبيت بكر، أو انهدم السقف الذي بينهما، أو كانا شريكين في بيت فخيف من سقوط جدار من جدرانه أو سقف من أسقف حُجره، أو كانا شريكين في نهر، أو في دولاب يرفع الماء، أو في قنوات يجري فيها الماء إلى أرض لهما ففسد، بعض ذلك: وأراد زيد أن يعمره ويُصلحه، فأبى بكر فإنه يُجبر على مشاركة زيد في إعمار ذلك وإصلاحه، فإن امتنع: فإن الحاكم يُجبره على ذلك، وإن بناه شريكه أو جاره - وهو زيد - بنية أخذ نصيب جاره أو شريكه منه فيما بعد فله ذلك، فإذا فرغ من عمارة وإصلاح المنهدم أو الفاسد: فإن له الحق بأن يُطالب جاره أو شريكه بدفع نصيبه إما بالتفاهم والصلح بينهما، أو بحكم حاكم، ولا يجوز لهذا الشريك - وهو بكر - أن يمنع شريكه من ذلك الإعمار أو الإصلاح لذلك النهر ونحوه، فإن منعه: فالماء يكون على الشراكة كما كان، ولزيد أن يمنع بكرًا من الانتفاع بتلك القناة والنهر؛ للسنة القولية حيث قال عليه السلام:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" والصور التي ذكرت فيها ضرر على الجارين، أو الشريكين معًا أو على بعض المسلمين الذين ينتفعون بذلك، فنفاه الشارع، وأمر بإزالته وإن لم يرض الجار، أوالشريك، لذلك أجمع العلماء على قاعدة "الضَّرر يُزال" مهما كان، وأن دفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
(43)
مسألة: إذا أعطى قوم بكرًا قناة، أو بئرًا أو نهرًا بشرط عمارتها واتفقا صلحًا على أن يكون للعامر - وهو بكر - جزء معلوم من تلك القناة أو النهر أو البئر كأن يكون له ربع ذلك أو خمسه: فإن ذلك يصحّ؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز =
انهدم بل يُجبر عليه مالكه
(44)
، فإن ويلزم الأعلى سترة تمنع مشارفة الأسفل
(45)
، فإن استويا: اشتركا
(46)
.
* * *
= إعطاء شخص شعرًا وصوفًا لكي يغزله لهم بسهم منه فكذلك يجوز فيما نحن فيه، والجامع: الانتفاع في كل، بدلًا من ترك ذلك بدون انتفاع، وهذا هو المقصد منه.
(44)
مسألة: إذا كان زيد يملك أسفل البيت، وبكر يملك أعلاه، وانهدم أسفله: فإن زيدًا يُلزم بعمارة ذلك المنهدم الأسفل دون بكر؛ للتلازم؛ حيث إن زيدًا هو المالك للأسفل الذي انهدم فيلزم إجباره على إصلاحه وعمارته.
(45)
مسألة: إذا كان زيد ساكنًا في أسفل البيت، وبكر ساكن في أعلاه، فإنه يُجبر بكر بوضع شيء ساتر يمنع الاطّلاع على أسفل البيت؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" والاطلاع على الجار والإشراف عليه إضرار به فتجب إزالته على المطَّلع؛ لكونه هو الذي سيأثم لو فعل ذلك؛ وهو المقصد منه.
(46)
مسألة: إذا لم يكن أحد الجارين أعلى من الآخر، بل مستويان في العلو؛ وطلب أحداهما وضع سترة بينهما: فإنه يجب على الآخر أن يشارك جاره في تكلفة هذه السترة، فإن امتنع: أجبر على المشاركة؛ للتلازم؛ حيث إنه ليس أحدهما بأولى من الآخر في وضع ذلك؛ لتساويهما في الرغبة في ستر محارمه فيلزم اشتراكهما في التكلفة مثل سائر الحقوق المشتركة والمقصد: دفع الضرر عنهما.
هذه آخر مسائل باب "الصلح" ويليه باب "الحجر".
باب الحَجْر
وهو في اللغة: التضييق والمنع، ومنه سمي الحرام والعقل حجرًا، وشرعًا: منع إنسان من تصرُّفه في ماله وهو ضربان حجر لحق الغير كعلى "مفلس"، وحجر لحق نفسه كعلى نحو "صغير"
(1)
(ومن لِمَ يقدر على وفاء شيء من دينه: لِمَ يُطالب به، وحُرِّم
باب الحَجْر
وفيه أربع وخمسون مسألة:
(1)
مسألة: الحجر لغة: المنع، والتضييق، ومنه قول القائل:"حجرت عليه" أي: منعته، وضيقتُ عليه بذلك، وسُمِّي "الحرام" حجرًا؛ لأن الشارع منع من فعله، وسُمِّي "العقل" حجرًا؛ لأنه يمنع صاحبه من فعل المعاصي وما لا يليق، وهو في الاصطلاح: أن يُمنع المسلم من التصرُّف في ماله (فرع): الحجر من حيث سببه ينقسم إلى قسمين: أولهما حجر بسبب المحافظة على حق المحجور عليه كالحجر على الصبي، والمجنون، والسفيه، ثانيهما: حجر بسبب المحافظة على حق غير المحجور عليه كالحجر على المفلس للمحافظة على حقوق الغرماء والحجر على المريض بما زاد على الوصية بالثلث والحجر على المكاتب إلى أن يقضي حقَّ سيده، والحجر على المشتري من التصرُّف في ماله حتى يقضي حق الثمن الحال، والحجر على الراهن فيما رهنه ونحو ذلك ممن عليه دين حال يعجز عنه ماله الموجود مدة الحجر، (فرع ثان) الحجر من حيث مصدره ينقسم إلى قسمين: أولهما: حجر يكون من الشارع كالحجر على الصبي، والمجنون، والسفيه، فهؤلاء يُحجر عليهم: سواء أذن حاكم أو لا، ثانيهما: حجر يكون من الحاكم كالحجر على المشتري من التصرف في ماله حتى يقضي ثمن السلعة التي اشتراها والحجر على الراهن فيما رهنه، والحجر على المريض فيما زاد على الوصية بالثلث، والحجر على المكاتب، فهؤلاء يُحجر عليهم وإن كانوا مكلَّفين، (فرع ثالث) الحجر جائز؛ بأقسامه =
حبسه) وملازمته؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
(2)
فإن ادَّعى العسرة ودينه عن عوض كثمن وقرض أولا، وعرف له مال سابق الغالب بقاؤه، أو كان أقرَّ بالملاءة: حُبس إن لِمَ يقم بينة تخبر باطن حاله وتسمع قبل حبسه وبعده،
= السابقة لقاعدتين: الأولى: الكتاب، حيث قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} حيث حرم الشارع من تمكين السفيه ماله؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم، وهومنع كما سبق، وقال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} حيث دلَّ مفهوم الشرط على أن الصبي لا يُدفع له ماله، والمجنون مثله؛ لعدم الفارق في ضعف العقل عن الإدراك، وقال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} حيث إن الشارع قد أمر بإنظار والصبر على المعسر - وهو المفلس -، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد حجر على معاذ على معاذ بسبب المحافظة على حق غرمائه، فإن قلت: لِمَ شرع الحجر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في الحجر حماية لحقوق الشخص نفسه من أن يُبذِّرها أو يأكلها الظلمة من الناس كالحجر على المجنون والصبي، والسفيه، وحماية لحقوق الغرماء كالحجر على المفلس ونحوه - كما سبق -.
(2)
مسألة: إذا كان الشخص عليه دين، ولم يقدر على وفائه، وكان صادقًا في ذلك: فلا يجوز لغريمه أن يُطالبه، ولا يحجر عليه، ويحرم سجنه، أو معاقبته، أو ملازمته؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} حيث إن الشارع أمر الغريم بأن يصبر على هذا المعسر الصادق إلى حين يساره وسعته، والأمر بالشيء نهي عن ضدِّه، فيلزم من ذلك: تحريم معاقبته بالحبس أو الملازمة، فإن قلتَ: لَم شُرّع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن معاقبته بأي شيء لا فائدة من ورائها؛ لكونه لا مال له، ولقد ورد في فضل الإنظار والتوسعة على الآخرين أخبار كثيرة، كقوله عليه السلام:"من نفَّس عن غريمه، أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة".
وإلا حلف، وخُلِّي سبيله
(3)
(ومن له قدرة على وفاء دينه: لِمَ يُحجر عليه)؛ لعدم الحاجة إلى الحجر عليه (وأُمر) أي: وجب على الحاكم أمره (بوفائه) بطلب غريمه؛ لحديث: "مطل الغني ظلم"
(4)
،
(3)
مسألة: إذا ادَّعى الشخص الإعسار وعليه دين عن عوض كثمن سلعة اشتراها، أو لم يكن عوضًا عن سلعة كقيمة متلف، أو أرش جناية، وعُلِم أن له مالًا سابقًا باقيًا غالبًا، أو أن ذلك الشخص قد أقرَّ بأنه مليء: فإنه يُعاقب بالحبس إن لم يثبت بينة على أنَّه مُعسر، لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل بقاء المال الذي عُلم أنَّه يملكه، أو أقرَّ به فعُوقب بالحبس؛ لأجل أن يفي بما عليه بما ثبت عنده عملًا بالأصل؛ الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من إقامة البيِّنة على إعساره المخبرة عن حاله: عدم معاقبته بالحبس، لعدم الفائدة من ذلك (فرع): يكفي أن يشهد معه اثنان بأنه مُعسر، ولا يُحتاج إلى اليمين؛ للقياس؛ بيانه: كما يكفي في إثبات كثير من الأمور اثنان، فكذلك الحال هنا والجامع: حصول الثقة فيما شهد، به، (فرع ثان) إذا لم يُعرف له مال، ولم يقر بشيء وادَّعى الإعسار: فإنه يحلف، ولا يُطلب منه بيّنة ولا يُحبس. للتلازم؛ حيث إن عدم العلم بمال عنده مع يمينه يلزم منه صدقه بما يقول غالبًا، فإن قلتَ: لم وجبت اليمين؟ قلتُ: احتياطًا؛ حيث إنها تُغلِّب الظن بصدقه؛ لكونه في مرتبة المنكر، (فرع ثالث): البيِّنة التي تثبت بها إعساره تسمع قبل الحبس وبعده؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز سماع البيّنة منه قبل الحبس: فإنها تسمع منه بعده، والجامع: الحرص على مصلحته ورفع الحبس عنه.
(4)
مسألة: إذا كان الشخص قادرًا على وفاء دينه: فإنه لا يُحجر عليه، بل إن غريمه إذا طلب حقه منه: فإنه يجب على الحاكم أن يُرغم ذلك الشخص بأن يوفي ما عليه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "مطل الغني ظلم" =
ولا يترخَّص من سافر قبله
(5)
، ولغريم من أراد، سفرًا منعه من غير جهاد مُتعيِّن حتى يُوثق برهنٍ محرز، أو كفيل مليء
(6)
(فإن أبى) القادر وفاء الدَّين الحال: (حُبس بطلب
= وهذا غني؛ لقدرته على وفاء ما عليه، فامتناعه عن الوفاء مع قدرته عليه يُعتبر ظلمًا ومماطلة لا يقوى على رفعه إلّا الحاكم، فيُرغمه عليه، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من قدرته على الوفاء: عدم الحاجة إلى الحجر عليه؛ إذ يُمكن للغريم مطالبته في الحال، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع لأكل أموال الناس بالباطل.
(5)
مسألة: إذا سافر زيد المدين قبل وفاء دينه مع قدرته، وبعد مطالبة غريمه له بعد حلول أجله: فلا يجوز لزيد أن يأخذ برخص السفر كقصر الصلاة، أو الإفطار في رمضان، أو التنفُّل على الراحلة؛ للتلازم؛ حيث إنه ماطل وهو غني، فيكون بذلك ظالمًا، والظلم فسق ومعصية، فيلزم عدم جواز الترخُّص بسفره هذا؛ لأنه سفر معصية، فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا؟ قلت للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حماية لحقوق الآخرين.
(6)
مسألة: إذا أراد زيد المدين لبكر دينًا قد حلَّ: فإنه يجب عليه أن يستأذن بكرًا فإن أذن له: سافر، وإن لِمَ يأذن له لا يجوز لزيد أن يسافر، ولبكر منعه من السفر بالقوة إلّا إذا رهن زيد عند، بكر رهنًا محرزًا للدَّين، أو كفله وضمنه شخص آخر مليء يستطيع أن يُوفي بدينه إن لِمَ يرجع وهذا السفر مطلق، أي: سواء كان ذلك السفر قصيرًا، أو طويلًا، وسواء كان سفر طاعة أو معصية، وسواء كان سفرًا مخوفًا أو آمنًا؛ للمصلحة: حيث إن سفره يتسبَّب في تأخير حق الغريم، ورجوعه لا يغلب على الظن فلزم من ذلك أن له حق المنع، ولأنه قد يُوسر في البلد الذي سافر إليه فلا يتمكّن غريمه من إحضاره كما قال ذلك ابن تيمية.
(فرع): إذا سافر زيد المدين يُريد الجهاد في سبيل الله وهو مُتعيِّن عليه: بأن نادى به إمام المسلمين، أو دخل الكفار بلاد المسلمين؛ ليصرفوهم عن دينهم: فإن =
ربِّه) ذلك؛ لحديث: "لي الواجد ظلم يحلُّ عرضه وعقوبته" رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما، قال الإمام: قال وكيع: عرضه شكواه، وعقوبته: حبسه" فإن أبى: عزّره مرَّة بعد أخرى
(7)
(فإن أصرَّ) على عدم قضاء الدَّين (ولم يبع ماله: باعه الحاكم وقضاه)؛ لقيامه مقامه، ودفعًا لضرر رب الدَّين بالتأخير
(8)
(ولا يُطالب) مدين (بـ) دين (مؤجَّل)؛ لأنه لا يلزمه أداؤه قبل حلوله، ولا يُحجر عليه من أجله
(9)
(ومن
= زيدًا يُسافر بدون إذن غريمه - وهو بكر - ولا يملك منعه؛ للمصلحة: حيث إن مصلحة الدفاع عن الإسلام والمسلمين أعظم من مصلحة وفاء دينه لغريمه؛ لعظم نفعه؛ حيث إنه إذا تعارضت مصلحتان: قدمت أعمهما نفعًا.
(7)
مسألة: إذا أبى المدين - وهو زيد - وامتنع عن وفاء دينه وهو قادر عن الوفاء: فإنه يُجبر على الوفاء بالتعزير بأي شيء يراه الحاكم مناسبًا له: فإن كان الحبس يُناسبه حبس، وإن كان الضرب يُناسبه: ضُرب، ونحو ذلك، هذا إذا طالبه غريمه فامتنع؛ للسنة القولية حيث قال عليه السلام:"ليُّ الواجد ظلم يحلُّ عرضه وعقوبته" والمراد بالعرض: شكواه إلى الحاكم والتشهير به، والمراد بالعقوبة: تعزيره بحبس ونحوه، كما ورد عن كثير من العلماء، فالقادر إذا ماطل: فإنه يكون ظالمًا، والظالم يُعاقب بأيِّ عقاب يردعه، فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حقوق الآخرين.
(8)
مسألة: إذا أصرَّ المدين القادر على عدم قضاء دينه، وصبر على الحبس والتعزير: فإن الحاكم يبيع ماله أملاك ويقضي دينه؛ للمصلحة: حيث إن عدم قضاء المدين لدينه قدرته يُعتبر ظلمًا لرب الدَّين - وهو الدائن - فإن أخَّر عنه حقَّه وهو ضرر عليه، والمسؤول لرفع الظلم والضرر بين الناس هو الحاكم؛ لقيامه مقامهم في ذلك، قال عليه السلام:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
(9)
مسألة: الدَّين الذي على هذا القادر لا يجوز أن يُطالب به قبل وقت حلوله ولا يُحجر عليه بسببه؛ للتلازم؛ حيث إن هذا الدَّين لا يجب على المدين أداؤه قبل =
ماله لا يفي بما عليه) من الدَّين (حالًا: وجب) على الحاكم (الحجر عليه بسؤال غرمائه) كلهم (أو بعضهم)؛ لحديث كعب بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ماله" رواه الخَلَّال بإسناده
(10)
(ويُستحب إظهاره) أي: إظهار حجر المفلس، وكذا: السفيه؛ ليعلم الناس بحاله، فلا يُعاملوه إلا على بصيرة
(11)
(ولا ينفذ تصرُّفه أي المحجور عليه لفلس (في ماله) الموجود، والحادث بإرث أو غيره (بعد الحجر)
(12)
= وقت حلوله فيلزم عدم جواز المطالبة به قبل ذلك الوقت، ويلزم من عدم حق المطالبة: عدم جواز الحجر عليه، فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حق المدين من الغرماء.
(10)
مسألة إذا كان عند المدين مال لا يكفي بسداد الدَّين الذي عليه كله حالًّا: فيجب على الحاكم أن يحجر عليه إذا طلب كل غرمائه أو بعضهم ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إن عليه السلام قد حجر على معاذ، وباع ماله وأعطاه غرماءه، الثانية: فعل الصحابي، حيث إن عمر قد فعل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وهي الدفاع عن حقوق الآخرين.
(11)
مسألة: إذا حُجر على شخص لإفلاسه، أو لسفهه: فإنه يُستحب إظهار ذلك بين الناسَ وإعلامهم، به ونشره بينهم؛ للمصلحة حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة عنهم: فلا يُعاملوه بأي معاملة؛ لئلا تضيع حقوقهم.
(12)
مسألة: إذا حُجر على شخص لإفلاسه: فلا يجوز له أن يتصرَّف في ماله الموجود عنده، أو ماله الذي حدث بسبب إرث أو جناية أرش، أو هدية أو وصية، أو صدقة وذلك بعد الحجر، فلا يتبرَّع لأحد منه، ولا يبيع شيئًا، ولا يوقفه؛ ولو تصرَّف فيه: لم ينفذ؛ للقياس؛ بيانه كما أن الراهن لا يتصرَّف بالعين المرهونة عند المرتهن بأي تصرُّف فكذلك المحجور عليه مثله، والجامع: أن مال المحجور عليه، والعين المرهونة ليست للمحجور عليه ولا للراهن، ولا يجوز التصرُّف في =
بغير وصية أو تدبير
(13)
(ولا إقراره عليه) أي: على ماله؛ لأنه محجور عليه
(14)
، وأما تصرُّفه في ماله قبل الحجر عليه فصحيح؛ لأنه رشيد غير محجور عليه
(15)
، لكن يحرم عليه الإضرار بغريمه
(16)
(ومن باعه أو أقرضه شيئًا) قبل الحجر، ووجده باقيًا بحاله،
= مال الغير، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه المحافظة على مال الغرماء.
(13)
مسألة: يجوز للمحجور عليه أن يُوصي بالثلث وما دونه من ماله أو أن يُعتق مدبّرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الوصية والمدبّر لا تنفَّذ إلا بعد الوفاء بالدَّين بعد موت الموصي: جوازه للمحجور عليه؛ لكون الحجر انفكّ بالوفاء.
(14)
مسألة: لا يجوز للمحجور عليه قراره على ماله؛ للتلازم؛ حيث إن حقوق الغرماء متعلِّقة بأعيان ماله فلزم: عدم جواز إقراره عليه؛ لعدم جواز إقراره على مال غيره.
(15)
مسألة: إذا كان زيد عليه دين لبكر، ولم يطلب بكر الحجر عليه، وتصرَّف زيد، في ماله ببيع وهبة وصدقة وإقرار ونحو ذلك فإن هذا التصرُّف يصح وينفذ؛ للقياس؛ بيانه: كما أن غير المدين يتصرَّف بماله وينفذ تصرُّفه فكذلك المدين غير المحجور عليه مثله والجامع: إن كلًّا منهما رشيد غير ممنوع من تصرفه بسبب حجر ولا غيره، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.
(16)
مسألة: إذا كان زيد عليه دين لبكر، ولم يطلب بكر الحجر عليه: فإنه يحرم على زيد أن يتصرَّف بشيء من ماله تصرُّفًا يضرُّ بغريمه - وهو بكر -؛ للقياس؛ بيانه: كما يحرم على المريض مرض الموت أن يتصرَّف بشيء من ماله يضرُّ ببعض الورثة أو كلهم، فكذلك المدين - وهو زيد هنا - غير المحجور عليه مثله، والجامع: أن مال كل منهما حقٌّ لغيره: فمال المريض هنا حق للورثة، ومال المدين حق للغرماء، فإن قلتَ: لَم شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حقوق =
ولم يأخذ شيئًا من ثمنه: فهو أحقُّ به؛ لقوله عليه السلام: "من أدرك متاعه عند إنسان أفلس فهو أحق به" متفق عليه من حديث أبي هريرة وكذا: لو أقرضه أو باعه شيئًا (بعده) أي: بعد الحجر عليه (رجع فيه) إذا وجده بعينه (إن جهل حجره)، لأنه معذور بجهل حاله
(17)
(وإلا) يجهل الحجر عليه: (فلا) رجوع له في عينه؛ لأنه دخل على بصيرة، ويرجع بثمن المبيع، وبدل القرض إذا انفكَّ حجره
(18)
(وإن تصرَّف)
= أرباب الحقوق بكل طريق، وسدٌّ لأي طريق يُفضي إلى إضاعتها كما قال ابن القيم (فرع): لا يصحُّ أن يتصدَّق أو يتبرَّع المدين حتى يوفي دينه، ولا يصح أن يتصدق أو يتبرع من وجبت عليه نفقة أولاده أو أهل بيته بحيث يضربهم؛ للمصلحة: حيث إن الوفاء بالدَّين، والنفقة الواجبة مصلحتهما مقدمة على مصلحة النوافل؛ حيث إنه إذا تعارضت مصلحتان: قُدمت أعظمهما نفعًا.
(17)
مسألة: إذا كان زيد عليه دين لغرماء، فباع محمد على زيد ثيابًا، أو أقرضه مائة ريال مثلًا قبل الحجر على زيد أو بعد الحجر عليه وهو جاهل لهذا الحجر: فوجد محمد تلك الثياب على حالها، والألف على حاله ولم يأخذ محمد من ثمن ذلك، ولم يبرأه منه: فإن محمدًا يكون أحقُّ بتلك الثياب، والقرض من بقية الغرماء عند ثبوت إفلاس زيد والحجر عليه؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أدرك متاعه عند إنسان أفلس فهو أحقُّ به حيث إن ذلك يعمُّ المفلس المحجور عليه وغير المحجور عليه فإن قلتَ: إنه يكون كغيره من الغرماء في ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تفريط محمَّد من عدم السؤال عن زيد: أن لا يُقدَّم على غيره قلتُ: إن هذا لا يلزم؛ وهو لم يُقصَّر بعدم السؤال ولم يُفرِّط؛ لأن الغالب على الناس عدم الحجر، فهو معذور بجهل حاله فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض التلازم مع السنة".
(18)
مسألة: إذا باع محمد على زيد المدين أو أقرضه بعد الحجر عليه ومحمد يعلم أنه محجور عليه: فإنه لا يستحق الرجوع بعين ما باعه عليه، بل يرجع بثمن المبيع، =
المفلس (في ذمَّته) بشراء، أو ضمان، أو نحوهما (أو أقرَّ) المفلس (بدين أو) أقرَّ بـ (جناية توجب قودًا، أو مالًا: صح) تصرُّفه في ذمَّته، وإقراره بذلك؛ لأنه أهل للتصرُّف، والحجر متعلِّق بماله، لا بذمَّته (ويُطالب به) أي: بما لزمه من ثمن مبيع ونحوه، وما أقرَّ به (بعد فكَّ الحجر عنه)؛ لأنه حق عليه، وإنما منعنا تعلُّقه بماله؛ لحق الغرماء، فإذا استوفي: فقد زال العارض
(19)
(ويبيع الحاكم ماله) أي: مال المفلس الذي ليس من جنس الدَّين بثمن مثله، أو أكثر (ويُقسِّم ثمنه) فورًا (بقدر ديون غرمائه الحالَّة؛ لأن هذا هو جلُّ المقصود من الحجر عليه، وفي تأخيره مطل، وهو
= وبدل القرض بعد فكِّ الحجر عن زيد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن محمدًا لو اشترى سلعة معيبة وهو يعلم عيبها فإنه يصبر على ذلك العيب وليس له حق لردّها بهذا العيب، فكذلك إذا باع سلعة على شخص محجور عليه أو قرضه فإنه يصبر عليه حتى يُفكُّ هذا الحجر والجامع: أن كلًّا منهما قد أتلف ماله بنفسه بسبب ذلك؛ لكونه قد دخل في تلك المعاملة وهو على بصيرة وعلم بذلك، فإن قلت: لِمَ لا يستحق عين ما باعه عليه، بخلاف مسألة (17)؟ قلتُ: لأنه دخل في هذه المسألة المعاملة على بصيرة وعلم بأنه محجور عليه فيتحمَّل ما يصيبه، أما في مسألة (17): فقد دخل في المعاملة وهو جاهل أنَّه محجور عليه فيعذر.
(19)
مسألة: إذا تصرَّف المفلس بعد الحجر عليه في ذمَّته، لا بماله: بأن اشترى دارًا على أجل، أو أقرَّ بجناية تُوجب مالًا كقوله:"أقرُّ بأني أنا الذي جرحتُ فلانًا" أو توجب قَوَدًا، أو ضمن أحدًا ونحو ذلك: فإن هذا يصح، ويُطالب بما تصرَّف به والتزم به في ذمَّته بعد أن يُفكَّ الحجر عنه: سواء طال الزمن أو قصر، للتلازم؛ حيث يلزم من تعلُّق الحجر بماله لا بذمَّته: صحَّة تصرفه بذمَّته، ويلزم من فكِّ الحجر عنه: زوال العارض من الوفاء بما التزم به في ذمته لأنه حق عليه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه محافظة على حقوق الغرماء؛ لكون حقهم متعلقًا بماله.
ظلم لهم
(20)
(ولا يحلُّ) دين (مؤجَّل بفلس) مدين؛ لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه
(21)
(ولا) يحلُّ مؤجّل أيضًا (بموت) مدين (إن وثَّق ورثته
(20)
مسألة: إذا تمَّ الحجر على المفلس: فللحاكم - وهو القاضي - أن يبيع ماله الذي ليس من جنس الدَّين بثمن يكون نقدًا للبلد، أو أكثره رواجًا أو الأصلح، أو ببيعه بشيء من جنس الدين الذي عليه، وإذا باعه فيجب عليه - أي أعلى القاضي -: أن يُقسِّم هذا الثمن مباشرة على غرماء هذا المفلس بقدر ديونهم الحالَّة، أما المؤجَّلة: فلا تدخل في هذا التقسيم؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه رد لحقوق الغرماء، وإبراء لذمَّة المفلس، وقطعًا للتنازع والخلافات؛ لأن تأخير التقسيم فيه مطل وظلم للآخرين، وهذا هو المقصود من مشروعية الحجر، فإن قلتَ لِمَ شُرع بيع ماله الذي ليس من جنس الدَّين فقط؟ قلتُ: لأن ماله الذي هو من جنس الدَّين لا حاجة إلى بيعه، وإنما يلزم الحاكم تقسيمه، (فرع): يُستحب إحضار المفلس المحجور عليه عند تقسيم ماله على غرمائه؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد أحضر الرجل الذي ابتاع ثمارًا، فكثُر دينه، فقال النبي عليه السلام:"تصدقوا عليه" فلم يبلغ وفاء دينه، فقال لغرمائه:"خذوا ما وجدتم فليس لكم إلّا ذلك"(فرع ثان) عند تقسيم مال المفلس على الغرماء يُبدأ بما عليه من أرش جناية، ثم يُثنَّى بمن عليه رهن لازم، ثم يأخذ الغريم الذي وجد متاعه بعينه عنده إن كان جاهلًا بالحجر عليه عند، بيعه - كما سبق - ثم يُقسَّم باقيه بين الغرماء على قدر ديونهم؛ لقاعدتين الأولى: السنة الفعلية وقد، سبقت، الثانية: التلازم؛ حيث إن الشارع قد اهتمَّ بالجنايات وكل خاص فلزم تقديم ذلك على العام؛ تقديمًا للأهم على المهم.
(21)
مسألة: إذا كان زيد عليه دين لبكر، وهو مؤجَّل لا يحلُّ دفعه إلّا بعد سنة، فأفلس زيد بعد ستة أشهر مثلًا: فلا يحلُّ لبكر أن يُطالب زيدًا بدينه بسبب هذا الفلس، بل يبقى الدَّين على حاله، لا يجب الوفاء به إلّا بعد، سنة؛ للتلازم؛ حيث =
برهن) يحرز (أو كفيل مليء) بأقل الأمرين من قيمة التركة، أو الدَّين؛ لأن الأجل حق للميت، فورث عنه كسائر، حقوقه، فإن لِمَ يُوثقوا: حلَّ: لغلبة الضرر
(22)
(وإن ظهر غريم) للمفلس (بعد القسمة) لما له: لِمَ تُنقض و (رجع على الغرماء بقسطه)؛ لأنه لو كان حاضرًا شاركهم فكذا: إذا ظهر
(23)
، وإن بقي على المفلس بقية وله صنعة:
= يلزم من كون الأجل حقًّا من حقوق المفلس: عدم سقوطه - وهو الأجل - بسبب فَلَسه؛ لأنه لا دخل للأجل في الفَلَس، ولا دخل للفلس بالأجل، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المفلس.
(22)
مسألة إذا كان على زيد دين لبكر، وهو مؤجَّل، لا يحل دفعه إلّا بعد سنة، فمات زيد قبل نهاية السنة تلك مثلًا: فلا يحلُّ لبكر أن يُطالب ورثة زيد بدينه بشرط: أن يُوثّق الورثة أو غيرهم رب الدَّين - وهو بكر - بأن يرهنوا عنده عينًا تساوي ذلك الدين الذي على زيد أو تساوي التركة، أو أن يكفل مليء الأقل من الدَّين، أو التركة، أما إن لِمَ يكن هناك رهن أو كقيل: فإنه يحلُّ لبكر أن يُطالب الورثة بدينه بسبب موت المدين - وهو زيد -، ولو لم تنقض السنة؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من أن الورثة يرثون سائر حقوق مُورِّثهم: أن يرثوا الأجل الذي يحل فيه دين بكر؛ لكونه حقًّا من حقوق الميت - وهو زيد -؛ الثانية: المصلحة؛ حيث إن الغالب وجود الضرر على صاحب الدَّين إذا مات المستدين، فلا يقوم الورثة أو بعضهم بسداد ما على مُورِّثهم، فاشتُرط ذلك الشرط عليهم من رهن أو كفيل احتياطًا لحق صاحب الدين، وهو الغريم - وهو بكر هنا -؛ لرفع الضرر عنه، ولحمايته.
(23)
مسألة: إذا قسَّم القاضي مال المفلس على غرمائه، ثم بعد ذلك: ظهر غريم له قد حلَّ دينه على ذلك المفلس: فلا تُنقض تلك القسمة، بل يُشارك الغرماء الذين قُسِّم عليهم المال سابقًا بقسطه وحصَّته، ويُؤخذ من كل غريم شيء ليكمل نصيب ذلك الغريم الذي ظهر أخيرًا، ويكونوا سواء على حسب نسبة دينهم: وهذا =
أجبر على التكسُّب لوفائها كوقف، وأُمِّ ولدٍ يستغني عنهما
(24)
(ولا يفكُّ حجره إلّا
= مطلق، أي: سواء تصرَّف أولئك الغرماء السابقين فيما قُسِّم عليهم من قبل أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنَّه لو قُسِّمت تركة شخص على ورثته، ثم بعد ذلك ظهر وارث آخر، فإنه يشارك الورثة السابقين بقسطه وحصَّته فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا من الوارث الجديد والغريم الجديد له حقٌّ ثابت، لا يسقط بالقسمة، فإن قلتَ: لَم شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إيصال الحقوق لمستحقيها.
(24)
مسألة: إذا قُسِّم مال المفلس، وبقي عليه بعض الدَّين، وله صنعة: فإنه لا يُجبر على التكسُّب لأجل أن يقوم بوفاء هذا الباقي، بل يكتفي الغرماء بما قُسِّم عليهم من مال المفلس؛ للسنة القولية حيث قال عليه السلام: للغرماء الذين قسَّم عليهم مال رجل قد أفلس: "خذوا ما وجدتم، فليس لكم إلّا ذلك" فنفى أن يكون للغرماء شيء غير ما قُسِّم، وهذا عام فيشمل من بقي عليه من الدَّين شيء، ويشمل غيره، وأثبت أن ما أخذوه هو حقهم ولا يُطالبون المفلس بما نقص؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قطع للتنازع في الباقي ووقته، فإن قلت: بل يُجبر على التكسُّب لوفاء ما نقص، أو يُؤجِّر وقفًا وقف عليه أو يُؤجِّر أم ولد يستغني عنهما حتى يفي ما بقي عليه - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث إنه بذلك يقدر على وفاء ما بقي فيلزم أن يُجبر عليه قلتُ هذا لا يلزم أن يُجبر عليه كما لا يُجبر على قبول صدقة أو هدية، أو قرض أو نحو ذلك لأجل وفاء ما بقي؛ للمصلحة؛ حيث إن إجباره على ذلك سيُلحق به ضرر المنَّة وضرر طول الانتظار، فإن قلتَ ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "الخلاف هل يُوجد ضرر على المفلس إن أُجبر على التكسُّب لوفاء ما بقي من دينه أولا؟ " فعندنا: يُوجد ضرر فدفعًا له: لا يُجبر، وعندهم: لا.
حاكم)؛ لأنه ثبت بحكمه، فلا يزول إلّا به، وإن وفَّى ما عليه: انفكَّ الحجر بلا حاكم؛ لزوال موجبه
(25)
.
فصل: في المحجور عليه لحظِّه (ويُحجر على السفيه، والصغير، والمجنون لحظِّهم)؛ إذ المصلحة تعود عليهم، بخلاف المفلس والحجر عليهم عام في ذممهم ومالهم، ولا يحتاج لحاكم، فلا يصح تصرفهم قبل الإذن
(26)
(ومن أعطاهم ماله بيعًا أو قرضًا) أو
(25)
مسألة: ينفك الحجر عن المفلس في حالتين: الحالة الأولى: إذا وفَّى وقضى كل ما عليه، ولم يبق عليه شيء من الدَّين عليه: فإن هذا ينفكّ عنه الحجر بنفسه بدون حكم حاكم؛ للتلازم؛ حيث إن سبب الحجر هو: الإفلاس، وطلب الغرماء لحقهم، فزال هذا السبب بوفاء المفلس جميع ما عليه: فيلزم منه زوال الحجر بنفسه، بدون الحاجة إلى حكم حاكم. الحالة الثانية: إن قضى المفلس بعض ما عليه بعد تقسيمه على الغرماء كل بحسب حصته ولم يستطع وفاء ما بقي: فإن الحجر لا يفكه إلا الحاكم، لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن السفيه يُحجر عليه بعد اختباره من قبل الحاكم، ولا يفك الحجر عنه إلا حاكم بعد اختبار رشده فكذلك المفلس مثله والجامع: أن الحاكم هو المستطيع لذلك الثانية: التلازم؛ حيث إن ثبوت إفلاس إنسان لا يكون إلا بعد دقة في البحث واستقصاء تام، ولا يقوى على ذلك إلّا الحاكم، وكذا: لا يقوى على إيقاف الغرماء إن أرادوا مطالبة المفلس بما بقي إلا الحاكم فلزم من ذلك: أنَّه هو الذي يفكُّ الحجر عنه، ويحميه من الآخرين، وهو المقصد منه تنبيه: ما سبق كله هو الكلام عن قسم: من حُجر عليه من أجل المحافظة على حقوق الآخرين، وما سيأتي هو: الكلام عن قسم من حُجر عليه من أجل المحافظة على حقوقه.
(26)
مسألة: يجب أن يُحجر على السفيه - إذا ظهر منه تبذير ماله -، والصغير، والمجنون بدون إذن حاكم، وهذا الحجر يكون في مالهم وفي ذممهم، وإذا أراد =
وديعة ونحوها: (رجع بعينه) إن بقي؛ لأنه ماله (وإن) تلف في أيديهم، أو (أتلفوه: لم يضمنوا)؛ لأنه سلَّطهم عليه برضاه: علم بالحجر أو لا؛ لتفريطه
(27)
(ويلزمهم أرش الجناية) إن جنوا؛ لأنه لا تفريط من المجنى عليه، والإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره (و) يلزمهم أيضًا (ضمان مال من لم يدفعه إليهم)؛ لأنه لا تفريط من المالك، والإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره
(28)
(وإن تمَّ لصغير خمس عشرة سنة): حُكم
= واحد منهم أن يتصرَّف ببيع أو شراء، أو إجارة فيجب أن يستأذن وليه للمصلحة: حيث إن هؤلاء قد ثبت ضعف عقولهم، فيغلب على الظن غشُّ الظلمة لهم في المعاملات، فيُحجر عليهم ويُمنعون من التصرُّف بأموالهم؛ حفظًا لها من الضياع، فإن قلت: لِمَ يُحجر على هؤلاء في أموالهم وذممهم والمفلس يُحجر في ماله فقط؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن حقَّ الغرماء قد تعلَّق في مال المفلس فقط دون ذمته؛ نظرًا لتحمُّل ذمته، أما هؤلاء فلا ذمَّة لهم، ولا أثر لخطاباتهم وتعهُّداتهم، فإن قلت: لِمَ لا يُحتاج إلى حكم حاكم في الحجر على هؤلاء؟ قلتُ: لأن عجزهم عن حسن التصرف وسهولة خداعهم معروف منتشر بين الناس، فلا يحتاج إلى حاكم يثبته.
(27)
مسألة: إذا أعطى شخص سفيهًا، أو صغيرًا، أو مجنونًا ماله على سبيل البيع، أو القرض، أو الإجارة، أو الوديعة، أو العارية أو نحو ذلك مما عليه عوض: ذلك فإنه يرجع بعينه إن بقي بدون تلف، أما إن تلف ما أعطاهم إيّاه بموت حيوان، أو عبد، أو انهدام دار: فإن هؤلاء لا يضمنون ذلك له: سواء تلف بتعدٍّ منهم، أو لا، وسواء كان عالمًا بالحجر عليهم أو لا، للتلازم: حيث إن ما أعطاهم إيّاه ماله وحقه، وتصرفهم فاسد فيلزم من ذلك: أن عين ما أعطاهم إيّاه باق على ملكه فيأخذه بعينه، ويلزم من تسليطهم على تلك العين برضاه: أنهم لا يضمنون تلك العين، نظرًا لتفريطه؛ لكون الحجر عليهم مشتهر لا يجهله أحد.
(28)
مسألة: إذا جنى سفيه، أو صغير، أو مجنون جناية على نفس، أو طرف، أو =
ببلوغه؛ لما روى ابن عمر قال: "عرضتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزني، وعُرِضت عليه يوم الخندَق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني" متفق عليه (أو نبت حول قبله شعر خشن) حكم ببلوغه؛ لأن سعد بن معاذ لما حكم في بني قريضة بقتلهم، وسبي ذراريهم: أمر أن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت: فهو من المقاتلة، ومن لم يُنبت فهو من الذرية، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" متفق عليه (أو أنزل) حكم ببلوغه؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}
(29)
= جرح؛ أو أتلف مالًا لغيره لم يدفع إليه كأن يحرق زرعًا، أو سيارة لغيره: فإنه يجب عليه أرش الجناية، ويضمن ما أتلفه، فيدفع وليه من ماله الأرش، والقيمة؛ لقاعدتين: الأولى التلازم؛ حيث إنه لا يُوجد تفريط من المجنى عليه، ولا من المالك للمال المتلف فيلزم من الجناية والإتلاف: دفع الأرش وقيمة المتلف من باب الحكم الوضعي، دون الحكم التكليفي؛ لأنه لما وجد السبب وهو الجناية والإتلاف - لزم وجود الحكم - وهو دفع الأرش وقيمة المتلف فلا تُشترط الأهلية، الثانية: المصلحة؛ حيث إنه لو لم تجب الدية، أو الأرش بسبب جناياتهم، ولم تجب قيمة المتلف بسبب إتلافاتهم: لأدَّى ذلك: أن يقوم بعض الظلمة بتسليط بعض السفهاء أو الصبيان، أو المجانين إلى أن يجنوا على آخرين، أو يتلفوا أموال آخرين، فيعم الضرر، فدفعًا لذلك: أوجب الشارع أن يدفعوا الأرش أو الدية بسبب جناياتهم، وأن يدفعوا قيمة ما أتلفوه، قال ابن القيم:"وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلّا بها".
(29)
مسألة: ينفكُّ الحجر عن الصبي، ويُحكم ببلوغه بواحد من ثلاثة أمور: أولها: إذا بلغ من العمر خمس عشرة سنة مع وجود الرشد؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد أجاز القتال لابن عمر يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة، في حين أنه لَم يجزه يوم أحد وهو له أربع عشرة سنة، وهذا يلزم منه: أن سن البلوغ =
(أو عقل مجنون، ورشدا) أي: من بلغ وعقل
(30)
(أو رشد سفيه: زال حجرهم)؛ لزوال علَّته، قال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}
(31)
(بلا
= خمس عشرة سنة ثانيها: إذا نبت حول قُبُلُه شعر خشن - وهو شعر العانة - مع وجود الرشد؛ للسنة التقريرية؛ حيث إن سعد بن معاذ لما جُعل له الحكم على بني قريظة: قد حكم أن يُقتل مقاتلتهم، وتُسبى ذراريهم فكان رضي الله عنه يكشف عن عانة الذكر منهم فإن كان قد نبت شعره: فيؤمر بقتله؛ لبلوغه، ومن لم ينبت له شيء: فهو من السبايا - فيكون صغيرًا - فأقرَّه عليه السلام على ذلك، ثالثها: إذا نزل المني من الشخص يقظة أو منامًا باحتلام أو عن طريق الجماع، مع وجود الرشد؛ فإنه يحكم ببلوغه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ؛ والمراد بالحلم هو: رؤية الطفل المني يخرج منه، لذلك أوجب الشارع أن يستأذنوا عند دخولهم على أهلهم؛ لئلا يطَّلعوا على عوراتهم؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، فإن قلت: لِمَ جُعلت هذه الأمور هي حدُّ البلوغ وانفكاك الحجر عنهم؟ قلتُ: لأن الصبي إذا وصل إلى هذا الحد من العمر، وثبت رشده: فإنه يُدرك حقائق الأمور، ولا يُغش في أكثر من المعاملات عادة وعرفًا.
(30)
مسألة: ينفكُّ الحجر عن المجنون البالغ إذا عقل وميَّز بين الخير والشر، والنافع والضار، والحق والباطل، مع وجود رشده وإدراكه لحقائق الأمور؛ للسنة القولية؛ حيث قال عليه السلام:"رفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يُفيق، والنائم حتى يستيقظ" والإفاقة هي: العقل والتمييز، فدلَّ مفهوم الغاية على أن المجنون إذا عقل، وميَّز بين الأمور: فإنه يُحكم بحسن تصرُّفه بماله، فيلزم فكُّ الحجر عنه، وهو المقصد منه، تنبيه: قوله: "ورشدا" يقصد رشد الصبي والمجنون، وقد سبق.
(31)
مسألة: ينفكُّ الحجر عن السفيه إذا رشد في عقله، وحفظ ماله، وتصرّف فيه =
قضاء) حاكم؛ لأنه ثبت بغير حكمه فزال لزوال موجبه بغير حكمه
(32)
(وتزيد الجارية) على الذكر (في البلوغ بالحيض)؛ لقوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة حائض إلّا بخمار" رواه الترمذي وحسَّنه (وإن حملت) الجارية: (حكم ببلوغها) عند الحمل؛ لأنه دليل إنزالها؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق الولد من مائهما، فإذا ولدت: حكم ببلوغها من ستة أشهر؛ لأنه اليقين
(33)
(ولا ينفكُّ) الحجر عنهم (قبل
= تصرُّف العقلاء؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فأوجب الشارع دفع المال لصاحبه إذا رشد وزال السفه مع بلوغ وعقل؛ لزوال المانع من دفعه إليهم؛ لأن الأمر في قوله "فادفعوا" مطلق، وهو يقتضي الوجوب، ويلزم منه: انفكاك الحجر عنهم، ويعم هذا السفيه والمجنون، والصبي.
(32)
مسألة: ينفكُّ الحجر عن الصبي، والمجنون، والسفيه إذا بلغوا، وعقلوا، ورشدوا بغير حكم حاكم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ثبوت الحجر عليهم بغير حكم حاكم: أن يزول بدون حكمه؛ نظرًا لزوال سببه وهو: الصبا، والجنون، والسفه.
(33)
مسألة: ينفكُّ الحجر عن الصبية والأنثى، ويُحكم ببلوغها بواحد من خمسة أمور: أولها: إذا بلغت خمس عشرة سنة مع الرشد، ثانيها: إذا نبت حول قبلها شعر خشن - وهو شعر العانة - مع الرشد ثالثها: إذا أنزلت المني يقظة أو منامًا مع الرشد - وقد سبق ذكر قواعد ذلك في مسألة (29) - رابعها: إذا حاضت، مع رشدها فتبلغ بذلك ويفك عنها الحجر، ولو لم تبلغ خمسة عشر عامًا، ولو لم تُنبت شعرًا، ولو لم تُنزل المني؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة حائض إلّا بخمار" فبيَّن أن الحائض تُقبل صلاتها الواجبة بشرط: وضع الخمار عليها، ولا تقبل صلاة إلّا من بلغ قبول واجب، خامسها: إذا حملت الأنثى مع رشدها: فيحكم ببلوغها ويُفكُّ عنها الحجر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من =
شروطه) السابقة بحال، ولو صار شيخًا
(34)
(والرشد: الصلاح في المال)؛ لقول ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أي: صلاحًا في أموالهم، فعلى هذا: يُدفع إليه ماله وإن كان مفسدًا لدينه ويُؤنس رُشده (بأن يتصرَّف مرارًا فلا يُغبن) غبنًا فاحشًا (غالبًا، ولا يبذل ماله في حرام) كخمر، وآلات لهو، (أو في غير فائدة) كغناء ونفط؛ لأن مَنْ صرف ماله في ذلك: عُدَّ سفيهًا
(35)
(ولا يُدفع إليه) أي: الصغير
= حملها: ثبوت إنزالها للمني؛ لكونها لا تحمل إلا إذا أنزلت مع الزوج قال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ، والإنزال يثبت البلوغ (فرع): إذا ولدت: فإنه يُحكم ببلوغها قبل ولادتها بستة أشهر، للتلازم؛ حيث إن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فيلزم منه ثبوت بلوغها حين حدوث الحمل: لأنه لم يحدث إلّا بالإنزال، والإنزال من علامات البلوغ.
(34)
مسألة لا يُفكُّ الحجر عن الصبي، والمجنون، والسفيه قبل البلوغ، والعقل، والرشد وزوال السفه - كما سبق في مسائل (29 إلى 33) - فإن لم يعقل، أو يرشد فلا يُفكُّ عنه الحجر ولو كان شيخًا كبيرًا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فعلَّق دفع المال على الرشد والعقل، ودلَّ مفهوم الشرط على أنه إذا لم يتبيَّن رشدهم وحسن تصرُّفهم في دينهم وأموالهم: فلا يدفع إليهم شيء من أموالهم، مهما كانت أعمارهم، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ وحماية لأموالهم من أن تضيع.
(35)
مسألة: المقصود من الرشد: أن يكون صالحًا في إدارة أمواله فيُعطى ماله وإن كان فاسقًا وهذا له علامات: أولها: عدم وقوع الغبن عليه غبنًا فاحشًا، أو في غالب معاملاته: فإن وقع ذلك بأن اشترى سلعة بعشرة، وهي لا تساوي ستة: فليس براشد، ثانيها: أن لا يبذل ماله في أمور محرَّمة كأن يشتري الخمور ونحوها ثالثها: أن لا يبذل ماله في أمور لا فائدة منها في الآخرة، ولا في الدنيا كشرائه =
(حتى يختبر)؛ ليُعلم رشده (قبل بلوغه بما يليق به)؛ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية، والاختبار يختص بالمراهق الذي يعرف المعاملة والمصلحة
(36)
(ووليهم) أي:
= الحيوانات ليلعب بها أو شراء شيء ليحرقه، فمن فعل هذه الأمور الثلاثة، أو أحدها: فليس براشد، ويُعتبر سفيهًا، فيستمر الحجر عليه؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس قد فسَّر الرشد الوارد في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} بالصلاح في المال فقط، وتفسير الصحابي حجة الثانية: التلازم؛ حيث إن توفر تلك الأمور الثلاثة يلزم منها الحكم غالبًا برشد وصلاح المتوفَّرة فيه في العادة والعرف، فإن قلتَ: إن المقصود من الرشد الصلاح في المال والدِّين، وهو قول الشافعي وابن عقيل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إفساده في دينه: عدم الثقة في حفظ ماله قلتُ: هذا لا يلزم فقد يكون الفاسد أصلح من الصالح في دينه في حفظ ماله، وقد يكون العكس، وقد يتساويان، ومع هذا الاحتمال لا يلزم ما ذكرتموه فإن قلتَ ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الفاسق في دينه هل يلزم منه: عدم حفظ ماله أولا؟ " فعندنا: لا يلزم، وعندهم: يلزم، فائدة: بعضهم يُسمِّي إحراق ماله للتفرج "نفطًا" بكسر النون، وهو من السفه لذلك يحجر على فعل من مثل ذلك.
(36)
مسألة: الصبي المميز الذي يعرف بعض المعاملات، وما تقتضيه مصلحته فيها: يجب على وليه أن يُجري عليه بعض الاختبارات التي تليق به وتناسبه في بيع وشراء ونحو ذلك، فإن ثبت صلاحه ورشده في ذلك بعلامات قد سبق ذكرها - في مسألة (35) -: فإنه يُدفع إليه ماله ويُفك حجره عند بلوغه مباشرة بعلاماته - المذكورة في مسألتي (29 و 33) - وإن لم يثبت صلاحه ورشده: فلا يُدفع إليه شيء من ماله للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فأوجب الشارع على الولي أن يختبر الصبي والصبية قبل سن البلوغ؛ لأن الأمر في قوله: "وابتلوا" مطلق فيقتضي =
ولي السفيه الذي بلغ سفيهًا واستمر، والصغير والمجنون (حال الحجر: الأب) الرشيد، العدل ولو ظاهرًا؛ لكمال شفقته (ثم وصيُّه)؛ لأنه نائبه ولو بُجعْل، وثمَّ متبرِّع (ثم الحاكم)؛ لأن الولاية انقطعت من جهة الأب: فتعيّنت للحاكم
(37)
، ومن
= الوجوب، ولأن لفظ "اليتامى" يلزم منه: أن وجوب الابتلاء والامتحان يكون قبل البلوغ؛ لكون البالغ لا يُسمَّى يتيمًا، ودلَّت الآية - أيضًا - على أن الولي إذا ثبت لديه رشد ذلك الصبي - أو الصبية -: فإنه يدفع له ماله، ودلّ مفهوم الشرط على عدم دفع الولي للصبي ماله إن لم يثبت رشده وصلاحه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن تأخير الاختبار إلى ما بعد بلوغه يؤدِّي إلى استمرار الحجر عليه مُدَّة أطول، فتضيع عليه بعض مصالحه، فدفعًا لذلك شرع هذا الحكم. (فرع): الولي لا يدفع للبالغ الرشيد ماله إلّا بعد أن يُشهد على ذلك شهود معتبرين ويكتب الرشيد قرارًا بذلك؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية للولي من أن يُطالبه ذلك البالغ الرشيد بعد ذلك بشيء من ماله، أو يدَّعي عليه بأي دعوى.
(37)
مسألة: الأب العادل الرشيد هو الذي يتولَّى مال السفيه والصبي والمجنون حال الحجر، فإن لم يُوجد أب، فإن الذي يتولَّى ذلك وصيُّه ولو ببدل وجُعْل، فإن لم يُوجد وصي، فإن الذي يتولّى ذلك أيُّ شخص تبرَّع بالولاية وهو صالح لها، فإن لم يُوجد متبرِّع: فإن الذي يتولى ذلك: الحاكم العادل - وهو القاضي - وللقاضي أن يُولِّي من شاء ممن يراه صالحًا لذلك؛ للمصلحة: حيث إن الأب العادل الرشيد أشفق على أولاده عادة فقُدِّم؛ فيكون أحفظ للمال، ثم وصيه؛ إذ لا يُوصي الأب عادة إلّا من كان مثله في الشفقة على أولاده، فقُدِّم، ثم متبرِّع بالولاية؛ لكون المتبرِّع في العادة أخلص من غيره، فقُدِّم، ثم الحاكم العادل القوي لكونه ولي من لا ولي له:(فرع): الولاية على هؤلاء لا تحتاج إلى حكم حاكم إلا إذا امتنع بعضهم من طاعة الولي، فيُرجع إلى الحاكم ليُقرِّر ذلك. (فرع =
فُكَّ عنه الحجر فسفه: أعيد عليه، ولا ينظر في ماله إلّا الحاكم كمن جُنَّ بعد بلوغ ورُشْد
(38)
(ولا يُتصرَّف لأحدهم وليُّه إلا بالأحظ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} والسفيه والمجنون في معناه
(39)
، (ويتَّجر) ولي المحجور عليه (له مجَّانًا) أي: إذا اتَّجر ولي اليتيم في ماله كان الربح كله لليتيم؛ لأنه نماء ماله فلا يستحقه غيره إلّا بعقد، ولا يعقد الولي لنفسه
(40)
= ثان) تشترط العدالة في كل ولي؛ إذ لا ولاية بلا عدالة للمصلحة، وهي واضحة.
(38)
مسألة: إذا فُكَّ الحجر عن شخص، ودُفع إليه ماله ثم صار سفيهًا بعد ذلك: فإنه يُعاد إليه الحجر، ويُمنع من التصرُّف بماله، والذي يفعل ذلك هو الحاكم فقط، دون الأب ونحوه؛ للقياس؛ بيانه كما أن الشخص البالغ العاقل الراشد لو جُنَّ فإنه يحجر عليه الحاكم، ويمنعه من التصرُّف في ماله فكذلك الشخص إذا سفه مثله والجامع: وجود سبب الحجر فيلزم وجود حكمه وهو: الحجر، فإن قلتَ لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لمال المحجور عليه، فإن قلتَ: لِمَ لا يحجر عليه إلّا الحاكم دون غيره؟ قلتُ: لأن هذا السفه والجنون حدث بعد رشده، ولا مدخل للأب فيه بعد رشده، وما لا مدخل للأب فيه: فإنه يُرجع فيه إلى الحاكم.
(39)
مسألة: إذا تولّى شخص على صبي ومجنون وسفيه: فلا يجوز له أن يتصرَّف في أموالهم إلا بالأحظ، والأحوط والمصلحة لهؤلاء؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} والمراد: تصرَّفوا في مال اليتيم والصبي بشرط: أن يكون هذا التصرُّف في مصلحة هذا المال لأن الاستثناء من النفي إثبات، ومال السفيه، والمجنون مثل مال الصبي في ذلك؛ لعدم الفارق فيكون من باب "مفهوم الموافقة المساوي" بجامع: تنمية أموالهم في كل وهو المقصد.
(40)
مسألة: ولي السفيه والمجنون والصبي، يُستحب له أن يُتاجر بمال هؤلاء، بدون مقابل؛ للتلازم؛ حيث إن هذه المتاجرة وقعت بمال ذلك المحجور عليه: فيلزم أن =
(وله دفع ماله) لمن يتَّجر فيه (مضاربة بجزء) معلوم (من الربح) للعامل؛ لأن عائشة أبضعت مال محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، ولأن الولي نائب عنه فيما فيه مصلحته، وله البيع نساء، والقرض برهن، وإيداعه، وشراء العقار، وبناؤه لمصلحة
(41)
، وشراء الأضحية لموسر
(42)
،
= يكون الربح لصاحب المال، ولا يستحقه الولي إلّا بعقد، ولا يجوز للولي أن يعقد لنفسه؛ لكونه سيأخذ الأحظ له، وهذا لا يجوز، فإن قلت: لِمَ استُحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة، حيث إن ذلك فيه تنمية لأموالهم، وأشار إلى ذلك عمر بقوله:"اتجروا بأموال اليتامى؛ كيلا تأكلها الصدقة".
(41)
مسألة: يُستحب لولي صبي، ومجنون وسفيه: أن يدفع مال هؤلاء إلى عامل يتَّجر فيه عن طريق شركة المضاربة بجزء معلوم يكون للعامل، وإذا اقتضت المصلحة أن يُقرض عقار هؤلاء برهن، أو أن يُودِعه، أو أن يشتري عقارًا له، أو أن يبني شيئًا لمصلحته: فإنه يفعل ذلك، ولو تلف هنا المال الذي تصرَّف فيه الولي من غير تفريط: فلا يضمنه؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابي؛ حيث إن عائشة اتّجرت بمال أخيها محمد بن أبي بكر، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الولي نائب عن المحجور عليه من هؤلاء فيفعل كما يفعل أيُّ شخص غير محجور عليه فيما تقتضيه المصلحة ودفع المفسدة، ولا يضمن؛ لكونه لم يُفرِّط.
(42)
مسألة: يُستحب لولي صبي موسر أن يشتري له أضحية من مال ذلك الصبي؛ للقياس؛ بيانه: كما يُستحب أن يشتري له ثيابًا حسنة في يوم العيد، فكذلك يُستحب شراء الأضحية من ماله والجامع: تحصيل جبران قلبه، وإدخال السرور إليه إذا كان يعقل التضحية (فرع): يجوز أن يتصدَّق ولي الصبي ببعض لحم الأضحية عنه؛ للقياس؛ بيانه كما يتصدَّق البالغون فكذلك الصبي مثلهم والجامع إظهار اليُسر، والمواساة في كل. (فرع ثان) يُستحب للولي أن يشتري للصبي أو الصبية بعض الألعاب المباحة التي يلهو بها من مالهما؛ للقياس؛ بيانه: =
وتركه في المكتب بأجرة
(43)
، ولا يبيع عقاره إلا لضرورة، أو غبطة
(44)
(ويأكل الولي الفقير من مال موليه)؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (الأقلَّ من كفايته أو أجرته) أي: أجرة عمله؛ لأنه يستحق بالعمل، والحاجة جميعًا، فلم يجز أن يأخذ إلا ما وُجدا فيه (مجانًا) فلا يلزمه عوضه إذا أيسر؛ لأنه عوض عن عمله، فهو فيه كالأجير والمضارب
(45)
(ويُقبل قول الولي) بيمينه (والحاكم) بغير يمين (بعد فكِّ
= كما أن الصبيان الذين لهم آباء يُشترى لهم ذلك: فكذلك اليتيم مثلهم والجامع: إدخال السرور وجبر القلوب في كل.
(43)
مسألة: يُستحب لولي اليتيم - وهو الصبي الموسر أن يُعلِّمه القراءة والكتابة، وأن يُعلِّمه صنعة ينتفع من ورائها، وأن يُعلِّمه السباحة والرماية، والأدب، وأن يغرس في نفسه حبَّ العلم، وهذا يفعله بأجرة من مال الصبي؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة له، ودفع مفسدة عنه، و معلوم: أن العز في أدب وعلم، وأن في الجهل الذل والمهانة.
(44)
مسألة: يجوز أن يبيع الولي عقار صبي، أو مجنون، أو سفيه إذا اقتضت المصلحة ذلك: سواء كانت ضرورية أو حاجية أو تحسينية للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تنمية ماله، أو إنقاذه من الضياع، فإن قلتَ: لا يجوز بيع العقار إلّا للضرورة كاحتياجه إلى كسوة أو أكل أو سكن فقط، أو أن يُدفع في ذلك العقار ثمن فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن بيع عقار هؤلاء بدون ضرورة تفويت لبعض حقهم، قلتُ: لا يُوجد تفويت لبعض حقهم إذا رأى الولي العدل الراشد أن بيعه في مصلحتهم وإن لم تكن ضرورية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" فعندنا: يُكتفى بأي مصلحة يراها الولي، وعندهم: لا يُكتفى إلّا بالمصلحة الضرورية.
(45)
مسألة: إذا كان ولي الصبي والمجنون والسفيه فقيرًا: فإنه يأكل من مال هؤلاء أكلًا أقل ما يكون كفايته أو أجرة لعمله مجانًا، فلو كانت أجرة مثله عشرة =
الحجر في النفقة) وقدرها ما لم يخالف عادة وعرفًا
(46)
، ولو قال: "أنفقتُ عليك منذ
= ريالات، وقدر كفايته خمسة عشر: فيأخذ عشرة فقط، ولو أيسر هذا الولي فلا يجب عليه أن يدفع ما أخذه إلى مال الصبي والمجنون والسفيه؛ لقواعد، الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} والمعروف: هو قدر المثل وهو ما تعارف عليه عقلاء الناس؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال له إني فقير ولي يتيم له مال، فقال له النبي عليه السلام:"كل من مال يتيمك غير مسرفٍ، ولا مُبذِّرٍ ولا متأثِّل" والذي صرف الأمر في الآية والحديث من الوجوب إلى الإباحة أن الأمر جاء بعد حظر؛ حيث يُحظر ويحرم الأكل من مال الغير بغير إذنه، فجاء هذا الأمر ليبيح ذلك بالمعروف؛ الثالثة: القياس؛ بيانه كما أن الأجير والمضارب يأخذان أجرة لعملهما، فكذلك ولي الصبي والمجنون والسفيه له الأخذ من مالهم والجامع: أن كلًّا منهم يأخذ بدل عمل يؤدِّيه، فإن قلتَ لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سدُّ حاجة هذا لولي الفقير ليتفرَّغ لإدارة مال الصبي أو المجنون أو السفيه كما يُعطى إمام المسجد ومؤذِّنه، والناظر على الوقف ليتفرَّغوا لذلك.
(46)
مسألة: إذا اختلف ولي مع موليه - وهو الصبي، أو المجنون أو السفيه - بعد بلوغه وعقله ورشده - في قدر النفقة التي أنفقها الولي فقال هؤلاء:"إنك أيها الولي قد تعدَّيت بالنفقة وأكثرت منها فزال أكثر ما نملك" فقال الولى: لم أتعدَّ: فإنه يُقبل قول الولي مع يمينه بشرط: أن لا يُخالف قوله فيما أنفقه عادة وعرف عقلاء الناس في نفقاتهم؛ للقياس؛ بيانه: كما يُقبل قول المودَع مع يمينه فيما أنفقه على الوديعة فكذلك يُقبل قول الولي هنا، والجامع: أن كلًّا من الوديعة ومال المحجور عليه يعتبران وديعة عند أمين عدل، فإن قلت: لِمَ شُرِّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو لم يُقبل قول الولي في ذلك: لما تولَّى أحد على أحد؛ نظرًا لخوف التهمة والتشهير ببعض من يعمل خيرًا، فدفعًا لذلك: شرع هنا، واشترط ذلك الشرط؛ لأن العادة محكَّمة.
سنتين" فقال: "من سنة": قدم قول الصبي؛ لأن الأصل: موافقته، قاله في "المبدع"
(47)
(و) يُقبل قول الولي أيضًا في وجود (الضرورة والغبطة) إذا باع عقاره وادَّعاهما، ثم أنكره (و) يُقبل قول الولي أيضًا في (التلف) وعدم التفريط؛ لأنه أمين، والأصل براءته (و) يُقبل قوله أيضًا في (دفع المال) إليه بعد رشده؛ لأنه أمين
(48)
،
(47)
مسألة: إذا اختلف الولي مع موليه - وهو الصبي والمجنون والسفيه بعد بلوغه وعقله ورشده - في مُدَّة النفقة فقال الولي: "أنفقتُ عليك من مالك سنتين" وقال الواحد من هؤلاء: "بل أنفقت عليّ سنة واحدة ولا بيّنة: فإنه يُقبل قول الصبي والمجنون والسفيه بعد البلوغ والعقل والرشد مع يمينه؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل حياة والد الصبي وعقل المجنون، ورشد السفيه، فيُستصحب ما وافق الأصل، وهو الأقل مُدَّة ويُعمل به.
(48)
مسألة: إذا اختلف الولي مع موليه - وهو الصبي، والمجنون والسفيه بعد البلوغ والعقل والرشد - في بيع العقار للضرورة أو عدمها وفي التلف، وفي دفع المال فقال الولي:"إني بعتُ عقارك لاقتضاء المصلحة لذلك" أو قال: "إن مالك تلف من غير تفريط مني" أو قال: "إني دفعت لك مالك بعد رشدك مباشرة" فأنكر الصبي أو المجنون، أو السفيه بعد البلوغ والعقل، والرشد ما قاله الولي في تلك الصور الثلاث: فإنه يُقبل قول الولي مع يمينه؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُقبل قول المودَع في أي تصرُّف تصرَّفها في مصلحة الوديعة، وفي تلفها من غير تفريط، وفي دفعها للمودِع مع يمينه فكذلك يقبل قول الولي فيما يخص تلك الأمور الثلاثة والجامع: أن كلًّا منهما أمين، والأصل براءته، فإن قلت: لِمَ شُرِّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة، وقد بيَّناها في مسألة (46) - (فرع): يُقبل قول الولي في تلك الصور - التي في مسألتي (46 و 48) - مع يمينه إذا لم يكن الولي هو الحاكم أو الأب أما هما فيُقبل قولهما بدون يمين؛ للتلازم: حيث إن احتمال صدق الصبي، والمجنون، والسفيه بعد البلوغ والعقل والرشد قريب فلزم مشروعية اليمين احتياطًا، ويلزم =
وإن كان بجُعْل: لم يُقبل قوله في دفع المال؛ لأنه قبضه لنفعه كالمرتهن
(49)
، ولولي مميِّز وسيده أن يأذن له في التجارة فينفكُّ عنه الحجر بقدر ما أذن له فيه
(50)
(وما استدان
= من كون الحاكم هو الوالي العام، واستبعاد تهمته، وكون الأب لا يُخاصمه ولده وبعد تهمته في ذلك: قبول قولهما بدون يمين تنبيه: قوله: "في الضرورة والغبطة" قلتُ: هذا على رأي المصنف المرجوح كما سبق في مسألة (44).
(49)
مسألة: إذا تولَّى شخص على صبي، أو مجنون، أو سفيه بجُعْل وأُجرة ونسبة يأخذها نظير هذه الولاية، وادَّعى أنه دفع المال إلى الصبي لما بلغ، وإلى المجنون لما عقل، والسفيه لما رشد وكذَّبه هؤلاء: فإنه يقبل قولهم؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المرتهن لو ادَّعى ردَّ العين المرهونة، وأنكر ذلك الراهن: فإنه يقبل قول الراهن فكذلك الحال هنا، والجامع: أن إطالة قبض المرتهن والولي فيه منفعة لهما فتكون التهمة متوجهة إليهما أكثر، فلذا تُرك قولهما، وقبل قول الراهن وهؤلاء - أعني الصبي والمجنون والسفيه لما بلغوا، وعقلوا، ورشدوا -.
(50)
مسألة: يُباح لولي حر مميِّز، ويُباح لسيد عبد مميز أن يأذنا لهذا الصبي المميز، وهذا العبد المميز في مزاولة التجارة، وبناء على هذا: ينفكُّ الحجر عنهما في قدر ونوع ما أُذن لهما فيه فقط، فإذا أذنا لهما في التجارة بألف مثلًا: لم يصح تصرُّفهما في أكثر منه، وإذا أذنا لهما في التجارة في ثياب مثلًا: لم يصح أن يتصرَّفا في تجارة طعام ونحو ذلك؟ لقاعدتين الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} والذي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الإباحة أنه أمرٌ ورد بعد حظر؛ حيث إنه يُحظر ويُحرم جعل اليتيم - وهو الصبي - يتصرَّف في ماله، فورود هذا الأمر مر بعد هذا الحظر: أفاد الإباحة، وهذا الابتلاء والامتحان يكون في مرحلة حلة الصبا؛ لأن هذا هو اللازم من لفظ "اليتامى"؛ لأن اليتيم هو الذي لم يبلغ؛ الثانية: القياس؛ بيانه كما أن العبد الكبير يُؤذن له بالتصرُّف بالتجارة فترة مُعيَّنة في شيء مُعيَّن فكذلك الصبي المميز، والعبد الصغير المميز مثله والجامع: أن =
العبد: لزم سيده) أداؤه (إن أذن له) في استدانته ببيع أو قرض؛ لأنه غرّ الناس بمعاملته (وإلا) يكن استدان بإذن سيده (فـ) ما استدانه (في رقبته): يُخيَّر سيده بين بيعه وفدائه بالأقل من قيمته أو دينه ولو أعتقه، وإن كانت العين باقية: رُدَّت لربها (كاستيداعه) أي: أخذه وديعة فيتلفها (وأرش جنايته، وقيمة متلفه) فيتعلَّق ذلك كله برقبته، ويُخيَّر سيده كما تقدَّم
(51)
ولا يتبرَّع المأذون له بدراهم، ولا كسوة، بل
= كلًّا منهما محجور عليه، والمقصد من ذلك: تعليم هؤلاء على التصرُّف الحسن قبل أن يستلم ماله.
(51)
مسألة: إذا استدان العبد، أو اقترض أو باع، أو اشترى أو أخذ وديعة، أو جنى: ففيه حالات. الحالة الأولى: إن كان ما استدانه أو اقترضه باقيًا على حاله: فإن الدائن، والمقرض يأخذه بعينه؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من فساد العقد: بقاء ملكه عليه؛ لأن العقد العبد فاسد الحالة الثانية: إن كان ما استدانه أو اقترضه بإذن من سيده: فيجب على هذا السيد وفاء وأداء ما تحمَّله عبده؛ للمصلحة: حيث إن السيد غرَّ الناس بمعاملته لما أذن له بالاستدانة والقرض، أو البيع، فيجب أن يتحمَّل السيد ذلك؛ دفعًا للضرر عمَّن تعامل مع عبده، الحالة الثالثة: إن كان ما استدانه العبد، أو باعه أو اشتراه، أو اقترضه، أو أخذه كوديعة وأتلفها أو جنايته، أو إتلافه شيئًا وقع ذلك كله بدون إذن سيده: فإن العبد هو الذي يُطالب بذلك وتتعلَّق برقبته، دون سيده، وفي هذه الحالة يُخيَّر سيده بين بيعه، وتسديد ما تعلَّق برقبته من تلك المعاملات من قيمته؛ بحيث لا يزيد هذا الدين عن القيمة التي باعه بها، أو أن يفديه سيده، ويُسدِّد عن عبده بأقل من قيمته: فمثلًا: لو كانت قيمة العبد ألف ريال، وما تعلَّق برقبته ألفين: لم يلزم السيد إلا ألف فقط، وكذلك: لو أعتقه سيده ألزم بدفع ما تعلَّق برقبته، والأقل من قيمته أو الدَّين؛ للتلازم: حيث إن العبد هو الجاني، وهو المتصرِّف بغير إذن سيده فيلزم أن يتحمَّل تبعات هذا التصرف، فلا يجب على غيره شيء، =
بإهداء مأكول، وإعارة دابة، وعمل دعوة بلا إسراف
(52)
، ولغير المأذون له الصدقة من قوته بنحو رغيف إذا لم يضرُّه
(53)
، وللمرأة الصدقة من بيت زوجها بذلك ما لم تضطرب العادة، أو يكن بخيلًا، أو تشكُّ في رضاه
(54)
.
= ولذلك يُخيَّر السيد بما ذكرناه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا التفصيل؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس.
(52)
مسألة: المأذون له في التجارة من العبيد لا يحقُّ له أن يتبرَّع بدراهم، ولا كسوة: وإن قلَّ، وله أن يُعير دابة، وأن يدعو بعض أصحابه إلى دعوة يُقيمها بلا إسراف؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث كان عليه السلام "يُجيب دعوة المملوك" وهذا يدلّ على أن لهم الدعوة إلى وليمة من غير إسراف، وإعارة دابة ونحوهما مثل ذلك؛ لعدم الفارق، الثانية: التلازم؛ حيث إن التبرُّع بالدراهم أو الكسوة ليس من التجارة في شيء فيلزم عدم جوازهما له، والمقصد: الحفاظ على مال سيده.
(53)
مسألة: غير المأذون له في التجارة من العبيد يباح له أن يتصدَّق من قوته بما يستطيعه بشرط: عدم إلحاق الضرر على نفسه، وعدم إرهاقه بحيث يؤثر على عمله عند سيده؛ للعرف والعادة؛ حيث جرت العادة بمسامحة الأسياد لعبيدهم في ذلك.
(54)
مسألة: يُباح للمرأة أن تتصدَّق من بيت زوجها برغيفٍ ونحوه وكذا الخازن بشروط ثلاثة: أولها: إذا كانت العادة في المجتمع الذين يعيشون فيه قد جرت بذلك، دون نكير، فإن اضطربت واختلفت العادة فبعضهم يمنع، والآخرون يجيزون: فلا يُباح ذلك، ثانيها: أن لا يكون زوجها بخيلًا: بحيث يحاسبها على دقائق الأمور، فإن كان كذلك: فلا يُباح لها ذلك، ثالثها: أن يغلب على ظنها رضى زوجها بهذه الصدقة، أما إن كانت تشكُّ في ذلك: فلا يُباح لها ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة: كان لها أجرها بما أنفقت وله مثله بما كسب، وللخازن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* * *
= مثل ذلك من غير أن ينقص من أجورهم شيء" ويلزم منه جواز ذلك بدون إذن الزوج؛ لكونه لم يذكر الإذن هنا، الثانية: العرف والعادة؛ حيث إنه اعتاد الناس على التسامح في مثل هذه الأمور إلا إن كان الزوج غير معتاد لذلك، أو كان بخيلًا، أو غلب على الظن عدم رضاه؛ لكونه لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفس منه.
هذه آخر مسائل باب "الحجر"، ويليه باب "الوكالة".
باب الوكالة
بفتح الواو وكسرها: التفويض، تقول:"وكلتُ أمري إلى الله" أي فوّضته إليه واصطلاحًا: استنابة جائز التصرُّف مثله فيما تدخله النيابة
(1)
(تصحُّ) الوكالة (بكل قول يدل على الإذن) كـ "اِفعل كذا" أو "أذنتُ لك في فعله" ونحوه
(2)
، وتصح مؤقتة،
باب الوكالة
وفيه ثلاث وأربعون مسألة:
(1)
مسألة: الوكالة لغة: التفويض، ومنه قولك:"وكَّلتُ فُلانًا" أي: فوَّضتُ أمري إليه، وهي الاصطلاح:"أن يستنيب جائز التصرُّف - وهو: المكلَّف الحرُّ الرشيد - من هو مثله في أمر تدخله النيابة من الأحكام الفقهية"، فتكون أركانها: الموكّل، والوكيل، والموكَّل فيه؛ وهو عام: فيشمل: كون الوكيل والموكل ذكرين أو أنثيين، أو ذكر وأنثى، ويشمل الموكَّل فيه: ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وما يتعلَّق بحقوق الآدميين - مما سيأتي بيانه (فرع)؛ الوكالة جائزة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} حيث إنهم وكلاء الحاكم في أخذ الزكاة وجمعها - كما سبق - وقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} أي: اجعلني وكيلًا عنك، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث كان عليه السلام يبعث عماله في قبض الزكاة، وكان يأمر غيره بإقامة الحدود عنه، ووكَّل أبا رافع في تزويج ميمونة، فإن قلتَ: لَم شُرّعت الوكالة؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن بعض الناس قد لا يتمكَّن من فعل كل شيء بنفسه: إما بسبب مرض عضوي أو نفسي، أو انشغاله بما هو أهم، أو لضيق الوقت، فشُرعت؛ تيسيرًا وتسهيلًا وتوسعة على العباد.
(2)
مسألة: تصح الوكالة بكل لفظ يدل على الإذن من الموكِّل لغيره في التصرف في أملاكه كأن يقول زيد لبكر: "اِفعل كذا" أو "أذنتُ لك في فعل كذا" أو "أقمتك مقامي" أو "فوَّضت إليك في كذا" أو "جعلتك نائبًا عني" ونحو ذلك، وتنعقد =
ومعلقة بشرط كوصية وإباحة أكل، وولاية قضاء، وإمارة
(3)
(ويصح القبول على الفور والتراخي) بأن يُوكِّله في بيع شيء فيبيعه بعد سنة، أو يُبلغه أنه وكَّله بعد شهر فيقول:"قبلتُ" (بكل قول أو فعل دال عليه أي على القبول؛ لأن "قبول وكلائه عليه السلام كان بفعلهم، وكان متراخيًا عن توكيله إياهم" قاله في "المبدع"
(4)
، ويُعتبر
= بالكتابة الدالة على الوكالة؛ للقياس؛ بيانه كما أن لفظ: "وكَّلتك" يدل على الإذن في التصرُّف عنه، فكذلك تلك الألفاظ تدلّ عليه والجامع: أن كلًّا منها يُفهم منها الإذن أو معناه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التقييد بصيغة معيَّنة فيه ضيق وحرج، فدفعًا لذلك: شُرع التوسُّع في ذلك.
(3)
مسألة تصح الوكالة فترة معيَّنة من الوقت كقولك: "وكَّلتك شهرًا في كذا" وتصح مطلقة كقولك: "وكلتك وكالة دائمة إلى أن أفسخها"، وتصح بدون تعليق بشرط كما سبق، وتصح معلَّقة بشرط كقولك:"وكَّلتك على كذا إذا قدم فلان من السفر"، أو إذا جاء الصيف فأنت وكيلى على كذا"؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة"، وهذه وكالة معلقة بالشرط، الثانية: القياس؛ بيانه: كما تصح الإمارة - كما سبق - والوصية وولاية القضاء، وإباحة الأكل مطلقة، ومؤقتة بوقت معين، ومعلَّقة بشرط فكذلك الوكالة مثل ذلك والجامع: أن الحاجة داعية إلى ذلك في كل كما قال ابن القيم، وهو المقصد ذلك.
(4)
مسألة: يصح أن يقبل الوكيل الوكالة على الفور، وعلى التراخي بكل قول أو فعل يدلّ على قبولها كقول الوكيل:"قبلتُ" أو يفعل ما وُكَّل به: كأن يُوكِّل زيد بكرًا بأن يبيع له هذه الدار، فيبيعها له بكر بدون كلام، وهذا يشمل الفورية في فعل الوكيل، والتراخي؛ للسنة التقريرية؛ حيث كان عليه السلام يُوكِّل بعض أصحابه في قبض الزكاة، وشراء الحاجات، وإقامة بعض الجنايات على الغير ونحو ذلك، وكانوا يقبلون ذلك بقولهم، وبفعلهم على الفور وعلى التراخي =
تعيين الوكيل
(5)
(ومن له التصرُّف في شيء) لنفسه: (فله التوكيل) فيه (والتوكُّل فيه) أي: جاز أن يستنيب غيره، وأن ينوب عن غيره؛ لانتفاء المفسدة، والمراد: فيما تدخله النيابة - ويأتي -، ومن لا يصح تصرُّفه بنفسه فنائبه أولى، فلو وكَّله في بيع ما سيملكه، أو طلاق من يتزوجها: لم يصح
(6)
، ويصح توكيل امرأة في طلاق نفسها وغيرها، وأن يتوكَّل واجد الطول في قبول نكاح أمة لمن تُباح له، وغني لفقير في قبول
= بدون نكير منه عليه السلام، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الموكِّل والوكيل.
(5)
مسألة: يُشترط على الموكِّل أن يُعيِّن الوكيل ويذكره بعينه، أو يُشير إليه في المجلس، فيقول:"وكلتُ فلانًا بن فلان على كذا" أو يقول: "وكلتُ هذا وهو يعرفه" مشيرًا إلى أحد الجالسين، فإن قال:"وكلتُ أحد هذين": فلا يصح؛ للمصلحة: حيث إن الجهالة فيها تغرير للناس وكثرة تنازع فلزم: أن يُعيَّن الوكيل دفعًا لذلك.
(6)
مسألة: الشخص الذي يصح أن يُوكِّل غيره ويُنيب عنه؛ والشخص الذي يتوكَّل عن غيره ويستنيب عن غيره هو: كلُّ شخص يصح تَصرُّفه في شيء لنفسه: بأن يبيع ويشتري ويؤجِّر، ويُوهب، ويتصدَّق ونحو ذلك بدون وصاية، أو ولاية، أو استئذان من أحد، وبناء على هذا: إذا لم يصح تصرُّفه في شيء كأن يكون ملكًا لغيره: فلا يصح أن يوكل غيره فيه كأن يُوكِّل زيد بكرًا في أن يبيع دارًا لم يملكها زيد، وكأن يُوكِّله بأن يُطلِّق امرأة لم يتزوجها زيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من صحة تصرُّفه في شيء تدخله النيابة: أن يُوكِّل غيره في ذلك لعدم وجود مفسدة، ويلزم من عدم صحة تصرُّفه في ذلك الشيء: عدم صحة توكيل غيره فيه من باب أولى؛ لأن الوكيل فرع للموكِّل، فإذا كان الأصل لا يتصرَّف فمن باب أولى سلب التصرُّف من الفرع.
زكاة، وفي قبول نكاح أخته، ونحوها لأجنبي
(7)
(ويصح التوكيل في كل حق آدمي من العقود)؛ لأنه عليه السلام وكَّل عروة بن الجعد في الشراء، وسائر العقود: كالإجارة، والقرض، والمضاربة، والإبراء ونحوها في معناه (والفسوخ) كالخلع، والإقالة (والعتق والطلاق)؛ لأنه يجوز التوكيل في الإنشاء فجاز في الإزالة بطريق الأولى (والرجعة، وتملُّك المباحات من الصيد، والحشيش ونحوه) كإحياء الموات؛ لأنها تملُّك مال بسببٍ لا يتعيَّن عليه فجاز كالابتياع
(8)
، (لا الظهار)؛ لأنه قول منكر
(7)
مسألة أن يُوكِّل الزوج زوجته في طلاق نفسها، ويصح توكيلها في طلاق غيرها، ويصح أن يُتوكِّل رجل غني في قبول نكاح أمة لمن تباح له، ويصح أن يتوكَّل رجل في قبول نكاح أخته، أو عمته، أو خالته لأجنبي لا تُباع له، ويُشترط تسمية الموكِّل، ويصح أن يتوكَّل غني في أن يستلم الزكاة لفقير ونحو ذلك؛ للتلازم: حيث إن الموكِّل في هذه الصور له حق التصرُّف فيما وكَّل غيره فيه فيلزم: أن تصح الوكالة؛ لعدم المانع، وعدم وجود غرر، أو جهالة، وهذا هو المقصد منه.
(8)
مسألة: تصح الوكالة من حقوق الآدميين في صور أربع: الصورة الأولى: جميع العقود كالبيع، والشراء، والإجارة، والقرض، والصلح، والضمان، والكفالة، والحوالة، والشركة، والمضاربة، والوديعة، والإبراء، والجعالة، والمساقاة، والمزارعة، والوصية، والقسمة، والنفقة، والتدبير ونحو ذلك لما في معناه؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد وكَّل عروة بن الجعد في شراء شاة له، ووكَّل في قبول النكاح له، وما ذكر من العقود الأخرى مثل ذلك؛ لعدم الفارق بجامع: أن كلًّا منها تدعو الحاجة إليه، الصورة الثانية: جميع الفسوخ، وهي: إزالة العقود كالخلع، والإقالة، والطلاق، والعتق؛ للقياس؛ بيانه: كما يصحّ التوكيل في الإنشاء كالنكاح، وشراء الرقيق، فكذلك يصح التوكيل في الإزالة والفكِّ من باب أولى، والجامع أن كلًّا منها تدعو الحاجة إليه، الصورة الثالثة: إعادة ما =
وزور (واللِّعان والأيمان والنذور، والقسامة، والقسم بين الزوجات، والشهادة، والرَّضاع، والالتقاط، والاغتنام، والغصب، والجناية، فلا تدخلها النيابة
(9)
(و)
= كان كالرَّجعة كأن يُوكِّل زيد بكرًا بأن يُرجع له زوجته التي طلقها؛ للقياس، وقد سبق بيانه في الصورة الثانية، الصورة الرابعة: تملُّك المباحات كإحياء الموات، والصيد، والاحتطاب، والحشيش، واستقاء الماء؛ للقياس؛ بيانه: كما تصحّ الوكالة في البيع والشراء، فكذلك تصح في تملُّك المباحات، والجامع: أن كلًّا منها يُعتبر تملّكًا لمال بسبب، فإن قلتَ: لِمَ صحَّت الوكالة في هذه الصور؟ قلتُ: لأنها تدخلها النيابة.
(9)
مسألة لا تصح الوكالة من حقوق الآدميين في صور ثمان: الصورة الأولى: الظهار، فلا يصح أن يقول:"ظاهر عني" للقياس؛ بيانه: كما لا يصحّ الوكالة في المعاصي، فكذلك لا تصح في الظهار، والجامع: أن كلًّا منهما منكر وقول زور، الصورة الثانية: اللعان والأيمان والنذور، والقسامة، والإيلاء؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العبادات البدنية والحدود لا تصح الوكالة والاستنابة فيها فكذلك هذه الأمور مثلها والجامع: أن كلًّا منها تتعلَّق بعين الشخص نفسه؛ لمقصد خاص به، الصورة الثالثة: القَسَم بين الزوجات في المنام؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك متعلِّق ببدن الزوج، فلا ينوب عنه غيره فيها الصورة الرابعة: الشهادة كأن يقول: "أشهد عني"؛ للتلازم؛ حيث إن الشهادة خبر عما رآه أو سمعه، فيلزم أن لا ينوب عنه في ذلك أحد، الصورة الخامسة: الرضاع كأن تقول امرأة لأخرى: "أرضعي عني هذا الطفل"؛ للتلازم؛ حيث إن اللبن الذي يشربه هذا الطفل من مرضعته سيتسبَّب في إنبات لحمه، وتقوية عظمه، ونشر الحرمة فيلزم أن يكون مختصًا بالمرضعة، فلا تصح الاستنابة فيها. الصورة السادسة: الالتقاط؛ كأن يقول شخص لآخر: "التقط عني" حيث إن المغلَّب فيه الائتمان، وهذا يخص صاحبه فيلزم عدم صحة الوكالة فيه، وإذا التقط شخص: كان الأحق في الملتقط هو =
تصح الوكالة أيضًا (في كل حق لله تدخله النيابة من العبادات) كتفرقة صدقة، وزكاة، ونذر، وكفارة؛ لأنه عليه السلام كان يبعث عمَّاله لقبض الصدقات، وتفريقها، وكذا حج، وعمرة على ما سبق، وأما العبادات البدنية المحضة كالصلاة، والصوم، والطهارة من الحدث: فلا يجوز التوكيل فيها؛ لأنها تتعلَّق ببدن من هي عليه، لكن ركعتا الطواف تتبع الحج (و) تصح في (الحدود في إثباتها، واستيفائها)؛ لقوله عليه السلام "وأغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" فاعترفت فأمر بها فرُجمت" متفق عليه
(10)
،
= اللاقط، الصورة السابعة: الغَصب والجناية كأن يقول شخص لآخر: "اِغصب عني" أو "اقتل عني فلانًا" أو "اسرق عني فلانًا"؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك محرَّم، وكل محرم لا يجوز فعله بنفسه، ويلزم من عدم جواز فعله بنفسه: عدم جواز إنابة غيره فيه؛ الصورة الثامنة: الاغتنام فلا يقول شخص لآخر "اغنم عني"؛ للتلازم؛ حيث إن الاغتنام لا يستحقه إلّا الحاضر، فيلزم عدم استحقاق الغائب له، فلا تصح الوكالة فيه، فإن قلت: لِمَ لا تصح الوكالة في تلك الصور؟ قلتُ: لأنها لا تدخلها النيابة.
(10)
مسألة تصح الوكالة في حقوق الله تعالى في صورتين فقط: الصورة الأولى: ما تدخله النيابة من العبادات - وهي التي لها صلة بالمال - كالحج والعمرة؛ لعاجز عنهما ببدنه - كما سبق بيانه في كتاب المناسك -، وكذا: تفرقة الزكاة، وجمعها، وتفرقة الصدقات والنذور، والكفارات؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" والعمرة مثله؛ لعدم الفارق، وقد سبق بيانه الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام كان يبعث عماله على الصدقات والزكوات لجمعها وتفريقها، وتفريق النذور، والكفارات مثل ذلك؛ لعدم الفارق، الصورة الثانية: إثبات الحدود كحد السرقة، والزنا، وشرب الخمر، والقصاص، واستيفائها ممن وجبت عليه، فيصحّ أن =
ويجوز الاستيفاء في حضرة الموكِّل، وغيبته
(11)
(وليس للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكِّل فيه) إذا كان يتولَّاه مثله، ولم يُعجزه؛ لأنه لم يأذن له في التوكيل، ولا تضمَّنه إذنه؛ لكونه
= يُوكِّل الإمام غيره في إقامة الحدود والقصاص وإن كان الله؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" حيث إن ذلك وكالة (فرع): لا تصح الوكالة في العبادات المحضة وهي التي لا تجوز النيابة فيها كالصلاة، والطهارة، والصوم، ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن الثواب فيها خاص لمن قام بعملها مع النية فيلزم عدم جواز الوكالة فيها (فرع ثان): الشخص الذي يحج أو يعتمر عن غيره تصح منه ركعتا الطواف، للتلازم؛ حيث يلزم من كونهما تبعًا للحج: جواز فعلهما عن الغير، وهذا لا يُسمَّى وكالة (فرع ثالث) الصوم المنذور يقوم به شخص عن ناذره الميت؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه أداء عما وجب على الميت: أنه لا يُسمَّى وكالة (فرع رابع) تصح الوكالة في طهارة النجاسة؛ للتلازم؛ حيث يلزم كون إزالة النجاسة من التروك التي لا تشترط فيها النية: صحة الوكالة فيها، فإن قلتَ: لِمَ صحَّت الوكالة في الصورتين اللتين في المسألة (10)؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن الشخص أو الإمام قد يشق عليه الحج أو العمرة، أو تفرقة الزكاة والصدقات أو إقامة الحدود بنفسه: فشُرعت الوكالة هنا؛ توسعة على المسلمين.
(11)
مسألة: يجوز للوكيل أن يستوفي ويُقيم الحدود والقصاص عن مُوكِّله الإمام أو نائبه سواء كان هذا الموكّل له حاضرًا، أو غائبًا إلّا القصاص، والقذف فلا يُقام حدهما إلّا بحضور من له الحق في العقوبة وإسقاط العقاب؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن للوكيل الحق في جواز استيفاء وإقامة ذلك بحضرة الموكل، فكذلك يجوز ذلك في غيبته والجامع: أخذ الحق في كل. الثانية: المصلحة؛ حيث إنه يُحتمل أن يعفو من له الحق في العفو من موكلِّ أو صاحب الدم أو المقذوف، فاستُثني ذلك لدفع المفسدة في ذلك.
يتولَّى مثله (إلا أن يُجعل إليه بأن يأذن له في التوكيل أو يقول: "اصنع ما شئت"
(12)
، ويصح توكيل عبد بإذن سيده
(13)
(والوكالة عقد جائز)؛ لأنها من جهة الموكِّل إذن، ومن جهة الوكيل بذل نفع، وكلاهما غير لازم، فلكل واحد منهما فسخها
(14)
(وتبطل بفسخ أحدهما وموته) وجنونه المطبق؛ لأن الوكالة تعتمد الحياة
(12)
مسألة: لا يجوز للوكيل أن يُوكِّل غيره فيما وُكِّل فيه إلا بعد أن يأذن له الموكِّل إذنًا صريحًا، فمثلًا: لو وكَّل زيد بكرًا في شراء دار: فلا يجوز لبكر أن يُوكِّل محمدًا في شراء تلك الدار، أما إن أذن زيد لبكر بأن يُوكِّل غيره، أو قال زيد لبكر:"وكلتك فاصنع ما شئت": فإنه يجوز لبكر أن يُوكل غيره؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو أُودع بكرًا وديعة فلا يجوز لبكر أن يضع تلك الوديعة عند محمد أو غيره إلّا إذا أذن له زيد في ذلك والجامع: أن كلًّا من الوكيل والمودَع قد استؤمن فيما يمكنه القيام والنهوض فيه، فلا يحلُّ له أن يضع ذلك عند غيره، فإن قلتَ: لِمَ شُرِّع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الموكِّل - وهو زيد هنا - فقد يُوكِّل الوكيل - وهو بكر هنا - شخصًا غير ثقة عند زيد، أو توجد بينهما عداوة ونحو ذلك. ثم إن صيغة التوكيل لا يلزم منها الإذن له في التوكيل، أما إذا أتى بصيغة يُفهم منها التوكيل بصورة عامة أو خاصة فيجوز كالتصرف المأذون فيه.
(13)
مسألة: لا يجوز توكيل العبد إلّا بعد أن يأذن سيده بذلك، فإن أذن: صح توكيله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون العبد مُلكًا لسيده: عدم تكليفه بشيء وتحمُّله لشيء إلّا بعد إذنه. (فرع): يجوز توكيل العبد في طلاق امرأة من غير إذن سيده؛ للتلازم؛ حيث إن الطلاق يملكه العبد فيلزم جواز توكيله فيه.
(14)
مسألة: الوكالة عقد جائز من الطرفين فيستطيع أيُّ واحد من الموكِّل والوكيل أن يفسخ الوكالة متى شاء بدون إذن الآخر، وبدون أن يترتب عليه أي شيء من الإلزامات؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من حقيقة الوكالة: كونها عقد لازم؛ إذ إنها من =
والعقل: فإذا انتفيا: انتفت صحتها، وإذا وكَّل في طلاق الزوجة، ثم وطئها، أو في عتق العبد ثم كاتبه، أو دبَّره بطلت (و) تبطل أيضًا بـ (عزل الوكيل) ولو قبل علمه؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضى صاحبه فصحّ بغير علمه كالطلاق، ولو باع أو تصرَّف فادَّعى أنه عزله قبله: لم يُقبل إلّا ببيّنة (و) تبطل أيضًا (بحجر السفيه)؛ لزوال أهلية التصرُّف، لا بالحجر؛ لفلس؛ لأنه لم يخرج عن أهلية التصرف، لكن إن حجر على الموكِّل، وكانت في أعيان ماله بطلت؛ لانقطاع تصرفه فيها
(15)
(ومن
= جهة الموكِّل إذن لغيره في التصرُّف في أملاكه، وهي من جهة الوكيل بذل نفع لغيره، وهما - أي: الإذن وبذل النفع - غير لازمين، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها لو كانت عقد لازم للحق الناس مشقة وضيق؛ حيث إن أكثر الناس لا يُريد إلزام نفسه بشيء، فدفعًا لذلك: جعلت عقدًا جائزًا؛ توسعة وتيسيرًا عليهم.
(15)
مسألة: الأسباب التي تبطل الوكالة خمسة: السبب الأول: إذا فسخ الموكِّل، أو الوكيل الوكالة؛ للقياس؛ بيانه كما أنهما عقداها بكامل تصرفهما فكذلك يجوز لهما فسخها وإبطالها والجامع: أن كلًّا منهما من حقه العقد والفسخ كما سبق، السبب الثاني: إذا مات الموكِّل، أو الوكيل، أو جُن جنونًا مستمرًا ومطبقًا؛ للتلازم؛ حيث إنه يُشترط في الوكالة: أن يكون كل واحد من الوكيل والموكِّل جائز التصرُّف - كما سبق في مسألة (6) - ويلزم من وجود الموت والجنون: بطلان الوكالة، السبب الثالث: إذا وطئ الرجل امرأته التي وكَّل شخصًا آخر في طلاقها، أو كاتب عبده أو دبَّره - بأن قال: يعتق إذا متُّ - الذي وكل شخصًا آخر في عتقه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وطء امرأته ومكاتبة وتدبير العبد: رجوع الموكِّل عن الوكالة وفسخها، السبب الرابع: إذا عزل الموكل الوكيل: وعلم الوكيل بهذا العزل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الوكالة إذن بالتصرُّف من الموكِّل فيلزم من عزله منع هذا الإذن السبب الخامس: إذا حُجر على الموكل أو الوكيل بسبب سفه؛ أو حُجر على أعيان مال الموكِّل المفلس الذي وكَّل غيره أن يتصرف فيها؛ للتلازم؛ =
وُكِّل في بيع أو شراء: لم يبع ولم يشتر من نفسه) لأن العرف في البيع: بيع الرجل من غيره، فحملت الوكالة عليه ولأنه تلحقه تهمة (و) لا من (ولده) ووالده، وزوجته، ومكاتبه، وسائر من لا تقبل شهادته له؛ لأنه متهم في حقهم، ويميل إلى ترك الاستقصاء عليهم في الثمن كتهمته في حق نفسه
(16)
، وكذا: حاكم، وأمينه، وناظر
= حيث يلزم من اشتراط الرُّشد وحق التصرف فيهما: بطلان الوكالة إذا حجر على أحدهما فيما ذكرناه (فرع): يُشترط في عزل الوكيل: أن يعلم هذا الوكيل في هذا العزل؛ للمصلحة: حيث إن الوكيل قد يتصرَّف بتصرُّفات بناء على أنه وكيل عن فلان وهو في الحقيقة معزول، فيتضرَّر ضررًا كبيرًا، فدفعًا لذلك اشترط هذا الشرط، فإن قلت: لا يشترط؛ حيث إن الوكيل ينعزل ولو لم يعلم - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الزوج يُطلِّق امرأته وتطلق سواء علمت بذلك أو لا فكذلك الموكِّل يعزل وكيله فينعزل: سواء علم الوكيل أو لا، والجامع: أن كلًّا منهما له الحق فيما فعله؛ إذ هو عقد جائز قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن المرأة لا يترتَّب على طلاقها أيُّ التزامات، بخلاف الوكيل فقد يتصرَّف ببيع أو شراء ونحو ذلك بعد عزلة فإذا كان يضمن ما تصرف فيه بعد عزله: فإن هذا يضرُّه، فإن قلتَ ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة" فعندنا: تقدم المصلحة، إذ دفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، وعندهم: يُقدَّم القياس (فرع ثان) إذا حجر على مفلس بصورة عامة فيصح أن يُوكِّل غيره، وأن يتوكَّل عن غيره؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه لم يخرج عن أهلية تصرفه: صحة ذلك؛ لعدم ما ينافيها تنبيه: قوله: "ولو باع أو تصرَّف فادَّعى أنه عزله قبل: لم يُقبل إلّا ببيّنة" قلتُ هذا على رأي المصنف وهو: أن الوكيل ينعزل ولو لم يعلم بأن الموكِّل عزله وهذا يدل على ما قلناه: إنه لا ينعزل إلّا إذا علم بذلك؛ لأن في ذلك قطعًا للنزاع والاختلاف.
(16)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في بيع أو شراء دار مثلًا: فلا يجوز للوكيل - وهو =
وقف، ووصي، ومضارب وشريك عنان، ووجوه
(17)
(ولا يبيع) الوكيل (بعرض ولا
= بكر - أن يبيع هذه الدار على نفسه، ولا أن يشتريها من نفسه، ولا يجوز له أن يبيعها أو يشتريها من أي شخص لا تصح الشهادة منه له كولده، وابن ولده، وأبيه وجده، وزوجته ومولاه - وهو العبد الذي أعتقه أو كاتبه - هذا إذا لم يأذن الموكِّل - وهو زيد هنا - للوكيل بذلك، فإن أذن له في البيع أو الشراء من نفسه: فله ذلك؛ لقواعد: الأولى: العرف والعادة؛ حيث جرت العادة أن يبيع الرجل على غيره وأن يشتري من غيره، فبيعه على نفسه، أو شراؤه من نفسه على خلاف تلك العادة الثانية: المصلحة؛ حيث إن الوكيل متهم في ترك الاستقصاء وترك المطالبة بثمن أعلى إذا باع دار الموكل على نفسه أو باعها على أحد من أقربائه، وكذلك متهم بزيادة الثمن إذا اشترى دارًا للموكل من نفسه أو من أحد أقربائه، وبذلك يتضرَّر ذلك الموكل، فدفعًا لذلك: شرع هذا الحكم، الثالثة: القياس، بيانه: كما أنه يجوز للوكيل أن يأخذ ما تبرَّع به الموكِّل فكذلك يجوز له أن يبيع على نفسه أو يشتري لنفسه من أملاك الموكل إذا أذن الموكِّل بذلك، والجامع: أنه في كل منهما قد أسقط الموكِّل حقه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ لأموال المسلمين من الظلمة.
(17)
مسألة: إذا كان زيد حاكمًا، أو أمينًا لحاكم، أو ناظرًا لوقفٍ، أو وصيًّا، أو شريكًا لآخر شركة مضاربة أو شركة عنان، أو شركة وجوه - وسيأتي بيانها -، أو كان عاملًا لبيت المال، أو خازنًا له، أو مسؤولًا عنه: فلا يجوز لزيد هذا: أن يبيع على نفسه شيئًا مما يُوجد في بيت المال، أو أن يبيع على نفسه من الوقف، أو من مال الموصَى عليه، أو من مال الشركة التي بينه وبين غيره، وكذلك لا يبيع ذلك كله على أحد من أقربائه الذين لا تُقبل شهادتهم له، وكذلك لا يجوز له أن يشتري من نفسه شيئًا ويجعله في بيت مال المسلمين، أو أن يشتري من نفسه شيئًا ويجعله في الوقف، أو يُدخله ضمن مال الموصَى عليه أو =
نساء، ولا بغير نقد البلد) لأن عقد الوكالة لم يقتضه، فإن كان في البلد نقدان: باع بأغلبهما رواجًا، فإن تساويا: خُيّر
(18)
(وإن باع بدون ثمن المثل) إن لم يُقدِّر له ثمن (أو) باع بـ (دون ما قدَّره له) الموكِّل: صح (أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل) وكان لم يُقدِّر له ثمنًا (أو مما قدَّره له: صح) الشراء؛ لأن من صح منه ذلك بثمن مثله: صح بغيره (وضمن النقص) في مسألة البيع (و) ضمن (الزيادة) في مسألة الشراء؛ لأنه مُفرِّط، والوصي، وناظر الوقف كالوكيل في ذلك، ذكره الشيخ تقي الدِّين
(19)
،
= يُدخله في مال الشركة أو يشتري ذلك أحد أقربائه: للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز ذلك كله للوكيل، فكذلك لا يجوز ذلك للحاكم، أو نائبه، أو عامله أو الوصي، أو الشريك والجامع: وجود التهمة في عدم الاستقصاء في البيع والشراء في كل، فإن قلتَ: لَم شُرّع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ وحماية أموال المسلمين من التحايل عليها وأكلها بالباطل.
(18)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في بيع سلعة وأطلق زيد ولم يُعيِّن للوكيل - وهو بكر هنا - شيئًا: فلا يجوز للوكيل أن يبيع بعرض - وهو بيع ثوب بثوب - وأن يبيع بنسإ - وهو البيع بثمن مؤجَّل - ولا أن يبيع بغير نقد البلد المعروف، فإن كان في البلد: نقدان: فإنه يبيع بأكثرهما وأغلبهما رواجًا وقوة شرائية، وإن تساويا: فإنه يتخيَّر، هذا إذا لم يُعيِّن الموكِّل نقدًا، فإن عيَّنه: تعيَّن؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في البيع: تحصيل الثمن والحلول، وكونه بنقد البلد، وعقد الوكالة مطلق، فينصرف إلى هذا الأصل، فيُستصحب ويُعمل به، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الموكِّل قد وثق بالوكيل، فلا بدَّ أن يتصرَّف الوكيل بما هو الأصلح والأحظ للموكِّل.
(19)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في بيع ثوب مثلًا، ولم يُقدِّر الموكِّل - وهو زيد - ثمنه، فباعه الوكيل - وهو بكر - بدون ثمن المثل كأن يكون ثمن مثل هذا الثوب مائة ريال، فباعه الوكيل بثمانين، أو أن الموكِّل قدَّر ثمنه بمائة ريال، فباعه الوكيل =
وإن قال: بعه بدرهم فباعه بدينار: صحَّ؛ لأنه زاده خيرًا (وإن باع) الوكيل (بأزيد) مما قدَّره له الموكِّل: صحَّ (أو قال) الموكِّل: (بع: بكذا مؤجَّلًا، فباع) الوكيل (به حالًا): صحَّ (أو) قال الموكِّل (اشتر بكذا حالًا، فاشترى به مؤجَّلًا ولا ضرر فيهما) أي: فيما إذا باع بالمؤجَّل حالًّا، أو اشترى بالحالِّ مؤجَّلًا:(صحَّ)؛ لأنه زاده خيرًا، فهو كما لو وكَّله في بيعه بعشرة، فباعه بأكثر منها (وإلا: فلا) أي: وإن لم يبع
= بثمانين: فإن البيع، صحيح، ويضمن الوكيل النقص إن كان قد فرَّط وتساهل، فيُعطي الموكِّل عشرين ريالًا، أو اشترى الوكيل للموكِّل ثوبًا - مثلًا - بأكثر من ثمن المثل، ولم يقدِّر الموكِّل ثمنًا يشتري به كأن يكون ثمن الثوب مائة ريال، فاشتراه له الوكيل بمائة وعشرين، أو أن الموكِّل قد قال للوكيل: اشتر لي ثوبًا بمائة فاشتراه له بمائة وعشرين: فإن الشراء صحيح، ويضمن الوكيل الزيادة، إن كان قد فرط فيتحملها الوكيل، ولا يدفعها له الموكِّل؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من صحة بيعه أو شرائه بمثله: صحة بيعه أو شرائه بغير ذلك؛ الثانية: المصلحة؛ حيث يلزم من الإذن بالوكالة: أن يتصرَّف الوكيل بما هو أصلح، وأحظ، وأحوط وأفيد للموكِّل، وبيع الوكيل بأقل من ثمن المثل أو مما قدَّره له، أو شراؤه له بأكثر من ثمن المثل، أو مما قدَّره له بتفريط وتساهل يُعتبر مخالفًا لذلك، إذ الموكِّل يتضرَّر بذلك، فدفعًا لذلك الضَّرر: شُرع أن يضمن الوكيل ما نقص وما زاد من ذلك؛ حماية للموكل من تحايل بعض الظلمة على ماله ليأكلونها بالباطل، فإذا علم أنه سيُحاسب السوق: كفَّ عن تلك الحيل، (فرع): إذا كان زيد وصيًا، أو ناظر وقف أو شريكًا لغيره، أو عاملًا لبيت المال أو خازنه فباع شيئًا من مال الموصى عليه أو من الوقف، أو من مال الشراكة بأنقص من ثمن المثل، أو اشترى للموصى عليه أو للوقف، أو للشركة بأزيد من ثمن المثل، أو من المقدَّر له: فإن زيدًا هذا يضمن النقصان، والزيادة، إذا كان مفرطًا؛ للقياس؛ على الوكيل وقد سبق في مسألة (19).
أو يشترِ بمثل ما قدَّره له بلا ضرر بأن قال: "بعه بعشرة مؤجَّلة" فباعه بتسعة حالَّة، أو باعه بعشرة حالَّة، وعلى الموكِّل ضرر بحفظ الثمن في الحال، أو بعه بعشرة حالَّة فباعه بأحد عشر مؤجلة، أو قال:"اشتره بعشرة حالَّة" فاشتراه بأحد عشر مؤجلة، أو بعشرة مؤجلة مع ضرر: لم ينفذ تصرفه؛ لمخالفته موكِّله، وقدم في "الفروع": أن الضرر لا يمنع الصحة وتبعه في "المنتهى" و"التنقيح" في مسألة "البيع"، وهو ظاهر "المنتهى" أيضًا في مسألة "الشراء"، وقد سبق لك: أن بيع الوكيل بأنقص مما قُدِّر له وشرائه بأكثر منه: صحيح ويضمن
(20)
.
(20)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في بيع ثوب - مثلًا - بدرهم، فباعه بدينار، أو قال الموكِّل - وهو زيد - للوكيل - وهو بكر - "بعه بمائة" فباعه الوكيل بمائة وعشرين، أو قال له:"بعه بمائة مؤجَّلة إلى سنة" فباعه الوكيل بمائة حالَّة، أو قال الموكِّل:"اشتر ثوبًا بمائة حالَّة" فاشترى الوكيل الثوب بمائة مؤجَّلة، ولم يُوجد ضرر على الموكِّل: فإن البيع صحيح، أما إن وُجد ضرر في ذلك على الموكِّل كأن يقول للوكيل:"بعه بعشرة مؤجَّلة" فباعه الوكيل بتسعة معجَّلة، أو باعه بعشرة معجَّلة، أو باعه بأحد عشر مؤجَّلة؛ والموكِّل يتضرَّر بذلك: فإن البيع صحيح في تلك الصور، ويتحمَّل الوكيل الضرر الذي لحق الموكِّل: فيضمن الوكيل النقص، والزيادة؛ لقاعدتين: الأولى التلازم: حيث يلزم من الزيادة في ثمن المباع والنقص في ثمن المشترى، والتعجيل في المؤجَّل بدون ضرر يلحق الموكِّل: صحة ذلك؛ لكونه زاده خيرًا، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن الوكيل إذا باع ثوبًا للموكِّل بدون ثمن المثل بتفريط منه: فإن البيع صحيح، ويضمن الوكيل ما نقص على الموكِّل، فكذلك هنا، والجامع: أن أركان وشروط البيع تامة فصحّ البيع في كل، فإن قلتَ: إنه إذا تضرَّر الموكِّل ببيع أو شراء من الوكيل: فإن البيع لا يصح - وهو ما ذكره المصنف هنا -؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من مخالفته لموكِّله: عدم صحة البيع قلتُ: إن أركان وشروط البيع والشراء بين الوكيل وغيره متوفرة فلا =
فصل: (وإن اشترى) الوكيل (ما يعلم عيبه لزمه) أي: لزم الشراء الوكيل، فليس له ردُّه؛ لدخوله على بصيرة (إن لم يرض) به (موكِّله)، فإن رضيه: كان له؛ لنيته بالشراء، وإن اشتراه بعين المال: لم يصح (فإن جهل) عيبه: (ردُّه)؛ لأنه قائم مقام الموكِّل وله أيضًا ردُّه؛ لأنه ملكه، فإن حضر قبل ردِّ الوكيل، ورضي بالعيب: لم يكن للوكيل ردُّه؛ لأن الحق، له بخلاف المضارب؛ لأن له حقًّا فلا يُسقط رضى غيره، فإن طلب البائع الإمهال حتى يحضر الموكِّل: لم يلزم الوكيل ذلك
(21)
، وحقوق
= يبطل، ولا دخل لذلك فيما بين الوكيل والموكِّل إلا في ضرر الموكِّل بسبب ذلك، وهذا الضرر ممكن رفعه بأن يتحمَّله الوكيل كما قلنا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل مخالفة الوكيل لموكِّله يُؤثِّر في بيعه وشرائه من غيره؟ " فعندنا: لا يُؤثِّر، وعندهم: يؤثِّر، فإن قلت: لِمَ ضمن الوكيل ما نقص أو زاد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية الموكِّل من تحايل بعض الظلمة عليه لأخذ ماله بدون وجه حق.
(21)
مسألة: إذا اشترى الوكيل لموكله شيئًا فيه عيب: فحكمه يختلف باختلاف حالاته: الحالة الأولى: إذا كان الوكيل يعلم ذلك العيب ومع ذلك اشتراه: فإن هذا يلزم الوكيل ولا يرده، ولا يلزم الموكِّل، إلّا إذا رضي الموكِّل بهذا العيب: فإنه يكون له؛ للمصلحة: حيث إن الوكيل يلزمه بعقد الوكالة أن يشتري الأصلح للموكِّل، ولا يشتري ما يُلحق الضرر بالموكِّل، فإذا علم الوكيل عيب السلعة ومع ذلك اشتراها: فإن الوكيل يلزمه ذلك، لكونه دخل على بصيرة رفعًا للضرر عن الموكِّل، أما إن رضي الموكِّل بما فعله الوكيل: فإنه يكون له؛ لكونه قد أسقط حقه بنية الرضا، الحالة الثانية: إن اشترى الوكيل ما فيه عيب مع علمه به بعين مال الموكِّل كأن اشترى الوكيل دارًا للموكِّل بعين دار له - أي: للموكِّل -: فإن هذا الشراء لا يصح؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من عدم إذن الموكِّل للوكيل في شرائه بالعين: عدم صحة الشراء؛ نظرًا لمخالفته لمقتضى عقد الوكالة، الحالة =
العقد كتسليم الثمن، وقبض المبيع، والرَّد بالعيب، وضمان الدرك تتعلَّق بالموكِّل
(22)
= الثالثة: إذا كان الوكيل جاهلًا بعيب السلعة عند شرائه لها: فإنه يردَّها هو، أو موكِّله؛ للتلازم؛ حيث إن كون الوكيل قائمًا مقام الموكِّل، وكون الموكِّل ملك تلك السلعة بشراء الوكيل لها: يلزم من ذلك أن لهما الحق في رد ما جُهل عيبه؛ للغرر. الحالة الرابعة: إن حضر الموكِّل قبل ردِّ الوكيل للسلعة المعيبة، ورضي الموكِّل بالعيب: فإن الوكيل لا يردُّ السلعة؛ للتلازم؛ حيث إن الحق للموكِّل وحده عند حضوره، وقد أسقطه فيلزم منه: سقوط حقِّ الوكيل في الردِّ، بخلاف الشريك المضارب: فإن له الرَّد مع شريكه فلا يسقط حقه إذا رضي شريكه بالعيب؛ للتلازم؛ حيث إن للشريك حقًّا في السلعة فيلزم: عدم سقوط حقه برضى غيره، الحالة الخامسة: إذا طلب البائع للسلعة المعيبة من الوكيل: أن يُمهله إلى أن يحضر الموكِّل: فلا يلزم الوكيل العمل بهذا الطلب؛ للمصلحة: حيث إن ذلك الإمهال قد يكون سببًا في عدم الرَّد؛ نظرًا لهرب البائع، أو تلف الثمن فتفوت مصلحته.
(22)
مسألة: إذا اشترى الوكيل لموكِّله سلعة، وسمَّى الوكيل وكيله في هذا العقد: فإن حقوق ذلك العقد تتعلَّق بالموكِّل، فالبائع يُطالب الموكِّل بتسليمه ثمن تلك السلعة: سواء كان الثمن معينًا أو في الذمة، ويُطالب بقبض السلعة المباعة، وله حق الرَّد بالعيب، وضمان الدرك والتبعة، وبناء عليه: فلو أُبرأ الوكيل: فإن الموكِّل لا يبرأ؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن كون ملك السلعة المباعة قد انتقل من البائع للموكِّل يلزم منه: أن حقوق العقد كلها تتعلَّق بالموكِّل، لا بالوكيل، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن جميع الحقوق تتعلَّق بالمضمون عنه دون الضامن، فلو أبرأ الضامن لا يبرأ المضمون عنه فكذلك هنا: تتعلَّق الحقوق بالموكِّل لا، بالوكيل والجامع أن كلًّا من الضامن، والوكيل تابع للمضمون عنه، والموكِّل، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: لكون الموكِّل هو المستفيد من هذا =
(ووكيل البيع يُسلِّمه) أي: يُسلِّم المبيع؛ لأن إطلاق الوكالة في البيع يقتضيه؛ لأنه من تمامه (ولا يقبض) الوكيل في البيع (الثمن) بغير إذن الموكِّل؛ لأنه قد يُوكِّل في البيع من لا يأمنه على قبض الثمن (بغير قرينة) فإن دلَّت القرينة على قبضه مثل توكيله في بيع شيء في سوق غائبًا عن الموكِّل، أو موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل له: كان إذنًا في قبضه، فإن تركه: يضمنه؛ لأنه يُعدُّ مُفرِّطًا، هذا المذهب عند الشيخين، وقدَّم في "التنقيح" وتبعه في "المنتهى": لا يقبضه إلّا بإذن، فإن تعذَّر: لم يلزم الوكيل شيء؛ لأنه ليس بمفرِّط؛ لكونه لا يملك قبضه
(23)
(ويُسلِّم وكيل الشراء الثمن)؛ لأنه
= العقد، والغرم بالغنم.
(23)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا بأن يبيع داره - مثلًا، فباعها بكر: فإن الوكيل - وهو بكر - يُسلِّم المبيع - وهي الدار - للمشتري، ولا يقبض ثمن هذا المبيع، بل الذي يقبض ثمنه هو الموكِّل، فإن أذن الموكِّل للوكيل بقبض ثمنه إذنًا صريحًا بأن قال له:"وكَّلتك في بيع داري وأتني بالثمن" أو "واقبض الثمن": فإن له ذلك: فإن تركه وضاع: فإن الوكيل يضمنه، أما إن لم يأذن له في قبض الثمن: فلا يقبضه ولو ضاع: لم يضمن الوكيل شيئًا منه؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إنه يلزم من إطلاق الوكالة في البيع: تسليم المبيع للمشتري؛ لكون ذلك يُعتبر من تمام البيع، ويلزم من إذن الموكِّل الصريح بقبض الثمن للوكيل: الحق للوكيل بقبضه، ويترتب عليه: أنه لو ضاع الثمن فإن الوكيل يضمنه؛ لتفريطه بما تقتضيه الوكالة، ويلزم من عدم إذنه له بقبض الثمن: عدم الحق للوكيل بقبضه، ويترتَّب عليه: أنه لو ضاع الثمن: فإن الوكيل لا يضمنه؛ لعدم تفريطه بما تقتضيه الوكالة، لكونه لم يُعط حق القبض، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الموكِّل قد يُوكِّل شخصًا يصلح للبيع، ولكنه لا يصلح لقبض الثمن؛ لكونه لا يأمنه عليه من أن يسرقه أو يسرق بعضه، أو يُؤخِّره على الموكِّل، فدفعًا لذلك شُرع هذا، فإن قلتَ: إن وُجدت قرينة تدل على قبض الثمن كأن يبيع تلك السلعة بغياب =
من تتمته وحقوقه كتسليم المبيع
(24)
(فلو أخَّره) أي: أخَّر تسليم الثمن (بلا عذر وتلف) الثمن: (ضمنه)؛ لتعدِّيه بالتأخير
(25)
، وليس لوكيل في بيع تقليبه على مشتر
= الموكِّل، أو يبيعه بموضع يضيع الثمن فيه لو لم يقبضه الوكيل: فإن الوكيل يقبضه ولو لم يأذن الموكِّل إذنًا صريحًا، فإن لم يقبضه وضاع: ضمنه؛ نظرًا لتفريطه؛ للتلازم؛ حيث إن القرينة تدلُّ على القبض فيلزم أن يكون القبض يقتضيه عقد الوكالة قلتُ: إن القرينة ليست في مرتبة إذن الموكِّل إذنًا صريحًا في قبضه للثمن فلا يكون لازمًا يقتضيه عقد الوكالة كما لو أذن الموكِّل فيه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل القرينة المذكورة هنا في مرتبة إذن الموكِّل للوكيل في قبض الثمن؟ " فعندنا ليست في مرتبتها؛ لوجود الفارق، وعندهم: لا فرق بينهما، فائدة المراد بالشيخين: موفق الدين بن قدامة ومجد الدين بن تيمية.
(24)
مسألة: إذا وكَّل شخص شخصًا آخر في أن يشتري له دارًا مثلًا، فاشترى الوكيل تلك الدار: فيجب أن يُسلِّم الوكيل ثمن تلك الدار لبائعها؛ للقياس؛ بيانه كما أن البائع، يجب أن يُسلِّم المبيع للمشتري، فكذلك يجب على مشتريها أن يُسلِّم ثمنها. والجامع: أن كلًّا منهما من تتمة البيع وحقوقه، فحكم تسليم الثمن كحكم تسليم المبيع، والوكيل في الشراء في حكم المشتري شرعًا، فإن قلتَ: لَمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للبائع.
(25)
مسألة: إذا اشترى الوكيل دارًا - مثلًا - وتأخر الوكيل في تسليم الثمن لبائع الدار فتلف الثمن: ففيه حالتان الحالة الأولى: إن كان هذا التأخير وقع بسبب البائع كأن يذهب ليحضر مفاتيح الدار، أو امتنع البائع من قبض ذلك الثمن؛ فتلف: فإن الوكيل لا يضمن ذلك الثمن التالف؛ للتلازم؛ حيث إن الوكيل فعل ما يقتضيه عقد الوكالة من غير تعدٍّ ولا تفريط: فيلزم عدم ضمانه الحالة الثانية: إن كان هذا التأخير وقع بسبب الوكيل لغير عذر، فتلف ذلك الثمن: فإنه - أي: الوكيل - يضمنه للموكِّل؛ للتلازم؛ حيث إن الموكِّل قد وكَّله بالشراء =
إلا بحضرته، وإلَّا ضمن
(26)
(وإن وكَّله في بيع فاسد): لم يصح، ولم يملكه؛ لأن الله تعالى لم يأذن فيه، ولأن الموكِّل لا يملكه (فـ) لو (باع) الوكيل إذًا بيعًا (صحيحًا): لم يصح؛ لأنه لم يوكَّل فيه
(27)
(أو وكَّله في كل قليل وكثير): لم يصح؛ لأنه يدخل فيه كل شيء من هبة ماله، وطلاق نسائه، وإعتاق رقيقه، فيعظم الغرر، والضرر (أو) وكَّله في (شراء ما شاء، أو عينًا بما شاء، ولم يعين) نوعًا وثمنًا: (لم يصح)؛ لأنه
= المعهود، وهو نقد الثمن واستلام المبيع - إن كان له ذلك - بدون تأخير، وهذا هو مقتضى عقد الوكالة فيلزم من التأخير بدون عذر: أن يضمن هذا الثمن؛ نظرًا لتعدِّي الوكيل وتفريطه بالتأخير، فإن قلت: لِمَ شرع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للوكيل؛ لأنه لو ضمن الثمن وهو معذور: لتضرَّر، وفيه حماية للموكِّل؛ لأن تلف الثمن كان بسبب الوكيل فلو لم نضمِّنه: لتضرر الموكِّل.
(26)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في بيع طعام مثلًا، فلا يجوز للوكيل: أن يعطيه لمشتر ليُقلِّبه في غياب الوكيل، فإن أعطاه الوكيل المشتري وقلَّبه ذلك المشتري في غياب الوكيل، فتلف الطعام فإن الوكيل يضمنه للموكِّل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إعطائه له، ودفعه إليه وتغيبه عنه: أن يضمنه إذا تلف، نظرًا لتعدِّيه وتفريطه بذلك.
(27)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في بيع فاسد كأن يُوكِّله في بيع خمر ونحو ذلك، أو أن لا يُسلِّم المشتري المبيع: فلا يصح ذلك: ولو باع الوكيل خيلًا للموكِّل بدلًا من الخمر فلا يصح؛ للتلازم؛ حيث إن الشارع لم يأذن في البيع الفاسد: فيلزم عدم صحته من الموكِّل لعدم ملكيته له والوكيل أولى في عدم الملكية هذه، ويلزم من توكيله بالبيع الفاسد: عدم صحة بيعه الصحيح؛ لكونه لم يؤذن له فيه، فإن قلتَ: لَم شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي: قطع هذه المعاملات الفاسدة.
يكثر فيه الغرر
(28)
، وإن وكَّله في بيع ماله كلِّه، أو ما شاء منه: صحَّ، قال في "المبدع": وظاهر كلامهم في "بع من مالي ما شئت" له بيع ماله كله
(29)
(والوكيل في الخصومة لا يقبض)؛ لأن الإذن لم يتناوله نطقًا ولا عرفًا؛ لأنه قد يرضى للخصومة من لا يرضاه للقبض (والعكس بالعكس) فالوكيل في القبض له الخصومة؛ لأنه لا يتوصَّل إليه إلّا بها، فهو أذن فيها عرفًا
(30)
(و) إن قال الموكِّل: (اقبض حقي من
(28)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في كل شيء، وكالة مطلقة: أي: في القليل والكثير، وفي الخاص والعام، في البيع والشراء: سواء كان في شراء الأعيان، بدون تعيين الثمن أو النوع: فلا يصح ذلك؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه ضرر وغرر على الموكِّل؛ إذ يكون الوكيل يملك أن يهب، ويُعطي ما شاء لمن شاء، من أملاك الموكِّل، ويملك طلاق نساء الموكِّل، وإعتاق عبيده، وشراء ما لا يُقدَّر ثمنه ونحو من التصرفات الغير مُقيَّدة، فيُكثر الغرر، والجهالة مما يؤدِّي إلى كثرة النزاعات والاختلافات فيلحق بذلك الضرر الواضح بالموكِّل، فلذلك لم يصح ذلك.
(29)
مسألة: إذا قال الموكِّل للوكيل: "بع ما لي كله" أو "بع من مالي كما شئت": فإنه يصح للوكيل أن يبيع جميع مال الموكِّل، وكذلك لو وكَّله في قبض جميع ديونه أو نحو ذلك: فإنه يصح؛ للتلازم؛ حيث إن الموكِّل يعرف جميع ماله، فيكون عارفًا لكل ما سيتصرَّف فيه الوكيل في بيع فلزم صحته؛ لكونه تصرف في معلوم، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه قضاء حاجة الموكِّل، في حين أنه لا ضرر ولا غرر في ذلك.
(30)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في خصومة بأن قال زيد لبكر: وكَّلتك بأن تخلِّص لي الأرض الفلانية، وتخاصم من أجلها": فإنه يصح ذلك، ولكن الوكيل إذا خلَّص تلك الأرض: فلا حقَّ له في قبضها، ولا ثمنها، بل يكتفي بإثباتها، أما إن وكله بأن يقبض عنه تلك الأرض: فإنه يكون وكيلًا عنه في الخصومة فيها؛ =
زيد) ملكه من وكيله؛ لأنه قائم مقامه و (لا يقبض من ورثته)؛ لأنه لم يُؤمر بذلك، ولا يقتضيه العرف
(31)
(إلا أن يقول) الموكِّل للوكيل: اقبض حقي (الذي قِبَله) أو عليه: فله القبض من وارثه؛ لأن الوكالة اقتضت قبض حقِّه مطلقًا
(32)
، وإن قال:"اقبضه اليوم": لم يملكه غدًا
(33)
(ولا يضمن وكيل) في (الإيداع إذا) أودع و (لم
= للتلازم؛ حيث إن الوكالة في الخصومة فقط يلزم منها إثباتها للموكِّل فقط، لكون ذلك لا يتناول القبض عن طريق اللفظ، ولا عن طريق العرف، ويلزم من الوكالة في القبض: أن للوكيل حقًّا في الخصومة؛ لكونه لا يتمكن من القبض إلا بتلك الخصومة، وإثبات الأرض للموكِّل، فإن قلتَ: لَم شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الوكيل في الخصومة لا يقبض؛ لكونه يصلح لها، ولكنه لا يصلح لقبض شيء؛ لعدم ثقة الموكِّل فيه، وأما الوكيل في القبض فإنه يُخاصم؛ لأنه إذا صلح للقبض فمن باب أولى صلاحه للخصومة عنه.
(31)
مسألة: إذا قال محمد لبكر: "وكَّلتك لأن تقبض حقي من زيد": فإن بكرًا له الحق بأن يقبض حق محمد من زيد، ووكيله ولكنه لا يقبضه من ورثته؛ للتلازم؛ حيث إن الوكيل يقوم مقام الموكِّل فيلزم صحة القبض من الوكيل ويلزم من عدم قيام الورثة مقام المورِّث: عدم صحة قبض الحق من ورثة زيد.
(32)
مسألة: إذا قال محمد لبكر: "اقبض حقي الذي قبل وجهة زيد" أو "الذي على زيد" فإنه يحق لبكر أن يقبض ذلك من ورثة زيد إذا مات؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اللفظ هنا: أن يقبض الوكيل حقَّ الموكِّل مطلقًا: أي سواء كان هذا من زيد نفسه أو من ورثته؛ فإن قلتَ: لِمَ شُرع هنا حكم مخالف لحكم المسألة السابقة (31)؟ قلتُ: نظرًا لاختلاف صيغة الموكِّل، فيتصرّف الوكيل بحسب هذا الاختلاف.
(33)
مسألة: إذا قال الموكِّل للوكيل: "اقبض حقي من فلان هذا اليوم": فإن الوكيل يكون وكيلًا في ذلك اليوم المقيَّد فيه فقط، ولا يكون وكيلًا غدًا؛ للمصلحة: حيث =
يُشهد) وأنكر المودَع؛ لعدم الفائدة في الإشهاد؛ لأن المودع يُقبل قوله في الرد والتلف، وأما الوكيل في قضاء الدين إذا كان بغير حضور الموكِّل، ولم يُشهد: ضمن إذا أنكر ربُّ الدَّين - وتقدَّم في الضمان
(34)
.
فصل: (والوكيل أمين، لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط)؛ لأنه نائب المالك في اليد والتصرُّف، فالهلاك في يده كالهلاك في يد المالك، ولو بجُعْل، فإن فرَّط أو
= إن الموكِّل لم يُعيِّن زمنًا للوكالة إلا أن يكون فيه فائدة ومصلحة، ويُفهم من ذلك بمفهوم الزمان: أن الزمن الآخر الذي لم يذكره لا يصلح فلانًا أن يكون فيه وكيلًا، وذلك كما قُيِّدت العبادات بأزمنة معيّنة، فلا تصلح أن تكون في غيرها.
(34)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في أن يُودع هذا الثوب مثلًا، فأودعه الوكيل عند محمد، ولم يشهد هذا الوكيل عند إيداعه عند محمد، فأنكر المودَع - وهو محمد هنا - هذه الوديعة: فإن الوكيل - وهو بكر - لا يضمن تلك الوديعة - وهو الثوب - إذا تلف ولا المودع؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إيداع الثقة العدل: قبول قوله في الرَّد والتلف والهلاك، فلا فائدة للموكِّل، أو الوكيل في الاستيثاق بالشهود، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن الوكيل أو المودَع لو ضمنا ذلك لما قبل أحد أن يتوكَّل عن أحد، أو أن يودَع عنده شيء، فإن قلتَ: لِمَ لا يضمن الوكيل هنا مع أنه يضمن إذا وكَّله زيد في قضاء دينه فقضاه من غير حضور الموكِّل ولم يُشهد وأنكر غريم زيد أن وكيله أعطاه شيئًا كما سبق في باب "الرهن"؟ قلتُ: لأن ذمَّة الموكِّل لا تبرأ بدفع المال إلى وكيله، وإنما تبرأ إذا وصل المال إلى غريمه؛ إذ إنه إذن في قضاء تبرأ به الذمة، ولم يُوجد شيء من ذلك؛ حيث إن الغريم يدَّعي بعدم وصول حقِّه إليه، لذلك لا يُصدَّق الوكيل إلّا ببيِّنة بخلاف الحال هنا فالوكيل أمين فيما يقول وسيأتي، تنبيه: قوله: "وتقدم في باب الضمان" قلتُ: وهذا سهو بل تقدم ذلك في باب الرهن.
تعدى، أو طُلب منه المال فامتنع من دفعه لغير عذر: ضمن
(35)
(ويُقبل قوله) أي: الوكيل (في نفيه) أي: نفي التفريط ونحوه (و) في (الهلاك مع يمينه)؛ لأن الأصل: براءة ذمته
(36)
، لكن إن ادَّعى التلف بأمر ظاهر كحريق عام، ونهب جيش: كُلِّف
(35)
مسألة: الوكيل أمين لا ضمان عليه إذا تلف ما تحت يده من أموال الموكِّل إذا لم يوجد تعدٍّ ولا تفريط منه - أعني: من الوكيل -: سواء كانت الوكالة بُجعْل وأجرة أو لا، أما إن وُجد تعدٍّ أو تفريط من الوكيل فتلف ذلك المال: أو طلب الموكِّل منه ماله، فامتنع الوكيل فتلف: فإنه يضمنه للموكِّل؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المودَع، والشريك، والمرتهن والوصى والولي وأمين الحاكم لا يضمنون ما تلف تحت أيديهم بلا تعدٍّ ولا تفريط، ويضمنون ما تلف بتعدٍّ وتفريط، أو بالامتناع من أداء المال لصاحبه حتى تلف فكذلك الوكيل مثلهم، والجامع: أن كلًّا منهم لو كان عليه ضمان ما تلف تحت يده: لامتنع الناس من قبول وضع الأمانات عندهم، ولما خدم بعضهم بعضًا في ذلك، فينقطع بسبب ذلك التعاون بين المسلمين، وهذا ضرر، والضرر يُزال، وهذا هو المقصد من هذا الحكم، فإن قلت: لِمَ يضمن الوكيل إذا فرَّط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الموكِّل.
(36)
مسألة: إذا اختلف الموكِّل مع وكيله في التفريط والتعدِّي فقال الموكِّل: "تلف مالي عندك بسبب تفريطك" فنفى الوكيل ذلك قائلًا: "أنا لم أفرِّط" ولم توجد بيّنة: فإنه يُقبل قول الوكيل مع يمينه؛ للاستصحاب، حيث إن الأصل براءة ذمَّة الوكيل من أي تعدٍّ أو تفريط، فإذا لم تُوجد بيّنة تشهد لما قال الموكِّل: فإنه يُستصحب الأصل، ويُعمل به، وهو صدق الوكيل وبراءة ذمته، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن الوكيل لو لزمه أن يثبت بيّنة على ما يقول: لامتنع الناس من أن يتوكَّلوا عن غيرهم، وهذا تعطيل ومنع لقضاء حاجات الآخرين، فإن قلت: لِمَ وجبت عليه اليمين؟ قلتُ: للاحتياط، حيث يحتمل صدق =
إقامة البيّنة عليه، ثم يُقبل قوله فيه
(37)
، وإن وكَّله في شراء شيء، واشتراه، واختلفا في قدر ثمنه: قبل قول الوكيل
(38)
، وإن اختلفا في ردِّ العين، أو ثمنها إلى الموكِّل: فقول وكيل متطوع، وإن كان يُجعل: فقول موكِّل
(39)
، وإذا قبض الوكيل الثمن -
= الموكل في دعواه.
(37)
مسألة: إن قال الوكيل: إن مال الموكِّل قد تلف بأمر ظاهر كحريق عام، أو غرق بيوت عام، أو نحو ذلك: فإنه يُكلَّف بإقامة الدليل على ذلك، فإن أثبت الدليل عليه: قُبل قوله، وإن لم يُثبت: يُقبل قول الموكِّل، فيضمن الوكيل المال للموكِّل؛ للتلازم؛ حيث إن البيِّنة على الظواهر سهل إثباتها؛ لكون ذلك مما لا يخفى: فلزم إلزامه ببيانها، ويلزم من عجزه عنها: قبول قول الموكِّل، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لمال الموكِّل، والحثُّ على التحقق من البيّنات والدلائل.
(38)
مسألة: إذا اختلف الموكِّل مع وكيله في قدر الثمن الذي اشترى به الوكيل تلك السلعة لموكله فقال الوكيل: "إني اشتريت هذا الثوب لك بعشرة" وقال الموكِّل: "بل إنك اشتريته بثمانية" فإنه يقبل قول الوكيل مع يمينه؛ للتلازم؛ حيث إن الوكيل أمين، وأعلم بما عُقد عليه من الموكِّل؛ فلزم: أن يُقبل قوله؛ لكونه هو الذي تعاقد مع البائع عند شراء الثوب.
(39)
مسألة: إذا اختلف الموكِّل مع وكيله في ردِّ العين أو ثمنها فقال الوكيل: "إني قد سلَّمتها لك" أو قال: "إني قد سلَّمتُ لك ثمنها" ونفى ذلك الموكِّل: ففيه حالتان: الحالة الأولى: إن كان الوكيل متطوعًا أي: بدون أن يأخذ جُعْلًا أو أجرة من موكِّله -: فإنه يُقبل قوله مع يمينه، بدون الموكِّل؛ للقياس بيانه: كما أنه يُقبل قول الوصي والولي والمودَع المتبرعين في الردّ والثمن ونحو ذلك، فكذلك يُقبل قول الوكيل المتطوّع المتبرع، والجامع: أن كلًّا منهم قد قبض ما عنده من الغير لنفع مالكه، لا لنفعه، الحالة الثانية: إن كان الوكيل قد جُعِل له جُعْلًا وأجرة =
حيث جاز -: فهو أمانة في يده، لا يلزم تسليمه قبل طلبه، ولا يضمنه بتأخيره
(40)
، ويُقبل قول الوكيل فيما وُكِّل فيه
(41)
(ومن ادَّعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو)
= يأخذها مُقابل تلك الوكالة: فإنه يُقبل قول الموكِّل، وعليه: يضمن الوكيل؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المستعير لشيء لا يُقبل قوله في الرد، والثمن، فكذلك لا يُقبل قول الوكيل الذي جُعل له جُعْلًا، والجامع: أن كلًّا منهما قد قبض ما عنده الحظ ونفع نفسه؛ حيث إنه كلَّما طال القبض لذلك الشيء: زادت الأجرة والانتفاع بالمعار، فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو لم يُقبل قول الوكيل المتبرِّع في الحالة الأولى لما قبل أحد أن يتوكَّل عن أحد، فيلحق الناس ضرر لا يخفى، ولو قبل قول الوكيل الذي جُعل له جُعلًا في الحالة الثانية: لتضرر الموكّل.
(40)
مسألة: إذا وكَّل زيد بكرًا في بيع دار له - مثلًا -، وأذن له في قبض ثمنها وباعها الوكيل - وهو بكر - وقبض ثمنها: فإن هذا الثمن يكون أمانة في يد الوكيل لا يجب عليه تسليمه إلى الموكِّل قبل أن يطلبه، ولا يضمنه إذا أخَّره عنده وتلف بلا تعدٍّ ولا تفريط؛ للقياس؛ بيانه كما أن الوديعة أمانة في يد المودَع، لا يجب على المودَع تسليمها للمودع قبل طلبه لها، ولا يضمنها إذا أخَّرها فكذلك الوكيل مثله والجامع: أن كُلًّا من المودِع، والموكِّل قد رضيا في كون ذلك بيدهما، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو ضمن الوكيل ذلك: لما قبل أحد أن يكون وكيلًا عن أحد، وفي ذلك ضرر على الناس.
(41)
مسألة: يُقبل قول الوكيل في الشيء الذي وُكِّل فيه من بيع، وشراء، وقبض ثمن، وصداق، وإجارة، وأجرة، وقدر ذلك، وتلف، ونحو ذلك: سواء كان وكيلًا يُجْعل وأجرة أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن الوكيل أمين في الإخبار بماله وما عليه - كما سبق - فيلزم قبول ما يقول، وتصديقه (فرع): إذا أثبت الموكِّل دليلًا وبيّنة على كذب وكيله فيما قاله: فإن قول الموكِّل يقبل ويُصدَّق بسبب هذه البيِّنة =
بلا بيِّنة: (لم يلزمه) أي: عمرًا (دفعه إن صدَّقه)؛ الجواز أن ينكر زيد الوكالة فيستحق الرجوع عليه (ولا) يلزمه (اليمين إن كذَّبه)؛ لأنه لا يُقضى عليه بالنكول، فلا فائدة في لزوم تحليفه (فإن دفعه) عمرو (فأنكر زيد الوكالة: حلف)؛ لاحتمال صدق الوكيل فيها (وضمنه عمرو) فيرجع عليه زيد؛ لبقاء حقه في ذمته، ويرجع عمرو على الوكيل مع بقاء ما قبضه أو تعدِّيه، لا إن صدَّقه، وتلف بيده بلا تفريط (وإن كان المدفوع) لمدَّعي الوكالة بغير بيّنة (وديعة أخذها) حيث وجدها؛ لأنها عين حقه (فإن تلفت: ضمَّن أيهما شاء) لأن الدافع ضمنها بالدفع، والقابض قبض ما لا يستحقه، فإن ضمَّن الدافع: لم يرجع على القابض إن صدَّقه، وإن ضمَّن القابض: لم يرجع على الدافع، وكدعوى الوكالة دعوى الحوالة، والوصية
(42)
وإن ادعى: "أنه مات وأنا
= والدليل؛ للتلازم؛ حيث تعارض قول الوكيل مع دليل وبيّنة الموكِّل؛ فرُجِّح ما أفاده الدليل والبيِّنة.
(42)
مسألة: إذا كان زيد يُطالب عمرًا بألف ريال - مثلًا -، فذهب بكر إلى عمرو قائلًا له:"أنا وكيل زيد في قبض حقه - وهو الألف - منك فسلِّمني إياها" ولم يُثبت بيّنة على ذلك: فلذلك حالات خمس: الحالة الأولى: إن صدَّق عمرو بكرًا فيما ادَّعاه - وهو: أنه وكيل لزيد -: فلا يجب على عمرو أن يدفع الألف لبكر؛ للتلازم؛ حيث يُحتمل أن يُنكر زيد الوكالة التي ادَّعاها بكر، فيستحق بذلك أن رجع إلى عمرو فيطالبه بحقه - وهو الألف - فيلزم من ذلك الاحتمال: عدم وجوب تسليم عمرو الدَّين - وهو الألف - لبكر. الحالة الثانية: إن كذَّب عمرو بكرًا فيما ادَّعاه من أنه وكيل زيد فلا يجب على عمرو اليمين؛ للتلازم؛ حيث لا يُقضى على عمرو بالنكول؛ لعدم وجوب الدفع عليه لبكر - فيلزم عدم الفائدة من اليمين من عمرو، الحالة الثالثة: إن دفع عمرو لبكر الألف ريال، فأنكر زيد أنه وكَّل بكرًا لقبض ذلك المبلغ من عمرو: فيجب على زيد أن يحلف على هذا الإنكار، فإذا حلف فإن عمرًا يضمن ذلك الدَّين - وهو الألف، فيأخذ زيد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حقَّه من عمرو؛ للاستصحاب؛ حيث إن حقَّ زيد ثابت في ذمَّة عمرو، وهذا هو الأصل فيُستصحب هذا، ويُعمل به، فيكون - على هذا - حقُّ زيد باقيًا في ذمة عمرو، ولا تبرأ ذمته إلا بالأداء، أو الإبراء ولم يحصل شيء من ذلك، الحالة الرابعة: إن دفع عمرو لبكر - وهو المدَّعي الوكالة بغير بيّنة - هذا الدَّين، أو هذه الوديعة، وكانت عينًا ظاهرًا كثوب مثلًا: فإن زيدًا إن وجده عند عمرو، أو عند بكر بعينه: فإنه يأخذه؛ للتلازم؛ حيث إن هذا الثوب هو عين حق زيد فيلزم أخذه: سواء كان عند عمرو أو عند بكر، الحالة الخامسة: إن تلفت تلك العين - وهو: الثوب مثلًا - المدفوع لبكر: فإن زيدًا يُضمِّن عمرًا أو بكرًا - وهو مدَّع الوكالة -، ويطلب من أحدهما ثمن ذلك الثوب؛ للتلازم؛ حيث إن الدافع لهذا الدين أو الوديعة - وهو عمرو -: ضمن ذلك بسبب دفعها إلى غير مستحقها بغير إذن شرعي، والقابض - وهو بكر - وهو مُدَّع الوكالة - قبض مالا يستحقه من دين أو وديعة، فيلزم من ذلك: أن يتوجَّه الضمان إلى كلٍّ منهما، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقِّ زيد من الضياع (فرع): إذا سلَّم عمرو بكرًا - وهو مدَّع الوكالة - الحق وبقي ما سلَّمه إياه وقبضه: بيده: فإن عمرو يرجع إليه ويأخذه منه: سواء صدَّقه أو لا، وسواء حصل تفريط أو لا، وإن لم يبق حقه بعينه: فإنه - أي: عمرو - يُطالب بكرًا ببدل هذا الحق بشرط: أن يكون قد فرَّط، أو تعدَّى، أما إن صدَّقه على أنه وكيل وتلف بيده بلا تفريط: فلا يرجع؛ للتلازم؛ حيث يلزم من أخذ بكر غير حقه: أن يُرجعه إلى صاحبه المأخوذ منه إن وُجد بعينه، أو يُرجع ثمنه: إن لم يوجد، ويلزم من تصديقه وإقراره: أن لا يرجع (فرع ثان): إذا ادَّعى بكر أن زيدًا قد أحاله على عمرو ليأخذ دينه منه، أو ادَّعى بكر أن زيدًا أوصى له بما عند عمرو: فإن لذلك خمس حالات كما سبق في مسألة (42).
وارثه": لزمه الدفع إليه مع التصديق، واليمين مع الإنكار على نفي العلم
(43)
.
* * *
(43)
مسألة: إذا كان زيد يُطالب عمرًا دينًا قدره ألف ريال، فجاء بكر إلى عمرو "وادَّعى أن زيدًا قد مات وأنا وارثه" فإن صدَّقه عمرو بأدلة: فإنه يجب على عمرو أن يدفع إليه حق زيد، وإن كذَّبه وأنكر أنه وارثه: فيجب على عمرو اليمين على هذا، وكذا إن أنكر موت زيد؛ للتلازم؛ حيث إن تصديقه: إقرار بحقه فيلزم أن يدفع له هذا الحق، ويلزم من ذلك: أنه يحلف مع الإنكار.
هذه آخر مسائل باب "الوكالة" ويليه باب "الشركة".
باب الشركة
بوزن "سرقة" و"نعمة" و "تمرة"
(1)
(وهي) نوعان: شركة أملاك وهي: (اجتماع في استحقاق) كثبوت الملك في عقار، أو منفعة لاثنين فأكثر (أو) شركة عقود، وهي: اجتماع في (تصرُّف) من بيع ونحوه
(2)
(وهي) أي: شركة العقود - وهي المقصودة هنا -
باب الشركة
وفيه ثمانون مسألة:
(1)
مسألة: الشركة لغة الاختلاط، ومنه قوله تعالى:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} والخلطاء هم: الشركاء، وجاء لفظها لغة بفتح الشين وكسر الراء فقيل:"شَرِكة" مثل "سَرقَة" و "كلمة" وهو المشهور وجاء بكسر الشين وسكون الراء فقيل: "شِرْكة" مثل: "نِعْمَة" وجاء بفتح الشين وسكون الراء فقيل: "شَرْكة" مثل: ""تَمرة" للاستعمال اللغوي؛ حيث ورد ذلك في استعمالات أهل اللغة كما نقله صاحب المحكم والفيومي في "المصباح" (310)، والشركة اصطلاحًا: ثبوت الحق في شيء لاثنين فأكثر على جهة الاختلاط والشيوع، وهذا شامل النوعي الشركة، وهما: شركة أملاك، وشركة عقود؛ للاستقراء والتتبع للنصوص وكلام الفقهاء؛ حيث ثبت بعد استقراء وتتبع ذلك أن المراد بالشركة ما ذكر.
(2)
مسألة: الشركة: نوعان: أولهما: شركة أملاك، والمراد بها: أن يجتمع اثنان فأكثر في ملكية مال واستحقاقه بدون قصد منهما كأن يرثان مالًا أو عقارًا معًا من مورِّث واحد، أو يوصي لهما به، أو يوصي بمنفعتهما لهما فقط دون الملك كمن أوصى لاثنين فأكثر بمنفعة عقار أو عبد أو نحو ذلك، وكل واحد من هذين الشريكين لا يتصرَّف إلّا بعد الإذن من الآخر، وإن تصرَّف بدون إذنه: نفذ في حصته من هذا الملك إن كان يحتمل؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} =
(أنواع) خمسة
(3)
(فـ) أحدها (شركة عنان) سُمِّيت بذلك؛ لتساوي الشريكين في المال والتصرف كالفارسين: إذا سويا بين فرسيهما وتساويا في السير، وهي:(أن يشترك بدنان) أي: شخصان فأكثر
(4)
مسلمين، أو أحدهما، ولا تكره مشاركة كتابي لا يلي
= فسمَّى الوارثين شركاء في هذا الثلث، والوصية كالإرث في ذلك؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة" ثانيهما شركة عقود؛ وهي: أن يجتمع إثنان فأكثر في تصرف بسبب عقد قد تم بينهما؛ لأجل تحصيل ربح قد قصداه، وتكون في بيع وإجارة ونحوهما؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} والخلطاء هم الشركاء كما قال ابن فارس وهذا يكون بين الشريكين القاصدين للربح، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما" والمراد أنا معهما بالحفظ والإعانة والبركة، فإذا وقعت الخيانة من أحدهما: رُفعت تلك الإعانة والبركة من مالهما، ولفظ "الخيانة" يلزم منه أن المقصود شركة العقود؛ لكون أحد الشريكين قد استولى على ربح أخيه.
(3)
مسألة: المقصود بالشركة إذا أطلقت هي: شركة العقود بأنواعها الخمسة - وهي: عنان ومضاربة، ووجوه، وأبدان، ومفاوضة -؛ للمصلحة: حيث إنها وقعت وحدثت بالاختيار بقصد التصرّف، وتحصيل الربح، وتنمية مال الشريكين، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى المأمور به في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} .
(4)
مسألة: في الأول - من أنواع شركة العقود - وهو: شركة عنان وهي: أن يشترك اثنان فأكثر بماليهما؛ ليعملا بالتجارة في هذا المال ببدنيهما وربحه لهما معًا على ما شرطاه - وسيأتي بيان ذلك في الشروط والمواصفات الآتية - فإن قلتَ: لِمَ سُمِّيت هذه الشركة بهذا الاسم؟ قلت: نظرًا لاستواء الشريكين في ولاية التصرف في ماله =
التصرُّف
(5)
= ومال شريكه معًا، ونظرًا لاستوائهما في الفسخ، واستحقاق الربح بقدر المالين؛ أخذًا من عنان الدابة، بيانه: كما أن طرفي عنان الدابتين إذا استويا فإنهما يستويان في السير، فكذلك الشريكان يستويان في ذلك، والجامع: الاستواء في كل، (فرع): يُشترط أن يكون كل واحد من الشريكين جائز التصرف؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز البيع إلا من جائز التصرف فكذلك لا تجوز هذه الشراكة إلّا من جائز التصرف والجامع: العقد على التصرف.
(5)
مسألة: يجوز أن يشارك المسلم الكافر الكتابي - اليهودي والنصراني - بدون كراهة لكن بشرط: أن لا يلي الكافر التصرّف في الشركة بمفرده، بل لا بدَّ من حضور شريكه المسلم، للمصلحة: حيث إن الكافر يتعامل بالربا، ويبيع ويشتري الخمور، والخنازير، فيخشى من تفرّده: أن يتعامل بذلك بدون علم شريكه المسلم، فاشترط هذا الشرط، دفعًا لهذه المفسدة، حيث إن المسلم سيمنعه من ذلك، فإن قلتَ: يكره أن يشارك المسلم الكافر الكتابي وهو قول الشافعي؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون مال الكفار غير طيب نظرًا لكونهم يتعاملون بالربا ونحو ذلك: عدم جواز مشاركتهم، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس قد كره مشاركتهم قلتُ: أما كون أموالهم غير طيبة فلا يلزم منه كراهيتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاملهم: فقد طالب بعضهم بثوبين إلى ميسرة، واستضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة، ورهن درعه عند يهودي على شعير أخذه إلى أهله والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل إلّا طيبًا، وأما قول ابن عباس: فيُحمل على ما إذا انفرد الكافر بالتصرف بمفرده وهذا منفي باشتراطنا - وهو: "أن لا يلي التصرف في الشركة بمفرده -، وإذا دخل الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. فإن قلتَ ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض المصلحة مع قول الصحابي والتلازم" فعملنا بالمصلحة العامة، لضعف التلازم، وقول الصحابي، وعملوا بهما؛ لقوتهما عندهم.
(بماليهما المعلوم) كل منهما
(6)
، الحاضرين
(7)
(ولو) كان مال كل منهما (متفاوتًا): بأن لم يتساو المالان قدرًا
(8)
، أو جنسًا
(9)
،
(6)
مسألة: يُشترط أن يكون مال كل واحد من الشريكين - في العنان - معلومًا عند العقد؛ للمصلحة: حيث إن عدم علم مقدار المال الذي يريد أن يُشارك أحدهما الآخر به يؤدي إلى الغرر وظلم أحدهما للآخر، فدفعًا لذلك اشترط هذا.
(7)
مسألة: يُشترط: أن يكون مال كل واحد من الشريكين - في العنان - حاضرًا عند العقد فلا تصح هذه الشركة بمال في الذمّة، أو على مال غائب؛ للمصلحة: حيث إن المال الحاضر يُبعد الغرر والجهالة عنهما في المستقبل؛ إذ فيه تمييز لحق كل واحد منهما، فيكون العقد مبنيًا على شيء ملموس ومحسوس وهذا أحسن العقود.
(8)
مسألة: لا يُشترط تساوي الشريكين - في العنان - في قدر المال الذي يدفعانه بل تجوز تلك الشركة مع تساوي المالين، ومع كون مال أحدهما أكثر من الآخر - إذا كان معلومًا - كأن يدفع أحدهما ألفًا، والآخر يدفع ألفين، ويُقسَّم الربح على ثلاثة: يكون للأول الثلث ويكون للثاني الثلثان للقياس؛ بيانه: كما تجوز الشركة بالمالين المتساويين، فكذلك تجوز بمالين مختلفين في المقدار، والجامع: أن كلًّا من المالين من جنس الأثمان، ومعلوم مقداره وهو لا يؤدِّي إلى الغرر بكل واحد منهما عادة، وفي ذلك تيسير على الناس، وهو المقصد منه.
(9)
مسألة: لا يُشترط تساوي الشريكين - في العنان - في جنس المال الذي يدفعانه، بل تصحّ هذه الشركة، وإن اختلف جنس المال كأن: يدفع أحدهما دنانير، والآخر يدفع دراهم، ويُحسب مقدار كل جنس بما يُساويه في السوق؛ للقياس؛ بيانه: كما تجوز الشركة في مالين من جنس واحد فكذلك تجوز من جنسين والجامع: أن كلًّا منهما يُعتبر ثمنًا ولا يفضي إلى التنازع عادة؛ لعدم الغرر فيه، والمقصد منه: التوسعة على المسلمين.
أو صفة
(10)
(ليعملا فيه ببدنيهما) أو يعمل فيه أحدهما، ويكون له من الربح أكثر من ربح ماله
(11)
فإن كان بدونه: لم يصح، وبقدره إبضاع
(12)
، وإن اشتركا في مختلط
(10)
مسألة: لا يُشترط تساوي الشريكين - في العنان - في صفة المال الذي يدفعانه، فتجوز هذه الشركة وإن اختلفا في صفة المال كأن: يدفع أحدهما ريالات سعودية والآخر يدفع ريالات يمنية أو قطرية أو دولارات، أو جنيهات أو نحو ذلك، ويحسب مقدار كل شيء بحسابه في السوق؛ للقياس؛ بيانه: كما تصح الشركة في مالين - قد اتفقا في الصفة فكذلك تصح في مالين قد اختلفا في الصفة، والجامع: أن كلًّا منهما يُعتبر ثمنًا، ولا يؤدي إلى الغرر والاختلاف عادة، وفيه توسعة على المسلمين، وهو المقصد منه.
(11)
مسألة: لا يُشترط أن يعمل كل واحد من الشريكين - في العنان - ببدنيهما، بل تصح هذه الشركة سواء عمل كل واحد منهما ببدنه أو عمل أحدهما ببدنه، والآخر لم يعمل ببدنه، ويكون للعامل ببدنه حقَّان من الربح:"حقٌّ مقابل عمله بدنه"، وهذا يتفقان عليه عند العقد، و"حقٌّ مقابل شركته بماله"؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قيام العامل ببدنه بذلك دون الآخر أن يكون له شيء زائد مقابل عمله ببدنه دون الآخر وذلك نظير عمله في مال شريكه، وهذا من التيسير على المسلمين في المعاملات، وهو المقصد منه.
(12)
مسألة: إن أخذ العامل ببدنه شيئًا مقابل عمله بدون ربح ماله: فإن شركة العنان لا تصح، ويكون ما أخذه بقدر ماله إبضاع - وهو: أن يُعطي من يبيع له بلا جُعل سابق، أو يدفع مالًا لمن يعمل فيه بلا عوض -؛ للمصلحة: حيث إنه إذا أعطي الشريك العامل ببدنه بدل عمله بدون ربح ماله: فإنه يؤدِّي إلى أن يأخذ جزءًا من ربح مال شريكه الآخر بلا عمل منه، وهو من باب سد الذرائع، فإن قلتَ: إن وقع هذا فكيف يُصحَّح؟ قلت: يُصحَّح بأن لا يأخذ العامل بدل عمله، ويكون له ربح ماله فقط، ويكون مُتبرعًا بعمله.
بينهما شائعًا: صح إن علما قدر ما لكل منهما
(13)
(فينفذ تصرُّف كل منهما فيهما) أي: في المالين (بحكم الملك في نصيبه و) بحكم (الوكالة في نصيب شريكه) ويغني لفظ "الشركة" عن إذن صريح في التصرُّف
(14)
(ويشترط) لشركة العنان والمضاربة: (أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين)؛ لأنهما قيم الأموال، وأثمان البياعات
(15)
،
(13)
مسألة: تصح شركة العنان في مال قد اختلط وشاع بين اثنين كأن: يرثان مالًا معًا، أو يوصي أحد بمال لهما: - سواء كان عقارًا أو نقودًا - بشرط: أن يعلم كل واحد منهما قدر ما يملكه من هذا المال كأن يكون لأحدهما نصفه، والآخر له النصف الثاني، أو نحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إنه إذا علم كل واحد منهما قدر نصيب الآخر عند العقد: فإنه ينتفى الغرر والجهالة بحق كل واحد منهما عند الربح فيلزم من ذلك صحة الشركة؛ لتوفر شرطها.
(14)
مسألة: يصح تصرُّف كل واحد من الشريكين - في العنان - ببيع أو شراء، أو إجارة، أو أي شيء فيه مصلحة لما اشتركا فيه، وينفذ، ولو لم يستأذن أحدهما الآخر؛ للتلازم؛ حيث إن لفظ "الشركة" يلزم منه الإذن لكل واحد منهما بالتصرُّف في ماله بصفة الملكية والتصرف في مال شريكه بصفة الوكالة، إذ لو كان كل واحد من الشريكين يتصرَّف بماله فقط: لما كان لهذه الشركة من فائدة، فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا الحكم؟ قلتُ: للمصلحة حيث إنه بهذا ينمو مالهما، ويكثر ربحهما ويتحقق الغرض الذي من أجله اشتركا؛ لكون التردد في التصرُّف؛ لمشاورة شريكه سببًا في الخسارة غالبًا.
(15)
مسألة: يُشترط لصحة شركة العنان: أن يكون رأس المال الذي يدفعه كل واحد منهما من النقدين اللَّذين يُتعامل بهما الناس غالبًا في حين انعقاد الشركة بينهما، وهما المضروبان غير المغشوشين؛ للمصلحة حيث إن المقصود من هذه الشركة: البيع والشراء والإجارة؛ لتنمية ربح تجارتهما ولا يتحقق ذلك إلّا بماله قيمة مالية وثمن عند البيع والشراء وهذا هو المتعامل به وهو المضروب والمتداول بين =
فلا تصح بعروض
(16)
، ولا فلوس ولو نافقة
(17)
، وتصح بالنقدين (ولو مغشوشين
= الناس فلزم اشتراطه، فإن قلتَ: لِمَ اشترط هذا؟ قلتُ: لمصلحة الشريكين وهو واضح، تنبيه: هذا الشرط يُشترط أيضًا لشركة "المضاربة" كما سيأتي، تنبيه آخر: العروض التي يُعرف ثمنها تصح الشركة فيها كما سيأتي.
(16)
مسألة: تصح شركة العنان بالعروض: كأن يدفع أحد الشريكين ثيابًا ويدفع الآخر بُرًّا، ويجعل رأس المال قيمتها عند عقد الشركة، وهو مذهب أكثر العلماء؛ للقياس؛ بيانه: كما تصح الشركة في الأثمان - كما سبق - فكذلك تصح في العروض والجامع: وجود مقصود الشركة في كل، وهو تحقيق الربح، وجواز تصرفهما في المالين معًا في كل، وكون ربح المالين بينهما في كل، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين. فإن قلتَ: لا تصح الشركة بالعروض، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن هذا يؤدّي عادة إلى التنازع؛ لأن قيمة هذا العرض - وهو البر مثلًا - ربما زادت قبل بيعه فيُشاركه الآخر في نماء العين الذي شارك غيره به - وهو البر مثلًا - وهي ملك خاص له، ونماؤه له، وربما نقصت قبل بيعه فيشاركه الآخر في هذا النقص فيقع بسبب ذلك تنازع وتخاصم عند الربح، فدفعًا لذلك حكم بعدم صحة ذلك قلتُ: إذا جُعل رأس المال قيمة العروض عند عقد الشركة، وهو الذي اشترطناه، وكل واحد عارف برأس ماله قبل العقد، فيبعد حصول التنازع والتخاصم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض القياس مع المصلحة" أو "تعارض المصلحتين".
(17)
مسألة: تصح شركة العنان بالفلوس: سواء كانت نافقة ولها رواج أو لا، ويجعل رأس المال مثلها إن كانت نافقة، ويجعل رأس المال قيمتها إن كانت كاسدة؛ للقياس؛ بيانه: كما تجوز تلك الشركة بالأثمان بذلك الشرط: فكذلك تجوز بالفلوس، والجامع: جواز تصرفهما في المالين معًا، وكون ربح المالين=
يسيرًا) كحبة فضة في دينار، ذكره في "المغني" و "الشرح"؛ لأنه لا يمكن التحرُّز منه، فإن كان الغش كثيرًا: لم يصح؛ لعدم انضباطه
(18)
(و) يشترط أيضًا (أن يشترطا لكل
= بينهما، وتحقق مقصود الشركة، فإن قلت: لا تصح الشركة بالفلوس، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة؛ حيث إن هذا يؤدي إلى التنازع حيث إن تلك الفلوس تنفق مرة ويكون لها رواج، وتكسد أحيانًا، فلا يؤمن الضرر والجهالة فيقع التنازع في نصيب كل واحد من الشريكين من الربح، فدفعًا لذلك حكم بعدم الصحة قلتُ: إذا عرف كل واحد من الشريكين مثل ما دفعه، أو قيمة ما دفعه عند عقد الشركة فلا يحصل تنازع، وسبب الخلاف هو نفسه سبب الخلاف الذي ذكر في مسألة (16).
(18)
مسألة: تصح شركة العنان إذا دفع الشريكان، أو أحدهما نقودًا مغشوشة غشًا يسيرًا: كأن يكون في الدينار حبة صغيرة من الفضة، أما إن كان الغش كثيرًا - كأكثر من الحبة -: فلا تصح الشركة، للمصلحة: حيث إن الاحتراز من الغش اليسير شاق، ولا يمكن التحرز منه غالبًا، ولا تزيد قيمة الدينار ولا تنقص به عادة، فصحَّت الشركة به، بخلاف الغش الكثير فيمكن الاحتراز منه، ويسهل اكتشافه وتزيد القيمة أو تنقص به ولا ينضبط، فدفعًا لذلك لم تصح الشركة به، فإن قلتَ: تصح الشركة بالنقود المغشوشة مطلقًا، أي: سواء كان الغش يسيرًا أو كثيرًا؛ للقياس؛ بيانه: كما تصح الشركة بالعروض، فكذلك تصح بالنقود المغشوشة والجامع: نقصان القيمة أو زيادتها في كل، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن العروض كلها لها قيمة؛ بخلاف النقود المغشوشة، فالمغشوش منها لا قيمة له، فينقص النقد بسبب ما فيه من الغش، ويُعفى شرعًا عن اليسير من الغش؛ لعدم تأثيره عادة، ولصعوبة التحرز منه ولكون الشارع يعفي عن اليسير؛ بخلاف الغش الكثير فلا يُعفى عنه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع القياس" وهو واضح.
منهما جُزءًا من الربح مشاعًا معلومًا) كالثلث والربع؛ لأن الربح مستحق لهما بحسب الاشتراط، فلم يكن بد من اشتراطه كالمضاربة
(19)
، فإن قالا: والربح بيننا: فهو بينهما نصفين
(20)
(فإن لم يذكرا الربح): لم تصح؛ لأنه المقصود من الشركة، فلا يجوز الإخلال به
(21)
(أو شرطًا لأحدهما جزءًا مجهولًا): لم تصح؛ لأن الجهالة تمنع تسليم
(19)
مسألة: يُشترط لصحة شركة العنان: أن يعلم كل واحد من الشريكين نصيبه من الربح مشاعًا: كأن يتفقان على أن لأحدهما الثلث أو الربع، وللآخر الباقي وهكذا، وهذا حين عقد الشركة بينهما؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن شركة المضاربة يُشترط فيها: أن يكون كل واحد من الشريكين عالمًا بنصيبه من الربح حين عقد الشركة فكذلك شركة العنان مثلها، والجامع: أن كلًّا منهما مقصده الربح بحسب شراكتهما فلا بدَّ من اشتراط علم كل واحد من الشريكين بنصيبه منه؛ ليعمل على ذلك ويقصده، الثانية: المصلحة؛ حيث إن المقصود من الشركة هو: تحقيق الربح، فلو لم يعلم كل واحد منهما بقدر نصيبه منه: لأدَّى إلى التنازع والاختلاف، فدفعًا لذلك اشتُرط ذلك.
(20)
مسألة: إذا قال كل واحد من الشريكين عند عقد الشركة: "الربح بيننا": فإنه يكون لكل واحد منهما نصف الربح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لفظ: "بيننا": التسوية في الربح بينهما؛ لكون إضافته إليهما إضافة واحدة من غير ترجيح قياسًا على من قال: "هذه الدار بيني وبينك"، تنبيه: هذا الحكم أيضًا يكون في شركة المضاربة كما سيأتي.
(21)
مسألة: إذا عقد الشريكان عقد شركة العنان ولم يذكر الربح: فإن الشركة تصح، ويكون الربح بينهما كل بقدر ماله، وهو قول كثير من العلماء، للتلازم؛ حيث إنه يلزم من عقد تلك الشركة: وجود الربح لكل منهما، ولا سبيل إليه إلا أن يكون بقدر مال كل منهما من باب:"ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب"، فإن قلتَ: إن الشركة في هذه الحالة لا تصح، وهو ما ذكره المصنف هنا؛=
الواجب
(22)
(أو) شرطا (دراهم معلومة): لم تصح؛ لاحتمال أن لا يربحها، أو لا يربح غيرها
(23)
، (أو) شرطا (ربح أحد الثوبين) أو إحدى السفرتين، أو ربح تجارة
= للمصلحة: حيث إن المقصود من هذه الشركة هو الربح الذي سيعود نفعه إليهما، فترك ذكره والإخلال به: يمنع صحة الشركة؛ نظرًا لعدم النفع، قلتُ: إن مجرَّد اتفاقهما على الشركة، يلزم منه أن لكل واحد منهما ربح ماله الذي شارك الآخر فيه، ولا يلزم منه ذكر ذلك بصراحة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الربح هل هو من لوازم عقد الشركة أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا.
(22)
مسألة: إذا شرط الشريكان - في العنان - لأحدهما جُزءًا من الربح غير معلوم القدر: كأن يقول أحدهما للآخر: "لك حصة أو لك نصيب من الربح" أو يقول: "لك مثل ما شرط لفلان" وهما يجهلانه، أو أحدهما يجهله: فإن الشركة، لا تصح؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الجهالة في ثمن المبيع وأجرة المؤجَّر تمنع من صحة البيع والإجارة فكذلك الجهالة في مقدار الربح في الشركة تمنع صحة الشركة، والجامع: أن كلًّا منهما حق وقع هذا التصرف لأجله فيجب العلم بمقداره، والجهالة فيه تمنع تسليم هذا الحق، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق كلٍّ من الشريكين، وفيه منع من أن يأكل أحدهما مال الآخر بالباطل.
(23)
مسألة: إذا اشترط أحد الشريكين أو كلاهما نصيبه من الربح دراهم معلومة كأن يقول: "أنا أشترط أن يكون ربحي ألف ريال" أو يقول: "ربحي يكون جزءًا ومائة ريال": فلا تصح الشركة؛ للمصلحة: حيث إنه يُحتمل أن لا تربح الشركة إلّا هذا الألف فيأخذه المشترط، دون شريكه، ويُحتمل أن لا يربح هذا الألف أصلًا، فيأخذ ما اشترطه من رأس مال الشركة، فيقع الظلم على الشريك، ويُحتمل أن تربح تلك الشركة ملايين الريالات فلا يأخذ هذا المشترط إلا ذلك=
في شهر، أو عام بعينه:(لم تصح)؛ لأنه قد يربح في ذلك المعيَّن دون غيره أو بالعكس، فيختص أحدهما بالربح، وهو مخالف لموضوع الشركة
(24)
(وكذا: مساقاة ومزارعة، ومضاربة) فيُعتبر فيها تعيين جزء مُشاع معلوم للعامل؛ لما تقدَّم
(25)
= الألف الذي اشترطه، فيقع الظلم على المشترط فدفعًا لذلك الظلم عن الطرفين: شُرع عدم صحة تلك الشركة.
(24)
مسألة: إذا شرط أحد الشريكين: أن يكون ربحه شيئًا مُعيَّنًا كأن يقول أحدهما: "ربح الثوب الأسود لي وربح الثوب الأبيض لك"، أو يقول:"ربح السَّفْرة الأولى من مكة إلى بغداد لي، وربح السَّفْرة الثانية من مكة إلى دمشق لك" أو يقول: "ربح تجارة شهر محرم لي، وربح تجارة شهر صفر لك" أو يقول: "ربح هذه السنة لي، وربح السنة القادمة لك" وهكذا: فإن الشركة لا تصح؛ للمصلحة: حيث إن التجارة قد تربح في الثوب الأسود دون الأبيض، أو بالعكس، وقد تربح تجارة السفرة الأولى دون الثانية، أو بالعكس، وقد تربح التجارة في شهر المحرم، دون صفر، أو بالعكس، فيلزم من هذا اختصاص أحد الشريكين بالربح دون الآخر فيتسبَّب هذا في الإضرار بالآخر، وهذا مخالف للمقصد الشرعي من مشروعية الشركة - وهو: أن يُقسَّم الربح بين الشريكين بقدر رأس مال كل واحد منهما - فدفعًا لهذا الضرر لم تصح الشركة أصلًا؛ حماية للشريكين معًا.
(25)
مسألة: يُشترط: أن يعرف كلُّ واحدٍ من الشريكين والمتعاقدين نصيبه من الربح مشاعًا عند العقد في كل من شركة العنان - كما سبق في مسألة: (19) - وشركة المضاربة، والمساقاة، والمزارعة: أي: لا بدَّ من معرفة العامل لنصيبه قبل العقد، فلا تصح المساقاة أو المزارعة إن شرط العامل جزءًا مجهولًا، أو اشترط شيئًا معينًا، أو اشترط ثمرة شجرة معينة، أو اشترط ثمرة ناحية من الأرض أو نحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُشترط ذلك في شركة العنان - كما سبق في مسائل (19 و 20 و 21 و 22 و 23 و 24) فكذلك يُشترط في المضاربة والمساقاة والمزارعة =
(والوضيعة) أي: الخسران (على قدر المال) بالحساب: سواء كان لتلف: أو نقصان في الثمن، أو غير ذلك
(26)
(ولا يُشترط خلط المالين)؛ لأن القصد: الربح، وهو لا يتوقف على الخلط (ولا) يُشترط أيضًا (كونهما من جنس واحد) فيجوز إن أخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم
(27)
، فإذا اقتسما: رجع كل بماله، ثم اقتسما
= والجامع: حماية الشريكين أو أحدهما من الضرر والجهالة، وقطع النزاعات في كل.
(26)
مسألة: إذا خسر زيد وعمرو الشريكان - في العنان - في تجارتهما بأي سبب: فإن كل واحد منهما يتحمَّل نصيبًا من الخسارة على قدر ماله ونسبته في الشركة، فمثلًا: لو خسرا مائة ريال، وكان زيد يملك نصف الشركة: فإنه يتحمّل نصف الخسارة وهي: خمسون، والنصف الآخر يتحمَّله عمرو، ولو كان زيد يملك ربع الشركة: فإنه يتحمَّل ربع الخسارة وهي خمسة وعشرون ريالًا ويتحمَّل عمرو ثلاثة أرباع الخسارة وهي خمسة وسبعون ريالًا وهكذا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ربح كل واحد منهما يكون على قدر نصيبه بالحساب فكذلك الخسارة مثل ذلك والجامع: أن عقد الشركة يلزم منه ذلك فيشتركان بالغرم كما اشتركا بالغنم، وهذا يُحقِّق العدالة التي جاء بها الإسلام.
(27)
مسألة: لا يُشترط لصحة شركة العنان: أن يخلط الشريكان ماليهما، فتصح الشركة وإن جعل كل واحد من الشريكين ماله الذي شارك فيه في موضع غير الموضع الذي يوجد فيه مال شريكه؛ للتلازم؛ حيث إن مقصد الشركة هو: تحقيق الربح، وهو متحقق بالخلط وعدمه، فلا يلزم اشتراط الخلط ما دام أن الربح المقصود حاصل ومتحقق بدون اشتراطه، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتسهيل على المسلمين، تنبيه قوله:"لا يُشترط أيضًا كونهما من جنس واحد .. " قلتُ: قد سبق بيان ذلك بالتفصيل في مسألة: (9) ولا داعي لتكرار ما قيل هناك.
الفضل
(28)
، وما يشتريه كل منهما بعد عقد الشركة: فهو بينهما
(29)
، وإن تلف أحد المالين فهو من ضمانهما
(30)
، ولكل منهما أن يبيع ويشتري، ويقبض، ويُطالب بالدين، ويخاصم فيه، ويحيل ويحتال، ويرد بالعيب، ويفعل كل ما هو من مصلحة تجارتهما
(31)
، ....
(28)
مسألة: إذا فسخ الشريكان الشركة: فإنَّ كلَّ واحدٍ من الشريكين يرجع بمثل ماله الذي دفعه عند عقد تلك الشركة، فإن كان أحدهما دفع دنانير: فإنه يرجع بها، وإن دفع الآخر دراهم: رجع بها وهكذا، وأما الربح الحاصل بعد فسخ تلك الشركة - وهو الفضل -: فإنهما يُقسِّمانه على حسب نسبة كل واحد منهما في الشركة، فإن كان لأحدهما الثلث: فله ثلث الربح والفضل والباقي للشريك الآخر، وهكذا؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تحقيق العدالة ودفع الضرر عن كل واحد منهما، وهو المقصد منه.
(29)
مسألة: كل شيء يشتريه أحد الشريكين بعد عقد الشركة بينهما: فإنه يكون لهما معًا، يُقسِّم بينهما على حسب نسبة كل واحد منهما في تلك الشركة، بشرط: أن ينوي أنه اشتراه للشركة، لا لنفسه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عقد الشركة بينهما: تأمين كل واحد صاحبه، وتوكيله في نصيبه، وصحة تصرُّف أحدهما عن الآخر فينتج: أن كل ما اشتراه أحدهما يكون من حقهما معًا؛ لكون هذا هو مقصد الشركة الأصلي.
(30)
مسألة: إذا تشارك زيد وعمرو في شركة العنان، فدفع زيد خمسين ألف، ودفع عمرو مثلها، ثم تلف ما دفعه زيد كله بأي مُتلف، فإنهما يضمنان ذلك معًا، ويتحمَّلانه، فيكون كل واحد منهما كأنه قد دفع خمسًا وعشرين ألفًا، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (26)، فإن قلتَ: لِمَ كرَّر المصنف هذا؟ قلتُ: لكونه قد ذكر أن الشراء لشيء يكون بينهما فأراد أن يذكر الضِّد.
(31)
مسألة: يجوز لكل واحد من الشريكين أن يفعل أيَّ شيء تقتضيه مصلحة الغرض=
لا أن يُكاتب رقيقًا، أو يُزوِّجه، أو يُعتقه
(32)
، أو يحابي، أو يقترض على الشركة إلّا بإذن شريكه
(33)
، ....
= الذي من أجله اشتركا، وهو: تنمية هذه الشركة، والدفاع عنها: فله أن يبيع ما شاء، ويشتري ما شاء، ويقبض الأثمان، ويُسلِّمها لغيره ويقبض المثمن، ويُسلِّمه لغيره، ويُطالب من استدان من الشركة، ويُخاصم من امتنع، ويُحيل إلى مليء، ويقبل الحوالة في ذلك، ويرد السلعة بالعيب، ويُقرُّ في الأمور التي تقبل الإقرار ونحو ذلك، وهذا مطلق، أي: سواء كان تصرفه هذا فيما تولاه بنفسه، أو فيما تولاه شريكه؛ للمصلحة: حيث إن عقد شركة العنان مبنية على الأمانة والوكالة، وهذا يلزم منه: أن يكون الشريك مطلق الحرية فيما تشاركا فيه؛ لكون هذا فيه جلب مصالح لهما، ودفع مفاسد عنهما، فلو اشتُرط أن يستأذن كل شريك صاحبه: لما نمت تجارتهما، ولما ربحا عادة وعرفًا، فدفعًا لذلك: جاز ذلك.
(32)
مسألة: إذا تشارك إثنان أو أكثر في تجارة العبيد: فلا يجوز لأحد الشريكين أن يبيع رقيقًا على نفسه - بأن يشتري رقيق نفسه من أحد الشريكين على أقساط يقوم هذا الرقيق بسداد ذلك على مدَّة وهو المسمَّى بالمكاتبة -، ولا يجوز لأحد الشريكين أن يزوج رقيقًا، ولا يعتقه إلا بعد أن يأذن له شريكه في ذلك؛ للمصلحة؛ حيث إن الشركة انعقدت على مزاولة التجارة وتنمية مال الشريكين معًا، فإذا كاتب أحدهما، عبدًا، أو زوَّجه، أو أعتقه دون إذن شريكه: فإنه يُلحق الضرر بشريكه الآخر، والضرر يُزال، وبناء عليه: لم يجز.
(33)
مسألة: إذا تشارك اثنان فأكثر في شركة "ما": فلا يجوز لأحدهما أن يبيع أحدًا سلعة من الشركة بأنقص من ثمن المثل، ولا أن يشتريها بأكثر من ثمن المثل - وهو: ما يُسمَّى بالمحاباة -، ولا أن يقترض ويجعل ضمانه من الشركة، ولا يقرض أحدًا من الشركة، ولا يُوهب أحدًا إلا بعد أن يأذن له شريكه في ذلك؛ =
وعلى كل منهما أن يتولَّى ما جرت العادة بتولِّيه من نشر ثوب، وطيِّه، وإحرازه، وقبض النقد ونحوه
(34)
،
= للتلازم؛ حيث إن الشركة قد عُقدت من أجل المرابحة والتجارة، وليست هذه التصرفات تجارة فيلزم عدم جوازها؛ لمخالفتها الغرض الذي من أجله عُقدت الشركة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن الشريك إذا فعل تلك التصرفات فسيُلحق الضرر بشريكه، وهذا حرام؛ لأن دفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، أما إذا أذن شريكه له أن يفعل مثل تلك التصرفات: فإنه يجوز؛ لكونه قد أسقط حقه.
(34)
مسألة: يجب على كل واحد من الشريكين أن يحافظ على كل شيء يخصُّ ما اشتركا فيه ويتولى رعايته والعناية به، وأن يحميه بنفسه من أي شيء يعيبه، أو ينقص قيمته: كأن ينشر الثياب والفرش والحطب ونحوها؛ حفظًا لها من الفساد، وأن يطويها، ويحفظها بأمكنة ومستودعات تليق بها؛ لئلا تفسد بسبب الشمس أو الأمطار أو الأتربة؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود من عقد الشركة هو: تنمية المال، والربح، والحرص على عدم الخسارة، ولا يحصل هذا المقصود إلّا بهذه التصرفات فلزمت ووجبت، وهو من باب:"ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب" والمقصد في هذا لا يخفى على أحد، فإن قلتَ: لِمَ لم يُستدل هنا بالعادة كما فعل بعض الفقهاء ومنهم المصنف هنا. قلتُ: إن العرف والعادة لا يصلح للاستدلال به هنا؛ لأنه غير مطرد، فقد يتعارف بعض الناس على أشياء ليست من الشريعة في شيء. (فرع): يجب على كل واحد من الشريكين أن يقبض الثمن النقدي من المشترين والدقة في حسابها وكتابتها، للعرف والعادة؛ حيث إن تولِّي ذلك من قبل أي واحد من الشريكين قد جرت عليه عادة الشركاء؛ لكون الإذن في التصرُّف الذي يلزم من عقد الشركة مطلق، فيُحمل على العرف؛ وهذا معلوم: أن ما ورد من الشارع مطلقًا: فإنه يُحمل على العرف وقد سبق كثير من=
فإن استأجر له: فالأجرة عليه
(35)
.
فصل: النوع (الثاني: المضاربة) من الضرب في الأرض، وهو السفر للتجارة قال تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ، وتسمَّى "قراضًا" و "معاملة" وهي: دفع مال معلوم (لمتجر) أي: لمن يتجر (به ببعض ربحه) أي: بجزء معلوم مشاع منه كما تقدَّم
(36)
، فلو قال: خذ هذا المال مضاربة، ولم يذكر سهم العامل:
= الأمثلة على ذلك، منها: الدم الكثير ينقض الوضوء، والحركة الكثيرة تبطل الصلاة دون القليل من ذلك، ورُجع في تحديد الكثير من القليل إلى العرف، ومن ذلك ما نحن فيه هنا.
(35)
مسألة: إذا لم يفعل أحد الشريكين ما يمكن فعله بنفسه، وإنما استأجر من يفعله عنه: فإن الأجرة تؤخذ من مال الشريك - وهو المستأجر - الخاص، ولا تؤخذ من مال الشركة؛ للمصلحة: حيث إنه يجب على كل واحدٍ من الشريكين أن يقوم بنفسه فيما جرت العادة في ذلك، فلما استأثر أحد الشريكين الراحة، وقدَّمها على المشقة واستأجر من يقوم عنه بذلك، بينما الشريك الآخر قد قام بعمله بنفسه، فلو أخذ الشريك الأول المستأجر الأجرة من مال الشركة لتضرَّر شريكه؛ لكونه قد شقَّ على نفسه بعمله ودفع بعض الأجرة لشريكه المستأجر، فيكون قد تضرر من جهتين، فشرع هذا الدفع هذا الضرر؛ لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة (فرع): إذا لزم الاستئجار على بعض الأعمال التي تخص الشركة كحمل البضائع، أو وزن ما يوزن، أو كيل ما يُكال ونحو ذلك فلكل واحدٍ من الشريكين أن يستأجر عليه، ويدفع الأجرة من مال الشركة؛ للتلازم؛ حيث إن تنمية مال الشركة، والحصول على الربح - وهو المقصد من عقد الشركة - يقتضي ذلك فلزم أن يُدفع ذلك من مال الشركة.
(36)
مسألة: في الثاني - من أنواع شركة العقود - وهو: شركة المضاربة، وهي: "أن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يدفع زيد مالًا معلوم القدر كعشرة آلاف ريال لعمرو لأجل أن يشتغل به بالتجارة بجزء معلوم من الربح يكون مشاعًا" كأن يقول زيد لعمرو: "خذ هذه العشرة واشتغل بها ولك نصف الربح، أو ثلثه ونحو ذلك"، وتسمَّى بالمضاربة، وبالقراض، وبالمعاملة، فإن قلتَ: لم سُمِّيت بالمضاربة؟ قلتُ: لأن العامل - وهو الذي دُفع له المال، وهو هنا عمرو - يضرب في الأرض ويسافر إلى نواحي البلدان ليتِّجر بمال زيد؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} والمراد: السفر للتجارة بقرينة "يبتغون من فضل الله" وهو: رزقه وكسبه كما فسَّره بعض الصحابة بذلك - كما في تفسير القرطبي (19/ 55) وهذه تسمية أهل العراق، فإن قلتَ: لِمَ سميت بالقراض؟ قلتُ: لأن صاحب المال - وهو هنا زيد - قد اقتطع من ماله شيئًا وأعطاه لهذا العامل - وهو هنا: عمرو - ليعمل له فيه، فلما ربحا: اقتطع زيد من الربح شيئًا وأعطاه لهذا العامل - وهو عمرو - نظير عمله؛ لكون القرض في اللغة: القطع، وهو متصل بالضرب؛ للاستعمال اللغوي - كما ورد ذلك في المصباح (497)، وهذه تسمية أهل الحجاز، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّيت بالمعاملة؟ قلتُ: لأن الآخذ للمال - وهو عمرو - ليتجر به يُسمَّى عاملًا لزيد، فتكون معاملة بينهما؛ لأجل مصلحتهما وهي: الحصول على الربح. (فرع): هذه الشركة جائزة شرعًا لِقواعد: الأولى: الكتاب، وقد سبق بيانه، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الصحابة الذين كانوا يتعاملون بها، الثالثة: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن بعض الصحابة كانوا يتعاملون بها؛ الرابعة: المصلحة: حيث إن الناس بحاجة إليها؛ لكون بعض الناس قد يملك المال ولكنه لا يستطيع الاشتغال به، والبعض الآخر لا يملك مالًا، ولكنه عنده من المعرفة والقوة لأن يشتغل بمال غيره، فكل واحد منهما يُكمِّل الآخر، وبذلك يتحصَّلان على الخير معًا.
فالربح كله لرب المال، والوضيعة عليه، وللعامل أجرة مثله
(37)
، وإن شرط جزءًا
(37)
مسألة: يُشترط لصحة شركة المضاربة: أن يُقدَّر نصيب العامل من الربح كنصفه أو ربعه وهكذا، فلو لم يُقدَّر ذلك عند عقد الشركة بأن قال صاحب المال - وهو هنا زيد - "خذ هذا المال مضاربة، ولم يذكر سهم ونصيب العامل - وهو هنا عمرو -، أو قال: "لك جزء من الربح" ولكنه لم يُبيِّن مقدار هذا الجزء: فإن الشركة تفسد، والربح كله يكون لصاحب المال - وهو هنا زيد - ولا يأخذ العامل منه شيئًا، وكذا: الخسارة يتحمَّلها بكاملها صاحب المال - وهو هنا زيد - ويُعطى العامل أجرة عمله، فيُعطى مثل ما يُعطى أيُّ عامل في هذا الشأن وإن لم يحصل ربح؛ للمصلحة: حيث إن عدم معرفة نصيب العامل وقدره حين عقد هذه الشركة، يؤدِّي إلى التنازع والاختلاف بين صاحب المال - وهو زيد - والعامل - وهو عمرو - على حسب العادة والعرف؛ إذ كل واحد سيدَّعي أنه صاحب النصيب الأكثر من الربح؛ لأن أكثر النفوس قد جبلت على حب المال، مما يؤدي إلى أن أحدهما سيأكل قدرًا من مال الآخر وحقه بالباطل، فدفعًا لذلك: اشترط هذا الشرط؛ لكون دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن قلتَ: لِمَ يُعطى العامل أجرة المثل؟ قلتُ: يُعطى ذلك نظير عمله، وعوض عنه كأي عامل في أي صنعة، فإن قلتَ: إن العامل يُعطى من ربح التجارة ما جرت العادة في مثله وهو لكثير من العلماء ومنهم بعض الحنابلة؛ للمصلحة: حيث إن ربح التجارة يكون أكثر بكثير من أجرة المثل، والعامل لا يترك تأجير نفسه في الأمور العادية ويشتغل بالمضاربة إلّا لكونه يرغب في كثرة الربح، قلتُ: إن هذا غير منضبط، فلا يسلم عادة من التنازع، وما قلناه منضبط فيقدم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" فقدمنا المصلحة الأولى؛ لكونها تدفع مفسدة عن الشريكين، ولانضباطها، ولعمومها في دفع التنازع عن المجتمع وما يدفع المفاسد مقدم على ما يجلب المصالح، وعندهم تقدم المصلحة الثانية؛ لكونها =
من الربح لعبد أحدهما، أو لعبديهما: صح، وكان لسيده
(38)
وإن شرطاه للعامل ولأجنبي معًا، ولو ولد أحدهما، أو امرأته، وشرطا عليه عملًا مع العامل: صح وكانا عاملين، وإلا: لم تصح المضاربة
(39)
(فإن قال) رب المال للعامل: اتَّجر به
= في مصلحة العامل، ويؤخذ من ظاهر كلامهم: أن ما يجلب المصالح مقدم على ما يدفع المفاسد.
(38)
مسألة: تشارك زيد وعمرو، واشترط زيد عند عقد الشركة:"أن جزءًا معلومًا من الربح لعبده سالم" أو اشترط كل واحد من زيد وعمرو: أن جزءًا من الربح لعبديهما: فإن هذا الشرط يصح، ويأخذ زيد وعمرو نصيب العبدين؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" فيلتزم كل شخص بما التزم به من الشروط إذا لم يُخالف الشرع، وكل واحد يُطالب بحقه بسبب شرطه ورضى الشريك الآخر، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كل شخص ينبغي أن يشترط لنفسه ما يُناسب حاله: من جلب مصلحة له، أو دفع مفسدة عنه، فإن قلتَ: لِمَ يأخذ زيد وعمرو نصيب العبدين؟ قلتُ: لأن العبد لا يملك، بل هو وما يملك لسيده، فيكون كل واحد من الشريكين كأنه اشترط لنفسه ذلك.
(39)
مسألة: إذا تشارك زيد وعمرو في شركة المضاربة، وشرطا: أن يكون جزء من الربح معلوم لعاملين: بكر، ومحمد - غير العبد - وقالا لبكر:"خذ هذا المال فاتّجر به أنت ومحمد، وما ربحتماه فلكما نصفه أو ربعه" ونحو ذلك: فإن هذا يصح، وهذا مطلق، أي: سواء كان العاملان أجنبيين عنهما معًا، أو كان أحدهما قريبًا لأحد الشريكين كأن يكون ولد زيد، أو زوجته، أو عمه أو خاله، وسواء كان هذا العامل صغيرًا أو كبيرًا، لكن بشرط: أن يكون كل عامل مثل الآخر في العمل في التجارة، فإن لم يكن أحدهما عاملًا: فلا تصح شركة المضاربة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية، وقد سبق بيانها في مسألة:(38)، الثانية:=
(والربح بيننا: فنصفان)؛ لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة، ولا مرجِّح، فاقتضى التسوية
(40)
(وإن قال): اتَّجر به (ولي) ثلاثة أرباعه، أو ثلثه (أو) قال: اتَّجر به و (لك ثلاثة أرباعه، أو ثلثه: صح)؛ لأنه متى علم نصيب أحدهما أخذه (والباقي للآخر)؛ لأن الربح مستحق لهما، فإذا قُدِّر نصيب أحدهما منه: فالباقي للآخر بمفهوم اللفظ
(41)
(وإن اختلفا لمن) الجزء (المشروط) له: (فـ) هو (لعامل) قليلًا كان
= القياس، بيانه: كما أن أحد الشريكين لو اشترط دراهم معلومة كألف مثلًا يأخذها من الربح: فإنه لا يصح ذلك - كما سبق في مسألة (23) - فكذلك لو اشترط أحدهما أو كلاهما أن يُعطى شخص من الربح بدون عمل: فإن هذا الشرط لا يصح، والجامع: أن كلًّا منهما شرط فاسد يعود إلى الربح ففسد به العقد، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه المحافظة على مال الشريكين، فلو أن هذا الشخص غير العامل قد أعطي من الربح دون مقابل: للحق الضرر بالشريكين، أو بأحدهما أو بالعامل الآخر، ويتسبَّب هذا بزيادة البطالة بين أفراد المجتمع، وهذا مما يحاربه الإسلام؛ لأن المسلم خلق لعبادة الله، والعمل لإغناء نفسه وعياله من العبادة، فدفعًا لذلك شرع هذا الحكم؛ لأن الضرر يُزال.
(40)
مسألة: إذا قال صاحب المال - وهو زيد مثلًا - للعامل - وهو عمرو -: "خذ هذا المال فاتَّجر به والربح بيننا": فإن هذا يصح، ويكون نصف الربح للعامل - وهو عمرو - والنصف الآخر لصاحب المال - وهو زيد -؛ للتلازم؛ حيث إن لفظة "بيننا" يلزم منها: أن يكون نصيب كل واحد منهما من الربح مثل نصيب الآخر؛ لكون إضافته إلى الشريكين واحدة؛ لتساوي الطرفين، فلا يُرجَّح أحدهما على الآخر، وهو مفهوم التقسيم، فيكون مثل قوله:"لك نصف الربح ولي نصفه الباقي" ولا فرق.
(41)
مسألة: إذا بان قدر نصيب أحد الشريكين من الربح: فإنه يأخذه، والباقي يكون=
أو كثيرًا؛ لأنه يستحقه بالعمل، وهو يقل ويكثر، وإنما تقدر حصته بالشرط، بخلاف رب المال: فإنه يستحقه بماله، ويحلف مدَّعيه
(42)
، وإن اختلفا في قدر الجزء بعد
= نصيبًا للشريك الآخر، فلو قال صاحب المال - وهو زيد - للعامل - وهو عمرو:"خذ هذا المال واتّجر به ولي ثلاثة أرباع الربح، أو ثلثه": فيصح ذلك، ويكون للعامل - وهو عمرو - الربع، وإن قال:"ولي ثلث الربح": فيصح ويكون للعامل - الثلثان، وإن قال:"ولك ثلاثة أرباع الربح": فيصح ويكون لصاحب المال الربع، وهكذا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ذكره مقدار نصيب أحدهما: معرفة مقدار نصيب الآخر من باب "مفهوم العدد".
(42)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا وقال زيد له: "اتَّجر به بثلثي الربح"، فلما اتَّجر عمرو به - وهو العامل - وربح: اختلفا لمن هذا الجزء المشروط - وهو ثلثا الربح -، فقال صاحب المال - وهو زيد - "إن هذا الجزء المشروط لي"، وقال العامل - وهو عمرو -:"إن هذا الجزء المشروط لي" ولا بيّنة عند كل واحد منهما: فإنه في هذه الحالة يقبل قول العامل - وهو عمرو - مع يمينه، ويكون له ثلثا الربح، ويكون لصاحب المال - وهو زيد - ثلثه، وهذا مطلق، أي: سواء كان الربح قليلًا أو كثيرًا؛ للتلازم؛ حيث إن العامل يستحق هذا الجزء بسبب العمل بالمضاربة ولا يتبين حقه وحصّته على عمله إلّا بالشرط المذكور أثناء العقد فيلزم من ذلك صرف الجزء المشروط لهذا العامل، بخلاف صاحب المال - وهو زيد -: فإنه يستحق نصيبه من الربح بسبب كونه صاحب المال فيلزم من ذلك: عدم حاجته إلى شرط، وهذه قاعدة في العقود التي تشبه تلك المسألة، فإن قلتَ: لِمَ طلب من العامل اليمين هنا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه احتياط للدين، وفيه دفع احتمال أن يكون الجزء المشروط لصاحب المال، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق العامل؛ لأن العادة قد جرت على أن أصحاب الأموال يظلمون العمال لديهم؛ نظرًا لقوتهم، وضعف العمال.
الربح: فقول مالك بيمينه
(43)
(وكذا مساقاة ومزارعة) إذا اختلفا في الجزء المشروط
(44)
، أو قدره؛ لما تقدَّم
(45)
(43)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا، وقال زيد له:"اتَّجر به"، فلما اتَّجر عمرو به، وربحت التجارة اختلفا في قدر الجزء، فقال العامل - وهو عمرو -:"شرطتُ أن يكون لي ثلث الربح" وقال صاحب المال - وهو زيد -: "لا، بل لك ربع الربح"، ولا تُوجد بيّنة لواحدٍ منهما: فإنه في هذه الحالة يُقبل قول صاحب المال - وهو زيد - مع يمينه؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "البيِّنة على المدّعي واليمين على من أنكر" وصاحب المال هنا - وهو زيد - منكر، فيُقبل قوله مع يمينه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق صاحب المال، فإن قلتَ: لِمَ يُطلب من صاحب المال اليمين هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للدِّين، وفيه دفع احتمال أن يكون هذا القدر للعامل.
(44)
مسألة: إذا قال صاحب نخل أو أرض - وهو زيد - لعامل - وهو عمرو -: "اسق لي هذا النخل، أو ازرع هذه الأرض بجزء من نتاجهما وهو: ثلثاه" فاختلفا في هذا الجزء المشروط - وهو الثلثان - هل هو لصاحب النخل والأرض - وهو زيد - أم هو للعامل - وهو عمرو -؟: فإنه يُقبل قول العامل هنا مع يمينه - كما فصَّلناه في مسألة: (42) - للقياس؛ بيانه: كما أنه يُقبل قول العامل في شركة المضاربة، فكذلك يُقبل قول العامل في المساقاة والمزارعة والجامع: أن كلًّا منهما وجد فيه عامل استحق جزءًا من الربح بسبب العمل، ولا يتبين ذلك إلّا بالشرط، والمقصد قد بيّناه في مسألة:(42).
(45)
مسألة: إذا قال صاحب نخل أو أرض - وهو زيد - لعامل - وهو عمرو -: "اسق لي هذا النخل، أو ازرع هذه الأرض" فلما فرغ عمرو من ذلك: اختلفا في قدر الجزء المشروط، فقال عمرو:"اشترطتُ أن لي ثلث النتاج والربح" وقال زيد: "لا، بل لك ربعه": فإنه يُقبل قول زيد، وهو صاحب الزرع والأرض والنخل=
(ومضاربة) كشركة عنان فيما تقدّم
(46)
، وإن فسدت: فالربح لرب المال، وللعامل أجرة مثله
(47)
،
= مع يمينه؛ للسنة القولية: وقد بيّناها، والمقصد من ذلك في مسألته (43).
(46)
مسألة: شركة المضاربة، والقراض والمعاملة مثل شركة العنان فيما يجوز للشريك العامل أن يفعله، وفيما يجب أن يفعله، وفيما يحرم عليه فعله، وقد سبق تفصيل ذلك في مسائل (31 و 32، و 33 و 34)؛ للإجماع، ومستند هذا الإجماع هي: المصلحة؛ حيث إن المصلحة تقتضي تلك الأحكام للشركتين؛ ليتحقق الغرض الذي من أجله اشترك الشريكان فيه، وإن لم يف بذلك: فلا فائدة من عقد الشركة بينهما.
(47)
مسألة: إذا فسد عقد شركة المضاربة بأي سبب مفسد: كأن يترك صاحب المال هذه التجارة، أو يترك العامل ذلك: فإن ما حصل من ربح - إلى فساد تلك الشركة - يكون لصاحب المال - وهو زيد - ولا يُعطى العامل - وهو عمرو - شيئًا منه، بل يُعطى - يعني العامل - أجره مثل أجرة من عمل مثل عمله ويحكم بذلك المتوسطون في عقولهم ممن لهم الخبرة في مثل تلك التجارة؛ للتلازم؛ وهو من وجوه: أولها: أن العامل يستحق جزءًا من الربح إذا تَّمت تلك التجارة، فيلزم من فسادها: فساد كل ما يتعلَّق بها من شروط وغيرها، ومن ذلك: الجزء الذي يُعطى للعامل فهو قد فسد بسبب فساد الأصل، وهو الشركة، ثانيها: أن كون المال مال زيد: يلزم منه: أنه يستحق جميع الربح الناتج عنه؛ لكونه نماء ماله الخاص، فكان من حقه، ثالثها: أنه لا عمل إلّا وله أجرة، فيلزم منه إعطاء هذا العامل عوضًا عنه أجرة تقابل عمله، رابعها: أنه يلزم من تحقيق العدالة ونفي الظلم: أن يُعطى هذا العامل مثل أجرة من عمل مثل عمله يُقدِّرها أهل الخبرة بذلك من أهل العقول المتوسطة في نظراتها للأمور، إذ المشتدِّدين في الدين، أو المتساهلين فيه لا يُقبل قولهم؛ فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن=
وتصح مُؤقتة ومُعلَّقة
(48)
(ولا يضارب) العامل (بمال لآخر إن أضرَّ الأول ولم يرض)؛ لأنها تنعقد على الحظ والنماء، فلم يجز له أن يفعل ما يمنعه منه، وإن لم يكن فيها ضرر على الأول، أو أذن: جاز
(49)
(فإن فعل) بأن ضارب لآخر مع ضرر
= ذلك فيه تحقيق العدالة، وحماية كل من صاحب المال والعامل.
(48)
مسألة: شركة المضاربة تصح مطلقة غير مقيَّدة بزمن، أو حال، أو شرط: كأن يقول زيد لعمرو: "خذ هذا المال فاتَّجر به بربع الربح مضاربة": فإن عمرًا يجوز له - بسبب هذا الإطلاق - أن يتَّجر به شهورًا أو سنوات، ويجوز أن يتَّجر به في حال إقامة زيد وسفره، ويجوز له أن يتَّجر به في جميع أصناف التجارة كالعقارات، والبهائم، وبيع الأغذية، ونحو ذلك، وتصح هذه الشركة مقيدة بزمن كأن يقول زيد لعمرو:"اتَّجر بهذا المال سنة أو سنتين مضاربة بربع الربح" وتصح مقيّدة بحال كأن يقول زيد: "خذ هذا المال واتَّجر به بربع ربحه إذا سافرتُ" وتصح مقيدة بشرط: كأن يقول زيد: "اتَّجر به بربع ربحه في البهائم" ونحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز للموكل أن يُطلق الوكيل بأن يتصرَّف في تلك الوكالة بدون قيد بزمن، أو حال، أو شرط، ويجوز له أن يقيد الوكالة بزمن أو حال، أو شرط فلذلك شركة المضاربة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما فيه إذن في التصرُّف، وهذا يدخل فيه المطلق، والمؤقت، والمعلق، والمقيد بأي شيء، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة لأحوال المسلم، فأحيانًا تقتضي مصلحته إطلاق هذه الشركة، وتقتضي أحيانًا تقييدها بأي شيء: من زمن، أو حال، أو شرط.
(49)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا قائلًا له مثلًا: "خذ يا عمرو هذا المال واتَّجر به مضاربة بربع ربحه" فقبل عمرو وشرع بالمتاجرة: فإنه لا يجوز له - أي: لعمرو - أن يتاجر بمال أعطاه إيّاه بكر بشرط: أن تكون متاجرته بمال بكر مضرّة بمتاجرته بمال زيد، أما إن كانت متاجرته بمال بكر لا تضرّ بمتاجرته بمال =
الأول بغير إذنه: (ردَّ حصته) من ربح الثانية (في الشركة) الأولى؛ لأنه استحق ذلك بالمنفعة التي استحقت بالعقد الأول
(50)
،
= زيد، أو كانت تضرُّ به، لكن زيدًا قد أذن له في ذلك ورضي: فإنه يجوز لعمرو أن يتاجر بمال زيد وبكر معًا؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية مال زيد من الخسارة - وهو أولى بأن يُراعى؛ لكونه أول من أخذ ماله عمرو -، أما إذا كانت متاجرة عمرو بمال بكر لا تضر بمتاجرته بمال زيد أو كانت تضر ولكن زيد رضي وأذن: فلا مانع؛ لنفع عمرو وبكر، وكل ذلك أصله قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، وقاعدة:"الضرر يزال".
(50)
مسألة: إذا وقع وتاجر العامل - وهو: عمرو - بمال الأول - وهو زيد - وهي الشركة الأولى، ثم تاجر بمال الثاني - وهو: بكر - وهي الشركة الثانية وربح العامل في الشركتين: بدون إذن زيد فإن عمرًا في هذه الحالة يُعطي بكرًا نصيبه من ربح الشركة الثانية، أما نصيب عمرو من ربح هذه الشركة - وهي الثانية - فإنه يُضاف إلى ربح الشركة الأولى، ويقتسمه مع صاحب رأس مالها - وهو زيد - على حسب الجزء المشروط من ربحها عند عقد تلك الشركة - وهي الأولى -؛ للمصلحة: حيث إن العامل - وهو عمرو - قد تعدَّى، وعمل مع الثاني - وهو بكر - مع أن الحق: أن يعمل بالشركة الأولى؛ لأن العقد يقتضي ذلك، فلحق الأول - وهو زيد - الضرر، فدفعًا للضرر عن زيد، وحماية له، وزجرًا للعامل من أن يعمل مثل هذا العمل ومنعًا لغيره من أن يعمل كما عمل عمرو: شرع هذا الحكم؛ سدًا للذرائع، وهو في غاية دفع المفاسد؛ نظرًا لتقديم دفع المفاسد على جلب المصالح، فإن قلتَ: إن صاحب المال في الشركة الأولى - وهو زيد - لا يستحق من ربح الشركة الثانية شيئًا وهو قول كثير من العلماء، منهم ابن قدامة وابن تيمية؛ للمصلحة: حيث إن الشخص إنما يستحق الربح بسبب اشتراكه برأس ماله، أو بعمله، وصاحب المال الذي ربحه في الشركة الأولى - وهو زيد - لم يكن=
ولا نفقة لعامل إلا بشرط
(51)
(ولا يقسم) الربح (مع بقاء العقد) أي: المضاربة (إلا
= له مال في الشركة الثانية، ولم يعمل فيها، فأخذه من مال العامل الذي ربحه في الشركة الثانية يُعتبر أخذًا لشيء لا يستحقه، وهو من باب أكل أموال الناس بالباطل، وهو ملحق للضرر على العامل، فهو أخذ عوض عمله في الشركة الثانية، قلتُ: إن صاحب المال في الشركة الأولى - وهو زيد - مستحق لذلك؛ لأن العامل قد أشغل الوقت والجهد اللذين يجب أن يكونا للشركة الأولى بالمتاجرة في الشركة الثانية؛ لأن هذا الوقت والجهد من حق الشركة الأولى وصاحب رأس مالها - وهو زيد -، فرفعًا للضرر عنه - أي: عن زيد - استحق مشاركة العامل - وهو عمرو - بما ربحه من الشركة الثانية؛ لكونه ربحًا قد حصل في وقت زيد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" فرجَّحنا المصلحة التي ذكرناها؛ نظرًا لعمومها؛ إذ فيها إصلاح العاملين، وإصلاح المجتمع، أما المصلحة التي ذكروها: فهي خاصة لدفع الضرر عن العامل، ولم ينظروا إلى وقت صاحب مال الشركة الأولى.
(51)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة واشترط العامل - وهو عمرو - بأن يُنفق على نفسه من مال المضاربة، وقبل صاحب المال - وهو زيد -: فله أن ينفق على نفسه بالمعروف بدون تعدٍّ، أما إذا لم يشترط العامل ذلك: فلا يجوز له أن ينفق على نفسه من مال المضاربة، وهذا مطلق، أي سواء كان هذا العامل - وهو عمرو - يتاجر في السفر أو الحضر، وسواء كانت العادة جارية بأن النفقة تكون للعامل من مال المضاربة أو لم تكن جارية؛ للتلازم؛ حيث إن عقد هذه الشركة قد تضمَّن أن العامل دخل في هذه الشركة بنصيب من الربح، وهذا يُعتبر شرطًا فيلزم منه: أنه لا يستحق غير ما تضمنه هذا الشرط، وهو هذا النصيب؛ إلّا بشرط آخر يذكره عند العقد ويوافق عليه صاحب المال - وهو زيد -، فإن وافقه عليه: فإنه يصح؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "المسلمون على=
باتفاقهما)؛ لأن الحق لا يخرج عنهما، والربح وقاية لرأس المال
(52)
(وإن تلف رأس
= شروطهم" فيجب الالتزام بذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية صاحب المال - وهو زيد - من أن يؤكل ماله بغير حق وفيه دفع للتنازع؛ حيث إن النفقة غير منضبطة، فقد يكفي شخصًا ما لا يكفي الآخر، فيؤدِّي إلى التنازع في المتفق فيدَّعي صاحب المال أنه كثير، ويدّعي العامل أنه قليل فدفعًا لذلك لا ينفق على نفسه، أما إذا أذن صاحب المال: فيجوز؛ نظرًا لكون صاحب المال قد أسقط حقه، فإن قلتَ: إذا كانت العادة جارية بأن ينفق العامل على نفسه من مال شركة المضاربة: فإنه ينفق على نفسه منها وإن لم يشترطه، وهو قول كثير من العلماء، ومنهم ابن تيمية وابن القيم؛ للعادة والعرف؛ حيث إن العادة محكَّمة هنا قلتُ: إن العادة لا تحكَّم في مثل هذا؛ نظرًا لكون العاملين يختلفون في قدر النفقة على أنفسهم كما سبق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع العادة" فعندنا: العادة غير محكَّمة هنا؛ لعدم انضباط النفقة، وعندهم: أنها محكمة.
(52)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة، وحصل الربح، ولم ينته وقت العقد بينهما: فلا يجوز لأحدهما أن يُقسَّم الربح ويأخذ نصيبه منه قبل انتهاء عقد الشركة، أما إن اتفقا على تقسيمه كله أو بعضه قبل انتهاء العقد فيجوز؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية الشريكين من الخسران؛ حيث إن صاحب المال قد يخسر وينوي جبران هذه الخسارة من ربح هذه الشركة بعد انتهاء عقدها، فإذا قُسِّم الربح والعقد باق: فلا يقع ما نواه وتقع الخسارة؛ لكون الربح هو الواقي والحامي لرأس المال من النقص وكذلك العامل فقد يأخذ شيئًا من الربح في وقت يلزم بأن يأت به في وقت لا يقدر عليه، فدفعًا للضرر الناتج عن ذلك: شرع عدم الجواز، أما إذا اتفق على قسمة الربح أو بعضه قبل انتهاء العقد: فقد جاز؛ لكون الربح ملكهما معًا، فهو لا يخرج عنهما، فيفعلان فيه ما شاءا إذا اتفقا.
المال أو) تلف (بعضه) قبل التصرف: انفسخت فيه المضاربة كالتالف قبل القبض
(53)
، وإن تلف (بعد التصرُّف): جبر من الربح؛ لأنه دار في التجارة، وشرع فيما قصد بالعقد من التصرُّفات المؤدِّية إلى الربح
(54)
(أو خسر) في إحدى سلعتين، أو سفرتين:(جُبر) ذلك (من الربح) أي: وجب جبر الخسران من الربح، ولم يستحق العامل شيئًا إلّا بعد كمال رأس المال؛ لأنها مضاربة واحدة (قبل قسمته)
(53)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة، فتلف هذا المال أو بعضه قبل أن يتصرَّف العامل - وهو عمرو - فيه ببيع أو شراء: فإن شركة المضاربة تنفسخ، فلا يجوز للعامل - وهو عمرو - أن يشتري شيئًا أو يبيع؛ بقصد جعله في الشركة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن السلعة إذا تلفت كلها أو تلف بعضها قبل أن يقبضها مشتريها: يبطل البيع فكذلك رأس المال إذا تلف كله، أو بعضه يُبطل شركة المضاربة، والجامع: أن كلًّا منهما مال قد هلك على جهته قبل التصرف فيه، والمقصد من ذلك: حماية الشريكين من الاختلاف فيما لو تصرَّف العامل.
(54)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة، فتلف هذا المال، أو بعضه بعد أن تصرَّف فيه العامل - وهو عمرو - ببيع أو شراء ونحو ذلك: فإن هذا التلف يُجبر من ربح ذلك التصرَّف، وربح باقي رأس المال، فيؤخذ من الربح ويُكمَّل به رأس المال قبل قسمة ذلك الربح، ولا يستحق العامل شيئًا من الربح إلّا بعد استكمال رأس المال؛ للتلازم؛ حيث إن الربح نتج من إدارة هذه التجارة برأس المال، وهو المقصود من إذن التصرُّف برأس المال - الذي يقتضيه عقد الشركة - فيلزم من ذلك أن يُكمَّل بالربح المنتج له أصلًا - وهو رأس المال - لكون الربح هو الفاضل من رأس المال، وما لم يفضل فليس بربح، فلزم: حرمان العامل، فلا يأخذ شيئًا من الربح ما لم يستكمل رأس المال، والمقصد منه: حماية صاحب رأس المال - وهو زيد - من الخسارة.
ناضًّا (أو تنضيضه) مع محاسبته
(55)
، فإذا احتسبا وعلما مالهما: لم يجبر الخسران بعد ذلك مما قبله؛ تنزيلًا للتنضيض مع المحاسبة منزلة المقاسمة
(56)
، وإذا انفسخ العقد
(55)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة، واتَّجر العامل - وهو عمرو - لكنه خسر في سلعة، وربح في سلعة أخرى، أو خسر في سفرة، وربح في سفرة أخرى: فإن خسارة السلعة الأولى، أو السفرة الأولى تجبر من ربح الثانية منهما إلى أن يكمل المال الذي أعطاه زيد لعمرو، ولا يستحق العامل - وهو عمرو - شيئًا من الربح إلّا إذا كمل رأس مال زيد، فيُسلِّم عمرو الربح لزيد نضًّا - أي: نقدًا - مع محاسبته إياه حسابًا يكون كالقبض، ولا يتحاسبان على الأمتعة المتَّجر فيها، بل يتحاسبان بالنقد المعروف، فإذا أكمل العامل - وهو عمرو - رأس المال، وسلمه صاحبه نقدًا: فإن بقي شيء يكون هو الربح، فيأخذ كل من زيد وعمرو نصيبه من هذا الباقي على حسب الجزء المشروط عند عقد الشركة؛ للتلازم؛ حيث إن الربح هو وقاية لرأس المال من النقص فيلزم منه: أن لا يُقسَّم هذا الربح إلّا بعد استكمال رأس المال؛ لكون صاحب المال - وهو زيد - لا يُمكنه مقاسمة نفسه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: لمصلحة صاحب المال؛ حيث إن ذلك فيه حماية له من أن يؤخذ بعض حقه بدون مقابل، وهو دفع مفسدة عنه، فإن قلتَ: لِمَ يتحاسبان بالنقد دون المتاع المتاجر به؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه اطراد وانضباط، وبعد عن التنازع، إذ المحاسبة على المتاع يؤدّي إلى التنازع؛ لكون المتاع قد يرتفع سعره، وقد ينخفض، وهذا ينتج عنه التنازع.
(56)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة، وربحت تلك التجارة، فتحاسبا، وعلم كل واحد نصيبه من الربح وأخذه، ثم خسرت الشركة بعد ذلك: فإنه لا يُجبر هذا الخسران من الربح - الذي تقاسماه قبل تلك الخسارة -؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو تقاسم زيد وعمرو مالهما واصطلحا على ذلك، ثم خسر زيد بتجارته بعد ذلك: فإنه لا يجبر عمرو خسارة زيد مما كان بينهما قبل=
والمال عرض، أو دين، فطلب رب المال تنضيضه: لزم العامل
(57)
، وتبطل بموت أحدهما
(58)
، فإن مات عامل، أو مودَع أو وصي، ونحوه، وجهل بقاء ما بيدهم:
= التقسيم، فكذلك هنا: فإنهما إذا تحاسبا نضًّا - أي: نقدًا - وتصفية للشركة، ثم بعد ذلك خسرت لا تجبر تلك الخسارة من ربح ما قبل الحساب، والجامع: أن كلًّا منهما قد وُجد انفصال فيه بين ما قبل، وبين ما بعد؛ حيث إنه بعد تقسيم الربح تبدأ شركة مضاربة ثانية لا صلة بها بالأولى إن شاءا، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الطرفين، وفيه فصل بين مرحلتين.
(57)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة، فاشترى العامل - وهو عمرو - ثيابًا بهذا المال ليتاجر بها، ثم انفسخت الشركة بأي سبب، أو انتهى عقدها في حين أن العامل لم يبع تلك الثياب، أو بعضها، وطلب صاحب المال - وهو زيد - أن ينضُّه وينقده ماله نقدًا كما سلَّمه إياه: فإنه يجب على العامل أن يبيع عروض التجارة - وهي الثياب -، ويعطي ثمنها نضًا ونقدًا لصاحب المال - وهو زيد - نقدًا؛ للمصلحة: حيث إن العامل قد أخذ رأس المال من زيد نقدًا عند عقد الشركة، فيلزمه أن يردُّه إليه نقدًا كما أخذه، فلو ردَّه عرضًا - أي: ثيابًا - أو أحاله على المستدين لها بدون مقاضاة: لأدَّى ذلك إلى ضرر صاحب المال؛ لكون العروض قد تنقص قيمتها عن رأس ماله، ولكون المستدين قد لا يُوفي ما عليه، فدفعًا للضرر عن صاحب المال شرع هذا.
(58)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة، ولكن بعد ذلك مات أحدهما، أو جُنَّ، أو أصابه سفه، أو فسخها: فإن هذه الشركة تبطل؛ للقياس، بيانه: كما أن الوكالة تبطل بهذه الأسباب الأربعة، فكذلك المضاربة مثلها، والجامع: أن كلًّا منهما عقده يقتضي التصرف، وهذه الأسباب تمنع التصرف، وهما من العقود الجائزة التي تنفسخ بمثل تلك الأسباب، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس؛ إذ لو كانت مثل هذه العقود=
فهو دين في التركة؛ لأن الإخفاء وعدم التعيين كالغصب
(59)
ويُقبل قول العامل فيما يدَّعيه من هلاك، وخسران، وما يذكر أنه اشتراه لنفسه، أو للمضاربة؛ لأنه من أمين
(60)
،
= لازمة مع وجود تلك الأسباب: للحق كثيرًا منهم الحرج والمشقة.
(59)
مسألة: إذا مات العامل في شركة المضاربة، أو مات المودَع لوديعة، أو الوصي، وهو: الموصى والمولى على شيء، أو الوكيل أو الأجير، أو أي شخص قد اؤتمن على شيء: فإن عُلم بقاء هذا الشيء بعينه: فإن صاحب المال - في المضاربة - أو المودِع، أو الموصي، أو الموكِّل، أو المستأجر للأجير يأخذ ذلك الشيء، أما إن جُهل بقاء ما بيدهم: فإن هذا يكون دينًا في تركة هذا الميت، يأخذه صاحب رأس المال، والمودِع، والموصي، والموكِّل من تلك التركة قبل تقسيمها؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الغاصب للشيء إذا مات: فإنا نأخذ المغصوب إن وُجد بعينه، وإن لم نجده: فإنه يكون دينًا في تركة هذا الغاصب فكذلك ما نحن فيه مثله، والجامع: أن كلًّا منها حق لصاحب المال الأصلي يأخذه بعينه، أو من التركة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة حيث إن ذلك فيه حماية صاحب المال الأصلي من أن يؤكل حقه.
(60)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة، ثم تصرَّف العامل - وهو عمرو - وخسر هذا المال، أو اشترى العامل سلعة شيئًا في وقت الشركة، واختلفا، فقال صاحب المال - وهو زيد - "إن المال هلك وخسر بتفريط من العامل، وأنه اشترى تلك السلعة للشركة" وقال العامل - وهو عمرو -: "لا، بل إن المال قد هلك وخسر بآفة سماوية، ولم أفرط في شيء، وإني اشتريت تلك السلعة لنفسي": فإنه يُقبل قول العامل هنا؛ للقياس، بيانه: كما أنه يُقبل قول الوكيل إذا اختلف مع الموكِّل في مثل هذه الأشياء، فكذلك هنا يقبل قول العامل في شركة المضاربة، والجامع: أن كلًّا منهما أمين فيما وُلِّي عليه وله حق التصرُّف=
والقول قول رب المال في عدم ردِّه إليه
(61)
.
فصل: (الثالث: شركة الوجوه) سُمِّيت بذلك؛ لأنهما يعملان فيها بوجههما، أي: جاههما، والجاه والوجه واحد، وهي: أن يشتركا على (أن يشتريا في ذمتهما) من غير أن يكون لهما مال (بجاههما، فما ربحا) هـ (فـ) هو (بينهما) على ما شرطاه
(62)
= في ملك غيره بإذنه على وجه لا يختص بنفعه فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية العامل العدل من ظلم الآخرين له.
(61)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا مالًا ليتَّجر به مضاربة، فلما اتَّجر به عمرو: قال: إنه ردَّ رأس المال لزيد، وأنكر زيد ذلك، ولا توجد بيّنة عندهما: فإنه يُقبل قول صاحب المال - وهو زيد - هنا مع يمينه؛؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر" فهنا: العامل قد قبض المال من زيد، وادَّعى بأنه سلَّمه إليه بدون بيِّنة، وأنكر ذلك زيد، فكون عمر لم يثبت بيَّنة على ما ادَّعاه، وحلف زيد على الإنكار: يلزم منه قبول قول زيد، وعلى زيد مطالبة عمرو بتسليمه رأس المال، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن هذا فيه حماية لصاحب المال من تحايل بعض العاملين عليه، ويأكلوا ماله أو بعضه بدون وجه حق.
(62)
مسألة: في الثالث - من أنواع شركة العقود - وهو: شركة الوجوه، وهي: أن يشترك زيد وعمرو بشراء سلعة بسبب جاههما وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال محسوس، بل يكون ذلك في ذمتيهما، فيُتاجران بذلك، فإذا ربحا شيئًا يُقسَّم بينهما على حسب ما اشترطاه من نصيب كل واحد منهما عند عقد الشركة، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّيت بهذا الاسم؟ قلتُ: لأن الشريكين يعملان معًا بوجاهتهما، وقدرهما، ومنزلتهما في المجتمع؛ لكون كل واحد منهما وجيه ومقبول في المجتمع؛ للاستعمال اللغوي؛ حيث إن ذلك ثابت في اللغة كما جاء في
سواء عيَّن أحدهما لصاحبه ما يشتريه، أو جنسه، أو وقته، أو لا، فلو قال:"ما اشتريت من شيء: فبيننا": صح
(63)
(وكل واحد منهما وكيل صاحبه وكفيل عنه بالثمن)؛ لأن مبناها على الوكالة والكفالة
(64)
(والملك بينهما على ما شرطاه)؛ لقوله
= مصباح (649) تنبيه: فسَّرت شركة الوجوه بتفسيرات أُخر، ولكن ما ذكرناه و أقربها للصواب.
(63)
مسألة: شركة الوجوه تصح مطلقة: أي سواء عيَّن أحد الشريكين لصاحبه ما يشتريه وأشار إليه، أو لم يُعيِّن شيئًا، فلو قال زيد لعمرو:"اشتر هذا وأنا أشتري هذا والربح بيننا" أو لم يعيّن ذلك، أو عين جنسه بأن قال له:"لنتشارك في شراء الثياب والربح يكون بيننا" أو لم يُعيِّن ذلك، وسواء عيَّن أحدهما وقتًا للشركة أو لا، ولذا جاز قول زيد لعمرو:"ما اشتريتَ من شيء فهو بيننا"، للتلازم؛ حيث إن الشريكين هنا قد اشتركا في الابتياع، وأذن كل واحد منهما للآخر فيه فيلزم صحة ذلك مطلقًا، وهذا هو ما يلزم من عقد الشركة، ولا تُقيَّد بشيء إلّا بعد أن يشترطاه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كثرة القيود يُضيِّق الربح عادة، فيُلحق الضرر على الشريكين أو أحدهما، فإن قلتَ: يُشترط تعيين جنس، ووقت ما سيشتغلان فيه؛ وهو لكثير من علماء المالكية والشافعية؛ للقياس؛ بيانه: كما يُشترط ذلك في الوكالة، فكذلك يُشترط هنا والجامع: أن كل واحد من الشريكين وكيل لصاحبه، ففي ذلك معنى الوكالة، قلتُ: هذا منقوض بشركة العنان، والمضاربة؛ حيث إنه في ضمنهما معنى الوكالة، ولا يُشترط فيهما ما اشترطتموه - كما سبق بيانه -، ثم إن التقييد بشروط يُقلِّل من الربح، وهذا مناف لمقصد الشريكين.
(64)
مسألة: كل واحد من الشريكين - في شركة الوجوه - يُعتبر وكيلًا عن صاحبه في شراء نصف المتاع بنصف الثمن، وكذا: بيعه، فيستحق الربح في مقابلة ذلك، وكل واحد منهما يُعتبر كفيلًا لصاحبه، فيلزمه قضاء نصيب صاحبه من الثمن؛=
عليه السلام: "المؤمنون عند شروطهم"
(65)
(والوضيعة على قدر ملكيهما) كشركة العنان؛ لأنها في معناها (والربح على ما شرطاه) كالعنان، وهما في تصرُّف كشريكي عنان
(66)
(الرابع: شركة الأبدان) وهي: (أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما) أي:
= للقياس؛ بيانه: كما أن الوكيل يُسلِّم ثمن المبيع للموكَّل، ويستلمه، والكفيل يُسلِّم المكفول فكذلك الشريك - في شركة الوجوه - يفعل ذلك، والجامع: أن كلًّا من هؤلاء يتصرَّف كما يتصرَّف الآذن له، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه ضمان حقوق من يتعامل مع هذين الشريكين.
(65)
مسألة: ما يدخل تحت الشركة - في شركة الوجوه -: من نقود، وعقارات ومنقولات ونحو ذلك هو ملك للشريكين معًا: فما يشتريه أحدهما يكون بينهما بالنية على حسب الشرط الذي اشترطاه في عقد الشركة، فإن كانا متّفقين على أن نصيب زيد ثلثها: فإن نصيب عمرو يكون ثلثي الشركة، وهكذا: للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون عند شروطهم" حيث إن هذا خبر بمعنى الأمر بأن يلتزم كل واحد من الشريكين بما اشترطه ورضي به عند عقد الشركة، والأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ودلّ مفهوم الصفة منه على أن من لم يلتزم بذلك: فهو خائن، والخائن لا إيمان له.
(66)
مسألة: الشريكان في شركة الوجوه مثل الشريكين في شركة العنان فيما إذا خسرا، أو ربحا، فكل واحد يتحمَّل من الخسارة ويأتيه من الربح على حسب الجزء المشروط له عند عقد الشركة وإن تفاوت الربح، فإن اتفقا على أن نصيب زيد ربع الشركة: فإنه يتحمّل ربع الخسارة، ويأتيه ربع الربح، ويتحمّل شريكه - وهو عمرو - ثلاثة أرباع الخسارة، ويأتيه ثلاثة أرباع الربح، فمثلًا لو خسرا مائة ألف: فإن زيدًا يتحمَّل خمسة وعشرين، ويتحمل عمرو خمسة وسبعين، وإذا ربحا: فإن زيدًا يأتيه خمسة وعشرون منها، ويأتي عمرًا منها خمسة وسبعون وهكذا: وكذا: لكل واحد منهما أن يتصرَّف مطلق التصرف فيما يخصّ شركة =
يشتركان في كسبهما من صنائعهما، فما رزق الله: فهو بينهما
(67)
(فما تقبَّله أحدهما
= الوجوه وذلك في الإقرار والبيع والشراء، والخصومة ونحو ذلك فيما يجب، ويستحب، ويحرم، ويكره، ويُشترط؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشريكين في شركة العنان مطلق التصرُّف، ويتفاضلان في الربح، والوضيعة والخسارة فكذلك الشريكان في شركة الوجوه مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا من الشريكين في كل من الشركتين قد اشتركا في المال والعمل، فجاز تصرفهما معًا فيها، وتفاضلهما في الربح على حسب ما شرطاه عند عقد كل شركة. فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية لحق كل واحد من الشريكين، فإن قلتَ: لا يجوز التفاضل في الربح بين الشريكين في شركة الوجوه وهو قول أبي يعلى؛ للتلازم؛ حيث إن الربح في هذه الشركة يستحق بالضمان؛ إذ لا مال لهما في هذه الشركة - كما سبق في تعريف شركة الوجوه - فيلزم من ذلك: عدم التفاضل في ذلك الربح؛ لكون الضمان لا تفاضل فيه قلتُ: هذا بعيد؛ لأن لهما مالًا، وهو: ما أخذاه بذمتهما من التجار الذين وثقوا بهما؛ إذ المال في الذمّة كالمال المحسوس، فكما يقع التفاضل في المحسوس - كما في شركة العنان - فكذلك يقع هنا ولا فرق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المال الذي يؤخذ بالذمة هل هو كالمحسوس؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا.
(67)
مسألة: في الرابع - من أنواع شركة العقود - وهو: الشركة بالأبدان، وهي: أن يتفق زيد وعمرو بأن يعملان بأبدانهما في أي صنعة يعرفها كل واحد منهما: كأن يكونا بنَّائين، أو يكون أحدهما خياطًا والآخر سبَّاكًا أو نحو ذلك، فما يكتسبان من رزق الله يكون بينهما على حسب الجزء المشروط لكل واحد منهما عند عقد الشركة كأن يتّفقان على أن لزيد ثلثي ما يكسبانه معًا؛ لكونه أكثر عملًا، أو أقوى، أو أعرف بالتعامل مع الناس، والثلث الباقي لعمرو، أو ينفقان على أن لكلّ واحد منهما نصف ما يكتسبانه؛ نظرًا لتساويهما في كثرة =
من عمل: يلزمهما فعله) ويُطالبان به؛ لأن شركة الأبدان لا تنعقد إلّا على ذلك
(68)
، وتصح مع اختلاف الصنائع كقصار مع خياط
(69)
، ولكل واحد منهما
= العمل، والقوة، ومعرفة الناس، فإذا أرادا قسمة الربح والمكسب: فإن كل واحد يأخذ حقًّا بناء على تلك النسبة.
(68)
مسألة: إذا قبل أحد الشريكين - في شركة الأبدان - عملًا كبناء دار، أو خياطة ثياب، أو نحو ذلك: فإنه يكون من ضمانهما، ويجب عليهما فعله معًا، إن لم يقم به من قَبِله، ويُطالبان به معًا من غير تفريق بين الذي قَبِله أو شريكه؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود من شركة الأبدان: أن يضمن كل واحد منهما عن الآخر ما التزم به، أما إذا كان كل واحد من الشريكين يضمن ما التزم به: فلا فائدة لهذه الشركة إذن، فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: وهو: ضمان حقوق الناس الذين يتعاملون مع هذين الشريكين؛ لئلا تضيع (فرع): شركة الأبدان صحيحة؛ للسنة التقريرية؛ حيث قال ابن مسعود: "اشتركنا أنا وسعد وعمار يوم بدر فلم أجيء أنا وعمار بشيء، وجاء سعد بأسيرين فاشتركنا فيهما" ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم: أنه فاسد، فيكون هذا صحيحًا، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قلتَ: إن شركة الأبدان لا تصح، وهو قول كثير من العلماء، وهو رأي الشافعي؛ للتلازم؛ حيث إن الشركة لا تصح إلّا على مال؛ لكونه هو الذي يكسب فيلزم من ذلك: أن لا تصح هذه الشركة؛ لكونها اعتمدت على الأبدان فقد يكسب أحدهما دون الآخر، قلتُ: هذا منقوض بشركة المضاربة فقد قلتم بها مع أن أحد الشريكين يعمل ببدنه، ثم إنه لا فرق بين الشركة بالأموال، والشركة بالأبدان في تقسيم ربح كل منهما بجامع: أن كلًّا منهما قد عمل واجتهد في عمله سواء كان في ماله أو بدنه فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة التقريرية مع التلازم".
(69)
مسألة: لا يُشترط في صحة شركة الأبدان: أن يتّحد الشريكان في الصنعة، بل=
طلب الأجرة، وللمستأجر دفعها إلى أحدهما
(70)
، ومن تلفت بيده بغير تفريط: لم
= تصحّ عند اتحاد الصنعة كأن يشترك زيد وعمرو الحدَّادين، أو النجَّارين، وتصح بين اثنين وإن اختلفت صنعتهما كأن يشترك زيد النجار مع عمرو الحدَّاد، أو زيد القصَّار - وهو الذي يقصر الثياب - مع عمرو البنَّاء، وهكذا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يصح أن يشترك اثنان متحدان في الصنعة فكذلك يصح إذا اختلفت صنعتهما، والجامع: الكسب المباح في كل، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: لا تصح شركة الأبدان عند اختلاف الصنعة بين الشريكين، وهو قول مالك، واختاره بعض الحنابلة كأبي الخطاب؛ للتلازم؛ حيث إنه اشترط في شركة الأبدان: أن ما يتقبَّله أحد الشريكين من العمل: فإنه يلزمهما معًا، ويطالبان به معًا - كما سبق في مسألة:(68) - فإذا تقبَّل أحدهما شيئًا مع اختلاف صنائعهما: لم يكن للآخر أن يقوم به، ولا يستطيع القيام بما لا قدرة له عليه فيلزم من ذلك: ألا تصح تلك الشركة بين اثنين قد اختلفا في الصنعة قلتُ: يُمكن للشريك الذي لا يُحسن صنعة شريكه الآخر أن يستأجر من يحسنها فيعملها عن شريكه، فلا يلزم ما ذكرتموه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم".
(70)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو - في شركة الأبدان -، فاستأجر بكر زيدًا على أن يبني له جدارًا، فإن زيدًا له أن يُطالب بكرًا بالأجرة، وكذلك عمرو له ذلك، وإذا دفع بكر الأجرة لزيد أو لعمرو: فإن ذمة زيد تبرأ؛ للقياس، بيانه: كما أن زيدًا لو وكَّل عمرًا بأخذ الأجرة من بكر: فإن كلًّا منهما له مطالبة بكر بها، وإذا دفعها بكر لأحدهما: فإن ذمّته تبرأ، فكذلك شركة الأبدان مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا من الموكل والوكيل، والشريكين يقوم كل واحد عن الآخر في التصرُّفات مطلقًا؛ وإلّا لما كان للوكالة أو الشركة من فائدة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حقوق الشريكين، وحقوق الناس=
يضمن
(71)
(وتصح) شركة الأبدان (في الاحتشاش والاحتطاب، وسائر المباحات) كالثمار المأخوذة من الجبال، والمعادن، والتلصص على دار الحرب؛ لما روى أبو داود بإسناده عن عبد الله قال:"اشتركتُ أنا، وسعد، وعمار يوم بدر، فلم أجيء أنا وعمار بشيء، وجاء سعد بأسيرين" قال أحمد: أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم
(72)
، (وإن
= المتعاملين معهما، وفيه توسعة على المسلمين.
(71)
مسألة: إذا تلف شيء من أملاك الشركة وآلاتها بيد أحد الشريكين من غير تفريط منه: فلا يضمنه بل يتحملانه معًا أما إن وقع ذلك بسبب تفريط: فهو يضمنه؛ للقياس بيانه: كما أن الوكيل يضمن ما تلف تحت يده بسبب تفريط منه، ولا يضمنه إذا لم يُفرِّط فكذلك هنا، والجامع: أن كل واحد من الوكيل، وأحد الشريكين أمين عند صاحبه، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لأحد الشريكين من الآخر؛ فيما لو تلفت سلعة تحت يد أحدهما، وفيه حماية المتعاملين مع تلك الشركة؛ لئلا تضيع حقوقهم.
(72)
مسألة: تصح شركة الأبدان في أي عمل مباح يستطيع كل واحد من الشريكين القيام به: كأن يشتركان في عمل حشِّ الحشيش، أو قطع الأخشاب أو الاحتطاب، أو جمع الثمار التي لا يملكها أحد في الصحراء، أو الجبال، كالفقع، والعسل، واستخراج المعادن المنتفع بها، أو الاشتراك في سلب ما يقتلانه من الكفار في دار الحرب، أو نحو ذلك، فإذا باعا ذلك: اقتسما الربح والمكسب على ما شرطاه من النسبة لكل واحد منهما؛ للسنة التقريرية، وهي قصة ابن مسعود، وسعد، وعمار - كما سبق بيانها في مسألة (68) حيث إنهم اشتركوا في مباح، ومع ذلك أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على الاشتراك فيه وغير الأسرى كالأسرى في المباحات من باب:"مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين. فإن قلتَ: لا تصح شركة الأبدان في المباحات كالاحتشاش والاحتطاب ونحوهما، وهو رأي أبي حنيفة وكثير من =
مُرض أحدهما: فالكسب) الذي عمله أحدهما (بينهما) احتجّ الإمام بحديث سعد
(73)
،
= الحنفية؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الوكالة لا تصح في المباحات كالاحتشاش ونحوه، فمن أخذها ملكها بنفسه، فكذلك شركة الوجوه لا تصح فيها والجامع: أن كلًّا منهما في معنى الوكالة، ولا يصح ملك هذه المباحات بالوكالة. قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لوجهين: أولهما: أنه معارض للنص، وهو السنة التقريرية؛ حيث إن ابن مسعود ومن معه قد اشتركوا في مباح، وقد أقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم ثانيهما: لا نُسلَّم الحكم في الأصل المقاس عليه؛ حيث تجوز الوكالة في المباحات؛ حيث إنه يصح أن يستنيب في تحصيلها بأجرة، وإذا بطل الحكم في الأصل المقاس عليه بطل الحكم في الفرع، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع النص" وأيضًا: "الاختلاف في حكم الأصل المقاس عليه بيننا وبينهم".
(73)
مسألة: إذا تشارك زيد وعمرو في شركة أبدان، ولكن زيدًا قد مرض فلم يستطع العمل أو إصابة أي عذر آخر كخوف ونحوه: فإن الربح والكسب الذي يحققه عمرو من عمله يكون بينهما، يقسَّم بينهما على حسب الجزء المشروط الذي اتفقا عليه عند عقد الشركة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشريكين - زيد المريض، وعمرو الصحيح - يضمنان العمل، ويُطالبان به معًا، فكذلك يكون المكسب والربح يقتسمانه معًا والجامع: أن عقد الشركة ملزم بالغرم والغنم، وعدم عمل زيد ليس بسببه، وإنما بسبب الآفة السماوية، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المريض الذي انقطع عن عمله، تنبيه: احتجاج الإمام أحمد بحديث سعد السابق - وهي قصة ابن مسعود مع سعد وعمار - بعيد؛ لأن ابن مسعود وعمارًا لم يُمرضا، ولكنهما عملا كما عمل سعد، بل قد يكونا قد عملا عملًا أشق من عمل سعد، ولكن سعد قد وُفِّق، دونهما. (فرع): إذا=
وكذا لو ترك العمل لغير عذر
(74)
(وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه: لزمه)؛ لأنهما دخلا على أن يعملا، فإذا تعذَّر عليه العمل بنفسه: لزمه أن يقيم مقامه؛ توفية للعقد بما يقتضيه، وللآخر الفسخ
(75)
، وإن اشتركا على أن يحملا على دابتيهما والأجرة
= طال مرض أحد الشريكين: فللشريك الآخر أن يفسخ الشركة؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه منع إلحاق الضرر وكثرة العمل على الصحيح.
(74)
مسألة: إذا ترك أحد الشريكين - في شركة الأبدان - العمل لغير عذر: بأن كان صحيحًا معافى آمنًا: فإن الكسب والربح الذي يحققه شريكه الآخر يكون له لوحده، فلا يستحق شريكه التارك للعمل شيئًا منه، وهو قول جمهور العلماء؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من عقد شركة الأبدان: أن يعملا معًا ببدنيهما على حسب الطاقة والوسع، فترك أحدهما العمل بدون عذر: يلزم منه: عدم استحقاقه لشيء من الكسب والربح؛ لكونه قد فسخ عقد الشركة بتركه شرطًا من شروطها، فإن قلتَ لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع لأكل أموال الناس بالباطل ومنع للظلم بأشكاله، فإن قلتَ: إن هذا التارك للعمل بدون عذر يستحق حقه من ربح وكسب شريكه الآخر الذي عمل، وهو ما ذكره المصنف هنا. قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، بل مخالف لقواعد الشريعة، وفيه إقرار للظلم، وهذا يُستنكر من مثل المصنف.
(75)
مسألة: إن ترك أحد الشريكين العمل - في شركة الأبدان - لعذر كمرض أو خوف، أو جهله بالعمل، وطالبه الشريك الصحيح أن يُقيم أحدًا يقوم مقامه في عمله: فيجب على ذلك التارك للعمل أن يقيم أحدًا يقوم بعمله عنه، فإن أبى: فللشريك الآخر الذي يعمل فسخ الشركة؛ للتلازم؛ حيث إن مقتضى عقد شركة الأبدان يُلزم كل واحد منهما أن يعمل ببدنه، فيلزم من ترك أحدهما هذا العمل بعذر أو بدونه أن يقيم غيره مقامه ينوب عنه في العمل، وإن لم يفعل، فيلزم فسخ الشركة، إذا طالب بذلك الشريك الآخر؛ لعدم وجود ركن الشركة =
بينهما: صح
(76)
، وإن أجَّراهما بأعينهما فلكل أجرة دابته
(77)
، ويصح دفع دابة ونحوها لمن يعمل عليها، وما رزقه الله بينهما على ما شرطاه
(78)
(الخامس: شركة
= الآخر، وهو العامل، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه إحقاق للحق، ومنع أكل أموال الناس بالباطل.
(76)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو - في شركة أبدان - واتفقا على أن يحملا على دابتيهما بدون تعيين، واتفقا على أن يكون المكسب والربح الذي يتحصَّلان عليه من هذا التأجير والحمل عليهما بينهما: فيصح ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو كان لكل واحد منهما آلة حراثة وجعلاهما معًا وعملا بهما: فإنه يصح ذلك، فكذلك لو اشتركا بدابتيهما مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما نوع من الاكتساب المباح.
(77)
مسألة: إذا كان لعمرو دابة خاصة به، ولزيد دابته الخاصة به، فجاء بكر واستأجر الدابتين وخصَّص لكل دابة أجرة خاصة، وحمل خاص بالتعيين: فإن عمرًا يستلم أجرة دابته، وزيدًا يستلم أجرة دابته ويضمن ما أتلفته دابته، ولا تصح الشركة هنا؛ للتلازم؛ حيث إن كل واحد منهما - أعني زيدًا وعمرًا - قد خُصِّصت دابته بأجرة خاصة منفصلة عن أجرة دابة الآخر، فيلزم من ذلك: أن لكل واحد أجرة دابته، ويضمن ما أتلفته، ويلزم من هذا: عدم صحة الشركة بينهما في هذا.
(78)
مسألة: إذا دفع زيد دابته، أو سيارته إلى عمرو ليعمل عليها، واتفقا على أن يكون لزيد ثلث ما يتحصَّل عليه عمرو بسبب العمل عليها، وأن يكون الثلثان لعمرو، أو بالعكس - على حسب الجزء المشروط عند عقد الشركة -: فإن هذا يصح؛ للقياس بيانه: كما أنه يجوز ذلك في المساقاة والمزارعة بأن يأذن زيد لعمرو بأن يزرع هذه الأرض بثلث الربح والثمرة فكذلك يجوز هنا والجامع: أن كلًّا منهما نوع من الاكتساب المباح، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن=
المفاوضة) وهي: (أن يُفوِّض كل منهما إلى صاحبه كل تصرُّف مالي وبدني من أنواع الشركة) بيعًا، وشراء، ومضاربة، وتوكيلًا، وابتياعًا في الذمة، ومسافرة بالمال، وارتهانًا، وضمان ما يُرى من الأعمال، أو يشتركا في كل ما يثبت لهما وعليهما فتصح (والربح على ما شرطاه، والوضيعة بقدر المال)؛ لما سبق في العنان
(79)
(فإن أدخلا فيها كسبًا أو غرامة نادرين) كوجدان لقطة، أو ركاز، أو ميراث أو أرش جناية (أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه: فسدت)؛ لكثرة الغرر فيها،
= ذلك فيه تنمية أموال المسلمين بطرق مشروعة، وفيه حث على التكافل الاجتماعي.
(79)
مسألة: في الخامس - من أنواع شركة العقود - وهو: شركة المفاوضة وهي قسمان: فالصحيح منها: أن يشترك اثنان - فأكثر - كزيد وعمرو، فيقوم كل واحد منهما بتفويض الآخر بأن يتصرَّف في هذه الشركة بكل تصرُّف يستطيعه، وهذا مطلق: أي: سواء كان تصرُّفًا في مال، أو بدن، وسواء كان في بيع أو شراء بنفسه، أو يعطي زيد مثلًا مالًا من الشركة لبكر ليتَّجر به مضاربة، أو يوكل في ذلك، أو يشتري شيئًا للشركة في الذمة، أو يسافر بالمال، أو لا، أو يرتهن على مال الشركة أو لا، أو يُحيل أو يحتال، أو يُطالب، أو يقبض، أو يضمن ما يراه، فكل ما فيه مصلحة للشركة، أو يتّصل بها فيجوز لأحد الشريكين أن يفوّض الآخر فيه، سواء كان لها أو عليها، وهذه الشركة جامعة لشركات العقود الأربع السابقة - وهي: شركة العنان، والمضاربة، والوجوه، والأبدان - وما تحصَّل عليه الشريكان أو وكيلهما من الربح والمكسب فهو لهما معًا، وما حصل من خسارة الشركة فهو عليهما معًا، وكل واحد يأخذ من الربح، وعليه من الخسارة بقدر الجزء المشروط له عند عقد الشركة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عقد أيِّ شركة ما قلناه من الربح وتحمل الخسارة، ويلزم من عدم خروج شركة، المفاوضة عن تلك الشركات الأربع: صحتها.
ولأنها تضمَّنت كفالة وغيرها مما لا يقتضيه العقد
(80)
.
(80)
مسألة: الفاسد من شركة المفاوضة هو: أن يشترك اثنان - فأكثر - ويُشترط كل واحد منهما: أن يُدخل في الشركة كل ما كسبه أحدهما، ولو كان هذا الكسب خاصًّا به: كأن يجد أحدهما لقطة، أو ركازًا - وهو الكنز المدفون في الأرض -، أو ميراثًا، أو أرش جناية على أحدهما، وكذا: إن اشترطا: أن يؤخذ من الشركة عوض كل مصيبة أصابت أحد الشريكين كأن يجني أحدهما جناية فيؤخذ أرش جنايته من الشركة، أو يغصب أحدهما سلعة فيؤخذ ضمانها من الشركة، أو يؤخذ ضمان ما أتلفه أحدهما، أو ضمان عارية أتلفها أحدهما، ونحو ذلك: فهذا كله فاسد، ولا تصح الشركة فيه؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن عقد الشركة يلزم منها الوكالة والكفالة، فإذا أدخل الشريكان المكاسب النادرة أو الخسارة النادرة لكل واحد منهما كانت الشركة كفالة، وغير كفالة فيلزم فسادها؛ لكون هذا لا يدخل تحت عقد الشركة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الشريكين حماية تامة؛ إذ قد تقع هذه المكاسب النادرة لزيد دون عمرو كثيرًا، فيُشاركه عمرو فيها، فيكون عمرو قد أخذ حقًّا لا يستحقه، فيتضرّر زيد، وقد تكون المصائب تقع من زيد كثيرًا دون عمرو، فيدفع عمرو حقًّا لم يلزمه، فيتضرّر عمرو، فدفعًا للضرر عن الجانبين: فسدت هذه الشركة، فإن قلتَ: إن ذلك تصح الشركة فيه، وهو قول محكي عن مالك، وبعض العلماء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة" حيث إنه عليه السلام قد أقرَّها هنا الثانية: القياس، بيانه: كما تصح شركة العنان فكذلك تصح شركة المفاوضة والجامع: أن كلًّا منهما فيه نوع اكتساب قلتُ: أما الحديث: فقد ضعَّفه كثير من أهل الحديث، وعلى فرض قوته: فإنه يُحتمل أن المقصود: المفاوضة والمجادلة مع الخصم، يؤيده: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تجادلوا فإن المجادلة من الشيطان" وأما القياس: فهو فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ ووجه=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الفرق: أن شركة العنان لا يُوجد ضرر فيها على أحد الشريكين - كما سبق بيانها - بخلاف هذا النوع من شركة المفاوضة: فيوجد فيها ذلك كما بيّناه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: الخلاف في ضعف حديث: "إذا تفاوضتم. . ."، فعندنا: ضعيف، وعندهم: قوي، وأيضًا:"تعارض المصلحة، والقياس" فعندنا: يُعمل بالمصلحة التي قلناها؛ حيث إن فيها دفع مفسدة؛ لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وعندهم: يعمل بالقياس؛ لوجود جلب بعض المصلحة.
هذه آخر مسائل باب "الشركة" ويليه باب "المساقاة والمغارسة والمزارعة".
باب المساقاة
من السقي؛ لأنه أهمّ أمرها بالحجاز، وهي: دفع شجر له ثمر مأكول - ولو غير مغروس - إلى آخر ليقوم بسقيه، وما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره
(1)
(تصح) المساقاة (على شجر له ثمر يؤكل) من نخل وغيره؛ لحديث ابن عمر: "عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع" متفق عليه، وقال أبو جعفر:"عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم أهلوهم إلى اليوم، يعطون الثلث أو الربع" ولا تصح على ما لا ثمر له كالحور، أو له ثمر غير مأكول: كالصنوبر والقرظ
(2)
. (و) تصح المساقاة أيضًا (على) شجر ذي (ثمرة
باب المساقاة، والمغارسة والمزارعة
وفيه تسع عشرة مسألة:
(1)
مسألة: المساقاة لغة مأخوذة من السَّقي - بفتح السين، وتسكين القاف -، وهي في الاصطلاح: أن يدفع زيد شجره إلى عمرو ليقوم عمرو بسقيه، وحمايته، وتنميته، وكل ما يُحتاج إليه من خدمات وذلك بجزء معلوم مشاع من ثمره يأخذه زيد، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّيت بهذا الاسم؟ قلتُ: لأن أهل الحجاز وأكثر المسلمين في جميع أنحاء الأرض يسقون المزارع بالنضح من الآبار، فسمَّيت بما هو أكثر مؤنة ومشقة، فإن قلتَ: لِمَ جُعل هذا الباب بعد باب الشركة؟ قلتُ: لأن كلًّا من البابين يشتركان في العمل والجهد المالي والبدني؛ رجاء للنماء والمكسب والربح وأنه لا بدّ لكل منهما من جزء مشروط عند العقد، فإن قلتَ: لم جعل هذا قبل باب الإجارة؟ قلتُ: لأن كلًّا من البابين يشتركان في اللزوم، والتوقيت، والأجرة أو مثلها، والانتفاع. فإن قلتَ: لم سميت المساقاة والمغارسة والمزارعة بالمخابرة؟ قلتُ: لأنها مشتقّة من الخبار، وهي الأرض الليِّنة، وقيل المخابرة: معاملة أهل خيبر.
(2)
مسألة: تصح المساقاة مطلقًا على شجر مغروس - له ثمر يؤكل منه كالنخل=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والعنب، والزيتون والرمان وغيرها، وهو معلوم للمالك والعامل برؤية أو صفة بشرط: أن يكون للمالك جزء معلوم مشاع كربع ثمره، أو ثلثه ونحو ذلك على حسب ما يتّفقان عليه عند عقد المساقاة، فلا تصحّ في شجر لا ثمر له، أو له ثمر لكنه يؤكل. لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إن عمر قال: "عامل صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع" وفي رواية: "دفع إلى يهود خيبر نخلها وأرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع" وهذا صريح في الدلالة؛ الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ومن بعدهم قد تعاملوا بالمساقاة، وكانوا يُعطون الثلث والربع - كما حكى ذلك أبو جعفر - علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - الثالثة: المصلحة؛ حيث إن زيدًا مالك الأشجار والنخيل والأعناب ونحوها قد يعجز عن القيام بها، وقد لا يحسن تعاهدها، وقد لا يتفرَّغ لها، وهو لا يستطيع الاستئجار عليها، بينما عمرو - وهو العامل - يكون قادرًا على القيام بها، ويحسن تعاهدها، ومتفرغًا لها، ولكنه لا يملك شيئًا، وكل من زيد وعمرو محتاج إلى ثمارها ففي تجويز المساقاة دفع لحاجتي زيد وعمرو، وتحصيل لمصالحهما، وهذا سبب لعمارة الأرض، وإغناء المسلمين بالمأكولات بدلًا أن من يجلبوها من بلاد الكفار، وفيه مفسدة وقوع المنة منهم علينا، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فإن قلتَ: لا تصح المساقاة مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة، وبعض الحنفية وبعض العلماء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال ابن عمر: "كنا نخابر أربعين سنة حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهي عن المخابرة" والمراد بالمخابرة: المساقاة والمزارعة والمغارسة كما سبق بيانه: والنهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم والفساد، وابن عمر هو راو حديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر - كما سبق - فيكون ما سبق منسوخًا بحديث رافع هذا، ويؤيده: أن ابن عمر قد رجع عن العمل=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بالمساقاة إلى حديث رافع، وإذا خالف فعل الصحابي ما رواه: فإنّا نعمل بفعله ورأيه، ولا نأخذ بما رواه. الثانية: القياس، بيانه: كما لا تجوز الإجارة بثمر غير الشجر الذي يسقيه فكذلك لا تجوز المساقاة والجامع: أن كلًّا منهما إجارة بثمرة لم تخلق، أو إجارة بثمرة مجهولة، قلتُ: أما حديث رافع فعنه: أجوبة أربعة: الأول: أنه مخالف للسنة؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل أهل خيبر حتى مات، وهذا لا احتمال ولا ضعف فيه، بخلاف حديث رافع فهو محتمل، وفيه ضعف، فلا يقوى على نسخ السنة الفعلية. الثاني: أنه مخالف لما فعله الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم، حتى لم ينكر عليهم أحد من جواز المساقاة حتى كاد أن يكون إجماعًا، فلو كان ما رواه رافع صحيحًا لما خفي على بعض الصحابة؛ الثالث: أنه ثبت عن زيد بن ثابت أنه أنكر حديث رافع، وإذا تعارض قولان لصحابيين: فإنهما يتساقطان، ويُرجع إلى استصحاب ما كان يُعمل به من قبل، وهو جواز المساقاة، حيث فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، الرابع: أن رجوع ابن عمر عنه يُحتمل أنه رجوع عن شيء من المعاملات الفاسدة التي فسَّرها رافع في حديثه، وإذا تطرق الاجتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال وعندنا: أنه إذا خالف الصحابي ما رواه: فإنا نعمل بما رواه لا بما رآه، فيُعمل هنا بحديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر، وقد فصَّلت هذا في كتابي:"مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف" وأما القياس الذي ذكروه: فهو فاسد؛ لوجهين: أولهما: أنه معارض للنص من السنة الفعلية كما سبق، ولا حجّة لقياس قد عارض نصًا، ثانيهما: أنه منقوض بعقد شركة المضاربة: فإن العامل فيها يعمل في المال بنمائه وهو معدوم مجهول وهذا جائز بالإجماع، وما نحن فيه مثلها؛ إذ لا فرق، وكذا: الإجارة تجوز على المنافع المعدومة للحاجة، فلِمَ لا تجوز الإجارة على الثمرة المعدومة للحاجة؟! فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع القولية" =
موجودة) لم تكمل، تنمي بالعمل كالمزارعة على زرع ثابت؛ لأنها إذا جازت في المعدوم مع كثرة الغرر ففي الموجود وقلة الغرر أولى
(3)
(و) تصح أيضًا (على شجر
= وكذا: "الخلاف في الراوي إذا خالف ما رواه هل نأخذ بما رواه أو بما رآه؟ " فإن قلتَ: لا تصح المساقاة إلّا في النخل والكرم - وهو العنب - فقط، وهو قول للشافعي؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا تصح المساقاة في الشجر الذي لا ثمرة له فكذلك لا تصح في غير النخل والعنب والجامع: أن كلًّا منها لا تجب الزكاة في نمائه، قلتُ: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس يعارض نصًا؛ حيث إنه يُعارض عموم حديث ابن عمر - وهو أنه صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر" وهذا عام في جميع الأشجار والثمار؛ لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم، ومشروعية المساقاة لم تكن علّته وجوب الزكاة في ثمره أو لا، وإنما العلّة في مشروعيتها: أن الحاجة داعية لها - كما سبق ذلك (فرع): ما لا ثمر له، أو الذي له ثمر لا ينتفع به: لا تصح المساقاة عليه؛ للتلازم؛ حيث إن المساقاة تصح بجزء مشروط من الثمرة، وهذا لا ثمرة له ينتفع بها فيلزم عدم صحتها؛ لعدم شرطها.
(3)
مسألة: تصح المساقاة على شجر له ثمر موجود عند العقد، بشرط: أن يبقى من العمل ما تزيد به الثمرة كالتأبير، والسقي، وإصلاح ما يلزم إصلاحه من الثمرة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه" صلى الله عليه وسلم قد عامل يهود خيبر على الشطر مما يخرج. ." فكما أن المساقاة تصح على شجر لا ثمر له مع كثرة ما قد يقع من الغرر فكذلك تصح على شجر له ثمر محتاج إلى رعاية، والجامع: نفع المتعاقدين في كل، بل إن نفعهما في الشجر الذي له ثمر أكثر؛ لقلَّة الغرر والجهل. وهذا من باب "مفهوم الموافقة الأولى"؛ فإن قلتَ: لم شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مصلحة المالك والساقي كما لو لم يكن في الشجر ثمر. فإن قلتَ: لا تصح المساقاة على شجر له ثمر موجود، وهو رواية عن أحمد، وقول للشافعي وكثير من=
يغرسه) في أرض رب الشجر (ويعمل عليه حتى يثمر) احتجّ الإمام بحديث خيبر، ولأن العوض والعمل معلومان فصحَّت كالمساقاة على شجر مغروس
(4)
(بجزء من
= العلماء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من زرع أو ثمر" فيلزم من لفظ "يخرج" أن المساقاة تصح على شجر لم يخرج ثمره إلى وقت العقد، فيلزم منه: عدم صحة المساقاة على شجر قد خرج ثمره، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لا تصح المساقاة بعد بدو صلاح الثمرة: من احمرار أو اصفرار، فكذلك لا تصح المساقاة في شجر له ثمرة. والجامع: أنه في كل منهما استحقّ عوضًا موجودًا قلتُ: أما السنة الفعلية: فإن تعامله صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر على ثمرة معدومة يفهم منه - بمفهوم الموافقة الأولى - جوازها على الموجودة، أما القياس: فهو فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الثمر بعد بدوّ صلاحه لا يزيده العمل شيئًا، بخلاف المساقاة على شجر له ثمر يحتاج إلى عمل: فهو يزيده ويُكمله؛ إذ لولا هذا السقي لفسد، فإن قلتُ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض لفظ السنة الفعلية مع مقصدها" فأخذنا باللفظ والمقصد، وهم عملوا باللفظ فقط.
(4)
مسألة: تصح المساقاة على شجر يغرسه العامل في أرض مالك الأرض ويعمل عليه حتى يثمر، بجزء من الثمر: كأن يقول زيد: "اغرس في أرضي هذه نخلًا أو شجرًا بجزء يشترط عند العقد، وكذا وادي فيه نخل، أو صغار شجر إلى مدة يحمل فيها غالبًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر مما يخرج من زرع وثمر" حيث إن ذلك عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم، الثانية: القياس؛ بيانه: كما تصح المساقاة على شجر مغروس - كما سبق في مسألة (2) - فكذلك تصح المساقاة على شجر يغرسه العامل بنفسه، أو فيه صغار شجر أو نحو ذلك والجامع: أن العوض والعمل معلومان في كل منهما، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك=
الثمرة) مشاع معلوم، وهو مُتعلِّق بقوله:"تصح" فلو شرطا في المساقاة الكل لأحدهما أو آصعًا معلومة أو ثمرة شجرة معيّنة: لم تصح
(5)
، وتصح المناصبة والمغارسة وهي:
= فيه جلب مصلحة للطرفين.
(5)
مسألة: يُشترط لصحة المساقاة: أن يُقدَّر نصيب العامل بجزء معلوم من الثمرة مشاع كالثلث والربع، سواء قلَّ الجزء المشروط أو كثر "فلو شرطا" أن تكون الثمرة كلها لأحدهما، أو شرط أحدهما ثمرة نخل أو شجر معين، أو شرط أحدهما عددًا معينًا من الآصاع كأن يشترط أحدهما أن يكون له مائة صاع من البر أو النخل، فالمساقاة فاسدة؛ لقواعد الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام "قد عامل يهود خيبر بشطر ما يخرج منها" فاشترط الجزء المشاع هنا، فلزم، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث "إن الخلفاء الراشدين كانوا يتعاملون بالمساقاة، ويعطون الثلث أو الربع" ولم يخالفهم أحد من الصحابة الموجودين في المدينة، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن عدم إيجاد هذا الشرط، أو شرط شيء معيّن من النخل أو الثمر، أو الآصاع: ملحق للضرر بالطرفين: صاحب الأرض أو العامل: فقد لا ينتج من النخل إلّا هذا المشروط فيتضرّر من لم تكن له. (فرع): إن شرط أحد المتعاقدين في المساقاة تلك الشروط الفاسدة ووقع ذلك: فإن المساقاة فاسدة، وهذا سبق، وتكون الثمرة لصاحب الأرض، ويُعطى العامل أجرة مثله؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العامل في شركة المضاربة إذا لم يُقدَّر نصيبه عند عقد الشركة، ولم يعلم، أو شرط أحدهما نصيبًا معينًا: فإن الربح يكون لصاحب المال دون العامل، ويُعطى العامل أجرة مثله، فكذلك المساقاة مثل ذلك، والجامع: أن المال إذا نمى فالنماء يكون لصاحبه في كل، فيلزم أن يُعطى العامل شيء نظير عمله.
دفع أرض وشجر لمن يغرسه كما تقدَّم بجزء مشاع معلوم من الشجر
(6)
(وهو) أي: عقد المساقاة والمغارسة والمزارعة (عقد جائز) من الطرفين؛ قياسًا على المضاربة؛ لأنها عقد على جزء من النماء في المال، فلا يفتقر إلى ذكر مدَّة، ولكلّ منهما فسخها متى شاء (فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأجرة) أي: أجرة المثل؛ لأنه منعه من إتمام عمله الذي يستحق به العوض (وإن فسخها هو) أي: فسخ العامل المساقاة قبل ظهور الثمرة: (فلا شيء له)؛ لأنه رضي بإسقاط حقه، وإن انفسخت بعد ظهور الثمرة: فهي بينهما على ما شرطاه، ويلزم العامل تمام العمل كالمضارب
(7)
، (ويلزم
(6)
مسألة: إذا دفع زيد أرضه إلى عمرو لأجل أن يغرسها بجزء من الشجر والنخل معلوم مشاع: فإن ذلك يصح؛ للقياس على الزراعة، بيانه: كما أن العامل يبذر الأرض فيكون الزرع بينه وبين صاحب الأرض فكذلك الغرس مثله، والجامع: معرفة كل من العوض والعمل وكل من الطرفين، فلا غرر ولا جهل في كل. (فرع): إن دفع زيد أرضه إلى عمرو لأجل أن يغرسها أو يزرعها بشرط: أن تكون الأرض والشجر والزرع بينهما وأن تكون المدة معلومة فإنه يصح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من معرفة العوض والعمل لكل من زيد وعمرو صحة ذلك، فإن قلتَ: لا يصح ذلك؛ وهو قول كثير من العلماء للتلازم؛ حيث يلزم منه: اشتراك المتعاقدين في الأصل الخاص بصاحب الأرض، وهذا فيه نوع ظلم. قلتُ: لا ظلم في ذلك، ولا غرر إذا علما العوض والعمل، والمدَّة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين"(فرع ثان) عقد المساقاة والمزارعة والمغارسة يصح من مالك الأرض ومن ناظر الوقف؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه جلب المصلحة للأرض في تعميرها، ودفع الفساد عنها.
(7)
مسألة: عقد المساقاة والمغارسة والمزارعة عقد لازم، لا يصح إلّا على مدَّة معلومة لصاحب النخل والشجر، والأرض، وللعامل عند العقد، فلا يجوز لأحدهما فسخه وهو مذهب الجمهور؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الإجارة عقد=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لازم تكون على مدة معلومة للمتعاقدين عند العقد فكذلك المساقاة والمغارسة والمزارعة مثلها والجامع: أن كلًّا منها فيه عقد معاوضة، والعمل يكون على العين مع بقائها، الثانية: المصلحة؛ حيث إنها لو كانت عقد جائز، وبدون مدة مشترطة لجاز لصاحب الأرض، أو النخل فسخ العقد إذا ظهر الثمر، فيتضرّر العامل والساقي والمزارع والغارس، ولجاز للعامل أن يترك النخل أو الزرع في وقت أحوج ما يكون إليه، وحال صاحب الأرض لا يسمح بأن يقوم بعمله فيقع الضرر على صاحب الأرض والنخل، فدفعًا للضرر الواقع على المتعاقدين: كان العقد لازمًا؛ لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح فإن قلتَ: إنه عقد جائز فيجوز لصاحب الأرض والنخل أن يفسخها متى ما شاء، فإن فسخ صاحب الأرض والنخل قبل ظهور الثمرة: فإن العامل يُعطى نصيب عامل عمل مثل عمله، وإن فسخها العامل نفسه قبل ظهور الثمرة: فلا شيء له، وتكون الثمرة كلها لصاحب الأرض، أما إن حصل الفسخ منهما بعد ظهور الثمرة: فإنه يُعطى كل واحد نصيبه الذي اشترطه عند العقد، ويُلزم العامل بأن يكمل العمل، هذا ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة الفعلية؛ حيث "إنه صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع" ولم يُنقل أنه اشترط مدة معلومة في عقد تلك المساقاة؛ إذ لو وجد لنُقل، لأنه من مهمات الأمور ولم ينقل شيء من ذلك، ويلزم من عدم اشتراط ذلك: "عدم اللزوم، ويلزم أيضًا منه: أنه إذا فسخ صاحب الأرض أو النخل العقد فجأة قبل ظهور الثمرة: أن يعوِّض العامل بأجرة ونصيب مثله؛ لمنعه من الاستمرار في العمل، ويلزم منه أيضًا: أنه إذا فسخها العامل: أن تكون الثمرة لصاحب الأرض والنخل؛ لكون العامل قد أسقط حقه، ويلزم إذا فسخها بعد ظهور ثمرها: أن يُقسَّم الثمرة بينهما على ما شرطاه عند العقد، ويُلزم العامل بإتمام عمله فيها إن احتيج إلى ذلك، كما قلنا=
العامل كل ما فيه صلاح الثمرة: من حرث، وسقي وزبار) بكسر الزاي، وهو: قطع الأغصان الرديئة من الكرم (وتلقيح، وتشميس، وإصلاح موضعه و) إصلاح (طرق الماء وحصاد ونحوه) كآلة حرث، وبقر، وتفريق زِبْل، وقطع حشيش مضر، وشجر يابس، وحفظ ثمر على شجر إلى أن يُقسم (وعلى رب المال ما يصلحه) أي: ما يحفظ الأصل (كسد حائط، وإجراء الأنهار) وحفر البئر (والدولاب ونحوه) كآلته التي تديره ودوابه، وشراء ما يلقح به، وتحصيل ماء، وزبل
(8)
، والجذاذ عليهما بقدر
= في العامل في شركة المضاربة، قلتُ: يُحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط على يهود خيبر لما عاملهم بالمساقاة؛ لكون ذلك معروفًا بينهم فلا يحتاج إلى اشتراط شيء جرى العرف عليه، لا سيما وأن المصلحة تقتضي ذلك، وإذا تطرّق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال وإذا بطل الاستدلال به بطل ما بني عليه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة الفعلية مع القياس والمصلحة" فعملنا بالقياس والمصلحة؛ حيث إنهما يعتبران مقيدان المطلق السنة الفعلية، وعندهم: لم يقويا على ذلك.
(8)
مسألة: إذا أعطى زيد عمرًا أرضًا أو نخلًا وعقد معه عقد مساقاة أو مغارسة أو مزارعة عقدًا مطلقًا: فيجب على عمرو - وهو العامل - كلّ ما فيه إصلاح الثمرة، وزيادتها: من سقي الشجر بماء حاصل لا يحتاج إلى حفر بئر، وعليه جلب الماء من البئر، أو النهر بدولاب أو سواني، وحرث الأرض بأي آلة شاء: بقر ونحوها، وإزالة الحشيش المضر بالزرع والشجر والعنب. وقطع الجريد المضر - أيضًا - وهو المراد بالزبار -، وعليه أيضًا: تشميس ما يحتاج إلى تشميس، وتلقيح النخل وتفريقه عليها، وتصفية الزرع، وإصلاح موضع التشميس، وموضع دياس الزرع، وطرق الماء، وعليها أيضًا الحصاد والجذاذ واللقاط، ووضع سماد وتفريقه - وهو الزبل -، وحماية وحفظ ثمر على شجر ونخل ونقله إلى "الجرين" - وهو موضع حفظ الثمر والحبوب - وهذا كله يفعله العامل - وهو عمرو - إلى=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حين وقت تقسيمه عليه وعلى صاحب الأرض والنخل والشجر - وهو زيد - فيأخذ كل واحد منهما نصيبه المشترط عند عقد المساقاة أو المزارعة أو المغارسة أما صاحب الأرض والنخل والشجر - وهو زيد - فيجب عليه كلُّ ما يحفظ الأصل كأن يبني ما انهدم من حائط، وتكلفة إجراء نهر أو ساقية، وحفر بئر، وتحصيل الدولاب ومَعدَّاته، ولو نفذ الماء: لزمه حفر بئر آخر ونحو ذلك وعليه أيضًا شراء السماد إذا احتيج إليه، وعليه: شراء ما يلقح به؛ للتلازم؛ حيث إن إطلاق عقد المساقاة والمزارعة والمغارسة يقتضي ذلك؛ فيلزم أن كل ما يتّصل بالعمل يكون على العامل - وهو عمرو - وما يتصل بالأصل ورأس المال والأرض يكون على صاحبه - وهو زيد -، تنبيه: سمَّى المصنف العنب بالكرم، وهذه تسمية منهي عنها، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تسموا العنب كرمًا، إنما الكرم الرجل المسلم". (فرع): دواب إدارة دولاب الماء وما يُسحب بها الماء على العامل - وهو عمرو -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن دواب الحرث على العامل، فيحرث بما شاء وما هو مناسب له، فكذلك الدواب التي يسحب بها الماء عليه والجامع: أن كل ذلك متصل بالعمل والعامل، فإن قلتَ: إن الدواب التي يُسحب بها الماء على صاحب الأرض والنخل - وهو زيد -، وهو ما ذكره المصنف هنا، وهو قول كثير من الحنابلة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن شراء ما يُلقَّح به على صاحب الأرض والنخل - وهو زيد - فكذلك الدواب التي يسحب بها الماء مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما ليست من العمل في شيء، فلا تتصل بالعامل قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن ما يلقَّح به يُشترى ويُعطى العامل ليضعه في النخل فورًا دون عمل طويل عليه، أما الدواب: فهو سيعمل عليها مدَّة طويلة، فيكون اتصالها بالعامل كثيرًا جدًّا تعمل على دواب الحرث، فإن قلتَ: ما الخلاف سبب هنا؟ قلتُ: "تعارض القياسين" فنحن ألحقناها=
حصتيهما
(9)
إلا أن يشترطه على العامل
(10)
، والعامل فيها كالمضارب فيما يقبل،
= بدواب الحرث لكونها أكثر شبهًا بها، وهم ألحقوها بما يلقح به؛ لكونها أكثر شبهًا به، وهذا هو:"قياس الشبه".
(9)
مسألة: الجذاذ والحصاد واللقاط على العامل - وهو عمرو -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن التشميس ووضع التمر والحبوب في الجرين على العامل فكذلك الجذاذ والحصاد من باب أولى؛ لأنه قبله، والجامع: أن كلًّا منهما متّصل اتصالًا مباشرًا بالعمل، فإن قلتَ: إن الجذاذ والحصاد على صاحب الأرض والنخل - وهو زيد - وعلى العامل - وهو عمرو - كل واحد منهما يجذ ويحصد ما يساوي حصته المشروطة عند عقد المساقاة، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن الجذاذ والحصاد يكون بعد تكامل الثمرة وانقضاء المعاملة فيلزم: أن يكون على المتعاقدين معًا؛ لتساوي الطرفين فيه قلتُ: لا نسلِّم انقضاء العمل بالجذاذ والحصاد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في عقد المساقاة متى ينتهي؟ " فعندنا: ينتهي بوضع التمر والزرع في الجرين، وعندهم: ينتهي بتكامل الثمرة والزرع ووصولهما إلى الانتفاع بها.
(10)
مسألة: إذا دفع زيد أرضه إلى عمرو وعقدا عقد مساقاة، واشترط عمرو - وهو العامل - على صاحب الأرض: أن يدفع دواب سحب الماء من البئر، أو يدفع دواب الحرث، أو أن يكون الجذاذ عليهما معًا وقبل صاحب الأرض - وهو زيد - أو اشترط على أحدهما شيئًا مما يلزم الآخر: فإن ذلك يصح؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المشتري لو اشترط عند عقد البيع تأجيل الثمن، أو تقسيطه وقبل المشتري: فإنه يصح،، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما شرط لا يخل بمصلحة العقد، ولا مفسدة فيه على الطرفين، فإن قلتَ: لا يصح ذلك، وهو قول الشافعي، والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يصح شرط العمل على صاحب المال في شركة المضاربة فكذلك لا يصح أن يشترط على=
ويردُّ، وغير ذلك
(11)
.
= أحد المتعاقدين في عقد المساقاة شيئًا مما يلزم الآخر، والجامع: أنه في كل منهما شرط يخالف مقتضى العقد فأفسده. قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأنه إذا شرط العمل على صاحب رأس المال في شركة المضاربة: فقد قلب العقد تمامًا وأصبح صاحب رأس المال هو الذي دفع المال، وهو الذي يعمل، فيكون العامل لا عمل له فلذا لم يصح، أما إذا اشترط على أحد المتعاقدين في عقد المساقاة شيئًا مما يلزم الآخر: فكل واحد منهما اشترك في شيء من الأعمال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن قد ألحقناه بمن اشترط التأجيل في البيع؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهم ألحقوه بالعامل في شركة المضاربة الذي اشترط أن يكون العمل على صاحب المال؛ لكونه أكثر شبهًا به عندهم، وهذا هو "قياس الشبه" (فرع): إذا اشترط على أحد المتعاقدين في عقد المساقاة شيئًا مما يلزم الآخر: فإنه يصح - كما سبق - ولكن بشرطين: أحدهما: أن لا يكون على صاحب المال - وهو زيد أكثر العمل أو نصفه؛ للتلازم؛ حيث إن العامل - وهو عمرو - إنما يستحق بعمله نصيبه، فيلزم من عدم الكثرة في عمله أو نصفه: عدم صدق صفة العامل عليه، فلا يستحق شيئًا. ثانيهما: أن يكون ما يلزم كل واحد منهما من العمل معلومًا؛ للمصلحة: حيث إن عدم وضوح عمل كل واحد منهما يؤدي إلى الاختلاف والتنازع، فيختل العمل، فدفعًا لذلك اشترط هذا.
(11)
مسألة: حكم العامل في المساقاة والمغارسة والمزارعة حكم العامل في شركة المضاربة فيما يُقبل قوله فيه، وفيما يُردَّ قوله فيه، فيقبل قوله فيما إذا تلف: إنه لم يُفرِّط ولم يتعدَّ، ويُقبل قوله في المبطل للعقد، ويُقبل قوله في الجزء المشروط مع يمينه إذا اتهم، ونحو ذلك من الحالات التي يقع خلاف بينه وبين صاحب الأرض والنخل والشجر؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العامل في شركة المضاربة يُقبل قوله فيما=
فصل (وتصح المزارعة)؛ لحديث خيبر السابق، وهي: دفع أرض وحبٍّ لمن يزرعه ويقوم عليه، أو حب مزروع ينمي بالعمل لمن يقوم عليه (بجزء) مشاع (معلوم النسبة) كالثلث أو الربع ونحوه (مما يخرج من الأرض لربها) أي: لرب الأرض (أو للعامل والباقي للآخر) أي: إن شرط الجزء المسمّى لرب الأرض فالباقي للعامل، وإن شرط للعامل فالباقي لرب الأرض؛ لأنهما يستحقان ذلك، فإذا عيّن نصيب أحدهما منه: لزم أن يكون الباقي للآخر
(12)
(ولا يُشترط) في المزارعة والمغارسة: (كون البذر
= يُقبل ويرد مع يمينه عند الاختلاف فكذلك العامل في عقد المساقاة والمغارسة والمزارعة مثله والجامع: أن كلًّا من العامِلَين قد ائتمنه صاحب المال، والأرض والنخل والشجر، والمؤتَمن يُقبل قوله، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية العامل من ظلم أصحاب الأراضي والنخيل والأشجار؛ لكون العادة أن يكون الظلم من جهتهم؛ (فرع): إذا ثبتت خيانة العامل، ولم يؤتمن على السقي والزرع والغرس وحفظ ذلك: فإنه يُستأجر من ماله من يعمل عمله، وهو قول كثير من العلماء؛ للقياس، بيانه: كما أن العامل لو هرب: فإنه يُستأجر من ماله من يعمل عمله فكذلك يُفعل ذلك فيه إذا ثبتت خيانته والجامع: تعذُّر استيفاء المنافع المقصودة منهما فاستوفيت بغيرهما، فيُقال له:"إذا لم يمكن لك حفظها من خيانتك أقم غيرك يعمل ذلك وارفع يدك عنها؛ لكون الأمانة قد تعذَّرت في حقك".
(12)
مسألة: المزراعة لغة: مأخوذة من الزَّرْع - بفتح الزاي، وتسكين الراء - والمغارسة لغة: مأخوذة من غرس النخل، وهي في الاصطلاح: أن يدفع زيد أرضه إلى عمرو ليقوم عمرو بزرعها أو غرسها، وسقيها، وحمايتها، وتنمية ذلك، ويفعل كل ما تحتاج من خدمات، وذلك بجزء معلوم مشاع من المحصول، أو يدفع ذلك وهو مزروع لعمرو فيقوم بتنميته وذلك كثلثه أو ربعه أو نصفه يأخذه زيد على حسب ما يشترطانه عند عقد المزارعة، فإن اتفقا على أن يكون الثلث لصاحب الأرض، =
والغراس من رب الأرض) فيجوز أن يخرجه العامل في قول عمر، وابن مسعود، وغيرهما، ونصَّ عليه في رواية "مهنَّا" وصححه في "المغني" و "الشرح" واختاره أبو محمد الجوزي والشيخ تقي الدين (وعليه عمل الناس)؛ لأن الأصل المعوَّل عليه في المزارعة قصة خيبر، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن البذر على المسلمين، وظاهر المذهب: اشتراطه، نصَّ عليه في رواية "الجماعة"، واختاره عامة الأصحاب، وقدَّمه في "التنقيح" وتبعه المصنف في "الإقناع"، وقطع به في "المنتهى"
(13)
وإن شرط رب
= فإن الثلثين يكون للعامل، والعكس بالعكس (فرع): المزارعة والمغارسة صحيحة - على التعريف السابق -؛ لقواعد هي: السنة الفعلية، وفعل الصحابي، والمصلحة، وقد سبق بيانها بالتفصيل في مسألة:(2).
(13)
مسألة: لا يُشترط في عقد المزارعة والمغارسة: أن يكون البذر والغراس من صاحب الأرض - وهو زيد - بل يجوز أن يأتي العامل - وهو عمرو - بالبذر والغرس ويغرسها، ويجوز أن يأتي بذلك صاحب الأرض - وهو زيد - ولا فرق بينهما في ذلك، ولكن يبين ذلك عند العقد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم "قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع" ولم يُبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم أن البذر والغرس على المسلمين، ولو كان شرطًا لما ترك بيانه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، الثانية: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن عمر رضي الله عنه قد دفع البذر من عنده مرة، وجعل العامل يدفعه من عنده مرة أخرى فجاز الأمران، وهو رواية عن ابن مسعود، والغرس مثل البذر؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: إنه يشترط كون البذر من صاحب الأرض، وهو رواية عن أحمد، وقول كثير من الحنابلة، وبعض العلماء؛ للتلازم؛ حيث إن عقد المزارعة والمغارسة عقد يشترك فيه صاحب الأرض، والعامل في نمائه فوجب أن يكون رأس المال من أحدهما على حسب شرطهما قلتُ: إن هذا مخالف للسنة الفعلية السابقة وآثار الصحابة، فلا يُعمل به، فإن قلتَ: ما سبب =
الأرض أن يأخذ مثل بذره، ويقتسما الباقي: لم يصح
(14)
، وإن كان في الأرض شجر فزارعه على الأرض وساقاه على الشجر: صح، وكذا: لو آجره الأرض، وساقاه على شجرها فيصحّ ما لم يتّخذ حيلة على بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
(15)
وتصح مساقاة
= الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة وآثار الصحابة مع التلازم" فيُعمل عندنا: بالسنة والآثار وما يُفهم منهما، ويُعمل عندهم بالتلازم.
(14)
مسألة: إذا أعطى صاحب الأرض - وهو زيد - الأرض وصاعين من البذر للعامل - وهو عمرو - ليزرعها واشترط زيد: أن يأخذ هذين الصاعين عند خروج المحصول، ويقتسما الباقي: فهذا لا يصح؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إنه يُحتمل أن الأرض لا تُخرج سوى هذين الصاعين، فيأخذهما صاحب الأرض - وهو زيد - نظرًا لاشتراطه ذلك - فلا يبقى للعامل - وهو عمرو - شيء فيتضرر، فدفعًا لذلك: لم يصح ذلك الشرط، الثانية: التلازم؛ حيث إن عقد المزارعة يقتضي اشتراك كل من صاحب الأرض والعامل في محصول الزرع، فيلزم من هذا الشرط: عدم الاشتراك، وهذا يفسد العقد.
(15)
مسألة: إذا كان في الأرض شجر: فيصح لصاحب الأرض والشجر أن يعقد مع العامل عقد مزارعة على الأرض، وأن يعقد معه عقد مساقاة على الشجر، وكذا: يصح أن يعقد معه عقد إجارة على الأرض، وأن يعقد معه عقد مساقاة على الشجر، ولكن هذا بشرط: أن لا يقصد من هذا التحايل على بيع الثمرة التي في الشجر قبل بدو صلاحها، أو يؤجره الأرض بأكثر مما ستخرجه، أو بأكثر من أجرتها المعتادة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يجوز أن يجمع بين بيع وإجارة فكذلك يجوز أن يُجمع بين مزارعة ومساقاة، وأجرة ومساقاة والجامع: أنه وقع في كل منهما عقدان يجوز إفراد كل واحد منهما فجاز الجمع بينهما، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة لصاحب الأرض والشجر وللعامل، وفيه جمع بين الزرع، والنخل، والأشجار.
ومزارعة بلفظهما، ولفظ: المعاملة وما في معنى ذلك
(16)
، ولفظ: إجارة؛ لأنه مؤدٍ للمعنى
(17)
وتصح إجارة أرض بجزء مشاع مما يخرج منها، فإن لم تزرع نظر إلى مُعدَّل
(16)
مسألة: يصح عقد المساقاة، والمزارعة، والمغارسة بلفظ كل منها: فيقال "قد ساقيتك وزارعتك، وغارستك"، ويصح بلفظ المعاملة فيقال:"عاملتك" أو "اعمل في أرضي هذه" أو "في بستاني حتى تكمل ثمرته" أو ما في معنى ذلك كقوله: "فالحتك" وقوله: "تعهَّد نخلي" أو "اسقه" أو نحو ذلك؛ وتصح بأي لفظ عرف المتعاقدان أن المقصود منه عقد المساقاة، أو المزارعة، أو المغارسة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إن الراوي قال: "عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر. ." فإن ذلك يُفيد أن لفظ "المعاملة" يصح، الثانية: التلازم؛ حيث إن الألفاظ الأخرى كساقيتك، أو زارعتك، أو غارستك حقيقة في ألفاظها فيلزم صحتها ويلزم من تأدية الألفاظ الأخرى للمعنى المقصود: صحتها.
(17)
مسألة: لا تصح المساقاة والمزارعة والمغارسة بلفظ "الإجارة"؛ وهو قول كثير من العلماء كأبي الخطاب للتلازم؛ حيث إنه يُشترط للإجارة: كون العوض معلومًا فيلزم عدم صحة عقدها بلفظ الإجارة؛ لأن العوض في عقد المساقاة والمغارسة، والمزارعة يشترطان أن لا يكون معلومًا، بل يكون بجزء مشاع معلوم النسبة كثلث المحصول ونحو ذلك كما سبق. فإن قلتَ: تصح بلفظ: "الإجارة"، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنها تصح بالألفاظ السابقة في مسألة (16) فكذلك تصح بلفظ الإجارة، والجامع: أن كلًّا منها يؤدّي إلى المعنى المراد والمقصود. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه يُوجد فرق بين عقدي الإجارة والمساقاة من حيث اشتراط العلم بالعوض وعدمه، وهذا فرق أساسي بين العقدين يتسبَّب في الخلط بين حقائق الأمور، فدفعًا لذلك: لم يصح، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس" كما بيناهما.
المغل: فيجب القسط المسمَّى
(18)
/
(19)
.
(18)
مسألة: لا تصح إجارة الأرض بجزء مُشاع يخرج منها كأن يقول زيد: "آجرتك هذه الأرض بربع ما تزرع فيها من بُرٍّ ونحوه"، وإن وقع ذلك: فتكون مزارعة ومغارسة وليست بإجارة، وهو قول كثير من الحنفية والشافعية، واختاره أبو الخطاب؛ للتلازم؛ وقد ذكرناه في مسألة (17)، فإن قلتَ: بل تصح وتكون إجارة حقيقية، ولها شروط الإجارة؛ فإن لم يزرعها المستأجر: فإنه يدفع ما يعادل القسط المشترط لصاحب الأرض بتقدير زرعها، وذلك بالنظر إلى أرض تساويها في المساهمة وقريبة منها، ومن جنس ذلك الطعام الذي يمكن أن يزرع، هذا ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الغرر: صحَّة ذلك قلتُ: لا يُسلَّم هنا عدم الغرر والجهل؛ لكون هذا الجزء المشروط غير معلوم تقديره، وما لا يعلم تقديره لا يكون عوضًا، ثم إن المستأجر قد لا يزرعها لأي سبب فيقع الاختلاف والتنازع بينه وبين المؤجَّر في تقدير ذلك القسط المشترط؛ لأن الأراضي تختلف في محصولها وإن كانت متقاربة، وهذا معلوم بالعادة والعرف، فسدًا لذلك: لا تصح إجارة الأرض بجز مشاع مما يخرج منها فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".
(19)
مسألة: تجوز إجارة الأرض بسعر معلوم المقدار عند العقد كأن يقول المؤجر: "أجَّرتك هذه الأرض لتزرعها أو تغرسها كل سنة بعشرة آلاف ريال" ونحو ذلك أو يقول: "أجرتك هذا البستان لتقوم بما يُصلحه وتأخذ ثماره كل سنة بعشرة آلاف" ونحو ذلك؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إن حنظلة بن قيس سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض" فقلتُ: بالذهب والفضة؟ قال: "إنما نهى عنها ببعض ما يخرج منها أما بالذهب والفضة فلا بأس" وهو واضح الدلالة؛ الثانية: القياس، بيانه: كما تجوز إجارة الدور بالأثمان فكذلك تجوز إجارة الأراضي لزراعتها بالإثمان، والجامع: أن كلًّا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= منهما عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إنه ذهب إلى ذلك رافع بن خديج، وابن عمر وابن عباس، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جلب مصلحة للطرفين ودفع مفسدة عنهما؛ إذ كل منهما منتفع، بل يتعدَّى ذلك إلى نفع المجتمع، فإن قلتَ: إن ذلك مكروه، للسنة القولية: حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كراء المزارع - كما رواه رافع بن خديج -، والنهي للكراهة؛ والمصلحة هي التي صرفته من التحريم إلى الكراهة؛ حيث إنه يُحتمل احتمالًا بعيدًا أن لا يكسب المستأجر إلا قدر الأجرة المشترطة - وهي العشرة الآلاف - فيعطيها المؤجر فيتضرّر المستأجر، وقد يكسب المستأجر الملايين من نتاج هذه الأرض فيكون الذي أخذه المؤجَّر قليلًا جدًّا، فيتضرّر، قلتُ: إن راوي حديثنا الخاص وراوي حديثكم العام واحد، وهو في حديثنا قد فسَّر ما رواه في حديثكم، فيحمل العام على الخاص؛ لكونهما متعارضين، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الحديثين".
هذه آخر مسائل باب "المساقاة والمغارسة والمزارعة" ويليه باب "الإجارة".
باب الإجارة
مشتقة من الأجر، وهو: العوض، ومنه: سُمِّي الثواب أجرًا، وهي عقد على منفعة مباحة معلومة من عين معيّنة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة، أو عمل معلوم بعوض معلوم
(1)
باب الإجارة
وفيه خمس وسبعون مسألة:
(1)
مسألة: الإجارة لغة: اسم للأجرة وإعطاء الأجر مقابل منفعة، وهي مشتقة من الأجر، وهو: العوض عن فعل شيء، ويطلق على المجازاة، والثواب والجزاء يُقال:"أجرته" أي: أثبته وجازيته على شيء قام به - كما في المصباح (1/ 5) - وهي في الاصطلاح: "عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمَّة مدَّة معلومة، أو عقد على عمل شيء معلوم بعوض معلوم" فلفظ "عقد على منفعة" فيه اشتراط: أن يكون العقد بين المؤجر والمستأجر على المنفعة، دون العين، وخرج بذلك البيع والهبة؛ لكونهما عقد على عين، وعبارة "مباحة" فيها اشتراط: كون المؤجَّر مُباح قابل للبذل، وخرج بذلك البضع؛ حيث إنه غير مباح التأجير، لذلك كان العقد عليه لا يُسمَّى إجارة، وعبارة "من عين معيّنة أو موصوفة في الذمة مُدَّة معلومة" فيها بيان القسم الأول من قسمي الإجارة - وهو المشهور - وهو: كون الإجارة على شيء مشاهد مثل قول زيد لعمرو: "أجَّرتك هذه الدار سنة أو شهرًا أو يومًا" أو كونها على شيء موصوف بأوصاف دقيقة كقوله: "أجَّرتك دارًا صفتها كذا وكذا سنة أو شهرًا أو يومًا" وعبارة "مدَّة معلومة" فيها اشتراط العلم بمدَّة الانتفاع بالشيء المؤجر، وخرج بذلك: التأجير دون تعيين مدَّة؛ حيث إن هذا لا يجوز، وعبارة "أو عقد على عمل شيء" فيها بيان القسم الثاني من قسمي الإجارة وهو: كون الإجارة على عمل معلوم كقول زيد لعمرو: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= " أستأجرك على بناء جدار هنا أوصافه كذا وكذا" وعبارة: "بعوض معلوم" فيها اشتراط كون الأجرة معلومة المقدار، وهذا الشرط للقسمين، وهذا ثبت بالتلازم؛ حيث إنه بعد استقراء وتتبع النصوص والأدلة: لزم هذا التعريف - كما سيأتي بيان ذلك. (فرع): عقد الإجارة مشروع وصحيح عند جمهور العلماء المعتدّ بأقوالهم؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فلو لم تصح الإجارة لما أُمر بذلك، فلازم العبارة يدلّ على الصحة، وقال تعالى:{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وقال: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} فيلزم صحّة الإجارة شرعًا؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد ما يخالفه في شرعنا. الثانية: للسنة القولية: حيث إنه "عليه السلام أمر أن تُكرى الأرض بذهب أو ورق" - كما رواه سعد بن أبي وقاص - وقال: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه" وهذا يلزم منه صحة الإجارة ومشروعيتها، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام وأبا بكر قد استأجرا رجلًا من بني الديل يوصلهما إلى المدينة" "وأنه عليه السلام قد احتجم وأعطى الحجام أجره" فلزم من ذلك صحة الإجارة؛ إذ لو لم تصح لما فعله، فإن قلتَ: لِمَ شُرعت الإجارة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحاجة تقتضي مشروعيتها؛ لكون الواحد يحتاج إلى السكنى والسفر، فليس كل واحد يملك دارًا يسكنها، أو راحلة يُسافر عليها، ولا يمكن أن يتطوّع بذلك أحد فيحتاج إلى استئجار ذلك، وكذلك مالك الدار قد يحتاج إلى بناء جدار ولا يستطيع فعله بنفسه، ولا يمكن أن يتطوَّع به أحد، فيحتاج إلى أن يستأجر أحدًا يقوم به، وبذلك يحصل تكافل المجتمع وقضاء كل واحد حاجة الآخر ولو كان بأجرة، فإن قلتَ: إن الإجارة لا تصح، وهو ما حكي عن الحسن البصري، وابن علية، وابن الأصم، والقاشاني والنهرواني؛ للمصلحة: حيث إن الإجارة بيع المنافع، والمنافع حال العقد معدومة القبض،=
وتنعقد بلفظ "الإجارة" و "الكراء" وما في معناهما
(2)
، وبلفظ "بيع" إن لم يُضف للعين
(3)
و (تصح) الإجارة (بثلاثة شروط) أحدهما (معرفة المنفعة)؛ لأنها المعقود
= فيكون في ذلك غرر وجهالة، فيلزم عدم صحتها دفعًا لذلك. قلتُ: إن المنافع وإن كانت معدومة عند العقد إلا أنها مستوفاة في الغالب من عادات الناس وأعرافهم، والعادة محكَّمة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع الكتاب والسنة" فنحن عملنا بالكتاب والسنة، لظهور دلالتهما والمصلحة اجتهاد، ولا اجتهاد مع النص، وأيضًا:"تعارض المصلحتين" فنحن عملنا بالمصلحة العامة وهي: مصلحة المجتمع الإسلامي فجازت الإجارة لذلك مع تأييد العادة لذلك، وهم عملوا بالمصلحة الخاصة، والعامة مقدمة على الخاصة.
(2)
مسألة: تصح الإجارة بلفظ: "الإجارة" فتقول: "أجرتك هذه الدار" وقول المستأجر: "استأجرتها" وبلفظ "الكراء" فتقول: "أكريتك هذه الدار"، وقول المستأجر:"اكتريتها"؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وضع هذين اللفظين للإجارة، وفهم أن المقصود منهما التأجير: صحة ذلك. (فرع): تصح بأي لفظ يُفهم معنى الإجارة: "كأعطيتك نفع هذه الدار سنة بكذا"؛ للقياس؛ بيانه: كما تصح الإجارة بلفظ "الإجارة" و"الكراء" فكذلك ما في معناهما، والجامع: فهم المقصود في كل.
(3)
مسألة: لا تنعقد الإجارة بلفظ "البيع"؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن النكاح لا ينعقد بلفظ "البيع" فكذلك الإجارة مثله، والجامع: أن كلًّا منهما عقد يُخالف البيع في الاسم والأحكام الثانية: التلازم؛ حيث إن الإجارة تضاف إلى العين التي يضاف إليها البيع، وهذه الإضافة واحدة فيلزم أن يُجعل لكل من "الإجارة" و "البيع" لفظًا خاصًّا به تفريقًا بينهما؛ لإبعاد التشابه، فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن انعقاد الإجارة بلفظ "البيع" مع وجود ألفاظٍ =
عليها، فاشتُرط العلم بها كالمبيع
(4)
، وتحصل المعرفة إما بالعرف (كسكنى دار)؛ لأنها
= خاصة بها يُفضي إلى اختلاط حقائق الأمور، مما يؤدِّي إلى اختلاف المتعاقدين، فدفعًا لذلك: شرع هذا؟ فإن قلتَ: إنها تنعقد بلفظ البيع بشرط: أن لا يضاف البيع للعين، بل يقول المؤجر:"بعتك منفعة هذه الدار" وهذا ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس، بيانه: كما أن الصَّرف ينعقد بلفظ "البيع" فكذلك الإجارة تنعقد بلفظ "البيع" والجامع: أن كلًّا منهما بيع في الحقيقة قلتُ: هذا بعيد؛ دفعًا للضرر عن المتعاقدين في الإجارة؛ إذ يؤدِّي إلى عدم فهم المتعاقدين أو أحدهما المقصود من هذا العقد فيقع الخلاف بينهما، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة" فنحن نعمل بالمصلحة؛ حيث إنها تقتضي إعطاء كل عقد ما يُناسبه؛ دفعًا للضرر، وهم عملوا بالقياس فإن قلتَ: إن "الإجارة" تنعقد بأي لفظ عرف به المتعاقدان: أن المقصود هو "الإجارة" وهو ما ذكره كثير من العلماء منهم ابن تيمية وابن القيم؛ للتلازم: حيث إنه يلزم من عدم ورود ألفاظ للإجارة خاصة بها: أن يُرجع إلى العرف فيما بينهما. قلتُ: هذا بعيد؛ لمخالفته للمصلحة التي ذكرناها؛ إذ قد يفهم أحد المتعاقدين غير ما فهمه الآخر؛ لاختلاف المجتمعات، والبيئات، والأفراد في المفاهيم، وبسبب اختلاف الأفهام والمقاصد وقع خلاف كبير في بعض الأحكام، فدفعًا لذلك رجَّحنا ما ذكرناه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم والمصلحة".
(4)
مسألة: في الأول - من شروط صحة الإجارة - وهو: أن يعرف كلُّ واحدٍ من المؤجَّر والمستأجر المنفعة التي أُجِّرت، فلا يصح تأجير شيء مجهول المنفعة مثل أن يعرف المتعاقدان:"أن هذه الدار أُجِّرت للسكنى" و "أن هذا المكان أُجَّر مستودعًا" و "أن هذا أُجِّر مدرسة للتعليم" وهكذا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُشترط في صحة البيع معرفة العين المباعة، فلا يصح بيع عين مجهولة فكذلك يُشترط في صحة الإجارة معرفة المنفعة المؤجرة والجامع: أن كلًّا من المنفعة والعين قد وقع =
لا تكرى إلا لذلك، فلا يعمل فيها حدادة ولا قصارة، ولا يسكنها دابة، ولا يجعلها مخزنًا لطعام، ويدخل ماء بئر تبعًا، وله إسكان ضيف وزائر (و) كـ (خدمة آدمي) فيخدم ما جرت العادة به من ليل أو نهار، وإن أستأجر حرة أو أمة صرف وجهه عن النظر (و) يصح استئجار آدمي لعمل معلوم كـ (تعلم علم) وخياطة ثوب أو قصارته، أو ليدل على طريق ونحوه؛ لما في البخاري عن عائشة في حديث الهجرة:"واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا هو عبد الله بن أرقط وقيل: ابن أريقط كان كافرًا من بني الديل هاديًا خريتًا (و) "الخريت" الماهر بالهداية، وإما بالوصف كحمل زبرة حديد وزنها كذا إلى موضع معين، وبناء حائط يذكر طوله وعرضه وسمكه وآلته
(5)
الشرط
= عليهما العقد، فإن قلتَ: لِمَ اشترط هذا الشرط؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن عدم معرفة المتعاقدين للمنفعة المؤجَّرة يؤدِّي إلى الجهالة والغرر مما يُفضي إلى الاختلاف والتنازع، فدفعًا لذلك اشتُرط هذا الشرط.
(5)
مسألة: تحصل معرفة المنفعة بطريقين: الطريق الأول: عرف وعادة الناس كتأجير دار للسكنى، أو تأجير آدمي للعمل، أو تعليم علم، أو بناء جدار، أو الهداية إلى طريق ونحو ذلك، فالمستأجر هنا يستعمل الدار فيما جرت العادة استعمالها فيه كأن يضع فرشه، وطعامه المعتاد، ومتاعه، وأوانيه، ولا يجوز استعمالها فيما لم تجر العادة استعمالها فيه كأن يجعلها مستودعًا لبضاعته، أو موضعًا للحدادة، أو للتجارة، أو لحيواناته، أو مصنعًا لثياب ونحو ذلك، فإن فعل ذلك: فإن عقد الإجارة يبطل، وكذا: إذا استأجر آدميًا: فإنه يستخدمه فيما جرت العادة استعماله فيه من أعمال، وأزمان، فلا يجوز للمستأجر أن يستخدمه في أشياء لم تجرد العادة استخدامه فيها، أو تكليفه بالعمل في وقت لا يُعمل فيه عادة، فإن فعل ذلك: فإن عقد الإجارة يبطل؛ الطريق الثاني: وصف المنفعة التي استأجره لأجلها، فلو استأجره لحمل مجموعة حديد: فلا بد أن يعرف المستأجر وزنها، وكميتها، ووزنها، والموضع الذي تُحمل إليه ونحو ذلك مما يخصُّ المحمول، ولو=
(الثاني: معرفة الأجرة) بما تحصل به معرفة الثمن؛ لحديث أحمد عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يُبيِّن له أجرة
(6)
، فإن آجره الدار
= استأجره لبناء حائط فلا بدَّ أن يعرف المستأجر طوله، وعرضه، وارتفاعه، ونوع المادة التي يُبنى فيها من حجارة، أو بلك، أو لبن أو جص ونحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد استأجر رجلًا من بني الديل ليدله الطريق إلى المدينة المنورة" فلزم من ذلك: جواز استئجار الآدمي، واشتراط معرفة المنفعة بالوصف، الثانية: القياس، بيانه: وهو من وجهين: أولهما: كما يجوز بيع العين بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف فكذلك يجوز تأجير الدار والآدمي وإطلاق ذلك والجامع: أن العرف يُحدِّد المطلوب في ذلك، فلم يُحتج إلى بيان طريقة السكنى أو عمل الآدمي؛ لكونهما لا يستأجران إلا لذلك، ثانيهما: كما يجوز بيع العين الموصوفة وصفًا دقيقًا فكذلك يجوز تأجير المنفعة الموصوفة وصفًا دقيقًا والجامع: معرفة المباع والمؤجَّر بذلك تمام المعرفة. فإن قلتَ: لِمَ حصلت معرفة المنفعة بهذين الطريقين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمتعاقدين من جهل وغرر يقع عليهما أو على أحدهما.
(6)
مسألة: في الثاني - من شروط صحّة الإجارة - وهو: أن يعرف كل من المؤجِّر والمستأجر قدر الأجرة، وهذه المعرفة تكون بالرؤية، أو بالوصف؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه تُشترط معرفة ثمن السلعة المباعة في البيع وذلك بالرؤية أو بالوصف فكذلك قدر الأجرة يشترط أن يُعرف بذلك والجامع: أن كلًّا منهما عوض في عقد معاوضة فوجب العلم به برؤية أو صفة. فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المتعاقدين من التنازع بسبب جهل قدر الأجرة كما يحصل كثيرًا، تنبيه: ما ذكره المصنف من "نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يُبين له أجره" لا يصلح للاستدلال به؛ لضعفه؛ بسبب وجود انقطاع في سنده، وبعضهم جعله موقوفًا على راويه - وهو: أبو سعيد=
بعمارتها
(7)
، أو عوض معلوم وشرط عليه عمارتها خارجًا عن الأجرة: لم تصح
(8)
، ولو آجرها بمعين على أن ينفق المستأجر ما تحتاج إليه محتسبًا به من الأجرة: صحَّ
(9)
(وتصح) الإجارة (في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما) روي عن أبي بكر، وعمر،
= الخدري -.
(7)
مسألة: إذا قال زيد لعمرو: "أجَّرتك هذه الدار سنة كاملة بشرط: أن تعمر ما انهدم منها": فلا تصح الإجارة؛ للتلازم؛ حيث إن القدر الذي يعمر ما انهدم مجهول فيلزم عدم صحة الإجارة؛ لفقدان شرط من شروط صحة الإجارة - وهو: العلم بقدر الأجرة - والمقصد: حماية المستأجر. (فرع): إن قال زيد لعمرو: "أجرتك هذه الدار شهرًا بشرط: أن تبني هذا الجدار الساقط" وبيَّن له وصف الجدار الذي يزيد بناءه - كما سبق بيانه -: فإن الإجارة تصح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من توفر شرط صحة الإجارة وهو العلم بقدر الأجرة وهو بناء هذا الجدار عند العقد: صحتها.
(8)
مسألة: إذا قال زيد لعمرو: "أجرتك هذه الدار بألف درهم سنة كاملة بشرط: أن تعمر ما انهدم منها أيضًا": فلا تصح الإجارة؛ للتلازم؛ حيث إن الثمن الذي يعمر ما انهدم منها مجهول: فقد يزيد على المستأجر زيادة غير محتملة، وقد يطمع المؤجَّر ويطلب من المستأجر تحسينات تزيد من الثمن فيتضرَّر المستأجر، فيلزم من ذلك: عدم صحة الإجارة؛ لفقدان شرط من شروط صحتها - وهو العلم بالأجرة - والمقصد هو: منع الضرر عن المستأجر، وقطع التنازع.
(9)
مسألة: إذا قال زيد لعمرو: "أجرتك هذه الدار بألف سنة كاملة بشرط: أن تصلحها وتحسب ما تنفقه عليها من الأجرة - وهي: الألف - ": فإن الإجارة تصح؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو وكَّل عمرًا لإصلاح دار ونحوها وأعطاه ما يُنفق به على ذلك فإنه يصح ذلك فكذلك هذه الحالة مثل ذلك والجامع: أن الإنفاق في الحالتين على المالك. والمقصد هنا: حماية المتعاقدين.
وأبي موسى في الأجير، وأما الظئر فلقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ويُشترط لصحة العقد العلم بمدة الرضاع، ومعرفة الطفل بالمشاهدة، وموضع الرضاع، ومعرفة العوض
(10)
(وإن دخل حمامًا، أو سفينة) بلا عقد (أو
(10)
مسألة: يجوز أن يستأجر زيد عمرًا للخدمة وغيرها بطعامه الذي اعتاد الناس أن يعطونه الأُجَراء؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر وعمر، وأبا موسى، قد استأجروا الأجراء بطعامهم، وأن أبا هريرة قد أجَّر نفسه بطعام نفسه، الثانية: التلازم؛ حيث إن الطعام يُعتبر عوض لمنفعة، ويكفي فيه ما تعارف عليه الناس أن يطعموه أُجراءهم فيلزم: جواز ذلك ولو لم يُسمَّ مقدار الطعام؛ لكون العرف يكفي عن التسمية، والمقصد منه: قضاء حاجة المؤجر والمستأجر. تنبيه: استدلّ بعضهم بالسنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام لما قرأ قصة موسى عليه السلام قال: "آجر نفسه ثمان سنين أو عشرًا على عفَّة فرجه، وطعام بطنه" قلتُ: هذا لا يصلح للاستدلال به هنا؛ لأن المسألة مفروضة في استئجار الآدمي بطعامه فقط، وهنا قد استؤجر موسى بطعامه، وإنكاحه، فاختلفت المسألتان. (فرع): يجوز أن يستأجر الرجل امرأة تُرضع له ولده بطعامها المعروف - وهو المسمَّى بالظئر - بشروط أربعة: أولها: أن تعلم المرأة المرضعة المدة التي ستقوم بإرضاع الطفل فيه، ثانيها: أن تشاهد المرضعة الطفل الذي سترضعه، ثالثها: أن يتفق والد الطفل والمرأة المرضعة على الموضع الذي ستُرضعه فيه هل هو في بيتها، أو في بيت والده؟ رابعها: أن يعرف كل من والده، والمرضعة قدر الأجرة، فإن لم تتوفَّر تلك الشروط فلا صحة للإجارة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} حيث دلَّت هذه الآية بدلالة الإشارة على أن المقصود بهذه الآية هي: المرضعة غير الزوجة؛ لأن الزوجة تجب نفقتها وكسوتها ولو لم ترضع ولده - وقد فصَّلتُ هذا في كتابي: "طرق دلالة الألفاظ على الأحكام" الثانية: التلازم؛ وقد سبق بيانه في مسألة: (10) =
أعطى ثوبه قصارًا، أو خياطًا) ليعملاه (بلا عقد: صح بأجرة العادة)؛ لأن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول، وكذا: لو دفع متاعه لمن يبيعه، أو استعمل حمالًا ونحوه فله أجرة مثله، ولو لم يكن له عادة بأخذ الأجرة
(11)
، الشرط
= فإن قلتَ: لِمَ شرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي سد حاجة الناس. فإن قلتَ: لِمَ اشترطت تلك الشروط هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المرضعة ووالد الطفل من الجهل في بعض ما تترتَّب عليه تلك الرضاعة: من طول مدة أو قصرها، وكبر حجم الطفل أو صغره، ومشقة ذهاب المرضعة إلى والد الطفل، أو عدمها، وكثرة أجره أو قلَّتها؛ حيث إن الجهل في تلك الأمور يُؤدِّي إلى التنازع والاختلاف، فدفعًا لذلك: اشترطت تلك الشروط، فإن قلتَ: إن التأجير بالطعام لا يصح مطلقًا: سواء تأجير المرء نفسه بطعامه، أو الظئر؛ للمصلحة: حيث إن الطعام والعمل والرضاع والحليب الذي يرضعه الطفل يختلف كثرةً وقلةً اختلافًا متباينًا، فيكون مجهولًا، فيقع غرر بسبب ذلك فيلزم عدم صحته؛ لفقدان شرطه وهو: معرفة العمل، والأجرة - قلتُ: إن اختلاف هذا واقع، ولكن يُقدَّر ذلك بما تعارف الناس عليه من عمل، وطعام، ولبن، والعادة محكَّمة، كما قيل في الإطعام والكسوة في كفارة اليمين حيث إنه يكفي في ذلك أدنى ما يُطلق عليه الاسم، وكذا: الوصية ونحو ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب وفعل الصحابي، والمصلحة العامة مع المصلحة الخاصة التي ذكرها المخالف".
(11)
مسألة: إذا دفع زيد إلى عمرو قماشًا ليخيطه له، أو يُقصِّره له، أو دخل حمامًا لعمرو ليتنظف فيه، أو ركب سفينة ليسافر عليها، أو أعطاه متاعه ليبيعه له، أو حمَّله متاعًا ليحمله له إلى منزله، ووقع ذلك من غير عقد إجارة ولا شرط، ولا ذكر للتعويض، وكان عمرو قد أعدَّ ونصب نفسه لذلك بأن كان خياطًا، أو قصَّارًا، أو صاحب حمام أو سفينة، أو بياعًا، أو حمالًا: فإن هذا يصح؛ ويعطى أجرة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المثل، وهي أجرة من يعمل مثل عمله؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنه يجوز بيع السلعة بنقد بدون تعيين نوع ذلك النقد إذا وُجد نقد قد اشتهر في التداول في ذلك البلد، ويُطالب البائع بذلك النقد المشهور وإن لم يُعيِّن ذلك في أول العقد فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما يكفِ العرف الجاري ويقوم مقام القول الثانية: التلازم؛ حيث إن شاهد الحال - وهو وضع نفسه خياطًا، أو قصَّارًا، أو صاحب حمام أو سفينة، أو بيَّاعًا، أو حمَّالًا - يلزم منه إعطاؤه أجرة المثل، ولو لم يتكلَّم، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه تيسير على الناس، إذ لو اشتُرط في ذلك وجود العقد، وذكر الأجرة والقبول والإيجاب: لتعطَّلت أكثر أعمال الناس، فدفعًا لذلك: شُرع هذا، فإن قلتَ: إن هذا لا يصح، ولا يستحق أُجرة المثل، وهو قول جمهور الشافعية وكثير من العلماء؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشخص لو تبرَّع بعمله لآخر فلا يستحق أُجرة فكذلك مَنْ أعطي عملًا يعمله، أو طُلب منه شيء بدون عقد أو شرط عوض لا يستحق شيئًا والجامع: أن كلًّا منهما قد عمل ذلك من غير عوض مشروط في العقد ومجهول لهما قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن المتبرِّع لم يشهد الحال على أنه يقوم بالأعمال بأجرة، بخلاف ما نتكلَّم عنه حيث اشتُرط فيه: كونه مُعدًّا لنفسه لذلك، ومع الفرق لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" حيث إنّا ألحقناه بالنقد المشهور في البلد عند بيع سلعة؛ لكون ذلك أكثر شبهًا به عندنا، وهم ألحقوه بالمتبرّع بعمله؛ لكون ذلك أكثر شبهًا به عندهم، وهو "قياس الشبه". (فرع): إذا لم يُعدَّ نفسه وينصبها للعمل وأخذ الأجرة فلا يصح استئجاره إلا بعقد، وشرط، وذكر للتعويض عند العقد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المتبرِّع بعمل شيء لا يُعطى أجرة على عمله إلا بعد عقد وشرط وتسمية للأجرة فكذلك هذا والجامع: أنه في كل=
(الثالث: الإباحة في) نفع (العين) المقدور عليه المقصود كإجارة دار يجعلها مسجدًا، وشجر لنشر ثياب، أو قعود بظله (فلا تصح) الإجارة (على نفع محرَّم كالزنا، والزمر، والغناء، وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر)؛ لأن المنفعة المحرمة مطلوب إزالتها، والإجارة تنافيها، وسواء شرط ذلك في العقد أو لا إذا ظن الفعل، ولا تصح إجارة طير؛ ليوقظه للصلاة؛ لأنه غير مقدور عليه، ولا شمع وطعام؛ ليتجمَّل به، ويردُّه، ولا ثوب يوضع على نعش ميت، ذكره في "المغني" و "الشرح" ولا نحو: تفاحة لشم
(12)
(وتصح إجارة حائط لوضع أطراف خشبه) المعلوم (عليه)؛ لإباحة
= منهما لم يجر عرف يقوم مقام العقد.
(12)
مسألة: في الثالث والأخير - من شروط صحة الإجارة - وهو: أن تكون المنفعة المؤجَّرة مباحة شرعًا، ومقصودة، ومقدورًا على الانتفاع بها: كأن يستأجر دارًا ليجعلها مسجدًا، وشجرًا لينشر عليه ثيابه، أو ليجلس في ظلِّه ونحو ذلك مما فيه منفعة يقصدها عقلاء المكلفين، ومقدورًا عليها، وبناء على ذلك: فلا تصح إجارة شيء يستعمل في محرمات كأن تُستأجر دار لتُعمل فيها الفواحش من زنا وشرب خمر، أو المتاجرة في ذلك، أو للغناء، أو جعلها كنيسة، أو للعب القمار أو نحو ذلك، وكذا: لا تصح إجارة شيء؛ لأجل التجمُّل به، ثم يردُّه، أو إجارة ثوب؛ ليوضع على نعش الميت، أو إجارة تفاحة للشم فقط أو نحو ذلك؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} واستئجار الأشياء لاستعمالها في المحرمات تدخل في عموم هذه الآية؛ لأنه من باب: التعاون على الإثم والعدوان فيحرَّم؛ لأن النهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم، ولفظ "الإثم" و"العدوان" اسم مفرد محلى بأل وهو من صيغ العموم، الثانية: القياس، بيانه: كما أجمع العلماء على بطلان إجارة النائحة والمغنية فكذلك تبطل إجارة الأشياء التي تستعمل للمحرمات والجامع: أنه في كل منهما انتفاع محرم، وهو منهي عنه، الثالثة: التلازم؛ حيث إن ما لا يُقصد فيه الانتفاع كشم=
ذلك
(13)
(ولا تؤجَّر المرأة نفسها) بعد عقد النكاح عليها (بغير إذن زوجها)؛ لتفويت حق الزوج
(14)
.
= تفاحة، أو التجمُّل، أو ما لا يُقدر على الانتفاع به لا يُمكن حصول الانتفاع الحقيقي منه فيلزم عدم صحة استئجاره؛ لكون بذل المال والعوض عنه فيه سفه، والسفيه يُحجر عليه، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذا الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المجتمع من انتشار المحرمات والمعاصي فيه، وحماية الأفراد من بذل الأموال في أشياء لا تستحقها؛ ليكون المجتمع مطيعًا، غنيًا (فرع): إذا أجَّر زيد عمرًا دارًا واستعملها عمرو لفعل المنكرات والمعاصي، أو لفعل أشياء غير مقصودة لعقلاء المكلَّفين: فإن من حق المؤجَّر - وهو زيد -: أن يفسخ الإجارة: سواء شرط ذلك في العقد أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك فقد شرطًا من شروط صحة الإجارة - وهو: إباحة الانتفاع والقصد فيه - فيلزم بطلانها؛ لانتفاء شرطها. (فرع ثان) لا تصح إجارة طير كديك؛ لأجل أن يوقظ المستأجر للصلاة؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من أن منفعته غير متقوَّمة ومقدَّرة وغير مقدور عليها: عدم صحة إجارتها؛ لعدم العلم بالمنفعة المؤجَّرة علمًا دقيقًا ولا يمكن أن تخرج منه المنفعة بالقوة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المستأجر من أن يؤكل ماله بغير حق.
(13)
مسألة: تصحّ إجارة حائط؛ ليضع المستأجر أطراف خشبه عليه وكذا: تصح إجارة حائط ليبني المستأجر عليه بناء بشرطين: أولهما: أن يكون الخشب والبناء معلومين، ثانيهما: أن تكون مدة الإجارة معلومة؛ للقياس؛ بيانه: كما تصح إجارة السطح للنوم عليه فكذلك تصح الإجارة هنا والجامع: أن كلًّا منهما منفعة مقصودة مقدور على تسليمها، واستيفائها، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذان الشرطان؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمتعاقدين من أن يبغي أحدهما على الآخر.
(14)
مسألة: لا يصح أن تؤجِّر الزوجة نفسها لخدمة، أو أي عمل إلّا إذا أذن =
فصل: (ويشترط في العين المؤجَّرة) خمسة شروط: أحدها: (معرفتها برؤية أو صفة) إن انضبطت بالوصف، ولهذا قال:(في غير الدار ونحوها) مما لا يصح فيه السَّلَم: فلو استأجر حمامًا فلا بد من رؤيته؛ لأن الغرض يختلف بالصغر، والكبر، ومعرفة مائه، ومشاهدة الإيوان، ومطرح الرماد، ومصرف الماء
(15)
، وكره أحمد كراء الحمام؛ لأنه يدخله من تنكشف عورته فيه
(16)
(و) الشرط الثاني: (أن يعقد على
= زوجها؛ للمصلحة: حيث إن وقتها من حق زوجها بسبب عقد النكاح عليها، فإذا أجَّرت نفسها للخدمة فإنها تكون قد فوّتت حق الزوج وهذا محرم فتأثم بذلك، فدفعًا لذلك شرع هذا.
(15)
مسألة: في الأول - من الشروط التي يجب أن تتوفَّر في العين المؤجَّرة - وهو: أن تُعرف العين المؤجَّرة بالمشاهدة إن كانت لا تنضبط بالوصف، كالبساتين، والمزارع، والحمامات، ونحو ذلك فهذه لا بد من مشاهدتها، ومشاهدة أجزائها، وحدودها، فمثلًا: الحمام لا بدَّ من مشاهدته، ومعرفة كثرة مائة أو قلّته، ومكان الجلوس فيه، وموضع الرماد الذي يكون بعد تسخين الماء، ومعرفة مصرف الماء ونحو ذلك مما يختلف قدر الأجرة بسببها، أما إن كانت تنضبط بالوصف فيكفي وصفها للمستأجر فقط كالدور والدكاكين ونحوها؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُشترط ذلك في بيع العين، فكذلك يُشترط في تأجير تلك العين والجامع: أن كلًّا منهما يُشترى ويُستأجر للانتفاع به، ويختلف الثمن والأجرة باختلاف كبر العين، وصغرها وتيسير الانتفاع، وعدم ذلك، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن عدم هذا يؤدي إلى الجهالة بمنفعة العين المؤجَّرة، وهذا قد يُفوِّت المنفعة أو بعضها على المستأجر فيتضرّر، فدفعًا لذلك اشترط هذا.
(16)
مسألة: تصح إجارة الحمام على من يستعمله للتنظُّف فيه مع الكراهة - كما نُقل =
نفعها) المستوفى (دون أجزائها)؛ لأن الإجارة هي بيع المنافع فلا تدخل الأجزاء فيها (فلا تصح إجارة الطعام؛ للأكل، ولا الشمع؛ ليُشعله) ولو أكرى شمعة؛ ليُشعل منها ويرد بقيتها وثمن ما ذهب، وأجر الباقي: فهو فاسد
(17)
(ولا حيوان؛ ليأخذ لبنه) أو
= عن الإمام أحمد -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون منفعته مقصودة ومقدور على تسليمها واستيفائها: صحة عقد الإجارة هنا، ويلزم من احتمال انكشاف عورة من يدخله احتمالًا بعيدًا: كراهية ذلك؛ دفعًا للمفسدة المحتملة.
(17)
مسألة: في الثاني - من الشروط الواجب توفرها في العين المؤجَّرة - وهو: أن يقع عقد الإجارة على نفع العين التي سيستوفيها المستأجر، وبهذا لا يُنظر إلى أجزاء العين المؤجَّرة، فلا تدخل في هذا العقد، وبناء على ذلك: لا تصح إجارة طعام؛ ليأكل منه المستأجر، ولا إجارة شراب؛ ليشرب منه المستأجر، ولا شمعة؛ لينتفع المستأجر في ضوئها فترة، ثم يُرجع المستأجر ما بقي من الطعام، أو الشراب، أو الشمعة إلى المؤجِّر، ويدفع أجرة ما استهلكه من الأكل والشرب والشمعة؛ للتلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: أن عقد الإجارة واقع على بيع المنفعة فيلزم اشتراط ذلك، ويلزم منه عدم دخول الأجزاء ضمن العقد، ثانيهما: أن دخول المنفعة، وأجزائها كإجارة طعام ليأكل منه المستأجر، ويرد باقيه، ويدفع أجرة ما أكله - وغير ذلك من الأمثلة - قد اشتمل على عقدين: عقد بيع وعقد إجارة، وقد جُهل الشيء المباع منه كما جهل الشيء المستأجر منه، فيلزم بطلان العقد؛ للجهالة والغرر، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المتعاقدين من أكل مالهما أو أحدهما بالباطل، وفيه قطع للتنازع بينهما. فإن قلتَ: إن هذا لا يشترط فتصحّ الإجارة في مثل تلك الأمثلة، فتجوز إجارة الشمعة؛ ليشعلها، بشرط: أن يكون كل أوقية بدرهم، وهو ما رجَّحه ابن تيمية وابن القيم؛ للقياس؛ بيانه: كما تصح إجارة الدار كل شهر بدرهم، فكذلك يجوز مثل ذلك. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق ووجه الفرق: أن الدار لا تنقص أصولها بالاستعمال =
صوفه، أو شعره، أو وبره (إلا في الظئر) فيجوز وتقدَّم
(18)
(ونقع البئر) أي: ماؤها المستنقع فيها (وماء الأرض يدخلان تبعًا) كحبر ناسخ، وخيوط خياط، وكحل
= بخلاف الشمعة، والطعام، والشراب ونحو ذلك، فإنها تنقص، فلا يُعلم قدر المستهلك الذي انقلب إلى عقد بيع، وقدر المردود إلى المؤجِّر، فيقع الضرر على أحد المتعاقدين، فدفعًا لذلك: اشتُرط ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس" وأيضًا: "تعارض المصلحتين".
(18)
مسألة: تصح إجارة حيوان ليأخذ المستأجر لبنه، أو صوفه، أو وبره، وهو مذهب الإمام مالك وكثير من العلماء كابن تيمية، ويصحّ هذا ولو جعل الأجرة نفقتها والقيام عليها؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز للوالد أن يستأجر امرأة لترضع له ولده - وهي الظئر - فكذلك يجوز هنا والجامع: أن كلًّا منهما عقد على منفعة مقصودة مقدور على تسليمها واستيفائها، دون أن يتأثر الأصل، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه سد حاجة الناس: فقد يكون عند شخص صغار بهائم تحتاج إلى اللبن وليس عنده ولا يقدر على شراء بهائم ترضعها، فيستأجر لها ذلك، فإن قلتَ: إن هذا كله لا يصح تأجيره، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يجوز تأجير الخبز للأكل، فكذلك لا يجوز تأجير لبن الحيوانات، وشعرها، وصوفها، ووبرها والجامع: أن كلًّا منها أعيان لا تؤجر، والإجارة الصحيحة على المنافع فقط قلتُ: هذا فاسد لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الخبز ينقص أصله إذا أكل منه، بخلاف الحيوان: فلا ينقص إذا أخذ لبنه أو صوفه. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن ألحقناها بالظئر؛ لأنه أكثر شبهًا به، وهم ألحقوها بتأجير الخبز بالأكل؛ لأنها أكثر شبهًا به عندهم، وهذا المسمى بقياس "الشبه"، تنبيه: قوله: "إلا الظئر فيجوز وتقدم" قلتُ: قد سبق تفصيل ذلك في الفرع التابع لمسألة (10).
كحال، ومرهم طبيب ونحوه
(19)
(و) الشرط الثالث: (القدرة على التسليم) كالبيع
(20)
(19)
مسألة: يجوز استئجار البئر ليسقي منه المستأجر شجره، ويكون نقع البئر، وماء الأرض يدخلان في المؤجَّر تبعًا بشرطين: أولهما: أن تكون مدة الإجارة معلومة للمتعاقدين، ثانيهما: أن تكون أعداد الدلاء التي يُؤخذ فيها الماء معلومة في كل يوم؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن هذا فيه منفعة مقصودة مقدور على تسليمها، واستيفائها مع بقاء العين فيلزم من ذلك جواز الإجارة فيه، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنك إذا استأجرت ناسخًا ينسخ لك كتابًا فإن الحبر والأوراق عليه تبعًا، وكذا: خيوط الخيَّاط، وكحل الكحَّال، ومرهم الطبيب، وقرظ الدبَّاع، وصبغ الصَّباغ عليهم فكذلك ماء الأرض، ونقع البئر تابعان لتأجير البئر والجامع: أن كلًّا منها تابع لعين مؤجَّر نفعها، فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على المزارعين، فإن قلتَ: لم اشتُرط هذان الشرطان؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمتعاقدين من أن يبغي أحدهما على الآخر، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك، والماء مباح للجميع؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار" قلتُ: إن التأجير وقع على الانتفاع بهواء البئر، وعمقها وذلك بمرور الدلو والحبل فيها، ولم يقع التأجير على الماء نفسه كما قال ابن عقيل.
(20)
مسألة: في الثالث - من الشروط الواجب توفرها في العين المؤجَّرة - وهو: أن يقدر المؤجِّر على تسليم العين المؤجرة للمستأجر؛ للقياس؛ بيانه: كما أن هذا يُشترط في البيع؛ إذ يُشترط لصحته: أن يكون البائع قادرًا على تسليم المباع للمشتري، فكذلك الإجارة مثله، والجامع: أن كلًّا منهما فيه بيع شيء يريد المشتري والمستأجر الانتفاع به بعد العقد مباشرة، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المستأجر.
(فلا تصح إجارة) العبد (الآبق و) الجمل (الشارد) والطير في الهواء، ولا المغصوب ممن لا يقدر على أخذه
(21)
، ولا إجارة المشاع مفردًا لغير الشريك
(22)
، ولا يُؤجِّر مسلم لذمي؛ ليخدمه
(23)
،
(21)
مسألة: لا يصح أن يُؤجِّر زيد عبدًا له هاربًا، ولا جملًا له شاردًا، ولا طيرًا له في هواء، ولا سمكًا في بحر، ولا دارًا - قد غصبها منه عمرو لا يقدر - أي: زيد - أن يأخذها من الغاصب - الذي هو عمرو -؛ للتلازم؛ حيث إن عدم قدرة المؤجِّر على تسليم العين المؤجَّرة للمستأجر يلزم منه: عدم صحة الإجارة؛ لفقدان شرط من شروط العين المؤجرة، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.
(22)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية دار مشاركة مشاعة بينهما، فيصح لزيد أن يُؤجِّر نصيبه وهو مذهب الجمهور؛ للقياس؛ بيانه: كما يصح أن يبيع زيد نصيبه فكذلك يصح أن يُؤجِّره والجامع: أن نصيب زيد في كل منهما معلوم، لا جهالة فيه، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه نفع للمؤجِّر، بحيث لا تتعطَّل مصالحه، أو تُقيَّد بشريكه فيتحكَّم به من غير وجه حق، فإن قلتَ: لا تصح إجارة المشاع لغير الشريك، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الدار المغصوبة لا يصح تأجيرها إلّا لغاصبها دون غيره فكذلك هنا لا يصح تأجير النصيب المشاع إلّا لشريكه والجامع: أن كلًّا منهما لا يقدر على تسليم المؤجَّر إلّا لهذين الشخصين، فلم تصح لغيرهما قلتُ: هذا لا يُسلَّم؛ لأنه إذا جاز تأجير شريكه: فإنه يجوز تأجير غيره والجامع: أنه عقد على ملكه، فإن وقع على شريكه ضرر من هذا التأجير فإنه له حق الشفعة كالبيع؛ لإزالة ذلك الضرر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن ألحقناه بالبيع؛ لأنه أكثر شبهًا به، وهم ألحقوه بالعين المغصوبة؛ لأن ذلك أكثر شبهًا بها، وهذا هو:"قياس الشبه".
(23)
مسألة: لا يصح أن يؤجر المسلم نفسه لكافر من أجل الخدمة الدائمة أو أن =
وتصح لغيرها
(24)
(و) الشرط الرابع: (اشتمال العين على المنفعة، فلا تصح إجارة بهيمة زمنة للحمل، ولا أرض لا تنبت للزرع)؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، ولا يُمكن استيفاء هذه المنفعة من هذه العين
(25)
(و) الشرط الخامس: (أن تكون المنفعة)
= يؤجره عبدًا مسلمًا لذلك، للقياس؛ بيانه: كما لا يصح أن يبيع عبدًا مسلمًا لكافر فكذلك لا يصح أن يؤجره إيّاه، ولا نفسه، والجامع: إن كلًّا منهما فيه إذلال وإهانة للمسلم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي: تكريم الإسلام والمسلمين.
(24)
مسألة: يصح أن يُؤجِّر المسلم نفسه لكافر ليعمل له عملًا معينًا لمدَّة معينة كخياطة ثوب، أو بناء جدار أو نحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة التقريرية؛ حيث إن عليًا رضي الله عنه قد أجَّر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم يُنكر ذلك، الثانية: القياس؛ بيانه: كما تصح مبايعته فكذلك يصح إجارة المسلم نفسه عليه مدة معلومة والجامع: أن كلًّا منهما عقد معاوضة، لا يتضمن إذلال ولا إهانة للمسلم، فإن قلتَ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين؛ إذ قد لا يجد المسلم من يُؤجِّر نفسه عليه إلّا هذا الكافر.
(25)
مسألة: في الرابع - من الشروط الواجب توفرها في العين المؤجَّرة - وهو: أن تكون العين المؤجرة نافعة للمستأجر نفعًا حقيقيًا، ولذا: فلا تصح إجارة دار مُهدَّمة للسكنى، ولا بهيمة مريضة وكبيرة للركوب، أو لحمل متاع، ولا إجارة أرض لا تنبت للزرع، ولا إجارة أعمى لحفظ متاع، أو حراسة؛ للقياس؛ بيانه: كما تشترط القدرة على تسليم العين المؤجرة، فلا تصح إجارة عبد هارب فكذلك يشترط اشتمال العين المؤجرة على المنفعة، فلا تصح إجارة دار مهدَّمة للسكنى، أو بهيمة مريضة للحمل، والجامع: عدم تمكُّن المستأجر من استيفاء المنفعة التي وقع عليها العقد، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية =
مملوكة (للمؤجِّر، أو مأذونًا له فيها)
(26)
، فلو تصرَّف فيما لا يملكه بغير إذن مالكه: لم يصح كبيعه
(27)
(وتجوز إجارة العين) المؤجَّرة بعد قبضها إذا آجرها المستأجر (لمن يقوم مقامه) في الانتفاع، أو دونه؛ لأن المنفعة لما كانت مملوكة له جاز أن يستوفيها بنفسه ونائبه (لا بأكثر منه ضررًا)؛ لأنه لا يملك أن يستوفيه بنفسه فبنائبه أولى
(28)
،
= المستأجر من يؤكل ماله بغير حق.
(26)
مسألة في الخامس والأخير - من الشروط الواجب توفُّرها في العين المؤجَّرة - وهو: أن تكون المنفعة مملوكة للمؤجِّر - إما بملك عين، أو هو قد استأجرها - أو قد أذن له في تأجيرها من المالك الحقيقي، كوكيل، أو وصي، أو ولي، أو ناظر وقف ونحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما يُشترط ذلك في بيع العين، فكذلك يُشترط في تأجير منفعتها والجامع: أن كلًّا منهما يُعتبر بيعًا لا يتصرف فيه إلّا المالك، أو المأذون له فيه، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس؛ حيث إنه لو لم يُشترط ذلك لأدى إلى أن يؤجر بعض الناس أملاك غيرهم من غير إذن منهم، فيأكلوا أموالهم بغير حق.
(27)
مسألة: إذا أجَّر زيد دار أو ملك عمرو من غير إذن منه، أو تصرف فيها بأي تصرف: فلا تصح تلك الإجارة؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يصح أن يبيع زيد ملك عمرو من غير إذنه فكذلك لا تصح إجارته والجامع: حفظ أملاك الآخرين من اعتداء الآخرين عليها في كل، وهذا هو المقصد منه.
(28)
مسألة: إذا استأجر عمرو من زيد دارًا مثلًا سنة كاملة بعشرة آلاف، وقبضها: فيجوز لعمرو أن يؤجرها لبكر تلك السنة بأي أجرة: بشرط: أن تكون منفعة بكر بالدار كمنفعة عمرو بها، أما إن كان بكر سينتفع بها نفعًا يضرّ بالدار أكثر من عمرو فلا يجوز لعمرو أن يؤجره إيّاها إلّا إذا أذن المالك - وهو هنا زيد -؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز لعمرو أن ينتفع بالدار فكذلك نائبه مثله إذا كان الانتفاع واحدًا، وكما لا يجوز لعمرو أن ينتفع بالدار بأكثر من المشترط عليه من قبل =
وليس للمستعير أن يُؤجر إلا بإذن مالك، والأجرة له
(29)
(وتصح إجارة الوقف)؛
المالك الأول - وهو زيد - فكذلك نائبه من باب أولى أن لا ينتفع بأكثر من المشترط؛ لعدم الفارق بين عمرو ونائبه، وهو: بكر هنا، فإن قلت: لم صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، وفتح باب التوسُّع في المتاجرات وكسب المال الحلال. (فرع): إذا تعذَّر على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه بسبب سفر، أو إضاعة مال، أو حبس أو مرض، أو نحو ذلك: فإن الإجارة تنفسخ، فلا يُطالب بأجرة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو تعذَّر تسليم المؤجِّر منفعة العين المؤجرة: فإنه يثبت فسخ الإجارة فكذلك الحال هنا والجامع: تعذُّر استيفاء المنفعة في كل. فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة عن المستأجر، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح. (فرع ثان): يجوز لعمرو أن يُؤجِّر الدار ـ التي استأجرها من زيد - بمثل الأجرة - وهي عشرة آلاف - ويجوز أن يؤجرها بأزيد منه، للقياس؛ بيانه: كما يجوز أن يبيع عمرو العين التي اشتراها من زيد بعد قبضها بمثل السعر الذي اشتراها فيه، وبأزيد منه، فكذلك تأجير منفعة العين مثل ذلك والجامع: أن كلًّا منهما عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة، فإن قلتَ: لَم جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، وفتح باب من أبواب المتاجرة الحلال.
(29)
مسألة: إذا استعار عمرو من زيد جملًا فيجوز لعمرو أن يُؤجِّره على بكر، وتكون الأجرة للمالك - وهو زيد - بشرط: أن يأذن زيد لعمرو بذلك وأن تذكر مدة الإجارة، فإن لم يأذن زيد، أو لم تُبين مدة الإجارة: فلا تصح الإجارة؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه كما يجوز لعمرو أن يبيع الجمل إذا أذن له زيد، فكذلك يجوز له أن يؤجره بعد إذنه، والجامع: أن الحق فيهما للمالك - وهو زيد - الثانية: التلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: أنه يلزم من كون عقد الإجارة عقد لازم - كما سيأتي -: أن يشترط إذن المالك، وأن تذكر مدة الإجارة لعدم صحة =
لأن منافعه مملوكة للموقوف عليه فجاز له إجارتها كالمستأجر
(30)
(فإن مات المؤجِّر فانتقل) الوقف (إلى من بعده: لم تنفسخ)؛ لأنه أجر ملكه في زمن ولايته، فلا تبطل بموته كمالك الطلق (وللثاني حصَّته من الأجرة) من حين موت الأول، فإن كان قبضها رجع في تركته بحصته؛ لأنه تبيَّن عدم استحقاقه لها، فإن تعذَّر أخذُها: فظاهر كلامهم أنها تسقط قاله في "المبدع"، وإن لم تُقبض: فمن مستأجر، وقدَّم في "التنقيح": أنها تنفسخ إن كان المؤجِّر الموقوف عليه بأصل الاستحقاق، وكذا: حكم مقطع أجر إقطاعه، ثم أقطع لغيره
(31)
، وإن أجَّر الناظر العام، أو مَنْ شرط له،
= الإجارة بدونهما، ثانيهما: أنه يلزم من ورود الإجارة على العين المستعارة - وهي: الجمل - انفساخ العارية، واستحقاق المالك -وهو زيد- للأجرة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق أصحاب الأملاك.
(30)
مسألة: الوقف تصح إجارته، ويقوم بذلك الموقوف عليه، وهو الذي يملك الأجرة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المستأجر يصح أن يُؤجِّر ما استأجره من منفعة عين - كما سبق في مسألة (28) - وتكون الأجرة له، فكذلك الموقوف عليه يصح أن يُؤجر الوقف، وتكون الأجرة له، والجامع: أن منافع المؤجَّر مملوكة لكل منهما فصح فيهما، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه منفعة للموقوف عليه، وأجر للواقف.
(31)
مسألة: إذا قال زيد: "وقفت هذه الدار على ابني بكر، ثم على ابني عمرو" فأجَّر بكر تلك الدار على محمد، ثم مات بكر: فإن الإجارة لا تنفسخ، بل يستمر محمد في الدار على حاله حتى تنقضي المدة المشترطة أثناء عقد الإجارة، وتحسب للموقوف عليه الثاني - وهو: عمرو - حصَّته ونصيبه من الأجرة من حين موت الموقوف عليه الأول - وهو بكر -، ويأخذ الثاني - وهو عمرو - هذا النصيب من المستأجر - وهو محمد - إن لم يكن بكر قد قبضها كلها، أما إن كان - أي: بكر - =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قد قبضها: فإنه يأخذ نصيبه من تركة بكر؛ القاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما لا تنفسخ إجارة مؤجِّر الملك الطلق الذي لم يُقيَّد بوقف إذا مات، فكذلك لا تنفسخ إجارة مؤجر الوقف إذا مات، والجامع: أن كلًّا منهما أجر ملكه في زمن ولايته واستحقاقه للأجرة؛ الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عدم استحقاق الموقوف عليه الأول - وهو بكر - بسبب موته أن يأخذ الثاني - وهو عمرو - نصيبه وحصَّته من وقت موت الأول، وهذا من قواعد حصول التمليك. فإن قلتَ: إن الإجارة تنفسخ هنا، وهو ما ذكره كثير من علماء الحنابلة وغيرهم؛ للتلازم؛ حيث إن الطبقة الثانية - وهو عمرو هنا - تستحق العين بمنافعها؛ حقًا لها واردًا من الواقف - وهو زيد هنا -؛ حيث نصَّ على ذلك، فيلزم أن تنفسخ الإجارة هنا حتى تتمكَّن تلك الطبقة من قبض حقهم، قلتُ: هذا لا يصح؛ لأن عقد الإجارة عقد لازم، فالمستأجر قد استأجر من الطبقة الأولى - وهو بكر هنا - مدَّة بأجرة اتفقا عليهما، فلو انفسخت الإجارة بموت بكر للحق المستأجر ضرر ومفسدة فدفعًا لذلك يستمر المستأجر على ما هو عليه حتى نهاية المدة المتفق عليها؛ لكون دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ خاصة وأن الأجرة ستكون للطبقة الثانية - وهو عمرو هنا - بعد موت بكر. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس" وقد سبق بيانه، (فرع): إذا تعذَّر على عمرو أخذ حصته من الأجرة التي قبضها بكر: - في المسألة السابقة - فإنه يُطالب بها ورثة بكر إن جاءتهم عن طريق الإرث، وإن لم يكونوا قد قبضوها: فإنها تسقط؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من عدم قبض الورثة لتلك الأجرة: سقوطها عن مطالبة عمرو لهم بها؛ لكونهم غير ملزمين بدفع ما استلمه غيرهم، وهذا من باب حفظ حقوق الآخرين. (فرع ثان): حكم شخص قد أُقطع أرضًا للزراعة إقطاع نفع فقط، دون تمليك ثم أجَّرها، ثم مات مثل حكم الموقوف عليه الذي مات قياسًا =
وكان أجنبيًا: لم تنفسخ الإجارة بموته ولا بعزله
(32)
، وإن أجَّر الولي اليتيم، أو ماله، أو السيدُ العبد، ثم بلغ الصبي ورشد، أو عتق العبدُ، أو مات الولي، أو غُزل: لم تنفسخ الإجارة
(33)
، إلا أن يُؤجِّره مدة يعلم بلوغه، أو عتقه فيها، فتنفسخ
= عليه - كما سبق في مسألة (31) -.
(32)
مسألة: إذا أجَّر الحاكم - وهو الناظر العام - أو نائبه الوقف، أو ولَّى شخصًا على ذلك، أو اشترط الواقف شخصًا أجنبيًا معيّنًا ينظر في الوقف - وذلك لكون الوقف على غيره-: فإن الإجارة لا تنفسخ بموت ذلك الناظر، ولا بعزله، بل يستمر المستأجر في الانتفاع بالعين الموقوفة حتى تنتهي مدة الإجارة المتفق عليها؛ للقياس، وقد سبق بيانه في مسألة (31) تنبيه: هذه المسألة مبنية على ما سبق ذكره في مسألة (31).
(33)
مسألة: إذا أجَّر الوليُّ - زيد - الصبي اليتيم مُدّة معلومة على عمرو ليعمل عنده، أو أجر الولي مال اليتيم كداره أو حماره على عمرو ليعمل عليه أو أجَّر سيدٌ عبدَه مدَّة معلومة على عمرو ليعمل عنده، ثم بلغ الصبي، أو عتق العبد في أثناء مدة الإجارة، أو مات ولي اليتيم، أو عُزل -لأي سبب-: فإن الإجارة لا تُنفسخ، بل يستمر عمرو على استئجاره واستعماله لليتيم، ولماله، وللعبد، حتى تنتهي مُدَّة الإجارة المتفق عليها بين زيد والسيد وبين عمرو؛ للقياس، وهو من وجوه: أولها: كما أن الولي لو باع دار الصبي -المولَّى عليه- أو زوَّج الصبي: فإن البيع والزواج لا يبطلان إذا بلغ الصبي أو مات الولي أو عُزل، فكذلك الحال في الإجارة والجامع: أن كلًّا من عقد البيع والإجارة عقد لازم من حق الولي أن يفعلهما أثناء ولايته، ثانيها: كما لو أن السيد زوج أمته ثم باعها فإن البيع والزواج لا يبطلان عليه إذا عتقت فيما بعد فكذلك الحال في الإجارة والجامع: أن كلًّا من عقد البيع والإجارة قد صدرا من السيد على ما يملكه، فلا تنفسخ بزوال ملكه بالعتق أو غيره ثالثها: أن الناظر العام للوقف أو الحاكم لو =
من حينهما
(34)
(وإن أجَّر الدار ونحوها) كالأرض (مدَّة معلومة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها: صح) ولو ظُنَّ عدم العاقد فيها، ولا فرق بين الوقف والملك؛ لأن المعتبر: كون المستأجر يُمكنه استيفاء المنفعة منها غالبًا
(35)
، وليس لوكيل مطلق
= أجَّر الوقف ثم مات أو عُزل: فإن الإجارة لا تنفسخ - كما سبق في مسألة (32) - فكذلك إذا مات ولي الصبي المؤجِّر له أو عُزل لا تنفسخ الإجارة بموته أو بعزله والجامع: أن كلًّا منهما قد تصرَّف في زمن تصرُّفه شرعًا فإن قلت: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المستأجر.
(34)
مسألة: إذا أجَّر الولي صبيه سنتين مثلًا وهو يعلم أنه سيبلغ بعد سنة، أو أجَّر عبده سنتين وهو يعلم أن عتقه معلَّق بعد سنة: فإنه إذا بلغ الصبي، أو عتق العبد تنفسخ الإجارة؛ للتلازم؛ حيث إن الولي أو السَّيد قد عقد الإجارة في زمن ولايته، وزمن لا يتولّى فيها عليه فيلزم صحة الإجارة في زمن تسلُّطه عليه بالولاية، وعدم صحتها في غير زمنه -وهو الذي بعد بلوغه وعتقه- فإن قلتَ: لِمَ فرِّق بين هذه المسألة وما قبلها في الحكم؟ قلت: لأنه في المسألة السابقة عند تأجيرهما لا يعلم عن وقت بلوغه، أو عتقه، فحصل البلوغ والعتق بغتة، فلم تنفسخ الإجارة؛ لكونه لم يتسلَّط على زمن غيره، أما في هذه المسألة فقد أجَّرهما وهو عند تأجيرهما يعلم وقت بلوغ الصبي، ووقت عتق العبد، فيكون متعد على غيره فانفسخت الإجارة.
(35)
مسألة: يصح للمالك، أو الناظر للوقف تأجير العين التي تحت أيديهما، أو يملكانها من دور أو أراضي مدَّة معلومة ولو كانت طويلة كعشرين سنة أو أربعين أو أكثر بشرط: أن يغلب على الظن بقاء منفعة العين، وهذا يصح ولو غلب على الظن موت المتعاقدين - المؤجِّر والمستأجر - أو أحدهما؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ، حيث إن هذا فيه دلالة على جواز إجارة العين مدة معلومة ولو كانت طويلة؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لم يرد ما يخالفه في شرعنا، ويؤخذ من إطلاق الآية في الأحوال والأزمان: أن هذا يصح ولو غلب على الظن موت أحد المتعاقدين أو كليهما؛ نظرًا لعدم ضمان حياة موسى وشعيب المتعاقدين على ذلك الثانية: القياس؛ بيانه: كما تصحّ إجارة العين سنة واحدة - كما أجمع العلماء عليها - فكذلك تصح إجارتها لأكثر ولا فرق، والجامع: أن المستأجر يُمكنه استيفاء المنفعة من العين في السنة وأكثر منها غالبًا، فإن قلتُ: لِمَ صحَّ ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس؛ إذ بعض الناس لا تتم مصالحهم في تجارة ونحوها إلّا إذا استأجروا الدور والأراضي سنوات طويلة. فإن قلتَ: لا تصح الإجارة أكثر من سنة واحدة، وهو قول للشافعي وكثير من العلماء للمصلحة: حيث إن الإجارة قد شرعت للحاجة، والحاجة لا تدعو إلى أكثر من سنة، فلا تصح فيما هو أكثر؛ لكونه أكثر من الحاجة. قلتُ: هذا لا يُسلَّم، بل إن بعض الناس قد يحتاج إلى استئجار الشيء أكثر من سنة كما قلنا ومن عادة الشارع مراعاة جميع طبقات الناس، فإن قلتَ: لا تصح الإجارة أكثر من ثلاثين سنة، وهو قول بعض الحنابلة؛ للمصلحة حيث إن الغالب أن الأعيان المؤجَّرة لا تبقى أكثر من ثلاثين سنة، وفيها تتغيَّر الأسعار، والأجور، فلو وقع هذا: للحق المستأجر أو المؤجر الضرر في أن الأجرة قد تنزل أو ترتفع على حسب اختلاف الأزمان. قلتُ: هذا لا ضابط له؛ حيث إنها قد تنزل الأسعار، وقد ترتفع، وهما احتمالان متساويان لا يُرجَّح أحدهما على الآخر حتى يُقال قد يلحق الضرر للمتعاقدين أو أحدهما، وهذا شك، والشك لا تبنى عليه أحكام، فيبقى الحكم الأصلي فيُستصحب وهو: إطلاق الأجرة على السنوات وإن كثرت، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض المصالح" فنحن رجَّحنا: أن الإجارة تصح مطلقًا بدون تحديد سنوات؛ لأن مصلحة ذلك عامة وهم رجَّحوا ما ذكروه لمصالح إما =
إجارة مُدَّة طويلة، بل العرف كسنتين ونحوهما، قاله الشيخ تقي الدين
(36)
، ولا
= خاصة، أو مشكوك فيها، وهاتان المصلحتان لا تقويان على معارضة ما ذكرناه من المصلحة، (فرع) إذا استأجر زيد من عمرو دارًا عشر سنين فلا يحتاج إلى أن يدفع زيد أجر كل سنة، بل إن هذا يكون على حسب اتفاقهما عند العقد، فإن اتّفقا على أن يدفع أجرة العشر السنوات معًا صح، وإن اتفقا على تقسيط الأجرة، بأن يدفع زيد أجرة كل سنة: صحَ ذلك أيضًا؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز بيع العين بثمن مدفوع كله عند العقد، ويجوز أن يدفع بعضه عند العقد، والباقي على أقساط فكذلك الإجارة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما عقد على بيع شيء، فإن قلتَ: إنه إذا أجَّره سنوات عديدة فإنه لا بدَّ أن يُقسِّط الأجرة: بأن يدفع زيد أجرة كل سنة لوحدها، وهو قول للشافعي؛ للمصلحة: حيث إن المنافع تختلف باختلاف السنين، فلا يُؤمن أن ينفسخ عقد الإجارة لأي سبب فيكون دفع المستأجر أجرة السنوات المتفق عليها مُضرًا به، قلتُ: هذا منقوض بقولكم: "إنه إذا استأجر سنة فلا يحتاج إلى أن يدفع أجرة كل شهر" مع وجود الاحتمال الذي ذكرتموه، فالشهور كالسنوات هنا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة".
(36)
مسألة: إذا وكَّل زيد عمرًا على تأجير عقاراته من دور وغيرها وكالة مطلقة: فإنه يجوز للوكيل - وهو عمرو - أن يُؤجِّرها مدَّة طويلة أو قصيرة بدون تحديد إذا رأى المصلحة تقتضي ذلك؛ للقياس؛ بيانه كما يجوز للمالك - وهو هنا زيد - أن يؤجر المدة التي يراها: سواء كانت طويلة أو قصيرة على ما تقتضيه المصلحة فإنه يجوز للوكيل، والجامع: أن كلًّا منهما يُعتبر متصرِّفًا مطلقًا في ذلك دون تقييد، فإن قلتَ لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تقييد الوكيل ببعض السنوات فيه حرج عليه وقد تقتضي المصلحة ضد ذلك. فإن قلتَ: إن الوكيل المطلق ليس له تأجير أملاك مُوكِّله مدة طويلة، بل له أن يُؤجِّرها مدَّة قصيرة كسنتين أو ثلاث =
يُشترط: أن تلي المدَّة العقد، فلو أجَّره سنة خمس في سنة أربع: صح، ولو كانت العين مؤجَّرة، أو مرهونة حال العقد إن قدر على تسليمها عند وجوبه
(37)
(وإن استأجرها) أي العين (لعمل كدابة لركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث) أرض معلومة بالمشاهدة؛ لاختلافها بالصلابة والرخاوة (أو دياس زرع) معين، أو موصوف؛ لأنها منفعة مباحة مقصودة (أو) استأجر من يدلُّه على طريق اشترط معرفة ذلك) العمل (وضبطه بما لا يختلف)؛ لأن العمل هو المعقود عليه، فاشتُرط فيه العلم كالمبيع
(38)
، (ولا تصح) الإجارة على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل
= ونحوها، وهو ما ذكره المصنف هنا. قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على هذا التحديد، وإذا لم يُوجد دليل على ذلك: فإنّا نبقى على إطلاق الشارع استصحابًا له.
(37)
مسألة: تجوز إجارة العين المؤجَّرة، فلو كان زيد قد أجَّر عمرًا دارًا سنة تبدأ من 1/ 1/ 1426 هـ وتنتهي في 1/ 1/ 1427 هـ: فإنه يجوز له أن يُؤجِّر بكرًا السنة التي بعدها - وهي التي تبدأ من 1/ 1/ 1427 هـ وتنتهي في 1/ 1/ 1428 هـ-: سواء كانت تلك العين مؤجَّرة كما قلنا" أو مرهونة عند عقد الإجارة للثاني - وهو بكر هنا - أو كانت غير مشغولة ولكن هذا كله بشرط: أن يكون زيد قادرًا على تسليم العين المؤجرة - وهي الدار - للمستأجر الثاني - وهو بكر -؛ للتلازم؛ حيث إن عقد الإجارة للمستأجر الثاني - وهو: بكر هنا - لا دخل له في عقد الإجارة للأول - وهو هنا عمرو - ويقدر المالك - وهو زيد - على أخذها من الأول، - وهو عمرو - وتسليمها للثاني - وهو بكر - فلزم من ذلك: جواز ذلك.
(38)
مسألة: الإجارة للعمل - وهو: القسم الثاني من أقسام الإجارة - يُشترط فيه: معرفة ذلك العمل وضبطه بما لا يختلف بالمشاهدة والرؤية، أو الوصف، وبيان مدَّة العمل إذا كان العمل يُقيَّد بمدَّة، فمثلًا: لو استأجر زيد من عمرو دابة لدياسة زرع، أو لركوب، أو لحرث أرض، أو استأجر بكرًا ليدله على طريق، أو ليداويه، أو ليعلمه: فلا بدَّ لعمرو وبكر أن يعرفا ذلك العمل، وضبطه، =
القربة) أي مسلمًا، كالحج والأذان وتعليم القرآن؛ لأن من شرط هذه الأفعال: كونها قربة إلى الله تعالى، فلم يجز أخذ الأجرة عليها، كما لو استأجر قومًا يصلون خلفه، ويجوز أخذ رزق على ذلك من بيت المال، وجعالة، وأخذ بلا شرط
(39)
،
= ومدّته إذا احتاج إلى ذلك معرفة دقيقة، للقياس؛ بيانه: كما تشترط معرفة العين التي يُراد بيعها فكذلك يُشترط ذلك في إجارة نفع تلك العين والعمل الذي يُراد للتأجير عليه والجامع: أن كلًّا من العين، ونفعها، والعمل هو المعقود عليه فاشترط فيه العلم، فإن قلتَ: لِمَ جاز هذا القسم من التأجير؟ قلتُ: للتلازم؛ حيث إن منافع العمل هذا مباحة مقصودة فصدق عليه تعريف الإجارة فيلزم جوازه، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرطت معرفة ذلك العمل الذي يُراد التأجير عليه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن العمل يختلف باختلاف المشقة، واليسر فيه، والقوة والضَّعف فاشتُرط ذلك؛ ليكون المستأجر على بيّنة من أمره (فرع): إذا استأجر زيد المريض طبيبًا يُعالجه حتى يُشفى: أو استأجر أستاذًا يعلمه بابًا من أبواب العلم حتى ينجح فيه إذا اختُبر، أو حتى يبرع فيه بدون تحديد مدة: فإنه يصح ذلك، ولكن يكون جعالة، لا إجارة، بأن يجعل له جُعْلًا، ويأخذ الأجير ما أعطي فقط؛ للمصلحة: حيث إنه يجهل فيه العمل والمدَّة فلا تصح فيه الإجارة، ودفعًا للمضرَّة عن المستأجر، ونفعًا للمؤجِّر نفسه صحَّت فيه الجعالة.
(39)
مسألة: لا تصح الإجارة على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة: كأن يُؤجِّر المسلم نفسه بالحج عن الغير، أو يؤذِّن، أو يقيم، أو يؤم المصلين، أو يُعلِّم القرآن، أو يُعلِّم العلم الشرعي كعلم الفقه، والأصول والتفسير، والحديث، أو أن يقضي، أو يفتي، أو يجاهد، أو نحو ذلك، وإنما يأخذ هؤلاء أرزاقًا يأمر بها السلطان لهم من بيت المال أو غير السلطان من الناس كجُعْل لهم، ويأخذونها إذا أعطوا إياها بلا مشارطة وهي عون لهم على الطاعة؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية، وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا القرآن ولا تأكلوا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= به" والمراد بالأكل به: تأجير نفسه لأجل أن يقرأ القرآن، ثانيًا قوله صلى الله عليه وسلم: "اتّخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا" فنهى عن أخذ الأجرة على الآذان، والقرآن، والنهي في النَّصين مطلق، فيقتضي التحريم، وذكره للأجرة في النص الثاني يلزم منه جواز أخذ الجعل والرزق، وهو من باب مفهوم الصفة، وغير القرآن والأذان من القرب مثلهما من باب "مفهوم الموافقة"، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أتاك من هذا المال، وأنت غير مشرف، ولا سائل فخذه، وتموَّله: فإنه رزق ساقه الله إليك" وهو: المراد بالجعل والرزق بلا شرط، الثانية: القياس؛ بيانه: كما يجوز للشخص أن يأخذ من السلطان أو غيره بلا شرط ولو لم يعمل شيئًا - كتوزيع ما في بيت المال على الغني والفقير من المسلمين - فكذلك يجوز أخذ المال بغير شرط والجامع: أن كلًّا منهما كان هبة مجرَّدة. الثالثة: التلازم؛ حيث إن من شرط هذه الأفعال الخيرية كونها قربة وطاعة الله تعالى فيلزم عدم جواز أخذ الأجرة عليها؛ لكون الاستئجار والمشارطة يخرجها عن ذلك كما لو استأجر قومًا يصلون خلفه الجمعة أو التراويح فلا أجر له ولا لهم، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه شرع الله وما يختص به من تعلُّم وتعليم وعمل، وكذا القائمين عليه ممن هم ورثة الأنبياء، وهذا كله ينبغي أن يُنزّه، ويكرَّم من امتهان الآخرين لهم والشروط والمشارطة ونحو ذلك مما يحصل عادة عند المتعاقدين فيه امتهان لذلك، فإن قلتَ: لِمَ جازت الجعالة، والرزق بلا شرط في تلك الأعمال؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن الجعالة أوسع من الإجارة فتصح ولو لم يعلم العمل والمدة وليس فيها امتهان للمؤجر نفسه، ولا لمستأجره، ولا للعاملين بالأمور الشرعية، فإن قلتَ: يجوز أخذ الأجرة على كل ما سبق؛ للسنة القولية؛ وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" فهذا صريح في جواز أخذ الأجرة على تعليم الكتاب، وغير ذلك مثله من باب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= " مفهوم الموافقة" ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "زوجتكها بما معك من القرآن" وإذا جاز جعل تعليم القرآن صداقًا في النكاح: فإنه يجوز جعله أجرة من باب "مفهوم الموافقة" ثالثها: أن بعض الصحابة قد رقوا قومًا بآيات فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اضربوا لي معكم بسهم" وهو ما أخذوه: أجره؛ لأنهم شارطوا على ذلك، قلتُ: أما الحديث الأول - وهو قوله: "أحق ما أخذتم
…
" -وحديث الرقية- وهو الثالث -: فهما قد وردا في قصة واحدة، وهي: قصة الرقية وهي مشهورة، وحُمل ما جاء فيها على الجعالة؛ لأن الرقية نوع من المداواة ولا يصح فيها إلا الجعالة؛ لعدم اشتراط أو معرفة العمل والمدة؛ بخلاف الأجرة، وأما الحديث الثاني - وهو حديث الصداق - فليس فيه تصريح بأن تعليم القرآن صداق فيُحتمل أنه زوجه بغير صداق؛ إكرامًا له كما زوّج أبا طلحة أم سليم على إسلامه، والإسلام ليس بأجرة، وإنما فعل ذلك إكرامًا له، ومما يؤيد ذلك: أن المهر لا يصح أن يُسمَّى أجرة، وإنما هو نحلة وصلة وصداق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: ""تعارض النصوص" فنحن رجّحنا النصوص غير المحتملة التي ذكرناها؛ لقلّة تطرّق الاحتمالات إليها ورجَّحوا النصوص التي ذكروها؛ لقوّتها عندهم، فإن قلتَ: ما أثر الخلاف هنا؟ قلتُ: يتبيَّن أثره في الأجر والثواب من الله تعالى، وعدمه، والمطالبة بالأجرة، وعدمها: فمن قال: لا تصح الإجارة على فعل الأعمال الخيرية، فإنه يحكم بأن المؤجر نفسه يحصل على الثواب من الله، وما يأخذه من رزق وجعل؛ للإعانة على الطاعة فقط، ولا يُطالب بهذا الجعل فيما لو منع عنه، أما من قال بأنه تصحّ الإجارة في ذلك: فإنه لا أجر ولا ثواب للمؤجِّر نفسه، ولو مُنعت عنه الأجرة فله الحق بالمطالبة بها، (فرع): ما لا يتعدَّى نفعه فاعله من العبادات المحضّة كالصيام، والصلاة عن نفسه، والحجّ عن نفسه، وأداء زكاة نفسه، فلا يجوز أخذ الأجرة على ذلك مطلقًا ولا يجوز الاستئجار =
ويكره للحر أكل أجرة على حجامة، ويُطعمه الرقيق والبهائم
(40)
(و) يجب (على
= عليها؛ للقياس؛ بيانه: كما لا تجوز إجارة ما لا نفع فيه من الأعيان فكذلك لا تجوز إجارة هذه الأمور والجامع: أنه لم يحصل لغيره انتفاع في كل؛ لأن الأجرة عوض للانتفاع.
(40)
مسألة: يجوز أن يستأجر الشخص رجلًا يحجمه، والحاجم - حرًا أو غير حر - يأخذ الأجرة، وهي مباحة له، دون كراهة، وهو قول الجمهور؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث قال ابن عباس: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره" فيلزم جواز ذلك، وإباحة الأجرة، فلو كانت الأجرة مكروهة للحر، لبيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أعطاه إياها؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولم يُبيِّن الراوي - وهو ابن عباس - هل الذي حجم النبي صلى الله عليه وسلم حر أو عبد؟ وهذا يدل على عموم ذلك، الثانية: القياس، وهو من وجهين: أولهما كما يجوز استئجار الختَّان - وهو من يختن الذكور - وأجرته مباحة فكذلك أجرة الحجام مباحة والجامع: أن كلًّا منهما منفعة مباحة لا يختصّ فاعلها أن يكون من أهل القربة.
ثانيهما: كما يجوز الاستئجار على الرضاع - وهو الظئر كما سبق - وأجرة ذلك مباحة، فكذلك أجرة الحجام مثل ذلك والجامع: أن كلًّا منهما يحتاجه الناس، ولا يجد كل أحد متبرعًا به، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الناس فلو كان كسب الحجام فيه كراهة للحق بعض الناس بعض الضيق والحرج والمشقة، فإن قلتَ: يجوز الاستئجار على الحجامة، ولكن يكره للحرّ أن يأكل تلك الأجرة، وإنما يُطعمها للرقيق والبهائم، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث إنه صلى الله عليه وسلم قال: "كسب الحجام خبيث" فوصف النبي صلى الله عليه وسلم لما يأخذه الحجام بأنه خبيث يدل على كراهته فلما سئل عنه قال: "أطعمه ناضحك ورقيقك" قلتُ: إن تسمية ما يأخذه الحجام بأنه خبيث لا يخرجه عن إباحته، يؤيده: أنه صلى الله عليه وسلم سمَّى البصل والثوم بأنهما خبيثان مع إباحتهما، =
المؤجِّر كل ما يتمكَّن به) المستأجر (من النفع كزمام الجمل) وهو الذي يقوده به (ورحله، وحزامه) بكسر الحاء المهملة (والشدِّ عليه) أي: على الرَّحل (وشدّ الأحمال والمحامل والرفع، والحط، ولزوم البعير)؛ لينزل المستأجر لصلاة فرض، وقضاء حاجة إنسان، وطهارة، ويدع البعير واقفًا حتى يقضي ذلك (ومفاتيح الدار) على المؤجِّر؛ لأن عليه التمكين من الانتفاع وبه يحصل وهي أمانة في يد المستأجر (و) على المؤجِّر أيضًا (عمارتها) فلو سقط حائط أو خشبة: فعليه إعادته
(41)
(فأما تفريغ
= ويؤيده أيضًا: أنه قال: "أطعمه ناضحك ورقيقك" فلو كان مكروهًا لما جاز إطعامه لأحد، فإن قلتَ: لِمَ وصفه بهذا الوصف وهو: الخبث؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حث المسلم على أن يحرص على عمل وفعل معالي الصناعات، لا أن يُمتهن بمثل هذه الأعمال والصناعات الدنيئة من حجامة وقمامة ونحو ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: الخلاف في تفسير لفظ "خبيث" الوارد في الحديث الأخير وهل بلزم منه الكراهة أو لا؟.
(41)
مسألة: يجب على المؤجِّر توفير وتهيئة كل شيء يتمكَّن المستأجر به من انتفاعه بالعين المؤجَّرة على حسب العرف فمثلًا: إذا استأجر زيد من عمرو جملًا بأن ينقل أثاثه من بلد إلى بلد آخر عليها: فإنه يجب على عمرو أن يُوفِّر زمام الجمل، والحبل الذي يُربط فيه، ورحله والحزام الذي يربط فيه الأثاث؛ ليحفظه من السقوط، وعليه أيضًا هذا الربط، وتوفير المحامل التي يوضع عليها ذلك الأثاث، وعليه رفعها عليه وإنزالها منه، وتمكين زيد من النزول ليقضي حاجته، والصلاة لفرض ونحو ذلك من الضروريات ويقف حتى يفرغ زيد من قضاء ذلك ومثل ذلك السيارة والطائرة وكذا: لو أجر عمرو زيدًا دارًا فعلى عمرو توفير مفتاحها، ومفتاح كل غرفة، ولو انهدم شيء يمنع انتفاع زيد بالدار، أو بعض هذا الانتفاع كأن ينهدم حائط، أو سور، أو خشبة، أو حصل التماس في كهرباء، أو انكسار في ماسورة المياه أو نحو ذلك بلا تعدٍّ ولا تفريط من =
البالوعة والكنيف) وما في الدار من زبل، أو قمامة، ومصارف حمام (فيلزم المستأجر إذا تسلَّمها فارغة) من ذلك؛ لأنه حصل بفعله، فكان عليه تنظيفه
(42)
، ويصح كراء العقبة: بأن يركب في بعض الطريق، ويمشي في بعض مع العلم به: إما بالفراسخ، أو الزمان
(43)
، وإن استأجر اثنان جملًا يتعاقبان عليه: صحَّ، وإن اختلفا في البادئ
= المستأجر: فعلى المؤجِّر - وهو عمرو هنا - إصلاح كل ذلك وتهيئته للاستعمال، وهكذا في كل مؤجَّر؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود من استئجار زيد للعين - وهما: الجمل والدار هنا - هو من أجل الانتفاع بها، وهو الذي تمَّ العقد عليه، ولا يمكن أن يتحقق هذا الانتفاع إلّا بتوفير ذلك من قِبَل المؤجِّر - وهو عمرو هنا - فلزم ووجب؛ لكون الأجرة قد شُرعت لأجل ذلك. فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمستأجر من عدم تمكُّنه من الانتفاع فيُظلم.
(42)
مسألة: إذا استلم المستأجر الدار - بعد عقد الإجارة له - والبالوعة والكنيف والمرحاض والحمام، وموضع القمامة وموضع إيقاد النار فارغة من الأوساخ والأقذار والرماد، ثم امتلأت بفعل المستأجر: فيجب على المستأجر أن يقوم بتنظيفها وتفريغها، وإن انتهت مدة الإجارة، وفي الدار بعض الأوساخ والأقذار، وقمامات، ورماد فيجب على المستأجر نقلها وتفريغها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون تلك الأشياء حصلت بفعل المستأجر: أن يكون تنظيفها عليه؛ فإن قلتَ لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حماية المؤجِّر من أن يُستغل من قبل المستأجر، فيؤكل ماله بالباطل.
(43)
مسألة: تصح إجارة العَقَبَة: بأن يستأجر زيد جملًا يركبه في بعض الطريق، ويمشي في البعض الآخر، وإذا أطلق هذا العقد: فإنه يركب نصف الطريق، ويمشي الباقي، لكن بشرط: أن يكون هذا الركوب معلوم المقدار: إما أن يركب خمسة أميال، ويمشى خمسة أميال، أو بأن يركب ليلًا، ويمشي نهارًا، أو بالعكس؛ للقياس؛ بيانه كما يجوز استئجار الجمل في جميع الطريق فكذلك يجوز استئجاره =
منهما أقرع بينهما في الأصح، قاله في "المبدع"
(44)
.
فصل: (وهي) أي: الإجارة (عقد لازم) من الطرفين؛ لأنها نوع من البيع، فليس لأحدهما فسخها لغير عيب أو نحوه
(45)
(فإن أجره شيئًا ومنعه) أي: منع المؤجِّر
= في بعض الطريق، والجامع: أن كلًّا منهما منفعة مباحة مقصودة، فإن قلتَ: لِمَ كان إذا أطلق العقد في البعض: يركب نصف الطريق ويمشي الباقي؟ قلتُ: للعرف والعادة في ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة حال من لم يستطع الاستئجار على جميع الطريق.
(44)
مسألة: إذا استأجر اثنان جملًا، أو أيَّ مركوب لا يحمل إلّا واحدًا فقط: فإن هذا يصح، ويتعاقبان عليه، كل واحد يركبه عددًا من الأميال معلومة، أو أحدهما يركبه نهارًا، والآخر يركبه ليلًا على حسب ما يتّفقان عليه، وإن وقع اختلاف بينهما في أيهما الذي يبدأ في الركوب؟: أقرع بينهما، فأيُّهما خرجت له القرعة كان هو الأول في الركوب؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز أن يشتري اثنان مركوبًا واحدًا يستعملانه فكذلك يجوز في الإجارة، والجامع: أن كلًّا منهم قد شارك آخر في منفعة مباحة مقصودة، فإن قلتَ: لِمَ تستعمل القرعة هنا؟ قلتُ: لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر: فلزمت القرعة؛ نظرًا لمشروعيتها إذا تساوت الحقوق، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة من لم يستطع الاستئجار بمفرده.
(45)
مسألة: عقد الإجارة عقد لازم، لا يجوز للمؤجِّر والمستأجر فسخ ذلك العقد إلّا بسبب قوي كوجود عيب أو تدليس ونحوه - مما سيأتي بيانه -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن عقد البيع عقد لازم لا يجوز للبائع والمشتري فسخ ذلك إلّا بوجود عيب أو تدليس أو نحو ذلك فكذلك الإجارة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما عقد معاوضة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية وحفظ لحقوق المتعاقدين - المؤجِّر والمستأجر -؛ لئلا يفسخ المؤجِّر هذا العقد فجأة بعد =
المستأجر الشيء المؤجَّر (كل المدَّة
(46)
أو بعضها) بأن سلَّمه العين، ثم حوَّله قبل تقضِّي المدَّة:(فلا شيء له) من أجرة؛ لأنه لم يُسلِّم له ما تناوله عقد الإجارة، فلم يستحق شيئًا
(47)
(وإن بدأ الآخر) أي: المستأجر فتحوَّل (قبل انقضائها) أي: انقضاء مدَّة
= أن تصرَّف المستأجر وبدأ ينتفع بمنافع العين المؤجَّر؛ نظرًا لملكيته لتلك المنافع ملكية تامة مدَّة الإجارة، ولئلا يفسخ المستأجر العقد فجأة بعد أن تصرَّف المؤجِّر بالأجرة؛ نظرًا لملكيته لها ملكية تامة، فيتضرران.
(46)
مسألة: إذا استأجر زيد دارًا من عمرو، فامتنع عمرو ولم يُسلِّم زيدًا مفاتيح الدار كل المدَّة: فلا يستحق عمرو شيئًا من الأجرة كلها وتنفسخ الإجارة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن عمرًا لو باع على زيد دارًا وامتنع عمرو من تسليم الدار لزيد: فإن عمرًا لا يستحق الثمن، وينفسخ البيع فكذلك الإجارة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما لم يُسلِّم ما تناوله العقد، ولم يُمكن المستأجر والمشتري من الانتفاع بما ملكه بالعقد، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المستأجر من أخذ حقه بالباطل.
(47)
مسألة: إذا استأجر زيد دارًا من عمرو، وسلم عمرو مفاتيحها لزيد، وبعد انقضاء بعض مدَّة الإجارة التي تمَّ الاتفاق عليها من قِبلَ المتعاقدين: منع عمرو زيدًا من الانتفاع من الدار، فحوَّله، وأخرجه منها، فإن عمرًا يستحق أجرة المدَّة التي استوفى فيها المستأجر - وهو زيد - منافع الدار فيها بحسبها وهو قول الجمهور؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المشتري إذا استوفى بعض العين المباعة: فإن البائع يستحق ما يُقابله من الثمن بحسبه، فكذلك الإجارة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما قد استوفى ملك غيره على وجه المعاوضة فلزمه عوضه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تعويض للمؤجِّر عن المدَّة التي انتُفع فيه ملكه فيها؛ حماية له، فإن قلتَ: إن عمرًا - وهو المؤجِّر - لا يستحق شيئًا من الأجرة هنا وهو ما ذكره المصنِّف هنا - للقياس؛ بيانه: كما أنه لو امتنع البائع من =
الإجارة: (فعليه) جميع الأجرة؛ لأنها عقد لازم فترتَّب مقتضاها، وهو ملك المؤجِّر الأجر، والمستأجر المنافع
(48)
(وتنفسخ) الإجارة (بتلف العين المؤجَّرة) كدابة وعبد
= تسليم بعض العين المباعة للمشتري فلا يستحق البائع الثمن كله فكذلك الإجارة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما لم يُسلِّم ما اتّفق عليه عند العقد قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه في بعض البيوع قد اشترى العين كلها، قد لا يتم له مقصوده إلّا بشرائها كلها، بخلاف الإجارة، فقد ينتفع بكُلِّ العين بعض المدَّة المتفق عليها، وهو واقع، فيحصل له النفع، فلا بدَّ أن يُعوِّض المؤجِّر عن هذا الانتفاع؛ لإعطاء كل شخص ما يستحقه، فإن قلتَ: ما الخلاف سبب هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" وهو واضح من المثال السابق.
(48)
مسألة: إذا استأجر زيد من عمرو دارًا مثلًا سنة، وسلَّم عمرو مفاتيحها لزيد، ثم بعد انقضاء بعض تلك المدَّة المتفق عليها: خرج زيد من الدار قبل انقضاء تلك المدَّة المؤجَّرة وتحول عنها: فإنه يجب على المستأجر - وهو زيد هنا -: أن يدفع جميع أجرة المدة - وهي السنة كاملة - ولا تنفسخ الإجارة، ولا يزول ملكه لمنافعها طيلة مدَّة الإجارة وليس للمؤجر - وهو هنا عمرو - التصرُّف في تلك الدار قبل انقضاء مدَّة المستأجر - وهو زيد -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو اشترى من عمرو دارًا أو جملًا وقبضه، ثم تركه فإن ثمن ذلك واجب عليه - أي: على زيد - وليس للبائع التصرف في المباع، فكذلك الإجارة مثله، والجامع: أن كلًّا منهما عقد لازم، فيلزم مقتضى ذلك، وهو ملك المؤجر الأجرة كاملة، وملك المستأجر المنافع كلها طوال مدَّة الإجارة المتفق عليها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فيه حماية لحق المؤجِّر، والمستأجر (فرع): إن استأجر عمرو زيدًا على عمل موصوف بالذمة كبناء حائط ونحو ذلك، فبدأ زيد العمل بذلك، ثم تركه قبل أن يتمَّه: فإن مستأجره - وهو هنا عمرو - يستأجر من: مال زيد من يُتمَّ بناء ذلك الجدار إن قدر، وإن لم يستطع: فإنه يصبر حتى يقدر =
ماتا؛ لأن المنفعة زالت بالكلية
(49)
، وإن كان التلف بعد مضي مدَّة لها أجرة: انفسخت فيما بقي، ووجب للماضي القسط
(50)
(و) تنفسخ الإجارة أيضًا (بموت المرتضع)؛ لتعذُّر استيفاء المعقود عليه؛ لأن غيره لا يقوم مقامه؛ لاختلافهم في الرضاع
(51)
(و) تنفسخ الإجارة أيضًا بموت (الراكب إن لم يخلف بدلًا) أي: من
= عليه، أو يفسخ الإجارة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ثبوت عقد الإجارة في الذمة: أن يتمَّه بنفسه أو من ماله؛ لكون ما في الذمة لا يفوت بتركه للعمل بدون سبب شرعي، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المستأجر - وهو هنا عمرو -.
(49)
مسألة: إذا تلفت العين المؤجَّرة قبل أو بعد قبض المستأجر لها ولم ينتفع بشيء منها كانهدام دار قبل أن يسكنها المستأجر: فإن الإجارة تنفسخ، ولا يدفع المستأجر شيئًا من الأجرة؛ للتلازم؛ حيث إن المعقود عليه في الإجارة هو منفعة العين المؤجَّرة، ولم تتحقَّق تلك المنفعة، فيلزم عدم وجوب العِوَض - وهي الأجرة - على المستأجر فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المستأجر.
(50)
مسألة: إذا تلفت العين المؤجرة بعد قبض المستأجر لها، وبعد انتفاع المستأجر بها بعضًا من مدة الإجارة، أو بعد مضي مدَّة: فإن الإجارة تنفسخ فيما بقي من مدَّة الإجارة، ويجب على المستأجر أن يدفع عِوَض ما انتفع فيه من مدَّة بقسطه، فإن كان الانتفاع ثلث المدة: فعليه ثلث الأجرة، وهكذا؛ للتلازم؛ حيث إن المستأجر انتفع بعض المدة المتفق عليها عند عقد الإجارة فيلزم دفع عوض عن ذلك الانتفاع، ويلزم من عدم انتفاعه باقي المدة: عدم وجوب دفعه؛ لعدم تحقق ما اتّفق عليه عند عقد الإجارة، وهو الانتفاع، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المؤجِّر.
(51)
مسألة: إذا استأجر رجل امرأة تُرضع له ولدًا - وهي الظئر - وبعد ذلك: مات =
يقوم مقامه في استيفاء المنفعة: بأن لم يكن له وارث أو كان غائبًا كمن يموت بطريق مكة، ويترك جمله، فظاهر كلام أحمد: أنها تنفسخ في الباقي؛ لأنه قد جاء أمر غالب منع المستأجر منفعة العين أشبه ما لو غصبت، هذا كلامه في "المقنع"، والذي في "الإقناع" و"المنتهى" وغيرهما: أنها لا تبطل بموت راكب
(52)
(و) تنفسخ أيضًا بـ
= ذلك الولد: فإن الإجارة تنفسخ وتأخذ المرضعة أجرة ما سبق قبل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقامة غيره مقامه: انفساخ عقد الإجارة؛ نظرًا لتعذُّر استيفاء المعقود عليه، وهو: الرضاع؛ لاختلاف الصبيان في الرضاع: كثرةً وقلَّة، ولا ختلافهم في قبول اللَّبن وعدم ذلك، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ لحق المرضعة، والوالد؛ وفيه منع للتنازع؛ لعدم انضباط ذلك (فرع): إذا ماتت المرضعة: فإن الإجارة تنفسخ؛ للتلازم؛ وقد بيَّناه، مع مقصده.
(52)
مسألة: إذا استأجر زيد أيَّ مركوب من عمرو، كأن يستأجر جملًا يوصله إلى مكّة، فمات زيد قبل وصوله إلى مكة: فإن الإجارة لا تنفسخ، وهو قول الجمهور، وهذا مطلق، أي: سواء وجد من يخلفه من وارث أو لا، وعليه: فللمؤجِّر كامل الأجرة، وتبقى العين المؤجَّرة - وهي هنا الجمل - موقوفة في مكان آمن حتى تنتهي مدَّة الإجارة؛ للتلازم؛ حيث إن عقد الإجارة عقد لازم فيلزم عدم انفساخ الإجارة بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه - وهو هنا الجمل -، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لكون المنفعة موجودة - وهي منفعة الدابة - فالمعقود عليه لم يتأثَّر، فإن قلتَ: تنفسخ الإجارة هنا بشرط: عدم وجود وارث يستوفي ما بقي من المنافع، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العين لو غُصبت: فإن إجارتها تنفسخ فكذلك لو مات المستأجر مثل ذلك، والجامع: أنه في كل منهما قد وقع أمر غالب الله تعالى قد من المستأجر منفعة العين قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه في حالة الغصب =
(انقلاع ضرس) أكتري لقلعه (أو برئه)؛ لتعذُّر استيفاء المعقود عليه، فإن لم يبرأ وامتنع المستأجر من قلعه: لم يُجبر (ونحوه) أي: تنفسخ الإجارة بنحو ذلك كاستئجار طبيب؛ ليداويه فبرى
(53)
و (لا) تنفسخ (بموت المتعاقدين أو أحدهما) مع سلامة المعقود عليه؛ للزومها
(54)
و (لا) تنفسخ (بـ) عذر لأحدهما مثل (ضياع نفقة المستأجر)
= قد حصل منع المستأجر من منفعة العين لعدم العين؛ ولكن في حالة موت المستأجر لم يحصل ذلك؛ لأن العين موجودة فهي المعقود عليها، فلم يأت المنع من ناحيتها، وإنما مات المستأجر وتركها، فما ذنب المؤجِّر كما قلنا في "المفوِّضة" - وهي التي فوضت تقدير مهرها لزوجها المعقود عليه ولكنه مات قبل الدخول بها - حيث إنها تستحق المهر وإن لم يستمتع بها - كما ورد في قصة بروع بنت واشق، وكما قضى به ابن مسعود -؛ لأن المنع ليس منها، فلا ذنب لها، ولذا استحقت المهر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم" وقد فصَّلناه فيما سبق.
(53)
مسألة: إذا استأجر زيد طبيبًا على أن يقلع ضرسًا له، أو يداويه من مرض ألمَّ به وتم العقد، ثم انقلع الضَّرس أو شفي من ذلك الألم قبل أن يعمل له الطبيب شيئًا فإن الإجارة تنفسخ، فلا يدفع زيد شيئًا للطبيب؛ للتلازم؛ حيث إن المعقود عليه - وهو قلع الضرس، أو المداواة - قد تعذَّر استيفاؤها فلزم انفساخ الإجارة كأنها لم تكن أصلًا (فرع): إذا استأجر زيد طبيبًا لقلع ضرسه أو مداواته، ثم لما أراد الطبيب فعل ذلك امتنع زيد: فإنه لا يُجبر على ذلك، وتجب عليه - أي: على زيد - أجرة المثل يدفعها للطبيب؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من استعداد المستأجَر - وهو الطبيب - لعمل ما عليه، ولكن مُنع من قبل المؤجِّر: أن تُدفع له أجرة المثل؛ لكوته فعل أو أراد فعل ما تمّ العقد عليه، فالامتناع ليس منه، والمقصد منه: إعطاء كلِّ ذي حق حقه.
(54)
مسألة: إذا استأجر زيد دارًا أو جملًا من عمرو فمات المتعاقدان، وهما: زيد =
للحج (ونحوه) كاحتراق متاع من اكترى دكانًا لبيعه فيه
(55)
(وإن اكترى دارًا فانهدمت أو) اكترى (أرضًا لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت: انفسخت الإجارة في الباقي) من المدَّة؛ لأن المقصود بالعقد قد فات أشبه ما لو تلف
(56)
، .................
= وعمرو - أو أحدهما، مع وجود وسلامة العين المستأجرة - وهي الدار أو الجمل -: فإن الإجارة لا تنفسخ، بل تستمر ويأخذ الأجرة ورثة المؤجِّر - وهو عمرو -، ويستوفي بقية المنفعة ورثة المستأجر - وهو زيد -؛ للتلازم؛ حيث إن عقد الإجارة عقد لازم فيلزم عدم انفساخ الإجارة بموت العاقدين أو أحدهما مع سلامة المعقود عليه؛ لأنه هو الذي تمَّ العقد عليه لا المنتفع، وقد سبق بيان ذلك مع المقصد منه منه في مسألة (52).
(55)
مسألة: إذا استأجر زيد دكانًا ليبيع فيه، أو جملًا ليحجَّ عليه، وذلك من عمرو، ثم أصاب أحدهما عذر منعه من الوفاء بالمعقود عليه، ومنعه من الانتفاع به كأن تحترق بضاعة زيد التي يُريد أن يبيعها في ذلك الدكان، أو ضاعت نفقة المستأجر للجمل أو نحو ذلك: فإن الإجارة لا تنفسخ؛ للقياس؛ بيانه: أنه لو باع عمرو على زيد دكانًا فاحترقت بضاعة زيد: فإن البيع لا ينفسخ فكذلك الإجارة مثل ذلك والجامع: أن كلًّا منهما عقد لازم لا يؤثِّر عليه ما يحصل بعده، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المؤجِّر من التحايل عليه، فإن قلتَ: إنها تنفسخ، وهو قول أكثر الحنفية؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو استأجر زيد عبدًا فهرب تنفسخ الإجارة فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما قد تعذَّر استيفاء المنفعة المعقود عليها قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس الفارق، لأن هروب العبد عذر في المعقود عليه نفسه، لا في العاقدين، أو أحدهما، بخلاف ما نحن فيه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: "سببه: "تعارض القياسين" - كما بيّناه -.
(56)
مسألة: إذا حدث في العين المؤجَّرة ما يمنع نفعها: كأن يستأجر زيد دارًا من =
وإن أجَّره أرضًا بلا ماء: صحَّ
(57)
وكذا: إن أُطلق مع علمه بحالها
(58)
، وإن ظنَّ وجوده بالأمطار، وزيادة الأنهار: صحَّ كالعلم
(59)
، وإن غُصِبت المؤجَّرة: خُيِّر
= عمرو ليسكنها فانهدمت قبل استكمال مدَّة الإجارة، أو استأجر منه أرضًا ليزرعها فانقطع ماؤها، أو كثر ماؤها حتى غرقت الأرض: فإن الإجارة تنفسخ فيما بقي من المدَّة؛ ويجب على المستأجر - وهو هنا زيد - أن يدفع عوض ما انتفع فيه من مدة بقسطه؛ للتلازم وقد بيَّناه في مسألة: تلف العين المؤجرة - وهو مسألة (50).
(57)
مسألة: إذا استأجر زيد من عمرو أرضًا بلا ماء: فإن الإجارة صحيحة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تمكُّن المستأجر من الانتفاع من تلك الأرض المستأجرة بالنزول فيها: صحَّة الإجارة؛ لوجود منفعة مباحة مقصودة.
(58)
مسألة: إذا استأجر زيد من عمرو أرضًا، ولم يُذكر عند العقد أن لها ماء أو ليس لها ماء، بل أُطلق في ذلك فإن الإجارة صحيحة بشرط: أن يكون المستأجر عالمًا بحالها - وهو: أن لا ماء لها، أما إن كان المستأجر يظن - ظنًا غالبًا - أن لها ماء فبان خلاف ذلك: فلا صحة للإجارة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من علمه بالحال - وهو أنها لا ماء لها -: أن عدم الماء مشترط؛ لأن العلم بالحال يقوم مقام الاشتراط، مثل ما قلنا فيمن علم بالعيب: فإنه يقوم مقام اشتراطه، ويلزم من ظنه أنها لها ماء فبان خلاف ذلك: عدم صحة الإجارة، لعدم وجود المعقود عليه، تنبيه: العلم بذلك وعدم العلم له علامات وأمارات تعرف على حسب العادة والعرف بين المتعاقدين.
(59)
مسألة: إذا استأجر زيد من عمرو أرضًا، وغلب على ظن زيد أن الماء موجود فيها بسبب الأمطار، أو زيادة الأنهار: فإن الإجارة صحيحة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا إذا علم بوجود الماء فيها: فإن الإجارة تصح فكذلك إذا غلب على ظنه ذلك، والجامع: حصول الماء في كل، ولا يُفرق بين العلم والظن في العمل.
المستأجر بين "الفسخ" وعليه أجرة ما مضى، وبين "الإمضاء"، ومطالبة الغاصب بأجرة المثل
(60)
، ومن استُؤجر لعمل شيء فمرض: أقيم مقامه من ماله من يعمله ما لم تُشترط مباشرته، أو يختلف فيه القصد كالنفخ: فيُخيَّر المستأجر بين الصبر والفسخ
(61)
(وإن
(60)
مسألة: إذا استأجر زيد من عمر ودارًا مثلًا، فجاء بكر فأخذها من زيد غصبًا: فإن زيدًا يُخبر بين أمرين: أولهما: أن يفسخ الإجارة، ويدفع للمؤجِّر - وهو عمرو - أجرة المدَّة التي قضاها في الدار قبل غصب بكر لها ثانيهما: أو يمضي في العقد، بلا فسخ، ويُطالب الغاصب - وهو بكر هنا - بأجرة المثل؛ للتلازم؛ حيث إن المعقود عليه - وهي الدار - لم يتحقَّق نفعه للمستأجر؛ نظرًا لغصبه، ولم يفت مطلقًا بل إلى بدل فلزم تخيير المستأجر بين هذين الأمرين؛ حفاظًا لحقه، وهو المقصد منه.
(61)
مسألة: إذا استأجر زيد عمرًا ليبني له حائطًا أو ينسخ له كتابًا مثلًا، ثم مرض عمرو قبل أن يتمَّ ما استؤجر عليه: فلمستأجر - وهو زيد - أن يستأجر آخر ليكمل ذلك البناء من مال المؤجَّر الأول - وهو عمرو - بشرطين: أحدهما: أن لا يشترط المستأجر - وهو زيد - على المؤجَّر - وهو عمرو - مباشرة العمل بنفسه، ثانيهما: أن يكون الغرض - من البناء أو نسخ الكتب - المؤجَّر لأجله لا يحصل إلّا إذا عمله عمرو بنفسه، فإن اشترط المستأجر - وهو زيد - على المؤجِّر نفسه - وهو عمرو - أن يعمل البناء بنفسه، أو الغرض من البناء أو النسخ لا يحصل إلّا إذا باشره عمرو بنفسه: فإن المستأجر - وهو زيد - له الخيار: فإن شاء يصبر حتى يُشفى المؤجِّر نفسه - وهو عمرو -، وإن شاء فسخ الإجارة، ويستحق المؤجِّر نفسه أجرة ما سبق أن عمله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب العمل في ذمّة عمرو بسبب عقد الإجارة: استئجار من يُتمِّم عمله من ماله لتبرأ ذمته، ويلزم من إطلاق العقد: تعجيل استئجار آخر فليس على المستأجر - وهو زيد - الانتظار، ويلزم من اشتراط المستأجر - وهو زيد - قيام المؤجِّر نفسه - وهو عمرو - بأن يقوم =
وجد المستأجر (العين معيبة، أو حدث بها) عنده (عيب) وهو ما يظهر به تفاوت الأجر: (فله الفسخ) إن لم يزل بلا ضرر يلحقه (وعليه أجرة ما مضى)؛ لاستيفائه المنفعة فيه، وله الإمضاء مجانًا، والخيار على التراخي
(62)
، ويجوز بيع العين المؤجَّرة،
= بالعمل بنفسه، أو أن الغرض من العمل لا يتم إلّا إذا فعله المؤجِّر نفسه؛ نظرًا لحذاقته: أن يُخيِّر المستأجر - وهو زيد - بين الصبر حتى يشفى عمرو، أو يفسخ الإجارة؛ لكونه ليس له إلا ذلك؛ لاختلاف العاملين في ذلك، ويلزم من قيام عمرو ببعض العمل: استحقاقه لعوض عنه بقسطه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعطاء كُلِّ ذي حق حقه.
(62)
مسألة: إذا استأجر زيد دارًا أو جملًا من عمرو، فوجد زيد في هذه الدار عيبًا، كأن يكون جاره جار سوء، أو وجد الجمل لا يصلح للركوب أو نحو ذلك: فللمستأجر الخيار: فإن شاء فسخ الإجارة، ويجب عليه دفع أجرة ما مضى من مدة العقد قبل حدوث العيب، أو إطلاعه عليه، وإن شاء أن يمضي في المدَّة حتي تنتهي بلا أرش للعيب فله ذلك، وهذا الخيار يكون على التراخي، هذا بشرط: أن يكون هذا العيب قد استمر بحيث ألحق ضررًا على المستأجر، أما إن أزال المؤجِّر - وهو عمرو - ذلك الضرر بسرعة كأن بنى جدارًا قد انهدم بسرعة أو نحو ذلك: فليس للمستأجر - وهو زيد - الخيار، بل يلزمه المضي في الإجارة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو اشترى سلعة من عمرو فوجد زيد عيبًا في تلك السلعة تؤثر في الثمن: فله الخيار، إلا إن أزاله البائع بسرعة: فلا خيار له، فكذلك الإجارة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما عقد على عين مباحة مقصود الانتفاع بها: فائدة: العيب الذي يثبت الخيار في الإجارة والبيع هو: الذي يظهر بسببه تفاوت في ثمن السلعة عند البيع، والأجرة عند إجارتها، فإن قلتَ: لِمَ وجب على المؤجِّر - وهو زيد - أن يدفع أجرة ما مضى قبل حدوث العيب؟ قلتُ: نظرًا لانتفاعه بالعين المؤجَّرة قبل علمه بالعيب، وهذا يُلزمه دفع عوض عنه؛ لإبراء ذمته، فإن قلت: لِمَ =
ولا تنفسخ الإجارة به
(63)
، .....................................................
= شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المستأجر؛ لئلا يؤجَّر عينًا معيبة.
(63)
مسألة: إذا أجَّر زيد دارًا لعمرو، ثم باع زيد تلك الدار على بكر، وهو يعلم بذلك قبل انقضاء مدَّة الإجارة: فإن البيع صحيح، ويستمر المستأجر- وهو عمرو - في هذه الدار إلى نهاية مدَّة الإجارة المعقود عليها، ثم يتسلَّمها المشتري - وهو بكر -؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز للسيد أن يبيع الأمة التي زوَّجها، فكذلك يجوز بيع العين التي أجَّرها، والجامع: أن كلًّا منهما وقع عليه عقد على منافع فلا يوجد مانع من الصحة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين، فإن قلتَ: إنه يصح بيعها على المستأجر فقط، دون غيره؛ وهو قول للشافعي وكثير من العلماء للقياس؛ بيانه كما أنه لا يجوز بيع العين المغصوبة إلا للغاصب فقط فكذلك لا يجوز بيع العين المؤجَّرة إلا للمستأجر فقط، والجامع: أن كلًّا من يد المستأجر، ويد الغاصب تمنع تسليم العين للمشتري، فلم يصح، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن يد الغاصب عادية تمنع تسليم العين للمشتري فعلًا؛ لأن الغاصب لا يهمه من هو مالك العين، بخلاف بيع العين المؤجَّرة؛ لأن الإجارة على منافع العين، والبيع على العين نفسها، فلا يمنع ثبوت اليد على أحدهما تسليم الآخر؛ لانفصالهما، وكذا: إنَّ الإجارة منعت التسليم في الحال فلا يلزم منعها من التسليم عند انقضاء مدَّة الإجارة، وهذا مقدور على تسليمه، وهذا بلا شك يختلف عن العين المغصوبة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين": فألحقناه ببيع الأمة التي زوجها سيدها، لكون ذلك أكثر شبهًا به، وهم ألحقوه ببيع العين المغصوبة؛ لأن ذلك أكثر شبهًا به عندهم، فإن قلتَ: لِمَ لا تنفسخ الإجارة عند بيع العين المؤجرة سواء باعها لمستأجرها، أو غيره؟ قلتُ للتلازم؛ حيث إن المستأجر =
وللمشتري الفسخ إن لم يعلم
(64)
(ولا يضمن أجير خاص) وهو: من استؤجر مدَّة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها، سوى فعل الخمس بسننها في أوقاتها، وصلاة جمعة وعيد، وسُمِّي خاصًا؛ لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدَّة، ولا يستنيب (ما جنت يده خطأ)؛ لأنه نائب المالك في صرف منافعه فيما أمر به، فلم يضمن كالوكيل وإن تعدَّى أو فرَّط ضمن
(65)
(ولا) يضمن أيضًا (حجَّام،
= قد ملك منفعة العين بعقد الإجارة فيلزم استمراره في هذا الانتفاع إلى انقضاء مدتها. (فرع): إذا أجَّر زيد عمرًا دارًا، ثم وهب زيد تلك الدار لبكر، أو وقفها، أو انتقلت إلى بكر بسبب إرث فالكلام فيه كالكلام فيما لو باع عينًا مؤجَّرة - كما فصَّلناه في مسألة (63) -.
(64)
مسألة: إذا أجَّر زيد دارًا لعمرو، ثم باع زيد تلك الدار على بكر، وهو - أي: بكر - لا يعلم أن الدار مؤجَّرة: فللمشتري الخيار: إن شاء فسخ البيع، وأخذ ما دفع، وإن شاء أمضى البيع وقبله، وتكون الأجرة له من وقت عقد البيع؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المشتري لو وجد عيبًا في العين المباعة فله الخيار، فكذلك الحال هنا؛ لأن تأجير العين المباعة يعتبر عيبًا، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المشتري من استغلال المحتالين عليه.
(65)
مسألة: إذا استأجر رجل أجيرًا خاصًا به: كأن يستأجر زيد عمرًا بأن يخدم عنده، أو يرعى البهائم، أو نحو ذلك سنة أو شهرًا، ولا يعمل عند غيره في هذه المدَّة - أي: لا يُشاركه في نفعه غيره في هذه المدَّة، وأخطأ هذا الأجير فأتلف شيئًا كأن يكسر الآلة التي يحرث بها، أو ضرب بهيمة فماتت أو نحو ذلك: فإنه لا يضمن ذلك إذا لم يحصل منه تفريط أو تعدٍّ، أما إذا فرَّط أو تعدَّى: فإنه يضمن؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الوكيل والشريك في شركة المضاربة لا يضمنان إذا أتلفا شيئًا خطأ ويضمنان إذا أتلفاه بتعد وخطأ فكذلك الأجير الخاص مثلهما في ذلك، والجامع أن كلًّا منهم نائب عن المالك في صرف منافعه إلى ما أمره به، =
وطبيب، وبيطار) وختَّان (لم تجن أيديهم إن عرف حذقهم) أي: معرفتهم صنعتهم؛ لأنه فعل فعلًا مباحًا فلم يضمن سرايته، ولا فرق بين خاصهم ومشتركهم، فإن لم يكن لهم حذق في الصنعة ضمنوا؛ لأنه لا يحل لهم مباشرة القطع إذًا، وكذا: لو كان حاذقًا، وجنت يده بأن تجاوز بالختان إلى بعض الحشفة، أو بآلة كالَّة، أو تجاوز بقطع
= فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المستأجر، والمؤجِّر نفسه، وفيه حثٌّ على أن يقوم بعض الناس بخدمة الآخرين؛ إذ لو ضمن كل أحد ما أتلفه مطلقًا: لامتنع كلُّ أحدٍ من تأجير نفسه، فإن قلتَ: إن جميع الأجراء يضمنون ما أتلفوه مطلقًا وهو قول للشافعي؛ لقول وفعل الصحابي؛ حيث إن عليًا كان يُضمِّن الأجراء مطلقًا، ويقول:"ما يصلح للناس إلا هذا، يقصد: أن تضمنيهم لما أتلفوه مطلقًا يمنعهم من الاتلاف قلتُ: إن ما رُوي عن علي ضعيف؛ حيث إنه روي عنه مرسلًا، ثم إنه على فرض قوته: فإنه معارض بالقياس وما ذكرناه من المصلحة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس والمصلحة مع قول وفعل الصحابي". (فرع): جميع نفع وقت الأجير الخاص يصرفه المستأجره دون غيره إلا أنه يصلي الصلوات الخمس المفروضة، وصلاة الجمعة؛ للتلازم؛ حيث إن هذه الصلوات واجبة عليه بأصل الشرع فيلزم استثناؤها من أصل العقد. (فرع ثان): لا يصلي الأجير الخاص السنن، ولا العيدين إلا إذا أذن له مستأجره؛ للتلازم؛ حيث إن قيامه بعمله في وقته الذي أجَّره واجب، وهذه سنن ومستحبات فيلزم تقديم الواجب على المستحب، ويلزم من كون الوقت وقتًا للمستأجر أن يربط بإذنه فيها، وكذا: الموظفون في الدولة والمؤسسات مثل ذلك. تنبيه: ما ذكره المصنف لا دليل قوي عليه. (فرع ثالث): لا يجوز للأجير الخاص أن يستنيب عنه غيره يقوم بعمله؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من وقوع العقد على عينه: عدم جواز الاستنابة عنه؛ لكونه مقصودًا في عمله.
السلعة موضعها: ضمن؛ لأنه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ
(66)
(ولا)
(66)
مسألة: إذا استأجر زيد حجامًا، أو طبيبًا، أو ختَّانًا ونحوهم، فعمل أحدهم ما استؤجر عليه، وأخطأ، فتلف العضو، أو مُرض المستأجر أو أصابه جناية بسببهم: فإنه لا يضمن ذلك سواء كان خاصًا أو مشتركًا بشرطين: أحدهما: أن يكون الواحد منهم حاذقًا وعارفًا لمهنته معرفة دقيقة، ثانيهما: أن لا تجني يده، فتتجاوز ما ينبغي أن يُعمل أو يقطع، فإذا توفر هذان الشرطان: فلا يضمن الواحد منهم ما حصل من مضاعفات المرض بسبب فعلهم، أما إن كان الواحد ليس بحاذق في صنعته ومهنته، أو كان حاذقًا ولكنه تجاوز ما ينبغي أن يُعمل: كأن يتجاوز في الختان قطع الحشفة، أو يقطع في غير محل القطع، أو قطع في غير وقت قطع، أو قطع بآلة فاسدة، أو تجاوز بقطع القماش عن المشترى منه، أو نحو ذلك مما يدلّ على إهماله وعدم اهتمامه: فإنه يضمن، وعليه الدية، أو الأرش؛ القاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من تطبَّب بغير علم فهو ضامن" فقد أوجب على غير الحاذق في الطب ضمان الضرر الذي لحق المريض، ويدل بمفهوم الشرط والصفة على أن الحاذق لا يضمن ما لحق المريض من ضرر، وغير صنعة الطب مثلها؛ لعدم الفارق في هذا من باب "مفهوم الموافقة" الثانية: القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن الإمام إذا قطع يد السارق لا يضمن إذا فسدت اليد كلها بسبب ذلك فكذلك الطبيب الحاذق، أو الختان ونحوهما لا يضمنان إذا فسد المحل والجامع: أن كلًّا منهم قد فعل فعلًا مباحًا شرعًا فلم يضمن سرايته، ثانيهما: كما أن متلف المال يضمنه سواء كان ذلك عملًا أو خطأ فكذلك الطبيب الحاذق أو الختان ونحوهما يضمنان إذا تجاوزا ما ينبغي أن يُقطع أو يُعالج، والجامع: أن كلًّا من ذلك إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس، وفيه حثٌّ على التعاون في المجتمع؛ إذ لو ضُمِّن هؤلاء: لما وُجد - =
يضمن أيضًا (راع لم يتعدَّ)؛ لأنه مؤتمن على الحفظ كالمودَع فإن تعدَّى أو فرَّط: ضمن
(67)
(ويضمن) الأجير (المشترك) وهو: من قُدِّر نفعه بالعمل كخياطة ثوب،
= أحد يمتهن تلك الصنائع، ولتضرَّر المجتمع، ولو لم يُضمَّن هؤلاء: لتضرَّر المجتمع كله بسبب جنايات وتعدّيات من لا يخاف الله تعالى فشُرع ذلك بما قلناه من الشرطين.
(67)
مسألة: إذا استأجر رجل راعيًا لبهائمه: فإن هذا الراعي لا يضمن ما تلف أو مرض أو مات من تلك البهائم بشرط: أن لا يكون هذا الراعي متعديًا، أو مفرطًا، فإن كان متعديًا أو مفرطًا كان ينام عن الماشية، أو يغفل عنها، أو يتركها تتباعد عن مكانه، أو تغيب عن نظره، أو يسرف في ضربها، أو يضربها بدون إسراف ولكن في موضعٍ غير موضع ضرب، أو يضربها من غير حاجة، أو يسلك بها طريقًا مخوفًا في العادة، فتلفت بسبب ذلك كله: فإنه يضمن؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المودَع لا يضمن الوديعة إذا تلفت بدون تعدٍّ ولا تفريط، ويضمنها إذا كان ذلك بتعدٍّ وتفريط فكذلك الراعي مثله والجامع: أن كلًّا منهما قد اؤتمن على حفظها. (فرع): إذا اختلف المالك والراعي فقال: المالك: "أنت متعدٍّ ومفرط لذلك تضمن" وقال الراعي: "أنا لم أتعد ولم أفرِّط فلا أضمن"، ولم تكن لأحدهما حجّة: فإنه يُقبل قول الراعي مع يمينه؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر" ولا بينة هنا للمالك، فيبقى قول المنكر - وهو الراعي هنا - مع يمينه؛ احتياطًا من احتمال صدق صاحب الملك. (فرع ثان): إذا فعل الراعي ببهيمة فعلًا وادَّعى المالك: "أن هذا تعدٍّ"، وأنكر الراعي ذلك: فإنه يُرجع إلى أهل الخبرة المتوسطين في عقولهم فما يقولونه فيغلب على الظن صوابه؛ للعادة والعرف؛ حيث إن ذلك هو المثبت لحق أحدهما وقد جرت العادة بذلك من غير نكير. (فرع ثالث): إذا ادَّعى الراعي أن شاة قد ماتت: فإنه يُقبل قوله: سواء أتى بجلدها أو لا؛ للقياس؛ على المودَع وديعة =
وبناء حائط، سُمِّي مشتركًا؛ لأنه يتقبَّل أعمالًا لجماعة في وقت واحد يعمل لهم فيشتركون في نفعه: كالحائك، والقصَّار، والصَّبَّاغ، والحمَّال، فكل منهم ضامن (ما تلف بفعله) كتخريق الثوب، وغلطه في تفصيله؛ روي عن عمر، وعلي، وشريح، والحسن رضي الله عنهم؛ لأن عمله مضمون عليه؛ لكونه لا يستحق العوض إلّا بالعمل، وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد عمله لم يكن له أجرة فيما عمل به، بخلاف الخاص والمتولِّد من المضمون مضمون، وسواء عمل في بيته، أو بيت المستأجر، أو كان المستأجر على المتاع أو لا
(68)
(ولا يضمن) المشترك (ما تلف من
= بجامع: أن كلًّا من الراعي والمودَع من الأمناء الذين يقبل قولهم.
(68)
مسألة: إذا استأجر رجل أجيرًا مشتركًا ليخيط له ثوبًا - وهو: الذي يعمل أعمالًا الجماعة في وقت واحد فيشتركون في نفعه كالخياط الذي يحيط لك ويخيط لغيرك - وتلف هذا الثوب أو بعضه: فإن هذا الأجير يضمن، فلا يُعطى أجرة، وهذا مطلق أي سواء عمل هذا الخياط ذلك الثوب في بيته، أو في بيت مستأجره، أو كان مستأجره حاضرًا عنده، قائمًا على المتاع أو كان غائبًا؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ وهو من وجهين: أولهما: كما أن الشخص إذا اعتدى على شخص آخر وقطع عضوًا منه فإنه يضمنه ويدفع ديته فكذلك الأجير المشترك مثله والجامع: أن عمل كل منهما مضمون عليه فما تولَّد منه يجب أن يكون مضمونًا، ثانيهما: أن الثوب لو عمله الخياط ثم تلف في حرزه: فإنه يضمنه، ولا يستحق الأجرة، فكذلك إذا عمله في بيت مستأجره يضمنه، ولا أجرة عليه، والجامع: أنه في كل منهما لم يستلم مستأجره ثوبه الذي وقع عليه عقد الإجارة. الثانية: قول وفعل الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن عمرو وعلي أنهما كانا يُضمنان الأجير المشترك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المستأجر، فإن قلتَ: إن الأجير المشترك يضمن في هذه الحالة إذا عمل في ملك نفسه كالخياط الذي يخيط لك ثوبًا في دكانه، ثم يغلط فيه فيمزقه، فيضمنه، أما =
حرزه، أو بغير فعله)؛ لأن العين في يده أمانة كالمودَع (ولا أجرة له) فيما عمل فيه؛ لأنه لم يُسلِّم عمله إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه: سواء كان في بيت المستأجر أو غيره، بناء كان أو غيره
(69)
، وإن حبس الثوب على أجرته فتلف: ضمنه؛ لأنه لم
= الأجير المشترك الذي خاط لك ثوبًا في بيتك، ثم تلف هذا الثوب: فلا يضمنه إذا لم يُفرط، وهو قول مالك والشافعي، وأبي يعلى؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الأجير الخاص لا يضمن ما أتلفه إذا لم يُفرِّط - كما سبق في مسألة (65) - فكذلك الأجير المشترك إذا صنع لك ثوبًا في بيتك لا يضمن والجامع: أن كلًّا منهما قد سلَّم نفسه إلى المستأجر، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس الفارق؛ حيث إن الأجير الخاص يستحق العوض بمضي المدَّة وإن لم يعمل، وما عمل فيه من شيء فتلف من حرزه: لم يسقط أجره بتلفه مطلقًا، بخلاف الأجير المشترك، ولا يختلف الأمر بحضور المستأجر أو لا؛ ويؤيده: أن الختان يضمن ما جنت يده وإن كان مستأجره حاضرًا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" وقد سبق بيان ذلك.
(69)
مسألة: إذا استأجر رجل خيَّاطًا، أو بنَّاء مشتركًا، وأعطى الخياط قماشًا، ثم خاطه ثوبًا، ثم وضعه في حرز، ثم تلف هذا الثوب بغير تعدٍّ، ولا تفريط، أو أتلفه غيره: فلا يضمنه، ولا يستحق أجرة على خياطته: سواء خاط ذلك الثوب في دكانه أو في بيت مستأجره، وسواء كان ذلك العمل خياطة أو بناء، أو قصارة أو نحو ذلك؛ للقياس؛ وهو من وجهين: أولهما: كما أن الشريك المضارب إذا استلم المبلغ الذي يُريد أن يضارب به فاشترى به بضاعة ليتاجر بها فتلفت بلا تعد ولا تفريط فلا يضمن ذلك، فكذلك الأجير المشترك مثله، والجامع: أن كلًّا منهما قد قبض ذلك بإذن من مالكه لنفع يعود إليهما معًا، وهو كوكيله في ذلك ثانيهما: كما أن زيدًا لو باع طعامًا على عمرو، فتلف هذا الطعام قبل أن يقبضه عمرو فإن البائع لا يستحق ثمنه فكذلك الحال هنا لا يستحق الأجير المشترك =
يرهنه عنده، ولا أذن له في إمساكه، فلزمه الضمان كالغاصب
(70)
، وإن ضرب الدابة
= أجرة ما عمله في الثوب قبل أن يُسلِّمه لمستأجره والجامع: أن كلًّا منهما لم يُسلِّم المعقود عليه لمن استأجره، أو اشتراه، فلم يستحق العوض، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الأجير المشترك؛ لئلا يُضمَّن أشياء لم يتلفها قصدًا، وفيه حماية لمستأجره؛ لئلا يدفع أجرة عمل لم يستوفه ولم يستلمه، فإن قلتَ: إن الأجير المشترك هنا يضمن، وهو قول لمالك وبعض الحنفية؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه" حيث إن هذا عام فيشمل الأجير المشترك وغيره، فهو ضامن لكل ما استلمه إذا تلف قلتُ: إن القياس الذي ذكرناه والمصلحة مخصصان لعموم السنة بما ذكرناه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض عموم السنة مع القياس والمصلحة" وقد سبق ذكره.
(70)
مسألة: إذا استأجر رجل خياطًا على أن يخيط له ثوبًا، وأعطاه القماش لأجل ذلك، فخاطه الخياط ذلك، ولكن حبس ذلك الثوب عنده على الأجرة قائلًا:"إذا أعطيتني أجرة خياطتي له أعطيتك ثوبك لذي خطته" فتلف ذلك الثوب من غير تعدٍّ منه ولا تفريط: فلا يضمنه؛ وهو قول بعض العلماء، منهم ابن القيم، للتلازم؛ والمصلحة؛ حيث إن للخياط الحق شرعًا في الامتناع من تسليم الثوب حتى تُسلَّم له الأجرة فيلزم: أن لا يضمنه إذا تلف؛ لكونه مأذونًا له شرعًا في حبسه حتى تُسلَّم له الأجرة؛ حفظًا لحقه؛ إذ لو قلنا بضمانه إذا تلف: للحقه الضرر في ذلك؛ حيث إنه قد يُسلِّمه لمستأجره؛ تخلُّصًا ذلك، وقد لا يُسلِّمه مستأجره الأجرة، فدفعًا لذلك شرع ما ذكر، فإن قلتَ: إنه يضمن هنا، وهو ما ذكره المصنف هنا؟ للقياس؛ بيانه: كما أن الغاصب للثوب يضمنه إذا تلف فكذلك هذا الأجير المشترك مثله والجامع: أن مالك الثوب لم يرهنه عندهما، ولم يأذن لهما في إمساكه قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الغاصب لم يؤذن له في =
بقدر العادة: لم يضمن
(71)
(وتجب الأجرة بالعقد) كثمن، وصداق وتكون حالَّة (إن لم تؤجَّل) بأجل معلوم، فلا تجب حتى يحل
(72)
(وتستحق) أي: يملك الطلب بها (بتسليم العمل الذي في الذمة) ولا يجب تسليمها قبله، وإن وجبت بالعقد؛ لأنها
= إمساكه، بخلاف الأجير المشترك فإن الشارع قد أذن له في إمساكه، لدفع الضَّرر عنه كما فصَّلنا ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة" كما بيَّنا ذلك.
(71)
مسألة: إذا ضرب الأجير الدابة التي استؤجر على رعيها أو الحمل عليها ضربًا لا يُتلف عادة وعرفًا: فلا يضمن فيما إذا تلفت، أو ماتت، فإن زاد عن العادة، أو ضربها في غير موضع ضرب: فإنه يضمنها إذا تلفت؛ للتلازم؛ حيث إن الضرب العادي مأذون فيه شرعًا فيلزم عدم ضمانه لها عند تلفها بسببه، ويلزم من عدم إذن الشارع بالضرب غير العادي: أنه يضمنها إذا تلفت بسببه، وقد سبق ذكر ذلك، والمقصد منه: حماية كل من الأجير، ومستأجره تنبيه: يُعرف الضرب العادي من غيره عن طريق أهل الخبرة من متوسطي العقول.
(فرع): إذا ضرب الولي صبيه، أو معلِّم الصبيان للتأديب ضربًا لا يتلف عادة وعرفًا فتلف أو مات: فالقول فيه كالقول في ضرب الدابة؛ لعدم الفارق.
(72)
مسألة: تجب الأجرة بنفس عقد الإجارة إذا أُطلق العقد فتكون حالَّة، أما إن اشتُرط تأجيل الأجرة وتسليمها إلى أجل معلوم: فإنها لا تجب إلّا عند انتهاء ذلك الأجل؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ثمن المبيع يجب عند عقد البيع إذا أطلق العقد إلّا إذا اشترط تأخيره، والمهر يجب عند عقد النكاح إذا أطلق العقد إلا إذا اشترط تأخيره فكذلك الإجارة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منها فيه عوض أطلق ذكره في عقد معاوضة فيستحق بمطلق العقد، واشتراط التأخير لا خلاف فيه؛ لأن المسلمين عند شروطهم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن عقد الإجارة سبب لوجوب الأجرة، والسبب يكون بعد المسبب مباشرة.
عوض، فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق
(73)
، وتستقرّ كاملة باستيفاء المنفعة، وبتسليم العين، ومضي المدَّة مع عدم المانع، أو فراغ عمل ما بيد مستأجره، ودفعه إليه وإن كانت لعمل: فببذل تسليم العين، ومضي مدَّة يمكن الاستيفاء فيها
(74)
(ومن تسلَّم عينًا بإجارة فاسدة، وفرغت المدَّة: لزمه أجرة المثل).
(73)
مسألة: يملك المؤجِّر الطلب بالأجرة ويستحقها إذا سلَّم العين المؤجَّرة للمستأجر، والمستأجر لعمل شيء يملك الطلب بأجرته إذا سلَّم العمل المؤجَّر عليه الذي في الذمّة، ولا يجب أن يُسلَّم الأجرة على العمل حتى يستلمه مستأجره كاملًا بشروطه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المرأة لا تستحق الصداق والمهر إلّا إذا مكَّنته من نفسها، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما لا يستحق تسليمه إلّا مع تسليم المعوض، فإن قلتَ: لِمَ لا يجب تسليم الأجرة قبل العمل؟ قلتُ: حتى تقع في موقعها، وهو بعد استكماله للعمل، وهو موافق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه" حيث إن هذا يلزم منه أنه لا يستحقها إلّا بعد العمل المؤجَّر عليه.
(74)
مسألة: تستقر الأجرة كاملة بأحد أمور ثلاثة: أولها: إذا استوفى المستأجر المنفعة كاملة كأن يستأجر زيد عمرًا ليحمل له متاعًا، فحملها له وفرغ من ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المشتري إذا قبض العين المباعة: فإن البائع يستحق الثمن فكذلك الإجارة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما قبض المعقود عليه، فاستقرَّ عليه البدل، ثانيها: إذا سلَّم المؤجِّر العين المؤجَّرة للمستأجر، ومضت مدَّة يُمكن للمستأجر استيفاء منفعة تلك العين، ولا مانع له من ذلك معتبر: كأن يستأجر زيد من عمرو دارًا سنة فيُسلِّمها عمرو لزيد، وانقضت السنة، فإن الأجرة تستقر على زيد وكذلك: لو استأجر زيد من عمرو دابة وسلمها إليه عمرو، ليُسافر عليها من بلده إلى بلد آخر ويرجع ومضت مدَّة يُمكنه فيها ذهابه إلى تلك البلد ورجوعه فيها على حسب العرف والعادة، ولم يفعل: فإن الأجرة تستقر على =
لمدَّة بقائها في يده: سكن أو لم يسكن؛ لأن المنفعة تلفت تحت يده بعوض لم يسلَّم للمؤجِّر، فرجع إلى قيمتها
(75)
.
= زيد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن عمرًا لو باع دارًا على زيد، ثم سلَّمها عمرو لزيد، وتركها: فإن عمرًا يستحق ثمنها كاملًا، فكذلك الإجارة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما قد سلَّم المعقود عليه كاملًا، فيستحق البدل كاملًا، ثالثها: إذا فرغ الأجير من عمله، وسلَّمه لمستأجره كأن يستأجر زيد خياطًا ليخيط له ثوبًا، فخاطه وسلَّمه لزيد، فإن الأجرة تستقر على زيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من فراغ الأجير من عمله، وتسليمه لمستأجره كاملًا: استقرار الأجرة على مستأجره، لكون الأجير قد سلَّم ما عليه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه بيان متى تستقر الأجرة للمستأَجَر؛ حتى لا يستعجل المؤجر على المستأجر، فإن قلتَ: إن المستأجر لعين موصوف كمن استأجر جملًا يوصله إلى بلد آخر، ولكنه لم يفعل: لا أجرة عليه، وهو قول جمهور الحنفية وبعض الحنابلة كابن قدامة؛ للتلازم؛ حيث إن هذا عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن: فيلزم عدم استقرار عوضها بمجرَّد تسليمها أو بذلها قلتُ: لا يُسلَّم أنه لم يؤقت بزمن، بل ثبت توقيت زمن ذهابه وإيابه على حسب العرف والعادة، فإن قلتَ ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل العرف والعادة من المقيدات للمطلق في الأزمان أو لا؟ " فعندنا: نعم، وعندهم: لا.
(75)
مسألة: إذا تسلَّم زيد عينًا استأجرها من عمرو بإجارة فاسدة كأن يكون قد استأجر دارًا وهو لم يرها ولم توصف له، وانتهت مدَّة الإجارة المتفق عليها، وهي تحت يد المستأجر - وهو زيد -: فإن عليه -: أي على زيد - أجرة المثل عن مدَّة بقائها تحت يده: وهذا مطلق، أي: سواء انتفع زيد بتلك العين المؤجَّرة أو لم ينتفع بها، أي: سواء سكن تلك الدار أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو استوفى المنفعة بعقد إجارة فاسدة فعليه أجرة المثل عن تلك المدَّة، فكذلك الحال =
* * *
= فيما لو لم يستوفها، والجامع: أنه في كل منهما منفعة تلفت تحت يده بعوض لم يُسلِّم للمؤجر - وهو هنا عمرو -، فإن قلتَ: لِمَ وجبت أجرة المثل ولم تجب الأجرة نفسها؟ قلتُ: لأن عقد الإجارة عقد فاسد، ولا يترتَّب على العقد الفاسد أجرة شرعية. (فرع): إذا لم يتسلَّم المستأجر العين المؤجرة بذلك العقد الفاسد: فلا تجب عليه أجرة ولو بذل المؤجِّر - تلك العين؛ للتلازم؛ حيث إن المنافع لم تتلف تحت يده فيلزم عدم استحقاق الأجرة، ولا يُنظر إلى العقد الفاسد شرعًا ولا عرفًا.
هذه آخر مسائل باب "الإجارة" ويليه باب "السَّبق والمسابقة والمصارعة والمراهنة والمغالبة".
باب السَّبق
وهو بتحريك الباء: العوض الذي يُسابق عليه، وبسكونها: المسابقة، أي: المجاراة بين حيوان وغيره
(1)
(يصح) أي: يجوز السباق (على الأقدام، وسائر الحيوانات، والسفن، والمزاريق) جمع مزراق، وهو: الرمح القصير، وكذا: المجانيق، ورمي الأحجار بمقاليع ونحو ذلك؛ لأنه عليه السلام "سابق عائشة" رواه أحمد، وأبو داود، و"صارع ركانة فصرعه" رواه أبو داود، و"سابق سلمة بن الأكوع رجالًا من
باب السَّبق، والمسابقة والمصارعة والمراهنة والمغالبة
وفيه خمس عشرة مسألة:
(1)
مسألة: السبق لغة مأخوذ من المسابقة، والملاحقة بين اثنين، - كما في المصباح (265) - واصطلاحًا: مباراة ومجاراة تكون بين اثنين، أو جماعة من آدميين أو حيوانات، أو جمادات؛ ليُعلم من يفوز بذلك فيكون هو: الأسرع، أو الأشد، أو الأقوى، و"السَّبَق" بفتح الباء: هو العوض والجعل الذي تحصل المسابقة عليه، ويُعطى للأسبق، و"السَّبْق" بتسكين الباء: هو نفس المسابقة والمباراة والمصارعة ونحو ذلك مما يُعلم فيه: الأسبق، أو الأشد، فإن قلتَ: لِمَ جعل باب السبق في كتاب المعاملات مع أن كثيرًا من الفقهاء جعلوه بعد كتاب الصيد؟ قلتُ: لكونه أكثر شبهًا بالمعاملات؛ لكونه أكثر ما يكون على عِوَض؛ لأن ذلك هو الذي يُشجِّع المتبارين أو المتسابقين على أن يقوموا بذلك، وبعضهم يجعله بعد كتاب الصيد؛ لكون السِّباق أكثر ما يكون بين الحيوانات كالإبل والخيل، والبغال والحمير، والفيلة، والطيور، ولكن تعلُّقها بالعوض أكثر؛ لذا يكون الأرجح جعل ذلك في كتاب المعاملات، ويؤيده: أن المسابقة تكون بالحيوانات وتكون بالرمي كما سيأتي بيانه، فلا تختص بالحيوانات.
الأنصار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه مسلم
(2)
(ولا تصح) أي: لا تجوز المسابقة (بعوض إلّا في إبل وخيل، وسهام)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في نصلٍ، أو خفٍ، أو حافرٍ" رواه الخمسة عن أبي هريرة، ولم يذكر ابن ماجه:"أو نصل" وإسناده حسن،
(2)
مسألة: يجوز السباق على الأقدام، وعلى جميع الحيوانات، وعلى السفن، وعلى الطائرات، وعلى السيارات، وفي المزاريق - جمع مزراق، وهو الرمح الصغير - والنبل، وفي المجانيق جمع منجنيق، وهو: آلة توضع فيها حجر كبير فيُرمى به، وعلى المقاليع، وهي: جمع مقلاع، وهو: مثل المنجنيق إلا أنه يُوضع فيه حجر صغير، وكذا: تجوز المسابقة بالمصارعة، والمطارحة، والملاكمة ونحو ذلك مما هو طريق للعلم بالأقوى والأشد سواء كان بين مسلمين، أو بين مسلم وكافر؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} حيث إن هذا قد جرى بن إخوة يوسف، وهو صحيح عندهم، فيكون صحيحًا عندنا؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يثبت خلافه في شرعنا، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد سابق عائشة مرتين، وصارع ركانة بين عبد يزيد على شاة فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الشاة، وتمّت هذه المصارعة عدة مرات وهذا يدلّ على جوازها مع الكافر، الثالثة: السنة التقريرية؛ حيث إن سلمة بن الأكوع قد سابق رجلًا من الأنصار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكر عليه ذلك، ولم ينه عنه، فدل على جوازه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، والمطارحة، والملاكمة مثل المسابقة؛ لعدم الفارق "من مفهوم الموافقة". فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه التمرين والتدريب على القوة والصلابة، واستعمال الأسلحة؛ لإظهار القوة أمام العدو؛ لئلا يُفاجئ العدو المسلمين وهم على غير استعداد لمواجهتهم، ولذا أجازه العلماء بعوض وبغير عوض إذا قصد فيه نصرة الإسلام والمسلمين.
قاله في "المبدع"
(3)
(ولا بدَّ) لصحة المسابقة (من تعيين المركوبين) لا الراكبين؛ لأن
(3)
مسألة: تصح المسابقة بعوض في أمور ثلاثة وهي: المسابقة في الإبل، والخيل، والسهام فقط، وغيرها تصح المسابقة فيها لكن بغير عوض - وهو ما يُعطى للأسبق -؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا سبق إلّا في نصل، أو خف، أو حافر" والمقصود بالنصل هو: السهام، وبالخف هو: الإبل، وبالحافر: هي الخيل ويشمل ذلك البغال، والحمير، والنفي هنا: نهي، وهو مطلق، فيقتضي تحريم المسابقة بعوض بغير تلك الثلاثة، أما في الثلاثة فتجوز بعوض؛ حيث إن الاستثناء من النفي إثبات، فإن قلتَ: ما الدليل من هذا النص على أنها تجوز بعوض؟ قلتُ: من لازم الحال؛ حيث إن تلك الثلاثة من آلات الحرب المأمور بتعلُّمها، والتدريب عليها، والتفوّق فيها، ولا يُمكن أن يحصل ذلك إلّا إذا جُعل عوضًا في ذلك؛ حيث إن المتسابق يجتهد في تعلُّمها إذا علم أن هناك عوضًا على ذلك يُعينه على تلك الطاعة؛ يؤيد ذلك: قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي" والإبل والحمير، والبغال والخيل؛ نظرًا لحملها أثقال العساكر فتلحق بها من باب "مفهوم الموافقة" تنبيه: قوله: "لم يذكر ابن ماجه النصل في روايته" قلتُ: هذا لا يضر ما دام أن الحديث قد صححه أكثر أئمة الحديث.
(فرع): تصح المراهنة والمغالبة بالعوض في باب العلم، وهو مذهب أبي حنيفة، وصححه ابن تيمية وابن القيم؛ للقياس الأولى، بيانه: كما تجوز المراهنة والمغالبة على آلات الجهاد - وهي: الخيل، والسهام، والإبل - فمن باب أولى جواز ذلك في العلم، والجامع: أن كلًّا منهما مما ينتفع به في الدِّين، فإن قلتَ: لِمَ كان قياسًا أولى هنا؟ قلتُ: لأن القصد الأول هو: إقامة الدِّين بالحجج والبراهين العلمية، والقوة من: سهام، وخيل، وسيوف مجرَّد آلات تنفيذ فقط. (فرع ثان): تصح المصارعة بعوض؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم وقد صارع ركانة على شاة، وهو زيادة على الحديث السابق، فيؤخذ بها.
القصد: معرفة سرعة عَدْو الحيوان الذي يُسابق عليه
(4)
(و) لا بد من (اتحادهما) في النوع، فلا تصح بين عربي وهجين (و) لا بدَّ في المناضلة من تعيين (الرماة)؛ لأن القصد معرفة حذقهم، ولا يحصل إلّا بالتعيين بالرؤية، ويُعتبر فيها أيضًا: كون القوسين من نوع واحد، فلا تصح بين قوس عربية، وفارسية
(5)
(و) لا بدَّ أيضًا من تحديد (المسافة): بأن يكون لابتداء عدوهما وآخره غاية لا يختلفان فيه، ويُعتبر في
(4)
مسألة: في الأول - من شروط صحة المسابقة - وهو: أن يُعيَّن المركوبان اللذان سيتسابقان، وكذا: الشخصان الراميان المتسابقان بالرؤية دون الراكبين أو السهمين؛ للتلازم؛ حيث إن القصد من المسابقة هو معرفة جوهر الدابتين وقوة وسرعة عدوهما، ومعرفة حذق الراميين، ولا يحصل ذلك إلا بالتعيين بالرؤية فلزم اشتراطه، فإن قلتَ: لِمَ لا يُشترط تعيين الراكبين والسهمين؟ قلتُ: لأنهما آلة للمقصود فقط، ولم يُقصدا، فلو ركب رجل بدلًا عن الآخر أو جعل سهم بدلًا عن آخر لصح، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه نوع تساوٍ بينهما واتحاد في الجملة.
(5)
مسألة: في الثاني - من شروط صحة المسابقة - وهو أن يكون المركوبان من نوع واحد، بأن يكون بين فرسين عربيين، أو بين فرسين من الهجين - وهو: ما كان أبوه عربي فقط -، وكذا: أن يكون القوسين من نوع واحد، فلا تصح بين قوس عربية، وفارسية؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يصح التسابق بين جنسين كأن يتسابق جمل مع فرس فكذلك لا يصح التسابق بين نوعين - كالعربي من الخيل والهجين، أو العربي من الأقواس والفارسي - والجامع: وجود التفاوت الواضح بين هذه الأشياء، وهو معلوم بالعادة في كل، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا لا يحقق الغرض الذي من أجله شرعت المسابقة؛ فلذلك اشترط أن يكونا من نوع واحد، حتى يتحقق القصد منها، تنبيه: قوله: "ولا بد في المناضلة من تعيين الرماة؛ لأن القصد معرفة حذقهم، ولا يحصل إلّا بالتعيين =
المناضلة: تحديد مدى رمي (بقدر معتاد)، فلو جعلا مسافة بعيدة تتعذَّر الإصابة في مثلها - غالبًا - وهو ما زاد على ثلاثمائة ذراع -: لم يصح؛ لأن الغرض يفوت بذلك، ذكره في "الشرح" وغيره
(6)
(7)
(8)
.......................................
= بالرؤية" قد سبق بيانه في مسألة (4).
(6)
مسألة: في الثالث - من شروط صحة المسابقة - وهو أن تحدَّد المسافة بالأمتار، وغايته، ومدى الرمي وموضع نهايتهما، وهذا التحديد يتفق المتسابقان عليه، ويكون هذا التحديد بقدر معتاد، ويكون ذلك بالمشاهدة، أو بالمقياس بالذراع، فلا تصح المسابقة بدون تحديد ذلك، ولا تصح أيضًا إن كانت المسافة بعيدة يغلب على الظن عدم وصول أحدهما إلى نهايتها، ولا تصح أيضًا إن كانت المسافة قريبة يغلب على الظن وصولهما معًا بيسر وسهولة؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود: معرفة أيهما الأسبق والأقوى والأصبر؛ ليُعطى العوض، ولا يمكن ذلك إلا بتحديد مسافة معلومة البداية والنهاية، يغلب على الظن وصول أحدهما دون الآخر فلزم هذا الشرط؛ لبيان ذلك، فإن قلتَ: لِمَ لا تصح إذا لم تحدَّد المسافة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا يؤدي إلى أن لا يقف أحد المتسابقين إلّا بعد انقطاع نَفَسِه، أو نَفَس فرسه وبهذا يتضرَّر، فضلًا عن أنه لا يشق تقدير الفائز في هذه الحالة، فدفعًا لذلك لا يصح عدم التحديد فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط التحديد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يؤدي غالبًا إلى العلم بالأسبق والأقوى.
(7)
مسألة: في الرابع - من شروط صحة المسابقة - وهو: أن يكون العِوَض الذي يُعطى الأسبق منهما معلومًا إما بالمشاهدة أو بالوصف والتقدير: سواء كان هذا العوض حالًا أو مؤجَّلًا، للقياس؛ بيانه: كما يُشترط ذلك في سائر العقود فكذلك يُشترط في المسابقة، والجامع: أن كلًّا منهما مال في عقد، فوجب العلم به، فإن قلتَ: لِمَ اشترط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن هذا يجعل المتسابق عالمًا بما هو مقدم عليه.
(8)
مسألة: في الخامس والأخير -من شروط صحة المسابقة- وهو: أن يكون هذا =
(وهي) أي: المسابقة (جعالة لكل واحد) منهما (فسخها)؛ لأنها عقد على ما لا تتحقق القدرة على تسليمه إلا أن يظهر الفضل لأحدهما: فله الفسخ دون صاحبه
(9)
= العِوَض من الإمام أو نائبه، أو شخص غيرهما، أما إن كان العِوَض من نفس المتسابقين: فلا يجوز؛ للمصلحة: حيث إن ذلك مما يقوي الأجسام، ويُعلِّم الجهاد، ويُعمِّم النفع، وهذا يدفعه الإمام الأعظم، أو من يُنيبه، أو شخص آخر قد تبرَّع به؛ لجواز ذلك في غير المسابقة فيجوز فيها؛ لنفعه العام للمسلمين، فإن قلتَ: لم لا يجوز إذا كان العِوَض من نفس المتسابقين قلتُ: لأنه لا يخلو في هذه الحالة من كون كل واحد منهما: إما أن يغرم أو يغنم، وهذا هو القمار المحرم.
فإن قلتَ: إن هذا لا يصح إلّا إذا كان العوض من الإمام أو نائبه؛ للقياس؛ بيانه: كما أنهما مختصَّان بتولية الولايات دون غيرهما، فكذلك يختصان بجعل عوض للمتسابقين والجامع: أن هذا مما يحتاج إليه في الجهاد في كليهما فلا يتعدَّاهما قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأنهما فعلًا مختصان بتولية الولايات، ولكن دفع العوض لا يُماثل ذلك، ولا يقاربه؛ لأنه ليس من السياسة في شيء، بل يستطيع أي أحد أن يدفع العوض كمن تبرَّع بشراء سلاح للجيش فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة" وقد بيّنا ذلك.
(9)
مسألة: عقد المسابقة بين المتسابقين عقد جائز، وليس بلازم، وعلى ذلك: يجوز لأحدهما أن يفسخها بدون عذر: سواء قبل الشروع في المسابقة، أو بعدها بشرط: أن لا يظهر الفضل لأحدهما وغلبه، فإن ظهرت غلبة أحدهما فله الفسخ دون مسابقة الآخر، أي: للفاضل الفسخ دون المفضول، والعوض الذي يستحقه السابق والفاضل هو: يُعتبر جعل في نظير عمله وسبقه الذي تسبَّب في المشقة عليه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العقد مع شخص تريده أن يرد عبدًا لك هاربًا عقد جائز، يستطيع أحد العاقدين أن يفسخ العقد بشرط: أن لا يبذل المستأجر جهدًا في البحث عن العبد فكذلك عقد المسابقة مثل ذلك =
(وتصح المناضلة) أي: المسابقة بالرمي، من النضل، وهو: السهم التام (على معينين) سواء كانا اثنين، أو جماعتين؛ لأن القصد: معرفة الحذق كما تقدَّم (يحسنون الرمي)؛ لأن من لا يحسنه وجوده كعدمه، ويشترط لها أيضًا: تعيين عدد الرمي، والإصابة، ومعرفة قدر الغرض: طوله، وعرضه، وسمكه، وارتفاعه من الأرض
(10)
، والسنة:
= والجامع: أن كلًّا منهما عقد على ما لا تتحقَّق القدرة على تسليمه؛ أو تقول: إنه عقد على الإصابة، فلا يدخل تحت قدرته، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك الشرط؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إنه لو جاز لأحدهما الفسخ مع ظهور الفضل لأحدهما: لفات غرض المسابقة؛ إذ سيتحايل بعضهم ويفسخ إذا ظهر أن صاحبه قد يغلبه.
(10)
مسألة: تصح المسابقة بالرمي - وتسمَّى بالمناضلة؛ لأن السهم المرمي به التام بنصله، وريشته وقدحه يُسمَّى نضالًا - ولكن هذا بشروط خمسة، أولها: أن يكون الراميان معينين: سواء كانا اثنين، أو جماعتين، وقد سبق هذا في مسألة (4)، ثانيها: أن يكون الراميان يحسنان الرمي بصورة متقاربة؛ فإن كان أحدهما يُحسنه، والآخر غير محسن له فإن العقد باطل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم معرفة أحدهما للرمي: عدم صحة مسابقته فيها، لكون وجوده كعدمه، ولا يحصل الغرض من المسابقة؛ لكونه مغلوبًا ابتداء، ثالثها: أن يعرف كل واحد من المتسابقين عدد الرمي، والرشق، والإصابة كأن يقول أحدهما:"الرشق وعدد الرمي عشرون، والإصابة خمسة، فمتى رمى أحدنا عشرين رمية، وأصاب منها خمس مرات: فهو الأفضل والأسبق، فيُعطى العِوَض" فإن هذا صحيح وهذا يسمى بالمبادرة، لكن إن لم يُعلم ذلك: فلا تصح المسابقة؛ للمصلحة: حيث إن عدم معرفة ذلك يؤدّي إلى التنازع والاختلاف بينهما غالبًا، فاشترط ذلك قطعًا لذلك، رابعها: أن يعرف كل واحد منهما طول الغرض - وهو الشيء الموضوع هدفًا لهما من خشب وجلد - وعرضه وسمكه، وارتفاعه، وانخفاضه من الأرض؛ =
أن يكون لهما غرضان، إذا بدأ أحدهما بغرض: بدأ الآخر بالثاني؛ لفعل الصحابة رضي الله عنهم
(11)
/
(12)
/
(13)
/
(14)
/
= للمصلحة: حيث إن اختلاف ذلك بينهما يؤدِّي إلى تفضيل أحدهما عن الآخر، وهذا يؤدِّي إلى التنازع، وعدم معرفة الأفضل منهما، فدفعًا لذلك اشتُرط ذلك، خامسها أن يتحدان بالوقت فيُعطى أحدهما وقتًا مثل وقت الآخر، فلا يُستعجل أحدهما دون الآخر، ولا يُترك أحدهما بأخذ وقتًا طويلًا في الرمي، دون الآخر؛ للمصلحة، وقد ذكرناها في الثالث والرابع.
(11)
مسألة: يستحب: أن يكون للمتسابقين غرضان متساويان فيما سبق ذكره، في مسألة (10)، إذا بدأ أحدهما يرمي إلى غرض، يبدأ الآخر في رمي الآخر حتى يقضيا رميهما؛ لفعل الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن حذيفة أنه كان يشتد بين الهدفين يقول: أنا بها أنا بها، وثبت عن ابن عمر مثله، وكان كثير من الصحابة يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم من بعض في هذا الشيء المفيد، فإن قلتَ: لِمَ استحب ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحقيق للعدالة أكثر مما لو كان هناك هدف واحد.
(12)
مسألة: إن اشترط المتسابقان أن يرمي أحدهما حتى ينتهي، ثم يرمي الآخر: جاز؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" فإن قلتَ: لِمَ جاز هذا؟ قلتُ: لأن الغرض من مشروعية المسابقة يتحقق بهذا.
(13)
مسألة: إذا اختلفا فيمن يبدأ بالرمي: فإنه يُقرع بينهما؛ للتلازم؛ حيث إنهما متساويان في استحقاق الابتداء فلزمت القرعة؛ لأنها مشروعة عند تساوي الحقوق.
(14)
مسألة: يُكره أن يمدح الحاضرون للمسابقة المصيب، والأفضل، دون المفضول إذا كان هذا الفاضل ممن يتعاظم ويتكبَّر على غيره عند مدحه؛ للمصلحة: حيث إن هذا يؤدي إلى كسر قلب المفضول. =
..............................
(15)
.
(15)
مسألة: يستحب للشيخ أن يمدح طالب العلم الفاضل، دون المفضول؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حثّ على كثرة الاشتغال بالعلم، والسبق فيه.
هذه آخر مسائل باب "السبق والمسابقة والمصارعة والمراهنة والمغالبة" ويليه باب "العارية".
باب العارية
بتخفيف الياء، وتشديدها: من العري، وهو التجرُّد، سُمِّيت "عارية"؛ لتجرُّدها عن العوض (وهي: إباحة نفع عين) يحل الانتفاع بها (تبقى بعد استيفائه)؛ ليردها على مالكها
(1)
، ...................................................
باب العارية
وفيه إحدى وثلاثون مسألة:
(1)
مسألة: العارية: لغة: مأخوذة: من عار يعور إذا ذهب وجاء، وهي: اسم من الإعارة يُقال: "أعرته الشيء إعارة، وعارة" على وزن: "أجبته، إجابة، وجابه"، والياء منقلبة عن "واو" تقول العرب: يتعاورون العواري": إذا أعار بعضهم بعضًا، والياء تأتي في لغة العرب مخففة، وتأتي مشدَّدة، ومنه: "استعرت منه الشيء فأعارنيه" - كما جاء في المصباح (437)، وهي في الاصطلاح: إباحة الانتفاع بعين يحل الانتفاع بها بدون عوض مع بقاء العين وردِّها إلى مالكها" كأن يستعير زيد من عمرو دارًا، أو عبدًا، أو ثوبًا، أو دابة، أو إناء ينتفع به مدَّة من الزمن ثم يردُّه إليه دون نقص، فإن قلت: لِمَ قيل إن "الياء" في العارية منقلبة عن "واو"؟ قلتُ: لئلا تكون منسوبة إلى العار وعُلِّل ذلك بأن طلب العارية عار وعيب؛ لأن "ألف""العار" منقلبة عن "ياء" بدليل قولهم: "عيَّرته بكذا"، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها، واستعار أدراعًا ونحوها، فلو كانت عيبًا لما فعلها، فإن قلتَ: لِمَ جُعل هذا الباب في كتاب المعاملات؟ قلتُ: لأن فيه تعامل بين اثنين: المعير والمستعير، ولأن الإعارة هبة المنافع، ففيها شبه بتأجير المنافع مع بقاء العين. فإن قلتَ: لِمَ سُمِّيت بهذا الاسم؟ قلتُ: لأنها مأخوذة، من العُري، وهو تجرُّدها عن العوض، ولأنها من "عار إذا ذهب ورجع، وهي كذلك تذهب العين إلى المستعير فينتفع بها، ثم يُرجعها إلى المعير.
وتنعقد بكل لفظ أو فعل يدل عليها
(2)
، ويشترط أهلية المعير للتبرّع شرعًا، وأهلية المستعير للتبرّع له
(3)
، وهي مستحبة؛ لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
(4)
(2)
مسألة: تنعقد الإعارة بكل لفظٍ يدل على الانتفاع بالعين بدون عوض وإرجاعها كقول زيد لعمرو: "أعرتك هذه الدابة لتركبها"، أو يقول له:"أبحت لك الانتفاع بها" أو يقول عمرو لزيد: "أعطني هذه الدابة أركبها" فيُسلِّمها زيد له، وتنعقد بكل فعل يدل عليها كأن يقوم زيد بحمل عمرو على دابته، أو تغطيته بردائه أو نحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا يُبيح الطعام لضيفه بالقول والفعل الدالين على هذه الإباحة، فكذلك تنعقد الإعارة بالقول والفعل الدالين عليها والجامع: أن كلًّا منهما إباحة للتصرف.
(3)
مسألة: يُشترط في صحة الإعارة: أن يكون المعير والمستعير جائزي التصرُّف، بأن يكون المعير أهلًا للتبرّع، شرعًا، فالصغير، والمجنون، والسفيه، والعبد، وناظر الوقف، والمكاتب، وولي اليتيم لا يصح أن يُعيروا أحدًا، ويكون المستعير أهلًا للتبرّع له، فالصغير، والمجنون ونحوهما لا يُعارون شيئًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُشترط جواز التصرف في البائع والمشتري فكذلك يُشترط ذلك في المعير والمستعير، والجامع: أن كلًّا منهما تصرُّف في مال، فإن قلتَ: لِمَ اشتَرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لأموال وحقوق الآخرين؛ إذ لو جازت الإعارة بدون هذا الشرط لأعار الصبيان والمجانين ونحوهم من أموالهم الآخرين حتى تفنى ولم تُردّ عليهم، ولقبل هؤلاء من غيره الإعارات، ولم يردوها؛ لكونهم لا يعرفون مقاصد المعاملات، وفي ذلك ضرر عليهم وعلى غيرهم، فدفعًا لذلك اشترط هذا.
(4)
مسألة: الإعارة مستحبَّة، أي: يُستحب أن يُعير شخص عينًا لشخصٍ آخر؛ لينتفع به ثم يردّه، لقواعد: الأولى: الكتاب، وهو من وجهين: أولهما: قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} حيث أمر الشارع بالتعاون على ما فيه بر وحث =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= على التقوى، وكونك تُعير شيئًا عندك لأخيك المسلم لتقضي حاجته من التعاون على ذلك؛ لأن لفظ "البر والتقوى" اسم جنس محلىَّ بأل وهو من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه، وصرف الأمر من اقتضائه للوجوب إلى الاستحباب: السنة القولية؛ وهو حديث الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماذا فرض الله عليه من الصدقة؟ فقال: "الزكاة" فقال الأعرابي: هل علىَّ غيرها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا إلا تطوع" فنفى وجوب شيء في الأموال غير الزكاة، وأثبت أن غيرها كله تطوع، ومنه الإعارة ثانيهما: قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وهذا ورد في العارية، وخصَّصها في ذلك قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس وابن مسعود قالا: المراد بها: العواري، وصرَّح ابن مسعود بأن المراد: القدر، والميزان، والدلو، وصرف من وجوب إعارة الماعون إلى استحبابها، السنة القولية وهو حديث الأعرابي السابق؛ الثانية: السنة الفعلية؛ حيث صلى الله عليه وسلم إنه قد استعار درعًا من صفوان بن أمية يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل عارية مضمونة" الثالثة: القياس بيانه: كما أنه تجوز هبة الأعيان فكذلك تجوز هبة المنافع - وهي الإعارة - فلذلك صحَّت الوصية بالأعيان، والمنافع معًا جميعًا، والجامع: الانتفاع في كل، فإن قلت: لِمَ استُحبت الإعارة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إظهار تعاون وتكافل وتكاتف المجتمع الإسلامي، فقد لا يستطيع بعضهم أن يشتري العين نفسها، ولا يستطيع استئجارها، وهو لا يستغني عنها ففتح الله له أن يستعيرها؛ ليقضي حاجته، ولينال معيره الأجر والثواب، فإن قلتَ: إن الإعارة واجبة؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} فذمهم على منعهم لإعارة الماعون وهو: الإناء - ولا يذم على ترك شيء إلّا إذا كان واجبًا؛ لأن الواجب: ما ذمّ على تركه مطلقًا، فيلزم أن تكون الإعارة واجبة قلتُ: إن السنة القولية - وهو: حديث الأعرابي السابق الذكر - هو الذي صرف الأمر من اقتضائه للوجوب إلى =
(وتباح إعارة كل ذي نفع مباح) كالدار، والعبد، والدابة، والثوب، ونحوها
(5)
(إلا البضع)؛ لأن الوطء لا يجوز إلّا في نكاح، أو ملك يمين، وكلاهما منتفٍ
(6)
(و) إلا (عبدًا مسلمًا لكافر)؛ لأنه لا يجوز له استخدامه
(7)
(و) إلا (صيدًا ونحوه) كمخيط (لمحرم)؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
(8)
(و) إلا (أمة شابَّة لغير
= الندب كما سبق ذكره، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف هل الآية على إطلاقها أم هي مصروفة إلى الندب؟ " فعندنا: مصروفة، وعندهم: لا.
(5)
مسألة: تجوز إعارة كل عين يُنتفع بها منفعة مباحة مع بقاء ملكها لصاحبها، مثل إعارة الدار، والعبد، والدابة، والثوب، والدلو، والحلي، والكلب للصيد ونحو ذلك مما يعرف بعينه، فلا يصح إعارة حيوان زمن لا ينتفع به؛ للسنة الفعلية والقولية: حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد استعار أدراعًا، وذكر إعارة دلوها، وطرق فحلها، وغير ذلك تُلحق بها من باب:"مفهوم الموافقة" فإن قلتَ: لِمَ جاز ذلك؟ قلتُ: لأن ما جاز للمالك استيفاؤه من المنافع ملك إباحته مع عدم وجود مانع.
(6)
مسألة: لا تجوز إعارة البضع - وهو الفرج - للاستمتاع به؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أنه لا يُستباح بالبذل، ولا بالإباحة، ومستند هذا الإجماع: التلازم؛ حيث إن البضع لا يُباح إلا بالنكاح وملك اليمين، فيلزم عدم إباحته بغيرهما، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو جازت إعارة ذلك: لجاز الزنا، لأن الزانية تبذل بضعها للزاني وتُعيره إياه.
(7)
مسألة: لا تجوز إعارة العبد المسلم للكافر؛ ليخدمه خدمة خاصة؛ للقياس؛ بيانه: كما لا تجوز إجارته له، - كما تقدم - فلا تجوز إعارته له، والجامع: أنه في كل منهما تمكين للكافر على المسلم لاستخدامه، وهذا لا يجوز، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إكرام للمسلم، وإظهار له على الكفار، فلو أعير عبد مسلم لكافر: الحصل عكس ذلك.
(8)
مسألة: لا تجوز إعارة صيد، أو مخيط، أو طيب لمحرم في حج أو عمرة، وكذا: لا =
امرأة أو مَحرَم)؛ لأنه لا يُؤمن عليها، ومحلُّ ذلك: إن خشي المحرم، وإلا: كُره فقط، ولا بأس بشوهاء، وكبيرة لا تُشتهى، ولا بإعارتها لامرأة، أو ذي محرم؛ لأنه مأمون عليها
(9)
/
= تجوز إعارة آلات الغناء، والحلي المحرم، والزمر، أو إعارة دار ليصنع فيها خمر أو يشرب فيها أو مجمع للفساد فيها؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فنهى الشارع عن التعاون على كل شيء فيه إثم ومعصية، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، فتحرم إعارة هذه الأشياء؛ لدخولها في عموم هذه الآية؛ حيث إن "الإثم" و"العدوان" مفرد محلى بأل، وهو من صيغ العموم، فإن قلتَ: لم شُرع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعانة على الطاعة، ونبذ الفساد عن المجتمع الإسلامي.
(9)
مسألة: لا تجوز إعارة امرأة لخدمة رجل أجنبي عنها: سواء كانت شابة أو كبيرة، وسواء كانت شوهاء أو حسناء، وسواء كانت تشتهى أو لا، وسواء خشي عليها أو لا، أما إعارتها لامرأة أخرى لخدمتها، أو إعارتها لمحرمها: فيجوز مطلقًا؛ للمصلحة: حيث إن إعارتها لرجل أجنبي عنها تؤدِّي إلى خلوه بها، فيُحسنها الشيطان في نظره، ويُحسنه في نظرها فتقع الفتنة، ثم تقع فاحشة الزنا - وأعاذنا الله وإيّاكم منها - مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم:"ما خلى رجل بامرأة إلّا وكان ثالثهما الشيطان"، لذا لا يُؤمن أن تقع في ذلك ولا فرق في ذلك بين الشابة والكبيرة، والشوهاء والحسناء والتي تُشتهى وغيرها؛ لأن لكل ساقطة لاقطة، فقد تكون قبيحة عند شخص، ولكنها حسناء عند آخر، وقد لا يشتهيها شخص، ويشتهيها الآخر، وهكذا، وهذا واقع في المجتمع كما نرى ونشاهد، فلذا حرمت إعارة المرأة -مهما كانت- لأي أجنبي -مهما كان- منعًا للمفسدة، ودفعًا لها، وسدًا للذرائع، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، أما إعارتها لامرأة مثلها، أو لرجل من محارمها فتجوز؛ لأنه يؤمن عليها غالبًا كما ذكرناه. فإن قلتَ: تجوز =
(10)
، وللمعير الرجوع متى شاء ما لم يأذن في شغله بشيء يستضر المستعير برجوعه فيه كسفينة الحمل متاعه فليس له الرجوع ما دامت في لُجَّة البحر
(11)
، وإن
= إعارة المرأة لرجل أجنبي عنها إن أمن عليها بأن كان لا ينظر إليها، ولا يخل بها مع الكراهة، وتجوز إعارة المرأة الشوهاء، والكبيرة لرجل أجنبي - عنها لتخدمه بشرط: أن تكون هذه المرأة لا تُشتهى وهذا ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه دفع حاجة هذا الرجل من خدمة ونحو ذلك قلتُ: إن هذا فيه مصلحة خاصة لهذا الرجل، وما ذكرناه من المصلحة فيه دفع مفسدة الوقوع في الفاحشة، وهي مقدَّمة على مصلحتهم؛ لكونها عامة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتً: سببه: "تعارض المصلحتين" فقدَّمنا مصلحتنا: لأن فيها دفع مفسدة الفتنة ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقدموا ما ذكروه من المصلحة؛ لأنها خاصة. (فرع): لا تجوز إعارة الأمرد إلى رجل ليخدمه مثل المرأة كما سبق في مسألة (9).
(10)
مسألة: تجب إعارة كتب العلم للمحتاج إليها من القضاة، والحكّام، وأهل الفتوى، وأهل التعليم، وطلاب العلم الذين يُعلم منهم علمًا حقيقيًا طلبهم للعلم الحقيقي؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه إعانة على نشر العلم وتعليمه، وهو ما ذكره ابن عقيل، (فرع) زاد العبادي: أن المستعير لا يُغيِّر خطأ رآه في الكتاب إلّا إن كان في آية، أو كان خطأ محضًا لا يحتمل التأويل؛ للمصلحة: حيث إن تغيير ذلك - مع عدم القطع - يشوّه الكتاب على صاحبه.
(11)
مسألة: يجوز للمعير أن يرجع ويأخذ العين المعارة من المستعير في أي وقت شاء إذا كانت الإعارة مطلقة، أي: بدون تقييد في وقت بشرط: أن لا يكون هذا الرجوع يؤدِّي إلى ضرر يلحق المستعير كأن يعير زيد عمرًا سفينة، فلما صارت في وسط البحر: طلب المعير - وهو زيد - إرجاعها، فهذا لا يجوز؛ لما فيه من إلحاق الضرر والهلاك للمعير، وكذلك لو أعاره سروالًا، فلما كان عمرو بين الناس طلب المعير - وهو زيد - أن يخلع هذا السروال ويُرجعه إليه، فهذا لا يجوز أما إن =
أعاره حائطًا؛ ليضع عليه أطراف خشبه: لم يرجع ما دام عليه
(12)
(ولا أجرة لمن
= كانت مؤقتة: فلا يجوز طلبها حتى ينتهي الوقت المذكور؛ للتلازم؛ حيث إن العارية إباحة فيلزم إرجاعها في أيِّ وقت إلا أن، ويلزم من إلحاق الضرر إلى المستعير: عدم جواز إرجاع العارية فيما يتضرّر به؛ لأنها تنزل منزلة الضرورة؛ حيث يلزم من إرجاع السفينة هلاك المستعير، ويلزم من إرجاع السروال: كشف عورة المستعير، وهذان محرَّمان، والمحرم يُقدَّم على المباح ويلزم من توقيتها: عدم جواز طلبها قبل انتهاء ذلك الوقت المشترط؛ لأنه سيُلحق الضرر بالمستعير، فقد يعتمد على العين المعارة وقتًا معينًا يتضرّر إن أزيلت قبل فراغه، فإن قلتَ: يجوز للمعير أن يرجع ويأخذ العارية من المستعير في أي وقت: سواء كانت الإعارة مطلقة أو مؤقتة وهو ما ذكره المصنف هنا، وهو مذهب الجمهور؛ للمصلحة، والتلازم؛ حيث إن العين المعارة لم يملكها المستعير بسبب تلك الإعارة سواء كانت مطلقة، أو مؤقتة، فيلزم جواز طلبها في أي وقت؛ لكون اشتراط التوقيت لا يلزم منه منع طلبها متى شاء المعير، وإلا انقلبت إلى ما يشبه الغصب فدفعًا للضرر عن المعير: شرع هذا قلتُ هذا لا يسلم، فقد يكون غرض وقصد المستعير لا يتحقَّق إلا إذا اشترط وقتًا معينًا يكون مدَّة لتلك الإعارة، وهذا هو الواقع، فلو طلبها المعير قبل الانتهاء من ذلك الوقت لتضرَّر المستعير ضررًا قد يكون أكثر مما لو لم يأخذ تلك العين المعارة، فدفعًا للضرر عن المستعير: شُرع عدم جواز طلبها قبل انتهاء وقتها إذا كانت مؤقتة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" فنحن نظرنا إلى مصلحة المستعير وسدِّ حاجته، وهم نظروا إلى مصلحة المعير، وأن ذلك من حقه.
(12)
مسألة: إذا أعار زيد عمرًا حائطًا وجدارًا ليضع عمرو أطراف خشبه عليه: فيجوز للمعير - وهو زيد - أن يرجع في ذلك ويمنع عمرًا من ذلك قبل، وضعها على الحائط وبعده بشرط: أن لا يكون عمرو قد بنى على أطراف خشبه التي =
أعار حائطًا) ثم رجع (حتى يسقط)؛ لأن بقاءه بحكم العارية، فوجب كونه بلا أجرة
(13)
، بخلاف من أعار أرضًا لزرع ثم رجع، فيبقى الزرع بأجرة المثل لحصاده؛ جمعًا بين الحقَّين
(14)
(ولا يردُّ) الخشب (إن سقط) الحائط الهدم أو غيره؛ لأن الإذن
= وضعها على ذلك الحائط بناءً، فإن كان قد بنى عليها: فلا يجوز لزيد أن يرجع ما دام على ذلك الحائط؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون عقد الإعارة عقد جائز: أن للمعير الرجوع متى ما شاء إذا لم يُوجد ضرر على المستعير، الثانية: المصلحة؛ حيث إن المعير إذا رجع وطلب من المستعير أن يقلع خشبه، أو قلعها هو بعد البناء عليها: فإن المسعير يتضرَّر بسبب هدم البناء كله، فدفعًا لذلك: حرم الرجوع في ذلك.
(13)
مسألة: إذا أعار زيد عمرًا حائطًا ليضع عمرو أطراف خشبه عليه: فلا أجرة للمعير - وهو زيد - إلى أن يسقط الحائط من نفسه، وكذا: لا أجرة لمن أعار أرضًا للدفن فيها إلى أن تبلى عظام الموتى، ولا أجرة أيضًا لمن أعار سفينة إلى أن تعود، سواء طال زمن الإعارة أو لا، وسواء رجع المعير عن الإعارة أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن العارية بلا عوض، بدون تحديد زمن فيلزم كونه بلا أجرة. الثانية: القياس؛ بيانه كما أن زيدًا لو وهب عمرًا ثوبًا: لا يرجع فيها، ولا أجرة له، فكذلك إذا أعاره حائطًا ليضع أطراف خشبه عليه أو سفينة، أو أرضًا لدفن الموتى: فلا أجرة له والجامع: عدم ملك الرجوع في منفعة العين المعارة والموهوبة؛ لما يترتّب عليه من الإضرار بالمستعير أو الموهوب، وهو المقصد منه.
(14)
مسألة: إذا أعار زيد عمرًا أرضًا ليقوم عمرو بزراعتها، فرجع المعير، وطلب أرضه من المستعير - وهو عمرو -: فلا يُقبل رجوعه إلى أن يحصد المستعير - وهو عمرو - ذلك الزرع الذي زرعه، وهو مذهب كثير العلماء، منهم ابن قدامة؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم والقياس؛ وقد سبقا في مسألة (13)، فإن قلتَ: بل يُقبل =
تناول الأول فلا يتعدَّاه لغيره (إلا بإذنه) أي: إذن صاحب الحائط، أو عند الضَّرورة إلى وضعه إذا لم يتضرَّر الحائط - كما تقدم في "الصلح" -
(15)
. (وتضمن العارية)
= رجوع المعير، ويبقى زرع المستعير بأجرة المثل إلى أن يحصده - فيدفع للمعير تلك الأجرة من طلبه إلى الحصاد، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن الإعارة بُنيت على جواز الرجوع - لكونه يلزم من حقيقتها -، وهو من مصلحة المعير، وقلع الزرع يُلحق الضَّرر بالمستعير فيُمنع دفعًا لهذا الضَّرر عنه، فتُوجب أجرة المثل على المستعير فيدفعها للمعير إلى الحصاد؛ دفعًا للضرر عنهما قلتُ: إن الضرر الذي يلحق المستعير للأرض أكثر من الضرر الذي يلحق المعير؛ لأن المستعير للأرض قد تكلَّف عليها، وقد يكون قد استدان لأجل زراعتها، فإذا رجع المعير، وفرض على المستعير أجرة المثل: فإن الضرر يكون على المستعير قد تضاعف، فتُقدَّم مراعاته، ولا يُنظر للضرر الذي يلحق المعير؛ لقلَّته وخفَّته بالنسبة لضرر المستعير، ثم إن المعير يعلم أن الأرض الذي أعارها سيزرعها المستعير وأن للزرع وقتًا ينتهي إليه، فلم يطلبها من المستعير إلّا لكونه قاصدًا الضَّرر به من قلع زرعه، أو دفع أجرة المثل وهذه من الحيِّل المخالفة للقواعد الشرعية لذلك يُعامل بنقيض قصده، فلا يقبل رجوعه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" كما سبق أن ذكرناه.
(15)
مسألة: إذا أعار زيد عمرًا جدارًا وحائطًا ليضع عمرو أطراف خشبه عليه، وانهدم الجدار وسقط: سواء كان بسبب آفة سماوية من مطر ونحوه، أو كان بسبب غير ذلك، ثم بُني من جديد: فلا يجوز للمستعير- وهو عمرو - أن يردَّ أطراف خشبه إلى الجدار والحائط مرة أخرى إلّا بأحد أمرين: أولهما: إما أن يأذن له المعير، وهو صاحب الجدار والحائط - وهو زيد هنا - ثانيهما: أو أن يضطر المستعير إلى وضع أطراف خشبه عليه، بأن لا يوجد غيره يسقف عليه، بشرط: أن لا يُلحق الضرر إلى المعير، فإن ألحق به ضررًا فلا يجوز؛ لقاعدتين: الأولى: =
المقبوضة إذا تلفت في غير ما استعيرت له؛ لقوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه" رواه الخمسة، وصححه الحاكم، ورُوي عن ابن عباس وأبي هريرة، لكن المستعير من المستأجر، أو لكتب علم ونحوها موقوفة لا ضمان عليه إن لم يُفرِّط
(16)
،
= السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنَّ جارٌ جاره أن يضع خشبه على جداره" فحرم منع الجار من وضع خشبه على جداره؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم وهو عام، فيشمل الضرورة وغيرها؛ لأنه مطلق في الأحوال؛ لأن لفظ "جاره" نكرة مضاف إلى معرفة، وهو من صيغ العموم، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" فحرم الإضرار بالآخرين عمومًا؛ لأن النفي هنا نهي، وهو يقتضي التحريم، ولأن "ضرر، وضرار" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، وهو مخصِّص للحديث الأول؛ ويكون المراد: لا يمنعن جار جاره أن يضع خشبه على جداره عند عدم وجود الضرر عليه - أي: على صاحب الجدار -، فإن وُجد ضرر، فيُباح له أن يمنعه، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (41) من باب "الصلح"، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون الإذن قد تناول الحالة الأولى -وهو قبل هدم الحائط-: أن لا يتعداه إلى الحالة الثانية - وهي: البناء الذي وقع بعد الهدم -، ويلزم من إذنه في الحالة الثانية: جواز وضع المستعير أطراف خشبه على جدار جاره؛ لكونه قد أسقط حقه بهذا الإذن.
(16)
مسألة: إذا قبض المستعير العين المعارة له فتلفت وهي تحت يده: ففي ضمانها وعدمه ما يلي من التفصيل: أولًا: إن كان قد استعملها فيما استُعيرت له كأن يستعير ثوبًا ليلبسه في يوم الجمعة ويوم الزينة فقط، أو استعار كتب علم ليقرأ فيها واستعمل ذلك الثوب لذلك اللبس، وتلك الكتب للقراءة على ما اعتيد في ذلك فتلفت بدون تفريط، ولا تعد: فإنه لا يضمنها، فلا يطالبه المعير بمثلها، ولا بقيمتها؛ للتلازم؛ حيث إن الإذن في استعمال العين المعارة - وهو حقيقة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= العارية - قد تضمَّن الإذن في الإتلاف الحاصل بسبب الاستعمال، فيلزم عدم ضمانها؛ لكونه فعل ماله فعله شرعًا؛ إذ ما أذن في إتلافه غير مضمون. ثانيًا: إن كان قد استعملها فيما استعيرت له: فلبس الثوب ليوم الجمعة والزينة فقط، وانتفع بكتب العلم الموقوفة فتلفت بسبب تفريطه، وتعدِّيه بأن جعلها قريبة من نار أو نحو ذلك: فإنه يضمنها، أو استعملها في غير ما استعيرت له: بأن ليس الثوب في غير أيام الجمع والزينة، أو جعله حافظًا للطعام، أو استعمل الكتب لأغراض غير القراءة؛ فإنه يضمنها: سواء تعدَّى هنا أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه"، وهذا عام؛ لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم، فيشمل ذلك العارية، فيجب أن تُرجع العارية لصاحبها؛ لأن "على" من صيغ الوجوب، وهو مطلق في الاستعمال، ثانيهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعار من صفوان بن أمية درعًا يوم حنين، فقال: صفوان: أغصب يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل عارية مضمونة" فوصف النبي ذلك الدرع بأنه عارية مضمونة، أي مردودة، فإن تلفت: فيرد مثلها أو قيمتها، وهذا مطلق: أي يضمن سواء تلف بسبب تعدٍّ، وتفريط أو لا، أو تلف بسبب استعمالها فيما استعيرت له، أو لا، وقيَّد هذين النصين، القياس؛ بيانه: كما أن الغاصب الثوب ونحوه يضمنه إذا تلف، فكذلك المستعير للثوب إذا استعمله ثم تلف بسبب تعدٍّ، أو تفريط، أو استعماله في غير ما استعير له يضمنه، والجامع: أن كلًّا منهما يُسمَّى متعدٍّ ومُستعمِل للشيء - وهو المغصوب والعين المعارة - من غير إذن شرعي، وعلى هذا فإن المستعير لا يضمن إذا استعمل العين المعارة فيما استُعيرت له بدون تفريط، أو تعدٍّ؛ ويضمن إذا تعدَّى أو فرَّط في استعمالها فيما استعيرت له، وكذا إذا استعملها في غير ما استعيرت له يضمنها مطلقًا - أي: يضمنها في الحالة الأخيرة - ولو لم يفرط أو =
وحيث ضمنها المستعير فـ (بقيمتها يوم تلفت) إن لم تكن مثلية، وإلا: فبمثلها، كما تضمن في الإتلاف
(17)
(ولو شرط نفي ضمانها): لم يسقط؛ لأن كل عقد اقتضى الضمان لم يُغيِّره الشرط
(18)
، وعكسه نحو: وديعة لا تصير مضمونة بالشرط، وإن
= يتعدَّى؛ لأن هذا هو اللازم من استعمالها في غير ما استُعيرت له، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن ابن عباس وأبي هريرة: أن العارية مضمونة، وهذا الإطلاق مُقيَّد بالقياس السابق، واللازم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المعير والمستعير، وعدم التفريط في حقوق الآخرين، والتعدِّي على أموالهم، تنبيه: قوله: "لكن المستعير من المستأجر": حكمه حكم المسألة السابقة ففيه التفصيل الذي قلناه فيها، فلا داعي لتخصيصها بالذكر.
(17)
مسألة: إذا فرَّط المستعير في العارية أو تعدَّى في استعمالها، أو استعملها في غير ما استُعيرت له: وتلفت فإن كان للعين المعارة مثل يشبهها تمامًا: فإنه يدفع للمعير هذا المثل: كأن يكون قد استعار إناء، ثم تلف - بما ذكرناه -: فإنه يردُّ على المعير إناء مثله - إن وُجد -، وإن لم يكن للعين المعارة مثل: فإنه يردُّ قيمتها في اليوم الذي أُتلفت فيه؛ للقياس؛ بيانه كما أن زيدًا لو أتلف إناء - بدون أن يستعيره - فإنه يضمنه بأن يردُّ مثله إلى صاحبه إن كان له مثل، ويدفع له قيمته يوم الإتلاف إن لم يكن له مثل، فكذلك الحكم في استعارته، والجامع: أن كلًّا منهما قد أُتلف بدون وجه حق، فوجب ضمانه بما ذكرناه، فإن قلتَ: لم يُضمن بدفع مثله وقيمته إن عُدم المثل؟ قلتُ: لأن المثل أقرب من القيمة في إحقاقا لحق، فإن قلتَ: لِمَ يُضمن بقيمته يوم إتلافه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه اليوم الذي تحقَّق فيه فوات العين المعارة، فقد يختلف سعرها بالهبوط أو بالارتفاع، فيتضرر المعير، أو المستعير، فدفعًا لذلك: شرع هذا.
(18)
مسألة: إذا أخذ المستعير العين المعارة وشرط على المعير: أن لا يضمنها فيما لو =
تلفت هي أو أجزاؤها في انتفاع بمعروف: لم تضمن؛ لأن الإذن في الاستعمال تضمَّن الإذن في الإتلاف، وما أُذن في إتلافه غير مضمون
(19)
(وعليه) أي: وعلى
= تلفت وقبل المعير ذلك: فإن الضمان يسقط عنه، إذا تلفت، فلا يُطالب بها المعير، ولا بقيمتها، وهو مذهب كثير من العلماء؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" وهو عام لهذا ولغيره، فأيُّ شرط لا يُخالف الكتاب والسنة فهو صحيح ومُلزم؛ لأن "شروطهم" جمع منكر مضاف إلى معرفة - وهو الضمير- وهو من صيغ العموم، فيشمل ما نحن، فيدل على نفي الضمان بشرطه، فإن قلتَ: الضمان يجب على المستعير إذا أتلف العارية بتعدٍّ أو تفريط ولو شرط عدم ضمانها؛ وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن العارية إذا تلفت بتعدٍّ أو تفريط: فإنها تُضمن - وهذا هو مقتضى عقد الضمان ولا يُغيِّر هذا المقتضى شرط شارط مهما كان فيلزم ضمانها قلتُ: إن هذا التلازم مخالف لعموم السنة القولية، فلا يعمل به، ثم إن الضمان من حقِّ المعير، وهو قد أسقط حقه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل التلازم مُخصِّص لعموم السنة هنا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.
(19)
مسألة: إذا أودع زيد عند عمرو وديعة واشترط المودع على عمرو: أن يضمنها إن تلفت عنده، وقبل المودَع - وهو عمرو - ذلك: فإنه يضمنها إذا تلفت، فيُطالبه المودع - وهو زيد - بها؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" وقد بيّناه في مسألة (18)، فإن قلتَ: إن الوديعة لا تضمن إذا تلفت، وإن شُرط ضمانها، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن مقتضى عقد الوديعة يلزم منه عدم ضمانها، فالشرط لا يُغيِّر هذه القاعدة قلتُ: الجواب عنه، وسبب الخلاف في ذلك كما قلنا في مسألة (18) تنبيه: قوله: "وإن تلفت هي أو أجزاؤها" إلى قوله: "غير مضمون" قد سبق بيانه بالتفصيل في مسألة (16)، ولا داعي لتكراره.
المستعير (مؤونة ردِّها) أي: ردُّ العارية؛ لما تقدم من حديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه" وإذا كانت واجبة الرَّد: وجب أن تكون مؤنة الرَّد على من وجب عليه الرَّد
(20)
(لا المؤجَّرة) فلا يجب على المستأجر مؤونة ردِّها؛ لأنه لا يلزمه الردِّ، بل يرفع يده إذا انقضت المدَّة، ومؤنة الدابة المؤجَّرة، والمعارة على المالك
(21)
، وللمستعير
(20)
مسألة تجب على المستعير مؤنة ردِّ العارية إلى المعير، أو من يقوم مقامه، أو ما جرت العادة أنه يقبض عنه حقوقه كخازنه، أو زوجته المتصرفة بماله، أو سائس حيواناته أو نحو ذلك؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه" وهذا يلزم منه إيصال ما عند المستعير من العارية والأمانة إلى المعير أو من يقوم مقامه، ويلزم من ذلك: أن تكون مؤنة الرَّد - من الاستئجار على حملها إلى المعير ونحو ذلك - على المستعير؛ لكونه لا يتم ردُّ العارية إلا بذلك فوجب لأن ذمته لا تبرأ إلّا بذلك، من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"؛ فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حق المعير؛ لئلا تجتمع عليه خسارة ما لحق العارية من ضرر وخسارة مؤنة ردِّها إليه، فشُرع: أن يتحمَّل المستعير مؤنة الرَّد.
(21)
مسألة: تجب على المستأجر مؤنة ردِّ العين المستأجرة إلى المؤجِّر، كما أن مؤنة ردِّ العين المعارة واجبة على المستعير، فلو استأجر دارًا وانقضت مدَّة الإجارة: فيجب على المستأجر أن يُسلِّم مفاتيح الدار للمؤجِّر، وكذلك لو استأجر دابة، وانتهت المدَّة: فيجب على المستأجر أن يُسلِّم تلك الدابة لصاحبها وعليه مؤنة ذلك حتى يُسلِّمهما إلى المؤجِّر، وكذلك لو استعار دابة: فتجب مؤنة ردها على المستعير حتى يُسلّمها إلى المعير، ويفعل ذلك كله كما استلمها منه؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه" وهو عام، وقد سبق بيان وجه الدلالة منه على ذلك في مسألة (20)، ولا فرق بين ذلك، وبين العارية. فإن قلتَ: لا تجب على المستأجر مؤنة ردِّها، بل رفع يده إذا تمَّت مدَّته، =
استيفاء المنفعة بنفسه، وبوكيله؛ لأنه نائبه
(22)
(ولا يُعيرها) ولا يُؤجِّرها؛ لأنها إباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها غيره كإباحة الطعام
(23)
(فإن) أعارها و (تلفت عند الثاني:
= وكذا الدابة المستأجرة، والمعارة على المالك - أيضًا - وهو ما ذكره المصنف هنا.
قلتُ: هذا مخالف لعموم السنة السابقة الذكر، ومخالف للمصالح الشرعية إذ لو رفع المستأجر يده عن العين المؤجرة فقط: من دار أو دابة، وكذا: الدابة المعارة، والمؤجِّر أو المعير لم يعلم بذلك: فإنهما سيكونان محلًا لسرقتهما أو لتلفهما، وهذا محسوب على المستأجر والمستعير فدفعًا لذلك: شُرع ما قلناه.
(22)
مسألة: المستعير هو الذي يستوفي منفعة العين المعارة بنفسه، ويستوفيها بواسطة وكيله؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المستأجر يستوفي منفعة العين المؤجرة بنفسه وبواسطة وكيله فكذلك المستعير مثله، والجامع: أن كلًّا من المستأجر والمستعير ملك التصرف بالمنفعة بإذن المالك - وهما: المؤجِّر، والمعير - ولهما أن يستوفياها بواسطة وكيلهما؛ لكون الوكيل في كل شيء نائبًا عن الموكِّل في الاستيفاء، ويده كيد الموكِّل، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحديد المستوفي لمنفعة العين المعارة؛ لئلا يستعملها غير المستعير أو وكيله فيتضرَّر المعير.
(23)
مسألة: إذا استعار زيد ثوبًا من عمرو: فلا يجوز للمستعير - وهو زيد - أن يُعير هذا الثوب لبكر، ولا يجوز أن يُؤجِّره عليه، ولا يجوز له أن يرهنه إياه إلّا بشرط أن يأذن المالك - وهو عمرو - بأن يُعير زيد الثوب لبكر، أو يُؤجِّره، أو يرهنه، فإن أذن: جاز، وإلا فلا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن عمرًا لو أباح لزيد أن يأكل من طعامه فليس لزيد أن يُبيح هذا الطعام لبكر، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما فيه إباحة الانتفاع بالعين وإباحتها لشخص معيَّن، فلا تتعدَّى هذه الإباحة غيره؛ لكون المقصود في ذلك الانتفاع الشخص نفسه، فقد يكون عمرو لا يُبيح لبكر أن يأكل من طعامه، ولا ينتفع بشيء له، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حق المالك - وهو المعير الأول =
استقرَّت عليه قيمتها) إن كانت متقوِّمة: سواء كان عالمًا بالحال أو لا؛ لأن التلف حصل في يده (و) استقرَّت (على مُعيرها أجرتها) للمعير الأول إن لم يكن المستعير الثاني عالمًا بالحال، وإلا: استقرّت عليه أيضًا (و) للمالك أن (يُضمِّن أيَّهما شاء) من المعير؛ لأنه سلَّط على إتلاف ماله أو المستعير، لأن التلف حصل تحت يده
(24)
(وإن
= وهو عمرو -؛ لئلا يتحايل أحد كان يكرهه فيستعير من المستعير الأول ملك المعير - وهو عمرو - فيتلفه فيتضرَّر. فإن قلتَ: بل يجوز للمستعير - وهو زيد - أن يُعيرها لبكر، وهو قول كثير من العلماء منهم أبو حنيفة، وهو قول الشافعي؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يجوز للمستأجر تأجير العين التي استأجرها - كما سبق في مسألة (28) من باب "الإجارة" - فكذلك يجوز للمستعير أن يعير العين المعارة والجامع: أن كلًّا منهما قد أبيح له الانتفاع بالعين، فيجوز له أن يبيحها لغيره. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن المستأجر قد ملك الانتفاع بالعين فملك أن يُملِّكها غيره، أما المستعير فلم يملك المنفعة، إنما ملك استيفائها على الوجه الذي أذن له فيه فقط، وفرق بينهما، ومع الفرق لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" على ما بيناه: فنحن ألحقناه بمن أبيح له أكل طعام؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهم ألحقوه بتأجير المؤجر؛ لكونه أكثر شبهًا به عندهم وهذا ما يُسمَّى بـ "قياس الشَّبه" أو "غلبة الأشباه".
(24)
مسألة: إذا استعار زيد ثوبًا من عمرو، ثم أعاره زيد لبكر، ثم تلف عند بكر: ففيه التفصيل: الآتي: أولًا: إن كان المعير الأول - وهو عمرو - لم يأذن للمعير الثاني - وهو زيد - بأن يُعيره إلى بكر: فإن المعير الأول - وهو لعمرو - يُضمِّنه المعير الثاني - وهو زيد -، فيجب على زيد دفع مثله إلى عمرو، وإن لم يكن له مثل فيجب عليه أن يدفع قيمته في يوم إتلافه، ولا دخل لعمرو ببكر، ويُطالب زيد بكرًا بحقه إن شاء؛ للتلازم؛ حيث إن عمرًا قد أعار زيدًا ولم يأذن بإعارته إلى بكر فيلزم أن يضمنه هو؛ لكون علاقته معه، لا مع بكر، =
أركب) دابته (منقطعًا) طلبًا (للثواب: لم يضمن)؛ لأن يدربِّها لم تزل عليها كرديفه، ووكيله
(25)
، ولو سلَّم شريك لشريكه الدابة، فتلفت بلا تفريط، ولا تعد: لم يضمن إن لم يأذن له في الاستعمال، فإن أذن له فيه: فكعارية، وإن كان بإجارة: فإجارة،
= ثانيًا: إن كان المعير الأول - وهو عمرو - قد أذن للمعير الثاني - وهو زيد - بأن يُعير ذلك الثوب لبكر: فإن المعير الأول - وهو عمرو - يُضمنه المستعير - وهو بكر - ولا دخل له في المعير الثاني - وهو زيد -؛ للتلازم؛ حيث إن إذن عمرو لزيد بإعارة الثوب لبكر يُعتبر وكالة له بأن يفعل ذلك، فخلصت ذمة المعير الثاني - وهو زيد-، وصارا المستعير الثاني - وهو بكر - هو المسؤول أمام المالك - وهو عمرو - فإن قلتَ: لم شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا هو المتضمن لجلب المصالح ودفع المفاسد عن المعير الأول، والثاني، والمستعير، تنبيه: ذكر المصنف تفصيلات من قوله: "فإن أعارها وتلفت عند الثاني" إلى قوله "لأن التلف حصل تحت يده" ولكني لم أجد دليلًا قويًا على تلك التفصيلات من القواعد الشرعية المعتبرة.
(25)
مسألة: إذا كان مع زيد دابة فرأى بكرًا - وهو منقطع في طريقه - فأركبه يُريد بذلك الأجر والثواب من الله تعالى، فتلفت تحت بكر: فإن بكرًا لا يضمنها؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن زيدًا المالك - وهو زيد - لو أردف بكرًا معه على دابته وتلفت تلك الدابة تحتهما فإن الرديف لا يضمن فكذلك بكر هنا لا يضمن والجامع: أن يدرب الدابة ومالكها لم تزل عليها، فالراكب لم ينفرد بحفظها في كل، ثانيهما: كما أن زيدًا لو سلَّم وكيله بكرًا دابة فتلفت تحت يده فإنه لا يضمنها فكذلك الحال هنا والجامع: أن الدابة تحت يد مالكها، فلم ينفرد كل منهما بها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو ضمن كل شخص كلَّ ما يُعطى إيَّاه لينتفع به فترة قليلة للزم من ذلك انقطاع عمل الخير بين الناس، لعدم وجود من يقبله.
فلو سلَّمها إليه ليُعلِّفها ويقوم بمصالحها: لم يضمن
(26)
(وإذا قال) المالك: (آجرتك) و (قال) من هي بيده: (بل أعرتني، أو بالعكس): بأن قال: "آعرتك" قال: "بل أجرتني": فقول المالك في الثانية، وتردُّ إليه في الأولى إن اختلفا (عقب العقد) أي: قبل مضي مدَّة لها أُجرة (قُبِل قول مدَّعي الإعارة) مع يمينه؛ لأن الأصل: عدم عقد الإجارة، وحينئذٍ: تردُّ العين إلى مالكها إن كانت باقية (و) إن كان الاختلاف (بعد مضي مدَّة) لها أجرة: فالقول (قول المالك) مع يمينه؛ لأن الأصل في مال الغير الضمان، ويرجع المالك حينئذٍ (بأجرة المثل) لما مضى من المدة؛ لأن الإجارة لم تثبت
(27)
(وإن قال) الذي في يده العين: (أعرتني، أو قال: أجَّرتني قال) المالك (بل
(26)
مسألة: إذا سلَّم زيد لشريكه عمرو عينًا كدار أو دابة؛ ليحفظها ويعلفها ويقوم بمصالحها، بلا استعمال فتلفت وهي تحت يد عمرو: فإنه لا يضمنها إذا لم يفرط فيها أو يتعدَّ؛ للتلازم؛ حيث يلزم من استلامها من زيد أن لا يضمن إذا تلفت؛ لأن شريكه أمين، ويلزم من إذن استعمالها: أنه لا يضمن؛ لكون ذلك هو حقيقة العارية (فرع): إذا سلم زيد لشريكه عمرو دابة بإجارة: فإنها تكون إجارة لها أحكام الإجارة كما سبق.
(27)
مسألة: إذا أخذ زيد من عمرو ثوبًا، واختلفا في هذا الثوب فقال المالك - وهو عمرو -:"إني أجرتك هذا الثوب" وقال من الثوب بيده - وهو زيد -: "بل أعرتنيه"، أو العكس بأن قال عمرو:"أعرتك هذا الثوب" وقال زيد: "بل أجَّرتنيه" ولا توجد بيّنة لكل واحد منهما: فإن فيه التفصيل الآتي اولًا إن وقع هذا الاختلاف بعد العقد وقبل مضي مدَّة لها أجرة مدَّة لها أجرة: فإنه يُقبل قول مَنْ ادَّعى الإعارة مع يمينه: سواء كان المالك - وهو عمرو - أو مَنْ الثوب بيده - وهو زيد - وفي هذه الحالة يُردُّ الثوب إلى المالك - وهو عمرو - إن كان باقيًا؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل عدم عقد الأجرة، وبراءة الذمة منها، ولا يُصرف إلى الإجارة إلا بدليل، ولم يثبت دليل على ذلك، فنستصحب ذلك ونعمل به. ثانيًا: إن وقع =
غصبتني): قول المالك كما لو اختلفا في ردِّها
(28)
(أو قال) المالك: (أعرتك) و (قال) من هي بيده (بل أجَّرتني والبهيمة تالفة): فقول المالك؛ لأنهما اختلفا في
= هذا الاختلاف بعد العقد وبعد مُضي مدَّة لها أجرة: فإنه يُقبل قول المالك - وهو عمرو - مع يمينه فيما مضى من المدَّة دون ما بقي، ويأخذ المالك أجرة المثل بأن يُنظر في السوق عن أجرة هذا الثوب في مدَّة ما مضى من مدة استعمال زيد له؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل في مال الغير الضمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" فنعمل بهذا الأصل؛ لعدم وجود المغيِّر، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من انتفاع زيد بذلك الثوب فيما مضى من المدَّة: أن يدفع بدلًا عن تلك المنفعة، وهو أجرة المثل؛ لكون الأجرة لم تثبت، فإن قلتَ: لِمَ يُطلب منهما اليمين في الحالتين؟ قلتُ: للاحتياط، فقد يكون من ادّعى الإجارة، أو مَنْ الثوب بيده صادقًا، فجُعل هذا اليمين لترجيح قوله، والاستيثاق منه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي: حماية حق كل واحد من المختلفين.
(28)
مسألة: إذا أخذ زيد من عمرو ثوبًا، واختلفا في هذا الثوب فقال مَنْ الثوب بيده - وهو زيد -:"أعرتني هذا الثوب" أو قال: "أجَّرتنيه" فقال المالك - وهو عمرو - "بل غصبتنيه" وهذا الاختلاف واقع بعد مضي مدَّة لها أجرة ولا بيِّنة فإنه يقبل قول المالك هنا، مع يمينه، ويكون على زيد أن يردُّه، وعليه أجرة المثل عن تلك المدة التي استعمل ذلك الثوب فيها؛ لقواعد: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل عدم الإجارة والعارية، فنعمل به؛ لعدم وجود المغيِّر، فيثبت ما ادَّعاه المالك من الغصب الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من انتفاع زيد بذلك الثوب فيما مضى من المدة: أن يدفع بدلًا عن تلك المنفعة وهو: أجرة المثل؛ لعدم ثبوت العارية والإجارة؛ الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أنه لو ادّعى زيد بأنه ردّ الثوب لعمرو - المالك - ونفى ذلك المالك: فإنه يقبل قول المالك فكذلك الحال هنا يُقبل قول المالك، والجامع: عدم القبض في كل، والمقصد من ذلك واضح.
صفة القبض، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان؛ للأثر، ويُقبل
قول الغارم في القيمة
(29)
(أو اختلفا في ردٍّ: فقول المالك): لأن المستعير قبض
العين؛ لحظ نفسه، فلم يُقبل قوله في الرَّدِّ
(30)
، وإن قال:"أودعتني" فقال:
"غصبتني" أو قال: أودعتك قال: "بل أعرتني": صُدِّق المالك بيمينه، وعليه الأجرة
(29)
مسألة: إذا أخذ زيد من عمرو دابة، ثم تلفت، واختلفا: فقال المالك - وهو عمرو: "إني أعرتك إياها" وقال من تلفت تحت يده - وهو زيد -: "أجرتني إيّاها": ولا بيّنة لأحدهما: فإنه يُقبل قول المالك - وهو عمرو - مع يمينه، وعلى زيد أن يدفع مثلها إلى المالك - وهو عمرو - وإن لم يوجد مثل لها: فإنه يدفع له قيمتها يوم تلفها: سواء كانت تلك القيمة أكثر من أجرتها أو أقلَّ؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل عدم الإجارة، والأصل في كل ما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه" فنستصحب هاتين القاعدتين ونعمل بهما؛ لعدم وجود مُغيِّر، والمقصد من ذلك واضح.
(30)
مسألة: إذا استعار زيد من عمرو ثوبًا واختلفا في ردِّها، فقال المستعير: - وهو زيد -: "إني قد رددتها عليك" فنفى ذلك المالك - وهو المعير وهو عمرو - قائلًا: "لم أستلمها" ولا توجد بيّنة لأحدهما: فإنه يُقبل قول المالك مع يمينه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر" والمالك هنا هو المنكر، ولا بيّنة للمستعير، فيُقبل قول المالك مع يمينه، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون المستعير قد قبض العارية لنفع نفسه فقط، دون المعير - وهو المالك وهو عمرو هنا -: أن لا يُقبل قوله في الرَّد؛ لأن من أقرَّ بقبضه لشيء من شخص ثم ادَّعى بردِّه إلى صاحبه: فإنه لا يُقبل قوله إلّا ببيِّنة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المالك والمعير من تحايل بعض الناس على أكل ماله من غير وجه حق.
بالانتفاع
(31)
.
* * *
(31)
مسألة: إذا أخذ زيد من عمرو ثوبًا ثم مضى وقت له أُجرة، فاختلفا: فقال من كان الثوب بيده - وهو زيد -: "إنك أودعتني إياه" - وقال المالك - وهو عمرو -: "بل غصبتني إياه"، أو قال المالك - وهو عمرو -:"أودعتُك" فقال مَنْ كان الثوب بيده - وهو زيد -: "بل أعرتني إياه" ولا بيِّنة لأحدهما: فإنه يُقبل ويُصدَّق قول المالك - وهو عمرو - مع يمينه وعلى زيد أن يدفع أجرة المثل في المدَّة التي استعمل فيها الثوب، ويردُّه إن كان باقيًا، وإن لم يكن باقيًا: فإنه يردُّ قيمته يوم إتلافه؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل قبول قول المنكر، والمالك ينكر فيُقبل قوله، فيكون الثوب مغصوبًا في الحالة الأولى، ووديعة في الحالة الثانية؛ وهذا كله لأجل أن يكون الثوب مضمونًا، فيُعمل بذلك؛ لعدم المغيّر؛ وذلك لضمان حق المالك، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من انتفاع زيد بالثوب مدَّة: أن يدفع أجرته، ويلزم من كونه قد أخذه: أن يردّه أو قيمته.
هذه آخر مسائل باب "العارية" ويليه باب "الغصب وضمان ما أتلفه الأخرون".
باب الغَصب
مصدر "غَصَبَ""يغصِب" - بكسر الصاد - (وهو) لغة: أخذ الشيء ظلمًا، واصطلاحًا:(الاستيلاء) عرفًا (على حق غيره) مالًا كان، أو اختصاصًا (قهرًا بغير حق)، فخرج بقيد "القهر": المسروق، والمنتهب، والمختلس، و "بغير حق": استيلاء الولي على مال الصغير ونحوه، والحاكم على مال المفلس
(1)
، وهو محرَّم؛ لقوله تعالى: {وَلَا
باب الغَصْب، وضمان ما أتلفه الآخرون
وفيه ست وسبعون مسألة:
(1)
مسألة: الغَضب لغة: مصدر: "غَصَبَ""يَغْصِبُ""غصبًا": إذا أخذ شيئًا من آخر قهرًا وظلمًا - كما في المصباح (448) - وهو في الاصطلاح: "استيلاء غير حربي على حق غيره قهرًا بغير حق"، والمراد بـ "استيلاء": الغَلَب، يُقال:"استولى عليه" أي: غلب عليه، ووضع يده على الشيء وتمكَّن منه - كما في المصباح (672) - وأُتي بعبارة "غير حربي" لإخراج ما استولى عليه المسلمون على أموال أهل الحرب وليس بظلم ولا حرب، وكذا: ما استولى عليه أهل الحرب على المسلمين وليس من الغصب؛ إذ ليس في ذلك أحكام الغصب، والمراد بعبارة "على حق غيره" جميع الأموال للمسلمين، أو لأهل الذمة من اختصاصاتهم كالخمور ونحوها، وأتي بلفظ "قهرًا": لبيان أن من شرط الغصب: أن يؤخذ الشيء من صاحبه بعدوان وقهر، فأخرج بذلك:"المسروق" وهو: ما أخذ عن طريق الخفية في أول الأمر وآخره، وأخرج به "المنتهَب" وهو: ما أخذ عن طريق الجهر في أول الأمر وآخره، وأخرج "المختلَس" وهو: ما أخذ عن طريق الخفية في أول الأمر، دون آخره، فهذه الثلاثة لا تدخل في الغصب؛ لعدم وجود القهر والعدوان في "الاستيلاء عليها، وهذا هو الفرق بين "الغصب" و"السرقة" =
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
(2)
(من عَقَار) - بفتح العين: الضيعة، والنخل،
= و"النَّهب" و"الاختلاس"، وأُتي بعبارة:"بغير حق"؛ لبيان أن من شرط الغصب: أن يكون ذلك الاستيلاء بغير وجه حق، وأخرج بذلك: استيلاء الوالد على مال ولده، واستيلاء الولي والوصي على مال صغير، ومجنون، وسفيه، واستيلاء حاكم على مال مفلس، فهذا الاستيلاء بحق، لذا لا تسمَّى غصوبًا، فإن قلتَ: لِمَ ذكر هذا الباب في المعاملات؟ قلتُ: لوجود معاملة بين اثنين -الغاصب والمغصوب- وإن كانت بغير حق.
(2)
مسألة: الغصب حرام؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} فقد حرَّم أكل مال الغير بالباطل؛ لأن النهي مطلق، وهو يقتضي التحريم، وهو عام؛ لأن "الباطل" اسم جنس معرف بأل، وهو من صيغ العموم، فيشمل الغصب؛ لأنه أكل مال الغير بالباطل، الثانية: السنة القولية: وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا: طوَّقه من سبع أرضين" فقد توعَّد الشارع من أخذ شيئًا قليلًا - كالشبر من الأرض - بهذا العقاب، ولا يُتوعَّد على فعله إلّا إذا كان حرامًا، وهو عام؛ لأن "من" الشرطية من صيغ العموم، فيشمل الغصب؛ لأنه أخذ حق الغير ظلمًا، وأخذ غير الأرض مثل الأرض من باب "مفهوم الموافقة"، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم حرام لحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" فقد حرم أخذ مال الغير بدون وجه حق، والتحريم صريح هنا، وهذا عام لجميع الأموال، لأن "أموالكم" جمع منكَّر أضيف إلى معرفة، وهو: الضمير، والغصب أخذ مال الغير فيحرم مثل غيره، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" فنفى حل أخذ مال الغير إلا إذا طابت نفس هذا الغير، وهذا عام؛ لأن "مال" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم والغصب أخذ مال الغير بدون أن تطيب نفسه فيه فيحرم، الثالثة: =
والأرض، قاله أبو السعادات (ومنقول) من أثاث، وحيوان، ولو أم ولد
(3)
، لكن لا
= الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على تحريم الغصب بالتعريف السابق، ومستند هذا الإجماع: الكتاب والسنة، فإن قلتَ: لِمَ حُرِّم الغصب؟ قلت: للمصلحة؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه مضرٌّ بمن غُصبت أموالهم؛ حيث إن هذا المسلم يتعب طول عمره على جمع مال ليعزَّ نفسه فيه، ثم يأتي هذا الغاصب ويأخذه جاهزًا ففي ذلك من الظلم والقهر يؤدِّي كثيرًا إلى مرض هذا المأخوذ ماله فحرم لأجل المحافظة على حقوق الآخرين، ثانيهما: أنه مضر بالمجتمع الإسلامي؛ حيث إنه إذا لم يُحرَّم الغصب فلن يشتغل أحد؛ لأنه سينتظر حتى يجمع أخوه مالًا ليأخذه، وينتفع به، وبهذا تكثر البطالة في المجتمع الإسلامي، فدفعًا لذلك حرم.
(3)
مسألة: إذا غصب شخص عقارات غيره - من مزارع، أو نخيل، أو أراضي، أو دور - أو بعضها، أو غصب منقولات غيره لها ثمن كأثاث منازل، أو حيوانات أو عبيد، أو إماء، أو أمهات أولاد ونحو ذلك: فإن هذا حرام ويضمن إذا تلف، وتجري عليه أحكام الغصب؛ لقواعد؛ الأولى: الكتاب؛ والثانية: السنة القولية: وقد سبق بيانهما في مسألة (2)؛ لكون ما ذكر تُعتبر أموالًا، فيجري عليها الغصب، وهو محرم، وتضمن إذا تلفت. الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن الأمة تضمن بالقيمة فكذلك أم الولد تضمن بالغصب، والجامع: أن كلًّا منهما تجري مجرى المال يُؤيده: أنها تضمن بالقيمة عند الإتلاف، لكونها مملوكه، فإن قلتَ: إن أم الولد لا تضمن بالغصب وهو قول أبي حنيفة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الحرة لا تضمن بالغصب، ولا تضمن بالمال ولا بغيره عند الاستيلاء عليها فكذلك أم الولد مثلها، والجامع: أن كلًّا منهما لا يتعلق بها حقُّ الغير. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الحرة ليست مملوكة، ولا تضمن بالقيمة، بخلاف أم الولد فهي مملوكة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقنا أم الولد بالأمة؛ لأنها أكثر شبهًا بها عندنا، وألحقوها بالحرة؛ لأنها أكثر =
تثبت اليد على بضع، فيصحّ تزويجها، ولا يضمن نفعه
(4)
، ولو دخل دارًا قهرًا، وأخرج ربَّها: فغاصب، وإن أخرجه قهرًا ولم يدخل، أو دخل مع حضور ربِّها وقوته: فلا، وإن دخل قهرًا ولم يخرجه: فقد غصب ما استولى عليه، وإن لم يرد الغصب: فلا، وإن دخلها قهرًا في غيبة ربِّها: فغاصب ولو كان فيها قماشه، ذكره في "المبدع"
(5)
(وإن غصب كلبًا يُقتنى) ككلب صيد، وماشية، وزرع (أو) غصب (خمر
= شبهًا بها عندهم، وهذا يُسمَّى بـ "قياس الشبه" أو "غلبة الأشباه".
(4)
مسألة: إذا غصب شخص امرأة: فإنه يجوز تزويجها لغيره، وإن كانت تحت يد ذلك الغاصب، ولا يضمن نفع هذا البضع - وهو مهرها - بسبب حبسها عن النكاح طول عمرها، فلا يدفعه بسبب هذا التفويت؛ للتلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: أنه يلزم من عدم ثبوت يده على بضعها: جواز تزويجها لغيره؛ لعدم تعدِّي الغصب إلى ذلك البضع، ثانيهما: إن كون النفع يضمن بالتفويت إذا كان مما تصح المعاوضة عليه بالإجارة يلزم منه أن الغاصب لا يضمن نفع البضع - وهو المهر - بسبب حبسها عن النكاح طول عمره؛ لأن البضع لا تصح المعاوضة عليه بالأجرة.
(5)
مسألة: إذا دخل زيد دار عمرو فهل يكون قد غصبها أم لا؟: فيه التفصيل الآتي: أولًا: إذا دخل زيد دار عمرو قهرًا، ثم أخرج عمرًا منها، أو دخلها قهرًا ولم يُخرجه، أو دخلها قهرًا في غيبة عمرو: فإن هذا غاصب لها، أو غاصب لما استولى عليه منها ولو كان فيها أثاث لصاحبها - عمرو -؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من دخوله قهرًا: أن يكون ذلك غصبًا؛ لوجود شرط الغصب، وهو القهر والاستيلاء - كما سبق ذكره في حقيقة الغصب - فتُطبَّق عليه أحكام الغصب: من وجوب ردِّها، وضمان ما تلف بفعله، أو بسبب فعله كهدم لبعض حيطانها، أو أي نقص لحقها، ثانيًا: إذا دخل زيد دار عمرو مع حضور عمرو وقوته: أو دخلها ولم يُرد الغصب: فليس بغاصب لها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الاستيلاء على الدار بالقهر والظلم، وقوة صاحب الدار، وعدم إرادة زيد =
ذمي) مستورة: (ردَّهما)؛ لأن الكلب يجوز الانتفاع به واقتناؤه، وخمر الذمي يُقرُّ على شربها، وهي مال عنده
(6)
(ولا) يلزم أن (يردُّ جلد ميتة) غُصِب، ولو بعد الدبغ؛
= للغصب: عدم تسميته بالغاصب، فلا تُطبَّق أحكام الغصب عليه: فلا يضمن ما تلف بسبب هذا الدخول: سواء كان داخلًا بإذنه، أو غير إذنه، وسواء كان صاحبها - وهو عمرو - فيها أو لا، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُبيِّن الدخول الممنوع من المأذون فيه، ويُبيِّن أيضًا ما يُضمن بسبب الدخول، وما لا يُضمن، ليكون المسلم على بيّنة من أمره.
(6)
مسألة: إذا غصب زيد كلبًا لعمرو قد أباح الشارع اقتناءه مثل: كلب صيد، أو كلب ماشية أو كلب زرع فعليه ردُّه لصاحبه - وهو عمرو -، وكذا: إذا غصب زيد خمرًا مستورًا من كافر ذمي: فيجب على الغاصب - وهو زيد - أن يردَّه إلى هذا الكافر، وكذا يُردُّ كل شيء متنجِّس كدهن ونحوه إلى من أخذ منه؛ للقياس؛ بيانه: كما يجب على الغاصب المال ردُّه إلى المغصوب منه فكذلك يجب ردُّ الكلب، والخمرة، وأيِّ نجس إذا غصبت - على الصفة التي ذكرناها - والجامع: أن كلًّا منها يُسمَّى مالًا يجوز الانتفاع به واقتناؤها، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك هذا فيه حماية أموال وحقوق الآخرين، فإن قلتَ: لِمَ يُرد الخمر إذا غصب مع أنه حرام؟ قلتُ: يُردُّ ذلك إلى الكافر الذمي الذي يُقرُّ على شربها إذا سترها، وهي مال عنده - وهذا من أحكام أهل الذمة كما سبق - (فرع): إذا لم يكن الكلب يُقتنى شرعًا، ولم تكن الخمرة مستورة عند هذا الذمي، وغصبهما شخص: فلا يجب عليه ردُّهما؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: حيث إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن اقتناء الكلب - غير كلب صيد أو ماشية -، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من زوال عصمة خمرة الذمي إذا ظهرت، وحلِّ إراقتها: عدم وجوب ردِّها إلى صاحبها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك من باب التعاون على نبذ كل ما فيه إثم وعدوان وعصيان، أصله قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا =
لأنه لا يطهر بدبغ، وقال الحارثي: يردُّه؛ حيث قلنا: يُباح الانتفاع به في اليابسات، قال في "تصحيح الفروع":"وهو الصواب"
(7)
، (وإتلاف الثلاثة) أي: الكلب، والخمر المحرمة، وجلد الميتة (هدر): سواء كان المتلف مسلمًا أو ذميًا؛ لأنه ليس لها عوض شرعي، لأنه لا يجوز بيعها
(8)
. (وإن استولى على حر) كبير أو صغير: (لم
=
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
(7)
مسألة: إذا أخذ زيد جلد ميتة من عمرو غصبًا: فيجب ردَّه مطلقًا، أي: سواء كان قبل دبغه، أو بعد دبغه؛ للتلازم؛ حيث إن كون هذا الجلد يُعتبر مالًا، وينتفع به يلزم منه: أن يرده غاصبه إلى صاحبه - وهو عمرو -؛ حيث إنه إن لم يُدبغ: فإنه يُنتفع به في أمور لا تتعلَّق بالطاهرات مثل الكلب الذي أباح الشارع اقتناءه، وإن دُبغ: فإنه يطهر، ويجوز بيعه وشراؤه وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (10) من باب "الآنية التي تحفظ فيها المياه" من كتاب:"الطهارة"، فإن قلتَ: لا يجب ردُّ جلد الميتة إذا غُصب مطلقًا: أي: سواء دُبغ أو لا؛ وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يحل بيعه فكذلك لا يجب ردُّه إن غصب والجامع: عدم الانتفاع به، ولا سبيل إلى إصلاحه قلتُ: هذا مبني على مذهب من يقول: "إن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، ولا يُنتفع به" وهو مذهب أكثر الحنابلة، وقد أجبتُ عن أدلتهم في مسألة (10) من باب "الآنية" فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ؟ " فمن قال: يطهر بالدباغ: قال يجب ردُّه - وهو الذي رجَّحناه - ومن قال: إنه لا يطهر بالدباغ: قال: لا يُردُّ، تنبيه: قول الحارثي، وتصويب صاحب الفروع له يدخل فيما رجَّحناه أولًا.
(8)
مسألة: إذا أخذ زيد كلبًا، أو خمر ذمي، أو جلد ميتة من غيره غصبًا، ثم تلفت هذه الأشياء عند هذا الغاصب: فإنه يضمنها لصاحبها، ويدفع قيمتها في يوم إتلافها؛ وهو رأي أبي حنيفة، ومالك؛ للتلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: أنه يلزم =
يضمنه)؛ لأنه ليس بمال
(9)
، (وإن استعمله كرهًا): فعليه أجرته؛ لأنه استوفى
= من كون تلك الأمور مالًا عند المسلمين وغيرهم؛ لانتفاعهم بها: أن تدفع قيمتها عند إتلافها، ثانيهما: أنه يلزم من منع الآخرين من إتلافها: أن يُجبر على دفع قيمتها إذا أتلفها، ولا معنى للمنع من إتلافها إلّا ذلك العقاب، وهو: دفع قيمتها عند إتلافها، ولولا ذلك لاحتال كل أحد على إتلافها ولا يردَّها. فإن قلتَ: إنه إذا أُتلفت هذه الثلاثة: فلا ضمان لها مطلقًا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم العوض الشرعى لها، وعدم جواز بيعها: أن لا تضمن عند تلفها قلتُ: لا نسلِّم أن لا عوض لها شرعي، وأنه لا يجوز بيعها، بل يجوز بيع كلب الماشية، والزرع، والصيد، والجلد، والخمرة المحترمة، - وهي خمرة الذمي المستورة - وهي معصومة؛ لكون عقد الذمة قد عصمها، وما جاز بيعه وشراؤه إلا لأن فيه نفعًا، وما فيه نفع فيه عوض شرعي، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الكلب هل يجوز بيعه أو لا؟ " و "الخلاف في الجلد هل يطهر بالدَّبغ أو لا؟ " و "الخلاف في خمرة الذمي هل هي معصومة أو لا؟ " فمن قال يجوز بيع الكلب، ويطهر الجلد بالدَّبغ، ويُنتفع بهما، وإن خمرة الذمة المستورة معصومة، وهو الذي رجَّحناه قال: إن الغاصب إذا أتلفها: فإنه يجب ضمانها عليه، ومن قال: "لا يجوز بيع الكلب، ولا يطهر الجلد بالدبغ، ولا ينتفع به، وإن الخمرة كلها ليست معصومة - وهو مذهب أكثر الحنابلة -: قال: إن الغاصب إذا أتلفها: لا يجب عليه ضمانها.
(9)
مسألة: إذا استولى شخص على حر كرهًا فتضرَّر ذلك الحر أو مات: فإنه لا يضمنه بالغصب: سواء كان ذلك الحر كبيرًا أو صغيرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الحر ليس بمال - يُباع ويُشترى -: عدم ضمانه بسبب غصبه؛ لكون الغصب لا يثبت فيما ليس بمال، ويُضمن بسبب إتلاف شيء منه: إذا قطع عنه طعامًا أو شرابًا، فتضرر هو، أو أحد أعضائه، وهذا يأتي في باب "الجنايات" فإن قلتَ: لِمَ =
منافعه، وهي متقوَّمة
(10)
(أو حبسه) مدَّة لمثلها أجرة: (فعليه أجرته)؛ لأنه فوَّت منفعته، وهي مال يجوز أخذ العوض عنها
(11)
، وإن منعه العمل من غير غصب، أو حبس: لم يضمن منافعه
(12)
(ويلزم) غاصبًا (ردُّ المغصوب) إن كان باقيًا، وقدر على
= شُرع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه إكرام لأحرار المسلمين.
(10)
مسألة: إذا استولى شخص على حر كرهًا وقهرًا واستعمله كرهًا في خدمة: فتجب على ذلك الشخص أُجرة تلك الخدمة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو انتفع بمنافع عبد غيره فتجب عليه أجرة ذلك، فكذلك الحر هنا مثله والجامع: أنه استوفى منافع كل واحد منهما، وهي متقوَّمة، فلزمه ضمانها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حماية الناس الأحرار من الاستغلال.
(11)
مسألة: إذا استولى شخص على حر كرهًا، وحبسه ومنعه العمل بالقوة مدَّة لها أُجرة: فيجب على هذا الشخص أن يدفع أجرة تلك المدَّة التي حبسه فيها؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو منع عبد غيره من العمل مدَّة لها أجرة: فإنه يجب عليه يدفع أجرة تلك المدة فكذلك الحر هنا مثله، والجامع: أنه في كل منهما قد فوَّت عليه منفعته في تلك المدَّة، والمنفعة مال يجوز أخذ العوض عنها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية الناس من الاستغلال بأي شكل، فإن قلتَ: لا يجب عليه دفع تلك الأجرة، وهو قول الشافعي؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا ضمان لثيابه التي بليت عليه فكذلك لا أجرة لتلك المدة والجامع: أن كلًّا منهما يُعتبر تابعًا لما لا يصح غصبه. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن وقت الحر له منفعة، بخلاف الثياب: فلا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقناه بعبد غيره إذا منعه؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهم ألحقوه بثيابه؛ لأنه أكثر شبهًا بها.
(12)
مسألة: إذا منع شخص حرًا من العمل مدَّة لها أُجرة من غير غصب، ولا حبس فإنه يجب عليه أن يدفع أجرة تلك المدة؛ للقياس على منعه عبد غيره من العمل، =
ردِّه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا لاعبًا ولا جادًّا ومن أخذ عصا أخيه فليردها" رواه أبو داود
(13)
، وإن زاد: لزمه ردُّه (بزيادته) متصلة كانت أو منفصلة؛ لأنها من نماء المغصوب، وهو لمالكه، فلزمه ردُّه كالأصل
(14)
(وإن غرم) على ردِّ
= وقد سبق بيانه في مسألة (11) فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وقد ذكرناها في مسألة (11)، ولأنه لا وجود لمنع بلا حبس أو غصب، أو تهديد بشيء، فهي كمسألة (11)، فإن قلتَ: لا يضمن البائع منافعه، فلا يدفع أجرة تلك المدَّة وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو فعل ذلك بعبد غيره لم يضمن منافعه، ولا أجرة لذلك فكذلك الحال هنا والجامع: عدم حصول الحبس والغصب في كل قلت: لا نسلِّم لكم الأصل الذي قستم ذلك عليه فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "الخلاف في المنع هل يُتصوَّر بلا غصب وحبس؟ " فعندنا: لا يتصوَّر إلا بالحبس أو الغصب أو التهديد فلذلك لا فرق بين هذه المسألة ومسألة (11) عندنا، وعندهم: يُمكن أن يُتصوَّر ذلك، فلذلك فرّقوا بينهما بما ذكروه.
(13)
مسألة: إذا غصب شخص ثوبًا أو غيره من شخص آخر: فيجب عليه أن يردَّه - أي: يردُّ ذلك المغصوب وهو الثوب - إلى صاحبه إن كان باقيًا على حاله، ولم يُوجد مانع من ردِّه؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن أخذ عصا أخيه فليردها" فأوجب ردَّ ما أخذ غصبًا إلى صاحبه؛ لأن الأمر في قوله: "فليردها" مطلق، وهو يقتضي الوجوب، والمأخوذ غصبًا غير العصا من جميع الأموال مثل العصا بل أولى من باب "مفهوم الموافقة"؛ لكون المقصد هو: ردُّ ما أخذ: سواء كان قليلًا أو كثيرًا، وثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه" فأوجب ردَّ كل ما أخذ من الآخرين؛ لأن "على" من صيغ الوجوب، أي: لا تبرأ ذمة الآخذ إلّا إذا ردَّ ذلك المأخوذ، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إرجاع الحقوق إلى أهلها.
(14)
مسألة: إذا غصب شخص من آخر: ثم زاد هذا المغصوب بأن ولدت البهيمة =
المغصوب (أضعافه)؛ لكونه بنى عليه، أو بُعْد ونحوه
(15)
(وإن بني في الأرض) المغصوبة (أو غرس: لزمه القلع) إذا طالبه المالك بذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق"(و) لزمه (أرش نقصها) أي نقص الأرض، (وتسويتها)؛ لأنه ضرر حصل بفعله (والأجرة) أي: أجرة مثلها إلى وقت التسليم
(16)
، وإن بذل ربُّها قيمة
المغصوبة، أو كسب العبد المغصوب أو نحو ذلك: فيجب على الغاصب ردُّ العين المغصوبة وزياداتها مهما كانت سواء كانت هذه الزيادة قليلة أو كثيرة، وسواء كانت هذه الزيادة متّصلة، أو منفصلة؛ للقياس؛ بيانه: كما يجب على الغاصب ردُّ الأصل -وهي العين المغصوبة كما سبق في مسألة (13) فكذلك يجب ردُّ زيادتها مطلقًا إلى صاحب العين المغصوبة والجامع: أن كلًّا من الأصل المغصوب- وهي العين المغصوبة - وزياداتها تدخل في ملك صاحبها؛ لأن تلك الزيادات من نماء ذلك المغصوب، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ضمان حقوق الآخرين وما تولَّد منها، وإن طال الزمن.
(15)
مسألة: إذا غَصَب شخص من آخر شيئًا، وأراد هذا الغاصب أن يردَّ هذا الشيء المغصوب إلى صاحبه: فإن جميع تكاليف ردِّ ذلك وغراماته يدفعها ذلك الغاصب، فمثلًا: لو غصب خشبة وبنى عليها، ثم أراد هذا الغاصب ردِّها: فإنه ينقض ذلك البناء عليها، ولو كلَّفه ذلك النقض أضعاف قيمة الخشبة، وكذلك يردَّها ولو كانت بعيدة عن مكان وجوده، فلو كان هذا الغاصب في مكّة، وتلك الخشبة في الرياض أو القاهرة: فإنه لا بدَّ أن يحضرها لصاحبها، ولو كلَّفه ذلك أضعاف ثمنها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الغاصب قد جنى واعتدى بأخذ ذلك المغصوب -وهو الخشبة مثلًا-: أن تكون جميع تكاليف ردِّها عليه ولا يُنظر إلى الضرر الذي يلحقه، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك هو الجزاء الموافق للقواعد الكلية للشريعة، وفيه منع الناس من الاعتداء على حقوق الآخرين.
(16)
مسألة: إذا غصب شخص أرضًا، ثم بنى عليها، أو غرس فيها، وأراد ردَّ تلك =
الغراس والبناء؛ ليملكه: لم يلزم الغاصب قبوله، وله قلعهما
(17)
، وإن زرعها وردَّها
الأرض لصاحبها: فيجب على ذلك الغاصب: أن يهدم البناء، ويقلع الغرس ويُسوِّيها ويجعلها مثل ما كانت قبل غصبها هذا إذا طالبه صاحبها -وهو مالكها-، ويدفع أرش نقص الأرض لصاحبها إن كان ثمنها قد نقص بسبب بنائه عليها، أو الغرس فيها، ويدفع أجرة مثل تلك الأرض مدَّة غصبها إلى تسليمها إلى صاحبها، هذا يكون بعد طلب صاحبها لذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق" فنفى الحق لمن غرس في أرض غيره، ويلزم من ذلك وجوب قلع ذلك؛ لكونه مبني على باطل، والبناء على الأرض كالغرس، من باب "مفهوم الموافقة". الثانية: التلازم، وهو من وجهين: أولهما: أنه يلزم من كون الغاصب قد شغل ملك غيره بملكه بغير إذنه: إزالته وإفراغه عن ذلك الشغل؛ لكونه ضررًا قد حصل بفعله، فيلزمه إزالة ذلك الضرر. ثانيهما: أنه يلزم من تلف منافعها تحت يده المعتدية: أن يدفع أجرة مثلها لصاحبها، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إرجاع الحقوق إلى أهلها، ومتع الاعتداء على حقوق غيرهم واغتصابها، فإن قلتَ: لِمَ قُيِّد ذلك بمطالبة صاحبها؟ قلتُ: لأن مالك الأرض إن لم يُطالب بهدم البناء وقلع الزرع فلا يلزم الغاصب هدمه، وقلعه؛ للتلازم؛ حيث إن هذا من حق المالك فإذا أسقط حقه: فلا يلزم الغاصب هدم البناء، وقلع الزرع؛ لكون ذلك مصلحة قد يُريدها المالك.
(17)
مسألة: إذا غصب شخص أرضًا، ثم بنى أو غرس فيها، وأراد ردَّها لصاحبها، وطلب صاحبها من ذلك الغاصب إبقاء ذلك البناء وذلك الغرس عليها ليملكه ودفع مالكها وصاحبها قيمته -أي: قيمة ذلك البناء وذلك الغراس-: لم يلزم الغاصب قبول ذلك، فإن شاء قبل ذلك وأخذ القيمة، وإن شاء لم يقبل ويهدم البناء ويقلع الغرس؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الغاصب لو وضع في الدار المغصوبة =
بعد أخذ الزرع: فهو للغاصب، وعليه أجرتها
(18)
، وإن كان الزرع قائمًا فيها: خُيِّر ربُّها بين تركه إلى الحصاد بأُجرة مثله، وبين أخذه بنفقته، وهي مثل بذره، وعوض لواحقه
(19)
(ولو غصب جارحًا أو عبدًا، أو فرسًا فحصل بذلك) الجارح، أو العبد،
أثاثًا، ودفع مالك الدار قيمة ذلك الأثاث: لم يلزم الغاصب قبول ذلك، وعليه إزالة أثاثه، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا من البناء والزرع، والغرس والأثاث عين مال الغاصب، فلا يلزم، ببيعه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعطاء كل ذي حق حقه، فلا يُنقص الإنسان حقه وإن كان غاصبًا أو معتديًا على الآخرين في جانب من جوانب الحياة.
(18)
مسألة: إذا غصب أرضًا فزرعها ذلك الغاصب، ثم ردَّها بعد حصاده لذلك الزرع: فذلك الزرع ملك للغاصب، ويجب عليه أن يدفع أجرة مثل تلك الأرض من أول وقت غصبها إلى وقت رد وتسليم تلك الأرض إلى مالكها، وعليه ضمان وأرش النقص إن حصل ولو لم يزرعها؛ للتلازم؛ وهو من وجوه: أولها: أنه يلزم من كون الزرع من نماء مال الغاصب: أن يكون ذلك الزرع ملكًا له، ثانيها: أنه يلزم من استيفاء الغاصب نفع الأرض: أن يدفع عوضًا عن ذلك النفع، وهو أجرة مثلها من وقت غصبه إيّاها إلى تسليمها إلى مالكها، ثالثها: أنه يلزم من جناية الغاصب عليها الذي تسبَّب في نقصان قيمتها: أن يدفع أرش وضمان ذلك النقصان -وقد سبق- فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وقد بيَّناها في مسألة (17).
(19)
مسألة: إذا تمكَّن مالك الأرض من أخذها من غاصبها، وفيها زرع لذلك الغاصب: فإن مالكها يُخيَّر بين أمرين: أولهما: إما أن يترك الغاصب في الأرض إلى أن يحصد زرعه، ويلزمه بأن يدفع أُجرة مثل تلك الأرض من وقت غصبها إلى الحصاد وتسليمه الأرض، ثانيهما أو يأخذ مالك الأرض الزرع، ويدفع إلى الغاصب جميع نفقاته وتكاليفه على ذلك الزرع: من بذر، وأجرة حرث، وسقي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلى أن استلمها منه مالكها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم: فليس له من الزرع شيء، وله نفقته" وهذا عام، فيشمل الغاصب؛ لأن "مَنْ" الشرطية من صيغ العموم، ويلزم من جملة:"وله نفقته": أن يردَّ مالك الأرض إلى الغاصب جميع النفقات التي أنفقها على ذلك الزرع ويأخذ مالكها الأرض والزرع -وهذا دليل الثاني من الأمرين المخيَّر بينهما- الثانية: المصلحة؛ حيث إنه أمكن بذلك ردُّ المغصوب إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب، وذلك بدفع أجرة المثل، وهذا فيه جمع بين المصلحتين -وهذا دليل الأول من الأمرين المخيَّر بينهما- فإن قلتَ: إن الزرع لمالك الأرض، وهو يملك إجبار الغاصب على قلع ذلك الزرع؛ للقياس؛ بيانه: كما يملك مالك الأرض من إلزام الغاصب قلع غرسه -كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق" ـ -كما سبق في مسألة (16) - فكذلك الزرع مثل الغرس والجامع: أن كلًّا منهما قد استعمل أرض غيره بغير حق. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن مدَّة الغرس تطول، ولا يُعلم متى ينقلع من الأرض، وانتظاره يؤدّي إلى ترك الأرض بالكلية، وفواتها على مالكها، بخلاف الزرع فمدَّته قصيرة جدًا كما هو معلوم، فإتلافه يلحق الضرر بهما معًا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة القولية" فنحن أعملنا الحديث الأول على أن المقصود به الزرع خاصة، للتصريح به، وإذا ورد في حكمه نص فلا يجوز قياسه على الغرس والشجر؛ إذ لا قياس مع النص، ويلزم منه: أن يخصص حديثهم بالغرس فقط، وهذا جمع بين الحديثين، أما هم فالظاهر: أنهم لم يُصححوا الحديث الوارد بالزرع -إذ لو صحَّ عندهم: لما جاز لهم أن يقيسوا الزرع على الغرس -وهو الشجر-؛ إذ لا قياس مع النص عندنا وعندهم كما سبق ذكره، ثم إنه لو لم يصح الحديث، فلا يصح قياس الزرع على الغرس؛ =
أو الفرس (صيد: فلمالكه) أي: مالك الجارح ونحوه؛ لأنه حصل بسبب ملكه فكان له، وكذا: لو غصب شبكة، أو شركًا، أو فخًا، وصاد به، ولا أُجرة لذلك، وكذا: لو كسب العبد بخلاف ما لو غصب منجلًا، وقطع به شجرًا أو حشيشًا: فهو للغاصب؛ لأنه آلة، فهو كالحبل يُربط به
(20)
(وإن ضَرَبَ المصوغ) المغصوب (ونَسَجَ
لوجود الفرق بينهما كما سبق ذكره.
(20)
مسألة: إذا غصب شخص شيئًا جارحًا، أو عبدًا أو فرسًا، أو سهمًا، أو قوسًا، أو شبكة، أو شركًا، أو فخًا، وصاد بذلك صيدًا، أو تكسَّب أيَّ شيء على ما سبق: فإن الصيد والكسب -كله للغاصب، وكذا: لو غصب منجلًا- وهو: ما يُحصد به وهو المخلب، والمحش عندنا -وحصد أو قطع به شجرًا، أو حشيشًا: فالحشيش والشجر للغاصب؛ وعليه أجرة المثل للجارح، والعبد، والغرس، والسهم، والقوس، والشبكة، والشرك، والفخ، والمنجل يدفعه لمالك هذه الأشياء من أول ما غصبها إلى وقت تسليمها له؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الغاصب لو ذبح بهيمة بسكين غيره، أو ربط بحبل غيره جمعًا من الحطب: فإن البهيمة والحطب للغاصب، وعليه أجرة المثل للسكين والحبل يُسلِّمها لمالك السكين والحطب فكذلك الحال ما نحن فيه مثله، والجامع: أنه حصل الصيد، وقطع الشجر والحشيش بفعل الغاصب، وتصرُّفه أما تلك الأمور فهي آلات، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه جمع بين المصلحتين؛ ومحافظة لحق الطرفين، فالمالك قد ضُمن له أُجرة ما غُصب كل وقت الغصب، والغاصب قد ضمن له ما حصل بفعله وجهده وتعبه، فإن قلتَ: إن الصيد والكسب يكون لمالك هذه الأشياء ولا أجرة لذلك، بخلاف ما لو غصب منجلًا وقطع به شجرًا أو حشيشًا: فهو للغاصب؛ وهو ما ذكر المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الصيد والكسب حصل بسبب هذه الأشياء التي يملكها: أن يكون الصيد والكسب له -أي: للمالك-، ويلزم من كون المنجل آلة، والقطع =
الغزل، وقصر الثوب، أو صبغه، ونجر الخشبة) بابًا (ونحوه، أو صار الحب زرعًا و) صارت (البيضة فرخًا و) صار (النوى غرسًا: ردَّه، وأرش نقصه) إن نقص (ولا شيء للغاصب) نظير عمله، ولو زاد به المغصوب؛ لأنه تبرُّعٌ في ملك غيره
(21)
، وللمالك إجباره على إعادة ما أمكن رده إلى الحالة الأولى كحلي، ودراهم، ونحوهما
(22)
(ويلزمه) أي: الغاصب (ضمان نقصه) أي: المغصوب، ولو بنبات لحية
حصل بفعل الغاصب: أن يكون الشجر والحشيش له -أي: للغاصب- قلتُ: لا يُوجد دليل على هذا التفريق في الحكم في هذه المسألة، فكل من الصيد، والكسب، والشجر والحشيش حاصل بفعل الغاصب، وهذه الأشياء آلات مجرَّدة، فقولنا بإعطاء كل من المالك والغاصب حقه أقرب إلى الإنصاف والعدالة وموافق للمصالح العامة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: تعارض "التلازم مع القياس والمصلحة" فعندنا: يعمل بالقياس والمصلحة، وعندهم: يُعمل بالتلازم.
(21)
مسألة: إذا غصب شخص مصوغًا أو شعيرًا، أو غزلًا، أو ثوبًا، أو خشبة، أو حبًّا، أو بيضًا، أو نوى، أو أغصانًا، فضرب ذلك المصوغ، ونسج الغزل ثوبًا أو فراشًا، وقصر الثوب، أو صبغه، أو نجر الخشبة وجعلها بابًا، أو صار الحب زرعًا، والأغصان شجرًا، والبيض فراخًا ودجاجًا، والنوى غرسًا: فإنه يجب على الغاصب ردُّ كل ما غصبه، وما نتج عنه إلى مالكه، وإن نقصت أثمان تلك الأشياء بسبب ما لحقها: فيجب أن يدفع أرش هذا النقص لمالكها، ولا شيء للغاصب؛ للتلازم؛ حيث إن الغاصب فعل ذلك بكل عين غصبها من مالكها من غير إذنه، فيلزم: أن لا شيء لذلك الغاصب؛ لأن هذه التصرفات تُعتبر لاغية، فهو كمن تبرَّع في ملك غيره بغير إذنه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إرجاع الحق إلى أهله، وفيه منع أخذ بعض الناس حقوق غيرهم بغير إذنهم.
(22)
مسألة: إذا غصب شخص إناء ونحوه، أو بابًا ونحو ذلك، وغيَّر الغاصب ذلك =
أمرد، فيغرم ما نقص من قيمته، وإن جنى عليه: ضمنه بأكثر الأمرين ما نقص من قيمته، وأرش الجناية؛ لأن سبب كل واحد منهما قد وُجد، فوجب أن يضمنه بأكثرهما
(23)
، (وإن خصي الرقيق: ردَّه مع قيمته)؛ لأن الخصيتين، يجب فيهما كمال
المغصوب بما يناسبه فإذا أراد ردَّه إلى مالكه: فإن المالك يُجبره على إعادته على ما كان قبل غصبه إذا تمكَّن من إعادته إلى حالته الأولى بدون ضرر ذلك المغصوب كالأواني والحلي، والدراهم ونحو ذلك، أما إن لم يتمكَّن من إعادته إلى حالته الأولى إلّا بفساده: فلا يحق للمالك إجاره على إعادته، والغاصب لا يحق له إفساده؛ للمصلحة: حيث إن مصلحة المالك تقتضي إعادته على ما كان قبل غصبه؛ ليتمكّن من الانتفاع به كما كان سابقًا، فإذا كانت تلك الإعادة تتسبَّب في إفساد ذلك المغصوب على المالك: فلا يُعاد كما كان؛ ليتمكّن ذلك المالك من الانتفاع به.
(23)
مسألة: إذا غصب شخص شيئًا، فتلف بعض هذا الشيء وهو عند الغاصب فنقصت قيمته: فيجب على الغاصب ردُّ هذا الشيء المغصوب إلى مالكه، ويضمن ويغرم ما نقص من قيمته، فمثلًا: لو غصب عبدًا أمردًا كان يساوي عشرة آلاف، فنبتت لحيته عند الغاصب، ونقصت قيمته فصارت ثمانية آلاف فإن الغاصب يردُّه، ويردُّ معه ألفين، وكذا لو غصبه وهو بصير سميع ناطق، له يدان، وهو يساوي عشرة، فجنى عليه فعمي، أو أصابه صمم، أو خرس، أو فقد إحدى يديه، وصار يساوي بعد ذلك ثمانية: فإن الغاصب يردُّه إلى مالكه، ويردُّ معه أرش الجناية وهو: ألفان للقياس؛ بيانه: كما أنه لو جنى على عبد غيره أو على بهيمة بدون غصب: فيجب عليه أن يردَّ العبد، والبهيمة مع أرش تلك الجناية، وهو ما نقص من قيمة ذلك العبد، والبهيمة، فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما قد فوَّت شيئًا له قيمة، فوجب أن يجبره بقدره من القيمة، فإن قلتَ: إنه إن جنى عليه فنقصت قيمته: فإن يضمنه بأكثر الأمرين: إما =
القيمة، كما يجب فيهما كمال الدية من الحر، وكذا: لو قطع منه ما فيه دية كيديه، أو ذكره، أو أنفه
(24)
أن يدفع ما نقص من قيمة العبد المغصوب بالجناية، أو أرش الجناية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود سبب كل واحد من الأمرين: أن يضمنه بأكثرهما ثمنًا على الغاصب، للتفاوت بين ضمان الغصب وضمان الجناية، قلتُ: إنه لا فرق بينهما؛ حيث إن ضمان الغصب هو ضمان الجناية ثم إن ضمان الغاصب ودفعه لأكثر الأمرين -إما قيمة النقص أو الأرش- فيه نوع ظلم على الغاصب، فدفعًا لذلك: قلنا ما ذكرناه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في ضمان الغصب هل هو ضمان الجناية أو لا؟ فعندنا: نعم، وعندهم: لا.
(24)
مسألة: إذا غصب شخص عبدًا فقطع شيئًا منه فيه الدية كاملة -فيما لو قطع من الحر- كأن يقطع خصيتيه، أو يديه، أو ذكره، أو لسانه، أو أنفه: فيجب عليه أن يردُّ ذلك العبد المغصوب إلى مالكه، ويردُّ قيمته كلها، فمثلًا: لو غصب عبدًا يساوي عشرة آلاف، ثم قطع خصيتيه، أو لسانه: فإنه يرد العبد، وعشرة آلاف معه إلى مالكه، وهذا مطلق: أي: سواء زادت قيمة العبد بسبب الخصاء، أو قطع اللسان، أو قلَّت؛ للقياس؛ بيانه: كما أن هذه الأشياء لو قُطعت من الحر لوجب على القاطع كمال الدية، وبقاء الحر على حريته، فكذلك لو قطع الغاصب تلك الأشياء من العبد: فإنه يدفع كل قيمة العبد مع بقاء العبد في ملك سيده، والجامع: أنه في كل منهما قد وقع التلف على البعض، ويُضمن ذلك المفوَّت، فلا تزول الحرية، أو الملك عن غيره بذلك الضمان، فإن قلتَ: إنه يُخيَّر مالك العبد بين أن يصبر، فلا يأخذ شيئًا الغاصب الجاني، وأما أن يأخذ قيمة عبده -وهي العشرة آلاف- ويملك الغاصب الجاني العبد؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو أتلف مالًا: فإن المتلف يدفع قيمة ما أتلفه، ويملكه، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما فيه ضمان مال فلا يبقى ملك صاحبه عليه مع =
(25)
(وما نقص بسعر: لم يضمن)؛ لأنه ردَّ العين بحالها لم ينقص منها عين ولا صفة فلم يلزمه شيء
(26)
(ولا) يضمن نقصًا حصل (بمرض) إذا
ضمانه قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الضمان في العبد في مقابلة التالف فقط، لا في مقابلة الجملة، بخلاف ضمان المال إذا أتلفه فإنه في مقابلة الجملة؛ إذ ما بقي من المال لا يصلح للاستفادة منه، فيكون ضمانة في مقابلة جملته، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقناه بالحر، لأنه أكثر شبهاً به عندنا، وهم ألحقوه بالأموال العامة؛ لأنه أكثر شبهًا بها عندهم، وهو المسمَّى:"قياس الشبه" أو "غلبة الأشباه".
(25)
مسألة: إذا غصب دابة، ثم جنى على أي عضو منها كأن أتلف عينها، أو رجلها: فإنه يضمن ما نقص من قيمتها، فمثلًا: لو كانت الدابة تساوي قبل ذلك الإتلاف خمسمائة ريال، وصارت بعد ذلك الإتلاف تساوي ثلاثمائة: فإن الغاصب الجاني يرد الدابة إلى مالكها ويدفع له مائتي ريال؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو أتلف بعض دار: فإنه يجب على المتلف دفع الدار وقيمة ما نقص من قيمتها، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما مال قد أتلف بعضه، وبقي البعض الآخر يستفاد منه. فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحقوق الناس من اعتداء الآخرين عليها.
(26)
مسألة: إذا غصب شخص ثوبًا كانت قيمته عشرة دراهم وقت الغصب، ثم نقصت قيمته أثناء مدَّة غصبه، فصارت قيمته ثمانية دراهم ثم ردَّه: فإنه يضمن الدرهمين، أي: يردُّه مع درهمين إلى مالكه، وهو مذهب كثير من العلماء: منهم أبو ثور، وابن تيمية وهو رواية عن أحمد، للقياس؛ بيانه: كما أنه لو غصب الثوب فتلف: فإنه يضمنه فكذلك إذا نقصت قيمته وهو عنده: فإنه يضمن ذلك النقص، والجامع: أن الغاصب هو السبب في نقصان قيمته في كل، فيتحمَّله، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع ضرر عن مالك الثوب المغصوب؛ لأن الغاصب حرمه من الدرهمين، فلا بدَّ من تعويضه، ولو لم =
(عاد) إلى حاله (ببرئه) من المرض؛ لزوال موجب الضمان، وكذا: لو انقلع سنُّه ثم عاد
(27)
، فإن ردَّ المغصوب معيبًا، وزال عيبه في يد مالكه، وكان أخذ الأرش: لم يلزمه ردُّه؛ لأنه استقر ضمانه بردِّ المغصوب وإن لم يأخذه: لم يسقط ضمانه؛
يضمن ذلك: لتحايل كثير من الناس إلى إمساك حقوق غيرهم حتى تنقص أثمانها، ثم يغردُّونها فدفعًا لذلك: شرع هذا، فإن قلتَ: لا يضمن الغاصب هذين الدرهمين، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الغاصب لو ردَّ الثوب وهو لم ينقص منه شيء: فإنه لا يضمن شيئًا، فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه ردَّ العين -وهو الثوب- بحالها لم تنقص منها عين ولا صفة فلم يلزمه شيء في كل، قلتُ: لا نسلِّم ذلك، بل نقصت قيمته؛ إذ لو باعه مالكه في أثناء وقت غصبه لكانت قيمته عشرة، ولكن منع من ذلك الغاصب، فيكون الغاصب هو المتسبِّب في نقص ثمنه، وهذا مضر بمالكه، ورفع الضرر عن الآخرين مطلوب شرعًا، فلا يُسلَّم ما قالوه؛ لكون النقص على المالك واضح، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقناه بمن أتلف ثوبًا بكامله؛ لأنه أكثر شبهًا به عندنا، وألحقوه برد الثوب السالم عن النقص؛ لكونه أكثر شبهًا به عندهم، وهذا هو المسمَّى بـ"قياس الشبه" أو "غلبة الأشباه".
(27)
مسألة: إذا غصب شخص شيئًا، فنقصت قيمته لمرض ونحوه عند الغاصب، ثم عادت قيمته كما كانت وهو عنده ثم ردُّه إلى مالكه: فلا شيء عليه، فمثلًا: لو غصب شخص عبدا يساوي ألف درهم، ثم مرض عنده أو انقلع ضرسه فأصبح لا يساوي إلّا سبعمائة فقط، ثم شفي، وعادت قيمته كما كانت أولًا -وهي: ألف درهم- ثم ردَّه إلى مالكه: فلا شيء على الغاصب، أي: لا ضمان عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من زوال موجب ومسبب الضمان: عدم الضمان، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المالك لم يتضرَّر بشيء، فلو أُوجب ضمان =
لذلك
(28)
(وإن عاد) النقص (بتعليم صنعة) كما لو غصب عبدًا سمينًا قيمته مائة، فهزل فصار يساوي تسعين، وتعلَّم صنعة فزادت قيمته بها عشرة:(ضمن النقص)؛ لأن الزيادة الثانية غير الأولى
(29)
(وإن تعلَّم) صنعة زادت بها قيمته عند الغاصب (أو
النقص الذي زال قبل الرَّد على الغاصب: للحق الضرر على الغاصب، فدفعًا لذلك شرع هذا.
(28)
مسألة: إذا غصب شخص عبدًا مثلًا، ثم نقصت قيمته بسبب مرض، أو أي عيب أصابه وهو عند الغاصب ثم ردَّه ذلك الغاصب إلى مالكه مع أرش ذلك النقص وضمانه -كما قلنا في مسألتي (23 و 24) - ثم شُفي ذلك العبد، أو زال العيب وهو عند مالكه وعادت إليه قيمته: فلا يلزم مالكه أن يردَّ الأرش الذي أخذه إلى الغاصب، وكذا: لو لم يأخذ المالك ذلك الأرش: فإنه لا يسقط عن الغاصب، فيجب عليه -أي: على الغاصب- دفعه وإن زال المرض والعيب عن العبد وهو عند مالكه؛ للتلازم؛ حيث إن ضمان ما نقص من العبد قد استقرّ وثبت حينما ردَّه: فلا يُزيل هذا الاستقرار للضمان زوال المرض أو العيب وهو عند مالكه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حفظ حق المالك؛ وهذا منضبط؛ إذ لو سقط الأرش لاحتمل أن ينتظر الغاصب فلا يُسلِّم للمالك شيئًا حتى يرى هل يزول المرض أو العيب، وهذا لا نهاية له.
(29)
مسألة: إذا غصب شخص عبدًا سمينًا مثلًا يساوي مائة درهم، فهزل عند الغاصب حتى أصبح لا يساوي إلّا تسعين، ولكن زادت قيمته بشيء غير جنس الأول، فتعلَّم صنعة كنجارة وهو عند الغاصب، فصار يساوي مائة درهم: فإن الغاصب يضمن النقص الحال له لما هزل، فيجب عليه -أي: على الغاصب- أن يردّ العبد مع عشرة دراهم، وإن كان قد تعلَّم صنعة زادت بها قيمته فهذا لا يُؤثِّر؛ للتلازم؛ حيث إن الواجب أن يرد الغاصب المغصوب كما كان عند وقت غصبه، وهو هنا ردَّه بصفة تختلف عن صفته التي هو عليها عند غصبه: فيلزم =
سمن) عنده (فزادت قيمته، ثم نسي) الصنعة (أو هزل، فنقصت) قيمته: (ضمن الزيادة)؛ لأنها زيادة في نفس المغصوب، فلزم الغاصب ضمانها كما لو طالبه بردِّها فلم يفعل و (كما لو عادت من غير جنس الأول) بأن غصب عبدًا فسمن، فصار يساوي مائة، ثم هزل فصار يساوي تسعين، فتعلَّم صنعة فصار يساوي مائة: ضمن نقص الهزال؛ لأن الزيادة الثانية غير الأولى
(30)
(و) إن كانت الزيادة الثانية (من
ضمان تلك الصفة المفقودة عند ردِّه؛ حيث إنه أخذه وهو سمين وردُّه وهو هزيل، فلم يكن كما كان في صفته، فلذا وجب ضمان ما فُقد، أما زيادة قيمته بسبب الصنعة التي تعلَّمها -وهي النجارة هنا- فهذا لا يؤثِّر في إسقاط الضمان؛ إذ قد يكون مقصود مالكه: كونه جاهلًا ولكنه قوي، والجهل أحيانًا نعمة يقصدها الأسياد في عبيدهم، والأزواج في زوجاتهم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة لمقاصد الملَّاك في أملاكهم، وقطع التحايل لأخذ حقوق الآخرين.
(30)
مسألة: إذا غصب شخص عبدًا مثلًا يساوي مائة، ثم سمن أو تعلَّم صنعة -كنجارة مثلًا- عند الغاصب فصار يساوي مائتين، ثم هزل، أو نسي ما تعلَّمه -وهو عند الغاصب- فنقصت قيمته إلى أن صار سعره مائة: فيجب على الغاصب أن يردُّه كما أخذه ولا يضمن تلك الزيادة -وهي المائة الآخرى- إلّا أن يُطالب مالكه بردِّه حال كونه سمينًا، أو متعلِّمًا فلم يفعل الغاصب فهنا يضمن تلك الزيادة وهو رواية عن أحمد، وهو قول مالك وأبي حنيفة؛ للتلازم؛ حيث إنه ردَّ العين المغصوبة -وهو العبد هنا- كما أخذها؛ حيث إن العبد لما غصبه كان يساوي مائة، فردَّه وهو يساوي نفس القيمة فيلزم: عدم ضمان تلك الزيادة الطارئة في قيمته؛ لأنه لم يحرمه من شيء، ويلزم من مطالبة مالكه له حال تلك الزيادة وعدم ردِّ الغاصب هذا العبد إليه: أن يضمن تلك الزيادة؛ لأنه طالبه بالمغصوب وهو متصف بالسِّمن أو تعلُّم تلك الصنعة، ورده إليه لما هزل، أو =
جنسها) أي: من جنس الزيادة الأولى كما لو نسي صنعة ثم تعلَّمها، ولو صنعة بدل صنعة:(لا يضمن)؛ لأن ما ذهب عاد، فهو كما لو مرض ثم برئ
(31)
(إلا
نسي وتسبَّب هذا في نقصان قيمته، مما أدَّى إلى حرمان المالك من ذلك فاستحقّ تلك الزيادة، فيضمنها له الغاصب إذا نقصت، فإن قلتَ: إن الغاصب يضمن تلك الزيادة، فيرد العبد ومائة ويُسلِّمهما للمالك، وهو ما ذكره المصنف هنا، وهو رأي الشافعي؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو ردَّه بصفة غير جنس الأول: فإنه يضمن النقص الحاصل له -كما سبق في مسألة (29) - وكذلك: كما أنه لو طالبه بردِّها حال تلك الزيادة فامتنع الغاصب من ردِّها: فإنه يضمن، فكذلك الحال هنا مثل هاتين الصورتين، والجامع: حصول الزيادة في نفس المغصوب ونقصانها في كل، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الغاصب قد ردَّ المغصوب بصفة غير الصفة التي أخذها وهي فيه، فضمن لأجل ذلك -كما سبق في مسألة (29) - وكذلك إذا طالب المالك الغاصب بأن يُسلِّمه عبده وهو في حال السِّمن، أو تعلُّم الصنعة فامتنع الغاصب: فإنه يضمن نقصان تلك الزيادة؛ لكونه استحقه بمطالبته، فحرمه منها، فيضمن الغاصب القيمة التي حرم المالك منها، بخلاف ما نحن فيه: فالمالك قد استلم عبده في صفته التي أُخذ منه وهو عليها، فلم يتغيّر عليه شيء يضمن، ولم يطالبه في حال زيادة قيمة العبد أثناء السِّمن أو تعلم الصنعة، ومع الفرق، لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم" فعندنا: التلازم أقوى؛ لما ذكرناه.
(31)
مسألة: إذا غصب شخص عبدًا مثلًا، وكان هذا العبد يعرف صنعة النجارة مثلًا وكان يساوي مائة، ثم نسي النجارة عند الغاصب، ثم تعلَّمها، أو تعلَّم صنعة أخرى من جنس الأولى، ولم تتغيَّر قيمته: فإن الغاصب يرده، ولا يضمن شيئًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العبد المغصوب لو مرض عند الغاصب ثم شُفي فردَّه إلى مالكه: فإنه لا يضمن شيئًا إذا لم تتغير قيمته بسبب ذاك المرض، فكذلك الحال =
أكثرهما) يعني إذا نسي صنعة وتعلَّم أخرى، وكانت الأول أكثر: ضمن الفضل بينهما؛ لفواته وعدم عودة
(32)
وإن جنى المغصوب: فعلى غاصبه أرش جنايته
(33)
.
فصل: (وإن خلط) المغصوب بما يتميّز كحنطة بشعير، وتمر بزبيب: لزم الغاصب تخليصُه وردُّه، وأجرة ذلك عليه
(34)
، و (بما لا يتميّز كزيت أو حنطة
هنا، والجامع: عدم تغيُّر قيمة العبد، وعدم تضرر مالكه فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حق المالك بأن رجع إليه ماله بدون تغيير، وحماية الغاصب من استغلال المالك له.
(32)
مسألة: إذا غصب شخص عبدًا مثلًا، وكان هذا العبد يعرف صنعة النجارة مثلًا، وكان يساوي مائة، ثم نسي تلك الصنعة عند الغاصب، ولكنه تعلَّم صنعة أخرى وهي: الخياطة مثلًا، فصارت قيمته تساوي ثمانين: فإن الغاصب يردُّه، ويردُّ ما نقص من قيمته وهو العشرون درهمًا؛ للتلازم؛ حيث إنه لزم من فوات العشرين على المالك وعدم عوده إليه على ما هو عليه من تلك الصنعة: أن يضمن ذلك الغاصب ويرده إلى مالكه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي حماية حق المالك من النقص.
(33)
مسألة: إذا غصب شخص عبدًا، فجنى هذا العبد على شخص آخر: سواء كان مالكه أو غيره: فإن إرش جنايته على الغاصب، سواء في ذلك ما يوجب القصاص أو المال؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يضمن ما نقص منه، فكذلك يضمن جنايته، والجامع: أن الجناية نقص في العبد الجاني؛ لكون الجناية تتعلَّق برقبته، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلت للمصلحة؛ حيث إن ذلك قد حصل في زمن غصبه فيكون الضمان عليه، دون مالكه.
(34)
مسألة: إذا غصب شخص بُرًّا فخلطه بشعير، أو غصب تمرًا فخلطه بزبيب، أو غصب شيئًا أحمر وخلطه بشيء أسود، أو غصب أي شيء وخلطه بشيء آخر يتميّز عنه: فإنه يجب على الغاصب -عند ردِّه- أن يُخلِّص ويُفرق بين البر =
بمثلهما): لزمه مثله؛ لأنه مثلي، فيجب مثل مكيله
(35)
، وبدونه أو خير منه، أو بغير
والشعير، ويفرق بين التمر والزبيب، ويُفرق بين الأحمر والأسود، ثم يردُّ المغصوب إلى مالكه ويتحمّل أي أجرة في ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعدِّي الغاصب بذلك: أن يُلزم بردِّه على مالكه على الصفة التي أخذه عليها، ويلزم من تجنِّيه أن يلزم بأي أجرة لأجل فعل ذلك؛ لأن "ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب".
(35)
مسألة: إذا غصب شخص شيئًا فخلطه بمثله من عنده أو من عند غيره بحيث يصعب التمييز بينهما مثل: أن يغصب زيتًا من شخص، ويخلطه بزيت من عنده، أو يغصب بُرًا من شخص، ويخلطه ببر من عنده ونحو ذلك: فإنه يلزم الغاصب، أن يردَّ مثل ما غصبه من حيث شاء -أي الغاصب- وهو قول كثير من العلماء منهم القاضي أبو يعلى؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو غصب شيئًا كزيت مثلًا فتلف: فإنه يردُّ مثله فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما تعذَّر عليه ردُّ عين ماله بسبب الخلط؛ لعدم تميز شيء من ماله، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه انضباط للمردود، وإيصال الحق للمالك، فإن قلتَ: إنه يجب عليه رد مثل المغصوب: كيلاً أو وزنًا من المختلط، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو غصب صاعًا فتلف بعضه: فإنه يرد مثله منه، فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما قدر على دفع بعض ماله إليه مع رد المثل في الباقي، فلا ينتقل إلى المثل في الجميع. قلتُ: هذا صحيح إن انضبط، ولكنه لا يمكن أن ينضبط، فيكون الأسلم والأضبط ما ذكرناه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقناه في المتلف؛ لكونه أكثر شبهًا به، وهم ألحقوه بالمتلف بعضه، لكون أكثر شبهًا به عندهم، وهذا "قياس الشبه".
جنسه كزيت بشيرج: فهما شريكان بقدر ملكيهما، فيُباع ويُعطى كل واحد قدر حصَّته، وإن نقص المغصوب عن قيمته منفردًا: ضمنه الغاصب (أو صبغ) الغاصب (الثوب، أو لتَّ سويقًا) مغصوبًا (بدهن) من زيت أو نحوه (أو عكسه): بأن غصب دهنًا، ولتَّ به سويقًا (ولم تنقص القيمة) أي: قيمة المغصوب (ولم تزد: فهما شريكان بقدر ماليهما فيه)؛ لأن اجتماع الملكين يقتضي الاشتراك، فيباع ويوزع الثمن على القيمتين، (وإن نقصت القيمة) في المغصوب:(ضمنها) الغاصب؛ لتعدِّيه (وإن زادت قيمة أحدهما: فلصاحبه) أي: لصاحب الملك الذي زادت قيمته؛ لأنها تبع للأصل
(36)
................................................
(36)
مسألة: إذا غصب شخص شيئًا، فخلطه الغاصب بشيء آخر أقلَّ منه قيمة، أو أكثر منه، أو خلطه بغير جنسه: كأن يغصب برًا فيخلطه بزيت من عنده، أو يغصب برًا ويخلطه بدقيق شعير من عنده، وهذا الخلط لا يتميّز، أو يغصب ثوبًا، فصبغه الغاصب بصبغ من عنده، أو يغصب سويقًا، ولتَّه بزيت من عنده، أو العكس بأن يغصب صبغًا ويجعله على ثوب من عنده، أو يغصب زيتًا، ويجعله في سويق من عنده، ففي ذلك تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن كانت قيمة المغصوب لم تزد ولم تنقص: فالغاصب والمالك شريكان بقدر ملكيهما وماليهما، فيُباع البر المخلوط مع الزيت، ويوزَّع الثمن على قيمة البر، وقيمة الزيت، فتعطى قيمة البر لمالكه، وتُعطى قيمة الزيت للغاصب على حسب سعر كل واحد منهما، فمثلًا: لو قدِّر البر المغصوب بأنه يساوي ستة دراهم، ويُقدَّر الزيت التابع للغاصب بأنه يساوي ثلاثة دراهم، فإذا بيع فيكون الثلثان لمالك البر، والثلث لمالك الزيت وهو الغاصب، فإذا بيع الزيت المخلوط بالبر بمبلغ وقدره ثلاثون درهمًا مثلًا: فإن المالك يأخذ ثلثيها -وهو: عشرون- والغاصب يأخذ الثلث -وهي عشرة- وهكذا يُقال في الثوب المصبوغ، والسويق الذي جُعل فيه زيت ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن اجتماع الملكين -وهما البر والزيت- يلزم منه: اشتراك المالكين
(ولا يُجبر من أبى قلع الصبغ) إذا طلبه صاحبه
(37)
، وإن وهب الصبغ لصاحب الثوب: لزمه قبوله
(38)
(ولو قُلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض) أي:
لهما في قدر ملك كل واحد منهما على حسب نسبته، ثانيًا: إن نقصت قيمة المغصوب -وهو البر في المثال السابق-: فإن الغاصب يضمن ذلك النقص، فلو كانت قيمة البر عند الغصب ستة دراهم، وهما قد باعا البر المخلوط بالزيت بأربعة دراهم: فإن الغاصب يضمن الدرهمين للمالك ويردّ له ستة ولا شيء للغاصب؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعدِّي الغاصب على غصب البر: أن يضمن ذلك النقص؛ لأنه حدث بسببه، وفعله، ثالثاً: إن زادت قيمة كل من الزيت أو البر: فإن كلَّ واحد يأخذ الزيادة التي تخصُّ ملكه فمثلًا: إذا زاد سعر البر في السوق وصار البر المغصوب يساوي عشرة والزيت يساوي خمسة فقط، ثم باعا البر المخلوط بالزيت فالزيادة تكون للذي غلا سعره وهكذا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من أن كل شيء يتبع أصله: أن الزيادة تتبع ما زاد سعره، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دقة متناهية في الإنصاف والعدالة.
(37)
مسألة: إذا غصب شخص ثوبًا، ثم صبغه الغاصب بصبغة من عنده، وأراد الغاصب قلع هذا الصبغ، أو غصب صبغًا، وجعله في ثوب من عنده، وأراد المالك قلعه: لم يُجبر كل منهما على قلع ذلك إذا طلبه صاحبه؛ للمصلحة حيث إن ذلك فيه إتلاف وإلحاق للضرر إليه؛ لأن الصبغ يهلك وينعدم بالاستخراج والقلع، ويتسبَّب في إفساد الثوب عادة، فدفعًا لذلك: شرع هذا.
(38)
مسألة: إذا وهب الغاصب الصبغ إلى مالك الثوب أو وهب نسيج غزل، أو تحسين دار إلى مالكهما: فإنه يلزم المالك قبول ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو زادت صفة في المسلم فيه: للزم المسلم أن يقبله، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن الصبغ والصفة صارا من صفات العين، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ نظرًا لكونه أرجع إلى المالك العين المغصوبة وزيادة.
لخروج الأرض مستحقة للغير: (رجع) الغارس أو الباني إذا لم يعلم بالحال (على بائعها) له (بالغرامة)؛ لأنه غرَّه، وأوهمه أنها ملكه ببيعها له
(39)
(وإن أطعمه) الغاصب (العالم بغصبه: فالضمان عليه)؛ لأنه أتلف مال الغير بغير إذنه من غير تغرير، وللمالك تضمين الغاصب؛ لأنه حال بينه وبين ماله، وقرار الضمان على الآكل (وعكسه بعكسه) فإن أطعمه لغير عالم فقرار الضمان على الغاصب؛ لأنه غرَّ الآكل
(40)
، (وإن أطعمه) الغاصب (لمالكه، أو رهنه) لمالكه (أو أودعه) لمالكه (أو
(39)
مسألة: إذا باع زيد أرضًا على عمرو، فغرسها عمرو، أو بنى عليها بناءً، ثم بان أن الأرض ليست ملكًا لزيد بل هو غاصبها من بكر، فقلع بكر ما غرسه عمرو، وهدم البناء؛ لكونه هو مستحق الأرض: ففي ذلك تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن كان عمرو يعلم بأن تلك الأرض -التي غرسها، أو بنى عليها- ليست ملكًا لزيد، ومع ذلك اشتراها منه: فإنه لا يُغرم له شيء، بل يذهب ماله هدرًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو اشترك زيد وعمرو في غصب أرض فغرساها، أو بنيا عليها بناء وقلع وهدم ذلك: فلا شيء لهما فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما متعدِّي فيما فعله، والمتعدِّي لا يُغرم له ما خسره بسبب تعدِّيه، ثانيًا: إن كان عمرو لا يعلم شيئًا عن الأرض، ويغلب على ظنه أنها ملك لزيد: فإنه يرجع إلى بائعها وهو -زيد- ويُطالبه بثمن الغرس، والبناء، ويجب على زيد أن يغرم له ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أن عمرًا يُطالب زيدًا بثمن الأرض الذي أعطاه إياه؛ لكون بكر قد أخذها منه؛ لأنها حق له، فكذلك يُطالبه بثمن الغرس والبناء الذي قلعه وهدمه بكر، والجامع: أنه في كل منهما قد غرَّه زيد، وأوهمه بأن الأرض ملكه، وهو السبب في كونه يبني، ويغرس فيها، والمقصد في ذلك واضح.
(40)
مسألة: إذا غصب زيد طعامًا من عمرو فأطعمه زيد لبكر فأكله: فإن الضمان على الغاصب -وهو زيد- فيُطالبه المالك -وهو عمرو هنا- بقيمة الطعام: سواء =
آجره إياه: لم يبرأ) الغاصب (إلا أن يُعْلم) المالك أنه ملكه، فيبرأ الغاصب؛ لأنه حينئذٍ يملك التصرُّف فيه على حسب اختياره، وكذا: لو استأجره الغاصب على قصارته، أو خياطته
(41)
(ويبرأ) الغاصب (بإعارته) المغصوب لمالكه من ضمان عينه:
كان الآكل -وهو بكر- عالمًا بأن هذا الطعام مغصوب أو لا، ويرجع زيد على الآكل ويُطالبه بقيمته إن شاء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الغاصب -وهو زيد- هو الآخذ الحقيقي لذلك المال من عمرو، وهو الذي حال بينه وبين ماله: أن يكون هو المسؤول عن هذا الغصب أمام المالك -وهو عمرو- فيضمنه له، ولا شأن لعمرو ببكر لا من قريب ولا بعيد، فإن قلتَ: إن الضمان يكون على الآكل إن كان عالمًا بأن الطعام مغصوب، ويُطالب المالك -وهو عمرو- بحقه من الغاصب المباشر له ويطالب الآكل أيضًا، أما إن كان الآكل لا يعلم أن ذلك الطعام مغصوب: فإن الضمان يكون على الغاصب -وهو زيد- فقط، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من علم الآكل -وهو بكر- بأن الطعام مغصوب: أنه يضمنه؛ لكونه أتلف مال غيره بغير إذن، ولا تغرير، فهو أقدم على فعله مع علمه، ويلزم من عدم علم الآكل بأن الطعام مغصوب: أن لا يضمنه إلّا إذا رجع إليه الغاصب المباشر -وهو زيد- لأنه هو الذي غر الآكل قلتُ: هذا بعيد؛ لأن المالك -وهو عمرو- قد غصب طعامه زيد مباشرة، فهو المسؤول أمامه عن ذلك الطعام، فلا يُطالب بحقه من غيره، وهذا هو الذي تؤيده القواعد الشرعية، وأصله: قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
(41)
مسألة: إذا غصب زيد طعامًا من عمرو، فأطعم ذلك الغاصب ذلك الطعام لمالكه -وهو عمرو-، أو رهن زيد ذلك الطعام عند عمرو، أو أودعه إياه، أو أجَّره دارًا قد غصبها منه، أو أخذه مالكه -وهو عمرو- بقرض أو شراء، أو هبة، أو هدية، أو صدقة، أو إباحة، أو غصب زيد من عمرو ثوبًا فاستأجره على قصارته، أو خياطته، ولم يعلمه بأن هذا الطعام، أو الدار، أو الثوب هو =
علم أنه ملكه أو لم يعلم؛ لأنه دخل على أنه مضمون عليه، والأيدي المترتبة على يد الغاصب كلها أيدي ضمان، فإن علم الثاني: فقرار الضمان عليه، وإلا: فعلى الأول، إلّا ما دخل الثاني على أنه مضمون عليه: فيستقرّ عليه ضمانه
(42)
(وما تلف)
ملكه: فإن ذمة الغاصب لا تبرأ، أما إن أعلمه بأن كل ذلك ملكه: فإن ذمة الغاصب تبرأ؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم علم المالك -وهو عمرو- بأن هذا ملكه يتصرَّف فيه كما شاء ببيع، أو هبة، أو إطعام غيره: أن تكون ذمة الغاصب لا تبرأ بذلك؛ لأنه قبضه على أنه أمانة؛ لأن الرَّد الكامل الشرعي هو: إعلام المالك بأن هذا الشيء هو مغصوب منك وهو ملك لك وبهذا تنتفي المنة، ويلزم من إعلامه بذلك: وحرية تصرف المالك فيه على حسب اختياره: بيع وهبة وصدقة: أن تبرأ ذمة الغاصب بذلك؛ لكون ذلك هو: الرد الكامل الشرعي للمغصوب.
(42)
مسألة: إذا غصب زيد حمارًا من عمرو، فأعار زيد ذلك الحمار إلى مالكه -وهو عمرو-: فإن ذمة الغاصب تبرأ مطلقًا، أي: سواء علم عمرو أن الحمار ملكه، أو لم يعلم بذلك؛ للتلازم؛ حيث إن المالك قد استعار الحمار على أنه مضمون عليه؛ لأن العارية توجب الضمان على المستعير فلزم: إبراء ذمة الغاصب في ذلك؛ إذ لو وجب الضمان على الغاصب لرجع به على المستعير -وهو المالك وهو عمرو هنا- ولا فائدة في وجوب شيء عليه يرجع به على من وجب له. تنبيه: الغاصب يضمن المغصوب، وإذا تعامل معه آخر بشراء ذلك المغصوب، أو استأجره، أو نهبه، أو استعاره، أو غصبه منه، أو تصرَّف فيه تصرُّف شريك مضارب، أو تزوج المغصوبة، أو قبض المغصوب تعويض له عن سلعة مشتراة، أو أتلف ذلك المغصوب، وهو يعلم أو لا يعلم في تلك الأمور العشرة: فإن المالك يُضمِّن الغاصب الأول، في كل، ويرجع الأول إلى الثاني إن شاء، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل، وما ذكره المصنف هنا مبني على مذهبه فقط، وقد سبق =
أو أتلف من مغصوب (أو تغيَّب) ولم يمكن ردّه كعبد أبق وفرس شرد (من مغصوب مثلي) وهو: كل مكيل، أو موزون، لا صناعة فيه مباحة يصح السَّلم فيه:(غرم مثله إذًا)؛ لأنه لما تعذر رد العين: لزمه رد ما يقوم مقامها، والمثل أقرب إليه من القيمة
(43)
. وينبغي أن يستثنى منه الماء في المفازة: فإنه يضمن بقيمته في مكانه، ذكره في "المبدع" (وإلا) يمكن رد مثل المثلي؛ لإعوازه:(فقيمته يوم تعذَّر)؛ لأنه وقت استحقاق الطلب بالمثل، فاعتبرت القيمة إذًا
(44)
(ويضمن غير المثلي) -إذا تلف أو
بيان الرد عليه.
(43)
مسألة: إذا غصب زيد شيئًا من عمرو، فتلف هذا الشيء المغصوب، أو أتلفه الغاصب كحيوان مات أو قتله الغاصب، أو تغيَّب ذلك المغصوب ولم يتمكّن الغاصب من ردِّه كفرس غصبه ثم هرب ذلك الفرس: وكان لهذا المغصوب مثل -وهو الشيء المماثل له- مثل أن يغصب مكيلًا أو موزونًا فيتلف: فإن الغاصب يغرم مكيلًا أو موزونًا مثله بشرط: أن يكون ذلك المكيل أو الموزون لا صناعة فيه، ومباحة، ويصح السَّلم فيه كالبر، ونحوه، فإن دخلت فيه الصناعة كصناعة الهريسة، أو كانت غير مباحة كأواني الذهب أو الفضة، أو كانت لا يصح السلم فيها كالجواهر: فإن الغاصب لا يغرمها بمثلها بل بقيمتها، للتلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: أنه لما تعذَّر ردُّ العين: وجب عليه أن يردَّ ما يقوم مقامها: فيلزم أن يردَّ مثلها؛ لأن المثل هو الذي يقوم مقام العين من طريق الصورة والمشاهدة، بخلاف القيمة، ثانيهما: يلزم من تفاوت الصناعات، وعدم الإباحة في الأشياء المغصوبة، أو عدم صحة السَّلم فيه: أن يغرم الغاصب ما غصبه من هذه الأمور بقيمته؛ لئلا يفعل شيئًا محرمًا.
(44)
مسألة: إن كان لهذا المغصوب التالف مثل، ولكنه لم يجده؛ لعدم، أو بُعْد، أو غلاء: فإن الغاصب يغرم ذلك بقيمته يوم تعذَّر عليه وجود المثل، كمن غصب ماء في صحراء، أو نحو ذلك؛ للتلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: أنه يلزم من تعذُّر =
أُتلف - (بقيمته يوم تلفه) في بلده من نقده أو غالبه؛ لقوله عليه السلام: "من أعتق شركًا له في عبد: قوِّم عليه"
(45)
، ولو أخذ حوائج من بقَّال ونحوه في أيام، ثم
عليه وجود المثل: وجوب القيمة؛ لئلا يذهب حق المالك هدرًا، ثانيهمًا: أن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل: فلزمت تلك القيمة من وقت ذلك الانقطاع، فإن قلتَ: تجب قيمة المغصوب حين المحاكمة، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية؛ للتلازم؛ حيث إن القيمة لم تنتقل إلى ذمة الغاصب إلّا بعد أن حكم بها الحاكم، فتلزم تلك القيمة في هذا الوقت، ولا تلزم قبله قلتُ: هذا بعيد؛ لأن القيمة ثبتت في ذمة الغاصب حين تلفت العين المغصوبة؛ لأنه قبل التلف: يجب رد عينها، ولما تلف ولم يُوجد مثله: وجبت قيمته يوم تلفه، بدليل: أن المالك له الحق بالمطالبة بتلك القيمة، وله الحق بأن يستوفيها، ولا ينكر الغاصب ذلك، والحاكم ملزم فقط؛ فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في القيمة متى ثبتت في ذمة الغاصب؟ " فعندنا: يوم إتلافه، وعندهم: يوم المحاكمة.
(45)
مسألة: إن لم يكن لهذا المغصوب التالف مثل أصلًا: فإن الغاصب يغرمه بقيمته يوم تلفه بالنقد المعروف ببلد المتلف أو بغالب النقد في ذلك البلد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من أعتق شركًا له في عبد قوم عليه قيمة عدل"، حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتقويم في حصة الشريك؛ لأنها متلفة بالعتق، ولم يأمره بالمثل، وهذا يلزم منه أنه يقوم بقيمته ويدفعها إلى المالك. الثانية: المصلحة؛ حيث إن دفع قيمتها أعدل، وأسلم من التنازع والاختلاف؛ لكون المتلف لا تتساوى جزئياته، ولا صفاته مع ما يُماثله، فإن قلتَ: لِمَ يضمنه بالقيمة يوم إتلافه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القيمة لم تجب إلّا بعد إتلاف المغصوب وعدم وجدان مثله دفعًا للضرر عن الغاصب، فإن قلتَ: إن الغاصب يضمنه بالقيمة يوم غصبه، وهو قول مالك وأبي حنيفة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تفويت الغاصب على المالك =
حاسبه: فإنه يُعطيه بسعر يوم أخذه
(46)
، وإن تلف بعض المغصوب، فنقصت قيمة باقيه كزوجي خفٍّ تلف أحدهما: ردَّ الباقى وقيمة التالف، وأرش نقصه
(47)
(وإن
ذلك المغصوب يوم غصبه: أن يضمنه من حين، غصبه، قلتُ: لا يُسلِّم هذا؛ لأنه يوم غصبه يضمن ويُغرم به، أو بمثله إن كان له مثل، ولم تتعين القيمة في الذمة إلّا بعد إتلافه، وعدم وجدان مثله، فتكون القيمة ذلك الوقت، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع المصلحة" وقد بيّنا ذلك.
(46)
مسألة: إذا أخذ زيد فواكه، أو خضروات، أو لحمًا، أو زيتًا أو نحو ذلك من عمرو -البقَّال، أو الجزار- في (1/ 1 / 1426 هـ) ولم يقطع بسعرها، ثم أراد أن يُحاسبه ويعطيه قيمتها في (1 (9/ 1426 هـ) مثلًا: فإن زيدًا يعطي عمرًا سعر ما أخذ في (1/ 1/ 1426 هـ)؛ للتلازم؛ حيث إنه قد ثبتت قيمة ما أخذ في ذمة الآخذ -وهو زيد- يوم أخذه إيّاها فيلزم أن يدفع ما ثبت في ذمته، وهذا معلوم متعارف عليه والعرف يقوم مقام النطق، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المالك -وهو عمرو- من تحايل بعض الناس من أن لا يفوا بما عليهم إلّا بعد رخص الأثمان، وفيه حماية الآخذ -وهو زيد- من تحايل بعض الناس من أن لا يطالبوا بحقوقهم إلّا بعد غلاء الأثمان.
(47)
مسألة: إذا غصب شيئين لا يُستعملان إلّا معًا، وينقصهما التفريق: كأن يغصب زيد من عمرو خفَّين، أو مصراعي باب، فتلف واحد من الخفين، أو واحد من المصراعين: فيجب على الغاصب -وهو زيد أن يرد الباقي- وهو الخف أو المصراع السالم - إلى مالكه -وهو عمرو-، وقيمة الخف أو المصراع التالف، وأرش نقصه، فمثلًا: إذا كانت قيمة الخفين السالمين عشرة دراهم، فصارت قيمة الباقي بعد التلف: أربعة دراهم فقط، فإنه يجب عليه أن يردَّ ذلك الباقي، إلى مالكه وستة دراهم معه أيضًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو غصب ثوبًا فشقه ثم تلف أحد الشقين: فإنه يجب على الغاصب أن يرد الباقي، وقيمة التالف، وأرش
تخمَّر عصير) مغصوب (فـ) على الغاصب (المثل)؛ لأن ماليته زالت تحت يده كما لو أتلفه
(48)
(فإن انقلب خلًّا دفعه) لمالكه؛ لأنه عين ملكه (و) دفع (معه نقص قيمته) حين كان (عصيرًا) إن نقص؛ لأنه نقص حصل تحت يده
(49)
، ويسترجع الغاصب ما أداه بدلًا عنه
(50)
، وإذا كان المغصوب ممّا جرت العادة بإجارته: لزم الغاصب أجرة
النقص فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه نقص حصل بسبب جناية الغاصب، فلزمه ضمانه في كل، والمقصد: حماية حقِّ المالك.
(48)
مسألة: إذا غصب شخص عصيرًا، ثم صار هذا العصير خمرًا عند الغاصب: فيجب على الغاصب أن يدفع لمالكه مثل العصير الذي غصبه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الغاصب لو أتلف العصير: فإنه يجب عليه دفع مثله إلى المالك، فكذلك الحال هنا، والجامع أنه في كل منهما قد زال وتلف مال المالك تحت يد الغاصب، فعليه ضمانه بمثله، والمقصد كما قلنا في مسألة (47).
(49)
مسألة: إذا غصب شخص عصيرًا من عمرو، ثم صار هذا العصير خلًّا عند الغاصب: فيجب أن يدفع الغاصب ذلك الخل إلى مالك العصير -وهو عمرو هنا-، ويدفع أيضًا معه قيمة النقص إن حصل نقص على المالك فمثلًا: لو كان العصير حين غصبه يساوي عشرة دراهم، فلما كان خلًّا صار يساوي خمسة: فإن الغاصب يرد الخل إلى مالك العصير، ويرد خمسة دراهم معه، لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون الخل هو عين مالك العصير: فإنه يجب على الغاصب إرجاعه إلى مالكه، الثانية: القياس؛ بيانه كما أنه لو غصب شاة فهرمت عنده -أي: عند الغاصب- وردَّها فيجب عليه ردُّها، وقيمة النقص الذي حصل في الشاة فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما قد حصل نقص فيه، لكونه تحت يد الغاصب فيضمنه ويغرمه.
(50)
مسألة: إذا كان الغاصب -في مسألة (49) - قد دفع بدلًا عن العصير إلى مالكه لما صار خلًّا، وهو قد أرجعه إلى مالكه مع أرش نقصه: فإن الغاصب يسترجع =
مثله مدَّة بقائه بيده: استوفى المنافع أو تركها تذهب
(51)
.
ذلك البدل من مالك المغصوب؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو غصب عبدًا، ثم هرب العبد من الغاصب، فدفع قيمته إلى مالكه، ثم وجده وردَّه إلى مالكه: فإن يأخذ القيمة التي دفعها إليه، فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما قد وصل إلى المالك حقُّه، فلا يجوز أخذ ما زاد عليه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه رفع الضرر عن الغاصب، وهذا من باب: إرجاع الحقوق إلى أهلها.
(51)
مسألة: إذا غصب شخص شيئًا جرت العادة بتأجيره كالرقيق، والدار، والبهائم، ونحو ذلك: فإنه يجب على الغاصب أن يردُّ هذا الشيء المغصوب لمالكه، وأن يدفع أجرة مثل هذا المغصوب من ساعة غصبه إلى أن ردَّه -أي: يدفع أجرة مثله مدَّة بقائه بيده- وهذا مطلق، أي: سواء استوفى الغاصب منافع الشيء المغصوب أو لا، فمثلًا: لو غصب داراً من عمرو سنة، وسكنها، أو لا: فإنه يجب على هذا الغاصب أن يرد هذه الدار، وأُجرة سنة أيضًا، ويُسلِّمهما لمالك الدار؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو غصب عينًا وأتلفها أو بعضها أو فوتها على مالكها: فإنه يغرم ويضمن ما أتلفه، فكذلك منفعة تلك العين إذا فوَّتها على مالكها: فإنه يضمنها ويغرمها، والجامع: أن كلًّا من العين والمنفعة مال متقوَّم فوجب ضمانه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ردُّ حق للمالك قد تسبَّب الغاصب في تفويتها، فإن قلتَ: إن المنافع لا تُضمن، وهو قول أبي حنيفة، وكثير من المالكية؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشخص لو زنا بامرأة مطاوعة لا ضمان ولا غرم عليه، فكذلك لو غصب عينًا: فإنه يردُّها، ولا يضمن ما فوّته من منافعها، والجامع: أنه في كل منهما قد استوفى المنفعة من غير عقد، ولا شبهة ملك قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن المرأة قد رضيت بإتلاف منافعها بغير عوض، ولا عقد يقتضي العوض، ولو أكرهها على =
فصل: (وتصرُّفات الغاصب الحكمية) أي: التي لها حكم من صحَّة، وفساد: كالحج، والطهارة ونحوهما، والبيع، والإجارة، والنكاح ونحوها (باطلة)؛ لعدم إذن المالك
(52)
، ...............................................
الزنا: لوجب عليه مهرها، وأيضًا كلامهم ليس في محل النزاع، لأن المسألة مفروضة في غصب أشياء لها منافع تُستباح بالإجارة كالعقارات، والدواب ونحوها، والأبضاع لا تُستباح بالإجارة، وقد سبق بيان ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقنا غاصب المنفعة بغاصب العين، ومتلفها لأنه أكثر شبهًا به، وهم ألحقوه بمن زنا بامرأة مطاوعة، لأنه أكثر شبهًا به عندهم، وهذا هو قياس الشبه.
(52)
مسألة: تصرُّفات الغاصب في العين المغصوبة الحكمية: أي: من حيث الصحة وعدمها فيه التفصيل الآتي: أولًا: إن كانت تلك التصرفات لا تقع فيها مباشرة كأن يغصب دارًا ويصوم فيها، أو يذكر الله، أو يُوحِّد الله تعالى فيها، فهذه تصح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم مدخل ذلك في العين المغصوبة: صحته، ثانيًا: إن كانت تلك التصرفات واقعة في العين المغصوبة مباشرة كأن يغصب دارًا ويصلي فيها، أو يغصب ثوبًا ويصلي فيه، أو يغصب ماء، أو ترابًا ويتطهَّر فيه، أو يغصب جملًا ويحجّ أو يعتمر عليه: فإن تلك التصرفات لا تصح إذا كان واجدًا غيرها؛ لقاعدتين الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عدم إذن المالك: عدم صحتها، الثانية: المصلحة: حيث إنه لو كانت تلك التصرفات صحيحة لأدَّى ذلك إلى تعدِّي بعض الناس إلى اغتصاب أملاك الآخرين؛ لأن الغاصب سيقول ما دام أنه يصح فيها كل عبادة: فهذا أهون مما لو لم يصح شيء، فيكثر الاعتداء، فسدًا لذلك ومنعًا للضَّرر في المجتمع شرع عدم صحة ما يقع فيها من عبادات وقد سبق بيان ذلك في كتاب الطهارة والصلاة. ثالثًا: إن كانت هذه التصرفات في العقود: كأن يغصب دارًا ثم يبيعها، أو يؤجرها أو يغصب امرأة ويتزوجها، أو
وإن اتَّجر في المغصوب: فالربح لمالكه
(53)
، (والقول في قيمة التالف): قول الغاصب؛ لأنه غارم (أو قدره) أي: قدر المغصوب (أو صفته): بأن قال: "غصبتني عبدًا كاتبًا" وقال الغاصب: "لم يكن كاتبًا" فـ (ـقوله) أي: قول الغاصب كما تقدَّم (و) القول (في
يزوجها غيره طمعاً بالمهر: فيُرجع في ذلك إلى المالك: فإن اختار المالك: إبطاله: فهو باطل، وإن اختار: عدم إبطاله: فهو صحيح، وما لم يدركه المالك ولم يعلم به: فهو صحيح أيضًا، وهو اختيار كثير من العلماء منهم أبو الخطاب الحنبلي؛ للمصلحة: حيث إن مدَّة الغصب قد تطول، وفي هذه المدة الطويلة تربح تلك العقارات ونحوها وتنمو، ويكثر الربح والزيادة وعند ردِّ الغاصب للمغصوب تكون كل هذه الفوائد للمالك، فلو قلنا ببطلان التصرفات للحق الضرر للمالك، فدفعًا لذلك: شرع صحتها.
(53)
مسألة: إذا غصب شخص أثمانًا فاتَّجر بها، أو عروض تجارة واتَّجر بأثمانها أو نحو ذلك: فالعين المغصوبة، وما ربحته لمالكها، ولا يستحق الغاصب شيئًا منها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون تلك الأرباح هي أرباح عين ماله: أن تكون حقًا له، دون الغاصب، فإن قلتَ: إن الغاصب يكون بمنزلة الشريك المضارب، يكون له قدر من الربح كما سبق ذكره في "شركة المضاربة" وهو رأي ابن تيمية وبعض العلماء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تجارة الغاصب بمال المالك: أن يكون له نصيب من الربح؛ لأنه قد اشترك في العمل. قلتُ: هذا بعيد، إذ الواقع في شركة المضاربة: الاتفاق بين صاحب المال وبين شريكه، والربح الذي تحصَّل عليه الغاصب من خلال متجارته بمال المالك وقع بدون اتفاق بينهما، ولا رضى، وهذا يُفسد ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الرضى: فساد العقد، والشركة؛ لأن من شروط صحة العقد: رضى المتعاقدين. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض التلازمين" وهو واضح.
ردِّه أو تعيُّبه): بأن قال الغاصب: كانت فيه إصبع زائدة، أو نحوها، وأنكره مالكه: فـ (ـقول ربِّه) لأن الأصل: عدم الرَّدو العيب، وإن شهدت البيّنة: أن المغصوب كان معيبًا، وقال الغاصب:"كان معيبًا وقت غصبه" وقال المالك: "تعيَّب عندك": قُدِّم قول الغاصب؛ لأنه غارم
(54)
(55)
(وإن جهل) الغاصب (ربَّه) أي: رب المغصوب:
(54)
مسألة: إذا تلفت العين المغصوبة تحت يد الغاصب، ثم أراد الغاصب ردَّ قيمتها إلى مالكها واختلفا في قدر تلك القيمة حين تلفها، فقال المالك:"إنها تساوي عشرة" ونفى ذلك الغاصب قائلًا: "إنها تساوي ثمانية"، أو اختلفا في قدر المغصوب بأن قال المالك:"غصبتني مائة" فقال الغاصب: "إنها خمسون"، أو اختلفا في صفة المغصوب بأن قال المالك:"غصبتني عبدًا كاتبًا، أو راميًا" وقال الغاصب: "لم يكن ذلك العبد كاتبًا ولا راميًا"، أو اتفقا على أن المغصوب كان معيبًا واختلفا في وقت العيب فقال المالك:"قد تعيَّب عندك" وقال الغاصب: "بل كان معيبًا قبل أن أغصبه": ولا بيّنة لأي واحد منهما: فإنه يُقبل قول الغاصب في تلك الصور مع يمينه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو ادّعى على عمرو ألف درهم، وأقرَّ عمرو ببعضها، وأنكر الباقي، ولا بيّنة لواحد منهما: فإنه يُقبل قول المنكر -وهو عمرو- مع يمينه، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن المنكر -وهو عمرو والغاصب هنا- غارم لما ادَّعاه عليه الآخر، والأصل براءة ذمته، فإن قلتَ: لِمَ شُرع اليمين هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي: الاحتياط في الدِّين والحقوق؛ إذ يحتمل أن يكون المالك -وهو المدعي- صادقًا، فطُلب اليمين من الغاصب لدفع هذا الاحتمال.
(55)
مسألة: إذا اختلف الغاصب مع المالك في ردِّ المغصوب بأن قال الغاصب: "أنا قد رددته إليك" فأنكر المالك قائلًا: "لم أرى ذلك، أو لم يكن ذلك صحيحًا"، أو اختلفا في تعيبه قبل تلفه فقال الغاصب:"كان العبد الذي غصبته منك فيه إصبغ زائدة، أو كان أعورًا، أو يبول في فراشه" فأنكر المالك ذلك قائلًا: "كان =
سلَّمه إلى الحاكم، فبرئ من عهدته، ويلزمه تسلُّمه، أو (تصدَّق به عنه مضمونًا) أي: بنية ضمانه إن جاء ربه فإذا تصدَّق به: كان ثوابه لربه، وسقط عنه إثم الغصب، وكذا حكم رهن، ووديعة، ونحوهما إذا جهل ربها، وليس لمن هي عنده أخذ شيء منها، ولو كان فقيرًا
(56)
(ومن أتلف) لغيره مالًا (محترمًا) بغير إذن ربه: ضمنه؛ لأنه
صحيحًا لم يكن فيه عيب": ولا بيّنة لواحد منهما: فإنه يُقبل قول المالك مع يمينه في هاتين الصورتين؛ للاستصحاب: حيث إن الأصل بقاء المغصوب تحت يد الغاصب، وعدم العيب فيه، فنعمل على هذا، ونستصحبه حتى يرد دليل يغيِّر الحالة، ولم يرد شيء من ذلك، فبقي الأصل يعمل به، والمقصد في اليمين كما ذكر في مسألة (54).
(56)
مسألة: إذا غصب شخص شيئًا، وجهل هذا الغاصب صاحب هذا الشيء المغصوب، وأراد ردَّه، أو قيمته: فإنه يُسلِّمه إلى الحاكم بشرط: أن يكون عدلًا عالمًا، أو يُسلِّمه لنائبه -وهو القاضي العدل-، أو يُسلِّمه لأي عالم معروف بدينه وعلمه، ويجب على هؤلاء أن يستلموا ذلك المغصوب، أو يتصدَّق به وينويه عن مالك المغصوب، ولا يحتاج ذلك إلى إذن الحاكم، والتصدُّق به يُشترط فيه أن ينوي ضمانه إن جاء وعرف مالك المغصوب، والأجر يكون لمالك المغصوب، وتبرأ ذمة الغاصب ويسقط عنه إثمه، ولا يسقط عنه إثم الغصب؛ للقياس؛ بيانه: كما أن اللقطة التي لا يعرف صاحبها تسلم للحاكم، أو نائبه، أو العالم، أو يتصدق به فكذلك يفعل في العين المغصوبة التي لا يُعرف مالكها، والجامع: أن كلًّا من لاقط اللقطة، والغاصب للعين عاجز عن ردَّها إلى أصحابها، فلم يكن له طريق إلّا هذه الطرق فوجب سلوكها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع تسليمها للحاكم، أو نائبه أو العالم؟ قلتُ: لأن قبض هؤلاء لها قائم مقام قبض أصحابها لها؛ لقيامهم مقامهم، فإن قلتَ: لِمَ شرع التصدّق بها؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التصدق بها فيه جمع بين مصلحة المالك بتحصيل الثواب له، وفيه تبرئة ذمة الغاصب، فإن قلتَ: لِمَ =
فوَّته عليه
(57)
(أو فتح قفصًا) عن طائر فطار: ضمن (أو) فتح (بابًا) فضاع ما كان
اشترط في التصدُّق بها أن تكون مضمونة؟ قلتُ: لأن الصدقة بها لا إلى بدل -وهو الضمان فيما لو جاء صاحبها- غير جائز؛ لكونها تفوِّت على المالك حقه العاجل، فإن قلتَ: لِمَ سقط عنه إثم استمرار الغصب؟ قلتُ: لأنه عذر بعدم وجود مالكها، فإن قلتَ: لِمَ لا يسقط عنه إثم الغصب؟ قلتُ: نظرًا لأنه فوَّت على المالك انتفاعه بالعين المغصوبة مدة غصبها، فإن قلتَ: لِمَ لزم الحاكم ونائبه والعالم تسلمها؟ قلتُ: لأن هذا طريق لإيصال الحقوق إلى أهلها. (فرع): الراهن إذا لم يجد صاحب العين المرهونة إذا أراد فك الرهن، أو المودَع إذا أراد ردّ الوديعة ولم يجد المودِع، وجميع الأمانات، والأموال المحرمة كالمسروقة، والمنتهبة واللقيطة إذا جُهل أصحابها: فإنه يُفعل بها كما فُعل في العين المغصوبة، وقد سبق بيانه بالتفصيل. (فرع ثان): القاضي، والعالم اللذان أخذا تلك العين المغصوبة، أو المسروقة أو أي شيء لا يُعلم صاحبه، وكذا الغاصب أو السارق إذا تابا يُباح لهم أن يأكلوا بالمعروف من تلك العين: إذا لم يعلم صاحبها إذا كانوا فقراء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونهم فقراء استحقاقهم لذلك، فإن قلتَ: هؤلاء لا يأكلوا من ذلك ولو كانوا فقراء، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه متَّهم في جعل نفسه من الفقراء، فيلزم: عدم جواز الأكل له، قلتُ: هذا بعيد؛ لأن الأصل في الحكام، والقضاة، والتوابين من ذنوبهم: أن لا يتّهموا بشيء، حيث إن ذلك فيه مصلحة عامة، وهذا يؤيدهم على التوبة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين" فرجَّحنا الأول؛ لموافقته للمصلحة العامة، وهي واضحة.
(57)
مسألة: إذا أتلف شخص مالًا محترمًا شرعًا لغيره بغير إذنه: فإنه يضمنه ذلك الشخص سواء في ذلك العمد أو السهو؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو غصب ذلك المال فتلف عنده؛ فإنه يضمنه، فكذلك إذا أتلفه من غير غصب له يضمنه،
مغلقًا عليه بسببه (أو حلَّ وكاء) زق مائع، أو جامد، فأذابته الشمس، أو ألقته ريح فاندفق: ضمنه (أو) حلَّ (رباطًا) عن فرس (أو) حلَّ (قيدًا) عن مقيَّد (فذهب ما فيه أو أتلف) ما فيه (شيئًا ونحوه) أي: نحو ما ذكر: (ضمنه)؛ لأنه تلف بسبب فعله
(58)
والجامع: أنه في كل منهما قد فوَّت ذلك المال على صاحبه بغير إذنه. (فرع): إذا أتلف حاكم أو نائبه مال فاسق من الناس، أو أتلف كافر حربي مال مسلم، في وقت حرب، أو أتلف مسلم مال كافر في وقت الحرب: فلا ضمان في ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن المتلف مال غير محترم فيلزم عدم الضمان في إتلافه.
(58)
مسألة: إذا تسبب زيد في تلف شيء يملكه عمرو: فإن زيدًا يضمنه، ويدفع قيمته لمالكه وصاحبه: كأن يفتح زيد قفصًا عن طائر فطار وفارق ذلك القفص، أو يحلُّ قيد عبد مربوط به، أو يحل قيد أي بهيمة مربوطة به، أو يفتح بابًا مغلقًا على مجموعة طيور، أو عبيد، أو بهائم، فذهبت بسبب ذلك، أو يحل وكاء وكيس فيه سمن أو نحوه، وتسبَّب في إذابة الشمس له، أو إلقاء الريح له وسال: فإن زيدًا المتسبِّب لذلك يضمن كل ما سبق: سواء كان خروجه من محبسه حالًا، أو شيئًا فشيئًا، أو نفرها أو هيُّجها أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن هذا الشخص لو نفَّر وأهاج هذه الأشياء من طيور، أو بهائم وعبيد وذهبت عقيب فتحه وحلَّه مباشرة، وكما أنه لو جرح إنسانًا آخر فأصابه الحر أو البرد فسرت الجناية حتى مات: فإنه يضمن ما تلف في الصورتين فكذلك الحال فيما سبق ذكره في هذه المسألة، والجامع: أنه في كل منها حصل التلف بسبب فعل زيد، ولم يُوجد بينهما ما يمكن إحالة الحكم عليه فيها، فوجب أن يكون الضمان عليه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية الملَّاك من أن يتسبَّب بعض الناس في إضاعة أموالهم، فإن قلتَ: إنه لا يضمن إلّا إذا هيَّجها حتى ذهبت تلك الأشياء، وإن وقفت بعد الفتح والحل، ثم ذهبت تلك الأشياء: فلا يضمنها وهو لكثير من علماء الحنفية والشافعية؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو حفر بئرًا =
(وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان) أو أتلف شيئًا: (ضمنه) لتعدِّيه بالربط، ومثله: لو ترك في الطريق طينًا، أو خشبة، أو حجرًا، أو كيس دراهم، أو أسند خشبة إلى حائط (كـ) ما يضمن مقتني (الكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه، أو عقره خارج منزله)؛ لأنه متعدٍّ باقتنائه، فإن دخل منزله بغير إذنه: لم يضمنه؛ لأنه متعدٍّ بالدخول، وإن أتلف العقور شيئًا بغير العقر، كما: لو ولغ، أو بال في إناء إنسان: فلا ضمان؛ لأن هذا لا يختص بالعقور، وحكم أسد ونمر وذئب وهر بأكل الطيور، وتقلب القدور في العادة حكم كلب عقور
(59)
، وله قتل هر بأكل لحم ونحوه،
فجاء عبد لإنسان فرمى نفسه فيها: لا يضمن زيد ذلك فكذلك الحال هنا: لا يضمن بدون تهييج أو تنفير بعد الفتح والحل، ولا يضمن إن وقفت تلك الأشياء بعد الفتح والحل والجامع: وجود الاختيار من تلك الأشياء، وعدم وجود السبب الملجئ، فلم يتعلَّق الضمان بالسبب قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن حفر البئر لم يتعدَّ فيه على حق غيره، بل فعل ماله فعله ورمي العبد نفسه فيها لا دخل له فيه، بخلاف ما نحن فيه فكل ما وقع من ذهاب طيور، وحيوانات وعبيد ونحو ذلك كان بسبب فعله؛ إذ لو كانت لا تذهب بفتح الباب أو أي قيد: لما قيّدها صاحبها، أو أغلق عليها الباب، وهذا معلوم من قرينة الحال، فيكون فتحه للباب، أو حل القيود اعتداء ظاهرًا على حقوق غيره: فيضمنها، فلو لم يضمن أحد مثل ذلك: لتسبَّب ذلك في أن يتسبَّب الآخرون في إضاعة أموال الناس بهذا الطريق، وادَّعى المتسبِّب بأنه لم يُهيج، ولم يُنفِّر شيئًا، فسدًا للذرائع، وحفظًا لحقوق الآخرين: شُرع هذا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" وهو واضح، وهو المسمَّى بـ"قياس الشبه".
(59)
مسألة: إذا ربط زيد دابته بطريق، أو جعل في الطريق شيئًا من الطين، أو قشور بعض الخضروات أو الفواكه، أو جعل فيه أخشابًا، أو أحجارًا، أو مواد بناء، أو نحو ذلك، أو كان عنده كلب عقور -وهو المتوحش-، أو أيَّ بهيمة من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السباع، أو القطط أو نحو ذلك، وتسبَّبت في إيذاء المارِّين، وتلف شيء من أبدانهم أو أموالهم: فإن زيدًا يضمن جميع الأضرار المترتبة على ذلك سواء كان الطريق ضيقًا أو واسعًا، وسواء كان ذلك في الليل أو النهار بشرط: أن يدخل شخص بيت من عنده كلب عقور أو أي بهيمة من بهائم السباع بإذن صاحب ذلك الكلب وذلك السبع -وهو زيد- فإن دخل بيته بدون إذن صاحبه وأذاه ذلك الكلب أو السبع: فلا ضمان على زيد، وكذا: إن بال ذلك الكلب في إناء أو ولغ فيه: فلا يضمن زيد ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن قد تعدَّى بسبب ما فعله في الطريق فيلزم: أن يضمن ذلك لتعدِّيه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع الضرر العام والخاص عن الآخرين، فإن قلتَ: لِمَ يضمن مع أن الطريق واسع؟ قلتُ: لعدم التفريق بين الضيق والواسع في المشي فيه وسلوكه، فإن قلتَ: لِمَ ضمن من اقتنى كلبًا عقورًا أو أيَّ سبع؟ قلتُ: لأنه متعدٍّ بمجرَّد ذلك الاقتناء له؛ لكونه غير معتاد اقتناء ذلك، فإن قلتَ: لم اشتُرط في الضمان: أن يدخل شخص بيته بإذنه؟ قلتُ: لكونه قد دخل دخولًا مشروعًا، فيكون آمنًا على نفسه، فيضمن صاحب البيت والكلب، أما إذا دخل بيته بدون إذن: فلا يضمن ما لحق الداخل من أذى الكلب؛ لكونه قد اعتدى بدخوله بلا إذن، والمعتدي لا يُضمن، فإن قلتَ: لم لا يضمن زيد -صاحب الكلب العقور- إذا أتلف شيئًا بغير العقر كبوله في الإناء؟ قلتُ: لأن أفعاله -غير العقر- عادية، وما يُفعل عادة لا يُضمن وإن تلف بسببه شيء. (فرع): إذا اقتنى زيد هرًا يأكل دجاج الآخرين، ويُخوِّف الصبيان: فإن مقتنيه يضمن ذلك كله؛ للتلازم؛ وقد بيّناه مع مقصده في مسألة (59). (فرع ثان): إذا اقتنى زيد حمامًا أو دجاجًا يأكل حب الآخرين: فإنه لا يضمن صاحبها ذلك؛ للعادة والعرف؛ حيث إن العادة قد جرت على إطلاق مثل تلك الطيور، وهذا يلزم منه: عدم ضمان ما أكلته. =
والفواسق
(60)
، وإن حفر في فنائه بئرًا لنفسه: ضمن ما تلف بها
(61)
، وإن حفرها لنفع المسلمين بلا ضرر في سابلة: لم يضمن ما تلف بها؛ لأنه محسن
(62)
وإن مال
(60)
مسألة: يجوز للمسلم قتل هرة أو نمل أو أيٍّ حشرةٍ إذا حصل منها تخويف لبني آدم، أو أكل أيَّ شيء له ثمن: سواء كان لحمًا أو غيره؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز قتل الفواسق الخمس في الحل والحرم وهي: "الفأرة، والحية، والعقرب، والحدأة، والكلب الأسود" كما ورد في السنة القولية فكذلك يجوز قتل الهرة، ونحوها من الحشرات المؤذيات، والجامع: دفع الأذى عن المسلم في كل وهذا من باب: "القياس على المحصور بعدد"؛ لأن المراد: مقصد الحديث، لا الألفاظ، وهذا هو المقصد الشرعي من ذلك.
(61)
مسألة: إذا حفر شخص بئرًا في فناء داره -وهو المكان الخارج عن داره القريب جدًا من جدارها -ولم يسد ذلك البئر سدًا يمنع من السقوط فيه: فإنه يضمن ما تلف فيه: سواء كان ذلك الحفر بإذن الإمام أو نائبه أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن ما تلف حصل بسبب تعدِّيه لغير مصلحة الجميع، بل لمصلحته فقط: فيلزم أن يضمن كل ما تلف بسبب ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية الناس من الإضرار بهم، فإن قلتَ: إن حَفَرها بإذن الإمام أو نائبه: لم يضمن ما تلف في ذلك، وهو قول الشافعية؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز له أن يأذن في القعود بهذا الفناء والطريق، ولو تلف شيء بسبب القعود: فإنه لا يُضمن فكذلك الحال هنا، والجامع: أن للإمام الإذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الإذن في القعود لا يدوم عادة ويمكن إزالته في الحال، بخلاف حفر البئر: فهو يدوم، ولا يمكن إزالة الحفر في الحال. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض التلازم مع القياس" كما سبق بيانه.
(62)
مسألة: إذا حفر شخص بئرًا لنفع جميع المسلمين للشرب، أو للتطهر منها، أو بنى بناءات ليستريح فيها المسافرون أو نحو ذلك: فلا يضمن ما تلف بسبب ذلك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بشرطين: أولهما: أن يكون هذا الحفر في طريق واسع. ثانيهما: أن لا يوجد ضرر في ذلك الحفر، فإن كان هذا الحفر بطريق ضيق، أو فيه ضرر على جماعة من المسلمين: فيضمن ما تلف فيها؛ للقياس؛ بيانه: كما أن باسط الفرش، والحصير، وواضع المياه في المساجد لا يضمن ما تلف بسببها، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهم محسن بفعله غير متعدٍّ على حق غيره، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك تدعو الحاجة إليه، فلو ضمن ما تلف بسببها لامتنع الصالحون من وضعها لنفع المسلمين، فإن قلتَ: إن حفرها، أو بنى شيئًا بإذن الإمام أو نائبه: فلا يضمن ما تلف بها، وإن كان بغير إذنهما: فإنه يضمن؛ وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو رأي كثير من العلماء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الإمام أو نائبه يقوم بمصالح المسلمين العامة: أن يستأذن في الأعمال العامة، وهذا يلزم منه: ضمان ما تلف بسبب عمل شيء بدون إذنه، ولا يضمن إن عمله بإذنه؛ لكونه عمل ماله عمله شرعًا قلتُ: هذا بعيد؛ لأن هذه الأعمال الخيرية يشق استئذان الإمام أو نائبه فيه؛ نظرًا لكثرة ما تُعمل، ودفعًا لتلك المشقّة، ومنعًا من تعطيل تلك الأعمال الخيرية: شُرع عدم استئذانه، وعدم ضمان ما تلف بسببها؛ حثًا للمسلمين على تكثير الأعمال الخيرية، فإن قلتُ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس والمصلحة". (فرع): إن حفر شخص بئرًا في ملك نفسه، فتلف فيها شيء بسقوطه، ولو كان إنسانًا: فلا يضمن صاحب البئر، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"والبئر جبار"، وكذا: إن استأجر شخص شخصًا آخر بأن ينزل إلى أسفل بئر ليستخرج ما فيها من معدن أو غيره، أو استأجره ليبني له جدارًا، فانهارت عليه البئر، أو سقط عليه الجدار فلا ضمان في ذلك كله، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"والمعدن جبار"؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حفره في ملكه وتلف المستأجَر فيها وفعله ماله فعله شرعًا =
حائطه، ولم يهدمه حتى أتلف شيئًا: لم يضمنه؛ لأن الميل حادث، والسقوط بغير فعله
(63)
(وما أتلفت البهيمة من الزرع) والشجر وغيرهما (ليلًا: ضمنه صاحبها،
وعدم اعتدائه على غيره: عدم ضمانه بما حصل بسبب ذلك.
(63)
مسألة: إذا كان في ملك شخص حائط وجدار مائل إلى ملكه، أو مستو، ولم يهدمه حتى أتلف شيئًا من أموال غيره، أو آدمي: فإن هذا الشخص لا يضمن ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم كون الجدار في ملكه، والميل حادث والسقوط طارئ من غير فعله، وعدم تعدِّيه، وعدم تفريطه: أن لا يضمن شيئًا مما تلف بسببه. الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لو حفر بئرًا في ملكه، فلا يضمن ما تلف بسببها فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما في ملكه، ولم يعتد على أحد في ذلك: فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حرية المسلم في ملكه يفعل به ما يشاء. (فرع): إذا كان في ملك شخص حائط مائل إلى ملك غيره، أو إلى الطريق فتلف به شيء بسبب سقوطه عليه: فإن هذا الشخص يضمن كل ما تلف إذا كان عالمًا بذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشخص لو وضع، منجلًا -وهو الشيء الحاد الذي يحصد به الزرع- في جداره في جهة الغير أو الطريق فأتلف هذا المنجل شيئًا، أو هلك به آدمي: فإنه يضمن ذلك كله فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما قد وضع في هواء ملك غيره، أو في هواء ملك مشترك -وهو الطريق- ومعرَّض للوقوع في ملك غيره فضمن في الكل، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية الناس، وأملاكهم من الإتلاف، والأضرار - تنبيه: لقد أكثر الفقهاء الكلام في هاتين المسألتين وأوردوا في ذلك إشكالات فلما فرِّق بينهما: زالت أكثر الإشكالات الموجّهة. (فرع ثان): إذا سقط جدار مستقيم على أحد: فلا ضمان مطلقًا للتلازم؛ حيث إنه لم يقع اعتداء، ولا تفريط من صاحبه فيلزم عدم الضمان؛ لكونه فعل ماله فعله. (فرع ثالث): إذا بنى شخص جدارًا مائلًا وسقط: فإنه يضمن ما تلف =
وعكسه النهار)؛ لما روى مالك عن الزهري عن حزام بن سعد: أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم
(64)
(إلا أن تُرسل) نهارًا (بقرب ما تتلفه
بسببه مطلقًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من بنائه الجدار بهذا الشكل: أن يضمن ما تلف بسببه؛ لكونه قد اعتدى بفعله ذلك، وظاهر فعله: أنه قاصد إيذاء الآخرين بذلك.
(64)
مسألة: إذا كان لزيد بهيمة، فأتلفت تلك البهيمة زرعًا أو شجرًا لعمرو: فإن زيدًا يضمن ما أتلفته بالليل فقط، أما ما أتلفته في النهار فلا يضمنه؛ للسنة القولية: حيث إن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فقضى عليه السلام على القوم -أهل الأموال- حفظ أموالهم بالنهار، وما أفسدته في الليل فهو مضمون عليهم، وهذا يلزم منه: عدم ضمان ما أفسدته البهيمة بالنهار. فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن العادة قد جرت أن أهل المواشي يرسلونها نهارًا في مواضع رعيها، وحفظها ليلًا، وعادة أهل المزارع، والأشجار، والأملاك حفظها نهارًا، دون الليل، فإذا ذهبت البهائم ليلًا كان التفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت حفظها فضمَّنهم الشارع ما أتلفته؛ حماية لحق المزارعين وأهل الأملاك من الضياع، وإذا تلفت نهارًا كان التفريط من أهل الزروع والأملاك بتركهم حفظها في وقت حفظها، فلم يضمِّن الشارع أهل البهائم ما أتلفته منها، حماية لحق أهل البهائم، فكان في هذا الحكم مراعاة للطرفين، وهذا منتهى العدالة والإنصاف، فإن قلتَ: لا يضمن صاحب البهيمة مطلقًا: أي سواء أتلفت بالليل أو النهار، وهو قول أبي حنيفة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن صاحب البهيمة لا يضمن ما أتلفته بهيمته بالنهار، فكذلك ما أتلفته بالليل لا يضمنه والجامع: أنه في كل منهما يده ليست عليها. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن النهار ليس كالليل بالنسبة لحفظ البهيمة وعدمه، فالفرق بينهما كما سبق بيانه =
عادة) فيضمن مرسلها؛ لتفريطه
(65)
، وإذا طرد دابة من زرعه: لم يضمن
(66)
؛ إلا أن يدخلها مزرعة غيره
(67)
، فإذا اتصلت المزارع: صبر؛ ليرجع على ربها
(68)
، ولو قدر
بالسنة القولية، والمصلحة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة القولية والمصلحة" كما سبق بيانه.
(65)
مسألة: إذا أرسل زيد بهيمته بقرب زرع عمرو أو شجره أو أي شيء له، فأتلفته: فإن زيدًا يضمن ذلك كله مطلقًا، أي: سواء كان ذلك ليلًا أو نهارًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو بنى جدارًا مائلًا فسقط فأتلف حقًا من حقوق الغير: فإنه يضمن مطلقًا، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما قد فرَّط وتسبَّب في إيذاء الآخرين، وأنه قاصد لذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية الناس وحقوقهم من الاعتداء عليها، وحفظها لهم.
(66)
مسألة: إذا دخلت بهيمة زيد على زرع عمرو، ثم طردها عمرو من زرعه فقط: فإن عمرًا لا يضمن فيما لو أتلفت تلك البهيمة زرع غيره؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم اعتدائه وعدم قصده طردها إلى زرع الآخرين: عدم ضمانه لما أتلفته؛ لكون ذلك ليس من فعله. فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق عمرو.
(67)
مسألة إذا دخلت بهيمة زيد على زرع عمرو، ثم طردها عمرو وأدخلها مزرعة بكر: فإن عمرًا يضمن ما أتلفته تلك البهيمة من مزرعة بكر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تسبُّبه في هذا الإتلاف: ضمانه، والمقصد من هذا حماية حق بكر.
(68)
مسألة: إذا دخلت بهيمة زيد على زرع عمرو، ولم يستطع عمرو طردها من مزرعته؛ نظرًا لاتصال المزارع بعضها ببعض: فإنه -أي: عمرو- يصبر عليها، وما أتلفته أو أكلته يرجع به إلى مالكها -وهو زيد- ويأخذ قيمته منه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم إمكانه لمنعها إلّا بإدخالها إلى مزارع الآخرين: أن يصبر =
أن يخرجها وله منصرف غير المزارع فتركها: فهدر
(69)
(وإن كانت) البهيمة (بيد راكب، أو قائد، أو سائق: ضمن جنايتها بمقدَّمها) كيدها وفمها (لا) ما جنت (بمؤخرها) كرجلها؛ لما روى أبو سعيد مرفوعًا: "الرِّجل جبار"، وفي رواية أبي هريرة:"رِجْل العجماء جبار"
(70)
، ولو كان السبب من غيرهم كنخس وتنفير: ضمن
عليها، ويأخذ قيمة ما أتلفته من مالكها؛ لكونه ليس له إلّا هذا فلجأ إليه ضرورة عدم جواز غير هذا الطريق، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ بهيمة زيد وحفظ مزارع الآخرين من الإتلاف.
(69)
مسألة: إذا دخلت بهيمة زيد على زرع عمرو، وكان عمرو يستطيع إخراج تلك البهيمة إلى مكان خال من مزارع الآخرين، ولكن عمرو لم يفعل ذلك، بل جعلها تأكل من مزرعته: فلا ضمان لما أتلفته أو أكلته، وهو هدر لا يُرغم مالكها -وهو زيد- على دفع قيمته للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو حمل حَطَبًا على رأسه أو على دابته فخرق ذلك الحطب ثوب بصير مكلف يجد منحرفًا في الطريق: فإنه -أي: زيد- لا يضمن ذلك المتلف -وهو الثوب- فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا من عمرو، وذلك المكلَّف البصير فرَّطا في عدم التصرف وإبعاد البهيمة، أو الابتعاد عن الحطب مع قدرتهما على ذلك، فلا يتحمَّل زيد ما فرَّطا فيه.
(70)
مسألة: إذا ركب فوق البهيمة صاحبها، أو مستأجرها، أو مستعيرها، أو كان يقودها، أو يسوقها، وأتلفت تلك البهيمة شيئًا: فإن هذا الراكب، أو السائق، أو القائد يضمن ما أتلفته بيديها، وفمها فقط، ولا يضمن ما أتلفته بمؤخرها كرجليها؛ للعادة والعرف: حيث يلزم من قدرته عادة على التصرُّف في مقدمها -كيديها وفمها-: أن يضمن ما تلف بسببه؛ لكونه يملك حفظ ذلك غالبًا، ويلزم من عدم قدرته عادة على التصرُّف في مؤخرها -كرجليها-: أن لا يضمن ما تلف بسببه؛ لكونه لا يملك حفظ رجليها عن الجناية غالبًا، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حقوق المارَّة بأن يحفظ كل إنسان بهيمته من الاعتداء على الآخرين، وفيه حفظ حقوق الراكبين، وقيادة بهائمهم في الأسواق والممرات بدون ضمان ما أتلفته بمؤخرتها. تنبيه: ما ذكره المصنف مما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرجل جبار" أو "رجل العجماء جبار" لا يصح الاستدلال به؛ لضعفه كما قال كثير من أئمة الحديث؛ والصحيح: "العجماء جبار"، وهو لا يصلح شاهدًا لما نحن فيه، فإن قلتَ: إن راكب تلك البهيمة، أو سائقها ونحوهما أو قائدها يضمن ما أتلفته في مقدمها وفي مؤخرها، وهو رواية عن أحمد، وشريح، والشافعي؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يضمن ما أتلفته بهيمته بمقدمها فكذلك يضمن ما أتلفته بمؤخرها، والجامع: أن كلًّا منهما جناية بهيمة كانت يده عليها، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الراكب أو السائق، أو القائد يستطيع التصرُّف بمقدمها ولا يستطيع التصرُّف بمؤخرها على حسب العادة والعرف فيكون الضمان وعدمه على حسب ذلك. ومع هذا الفرق فلا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع العرف والعادة" كما سبق بيانه فإن قلتَ: إن راكب تلك البهيمة، أو قائدها، أو سائقها لا يضمن ما أتلفته في مقدمها كما في مؤخرها وهو قول مالك؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يضمن من لم تكن يده عليها فكذلك لا يضمن من كانت يده عليها، والجامع: أنه في كل منهما جناية بهيمة، فلا يُسأل عما تفعل. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع النص؛ حيث إن السنة القولية قد ثبت فيها أنه يضمن صاحب البهيمة ما أتلفته في الليل فقط وإن لم تكن يد صاحبها عليها -كما سبق في مسألة (64)، أما ما أتلفته في النهار بمقدمها ويده عليها: فيضمن؛ لقدرته على منعها- كما سبق في هذه المسألة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة القولية، والتلازم" كما سبق ذكره.
فاعله
(71)
، فلو ركبها اثنان: فالضمان على المتصرِّف منهما
(72)
، (وباقي جنايتها هدر) إذا لم يكن يد أحد عليها؛ لقوله عليه السلام:"العجماء جبار" أي: هدر
(73)
، لا
(71)
مسألة: إذا كانت البهيمة مع صاحبها عمرو الراكب أو السائق، أو القائد لها، وهو يمشي بها في الطريق مشيًا اعتياديًا، فضربها زيد، أو نفَّرها بشيء، أو نخسها: فإن زيدًا يضمن ما أتلفته تلك البهيمة مطلقًا، أي: سواء أتلفته بمقدمها، أو مؤخرها ولا يضمن الراكب أو القائد أو السائق؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو أتلف مال غيره بشيء: فإنه يضمنه مطلقًا، فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما وجد سبب الإتلاف منه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الراكب أو القائد، أو السائق، وحثّ على عدم الاعتداء على الآخرين وبهائمهم. (فرع): إذا كانت البهيمة مع صاحبها عمرو الراكب، أو السائق، أو القائد، لها، فنفَّرها هو، وهيَّجها فأتلفت أو جنت بسبب ذلك: فإن هذا الراكب، أو السائق، أو القائد يضمن ذلك مطلقًا، أءَ: سواء أتلفته بمقدمها أو مؤخرها؛ للقياس وقد بيّنته في مسألة (71).
(72)
مسألة: إذا ركب على البهيمة اثنان، أو أكثر أو قادها أو ساقها اثنان أو أكثر، وأتلفت شيئًا: فإن المتصرِّف فيها يضمن ذلك: سواء كان هذا المتصرِّف فيها راكبًا في المقدمة أو المؤخرة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تصرفه فيها وتملُّكه لزمامها: أن يضمن كل ما أتلفته. (فرع): يُقال في السيارة، والطائرة، والقطار، وسائر الدراجات ما قيل في البهيمة فيما سبق من المسائل التي تقبل فرض الحديد فيها.
(73)
مسألة: إذا جنت بهيمة عادية على آدمي، أو أتلفت شيئًا: فلا يضمن صاحبها ما أتلفته أو جنت عليه بشرطين: أولهما: أن لا يكون ذلك المتلف زرعًا أو شجرًا، فإن كان: ففيه التفصيل السابق في مسألة (64 وما بعدها). ثانيهما: أن لا تكون يد أحد عليها، فإن كان: ففيه التفصيل السابق في مسألة (70 وما بعدها)؛ للسنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار" والجبار: الهدر والباطل، فحكم =
الضارية، والجوارح، وشبهها
(74)
(كقتل الصائل عليه) من آدمي، أو غيره إن لم يندفع إلّا بالقتل، فإذا قتله: لم يضمنه؛ لأنه قتله بدفع جائز؛ لما فيه من صيانة النفس
(75)
..................................
=
الشارع على أن ما تتلفه أو تجني عليه البهائم العجماء: هدر، لا يُضمن، وهذا عام يشمل جميع الحالات، وقد خُصِّص ما جاء في الشرطين السابقين أدلة خاصة من: "السنة القولية -كما في مسألة (64) - والعرف والعادة -كما في مسألة (70) -، والسنة القولية تخصصها السنة القولية، والعادة والعرف.
(74)
مسألة: إذا جنت بهيمة غير عادية كالكلب العقور، أو دابة عضوض، أو رفوس، أو كالطائر الجارح كالصقر، والبازي، أو أتلف آدميًا، أو أشياء أخرى: فإن صاحبها يضمن ذلك مطلقًا، أي: سواء كان معها صاحبها، أو لا، وسواء كان في الليل أو النهار؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون تلك البهائم لم يعتد الناس على وجودها بينهم، وصاحبها يعرف الأذى منها عليهم: أن يضمن ما أتلفته مطلقًا؛ لأن إذنه بكونها بينهم يُعتبر سببًا في أذاهم، وهذا مضمون، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حماية الناس من الأذى، وحفظ الناس من كل ما يُخوفهم.
(75)
مسألة: إذا صال وهجم على شخص صائل وخاف على نفسه منه: فإنه يجوز لهذا الشخص أن يقتله إذا لم يندفع إلّا بذلك، سواء كان هذا الصائل إنسانًا أو حيوانًا، وإن قتله لم يضمنه بشيء؛ للتلازم؛ حيث إن دفع الإنسان الأذى عن نفسه واجب شرعًا؛ صيانة لنفسه فيلزم عدم ضمان ما حصل بسبب ذلك؛ لأنه من باب "ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب"، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للمسلمين من اعتداء الآخرين عليهم، وفيه إحساس المسلم بالأمان. (فرع): إذا دخل رجل في بيته بدون إذنه، ورآه يزني بامرأته برضا منها، أو لم يره يزني ولكن صاحب البيت عرف بقرائن وأمارات =
(و) كـ (ـكسر مزمار) أو غيره من آلة اللهو (وصليب، وآنية ذهب وفضة، وآنية خمر غير محترمة)؛ لما روى أحمد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ مدية، ثم خرج إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق الخمر قد جُلبت من الشام، فشُققت بحضرته، وأمر أصحابه بذلك، ولا يضمن كتابًا فيه أحاديث رديئة، ولا حليًا محرمًا على الرجال إذا لم يصلح للنساء
(76)
.
أنهما كانا يريدان فعل ذلك، فإنه يجوز له قتلهما، ولا يضمن ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز قتل الصائل، ولا يضمن فكذلك يجوز القتل في هذه الحالة، والجامع: الدفاع عن نفسه وعرضه في كل، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لأعراض الناس، ونسبهم ومنع الفساد والإفساد. (فرع ثان): إذا طلب شخص من شخص آخر أن يفجر به، ولم يستطع المطلوب أن يدفع الطالب إلّا بالقتل: فإنه يجوز قتله، ولا يضمنه؛ للقياس على الصائل، وقد سبق بيانه في الفرع السابق. (فرع ثالث): إذا ادَّعى أهل المقتول: أن القاتل قد قتل ذلك الشخص؛ ظلمًا وعدوانًا وعمدًا، وأنكر القاتل قائلًا:"إني قتلته؛ لكونه قد صال عليّ أو على عرضي" ولم توجد أدلّة وبراهين وأمارات تدلّ دلالة واضحة على صدق القاتل، أو أهل المقتول: فإنه يُقبل قول القاتل مع يمينه؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "البيّنة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر" وهو واضح الدلالة، وسيأتي زيادة بيان ذلك في بابي "الزنا" و"القصاص" إن شاء الله تعالى.
(76)
مسألة: إذا أتلف شخص شيئًا منهيًا عنه شرعًا كآلات اللَّهو، والصليب، وآنية الذهب والفضة، وأواني الخمر لغير ذمي استتر بها؛ وكتاب فيه أحاديث وأقوال كاذبة، أو كتاب سحر، أو حلي على رجل، فكل ذلك يجوز بدون ضمان؛ للسنة القولية: حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يُتلف الخمور ولم يضمنها، وغيرها من الصليب ونحوه مما ذكرناه مثل الخمر؛ لعدم الفارق؛ بجامع دفع الضرر عن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المسلمين؛ فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المجتمع الإسلامي من الفساد والإفساد، والحثّ على فعل الفضيلة، ونبذ الرذيلة، فإن قلتَ: لِمَ يضمن المسلم خمر الذمي الذي يستتر به إذا أتلفه؟ قلتُ: لأن هذه الخمرة محترمة؛ حيث إن من ضمن عقد الذمة: أن لا نتلف ما هم عليه من فسق إذا لم يظهروه، وقد سبق ذلك في مسألة (57).
هذه آخر مسائل باب "الغصب وضمان ما أتلفه الآخرون" ويليه باب "الشفعة".
باب الشُّفْعَة
بإسكان الفاء، من الشفع، وهو: الزوج؛ لأن الشفيع بالشفعة يضم المبيع إلى ملكه الذي كان منفردًا (وهي: استحقاق) الشريك (انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي) كالبيع، والصلح، والهبة بمعناه، فيأخذ الشفيع نصيب البائع (بثمنه الذي استقر عليه العقد)
(1)
؛ لما روى أحمد والبخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قضى بالشفعة في كل ما لم يُقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة"
(2)
(فإن
باب الشُّفْعَة
وفيه ثنتان وأربعون مسألة:
(1)
مسألة: الشفعة: بضم الشين مع تشديدها، وتسكين الفاء وفتح العين -لغة: مأخوذة من الشفع، وهو: الزوج، يُقال:"كان وترًا فشفعته" وشفع الوتر من العدد شفعًا: صيَّره زوجًا، مشتقة وهي من الزيادة؛ لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به، أي: أنه كان واحدًا فصار زوجًا شفعًا -كما في اللسان (8/ 184) -، وهي في الاصطلاح:"استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه -وهو مشتريها- بعِوَض مالي وهو نفس ثمنه الذي باع شريكه حصته به" فمثلًا: إذا كان زيد وعمرو شريكين في دار أو مزرعة، شركة مشاعة بينهما فباع عمرو نصيبه على بكر بعشرة آلاف: فإنه يحق لزيد أن يوقف البيع، وينتزع حصة عمرو من بكر بنفس السعر المتفق عليه بين عمرو وبكر -وهو عشرة آلاف- تنبيه: قوله: "والصلح والهبة بمعناه" سيأتي بيانه.
(2)
مسألة: الشفعة جائزة، وهي حق للشفيع؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال جابر: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يُقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة" وهذا يلزم منه جواز الشفعة فيما لم يُقسم بالحدود -وهي الشركة في الشيء المشاع- الثانية: المصلحة؛ حيث إن مشروعية =
انتقل) نصيب الشريك (بغير عوض) كالإرث، والهبة بغير ثواب، والوصية (أو كان عوضه) غير مالي: بأن جعل (صداقًا أو خلعًا أو صلحًا عن دم عمد: فلا شفعة)؛ لأنه مملوك بغير مال أشبه الإرث، ولأن الخبر ورد في البيع، وهذه ليست في معناه
(3)
(ويحرم التحيل لإسقاطها) قال الإمام: لا يجوز شيء من الحيل في إبطالها،
الشفعة فيها دفع مفاسد عن الشركاء؛ إذ لو اشترك زيد وعمرو وأراد عمرو بيع نصيبه على بكر: فإن زيدًا قد يلحقه الضرر؛ لأنه لم يشارك عمرًا إلّا لأنه ثقة عدل عنده، ويأمنه على أمواله، فإذا باع عمرو نصيبه على بكر فقد لا يأمن زيد بكرًا على ماله فينشغل باله في ذلك، وقد يكون بكر عدوًا لزيد، أراد بشرائه نصيب عمرو أن يكون شريكًا لزيد لإيذائه: فدفعًا لذلك الضرر الذي يمكن أن يلحق زيدًا فتح الشارع هذا الباب -وهو باب الشفعة- للتخلّص من ذلك الشريك الطارئ -وهو بكر- والبائع -وهو عمرو- لن يتضّرر؛ لأن ثمن نصيبه سيصله بالكامل من زيد، والمشتري -وهو بكر- لن يتضرّر؛ لأن الثمن الذي دفعه لعمرو سيرجع إليه بتمامه، فإن قلتَ: إن الشفعة لا تجوز، وهو قول أبي بكر بن الأصم؛ للمصلحة: حيث إن جوازها فيه إلحاق الضرر لأصحاب الأملاك؛ لأن المشتري -الذي هو بكر- إذا علم أنه سيؤخذ منه ما اشتراه -من عمرو- لم يُقدم على شرائه، وقد يتأخر الشريك -وهو زيد هنا- فيتضرّر المالك -وهو عمرو- قلتُ: إن هذا لا يصح؛ لوجهين: أولهما: إن هذا اجتهاد مخالف للنص -وهي السنة القولية- ولا اجتهاد مع النص، ثانيهما: أن الشريك -وهو زيد- إن تأخّر عن الشراء ودفع الثمن: فإن عمرًا يبيعه على غيره وهذا واقع، فلم تمنع الشفعة من الشراء، فإن شقّ ذلك: فإنه يتقاسم مع زيد ما اشتركا فيه وتسقط الشفعة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع السنة القولية" و"تعارض المصلحتين" وقد سبق بيان ذلك.
(3)
مسألة: الشفعة تثبت في نصيب الشريك الذي انتقل بعوض مالي كالمبيع -وكذلك: =
ولا إبطال حق مسلم، واستدلّ الأصحاب بما روى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"
(4)
(وتثبت) الشفعة
ما جرى مجراه كالصلح عن إقرار بمال والصلح عن الجناية الموجبة للمال، وكذا: الهبة المشروط فيها ثواب معلوم؛ أما إذا انتقل نصيبه بعوض غير المال مثل: أن يموت عمرو، ويرثه بكر، أو أن يجعل عمرو نصيبه صداقًا لامرأة، يريد أن يتزوجها، أو يجعله عِوَضًا عن خلع، أو يوهبه لبكر بلا ثواب، أو يتصدَّق به على بكر، أو يوصي به له، أو يجعله صلحًا عن دم قتل عمد: فإن هذا لا تصح فيه الشفعة؛ للقياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن الشفعة ثابتة في المبيع؛ نظرًا لورود خبر جابر -السابق فيه- فكذلك تثبت في الصلح عن إقرار بمال، والصلح عن الجناية الموجبة للمال، والهبة التي فيها ثواب ونحو ذلك مما جرى مجرى المبيع والجامع: أن كلًّا منها فيه عوض مالي صالح لأن يدفعه الشفيع. ثانيهما: كما أن الشفعة لا تثبت في النصيب الموروث بالإجماع، فكذلك لا تثبت في النصيب الذي جعل صداقًا أو الذي جُعل صُلحًا عن دم قتل عمد، أو الذي وُهب للغير بدون ثواب، أو المتصدَّق، أو الموصى به، أو الذي جُعل عوضًا عن خلع، والجامع: أنه في كلٌّ منها قد ملك نصيب شريكه بغير مال، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إيضاح أن الشفعة لا تصحّ إلّا بالشيء الواضح الجلي كالمبيع أما ما لم يتّضح: فلا شفعة فيه؛ دفعًا للضرر، والجهالة، واللَّبس.
(4)
مسألة: تحرم جميع الحيل التي تؤدي إلى إسقاط الشفعة وتحرّم جميع الحيل التي تسقط أيَّ حق لأي مسلم، كأن يشترك عمرو وزيد في ملك دار، ثم يبيع عمرو نصيبه على بكر بعشرة آلاف ثم يبين عمرو وبكر لزيد أن ثمن هذا مائة ألف؛ لينفر زيد ولا يشفع؛ نظرًا لغلاء الثمن ونحو ذلك مما يبطل الشفعة كأن يسقطها بالوقف أو الصدقة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية وهي من وجوه: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل" حيث حرّم الحيل وإن =
(لشريك في أرض تجب قسمتها) فلا شفعة في منقول كسيف ونحوه؛ لأنه لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص
(5)
، ولا فيما لا تجب قسمته كحمام، ودور صغيرة
كانت صغيرة؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، وهو يقصد: ما روي: أن اليهود كانوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وقعت في الشباك، فيدعوها إلى ليلة الأحد، فيأخذونها، ويقولون: ما اصطدنا يوم السبت شيئًا فمسخهم الله بسبب تلك الحيلة، ثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تحل الخديعة لمسلم" والخديعة هي: الحيلة، والله تعالى ذم المخادعين، وهم المتحايلون، ثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود، إن الله لمّا حرم عليهم الشحوم: جملوها، ثم باعوها، فأكلوا أثمانها" وهذا من الحيل الظاهرة، الثانية: الاستقراء؛ حيث إنه ثبت بعد استقراء وتتبّع أحوال الصحابة من أقوال وأفعال: أن الحيل بأنواعها محرمة، فإن قلتَ: لِمَ حُرِّمت الحيل التي تُسقط الشفعة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الشفعة قد صحت شرعًا لدفع الضرر عن الشركاء، فإذا سقطت بالتحيل: لعاد الضرر فلم يكن لمشروعية الشفعة فائدة إذن، فإن قلتَ: لِمَ حُرّمت الحيل التي تسقط الحق لأي مسلم؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حق المسلم من أن يؤخذ ويؤكل بالباطل.
(5)
مسألة: الشفعة ثابتة في أرض أو عقار تجب قسمتها، وعلى ذلك: فلا تجب الشفعة في جميع المنقولات كالجواهر، والنقود، والسيوف، والحيوانات، والسفن، والزروع والثمار ونحو ذلك، للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة" حيث أثبت الشارع جواز الشفعة في العقار الذي وجبت قسمته، ولكنه لم يُقسم، ونفاها عما فُرِّق بينها كالمنقولات المقسومة في أصلها كما مثَّلنا، فتكون المنقولات لم يُنصَّ عليها، ولم تكن في معنى النص حتى نقيسها عليها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن ما لم يُقسم يدوم ضرره لو لم تُشرع الشفعة، أما ما يُقسم كالمنقولات فلا يبقى على الدوام، فلا يدوم ضرره، فلم تُشرع فيه الشفعة؛ =
ونحوها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شفعة في فناء، ولا طريق، ولا منقبة" رواه أبو عبيدة في "الغريب"، والمنقبة: طريق ضيق بين دارين، لا يمكن أن يسلكه أحد
(6)
(ويتبعها) أي: الأرض (الغراس والبناء) فتثبت الشفعة فيهما تبعًا للأرض إذا بيعا معها، لا إن بيعا مفردين
(7)
(لا الثمرة والزرع) إذا بيعا مع الأرض، فلا يؤخذان بالشفعة؛ لأن
لكونه مقسومًا في أصله.
(6)
مسألة: تثبت الشفعة فيما لا تمكن قسمته كالدور الصغيرة، والحمام الصغير، والبئر والرحى الصغيرة ونحوها؛ وهو رأي أبي حنيفة، ورواية عن مالك، وهو اختيار ابن تيمية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "الشفعة فيما لم يُقسم" وهذا عام للكبيرة والصغيرة. الثانية: القياس؛ بيانه: كما تثبت الشفعة في الأشياء الكبيرة مما وجبت قسمتها، فكذلك تثبت في الأشياء الصغيرة التي لا يمكن قسمتها، والجامع: إزالة الضرر في المشاركة، بل إن الضرر في الأشياء الصغيرة أكثر؛ لكونه يتأبَّد ضرره، فيكون قياسًا أولى، وهذا هو المقصد منه، فإن قلتَ: لا تثبت الشفعة فيما لا تجب قسمته كالأشياء الصغيرة جداً، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا شفعة في فناء، ولا طريق، ولا منقبة "والمنقبة": طريق ضيق واقع بين دارين، قلتُ: إن الشارع في هذا الحديث قد نفى الشفعة عن الطريق، والمنقبة، والفناء؛ لأنه لا شركة لأحد في ذلك، بل هي عامة للمسلمين، والشفعة ثابتة فيما فيه شركة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين" وقد بيَّنا ذلك.
(7)
مسألة: تثبت الشفعة في الغراس والبناء إذا بيعا تبعًا لأرضهما، أي: تؤخذ بالشفعة؛ أما إن بيع الغراس والبناء منفردين، أي: بدون أرضهما: فلا شفعة في ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "قضى صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يُقسم في أرض، أو ربع، أو حائط"، وهذا يعمّ البناء والأشجار؛ حيث أثبت الشفعة في البناء والأشجار؛ لأنها تابعة للأرض. الثانية: المصلحة: حيث إن =
ذلك لا يدخل في البيع، فلا يدخل في الشفعة كقماش الدار
(8)
(فلا شفعة الجار)؛ لحديث جابر السابق
(9)
(وهي) أي: الشفعة (على الفور وقت علمه، فإن لم يطلبها إذًا
الغراس والبناء إذا بيعا مع الأرض: فإنه يدوم ضررهما، فدفعًا لهذا الضرر شُرعت الشفعة فيها، أما إذا بيع الغراس والبناء منفردين فلا يدوم ضررهما ويمكن إزالتهما وقسمتهما بسهولة مع بقاء الأرض المشتركة، ولذا لا تثبت الشفعة فيه؛ لعدم دوام الضرر.
(8)
مسألة: لا تثبت الشفعة في الزرع والثمرة الظاهرة: سواء بيع مع أصوله وأرضه أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن قماش الدار وأثاثها الذي يسهل حمله وقسمته لا تثبت فيه الشفعة، فكذلك الزرع الثمرة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما لا يدخل في البيع تبعًا، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك لا يدوم ضرره؛ حيث إنه يُمكن إزالة الشراكة بين الشريكين بسهولة، فلا داعي للشفعة.
(9)
مسألة: لا تثبت الشفعة للجار إذا لم يشترك الجاران بطريق واحد ضيق، أو ماء ونحو ذلك، أما إن اشترك الجاران بطريق واحد، وماء واحد، أو في حق من حقوق استيفاء ملكيهما: فإن الجار له الحق في الشفعة ومنع جاره من بيع داره المجاورة له، وأخذها بثمنها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة" حيث دلّ منطوقة على أن الجار لا شفعة له إذا صرفت الطرق، ووقعت الحدود؛ وهذا يكون في عدم الشراكة في شيء، ودلّ مفهوم الشرط على أن الجار له الحق في الشفعة إذا لم تصرف الطرق، وكان له شراكة مع جاره في طريق أو ماء ونحوهما، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الشفعة قد شُرعت لدفع الضرر عن الشريك، وإذا اشترك الجاران في طريق، أو مسلك ماء، أو نحو ذلك: فإن الجار يتضرَّر إذا باع جارُه دارَه المجاورة له؛ لكون هذا الأجنبي المشتري دار جاره قد يؤذي الجار -غير البائع- ويضايقه في الطريق، أو لا يأمنه على أهله، أو ماله أو نحو ذلك، =
بلا عذر: بطلت)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة لمن واثبها" وفي رواية: "الشفعة كحل العقال" رواه ابن ماجه، فإن لم يعلم بالبيع: فهو على شفعته، ولو مضى سنون، وكذا: لو أخَّر لعذر بأن علم ليلًا فأخره إلى الصباح، أو لحاجة أكل، أو شرب، أو طهارة، أو إغلاق باب، أو خروج من حمام، أو ليأتي بالصلاة وسننها، وإن علم وهو غائب: أشهد على الطلب بها إن قدر
(10)
(وإن قال) الشفيع (للمشتري: بعني) ما
فدفعًا للضرر شُرعت الشفعة؛ للتخلُّص من ذلك، أما إذا لم يشترك الجاران في شيء فلا تثبت الشفعة؛ لعدم الحاجة إليها؛ حيث لا ضرر.
(10)
مسألة: الشفعة تثبت على الفور في وقت علم الشفيع، أي: أن له الحق في الشفعة إن طالب بها ساعة علمه بالبيع، فإن كان حاضرًا: طلبها بنفسه، وإن كان غائبًا: أشهد عدلين بأنه مطالب بها فور علمه بها، ولو لم يعلم إلّا بعد سنوات من بيع شريكه لحصته: فإن الشفعة لا تسقط، وكذا: لو أخَّرها لعذر شرعي كأن يعلم بالبيع ليلًا فأخّر الطلب بها إلى النهار، أو يعلم به وهو محتاج لأكل أو شرب أو طهارة، أو إغلاق باب، أو فتحه، أو محتاج لدخول حمام، أو خروج منه، أو ليأتي بالصلاة المفروضة: فإن تأخير طلبه للشفعة بسبب تلك الصور: غير مؤثر في بطلان الشفعة، أما إن لم يُطالب بها ساعة علمه بالبيع، أو أخَّر المطالبة بدون عذر: فلا حقَّ له بالشفعة؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الشفعة لمن واثبها "أي: هي حق لمن طلبها على الفور، مأخوذ من الوثب وهو: القيام بسرعة. الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن خيار الرد بالعيب ثابت على الفور ولا يضر ذلك تأخير لعذر، ويبطل الخيار إذا كان لغير عذر، فكذلك الشفعة، والجامع: أن كلًّا منهما شرع لدفع الضرر عن المال، فإن قلتَ: لِمَ كانت على الفور؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنها لو كانت على التراخي: للحق الضرر على مشتري نصيب الشريك، لكون ملكه على ما اشتراه -وهو نصيب الشريك- غير مستقر، وهذا يمنعه من إنشاء تعمير فيه، أو هدمه، أو أي شيء =
اشتريت (إو صالحني): سقطت؛ لفوات الفور (أو كذَّب العدل) المخبر له بالبيع: سقطت؛ لتراخيه عن الأخذ بلا عذر، فإن كذَّب فاسقًا: لم تسقط؛ لأنه لم يعلم الحال على وجهه (أو طلب الشفيع (أخذ البعض) أي: بعض الحصة المبيعة: (سقطت) شفعته؛ لأن فيه إضرارًا بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه، والضرر لا يُزال بمثله
(11)
، ولا تسقط الشفعة إن عمل الشفيع دلَّالًا بينهما، أو توكَّل لأحدهما، أو
فيه؛ نظرًا لخشيته من أن يؤخذ هذا النصيب منه بالشفعة، ولا يندفع عنه الضرر بدفع قيمة ما أنشأه فيه؛ لأن خسارة تلك المنشآت تكون أكثر من قيمة المبيع -وهو نصيب الشريك-مع تعب وهم قلبه ووقته، فدفعًا للضرر عن ذلك المشتري شرعت الشفعة فورًا، وهذا فيه الجواب الكافي والشافي على من قال: إن الشفعة على التراخي وهو رواية عن أحمد وقول للشافعي؛ قياسًا على القصاص، أي: فكما لا يسقط القصاص أبدًا فكذلك الشفعة، وقالوا: إن الجامع: عدم الضرر في التراخي والتأخير، وهذا منهم غير مسلَّم؛ نظرًا لوجود الضرر الصريح على المشتري إذا كانت على التراخي، فلذا قلنا ما قلنا دفعاً للضرر عنه. فإن قلتَ: لم يبقى حق الشفعة ولو مضى على البيع سنوات إذا لم يعلم به؟ قلتُ: قياسًا على الإرث، بيانه: كما أن له حق الميراث لهذا المال ولو لم يعلم بموت مورِّثه إلّا بعد سنوات، فكذلك الشفعة مثله، والجامع: أن كلًّا منهما حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب، فوجب حكمه، فإن قلتَ: لم تثبت الشفعة للغائب إذا أشهد وقت علمه بالبيع؟ قلتُ: لأن إشهاده دليل رغبته بالشفعة.
(11)
مسألة: تسقط الشفعة في حالات ثلاث: أولها: إذا تصرَّف الشفيع قبل أن يشفع بتصرُّف يدلّ على رضاه ببيع شريكه نصيبه كأن يقول -أي: الشفيع- للمشتري: "بعني، أو أجِّرني ما اشتريت" أو "صالحني": فلا شفعة له؛ للتلازم؛ حيث يلزم من هذا التصرُّف، وهذه العبارات مع المشتري: أنه رضي بترك الشفعة وطلب عوضها. ثانيها: إذا أخبر عدلٌ الشفيع "أن شريكه باع نصيبه" فكذَّب -أي: =
أسقطها قبل البيع
(12)
(والشفعة لـ) ـشريكين (اثنين بقدر حقيهما)؛ لأنها حق يُستفاد
الشفيع -ذلك العدل: فلا شفعة له؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تكذيبه للعدل: أنه تراخى عن الأخذ بالشفعة بلا عذر؛ لأن خبره مقبول شرعًا، ويلزم من تراخيه: سقوطها؛ لكونها تثبت على الفور -كما سبق في مسألة (10) - ثالثها: إذا طلب الشفيع أخذ بعض حصة شريكه التي باعها فقط وليس كلها: فليس له حق الشفعة؛ للمصلحة: حيث إن ذلك يُلحق الضرر بالمشتري؛ حيث إنه يُريد الحصة بكاملها؛ لكون الفائدة لا تتمّ له إلّا بكمالها فإذا أخذ بعض المبيع تضرر، والشفعة شرعت لدفع الضرر عن الشريك، فإذا ترتَّب عليها إلحاق الضرر بالمشتري فإن ذلك يكون إزالة ضرر عن الشفيع بضرر يلحق المشتري، وهذا مخالف لقاعدة "الضرر لا يزال بضرر مثله"، فدفعًا لذلك: تسقط الشفعة؛ لما فيها من الضرر الطارئ. (فرع): إذا أخبره فاسق بأن شريكه قد باع نصيبه فكذَّبه -أي: الشفيع-: فلا تسقط الشفعة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يقبل خبر الصبي والمجنون بذلك فكذلك لا يقبل خبر الفاسق بذلك والجامع: أن خبر كل منهم لا يُقبل في الشرع.
(12)
مسألة: لا تسقط الشفعة إن علم الشفيع ببيع شريكه نصيبه قبل تمام عقد البيع، فمثلًا: لو كان زيد وعمرو شريكين في دار، فأراد عمرو بيع نصيبه على بكر، وكان زيد دلَّالًا وسفيرًا بين عمرو وبكر في هذه الصفقة، أو كان زيد وكيلًا عن عمرو، أو عن بكر في ذلك، أو أسقط زيد الشفعة قبل تمام عقد البيع: فإن لزيد الحق في الشفعة بعد تمام عقد البيع مباشرة؛ للتلازم؛ حيث إن محل الشفعة هو بعد عقد البيع مباشرة فلا يلزم من كون زيد دلَّالًا، أو وكيلًا أو أسقط الشفعة قبل تمام عقد البيع: سقوط حق الشفعة؛ لكون تلك التصرفات حصلت قبل حلول محل الشفعة، فلم تمنع استحقاقه لها، فإن قلتَ: إن الشفيع إذا أسقط الشفعة قبل عقد البيع: فإنها تسقط، أي: ليس له الحق في المطالبة بها بعد البيع، وهذه رواية عن أحمد، أيَّدها كثير من الحنابلة: منهم ابن القيم وغيره؛ لقاعدتين: الأولى: السنة =
بسبب الملك، فكانت على قدر الأملاك فـ"دار" بين ثلاثة: نصف، وثلث، وسدس، فباع رب الثلث: فالمسألة من ستة، والثلث يُقسَّم على أربعة لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب السدس واحد
(13)
(فإن عفا أحدهما): أي: أحد الشفيعين: (أخذ الآخر
القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فإن باع ولم يؤذن له فهو أحق به" فأثبت أن له حق الشفعة إذا باع قبل الاستئذان من الشريك، ودلّ مفهوم الشرط على أن شريكه إذا باع نصيبه بإذنه: فلا حقّ له في الشفعة، الثانية: التلازم؛ حيث إن عرضه عليه وامتناعه من أخذه دليل على عدم وجود الضرر في حقه ببيعه حتى ولو كان هناك ضرر فقد أسقطه فيلزم سقوط الشفعة قلتُ: أما الحديث: فيحتمل أن المراد: أنه يُعرض عليه ليشتري ذلك إن أراد؛ لتخف عليه المؤنة، وليس المراد: إسقاط الشفعة، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، أما التلازم: فلا يُسلَّم؛ حيث إن هذا الامتناع من أخذه لا يدل على عدم وجود الضرر، ولا يدل على اسقاطه إن وجد، فلا يلزم منه سقوط الشفعة؛ لكونه إسقاط حق قبل وجوبه فلا يصح مثل: إسقاط المرأة صداقها قبل التزوج لا يصح؛ حيث إن لها الحق بالمطالبة بالصداق بعد عقد النكاح، والشفعة مثل ذلك.
(13)
مسألة: إذا اشترك زيد، وعمرو، وبكر في ملكية دار، كل واحد يملك ثلث الدار ملكًا مشاعًا، فباع بكر ثلثه على محمد، وأراد زيد وعمرو أن يشفعا: فإن هذا الشقص والنصيب يُقسَّم على الاثنين، وهما: زيد وعمرو -بقدر ملكيهما وحقيهما وإن اختلفت السهام: فمثلًا لو ملك زيد وعمرو وبكر دارًا، وزيد له نصفها، وعمرو له ثلثها، وبكر له سدسها، فباع أحدهم نصيبه: فإنه ينظر مخرج سهام الشركاء الثلاثة، فيأخذ منهم سهام الشفعاء، فيُقسَّم السهم المشفوع عليها، ويصير العقار بين الشفعاء على تلك العدة، فمثلًا -في هذه المسألة- مخرج سهام الشركاء ستة، فإذا باع صاحب النصف -وهو زيد- نصيبه: فسهام الشفعاء ثلاثة، يكون لصاحب الثلث -وهو عمرو- سهمان، ولصاحب =
الكل أو ترك) الكل؛ لأن في أخذ البعض إضرار بالمشتري
(14)
، ولو وهبها لشريكه، أو غيره: لم يصح
(15)
وإن كان أحدهما غائبًا: فليس للحاضر أن يأخذ إلا الكل أو يترك، فإن أخذ الكل ثم حضر الغائب: قاسمه
(16)
(وإن اشترى اثنان حق واحد)
السدس -وهو بكر-: سهم واحد، فتكون الشفعة بينهم على ثلاثة، ويصير العقار بينهم أثلاثًا، لصاحب الثلث ثلثاه، وللآخر ثلثه، وإذا باع صاحب الثلث -وهو عمرو هنا- نصيبه: كانت بين زيد وبكر أرباعًا: يكون لصاحب النصف -وهو زيد- ثلاثة أرباعها، ويكون لصاحب السدس -وهو بكر- ربعها، وإذا باع صاحب السدس -وهو بكر- نصيبه كانت بين زيد وعمرو أخماسًا: يكون لصاحب النصف -وهو زيد- ثلاثة أخماس، ولصاحب الثلث -وهو عمرو- خمساه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الشفعة حقًا وأستفيد بسبب الملك: أن تكون القسمة والسهام على قدر الأملاك؛ تحقيقًا للعدالة، وهذا هو المقصد منه.
(14)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية دار مثلًا فباع عمرو نصيبه على بكر، فإن زيدًا يأخذ جميع نصيب عمرو المباع بالشفعة، أو يترك الجميع؛ للمصلحة: حيث إنه إذا أخذ بعض النصيب المباع ألحق الضرر بالمشتري، وهذا لا يصح؛ فدفعًا لذلك: شرع هذا وقد بيّنتُ هذا في الحالة الثالثة - من حالات سقوط الشفعة -المذكورة في مسألة (11) -.
(15)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو وبكر في ملكية دار مثلًا، فباع بكر نصيبه على محمد، فوهب زيد حقه من الشفعة لعمرو، أو وهبه لشخص أجنبي عنهما: فإن الشفعة تسقط؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو عفى واحد من ورثة المقتول: فإن القصاص يسقط، فكذلك لو وهب حقه من الشفعة لآخر: فإن الشفعة تسقط، والجامع: أنه في كل منهما وقع الإعراض عن طلب حقه، فلا يحق لغيره ذلك؛ لكونه خاصًا بالأعيان، وهذا هو المقصد منه.
(16)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو وبكر في ملكية دار مثلًا فباع بكر نصيبه على =
فللشفيع أخذ حق أحدهما؛ لأن العقد مع اثنين بمنزلة عقدين
(17)
(أو عكسه): بأن اشترى واحد حق اثنين صفقة: فللشفيع أخذ أحدهما؛ لأن تعدُّد البائع كتعدُّد المشتري
(18)
(أو اشترى واحد شقصين) -بكسر الشين- أي: حصتين (من أرضين
محمد، ولم يكن حاضرًا وقت البيع إلّا زيد: فله أن يشفع ويأخذ كل نصيب بكر المباع من المشتري، أو يتركه كله فتسقط الشفعة إذا ترك مع قدرته، ولا يجوز تأخير أخذ حقه حتى يقدم شريكه عمرو من سفره ولا يجوز له أن يأخذ قدر حقه، فإذا قدم عمرو: فإنه يقاسم زيدًا فيما أخذه -وهو نصيب بكر المباع- إن شاء؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما لا يجوز للمنفرد أخذ بعض النصيب المباع، فكذلك لا يجوز للشريك أن يأخذ بعض ما اشتراه المشتري، والجامع: أنه في كل منهما وُجد تبعيض لصفقة المشتري، وهذا مضربه -كما سبق في مسألتي (11 و 14) الثانية: المصلحة؛ حيث إن تأخير الشريك أخذ حقه حتى يقدم شريكه، أو أخذ قدر حقه يُلحق الضرر بالمشتري، فدفعًا لذلك: شرع عدم الجواز، فإن قلتَ: لِمَ يُقاسم الغائب إذا حضر من شفع بحقه وحق شريكه؟ قلتُ: لأن هذا من حقه، ولوجود المطالبة من شريكه كوكيل عنه.
(17)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية دار، فباع عمرو نصيبه على بكر ومحمد: فللشفيع -وهو زيد هنا- أخذ ما اشتراه بكر، أو أخذ ما اشتراه محمد كما يشاء - وكذا: إن كثر المشترون لحق عمرو فإن الشفيع -وهو زيد هنا- يأخذ بالشفعة حق أحدهم، وله أن يأخذ حقهما، أو حقهم معًا بالشفعة؛ للتلازم؛ حيث إن كونهما -أي: بكر ومحمد- مشتريين، لكل واحد منهما عقد لوحده يلزم منه: أن للشفيع -وهو زيد هنا- أخذ نصيب أحدهما؛ لانفكاك أحدهما عن الآخر.
(18)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو وبكر في ملكية دار فباع بكر وعمرو نصيبهما على محمد: فلا يحق للشفيع -وهو زيد هنا- أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر بالشفعة، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وبعض الحنابلة كأبي يعلى؛ للمصلحة: =
صفقة واحدة: فللشفيع أخذ أحدهما)؛ لأن الضرر قد يلحقه بأرض دون أرض
(19)
حيث إن ذلك يُلحق الضرر بالمشتري -الذي هو محمد هنا-؛ حيث إن ذلك يتسبَّب في تبعيض الصفقة عليه، وغالبًا ما يشتري الإنسان نصيبين أو سهمين من مكان واحد، أو من مكانين متجاورين ليحصل غرض أراده بهما معًا، فإذا فُرِّق بينهما: بأن زال أحدهما عن ملكه: لم يحصل ذلك الغرض الذي اشتراه من أجله، وبهذا يتضرر ذلك المشتري إذا أخذ الشفيع نصيب أحد شريكيه من محمد بالشفعة، وقد سبق بيان ذلك -في مسائل (11 و 14 و 16) - فدفعًا لذلك: قلنا لا يحق للشفيع أن يشفع هنا، فإن قلتَ: بل للشفيع -وهو زيد هنا- أن يأخذ نصيب أحد شريكيه دون الآخر من محمد، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز تعدُّد المشترين لنصيب واحد، وللشفيع أخذ حق أحد المشترين، وترك الآخر -كما سبق في مسألة (17) - فكذلك يجوز تعدُّد البائعين، ويأخذ الشفيع نصيب أحد شريكيه البائعين من محمد، والجامع: وجود عقدين في كل منهما، فله حق الشفعة في عقد دون الآخر، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأنه في مسألة (17) كان المشتريان اثنين، أو أكثر، فلو أخذ الشفيع -وهو زيد هنا- ما اشتراه بكر، أو ما اشتراه محمد من عمرو: لما وقع ضرر في ذلك؛ لأنهما أصلًا منفصلين، وكل واحد له غرض في شراء سهمه من عمرو، بخلاف مسألتنا، فإن ما اشتراه محمد -وهو نصيب بكر وعمرو- لا يتمّ غرضه إلّا بجمع هذين النصيبين معًا، فإذا أخذ الشفيع من محمد نصيب بكر مثلًا: فإن محمدًا يتضرّر، ومع هذا الاختلاف لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة" وقد بيّناه.
(19)
مسألة: إذا اشترك زيد وبكر في ملك أرض، واشترك بكر ومحمد في أرض أخرى، فباع بكر شقصيه ونصيبيه من هاتين الأرضين على أحمد صفقة واحدة، أي: بقيمة واحدة، فيجوز لزيد ومحمد أن يأخذا ما باعه بكر على أحمد بالشفعة، =
(وإن باع شقصًا وسيفًا) في عقد واحد: فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن؛ لأنه
ويقسما الثمن على قدر ملكيهما، للمصلحة: حيث إن كلًّا من شريكي بكر -في الأرضين وهما زيد ومحمد- قد تضرّرا في هذا البيع فشُرعت الشفعة وجازت؛ رفعًا لهذا الضرر، (فرع): لا يجوز أن يأخذ زيد نصيب بكر الذي باعه على أحمد -في المسألة السابقة- بالشفعة؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تبعيض الصفقة على المشتري، وهو مضرُّ به -كما سبق بيانه في مسائل (11 و 14 و 16 و 18) فدفعًا للضرر عنه: لم يجز ذلك. (فرع ثان) لا يجوز أن يأخذ زيد نصيب بكر من الأرض التي يشاركه فيها، ونصيب محمد الذي يشارك بكرًا في الأرض الأخرى بالشفعة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم شراكته له في الأرض الأخرى: عدم جواز الشفعة فيها؛ لكونه لا حقَّ له فيها. (فرع ثالث): إن اشترك زيد وعمرو في ملك أرض، واشتركاهما أيضًا في ملك أرض أخرى، فباع عمرو نصيبه من هاتين الأرضين على بكر: فللشفيع -وهو هنا زيد- أن يأخذ النصيبين بالشفعة، ولكن لا يجوز أخذ أحدهما دون الآخر بالشفعة؛ للمصلحة: حيث يلزم من إمكانه أخذهما معًا وفعل ذلك: ثبوت الشفعة فيه؛ لكونه من حقه الشرعي؛ لدفع الضرر عن نفسه، ويلزم من إمكانه أخذهما معًا، ومع ذلك لم يفعل، فأخذ أحدهما: عدم الجواز؛ لأن في ذلك إضرارًا بالمشتري -وهو هنا بكر-؛ لكون غرضه لا يتم عادة إلّا بكونهما معًا - كما سبق بيانه، فإن قلتَ: للشفيع هنا أن يأخذ أحدهما، دون الآخر بالشفعة، وهو ما ذكره المصنف هنا، للمصلحة: حيث إنه قد يلحقه الضرر بأرض دون الأرض الأخرى، فدفعًا لبعض الضرر عنه: جازت الشفعة هنا قلتُ: إن مصلحة المشتري أولى بالمراعاة فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" فنظرنا نحن إلى مصلحة المشتري، وهم نظروا إلى مصلحة الشفيع.
تجب فيه الشفعة إذا منفردًا فكذا إذا بيع مع غيره
(20)
(أو تلف بعض المبيع: فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن)؛ لأنه تعذَّر أخذ الكل، فجاز له أخذ الباقي، كما لو أتلفه آدمي، فلو اشترى دارًا بألف تساوي ألفين فباع بابها، أو هدمها،
(20)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملك أرض مثلًا، فباع عمرو نصيبه من الأرض على بكر، وباع معه شيئًا لا تصح الشفعة فيه كسيف أو ثوب في عقد واحد: فيجوز للشفيع -وهو زيد- أن يأخذ نصيب عمرو من الأرض الذي باعه على بكر بالشفعة، وذلك بحصته من الثمن، دون ما معه من السيف ونحوه، فيقسم الثمن على قدر قيمتهما، فما يخص نصيب عمرو من الأرض، وهو الشقص يأخذ به الشفيع؛ للقياس؛ بيانه: كما أن عمرًا لو باع نصيبه من الأرض على بكر منفردًا: فللشفيع أن يأخذه بالشفعة بثمنه الذي باعه به على بكر، فكذلك الحال فيما لو باعه مع شيء لا تصح الشفعة فيه كالمنقولات مثل السيف ونحوه، والجامع: أنه في كل منهما يصح له أن يشفع، وما قرنه به من السيف أو الثوب لا شفعة فيه، ولا هو تابع لما فيه شفعة، فلا يُنظر إليه، فإن قلتَ: لا تصح الشفعة في النصيب من الأرض المباع والشقص؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يجوز للشفيع أخذ بعض النصيب المباع والشقص فكذلك لا يجوز في هذه الحالة، والجامع: أنه في كل منهما يلحق الضرر بالمشتري؛ لأن ذلك يؤدّي إلى تبعيض الصفقة على المشتري، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الشفيع لو أخذ بعض النصيب المباع والشقص لوقع ضرر واضح على المشتري -كما سبق في مسائل (11 و 14 و 16 و 18) -؛ لكونه تقسيمًا لشيء واحد لا يكمل الغرض منه إلّا به جميعًا، بخلاف هذه المسألة فهو عقد واحد جمع بين شيئين مختلفين من حيث الحكم -وهما: ما تصحُّ فيه الشفعة وهو: الشقص من الأرض، وما لا تصح فيه الشفعة وهي: المنقولات كسيف وثوب- ومع الفرق، فلا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" وهو واضح مما سبق.
فبقيت بألف: أخذها الشفيع بخمسمائة
(21)
(ولا شفعة بشركة وقف)؛ لأنه لا يؤخذ بالشفعة، فلا تجب به، ولأن مستحقه غير تام الملك
(22)
(ولا) شفعة أيضًا -بـ (ـغير
(21)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملك دكانين مثلًا، فباع عمرو نصيبه من هذين الدكانين على بكر، فكان نصيب بكر واحدًا منهما، فتلف هذا الدكان بأن انهدم، فأراد زيد أخذ بعض هذا الدكان الباقي: فإنه يجوز له أن يأخذ الموجود بالشفعة بحصته من الثمن: سواء كان التلف الذي حصل على الدكان المباع بسبب آفة سماوية كأن انهدم بسبب مطر، أو حريق، أو كان بسبب المشتري كنقضه إيّاه بعد شرائه له، فمثلًا لو كان ثمن الدكانين ألفين، وكان ثمن ما اشتراه بكر ألفًا، وانهدم هذا: وكان الباقي من الدكان يساوي خمسمائة: فإن زيدًا الشفيع يأخذ الباقي بخمسمائة، وهكذا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن عمرًا لو باع نصيبه على بكر ومعه سيف صفقة واحدة بألف، فإن زيدًا يشفع بالنصيب والشقص دون السيف -كما بيّنا ذلك في مسألة (20) - فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما قد تعذّر أخذ الكل، فأخذ الباقي بحصته من الثمن، تنبيه: المثال الذي ذكره المصنف - وهو قوله: "فلو اشترى دارًا" لا يصح إلّا إذا قصد بـ"الدار": الشقص من الدار، وهذا مراد بعيد.
(22)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملك دار، فأوقف عمرو نصيبه الله تعالى، وباع زيد نصيبه على بكر، فليس لصاحب الوقف -وهو عمرو- أن يأخذ ذلك النصيب من بكر بالشفعة؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الجار -الذي لا يشترك مع جاره بطريق، أو ماء ونحوهما- ليس له الحق بأن يشفع إذا باع جارُه دارَه، فكذلك صاحب الوقف لا يشفع هنا، والجامع: أنه في كل منهما لا صلة لأحدهما بالآخر، الثانية: التلازم؛ حيث إن كان الوقف غير مملوك فيكون الموقوف عليه غير مالك، وإن كان الوقف مملوكًا: فإن ملكه غير تام؛ لكونه لا يصح في الوقف التصرُّف في الموقوف تصرفًا تامًا، فيلزم من ذلك عدم جواز =
ملك) للرقبة (سابق): بأن كان شريكًا في المنفعة كالموصى له بها أو ملك الشريكان دارًا صفقة واحدة: فلا شفعة لأحدهما على الأخر؛ لعدم الضرر
(23)
س (ولا) شفعة (لكافر على مسلم)؛ لأن الإسلام يعلو، ولا يُعلى
(24)
.
الشفعة هنا؛ لكون الشفيع يجب أن يكون صاحب الشقص المشارك مالكًا له ملكًا تامًا، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية الأوقاف من أن يُزاد فيها أو يُنقص من غير عذر لا سيما وأنه لا ضرر في ذلك على أحد.
(23)
مسألة: يجب أن يكون الشفيع قد ملك نصيبه من الدار المشتركة بينه وبين الآخر قبل بيع الشريك الآخر نصيبه، فإن وجد إثنان قد ملكا دارًا -مثلًا- في وقت واحد صفقة واحدة: فلا شفعة لأحدهما على صاحبه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من استوائهما في المبيع في وقتٍ واحد: عدم مزية أحدهما على الآخر؛ لعدم الضرر على أحدهما دون الآخر، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي: العمل بالإنصاف والعدالة. (فرع): إذا لم يكن الشخص مالكًا ملكًا حقيقيًا: فلا يحق له الشفعة فمثلًا: لو أوصى زيد بأن عمرًا ينتفع بداره، ثم باعها ورثة زيد؛ فلا شفعة للموصى له -وهو عمرو-؛ للقياس؛ بيانه: كما أن صاحب الوقف لا يشفع، فكذلك الموصى له بالمنفعة لا يشفع، والجامع: أن كلًّا منهما ليس مالكًا للعين ملكًا تامًا. تنبيه: هذا الفرع تابع لمسألة (22) وليس تابعاً لمسألة (23) كما ذكر المصنف.
(24)
مسألة: الكافر الذمي له الحق في الشفعة على المسلم فيما سبق من المسائل؛ للتلازم والمصلحة؛ حيث إن عقد الذمّة فيه يلزم منه: عدم ظلم الذمي في حقوقه المالية -كما سبق في كتاب الجهاد- وهذا يلزم منه جواز الشفعة للذمي على المسلم؛ رفعًا للُظلم عن هذا الذمي؛ لكون الشفعة من حقوق الأملاك، لا من حقوق الملَّاك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دعوة إلى الإسلام، وتحبيبه في نفوس =
فصل: (وإن تصرَّف مشتريه) أي: مشتري شقص ثبتت فيه الشفعة (بوقفه، أو هبته، أو رهنه) أو صدقة به (لا بوصية: سقطت الشفعة)؛ لما فيه من الإضرار بالموقوف عليه، والموهوب له ونحوه؛ لأنه ملكه بغير عوض، ولا تسقط الشفعة بمجرَّد الوصية به قبل قبول الموصى له بعد موت الموصي؛ لعدم لزوم الوصية
(25)
(و)
الكفار، فإن قلتَ: لا شفعة لكافر على مسلم: سواء كان ذميًا أو لا -وهو ما ذكره المصنف هنا-؛ للتلازم؛ حيث يلزم من جواز الشفعة له: علوّه على المسلم، ونصره عليه، وهذا فيه إعلاء الكفر على الإسلام، والإسلام يعلو، ولا يُعلى فالمصلحة تقتضي عدم جواز الشفعة للكافر، قلتُ: لا نسلِّم أن جواز الشفعة للذمي يلزم منه علوّه على المسلم، والإسلام بل العكس، يلزم منه علوّ الإسلام عليه؛ حيث إن الإسلام قد انتصر له ورفع الظلم عنه مع أنه بين المسلمين، وهذا يدل على قوة الإسلام في ذلك؛ لكون الحاكم يستطيع أن يأخذ جميع أملاكه، وهو من باب العفو عند المقدرة، وبهذا تنتشر عدالة الإسلام ومعاملته الحسنة لغير المسلمين، فيُسلم هذا الكافر وغيره، وبهذا تتحقق المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين".
(25)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية دار، ثم باع عمرو نصيبه على بكر، فأوقف بكر هذا النصيب الله تعالى: بأن جعله مسجدًا، أو موقوفًا على فقراء أو نحو ذلك، أو رهن بكر ذلك النصيب أو أوصى به، أو تصدَّق به، أو وهبه لغيره قبل أن يطلب الشفيع -وهو زيد- الشفعة فيه: فإن الشفعة لا تسقط، بل لزيد الحق في طلب الشفعة وأخذ هذا النصيب بقيمته، وهو قول الجمهور؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أنه لو أوقف المريض أملاكه وعليه دين، أو أعتق عبدًا وعليه دين فللغرماء والورثة ردُّ الوقف والعتق فيما زاد على ثلثه فكذلك الحال هنا: للشفيع -وهو زيد- أن يمنع الوقف من بكر، والتصدُّق، والرهن، والوصية، والهبة بالشفعة، والجامع: إزالة الضرر عن الكل الثانية: التلازم؛ حيث =
إن تصرَّف المشتري فيه (ببيع: فله) أي: للشفيع (أخذه بأحد البيعين)؛ لأن سبب الشفعة الشراء، وقد وجد في كل منهما، ولأنه شفيع في العقدين، فإن أخذ بالأول رجع الثاني على بائعه بما دفع له؛ لأن العوض لم يسلم له، وإن أجَّره: فللشفيع أخذه، وتفسخ به الإجارة هذا كله إن كان التصرُّف قبل الطلب؛ لأنه ملك المشتري، وثبوت حق التملّك للشفيع لا يمنع من تصرفه، وأما تصرفه بعد الطلب: فباطل؛
يلزم من كون حق الشفيع أسبق، وأقوى ممن طرأ: أن لا يملك المشتري تصرُّفًا يبطل حقه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الشفيع من الحيل التي يفعلها بعض الشركاء لإبطال الشفعة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله: أن من أنواع الحيل المنتشرة: "الحيل لإسقاط الشفعة"، فإن قلتَ: بل تسقط الشفعة فيما سبق من الصور، وهو قول أكثر الحنابلة، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن الشفعة لو صحَّت هنا: للحق الضرر بالموهوب والموقوف عليه، والموصى له، والمتصدَّق عليه؛ لكون ملكه يزول عنه بغير عوض، فدفعًا للضرر عنه شُرع سقوط الشفعة هنا قلتُ: هذا لا يُسلَّم؛ لأن مصلحة الشفيع مقدمة على مصلحة هؤلاء؛ لكونه أسبق وجانبه أقوى، ولدفع الحيل لإسقاط الشفعة، فتكون المصلحة التي قلناها أعمّ وأسبق فتراعي، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين" وقد سبق بيان ذلك. (فرع): لو أن بكرًا -في المثال السابق- أوصى بنصيبه لمحمد بأن يكون له: فإن هذا يُسقط الشفعة، فلا يجوز لزيد أن يأخذ ذلك النصيب من محمد بالشفعة، ولكن ذلك مشروط: بقبول الموصى له -وهو محمد- لهذه الوصية؛ فلو لم يقبل الموصى له ذلك: لما أسقطت الوصية الشفعة؛ للتلازم؛ حيث إن من شرط صحة الوصية: قبول الموصى له لها فيلزم من عدم قبولها: سقوطها بالشفعة، نظرًا لسبق حقه على حق الموصى له، هذا على رأي كثير من الحنابلة وهو رأي مرجوح، والراجح: ما قلناه: من أن الشفعة لا تسقط بالوصية مطلقًا -كما سبق في مسألة (25) -.
لأنه ملك الشفيع إذًا
(26)
(وللمشتري الغلَّة) الحاصلة قبل الأخذ (و) له أيضًا (النماء المنفصل)؛ لأنه من ملكه، والخراج بالضمان (و) له أيضًا (الزرع والثمرة الظاهرة) أي: المؤبَّرة؛ لأنه ملكه، ويبقى إلى الحصاد والجذاذ؛ لأن ضرره لا يبقى، ولا أجرة عليه، وعلم منه: أن النماء المتصل كالشجر إذا كبر، والطلع إذا لم يُؤبَّر يتبع في الأخذ بالشفعة كالرد بالعيب
(27)
(فإن بني) المشتري (أو غرس) في حال يُعذر فيه
(26)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية دار، وباع عمرو نصيبه على بكر، فللمشتري وهو -بكر هنا- حقُّ التصرُّف الشرعي قبل طلب الشفيع الشفعة، أو قبل علمه، فإن باعه المشتري -وهو بكر- على محمد: فللشفيع -وهو زيد- الخيار: فإن شاء فسخ البيع الأول الذي حصل بين عمرو وبكر بثمنه الذي دفعه بكر لعمرو ويأخذه بكر من محمد ويسلمه ثمنه الذي دفعه، وإن شاء فسخ البيع الثاني الذي حصل بين بكر ومحمد بثمنه الذي دفعه محمد لبكر، وكذا: إن كثرت العقود في ذلك تنفسخ بمجرد طلب الشفعة من زيد، وكذا: إن أجَّره بكر: فإن الإجارة تنفسخ بمجرَّد طلب زيد للشفعة، أما إن تصرَّف بكر في النصيب -الذي اشتراه من عمرو- بعد طلب الشفيع -وهو زيد- فجميع تلك التصرفات باطلة، للتلازم؛ حيث يلزم من وجود سبب الشفعة -وهو بيع الشريك نصيبه على أجنبي-: أن يأخذ الشفيع هذا النصيب من أحد البائعين -إما عمرو، أو بكر-؛ لإزالة الضرر عن نفسه، ويلزم من تصرُّف المشتري -وهو بكر- قبل طلب الشفيع: صحة هذا التصرف؛ لكونه ملكه شرعًا، ويلزم من تصرفه -أي: بكر- بعد طلب الشفيع: بطلان هذا التصرُّف؛ لكونه معتديًا في تصرفه؛ إذ تصرَّف في ملك قد انتقل عنه بسبب الشفعة وطلبها فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حقوق كل من الشفيع، والمشتري.
(27)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية أرض فباع عمرو نصيبه على بكر، وهذا النصيب فيه غلَّة، ونماء منفصل، أو أجرة، أو زرع، أو ثمر قد ظهر، أو طلع قد =
الشريك بالتأخير: بأن قاسم المشتري وكيل الشفيع، أو رفع الأمر للحاكم فقاسمه، أو قاسم الشفيع لإظهاره زيادة في الثمن ونحوه
(28)
، ثم غرس أو بنى: (فللشفيع تملُّكه
أُبِّر: فإن جميع هذه الأشياء من حق المشتري -وهو بكر-، فله أن يأخذه قبل مطالبة الشفيع، وليس للشفيع مطالبته بردها، ويجب على الشفيع أن يبقي هذا إلى الحصاد والجذاذ بدون أجرة أما إن كان هذا النماء متصلًا كأشجار كبيرة، والطلع قبل تأبيره: فإن الشفيع يأخذه عند طلبه للشفعة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون هذا النماء المنفصل والغلَّة والزرع الظاهر والمؤبر قد حصلت في ملك المشتري -وهو بكر- أن تكون من حقه، ويلزم من عدم وجود الضرر في إبقاء ذلك إلى الحصاد والجذاذ: أن يلزم الشفيع في إبقاء ذلك في ملكه إلى الحصاد والجذاذ بدون أجرة لذلك مدَّة بقاء هذا الزرع والثمر في ملك الشفيع؛ نظرًا لقرب زواله، ويلزم من كون هذا النماء متصلًا دائمًا، ولم يؤبَّر: أن يتبع الشفيع، كما قلنا في الرد بالعيب؛ نظرًا لبعد زواله، فيكون ضرره أكثر على الشفيع، والمقصد من هذا: إزالة الضرر عن الشفيع والمشتري.
(28)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية أرض، فباع عمرو نصيبه على بكر، فغرس المشتري -وهو بكر- وبنى في النصيب الذي اشتراه، ويتصوَّر غرسه وبناؤه هنا بأحد طرق: أولها: أن يظهر المشتري -وهو بكر- أنه اشتراه بأكثر من ثمنه، أو نحو ذلك من الأمور التي تمنع الشفيع من الأخذ بها، فيترك الشفعة، فيقاسمه ثم يبني المشتري ويغرس في قسمته، ثانيها: أن يكون الشفيع غائبًا، فيقاسمه وكيله، أو يكون الشفيع صغيرًا أو مجنونًا فيقاسمه وليه أو نحو ذلك فيغرس ويبني المشتري -وهو بكر- في نصيبه وقسمته، ثم يقدم الغائب ويبلغ الصبي، أو يعقل المجنون فيأخذ بالشفعة. ثالثها: أن يطلب المشتري -وهو بكر- من الحاكم أن يقاسمه نصيبه؛ نظرًا لصغر أو جنون أو غياب الشفيع فيغرس المشتري أو يبني، ثم يقدم الغائب، ويعقل المجنون ويبلغ الصبي -وهو الشفيع- فيأخذ هذا النصيب ويقسم المغروس أو =
بقيمته)؛ دفعًا للضرر: فتقوَّم الأرض مغروسة، أو مبنية، ثم تقوَّم خالية منهما، فما بينهما: فهو قيمة الغراس والبناء، (و) للشفيع (قلعه ويغرم نقصه) اي: ما نقص من قيمته بالقلع؛ لزوال الضرر به فإن أبى: فلا شفعة (ولربه) أي: رب الغراس والبناء (أخذه) ولو اختار الشفيع تملُّكه بقيمته (بلا ضرر) يلحق الأرض بأخذه، وكذا: مع ضرر كما في "المنتهى" وغيره؛ لأنه ملكه، والضرر لا يزال بالضرر
(29)
(وإن مات الشفيع قبل
المبني، هذه طرق الغرس أو البناء في النصيب الذي باعه الشريك، وسيأتي في المسألة التالية بيان حكم هذا الغرس والبناء.
(29)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية أرض، ثم باع عمرو نصيبه على بكر، فغرس المشتري -وهو بكر- وبنى في النصيب الذي اشتراه كما سبق في مسألة (28)، وشفع الشفيع -وهو زيد- وطالب في أخذ ذلك النصيب الذي باعه عمرو، فيُخيَّر المشتري -وهو بكر- بين حالتين: الحالة الأولى: أن اختار قلع غرسه، وهدم بنائه ويُعيد النصيب والأرض كما كانت قبل غرسه لها أو بنائه فيها: فعليه ضمان النقص الذي لحق الأرض بسبب هذا القلع، يفعل ذلك ولو اختار الشفيع تملكه بقيمته فلا يقبل؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشخص لو كسر إناء غيره لإخراج ديناره منه: فعليه ضمانه فكذلك من قلع، غرسه وهدم بناءه من أرض غيره عليه ضمان ما نقص منها بسبب ذلك والجامع: أنه في كل منهما نقص دخل على ملك غيره لأجل تخليص ملكه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي حماية حق الشفيع -وهو زيد-، فإن قلتَ: ليس على المشتري تسوية الأرض، وليس عليه ضمان نقص الأرض بسبب القلع والهدم، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن المشتري قد بنى وغرس حين كانت الأرض ملكًا له، وما حدث من النقص إنما حصل في ملكه، وهذا لا يقابله ثمن فيلزم: عدم ضمانه، قلتُ: هذا لا يُسلَّم؛ لأن النقص الحاصل بالقلع والهدم إنما حصل في ملك الشفيع، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الأرض =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التي غرس فيها المشتري وبنى هل هي ملك للمشتري، أو هي ملك للشفيع؟ " فعندنا: إنها ملك للشفيع، وإن كانت ملك للمشتري ظاهرًا، وعندهم: أنها ملك للمشتري. الحالة الثانية: إن اختار المشتري -وهو بكر- عدم قلع الغرس، وهدم البناء: فإن الشفيع يُخيَّر بين أمور ثلاثة أولها: أن يترك الشفعة، فيستمر المشتري -وهو بكر- على شرائه وغرسه وبنائه، ثانيها: أن يأخذ الغرس والبناء مع الأرض -وهي: النصيب المشترى ويدفع قيمة الغراس والبناء للمشتري- وهو بكر - فيملك ذلك الأرض، وطريقة بيان قيمة الغرس والبناء هي: أن تقوَّم الأرض بلا غرس ولا بناء بألف مثلًا، وتقوم وفيها غرس وبناء بألف وخمسمائة، فتكون قيمة الغرس والبناء خمسمائة فيدفعها الشفيع للمشتري -وهو بكر- مع قيمة الأرض المشفوع فيها، ثالثها: أن يقلع الشفيع الغرس والبناء، ويضمن للمشتري ما نقص من الغرس والبناء بسبب قلعه، فأن أبى: فلا شفعة، للتلازم: حيث يلزم من ترك الشفيع للشفعة: تملك المشتري لما اشتراه تملكًا دائمًا؛ لكونه حقًا له، ويلزم من أخذه الغرس والبناء مع الأرض المشفوعة: أن يدفع للمشتري وهو قيمة غرسه، وبنائه؛ لأن ذلك من حقه وأملاكه فلا يؤخذ إلّا بعوض، ويلزم من قلع الشفيع للغرس والبناء: أن يضمن ما نقص للمشتري وهو ما نقص في غرسه وبنائه بسبب ذلك القلع؛ لأنه لو لم يضمن ذلك لتضرر المشتري، ويلزم من عدم دفع الشفيع غرامة ما نقص بسبب القلع: سقوط الشفعة؛ لأنه يكون فيها قد ضر المشتري ولا يزال الضرر بضرر مثله؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، فإن قلتَ: إنه في هذه الحالة يُكلَّف المشتري القلع، ولا شيء له من عوض أو نحو ذلك وهو قول الحنفية؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الغاصب يُكلف بقلع وهدم ما غرس وبنى في الأرض المغصوبة ولا شيء له فكذلك المشتري هنا والجامع: أن كلًّا منهما قد غرس وبنى في أرض لا =
الطلب: بطلت) الشفعة؛ لأنه نوع خيار للتمليك أشبه خيار القبول
(30)
(و) إن مات (بعده) أي: بعد الطلب ثبتت (لوارثه)؛ لأن الحق قد تقرر بالطلب، ولذلك لا تسقط بتأخير الاخذ بعده
(31)
(ويأخذ) الشفيع الشقص (بكل الثمن) الذي استقرّ عليه العقد؛ لحديث جابر: "فهو أحقّ به بالثمن" رواه أبو إسحاق الجوزجاني في "المترجم"، (فإن عجز عن) الثمن أو (بعضه: سقطت شفعته)؛ لأن في أخذه بدون
يملكها قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، لأن الغاصب قد بني في غير ملكه ابتداء فيكون عرق ظالم، وليس لعرق ظالم حق، أما المشتري هنا فقد بنى في ملكه الذي اشتراه قبل أن تثبت الشفعة، ومع الفرق: فلا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة" كما هو واضح فيما سبق.
(30)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية أرض أو دار، فباع عمرو نصيبه على بكر فمات الشفيع -وهو زيد- قبل أن يطلب الشفعة بدون عذر يمنعه: فإن الشفعة تسقط، وليس لورثة زيد أن يطلبوا الشفعة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو أراد عمرو بيع دار على زيد فلما قال البائع -وهو عمرو-: "بعتك هذه الدار بألف" مات زيد، وهو لم يتلفّظ بالقبول: فإن ورثة زيد لا يقومون مقامه في القبول، فكذلك الحال هنا في الشفعة لا يقومون مقام زيد في طلبها، والجامع: أن كلًّا منهما نوع خيار للتمليك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المشتري من تحايل الورثة لأخذ حقه بدون استحقاق.
(31)
مسألة: إذا مات الشفيع -وهو زيد في مسألة (30) - بعد طلبه للشفعة: فإن حق المطالبة بالشفعة ينتقل إلى الورثة على قدر إرثهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من طلب مورِّثهم -وهو زيد- بالشفعة قبل موته: أن الحق -وهو الشفعة- قد تقرر وثبت؛ يؤيده: أنها لا تسقط بتأخير الأخذ بعد الطلب، وقبله تسقط، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حق الورثة؛ إذ صار النصيب الذي باعه عمرو من أملاك زيد بعد طلبه للشفعة قبل موته.
دفع كل الثمن إضرارًا بالمشتري والضرر لا يزال بالضرر
(32)
، وإن أحضر رهنًا، أو كفيلًا: لم يلزم المشتري، قبوله، وكذا: لا يلزمه قبول عوض عن الثمن، وللمشتري حبسه على ثمنه، قاله في "الترغيب" وغيره؛ لأن الشفعة قهر، والبيع عن رضا، ويُمهل إن تعذَّر في الحال ثلاثة أيام
(33)
، (و) الثمن (المؤجَّل يأخذ) الشفيع (المليء به)؛ لأن
(32)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية أرض، فباع عمرو نصيبه على بكر بألف: وأخذ الشفيع -وهو زيد- هذا النصيب من بكر بالشفعة: فيجب على زيد أن يأخذ ذلك النصيب والشقص بجميع الثمن الذي استقرّ عليه العقد بين عمرو وبكر وقت بيعه وهو الألف، فإن عجز الشفيع -وهو زيد- عن ذلك الثمن كله، أو بعضه: فإن الشفعة تسقط؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن المشتري أخذ الشقص من بكر بالثمن فكذلك الشفيع مثله يأخذه به، والجامع: أن كلًّا منهما إنما استحقّ الشقص بالبيع، والبيع لا بد فيه من ثمن، الثانية: المصلحة: حيث إن الشفيع لو أخذ الشقص المباع على بكر بدون دفع كل الثمن، أو بعضه: لتضرر المشتري، فيكون دفع ضرر بإثبات ضرر آخر؛ إذ يدفع الشفيع الضرر عن نفسه بإلحاق الضرر على المشتري؛ لأن المشتري يتضرر بتأخير الثمن أو بعضه عنه، والضرر لا يُزال بضرر مثله كما سبق، فدفعًا لذلك: قلنا بسقوط الشفعة إن لم يدفعه كله.
(33)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية أرض، فباع عمرو نصيبه على بكر بثمن نقدًا، وأخذ الشفيع -وهو زيد- هذا النصيب من بكر بالشفعة: فيجب عليه أن يأخذه بالثمن الذي دفعه بكر لعمرو نقدًا ولو أحضر الشفيع -هو زيد- عوض عن الثمن -كأن أعطى زيد بكرًا غرسًا عن نصيبه-، أو أحضر رهنًا، أو كفيلًا، أو ضمينًا، أو غير ذلك مما ليس بثمن: فلا يلزم المشتري -وهو بكر- قبول ذلك، بل يحبس ذلك الشقص والنصيب -الذي اشتراه من عمرو- على ثمنه، فإن أتاه بثمنه أسلمه إياه، وإن تعذَّر على الشفيع إحضار ثمنه في الحال: فإنه يُمهل ثلاثة أيام: فإن أحضره بعدها وإلا سقطت الشفعة؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة: =
الشفيع يستحق الأخذ بقدر الثمن، وصفته، والتأجيل من صفته (وضده) أي: ضد المليء، وهو: المعسر يأخذه إذا كان الثمن مؤجلًا (بكفيل ملئ)؛ دفعًا للضرر، وإن لم يعلم الشفيع حتى حلَّ: فهو كالحال
(34)
(ويُقبل في الخلف) في قدر الثمن (مع عدم
حيث إن عوض الثمن، أو الرهن، أو الكفيل، أو الضمين فيه ضرر على المشتري بسبب تأخير الثمن عليه، فدفعًا لذلك: تسقط الشفعة إن لم يدفع نفس الثمن للمشتري، الثانية: التلازم؛ حيث إن كون الثلاثة أقل الجمع، وحُدِّد بها كثير من الأحكام كاستتابة المرتد ثلاثًا، وكفارة اليمين بصيام ثلاثة أيام، وصوم المتمتع إذا لم يجد هديًا بثلاثة أيام في الحج ونحو ذلك كما سبق: يلزم منه تحديد المهلة للشفيع بهذه الأيام الثلاثة، فإن قلتَ: لِمَ يُحبس المشتري ذلك الشقص حتى يُحضر الشفيع الثمن نفسه؛ بخلاف البيع؟ قلتُ: لوجود الفرق بين الشفعة، والبيع، حيث إن الشفعة تكون قهرًا، أي: من غير رضى المشتري للشقص -وهو بكر- أما البيع: فإنه يكون عن رضاه.
(34)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية، أرض، فباع عمرو نصيبه على بكر بثمن مؤجَّل إلى سنة، وأخذ الشفيع -وهو زيد- هذا النصيب بالشفعة: فإنه يأخذه بالأجل إن كان هذا الشفيع مليئًا، أما إن كان هذا الشفيع معسرًا فلا يأخذه إلّا إذا كفله مليء إلى نهاية مدة التأخير، وهي: سنة، أما إن لم يعلم الشفيع ببيع عمرو على بكر إلّا بعد السنة -وهو حلول الثمن-: فلا يأخذه إلّا بنقد الثمن كالحال؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته، والتأجيل من صفته، فيلزم أن يدخل كما دخل المشتري، أي: لا يلزمه إلّا ما لزم المشتري من قدر الثمن، وجنسه، وصفته، الثانية: المصلحة؛ وهي من وجهين: أولهما: أن الشفيع لو أخذ ما اشتراه بكر بثمن حال: لزاد عليه؛ لكون المشتري أخذه مؤجلًا، والشفيع أخذه حالًا فاختلفا، وهذا مخالف لشرط الشفعة، وهو: أخذ الشفيع الشقص بمثل ما أخذه به المشتري تمامًا، فدفعًا =
البيّنة) لواحد منهما (قول المشتري) مع يمينه؛ لأنه العاقد، فهو أعلم بالثمن، والشفيع ليس بغارم؛ لأنه لا شيء عليه، وإنما يريد تملُّك الشقص بثمنه، بخلاف الغاصب ونحوه
(35)
(فإن قال) المشتري: (اشتريته بألف: أخذ الشفيع به) أي: بالألف (ولو أثبت البائع) أن البيع بـ (أكثر) من الألف؛ مؤاخذة للمشتري بإقراره، فإن قال: غلطت؛ أو كذبت؛ أو نسيت لم يقبل؛ لأنه رجوع عن إقراره
(36)
ومن
للضرر عن الشفيع: شرع أنه يلزمه ما لزم المشتري، ثانيهما: أنه اشترط أن يكون الكفيل للشفيع مليئًا لدفع الضرر عن المشتري؛ إذ لو كان الكفيل معسرًا كالشفيع: لتأخّر حق المشتري، فدفعًا لذلك، اشترط ذلك.
(35)
مسألة إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية أرض، فباع عمرو نصيبه على بكر، وأخذ الشفيع -وهو زيد- هذا النصيب والشقص الذي اشتراه بكر بالشفعة، ولكن اختلف الشفيع -وهو زيد- مع المشتري -وهو بكر- في قدر الثمن، فقال المشتري -وهو بكر-:"اشتريته بألف"، وقال الشفيع -وهو زيد-:"اشتريته بتسعمائة"، ولا توجد بيّنة لأي واحد منهما: فيُقبل قول المشتري -وهو بكر-؛ للتلازم؛ وهو على وجهين: أولهما: أنه يلزم من كون المشتري هو العاقد مع عمرو: أن يكون هو أعلم بالثمن، لحضوره وغياب الشفيع -وهو زيد- ثانيهما: أنه يلزم من كون الشقص والنصيب ملكًا للمشتري قبل طلب الشفيع للشفعة: أن لا يُنزع عنه بالدعوى بغير دليل إلّا بالثمن الذي أقرّ به، فإن قلتَ: إنه يُقبل هنا قول الشفيع -وهو زيد-؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الغاصب يُقبل قوله في قدر ما غصبه فكذلك الشفيع مثله، والجامع: أن كلًّا منهما غارم ومنكر للزيادة قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الشفيع ليس بغارم؛ لأنه لا شيء عليه، وإنما يريد تملُّك الشقص والنصيب المباع بثمنه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم" فلم نأخذ بالقياس؛ لفساده كما سبق.
(36)
مسألة: إذا أقرّ المشتري -وهو بكر في مسألة (35) - بأنه اشتراه بألف: فإن =
ادّعى على إنسان شفعة في شقص فقال: "ليس لك ملك في شركتي": فعلى الشفيع إقامة البيّنة بالشركة، ولا يكفي مجرَّد وضع اليد
(37)
(وإن أقرَّ البائع بالبيع) في
الشفيع -وهو زيد- يأخذ بذلك ويُعطيه الألف فقط: سواء وافقه البائع -وهو عمرو- على هذا القدر، أو أثبت البائع: أن بكرًا قد اشترى منه ذلك النصيب والشقص بأكثر من الألف، وسواء تراجع المشتري -وهو بكر- عن ما أقرَّ به وقال:"غلطتُ" أو "كذبتُ" أو "نسيتُ" بلا بيّنة أو لم يتراجع: فإنه -أي المشتري وهو بكر- لا يستحق إلا ذلك الألف؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من إقرار المشتري بأنه اشترى الشقص بألف: إلزامه به؛ لأن الإقرار سيد الشهود، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن بكرًا لو أقرّ بدين لزيد عنده، ثم رجع عن هذا الإقرار: فإنه لا يُقبل، فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما رجوع عن إقرار تعلق به حق آدمي غيره، متهم في هذا الرجوع. (فرع): إذا أثبت المشتري بيّنة ودليلًا على أنه نسي، أو كذب، أو غلط في الثمن الذي اشترى الشقص به: فإنه يُقبل قوله، وتراجعه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العالم إذا تراجع عن رأيه: فإنه يؤخذ برأيه الأخير، ويترك الأول، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن الغلط والسهو والغفلة والنسيان تعرض لكل إنسان.
(37)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية دار، فباع عمرو نصيبه وشقصه على بكر، فأراد زيد أن يأخذ ذلك النصيب والشقص بالشفعة، فأنكر عمرو أن زيدًا له معه شراكة قائلًا:"ليس لك ملك في شركتي" أي: لا تملك شيئًا في الدار تلك: فيجب على الشفيع -وهو زيد- أن يثبت بيِّنة ودليلًا على أنه شريك لعمرو في تلك الدار، ولا يكفي مجرّد وضع اليد على بعض الدار، فإن لم يثبت ذلك: فلا شفعة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو ادَّعى أن هذا الولد من تلك الأمة هو ولده، فلا بدَّ من إثبات ذلك بالبيّنة، فكذلك الشفعة لا تثبت إلا بإثبات الشراكة أولًا، والجامع: أن الملك لا يثبت بمجرّد وضع اليد، فإذا لم تثبت الشركة لم تجز =
الشقص المشفوع (وأنكر المشتري) شراءه: وجبت الشفعة؛ لأن البائع أقرَّ بحقين: حق للشفيع وحق للمشتري، فإذا اسقط حق المشتري بإنكاره: ثبت حق الآخر فيقبض الشفيع من البائع، ويسلم إليه الثمن، ويكون درك الشفيع على البائع، وليس له ولا للشفيع محاكمة المشتري
(38)
(وعهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع) في غير الصورة الأخيرة، فإذا ظهر الشقص مستحقًا، أو معيبًا: رجع الشفيع على المشتري بالثمن أو بأرش العيب، ثم يرجع المشتري على البائع
(39)
، ...........
الشفعة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع الناس من أن يدَّعوا حقوق الآخرين بدون إثبات ذلك.
(38)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية دار، فباع عمرو نصيبه منها على بكر، فأراد زيد أن يأخذ ذلك النصيب والشقص بالشفعة، وأقرّ البائع -وهو عمرو- بأنه قد باع نصيبه وشقصه على بكر فللشفيع -وهو زيد- أن يشفع، فيقبض الشفيع -وهو زيد- من البائع -وهو عمرو- ذلك النصيب والشقص ويُسلِّمه ثمنه وتكون المعاملة تلك بينه وبين البائع، ولا دخل لبكر بالبائع ولا بالشفيع، ولا يُحاكمانه؛ القاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: لو أقرّ عمرو بأن هذه الدار لزيد وبكر معًا فأنكر بكر أنه يملك دارًا مع زيد، فإنها تكون لزيد وحده فكذلك الحال هنا؛ حيث أقرّ البائع بحقين:"حق للشفيع" و"حق للمشتري" فأنكر المشتري حقه: فيثبت حق الشفيع، والجامع: الإثبات من جهة، والإنكار من جهة أخرى، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من اعتراف البائع بالبيع: أن يُسلِّمه الشفيع الثمن، ويقبض منه نصيبه وشقصه، ويلزم من حصول مقصود البائع، وهو الحصول على الثمن من الشفيع، وحصول مقصود الشفيع، وهو الحصول على الشقص وأخذه بدون محاكمة: عدم الحاجة إلى المشتري المنكر للشراء -وهو بكر-، وهذا هو المقصد منه.
(39)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية أرض، فباع عمرو نصيبه منها على بكر، =
فإن أبى المشتري قبض المبيع: أجبره الحاكم
(40)
، ولا شفعة في بيع خيار قبل انقضائه
(41)
، ولا في أرض السواد ومصر، والشام؛ لأن عمر وقفها إلا أن يحكم
وأخذ الشفيع ذلك النصيب والشقص بالشفعة، فظهر أن ذلك الشقص مستحق لغيره: فإن الشفيع يرجع ويأخذ ما دفعه من الثمن من المشتري -وهو بكر-، ويرجع المشتري -وهو بكر- ويأخذ ما دفعه من ثمن ذلك الشقص من البائع -وهو عمرو-، وكذا: إن وجد الشفيع ذلك الشقص معيبًا: فله ردُّه على المشتري -وهو بكر-، أو يأخذ أرش عيبه منه، والمشتري -وهو بكر- له ردُّه على البائع -وهو عمرو- أو يأخذ أرش عيبه منه؛ للتلازم؛ حيث إن الشفعة تكون مستحقة بعد تمام بيع البائع -وهو عمرو- على المشتري -وهو بكر- وحصول الملك له، ثم يزول الملك من المشتري إلى الشفيع بسبب الشفعة بنفس الثمن، فيلزم من ذلك أن تكون العهدة والتعامل مباشرة بين الشفيع والمشتري، وكذلك لما كانت المعاملة في البيع بين البائع والمشتري -في شراء الشقص- يلزم أن تكون العهدة والتعامل بين المشتري والبائع مباشرة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه بيان أن التعامل إيجابًا وسلبًا مع من تعامل معك في جميع المعاملات.
(40)
مسألة: إذا أبى وامتنع المشتري -وهو بكر في مسألة (39) - قبض المبيع -وهو الشقص الذي اشتراه من البائع وهو عمرو- ليُسلِّمه؛ خوفًا من تلك العهدة -المذكورة في مسألة (39) -: فإن الحاكم والقاضي يجبره على أخذه؛ أي: يُجبر بكرًا على أخذ المبيع وهو الشقص من عمرو؛ ليُسلِّمه للشفيع -وهو زيد-، وليس للشفيع أخذه من البائع -وهو عمرو-؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الشفيع يشتري الشقص من المشتري: أن لا يأخذه إلا منه، فيُلزمه القاضي والحاكم بذلك، لكونه هو صاحب الأمر الإلزامي، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق الشفيع من أن يُؤخذ ويؤكل بالحيل.
(41)
مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في ملكية دار، وباع عمرو نصيبه وشقصه على بكر =
ببيعها حاكم، أو يفعله الإمام أو نائبه؛ لأنه مختلف فيه، وحكم الحاكم ينفذ فيه
(42)
واشترط عمرو الخيار مدَّة ثلاثة أيام، فلا يحق لزيد أن يطالب بالشفعة في مدة الخيار تلك؛ للمصلحة: حيث إن الشفيع يُسقط بالشفعة حق البائع من الخيار، وقد يلزم المشتري بالعقد بغير رضاه، فدفعًا لتلك المفسدة على الطرفين: لم تجز المطالبة بالشفعة.
(42)
مسألة: تجوز الشفعة في جميع العقارات -من دور وأراضي- سواء كانت مفتوحة عنوة أو صلحًا، قسم على الغانمين أو لا، إذا كانت تباع وتشترى بإذن من الحاكم، أو نائبه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من صحة بيعها وشرائها: صحة الشفعة فيها؛ لأن الشفعة فرع عن الشراء والبيع، فإن قلتَ: لا تصح الشفعة مما لم يقسم بين الغانمين كأرض السواد من العراق، ومصر، والشام إلا أن يحكم الحاكم بيعها، أو يفعل ذلك الحاكم أو نائبه، فتصحّ الشفعة فيه، نظرًا لإذن الحاكم، أو فعله وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: هذا القول يصلح أن يُعمل به في عصر الصحابة أو تابعيهم، أما فيما بعد ذلك من العصور فلا يصلح له ذلك؛ إذ مات الموقوف عليهم -من قبل عمر رضي الله عنه، وأذن الحكام بامتلاكها والبيع والشراء فيها، والشفعة مبنية على الشراء فيها والبيع، وهذا قد سبق ذكره في كتاب الجهاد، وإذا كان الأمر كذلك فلا خلاف، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في جواز بيع ما لم يقسم بين الغانمين" فمن قال: يجوز بيعها وهو الصحيح: قال بجواز الشفعة ومن قال: بعدم جواز بيعها قال: بعدم جواز الشفعة فيها.
هذه آخر مسائل باب "الشفعة" ويليه باب "الوديعة"
باب الوَدِيْعَة
من "ودع الشيء": إذا تركه؛ لأنها متروكة عند المودع، والإيداع: توكيل في الحفظ تبرعًا، والاستيداع: توكل فيه كذلك، ويُعتبر لها ما يُعتبر في وكالة
(1)
، ويُستحب قبولها لمن علم أنه ثقة قادر على حفظها، ويكره لغيره إلا برضى ربها
(2)
باب الوَدِيْعَة
وفيه ثلاث وثلاثون مسألة
(1)
مسألة الوديعة لغة من "الودع"، و "التوديع" وهي: ترك الشيء في مكان أمين، قال الأزهري:"أن تُودِع ثوبًا في صوان لا يصل إليه غبار ولا ريح"، ومنه قوله تعالى:{ما ودَّعك ربك وما قلى .. } أي: لم يتركك ولم يقطع الوحي عنك، ولا أبغضك، - كما جاء في اللسان (8/ 382) وهي في الاصطلاح:"أن يوكل جائز التصرف غيره ممن يُماثله في حفظ ماله بلا عوض على وجه مخصوص" أي: يقوم زيد البالغ العاقل الرشيد بجعل ماله أو بعضه عند عمرو البالغ العاقل الرشيد ليحفظه له بلا عوض يأخذه منه عمرو، وزيد المودِع موكِّل في حفظ ماله، وعمرو المودَع موكَّل في هذا الحفظ، وهو متبرِّع في ذلك، لذلك اشتُرط للوديعة ما اشتُرط للوكيل والموكِّل من التكليف والرشد - كما سبق في باب الوكالة - والمراد بعبارة:"على وجه مخصوص": أن هذه الوديعة لها شروط، وقيود في المودِع والمودَع، والمال المودَع، وطريقة حفظه سيأتي بيانها إن شاء الله. فإن قلت: لِمَ جعل باب الوديعة هنا، مع أن بعض الفقهاء قد جعلها بعد كتاب الفرائض وبعضهم جعلها بعد باب الهبة؟ قلتُ: لكونها معاملة بين اثنين فهي قريبة لأحكام الوكالة، والغصب، والشفعة، أكثر من شبهها للفرائض والهبة.
(2)
مسألة: يُستحب للمسلم العدل الذي غلب على ظنه قدرته على حفظ الودائع أن يقبل الودائع ويحفظها لأصحابها، ويكون له في ذلك أجر عظيم، ويكره لمن=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يشكّ في قدرته على حفظها، قبول الوديعة إلا إذا رضي صاحب الوديعة بعد إعلامه بحاله؛ لقواعد: الأولى: الكتاب، وهو من وجهين: أولهما: قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} وهذا يدل على جواز أخذ الودائع والأمانات، ووجوب إعادتها إلى أهلها، ثانيهما قوله تعالى:{وتعاونوا على البر والتقوى} وحفظ الودائع والأموال لغير القادر على حفظها من باب التعاون على البر، فيشمله عموم هذه الآية؛ لأن "البر والتقوى" اسم جنس محلّى بأل وهو من صيغ العموم، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" فحفظ الودائع من باب الإعانة على فعل الخيرات والطاعات؛ لأنه يحفظها له من السارقين واللصوص، وهذا من أعظم الطاعات إذا قُصد، الثالثة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء قديمًا وحديثًا على جواز الإبداع، والاستيداع، فإن قلتَ: لِمَ كان ذلك مستحبًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كثيرًا من الناس يحتاج إلى إيداع ماله عند من يحفظها لهم من السارقين واللصوص؛ إذ ليس كل أحد يستطيع حفظ ماله بنفسه، أو يستطيع ولكنه قد يسافر لأي غرض فيحتاج إلى أن يودع ماله عند غيره من المقيمن حتى يرجع، فإن قلتَ: لِمَ كُره لمن يشك في قدرته على حفظها أن يقبل الودائع إلّا بعد إعلام المودِع بذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية المودِع من أن يُغر في بعض الناس، فيظنه قادرًا على الحفظ، وهو ليس كذلك. (فرع): إن غلب على ظن شخص عدم القدرة على حفظها فلا يجوز له أن يقبل الوديعة عنده: سواء رضي المودع أو لا؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية لحق المودِع. (فرع ثان) الوديعة عقد جائز: إذا أراد المودع أخذ وديعته: فإنه يجب على المودَع ردُّها إليه، في أي وقت أراد المودِع، وإذا أراد المودَع ردَّها إلى صاحبها: فيجب على المودع قبولها في أي وقت أراد المودَع؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضًا =
و (إذا تلفت) الوديعة (من بين ماله، ولم يتعدَّ ولم يُفرط: لم يضمن)؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أودع وديعة فلا ضمان عليه" رواه ابن ماجه، وسواء ذهب معها شيء من ماله أو لا
(3)
، (ويلزمه) أي: المودَع (حفظها
= فليؤد الذي أؤتمن أمانته}؛ حيث أمر برد الأمانة، والأمر مطلق في الزمان، فيلزم منه: أن يرد المودَع الوديعة في أي وقت شاء المودِع، الثانية: التلازم؛ حيث إن المودَع - وهو المستودَع - متبرِّع بإمساكها فإذا ردَّها إلى صاحبها يلزم منه: أن يقبلها صاحبها؛ لكون المودَع: إذا تبرّع في الوقت الماضي فلا يلزمه التبرع في المستقبل.
(3)
مسألة: المودَع لا يضمن الوديعة إذا تلفت: سواء تلفت بمفردها، أو مع ماله، بشرط: أن لا يتعدَّ أو يُفرِّط؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن المودَع لو ضمنها إذا تلفت، ودفع قيمتها - من غير تعدٍّ أو تفريط -: لأدَّى ذلك إلى امتناع الناس من أن يقبلوا الأمانات والودائع عندهم، وهذا مضربهم؛ لكون المودع يحفظ الوديعة لصاحبها متبرعًا من غير نفع يرجع إليه، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن أبا بكر وعلي وابن مسعود قالوا بعدم التضمين مطلقًا إذا تلفت الوديعة عند المودَع فإن قلتَ: إن تلفت الوديعة بمفردها، دون ماله فإن المودَع يضمنها لصاحبها وإن لم يتعدَّ ولم يفرط؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عمر قد ضمَّن أنس بن مالك وديعة أودعها إياه تلفت من بين ماله قلتُ: إنه يُحتمل أن أنسًا قد فرَّط، أو تعدّى في حفظ تلك الوديعة، فلذا ضمَّنه، وإذا تطرّق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي وفعله" فأخذنا بقوله؛ لقوته، دون فعله، لضعفه بالاحتمال، وأيضًا:"تعارض فعل الصحابي مع المصلحة" فأخذنا بالمصلحة؛ لكونها عامة، وهم أخذوا بفعل الصحابي في الجهتين. (فرع): إن ثبت دليل على أن المودَع قد فرَّط أو تعدَّى في حفظ الوديعة فتلفت بسبب ذلك: فإنه - أي: المودَع - يضمنها مطلقًا؛ للإجماع؛ حيث أجمع=
في حرز مثلها) عرفًا، كما يحفظ ماله؛ لأنه تعالى أمر بأدائها، ولا يمكن ذلك إلّا بالحفظ، قال في "الرعاية": من استودع شيئًا: حفظه في حرز مثله عاجلًا مع القدرة وإلا: ضمن
(4)
(فإن عينه) أي: الحرز (صاحبها، فأحرزها بدونه: ضمن): سواء ردَّها إليه أو لا؛ لمخالفته في حفظ ماله
(5)
(و) إن أحرزها (بمثله، أو أحرز) منه:
= العلماء على ذلك، ومستند هذا: القياس؛ بيانه: كما أن الشخص لو أتلف مال غيره من غير استيداع يضمنه لصاحبه، فكذلك لو تلفت الوديعة بسبب تعد المودع أو تفريطه يضمنها والجامع: أنه في كل منهما قد أتلف مال غيره من غير عذر، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية أموال المسلمين من تعدِّي الآخرين عليها. تنبيه: الحديث الذي ذكره المصنف - وهو: "من أودع وديعة فلا ضمان عليه" لا يصلح للاستدلال به؛ لضعف سنده؛ حيث إن فيه المثنى بن الصباح، وهو متروك - كما في تلخيص الحبير (3/ 112).
(4)
مسألة: يجب على المودَع: أن يحفظ الوديعة بنفسه، أو من يثق به من وكيله، أو زوجته، أو رقيقه، أو ولده، وأن يضعها في حرز منيع يحفظ ماله فيه أو فيما يُماثله مما تحفظ فيه الأشياء عادة، فإن لم يفعل ذلك عاجلًا مع قدرته على ذلك: فإنه يضمنها إذا تلفت؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدُّوا الأمانات إلى أهلها} فأوجب الشارع أداء الأمانة وتسليمها لصاحبها؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، ولا يتمّ أداء وتسليم الأمانة - وهي الوديعة - إلا بعد حفظها في حرز مثلها، فوجب أن يحفظها بماء يحفظ به أمواله، من باب "ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب" الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من مقصود الوديعة ومشروعيتها، أن يحفظها المودَع للمودِع فوجب، ويلزم من عدم الحفظ: ضمانها إذا تلفت فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه التأكيد على وظيفة المودَع؛ لئلا يُفرِّط فيها.
(5)
مسألة: إن عين المودع حرزًا وموضعًا للمودَع، وقال:"احفظ الوديعة فيه"،=
(فلا) ضمان عليه؛ لأن تقييده بهذا الحرز يقتضي ما هو مثله، فما فوقه من باب أولى
(6)
(وإن قطع العلف عن الدابة) المودعة (بغير قول صاحبها: ضمن)؛ لأن العلف من كمال الحفظ، بل هو الحفظ بعينه؛ لأن العرف يقتضي علفها وسقيها، فكأنه مأمور به عرفًا
(7)
، وإن نهاه المالك عن علفها وسقيها: لم يضمن؛ لإذنه في
= فأحرزها وحفظها المودَع فيما هو أدون منه: فإن يضمنها إذا تلفت، وهذا مطلق، أي: سواء ردَّ المودَع تلك الوديعة إلى الحرز والموضع الذي عيَّنه المودِع أو لم يردَّها إليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعدِّي المودَع بوضع الوديعة فيما هو أدون مما عيّنه المودِع حرزًا لها: أن يضمنها إذا تلفت، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن صاحبها - وهو المودِع - أعلم بماله، وما يناسبه من الحفظ، فلما خالفه يجب أن يتحمَّل نتيجة تلك المخالفة.
(6)
مسألة: إن عيَّن المودِع حرزًا وموضعًا للمودَع وقال له: "احفظ الوديعة فيه" فأحرزها المودَع بمثله أو أعلى وأقوى مما عيَّنه المودِع: فإنه لا يضمنها إذا تلفت؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعيين المودِع هذا الحرز وتقييده به: أن يحرزه ويحفظه فيما هو مثله، وما هو أعلى وأحرز وأقوى منه؛ لكونه حفظه في مثله وزيادة، فإن قلتَ: لِمَ شُرّع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه التأكيد على حماية الوديعة، وحفظ حقوق الآخرين.
(7)
مسألة: إذا أودع زيد عمرًا دابة، وقال:"اجعلها عندك وديعة" وسكت: فيجب على المودَع - وهو عمرو - أن يُعلَّفها ويسقيها، فإن قطع عمرو عنها ذلك، فتلفت بأن ماتت أو مرضت: فإنه - أي: عمرو - يضمنها؛ للعرف والعادة؛ حيث إنه قد جرى العرف والعادة على أن الدابة لا تحيا بدون أكل وشرب - كالإنسان - فيكونان كأنه مأمور بهما عرفًا، فلو ترك ذلك: فإنه يضمنها؛ لتركه حفظها بهما، والعادة محكَّمة.
إتلافها، أشبه ما لو أمره بقتلها، لكن يأثم بترك علفها إذًا؛ لحرمة الحيوان
(8)
(وإن عيَّن جيبه) بأن قال: "احفظها في جيبك"(فتركها في كمه، أو يده: ضمن)؛ لأن الجيب أحرز، وربما نسي فسقط ما في كمه أو يده (وعكسه بعكسه) فإذا قال:"اتركها في كمك، أو يدك" فتركها في جيبه: لم يضمن؛ لأنه أحرز، وإن قال:"اتركها في يدك" فتركها في كمه، أو بالعكس، أو قال:"اتركها في بيتك" فشدَّها في ثيابه وأخرجها: ضمن؛ لأن البيت أحرز
(9)
(وإن دفعها إلى من يحفظ ماله) عادة
(8)
مسألة: إذا أودع زيد عمرًا دابة، ونهاه عن أن يُعلِّفها أو يسقيها، فتلفت بأن ماتت أو مرضت: فإنه - أي: عمرو المودَع - لا يضمنها؛ ولكن يحرم أن يترك تعليفها أو سقيها؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن زيدًا لو أمر عمرًا بقتل تلك الدابة لا يضمنها فكذلك لو أودعها عنده وأمره بأن لا يسقيها ولا يُعلِّفها فتلفت لا يضمنها، والجامع: أن زيدًا في كل منهما قد أذن في إتلاف دابته، الثانية: التلازم، حيث يلزم من حرمة الحيوان: تحريم تركها بدون تعليف أو سقي.
(9)
مسألة: إذا عيَّن المودِع للمودَع الموضع الذي تُحفظ فيه الوديعة، فجعلها المودَع فيما هو أقل حفظًا وحرزًا منه: ضمن، وإن جعلها فيما هو أكثر حرزًا وحفظًا مما عينه المودِع: لم يضمن، وهذا يتبيَّن في صور خمس: الصورة الأولى: إن قال المودع "احفظها في جيبك" فحفظها المودَع في كمه أو يده: فإن المودَع يضمنها لو تلفت أو سُرقت؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الجيب - وهو: الطوق المجوف - أحرز وأحفظ للأشياء من الكم واليد أن يضمن ما جعله فيهما أو أحدهما - أي: الكم واليد -؛ لأن ما في الكم واليد يسقط غالبًا بالنسيان والغفلة مع الزحام، الصورة الثانية: إن قال المودِع "اتركها في كمك أو يدك" فتركها المودَع في جيبه: لم يضمن لو تلفت أو سُرقت؛ للتلازم: حيث يلزم من كون الجيب أحرز وأحفظ للأشياء من الكم واليد: عدم ضمانه لما جعله فيه، الصورة الثالثة: إن قال المودع: "اتركها في يدك" فتركها المودَع في كمه؛ يضمنها إذا تلفت أو سُرقت؛=
كزوجته وعبده
(10)
= للتلازم؛ حيث إن كون اليد أحفظ للأشياء من الكم من جهة: أن الكم يتطرّق إليه البسط فيسقط ما فيه، وكون الكم أحفظ للأشياء من اليد من جهة: أن اليد يسقط ما فيها بالنسيان يلزم منه تساويهما في ذلك، ويلزم من مخالفته طلب المودِع: أن يضمنها إذا تلفت أو سُرقت، الصورة الرابعة: إن قال المودع: "اتركها في كمك" فتركها المودَع في يده: فإنه يضمنها إذا تلفت أو سرقت؛ للتلازم؛ حيث إنهما متساويان في الحفظ والحرز، ويلزم من مخالفته طلب المودِع: أن يضمنها إذا تلفت أو سرقت. الصورة الخامسة: إن قال المودع: "اتركها في بيتك" فوضعها المودَع في ثوبه مشدودة به، وأخرجها: فإنه يضمنها إن تلفت أو سُرقت؛ للتلازم؛ حيث إن البيت غالبًا يكون أحفظ وأحرز من الثوب، فيلزم من عدم وضعها في البيت مع أن المودِع طلب وضعها فيه: أن يضمنها عند تلفها، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إظهار حقوق كل من المودِع والمودَع إذا تلفت الوديعة؛ منعًا لظلم بعض الناس.
(10)
مسألة: إذا دفع المودِع الوديعة إلى المودَع، فدفعها المودَع إلى من يحفظ ماله عادة مثل زوجته أو عبده، أو خازنه، أو وكيله: فتلفت عند أحد هؤلاء: فإن المودَع لا يضمنها؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو دفع الماشية إلى الراعي، أو البهيمة إلى غلامه ليسقيها، ثم تلفت: فإنه لا يضمن، فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما قد حفظها بما حفظ به ماله فإن قلتَ: إن المودَع هنا يضمن وهو قول كثير من الشافعية؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو دفعها إلى أجنبي وتلفت فإنه يضمنها فكذلك إذا دفعها إلى وكيله أو زوجته أو عبده ممن يحفظ ماله يضمنها إذا تلفت، والجامع: أنه في كل منهما قد سلَّم الوديعة إلى من لم يرضَ به صاحبها قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن وكيله، أو زوجته، أو عبده قد اعتاد أن يضع عندهم ماله؛ ليحفظوه له، بخلاف الأجنبي فلا يعطيه ماله عادة؛ =
(أو) ردَّها لمن يحفظ (مال ربها: لم يضمن)؛ لجريان العادة به
(11)
ويُصدَّق في دعوى التلف والرَّد كالمودَع
(12)
(وعكسه الأجنبي والحاكم) بلا عذر، فيضمن المودَع بدفعها إليهما؛ لأنه ليس له أن يودع من غير عذر (ولا يطالبان) أي: الحاكم والأجنبي
= لحفظه، له ولا يُعتبر حافظًا له من جهته، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" كما سبق بيانهما.
(11)
مسألة: إذا دفع المودع - وهو زيد - الوديعة إلى المودَع - وهو عمرو - فدفعها المودَع إلى بكر الذي يحفظ مال المودِع - وهو زيد - ثم تلفت: فإن المودَع - وهو عمرو - لا يضمنها؛ للقياس؛ بيانه كما أن هذا الحافظ - وهو بكر - لمال المودِع - وهو زيد - قد أمنه على ماله بنفسه، فكذلك المودَع - وهو عمرو - يأمنه على تلك الوديعة التي تُعتبر من مال المودِع - وهو زيد - مثل ذلك، والجامع: أن بكرًا عند زيد وعمرو يُعتبر أمينًا على مال زيد غير متّهم، تنبيه: قوله: "لجريان العادة به" فيه استدلال بالعادة والعرف هنا، وهذا لا يصلح للاستدلال به هنا؛ إذ العادة والعرف غير محكَّمة هنا؛ لاختلاف عادة البيئات، وأعراف المجتمعات، فإن قلتَ: لِمَ لا يضمن هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على المودَع؛ حيث إنه قد يطرأ طارئ عليه فلا يجد صاحبها، فيعطيها مَنْ يحفظ ماله.
(12)
مسألة إذا دفع المودَع - وهو عمرو - الوديعة التي عنده إلى من يحفظ هو كوكيله، أو زوجته، أو عبده - كما سبق في مسألة (10) - أو دفعها إلى من يحفظ مال المودِع - وهو بكر كما في مسألة (11) - وادَّعى هؤلاء الأربعة - وهم: الوكيل والزوجة، والعبد، ومن يحفظ مال المودِع وهو بكر - أنهم سلَّموها إلى صاحبها - وهو المودع - أو ادَّعوا بأنها تلفت بلا تفريط ولا تعدِّ: فإنهم يُصدَّقون في ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُصدَّق المودَع في ذلك فكذلك يُصدَّق هؤلاء والجامع: أن كلًّا: منهم يُعتبر حافظًا غير متهم.
بالوديعة إذا تلفت عندهما بلا تفريط (إن جهلا) جزم به في "الوجيز"؛ لأن المودَع ضمن بنفس الدفع والإعراض عن الحفظ فلا يجب على الثاني ضمان؛ لأن دفعًا واحدًا لا يوجب ضمانين، وقال القاضي: له ذلك، فللمالك مطالبة من شاء منهما
(13)
، ويستقر الضمان على الثاني إن علم، وإلا: فعلى الأول، وجزم بمعناه في
(13)
مسألة إذا دفع المودَع الوديعة إلى الحاكم، أو إلى الأجنبي من غير عذر - كحضور وفاة للمودَع أو إرادته للسفر - ثم تلفت تلك الوديعة عند ذلك الحاكم، أو الأجنبي -: فإن المودَع الأول يضمنها، إن كان الحاكم أو الأجنبي جاهلين بأنها وديعة، فيُطالب صاحب الوديعة المودَع بها أو بقيمتها، ولا يُطالب الحاكم أو الأجنبي بها؛ للتلازم؛ حيث إن كون المودِع قد اختار نفس ذلك المودَع فوضع عنده تلك الوديعة يلزم منه: أنه إذا وضعها المودَع عند غيره بلا إذن ولا عذر: أنه يضمنها عند تلفها؛ لكونه بمجرد الدفع لغيره يُعتبر إعراضًا عن الحفظ. فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن معاملة المودِع كانت مع المودَع الأول فقط، فلا دخل للمودَع الثاني - وهو الحاكم أو الأجنبي - فيه، فإن قلت: لَم لا يضمن المودَع الثاني؟ قلتُ: لأن دفع الوديعة كان واحدًا، والواحد لا يوجب ضمانين من شخصين، فإن قلتَ: إن للمودِع مطالبة الثاني - وهو الحاكم أو الأجنبي - بالضمان، فلصاحب الوديعة مطالبة المودَع الأول، أو مطالبة المودَع الثاني - وهو الحاكم أو الأجنبي، وهو قول بعض الشافعية وعليه كثير من الحنابلة ومنهم أبو يعلى؛ للقياس؛ بيانه: كما أن القابض من الغاصب ما غصبه يضمنه إذا تلف، فكذلك الحاكم أو الأجنبي إذا قبض من المودَع الأول الوديعة فتلفت: فإنه يضمنها والجامع: أن كلًّا منهما قد قبض مال غيره على وجه لم يكن له قبضه، ولم يأذن له مالكه قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن القابض للوديعة من المودَع - وهو الحاكم أو الأجنبي - قد أُذن له في قبضها من قبل المودَع الأول فكان له قبضه، والمودَع في وقت كون الوديعة عنده وكيل عن المودع - وهو=
"المنتهى"
(14)
(وإن حدث خوف أو) حدث للمودَع (سفر: ردَّها على ربها) أو وكيله فيها؛ لأن في ذلك تخليصًا له من دركها، فإن دفعها للحاكم إذًا: ضمن؛ لأنه لا ولاية له على الحاضر
(15)
، (فإن غاب) ربها:(حملها) المودَع (معه) في السفر: سواء
= مالكها - والمسألة مفروضة فيما إذا جهل المودَع الثاني - وهو الحاكم أو الأجنبي - بأن ما قبضه وديعة، أما إذا علم بأنها وديعة فلها حكم آخر سيأتي بيانه، بخلاف القابض من الغاصب فالغاصب ليس وكيلًا عن صاحب العين المغصوبة، ومع هذا الفرق لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم" كما هو واضح هنا.
(14)
مسألة: إذا دفع المودَع الوديعة إلى الحاكم، أو الأجنبي من غير عذر، وهذا الحاكم أو الأجنبي يعلم أنها وديعة، فتلفت: فإنه يضمن، أي: للمودِع، وهو مالك الوديعة أن يُطالب المودَع الأول، أو المودَع الثاني - وهو الحاكم أو الأجنبي -، للتلازم؛ حيث إن كلًّا منهما قد تعدَّى أو فرط في الوديعة حتى تلفت مع علمهما بأنها وديعة فعليهما الضمان.
(15)
مسألة: إذا وجد عذر للمودَع كحدوثة خوف، أو سفر، أو حضرة وفاة: فإنه يجب عليه أن يردَّ الوديعة إلى صاحبها، أو إلى وكيله في حفظ أمواله، ولا يجوز له أن يدفعها إلى الحاكم - وهو القاضي - مع حضور صاحبها أو وكيله، فإن دفعها إلى الحاكم مع ذلك وتلفت: فإنه - أي: المودع - يضمنها؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن ردّها إلى صاحبها، أو وكيله فيه إيصال للحق إلى مستحقه، وإبراء للذمّة، الثانية: التلازم؛ وهو من وجهين: أولهما: أنه يلزم من كون الحاكم لا يتولَّى على الحاضر: أن لا تدفع له الوديعة مع حضور صاحبها، أو وكيله، ثانيهما: أنه يلزم من كون المودَع قد دفع الوديعة إلى غير مالكها بغير إذنه من غير عذر: أن يضمنها إذا تلفت، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يجعل المودعَ يدفع الوديعة لمالكها، لا لغيره؛ لئلا تضيع الحقوق.
كان لضرورة أو لا (إن كان أحرز) ولم ينهه عنه؛ لأن القصد الحفظ، وهو موجود هنا، وله ما أنفق بنية الرجوع، قاله القاضي (وإلا) يكن السفر أحفظ لها، أو كان نهى عنه: دفعها إلى الحاكم؛ لأن في السفر بها غررًا؛ لأنه عرضة للنَّهب وغيره، والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته
(16)
، فإن أودعها مع قدرته على الحاكم:
(16)
مسألة: إن لم يقدر المودَع ردَّ الوديعة إلى صاحبها أو وكيله لغيابهما وأراد السفر: فإنه يُسافر بها سواء كان ذلك السفر ضروري أو لا، ولكن بشرطين: أولهما: أن يغلب على ظنه السلامة في السفر، بأن يكون السفر أحرز وأحفظ للوديعة، ثانيهما: أن لا يكون المودع قد نهاه عن أن يسافر بها، ولا يضمنها إن تلفت في ذلك السفر، فإن تخلَّف الشرطان أو أحدهما: بأن كان ليس أحرز وأحفظ للوديعة، حيث غلب على ظنه عدم السلامة، أو شك في ذلك، أو نهاه المودع عن السفر بالوديعة: فإنه يدفعها إلى الحاكم - وهو القاضي - ويُسافر، ولا يضمنها إن تلفت عند الحاكم في هذه الحالة؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ وهو من وجهين أولهما: أنه يلزم من وجود القصد من الوديعة - وهو حفظها - في السفر المتوفِّر فيه الشرطان: حمل الوديعة معه، وعدم ضمانه إن تلفت؛ لأنه يغلب على الظن السلامة فيه، ثانيهما: أنه يلزم من كون الحاكم يقوم مقام الغائب: أن تُدفع إليه الوديعة - عند تخلُّف هذين الشرطين - عند غياب صاحبها، الثانية: المصلحة؛ حيث إن دفعها إلى الحاكم في السفر المخوف أحفظ لها؛ لئلا تتعرّض للنهب والسلب والسرقة، وصاحب الوديعة أعلم بمصلحته لذا لا يعصيه المودَع بالسفر بها إذا نهاه عنه، فإن سافر بها في السفر المخوف، أو عصى المودِع فسافر بها ثم تلفت: فإن المودَع يضمنها؛ نظرًا لتفريط المودَع في حفظها. (فرع): إذا سافر المودَع بها عند توفّر الشرطين السابقين في مسألة (16): فإن نفقة حملها في ذلك السفر يكون على صاحبها - وهو المودع - إذا نوى المودَع أن يرجع به إليه قياسًا على غيرها من الأعيان المحمولة للغير. (فرع ثان) يلزم الحاكم أن يقبلها إذا دُفعت =
ضمنها؛ لأنه لا ولاية له
(17)
، فإن تعذَّر حاكم أهل:(أودعها ثقة)؛ لفعله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يهاجر أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن رضي الله عنها، ولأنه موضع حاجة، وكذا: حكم من حضره الموت
(18)
(ومن) تعدَّى في الوديعة: بأن (أودع دابة فركبها لغير نفعها) أي: علفها وسقيها (أو) أودع (ثوبًا فلبسه) لغير خوف من عث أو نحوه (أو) أودع (دراهم، فأخرجها من محرز) ها (ثم ردَّها) إلى حرزها (أو رفع الختم) عن كيسها، أو كانت مشدودة، فأزال الشد: ضمن: أخرج منها شيئًا أو لا؛ لهتك الحرز (أو خلطها بغير متميّز) كدراهم بدراهم، وزيت بزيت في ماله أو غيره
= الوديعة إليه؛ للتلازم؛ حيث إنه ولي من لا ولي موجود له فيلزمه قبولها.
(17)
مسألة: إذا تعذَّر على المودَع أن يرد الوديعة إلى صاحبها، أو وكيله ولم يقدر السفر بها: فإنه يدفعها إلى الحاكم - كما سبق في مسألة (16) -، فإن أودعها مسلمًا أمينًا مع قدرته على دفعها إلى الحاكم: ثم تلفت: فإن المودَع الأول يضمنها؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كون غير الحاكم لا ولاية له: ضمان الوديعة إذا دُفعت إليه؛ لكونه غير محل للدفع إليه مع وجود الحاكم، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المودِع.
(18)
مسألة: إذا تعذَّر على المودَع دفعها إلى الحاكم الأهل عند إرادته السفر: فإنه يودعها عند ثقة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع، فلما أراد الهجرة من مكة إلى المدينة أودعها عند أم أيمن، وأمر عليًا أن يردها إلى أصحابها، وهذا يلزم منه: عند عدم وجود حاكم أهل؛ لأن مكّة حين مهاجرته صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها حاكم أهل، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الحاجة تقتضي أن يضعها عند ثقة فشرع من أجل ذلك، (فرع): إذا حضرت المودَع الوفاة وعنده وديعة: فإنه يجب عليه أن يردّها إلى أصحاب صاحبها، أو وكيله، فإن تعذّر فيدفعها إلى حاكم أهل، فإن تعذَّر: فإنه يودعها ثقة؛ للقياس؛ على من أراد السفر - كما سبق في مسائل (15 و 16 و 17 و 18) -.
(فضاع الكل: ضمن) الوديعة؛ لتعدِّيه، وإن ضاع البعض ولم يدر أيهما ضاع: ضمن أيضًا
(19)
، وإن خلطها بمتميز كدراهم بدنانير: لم يضمن
(20)
، وإن أخذ درهمًا من غير محرزه، ثم ردَّه فضاع الكل: ضمنه وحده
(21)
، وإن ردَّ بدله غير متميّز: ضمن الجميع
(22)
،
(19)
مسألة: إذا تعدَّى المودَع في الوديعة بدون إذن من صاحبها: فإنه يضمن ما تلف منها بسبب ذلك، كأن يُودع دابة فيركبها بغير نفعها، أو يودع ثوبًا فيلبسه من غير خوف شيء، أو يودع دراهم فيخرجها من كيسها أو صندوقها - الذي هو حرز لها - ثم يردها إليه، أو يرفع ختم الكيس، أو يزيل شد الحبل على ذلك الكيس، أو يزيل قفل الصندوق، أو أُودع دراهم فخلطها بدراهم مثلها، غير متميّزة عنها، فضاع كل الوديعة في الصور السابقة، أو بعضها، ولم يدر ما هو الضائع من غيره: فإنه يضمن كل ما سبق؛ للتلازم؛ حيث إن تصرفات المودَع في تلك الوديعة مخالفة لحفظها فيلزم ضمان ما حصل من الإتلاف بسبب ذلك؛ نظرًا لعدوانه وهتكه للحرز، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية الوديعة من الاعتداء عليها بأي شكل يوجد من المودَع.
(20)
مسألة إذا دفع مودع دراهم إلى شخص ليحفظها له، فخلط المودَع في هذه الدراهم دنانير ثم تلفت الدراهم المودعة من غير تعد ولا تفريط: فإن المودَع لا يضمنها؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من التمييز بين الدراهم والدنانير: أن لا يضمن الدراهم إذا تلفت؛ لظهورها على الدنانير.
(21)
مسألة: من أودع شيئًا غير محروز كدراهم مثلًا، فأخذ بعضه كدرهم، ثم ردَّه، فضاع الكل: فإنه يضمن ما أخذه فقط؛ للتلازم؛ حيث إن ما أخذه هو الذي تعدَّى فيه فيتعلَّق الضمان بما أخذه فقط إن ضاع أو تلف، ويلزم عدم ضمان غير ما أخذ إذا تلف أو ضاع، وفي ذلك حماية للمودَع، وهو المقصد منه.
(22)
مسألة: إذا أخذ المودَع درهمًا واحدًا من الوديعة - التي هي مجموعة دراهم غير=
ومن أودعه صبي وديعة: لم يبرأ إلّا بردِّها لوليه
(23)
، ومن دفع لصبي ونحوه وديعة: لم يضمنها مطلقًا
(24)
،
= محروزة - ثم ردَّ بدله، ولم يرده بنفسه فضاعت جميع الدراهم: فإنه يضمنها جميعها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من خلط الوديعة وهي الدراهم بدرهم لا يتميّز، وتغيير بعض الوديعة: أن يضمنها إن ضاعت كلها والمقصد منه: التأكيد من عدم الاقتراب من الوديعة بأي شكل.
(23)
مسألة إذا أودع صبي أو مجنون شخصًا مُكلَّفًا وديعة: فيجب على هذا المكلف أن يردها إلى وليهما الناظر في مالهما، ولا تبرأ ذمة المكلَّف - وهو المودع - إلّا بذلك وإن لم يردَّها إلى وليهما فتلفت: فإنه يضمنها؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المكلف يردُّ دين الصبي والمجنون ونحوهما إلى وليهما وإن ردَّه إليهما: فإنه يضمنه إن تلف بأيديهما، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن الصبي والمجنون ونحوهما ليسوا من جائزي التصرف شرعًا، فلا يستلمون شيئًا من ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لمال المجنون والصبي ونحوهما.
(24)
مسألة: إذا دفع مكلَّف وديعة إلى صبي، أو مجنون، أو معتوه، أو سفيه، فتلفت: فإنهم لا يضمنونها مطلقًا: أي: سواء فرطوا، أو لا، وسواء تعدَّوا، أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المكلف لو أتلف شيئًا لغيره: فإنه يضمنه، لتفريطه، فكذلك إذا دفع إلى غير جائزي التصرف شرعًا كالصبي: فإنه يضمنه هو، والصبي لا يضمنه والجامع: التفريط في كل؛ حيث من دفع إلى الصبي شيئًا فقد فرّط فيه؛ لكونه قد سلّطه عليه بدفعها إليه فيتحمَّل نتيجة تفريطه، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحذير المكلَّفين من أن يعتمدوا على غير جائزي التصرف، فإن قلتَ: إن الصبي ونحوه يضمن ما أتلفه هنا، وهو قول الشافعي، وكثير من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وابن قدامة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الصبي يضمن إذا أتلف شيئًا غير مودع إليه، فكذلك يضمن ما أتلفه بعد=
ولعبد: ضمنها بإتلافها في رقبته
(25)
.
فصل: (ويقبل قول المودَع في ردِّها إلى ربها) أو من يحفظ ماله (أو غيره بإذنه) بأن قال: "دفعتها لفلان بإذنك" فأنكر مالكها الإذن، أو الدفع: قبل قول المودَع، كما لو ادَّعى ردَّها على مالكها
(26)
(و) يُقبل قوله أيضًا في (تلفها وعدم التفريط)
= إيداعه إياه، والجامع: إتلاف مال الغير في كل. قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأنه في هذه المسألة قد قصد ذلك المكلف ومكَّنه من قبض المال - وهي الوديعة - فكأنه هنا قد ساعده وشاركه على الإتلاف، بخلاف ما لو أتلف شيئًا لم يودع إليه فلم يُساعده أو يُشاركه عليه، ومع الفرق: لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" كما هو واضح.
(25)
مسألة: إذا دفع شخص إلى عبد مكلف وديعة، وتلفت: فإنه يضمنها لصاحبها في رقبته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه مكلفًا قد جنى بإتلافه: أن يضمن ما أتلفه، حماية لحق المودِع، وهو المقصد منه.
(26)
مسألة: إذا ادَّعى المودَع: أنه ردَّ الوديعة إلى صاحبها، أو ردَّها إلى من يحفظ ماله عادة كوكيله، أو عبده، أو زوجته، أو خازنه، أو دفعها إلى إنسان أجنبي بإذن من صاحبها: فأنكر صاحب الوديعة كل ذلك، أو أنكر من دفعت إليهم، ولا بيّنة لكل منهم: فإنه يُقبل قول المودَع مع يمينه؛ للمصلحة؛ حيث إنه لو لم يُقبل قول المودَع هنا: لأقضى ذلك إلى أن يمتنع الناس من قبول ودائع الآخرين عندهم وحفظها لهم، وقضاء حاجتهم بذلك، نظرًا لحدوث مثل هذه الخلافات بين الدافع والمدفوع إليه عادة، ولكون الوقت قد يضيق عن إثبات البيّنات، أو قد يصعب ذلك، وهذا فيه إلحاق مفسدة كبيرة في المجتمع الإسلامي، فدفعًا لذلك: شرع قبول قول المودَع ودفعها إلى هؤلاء كدفعها إلى صاحبها في ذلك، فإن قلتَ: لم يُطلب من المودَع اليمين؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الاحتياط؛ إذ قد يكون صاحب الوديعة، أو غيره ممن دفعت إليهم صادقين في إنكارهم، فردًا=
بيمينه؛ لأنه أمين، لكن إن ادَّعى التلف بظاهر: كُلِّف به بيَّنة، ثم قُبل قوله في التلف
(27)
، وإن أخَّر ردَّها بلا عذر: ضمن، ويمهل لأكل، ونوم، وهضم طعام بقدره، وإن أمره بالدفع إلى وكيله، فتمكن، وأبي: ضمن ولو لم يطلبها وكيله
(28)
= لهذا الاحتمال: شرعت اليمين.
(27)
مسألة: إذا ادَّعى المودَع أن الوديعة التي عنده قد تلفت مع حرصه عليها، وعدم تعدّيه وتفريطه فيها: ففي قبول قوله وعدمه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن ادَّعى التلف بسبب ظاهر كحريق، ونهب جيش، أو هدم عام: فلا يُقبل قوله إلّا بعد أن يثبت تلك الأسباب، وتكفي استفاضة ذلك: بين الناس، فإذا أثبت ذلك: قبل قوله في التلف نفسه؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك لا تتعذَّر إقامة البيّنة عليه فلزم، ثانيًا: إن ادَّعى تلفها ولم يذكر سببًا عامًا ظاهرًا: فإنه يُقبل قوله مع يمينه؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل: براءة ذمة كل أمين، والمودَع أمين، فيكون بريئًا، فيُقبل قوله، الثانية: المصلحة؛ وقد بيّناها في مسألة (26).
(28)
مسألة إذا طلب المودع وديعته من المودَع أو طلب منه أن يدفعها إلى وكيله في وقت يمكنه ذلك: فلم يفعل المودع ذلك فتلفت الوديعة بعد ذلك ففي تضمينه وعدمه تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن أخّرها لأجل أكل أو شرب، أو نوم، أو طهارة لصلاة أو هضم طعام، أو نحو ذلك من الحاجات التي تقتضي وقتًا قصيرًا، ثم تلفت في أثناء ذلك: فإنه لا يضمنها؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من عدم عدوانه، وعدم منعها لقصد المنع فقط: أن لا يضمن الوديعة إذا تلفت في هذه الحالة، ثانيًا: إن غلب على ظن المودَع أن صاحب الوديعة لا يقدر على حملها، أو لا يقدر على منع السرّاق وقطاع الطرق عنها، فمنعها، ثم تلفت عند المودَع: فإنه لا يضمنها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم عدوانه، وكون قصده حفظ الوديعة: عدم ضمانه؛ لكونه فعل ماله فعله، ثالثًا: إن لم يغلب على ظنه شيء فمنعها بلا عذر، ثم تلفت عنده: فإنه يضمنها؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الغاصب يضمن العين=
(فإن قال: لم تودعني ثم ثبتت) الوديعة (ببيّنة، أو إقرار، ثم ادَّعى ردًّا أو تلفًا سابقين لجحوده: لم يقبلا ولو ببيّنة)؛ لأنه مكذب للبيّنة، وإن شهدت بأحدهما، ولم تعين وقتًا: لم تسمع
(29)
(بل) يُقبل قوله بيمينه في الرَّد والتلف (في) ما إذا أجاب بـ (قوله: مالك عندي شيء ونحوه) كما لو أجاب بقوله: "لا حقَّ لك قِبَلي" أو "لا تستحق عليَّ شيئًا"(أو) ادَّعى الرد، أو التلف (بعده) أي: بعد جحوده (بها) أي: بالبيِّنة؛ لأن قوله لا ينافي ما شهدت به البيِّنة ولا يُكذِّبها
(30)
(وإن مات المودَع و
= المغصوبة إذا تلفت عنده فكذلك المودَع إذا امتنع من دفع الوديعة إلى صاحبها بدون عذر وتلفت عنده: فإنه يضمنها، والجامع: أن كلًّا منهما قد أمسك مال غيره بدون إذنه بفعل محرم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حق المودِع، وحق المودَع من تحايل أحدهما على الآخر.
(29)
مسألة: إذا ادَّعى زيد وديعة له عند عمرو، فأنكر عمرو قائلًا:"لم تودعني شيئًا"، ثم أثبت زيد بالبيِّنة أنه أودعه، أو أن عمرًا أقرَّ بها عنده، ثم ادَّعى - أي: المودَع - وهو عمرو - أنه ردَّها إلى صاحبها - وهو زيد - أو ادَّعى أنها تلفت عنده قبل جحوده: فإن دعواه بالتلف أو الرَّد لا يقبلان، ولو أثبت - أعني المودَع - بيِّنة على تلفها أو ردِّها، وعليه ضمانها: للتلازم؛ حيث إن المودع - وهو عمرو هنا - مُكذِّب لإنكاره الأول - وهو قوله: "لم تودعني شيئًا" - ومعترف على نفسه بالكذب المنافي للأمانة - التي يجب أن يتحلَّى بها المودَع - فيلزم من ذلك كله: عدم الثقة به، ووجوب الضمان عليه، لتحققه عليه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الحثّ على وضع الودائع عند الثقات. (فرع): إذا شهدت البيّنة بالتلف من الحرز ولم تعيّن وقتًا هل هذا وقع قبل الجحود أو بعده، واحتمل الأمرين: لم يسقط الضمان؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الثقة بكلام المودَع؛ نظرًا لتكذيبه نفسه: أن الضمان متحقق عليه، وهذا لا ينتفي بأمر متردد فيه.
(30)
مسألة: إذا ادَّعى زيد أنه أودع عمرًا وديعة، فأنكر عمرو ذلك قائلًا: "ما لك=
(ادَّعى وارثه الرَّد منه) أي: من وارث المودع لربِها (أو من مورِّثه) وهو المودَع (لم يُقبل إلّا ببيِّنة)؛ لأن صاحبها لم يأتمنه عليها، بخلاف المودَع
(31)
(وإن طلب أحد المودِعين نصيبه من مكيل أو موزون ينقسم) بلا ضرر: (أخذه) أي: أخذ نصيبه، فيُسلَّم إليه؛ لأن قسمته ممكنة بغير ضرر ولا غبن
(32)
(وللمستودع، والمضارب، والمرتهن،
= عندي شيء" أو قال: "لا حقَّ لك قِبَلي" أو قال: "لا تستحق عليّ شيئًا": فإنه يُقبل قوله في الرَّد والتلف مع يمينه ولو قامت بيّنة على أن عنده لزيد وديعة، أو هو أقربها، ولا ضمان عليه، وكذا: إن ادَّعى المودَع ردَّها إلى صاحبها، أو تلفها بعد أن جحدها بالبيّنة: يقبل قوله في الرد والتلف مع يمينه، ولا يضمنها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم منافاة قوله لما شهدت به البيّنة ولا يكذبها: قبول قوله مع يمينه وعدم ضمانها؛ لأن من تلفت الوديعة من حرزه بغير تفريطه لا شيء لمالكها عنده ولا يستحق عليه شيئًا.
(31)
مسألة: إذا أودع زيد عمرًا وديعة، فمات المودَع - وهو عمرو فادَّعى وارثه - أي: وارث عمرو - أنه قد ردَّ تلك الوديعة بنفسه إلى زيد، أو ادَّعى وارثه: أن مورِّثه - وهو عمرو - قد ردّ تلك الوديعة بنفسه قبل أن يموت: فإن قول هذا الوارث لا يُقبل إلّا ببيِّنة ودليل على ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون صاحبها - وهو زيد - لم يأتمنه على تلك الوديعة: أن لا يُقبل قوله إلّا ببيِّنة كغيره من الأجانب، بخلاف المودَع نفسه: فإنه يُقبل بقوله في الرَّد والتلف بغير بينة؛ لكونه مأمونًا من قبل المودِع - كما سبق تكرار ذكره، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية لحق المودِع.
(32)
مسألة: إذا أودع ثلاثة وديعة عند عمرو: تتكون من مكيل أو موزون لا تتعذَّر قسمته: فطلب أحدهم نصيبه من ذلك المكيل أو الموزون: فإنه يجوز للمودَع - وهو عمرو - أن يُسلِّمه إيَّاه بشرط: أن لا تنقص قيمة الوديعة كلها بتفرقتها بهذه الصورة؛ للقياس؛ بيانه: كما لو أودع زيد عمرًا دراهم، وأودعه بكر دنانير،=
والمستأجر) إذا غصبت العين منهم (مطالبة غاصب العين)؛ لأنهم مأمورون بحفظها، وذلك منه، وإن صادره السلطان أو أخذها منه قهرًا: لم يضمن قاله أبو الخطاب
(33)
.
= وأودعه محمد شعيرًا ثم طلب زيد دراهمه منه: فإنه يُسلمه له، فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما حق مشترك، وقسمته ممكنة؛ حيث تميز نصيب كل واحد عن الآخر بغير ضرر ولا غبن علي أحد، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتسهيل على المودَعين، والمودِعين.
(33)
مسألة: إذا غُصبت الوديعة من المودَع، وأخذت منه فلا يجب عليه مطالبة غاصبها، ولا ضمان عليه أيضًا، وهذا مطلق، أي: سواء كان الغاصب لها السلطان أو غيره، وسواء أُخذت من المودَع قهرًا، أو إكراهًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الأمر بالمطالبة بها إذا أخذت: عدم وجوب المطالبة بها على المودَع، ويلزم من وجود القهر في أخذها، أو الإكراه: عدم ضمانها لصاحبها؛ لأن القهر والإكراه عذر يسقطان الضمان، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو وجب على المودَع المطالبة بها وضمانها لو سرقت الوديعة أو غُصبت: لأفضى إلى امتناع الناس عن أن يقبلوا الودائع عندهم؛ لأن الوديعة معرَّضة لذلك، وبهذا يتضرّر المجتمع الإسلامي، فدفعًا لذلك: شرع ما ذكر هنا، فإن قلت: يجب على المودَع أن يُطالب من غصبها في هذه الحالة، وإن صادرها السلطان، أو أخذها منه: لا يضمنها، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من الأمر بحفظ الوديعة: الأمر بالمطالبة بها إذا غُصبت؛ لأن المطالبة بها من حفظها قلتُ: لا يُسلَّم أن الأمر بحفظها يلزم منه المطالبة بها إذا غُصبت؛ لكون المطالبة بها تتضمن مشقّة تُنفِّر الناس من قبول ودائع الآخرين، وهذه مفسدة، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع المصلحة والتلازم الذي ذكرناهما" كما هو واضح.
هذه آخر مسائل باب "الوديعة" ويليه باب "إحياء الموات".
باب إحياء الموات
بفتح الميم والواو (وهي) مشتقة من الموت، وهو: عدم الحياة، واصطلاحًا (الأرض المنفكّة عن الاختصاصات، وملك معصوم) بخلاف الطرق، والأفنية، ومسيل المياه والمحتطبات، ونحوها، وما جرى عليه ملك معصوم بشراء أو عطية، أو غيرهما، فلا يُملك شيء من ذلك بالإحياء
(1)
(فمن أحياها) أي: الأرض الموات: (ملكها)؛ لحديث جابر يرفعه: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" رواه أحمد، والترمذي،
باب إحياء الموات
وفيه أربع وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: الإحياء لغة: جعل الشيء حيًا: ذا قوة حساسة أو نامية، والموات: لغة مشتقة من الموت، وهو: عدم الحياة، والموات: الأرض التي لم تعمر، ولم تكن حريمًا لشيء معمور، والمراد بـ "إحياء الموات" اصطلاحًا:"أن يقوم شخص باستصلاح أرض منفكَّة عن الاختصاصات، وعن ملك معصوم وذلك لزراعتها أو البناء عليها" فلفظ: "شخص" عام شامل للمكلف ولغيره - كما سيأتي بيانه - وعبارة: "المنفكة عن الاختصاصات" فيها بيان اشتراط: أن تكون تلك الأراض المراد استصلاحها وامتلاكها: لا تختص بشيء عام يخدم المسلمين كأن تكون طريقًا للمسلمين، أو فناء لهم يجتمعون فيها في وقت الصيف، أو الشتاء، أو موضعًا لمسيل الأمطار، أو موضعًا لأخذ حطبهم، أو حشيشهم، أو موضعًا لدفن موتاهم أو لصلاة عيدهم وجنائزهم، ومأخذ طينهم، فإن كانت الأرض تستخدم لذلك: فلا يجوز امتلاكها بالإحياء، وعبارة:"وعن ملك معصوم" فيه بيان اشتراط أن تكون تلك الأرض المراد استصلاحها وامتلاكها: لا يملكها معصوم من المسلمين أو الكفار بشراء، أو عطية، أو إرث، أو نحو ذلك أو كانت حريم لبئر وعين أحد، ولو كان ملكًا قديمًا: فلا يجوز امتلاكها بالإحياء.
وصحَّحه، وعن عائشة مثله، رواه مالك، وأبو داود، وقال ابن عبد البر: هو مسند صحيح متلقَّى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم (من مسلم وكافر) ذمي، مكلف وغيره؛ لعموم ما تقدَّم، لكن على الذمي خراج ما أحيا من موات عنوة (بإذن الإمام) في الإحياء (وعدمه)؛ لعموم الحديث، ولأنها عين، مباحة، فلا يفتقر ملكها إلى إذن (في دار الإسلام وغيرها) فجميع البلاد سواء في ذلك (والعنوة) كأرض الشام، ومصر والعراق (كغيرها) مما أسلم أهله عليه، أو صولحوا عليه
(2)
إلا ما أحياه
(2)
مسألة: يُباح إحياء الأرض الميتة التي لا مالك لها، ولا ينتفع بها عامة المسلمين، فيقوم الشقص بإحيائها بالسقي، أو الزرع أو الغرس، أو البناء، أو بالتحويط، وبذلك يملكها ملكًا حقيقيًا؛ سواء كان ذلك الشخص مسلمًا أو كافرًا ذميًا، وسواء كان مكلفًا أو لا، وسواء أذن الإمام أو نائبه، أو لا، وسواء كانت تلك الأرض في دار الإسلام، أو دار حرب، وسواء كانت قد فُتحت عنوة، أو صلحًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" وهذا عام؛ لأن "مَنْ" الشرطية من صيغ العموم، فيشمل المسلم والكافر الذمي، والمكلف وغيره ومن أذن له أو لا، وأطلقت الأرض فشملت الأرض المفتوحة عنوة، أو صلحًا، وشملت أرض الإسلام، وأرض الكفار، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن أخذ الحشيش والحطب لا يحتاج إلى إذن الحاكم أو نائبه، فكذلك إحياء الأرض وأخذها لا يحتاج إلى ذلك والجامع: أن كلًّا منها عين مباحة، والعين المباحة لا تفتقر ولا تحتاج إلى إذن أحد، فإن قلت: لِمَ شُرع إحياء الموات؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حثّ على إعمار بلاد المسلمين بالزراعة والغراس النافع للمسلمين، (فرع): إذا قام الذمي بإحياء أرض من أراضي المسلمين فيجب عليه إعطاء خراجها لإمام المسلمين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الأرض للمسلمين: أن لا تُقرُّ في يد غيرهم بدون خراج، مثلها مثل الأرض غير الموات.
مسلم من أرض كفار صولحوا على أنها لهم ولنا الخراج
(3)
(ويُملك بالإحياء ما قرب من عامر إن لم يتعلّق بمصلحته)؛ لعموم ما تقدم، وانتفاء المانع، فإن تعلّق بمصالحه كمقبرة، وملقى كناسة ونحوهما: لم يُملك
(4)
، وكذا: موات الحرم وعرفات لا يملك بالإحياء
(5)
، وإذا وقع في الطريق وقت الإحياء نزاع فلها سبعة أذرع، ولا تغيّر بعد
(3)
مسألة: لا يجوز لمسلم أن يحيي أرضًا من أراضي الكفار الذين صولحوا على أن تلك الأراضي لهم، ويُسلِّموا لنا الخراج؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك الصلح واقع في بلادهم، والموات واقع فيها أيضًا فيلزم: عدم جواز التعرّض لشيء منها؛ لأن فيه خرقًا لعقد الصلح، وهذا لا يحسن من المسلمين.
(4)
مسألة: يجوز أن يُملك بالإحياء كل ما قرب من عامر أو قرب من مملوك بشرط: أن لا يتعلَّق به مصلحة العامر والمملوك، فإن تعلَّق به مصلحته، كمدفن موتي القرية وموضع قماماتها، وفنائها، ومرعى ماشيتها، وموضع احتطابها، وطرقها، ومسيل مائها، وحريم النهر، والبئر، والعين، وملقى آلات الشخص أمام بيته: فإن هذا لا يُملك بالإحياء، ويُرجع في معرفة القرب والبعد إلى العرف والعادة عند أهل كل قرية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" وهذا عام؛ لأن "مَنْ" الشرطية من صيغ العموم، فيشمل ما قرب من العامر والمملوك وما بعد، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث أقطع صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث العقيق وهو من عمارة المدينة، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما يجوز إحياء البعيد عن العامر والمملوك، فكذلك يجوز إحياء القريب منه والجامع: عدم المانع في كل، الرابعة: المصلحة: حيث إن إحياء ما تعلَّقت به مصلحة العامر والمملوك يُفسد ذلك العامر والمملوك على أهله الذي هم أحق بالمراعاة؛ لكونهم أسبق، لذلك اشتُرط ذلك الشرط؛ لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
(5)
مسألة: لا يملك بالإحياء الأراضي التي هي حول الحرم المكّي، وأراضي أداء المناسك كعرفات ومنى، ومزدلفة، والطرق الواسعة المودِّية إليها؛ للمصلحة: حيث =
وضعها
(6)
، ولا يُملك معدن ظاهر كملح، وكحل وجص بإحياء، وليس للإمام إقطاعه
(7)
، وما نضب عنه الماء من الجزائر لم يُحيى بالبناء؛ لأنه يردُّ الماء إلى الجانب
= إن ذلك فيه تضييق في أداء الناس لمناسكهم في الحج والعمرة، والناس فيه سواء، فدفعًا لمفسدة هذا التضييق: شرع ذلك؛ لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
(6)
مسألة: إذا أراد شخص إحياء أرض موات، ووقع نزاع في سعة الطريق منها وقت الإحياء: فإنه يوضع سبعة أذرع بذراع يد الرجل المتوسط، ولا تُغير الطرق بعد وضعها أول مرة ولو زادت على سبعة إلّا عند حاجة المسلمين لذلك، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع" وهو نص في المسألة، الثانية: المصلحة: حيث إن الطرق لمصلحة المسلمين العامة، فلا يجوز لواحد منهم أو لطائفة تغيير الطرق لمصلحتها الخاصة؛ لأن ذلك فيه مفسدة، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، أما إذا احتاج عامة المسلمين تغيير طريق من الطرق فلهم ذلك إذا اقتضت الضرورة، والضرورة والحاجة يقدرها أصحاب العقول المتوسطة من العلماء، ولا يعتمد في ذلك على المتشددين المغالين، ولا على المتساهلين.
(7)
مسألة: كل شيء ينتفع به عامة المسلمين أو أكثرهم وهي المعدن إذا كان ظاهرًا قبل الإحياء مثل: الأرض التي فيها الملح، أو الكبريت، أو القار، أو النفط، أو الكحل، أو الذهب، أو الفضة، أو الحديد، أو الرصاص، أو فيها مقاطع جص أو طين، ونحو ذلك: فإن ذلك لا يُملك بالإحياء، ولا يحق للإمام أو نائبه أن يقطعها لأحد، بل تبقى ينتفع بها سائر المسلمين؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الطرق التي يمشي عليها المسلمون، ومشاريع المياه لا تملك بالإحياء، لا يجوز للإمام إقطاعها لأحد فكذلك المعادن الظاهرة، والجامع: أن كلًّا منهما يتعلَّق به مصالح المسلمين العامة، الثانية: المصلحة: حيث إن هذه الأشياء لو ملكها =
الآخر فيضرُّ بأهله، وينتفع به بنحو زرع
(8)
، (ومن أحاط مواتًا): بأن أدار حوله حائطًا منيعًا بما جرت العادة به: فقد أحياه، سواء أرادها للبناء أو غيره؛ لقوله عليه السلام:"من أحاط حائطًا على أرض: فهي له" رواه أحمد وأبو داود عن جابر
(9)
= أحد بالإحياء والإقطاع: للحق عامة المسلمين ضرر وضيق؛ لأن هذا الشخص الذي ملكها بالإحياء، أو الذي أقطع سيمنع الناس من الانتفاع منها، وإن أخذ العوض عنه: فإنه سيغليه عليهم وهذا فيه مفاسد لا تُعدُّ ولا تحصى. (فرع): المعادن إذا كانت باطنة فحفرها إنسان، وأظهرها: فإنه لا يملكها بالإحياء، ولا يحق للإمام إقطاعها لأحد؛ قياسًا على الطرق ومشاريع المياه، والجامع: أن كلًّا منها يتعلَّق به مصالح المسلمين العامة.
(8)
مسألة إذا نضب الماء وامتنع عن بعض جزيرة، أو غار ماء عن ساحل من سواحل بحر، أو نهر: فلا يحيى بالبناء عليه بيوتًا، بل ينتفع بالأرض التي انحسر الماء عنها بزرعها أو غرسها ونحو ذلك؛ للمصلحة: حيث إن الماء لو عاد مرة أخرى فإنه سيرده البناء، ثم سيرجع إلى الجهة الأخرى فيُضر بأهلها، فدفعًا لذلك: شرع عدم البناء عليه.
(9)
مسألة: إذا قام شخص بتحويط أرض موات إحياءً لها: بأن يُدير حولها حائطًا منيعًا بما جرت عادة الناس به: فإنه يملكها بالإحياء: سواء أرادها للبناء، أو للزرع، أو حظيرة للغنم، أو الحطب أو للخشب أو نحو ذلك من الانتفاعات؛ للسنة القولية حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من أحاط حائطًا على أرض فهي له" وهو نص في المسألة؛ لأن اللام في قوله: "له" للتمليك، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على المسلمين. (فرع): صفة الإحياء بالبناء: أن يكون الإحياء بشيء يمنع الدخول فيه على حسب العادة والعرف، ويختلف ذلك باختلاف البلدان وأعرافهم وعاداتهم، فبعضهم لا يتم الإحياء إلّا بالبناء بحجر، وبعضهم بالطين وبعضهم بالخشب، أو القصب، وإن بناه بشيء أعلى وأقوى =
(أو حفر بئرًا فوصل إلى الماء): فقد أحياه (أو أجراه) أي: الماء (إليه) أي: إلى الموات (من عين ونحوها، أو حبسه) أي: الماء (عنه) أي: عن الموات إذا كان لا يزرع معه؛ (ليزرع: فقد أحياه)؛ لأن نفع الأرض بذلك أكثر من الحائط، ولا إحياء بحرث وزرع
(10)
(ويملك) المحيي (حريم البئر العادية) بتشديد الياء، أي: القديمة،
= مما جرت به عادتهم فهو أولى؛ للتلازم والمصلحة؛ حيث إن كل شيء ورد الشرع به وأطلقه: يلزم منه الرجوع إلى أعراف الناس وعادتهم، كما شرع القبض، والحرز، وقليل الدم الناقض للوضوء وكثيره، وقليل الحركة في الصلاة وكثيرها، ونحوها، ولم يبين مقدار ذلك كله، فرجع فيه إلى عرف متوسطي العقلاء من الناس، ولا يؤخذ رأي المتشددين، ولا المتساهلين في ذلك، وهذا من تيسير الإسلام وسعته المقصودة؛ لطفًا بالمسلمين ومراعاة لظروفهم وأحوالهم.
(10)
مسألة: إذا حفر شخص بئرًا فوصل إلى الماء، فإنه يكون قد أحياها، وكذلك إذا أجرى الماء من بئره أو نهر إلى أرض موات فقد أحياها، أو كان يزرعها، ثم امتنع: فإنها تبقى على ملكيته بالإحياء، وكذلك: إذا عمد إلى أرض غير صالحة: فقام فأصلحها، وقطع أشجارها، وأبعد حجارتها، ونقَّاها، وحرثها للزرع على ما جرى العرف فيه: فقد أحياها، ومن أحيا أرضًا بأي طريق فقد ملكها بذلك؛ للمصلحة: حيث إن الماء يحصل به الإحياء؛ لأنه بذلك يمكن الانتفاع بالأرض أكثر مما لو حوطها فقط، فإن قلتَ: لا إحياء بمجرَّد حرث أرض أو زرعها فقط، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك مما يتكرر كلما أراد الانتفاع بها، وهذا يلزم منه عدم اعتباره بالإحياء؛ لاحتمال عدم دوامه قلتُ: هذا لا يُسلَّم؛ بل إن حرثها وسقيها وزرعها إحياء لها، وهو أنفع من تحويطها فقط، فإذا كان مجرد تحويطها يُعتبر إحياء لها: فإن حرثها وسقيها وزرعها يُعتبر إحياء لها من باب أولى؛ لكون ذلك أنفع، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع المصلحة" كما هو واضح.
منسوبة إلى عاد، ولم يرد عادًا بعينها (خمسين ذراعًا من كل جانب) إذا كانت انطمَّت، وذهب ماؤها، فجدَّد حفرها، وعمارتها، أو انقطع ماؤها فاستخرجه (وحريم البدية) المحدثة (نصفها) أي: خمسة وعشرون ذراعًا؛ لما روى أبو عبيد في الأموال عن سعيد بن المسيب قال: "السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعًا، والبدي خمسة وعشرون ذراعًا" وروى الخلال والدارقطني نحوه مرفوعًا، وحريم شجرة: قدر مدِّ أغصانها، وحريم دار من موات حولها: مطرح تراب، وكناسة، وثلج، وماء ميزاب
(11)
، ولا
(11)
مسألة مقدار ما يملكه المحيي لأرض موات وهو المسمَّى بـ "الحريم" هو كما يلي:
أولًا: إن كانت له بئر قديمة أو كان قد ورثها، فانطمَّت، وتساوت مع سطح الأرض، أو ذهب ماؤها، ثم قام بحفرها وأعادها، وجدَّد عمارتها، أو استخرج ماءها: فإن مقدار ما يملكه هو: خمسون ذراعًا بذراع الرجل المتوسط من كل جهة من جهات البئر الأربع، ثانيًا: إن حفر بئرًا ابتداء، وأحدثها للتمليك، أو لأجل سقي الماشية في أرض موات: فإن مقدار ما يملكه هو: خمسة وعشرون ذراعًا من كل جهة من جهات البئر الأربع، ثالثًا: إن حفر بئرًا للزرع، وأحدثها للتمليك: فمقدار ما يملكه هو: ثلاثمائة ذراع من كل جهة من جهات البئر الأربع، رابعًا: إن غرس شجرة أو نخلة في أرض موات: فمقدار ما يملكه هو: مدُّ أغصانها وجريدها، خامسًا: إن بنى دارًا في أرض موات ليست محفوفة بأملاك آخرين فمقدار ما يملكه هو: مطرح و موضع تراب يحتاجه وموضع قمامة وكناسة أمام تلك دار، ثلج، ومصب ميزاب، وممر إلى بابها، فيحرم على غيره التصرُّف بمثل تلك المقادير؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما قال سعيد بن المسيب: "السنة في حريم البئر البدي خمسة وعشرون ذراعًا من نواصيها كلها، وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها، وحريم البئر العادي خمسون ذراعًا من نواحيها كلها" وهو حديث مرسل - كما جاء في التلخيص (3/ 72 - والحديث المرسل هذا حجّة عندنا؛ لأنه توفر فيه شروط حجيته - وهو:=
حريم لدار محفوفة بملك، ويتصرَّف كل منهم بحسب العادة
(12)
، ومن تحجَّر مواتًا:
= كونه من رواية سعيد بن المسيب -، ثانيهما: أنه اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حريم نخلة: "فأمر بجريدة من جرائدها فذرعت، فكانت سبعة أذرع، أو خمسة، فقضى بذلك" والشجرة كالنخلة؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: المصلحة؛ حيث إن صاحب بئر الزرع والغرس يحتاج إلى ما حول ذلك البئر موقفًا لإبله، وغنمه، ودواب سحب الماء، وموضعًا للأحواض التي يجمع فيها الماء لسقي زرعه، ولسقي ماشيته ونحو ذلك، فيحتاج إلى الأذرع الثلاثمائة، أو الخمسين، وما قرب منها لأجل ذلك، وكذلك صاحب الشجرة والنخلة يحتاج إلى مدِّ أغصانها ليتمكّن من تلقيحها، والاستفادة من ظلها، وصاحب الدار يحتاج إلى المرافق التي تجعله يسكن براحة كممر دخوله، ومصب ميزابه، وموضع قمامته ونحو ذلك، ولأجل ذلك شرع ذلك، وهذا مقصد من المقاصد الشرعية، فائدة: المراد بالبئر العادي: القديمة التي أعيدت، وليست منسوبة إلى عاد كما زعم الكثيرون، منهم ابن حجر في التلخيص (3/ 71) - ولو عبَّر المصنف هنا بقوله:"حريم البئر المعادة" لكان أولى، فائدة أخرى: الحريم هو المكان الذي يحرم انتهاكه، لذلك المرأة تسمَّى "حرمة" - كما جاء في المصباح (1/ 132) -.
(12)
مسألة: إذا بنى شخص دارًا محاطة بدور أخرى: فلا حريم له، أي: لا يملك أكثر من مساحة داره؛ وهو وكل واحد من أصحاب الدور والأملاك المحيطة به يتصرَّف في داره المملوكة له والطريق الذي أمامها على حسب العادة والعرف في ذلك، فإن تعدَّى واحد من المتجاورين: فإن الحاكم يمنعه؛ للمصلحة: حيث إن الحريم ومقدار ما يملكه يُعتبر من المرافق التي يُنتفع بها، ولا يحقُّ له أن ينتفع بأملاك غيره بدون إذنه؛ لما فيه من الضرر على ذلك الغير، فدفعًا لذلك: شرع هذا الحكم من باب: "دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح".
بأن أدار حوله أحجارًا ونحوها: لم يملكه وهو أحق به، ووارثه من بعده، وليس له بيعه
(13)
(وللإمام إقطاع موات لمن يُحييه)؛ لأنه عليه السلام أقطع بلال بن الحارث العقيق
(13)
مسألة: إذا أحاط زيد أرض موات بحجارة، أو بأكوام من التراب، أو بجدار صغير، أو بشوك، بخندق: فإنه لا يملك تلك الأرض بذلك الفعل، ولكنه يكون أحقّ بها من غيره، وإذا مات زيد: فإن وارثه أحق بها بالانتفاع فقط، ولا يجوز لزيد ولا لوارثه بيعها، ويجوز التنازل عنها بعوض، وإن طالت مدَّة إحاطته بذلك - بنحو ثلاث سنين -: فللإمام الحق بأن يُخيّر زيدًا بين أمرين: إما أن يحييها ببناء وسكن بذلك البناء، أو بحفر بئر، أو أن يتركها لغيره يقوم بإحيائها؛ لقواعد الأولى: السنة القولية، وهي من وجهين: أولهما قوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به"، فيكون زيد أحق بالانتفاع بذلك، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك حقًّا أو مالًا فهو لورثته" وحق الانتفاع بتلك الأرض المحاطة كان للمورِّث، فانتقل إلى وارثه، الثانية: التلازم؛ حيث إن لملك يكون بالإحياء الشرعي، فيلزم من عدم وجود الإحياء الشرعي في التحويط بالحجارة وما ذكرها معها: عدم حصول التمليك، ويلزم من عدم الملك: عدم جواز بيعه؛ لأن من شروط البيع: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، ويلزم من كون حق الانتفاع له: جواز التنازل عن هذا الانتفاع بعوض؛ لأنه من حقه؛ لسبقه إليه، الثالثة: القياس، بيانه: كما أن زيدًا لو وقف في طريق ضيق، أو مجمع ماء يسقي منه الناس، لا هو انتفع ولا جعل الناس ينتفعون فإن السلطان والإمام يجبره بأن ينتفع، أو يتنحَّى ويجعل الآخرين ينتفعون فكذلك الحال هنا يجبره الإمام بأن يحيي تلك الأرض إحياء شرعيًا، أو يتركها لغيره يحييها والجامع: أن كلًّا منهما ضيَّق على الناس في حق مشترك بينهم، وهذا كله من أجل نفع الناس، ودفع المفاسد عنهم، وهو المقصد منه.
(ولا يملكه) بالإقطاع، بل هو أحق من غيره، فإذا أحياه: ملكه
(14)
، وللإمام أيضًا إقطاع غير موات؛ تمليكًا وانتفاعًا؛ للمصلحة
(15)
(و) له (إقطاع الجلوس) للبيع
(14)
مسألة: يجوز للإمام: أن يقطع ويُعطي أرض موات لكل شخصٍ قادرٍ على إحيائها بالزرع، أو البناء الشرعي، فإذا قام هذا المعطى بإحياء تلك الأرض: فإنه يملكها شرعًا، له حق بيعها، فيكون مالكًا لها بالإحياء، لا بالإقطاع، أما إذا لم يقم بإحيائها: فلا يملكها، ولكنه يكون أحق بها من غيره، ويأخذ الإمام ما لم يقدر على إحيائه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم: "قد اقطع بلال بن الحارث العقيق" و "أقطع وائل بن حجر أرضًا في حضرموت"، الثانية: قول وفعل الصحابي: حيث "إن عمر وعثمان قد أقطعا بعض الصحابة"، وقال عمر لبلال بن الحارث - الذي أقطعه الرسول صلى الله عليه وسلم "لم يقطعك لتحجبه عن الناس، إنما أقطعك لتعمر، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي" وهذا يلزم منه: أن الشخص المقطع أحق من غيره بتلك الأرض المقطعة له، وأولى بإحيائها، ويلزم أيضًا: أنه لا يملكه بالإقطاع؛ لأنه لو ملكه به: لما جاز استرجاعه منه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع من أخذ الناس للمساحات الكبيرة من الأراضي إلا إذا قدروا على إحيائها بزرع أو بناء شرعي، ومنع للحكّام أن يعطوا الآخرين تلك المساحات، بل يُعطى كل شخص ما يقدر على إحيائه.
(15)
مسألة إذا رأى الإمام أن المصلحة تقتضي إقطاع أرض غير موات لشخص من الناس: بأن كانت لشخص فعجز عن إحيائها وأخذها الإمام وكانت ملكًا لبيت المال، فيعطيها الإمام ذلك الشخص: فإنه يجوز له ذلك، ويكون المقطع مالكًا بشرط: أن يكون ذلك الشخص المعطى ممن يخدمون الإسلام والمسلمين بغير رزق، أو رزقه قليل كالعلماء الذين ينشرون العلم بتعليمه، وبالتأليف فيه، والجند الذين ينشغلون بنشر الأمن في البلاد، ويُدافعون عنها إن لزم الأمر؛=
والشراء (في الطرق الواسعة) ورحبة مسجد غير محوطة (ما لم يضر بالناس)؛ لأنه ليس للإمام أن يأذن فيما لا مصلحة فيه فضلًا عمّا فيه مضرّة (ويكون) المقطع (أحقّ بجلوسها)، ولا يزول حقه بنقل متاعه منها؛ لأنه قد استحق بإقطاع الإمام، وله التظليل على نفسه بما ليس ببناء بلا ضرر، ويُسمَّى هذا: إقطاع إرفاق
(16)
(ومن غير إقطاع) للطرق الواسعة والرحبة غير المحوطة الحق (لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال) جزم به في "الوجيز"؛ لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فلم يمنع، فإذا نقل متاعه: كان لغيره، الجلوس، وفي "المنتهى" وغيره: فإن أطاله: أزيل؛ لأنه يصير كالمالك
(17)
(وإن سبق اثنان) فأكثر إليها، وضاقت:(اقترعا)؛ لأنهما استويا
= للمصلحة: حيث إن ذلك فيه إعانة للمعطى والمقطع على عملهم في نشر الإسلام والمسلمين، ولئلا يُذلهم أحد بسبب حاجتهم إليه. وفيه الحث على طلب العلم وتعليمه، والدفاع عن الإسلام بالقلم والسلاح.
(16)
مسألة: يجوز للإمام أن يُقطع ويُعطي مواضع يجلس فيها البائعون، ويضعون فيها بضائعهم، وذلك في الطرق الواسعة، وجوانب المساجد وساحاته غير الداخلة فيه، وهذا المقطع أو المعطى أحق بذلك، ولو ذهب شخص عن الموضع الذي أُقطع إياه فترة ثم عاد: فهو أحق به، وله أن يضع على هذا الموضع الذي أُقطع إياه ما يُضلِّله به من حر الشمس من كساء ونحوه، ولا يبني عليه وهو المسمَّى بـ "إقطاع إرفاق" إقطاع نفع، ولكن هذا يكون بشرط وهو: أن لا يلحق عامة الناس ضرر في هذا الإقطاع، فإن لحق بهم ذلك: فلا يجوز للإمام أن يفعل ذلك، وما فُعل وضرَّبهم: فإنه يزال؛ للمصلحة: حيث إن هذا الإقطاع فيه جلب مصلحة للبائعين، وللمشترين؛ حيث إنه يكون قريبًا منهم والمقطع أحق به؛ لكون الإمام هو الذي أقطعه، واشتُرط عدم الضرر على عامة الناس؛ لأنه "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" كما قال صلى الله عليه وسلم، والضرر يُزال.
(17)
مسألة: إذا سبق شخص إلى موضع في الطرق الواسعة، والرحبة، والساحات=
في السبق، والقرعة مميزة
(18)
، ومن سبق إلى مباح: من صيد، أو حطب، أو معدن ونحوه: فهو أحق به، وإن سبق إليه اثنان: قُسِّم بينهما
(19)
(ولمن في أعلى الماء المباح)
= غير المملوكة، فجلس فيه للبيع من غير إقطاع فهو أحق به، وإن طال جلوسه فيه، فإن نقل متاعه وبضاعته وأخلى الموضع: فإن لغيره الجلوس فيه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" وهذا عام؛ لأن "من" الشرطية من صيغ العموم، فيشمل كل شخص ولو لم يقطعه الإمام، وهذا سابق إلى ذلك المجلس فيكون أحق به من غيره، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تركه للموضع، والمكان، وعدم إقطاع الإمام له: أن غيره له حق في الموضع والمكان إذا تركه الأول، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على المسلمين، فإن قلت: إن هذا الجالس إذا أطال الجلوس فإنه يُزال، ويُمنع ويُقام، وهو ما ذكره بعض الحنابلة؛ للتلازم؛ حيث إن إطالته تلك تجعله كالمتملك لذلك، ويختص بنفع يساويه فيه غيره في استحقاقه قلت: هذا غير مسلَّم؛ لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم كالسابق في الجلوس في المسجد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع السنة القولية" كما هو واضح هنا.
(18)
مسألة: إذا وصل شخصان - فأكثر - إلى موضع ومكان في وقت واحد، ولم يتمكّنا من الجلوس فيه معًا؛ نظرًا لضيقه: فإنهما يقترعان، فمن خرجت له القرعة: يكون أحق به؛ للسنة الفعلية؛ حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرع بين نسائه للخروج معه في غزواته؛ فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن القرعة هي الحكم إذا تساوت الحقوق وازدحمت؛ لأنه ليس أحدهما بأولى في المكان من الآخر.
(19)
مسألة: إذا وصل شخص - قبل الآخرين - إلى شيء مباح كصيد، أو حطب، أو معدن كملح قليل، أو ثمر مباح، أو لقاط نخل، أو حب زرع مرغوب عنه: فإن=
كماء مطر (السقي، وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه) فيفعل كذلك، وهلمَّ جرَّا، فإن لم يفضل عن الأول، أو من بعده شيء: فلا شيء للآخر؛ لقوله عليه السلام: "اسق يا، زبير، ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر" متفق عليه، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم احبس الماء حتّى يصل إلى الجدر" فكان ذلك إلى الكعبين، فإن كان الماء مملوكًا: قسَّم بين الملاك بقدر النفقة والعمل، وتصرَّف كل واحد في حصته بما شاء
(20)
(وللإمام دون
= هذا الشخص هو الأحق به، وإن وصل إليه اثنان - فأكثر - في وقت واحد: فإنه يُقسِّم بينهما بالتساوي ولا تستعمل القرعة هنا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهو الحديث السابق في مسألة، (17)، الثانية: التلازم؛ حيث إنهما قد اشتركا في السبب وهو تساويهما في الوصول، فيلزم اشتراكهما في الفائدة والمحصَّل.
(20)
مسألة: إذا وُجد أشخاص ساقيتهم التي تجلب لهم الماء واحدة وتشاحوا: ففي ذلك تفصيل هو كما يلي: أولًا: إن كان الماء مباح للجميع غير مملوك لأحد كماء المطر، أو النهر الصغير: فإن الشخص الذي في المكان الأعلى يسقي إلى أن يبلغ الماء إلى حدِّ كعب قدمه - وهو العظم البارز في أسفل الساق -، ثم يترك الماء إلى من بعده، فإذا بلغ الماء إلى حد كعب قدم الثاني: فإنه يرسله إلى من بعده وهكذا، فإن لم يفضل عن الأول شيء فلا شيء لمن بعده، وإن لم يفضل عن الثاني شيء: فلا شيء لمن بعده وهكذا؛ للسنة القولية حيث قال صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر" والجدر يختلف بالطول والقصر لذلك قاس السلف - كالزهري وغيره - ما وقعت فيه القصة فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارًا ومقاسًا لاستحقاق الأعلى والأول من الماء، ثانيًا: إن كان الماء غير مباح للجميع، بل هو مملوك: فإنه يُقسَّم بين مالكيه بقدر النفقة والعمل، وإن حصل تشاح بينهم: فإن الحاكم يقسِّمه بينهم على قدر أملاكهم، ومن ثم يتصرَّف كل واحد في حصته بما شاء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون كل=
غيره حمى مرعى" أي: أن يمنع الناس من مرعى (لدواب المسلمين) التي يقوم بحفظها كخيل الجهاد والصدقة (ما لم يضرهم) بالتضييق عليهم؛ لما روى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "حَمى النقيع لخيل المسلمين" رواه أبو عبيد
(21)
، وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم ليس لأحد نقضه، وما حماه غيره من الأئمة يجوز نقضه
(22)
، ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أرباب الدواب عوضًا عن مرعى موات أو حمى؛ لأنه عليه السلام:"شرك الناس فيه"
(23)
، ومن
= واحد قد ملك بالعمارة والنفقة: أن يُقسَّم على قدر تلك النفقة، ويلزم من كون الحاكم مسؤول عن الجميع: أن يقسمه بينهم على قدر أملاكهم، ويلزم من انفراد كل واحد بملكه: أن يسقي بحصته من الماء ما شاء من الأرض، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه العدالة في تقسيم الحقوق.
(21)
مسألة: يباح للإمام فقط: أن يحمي مرعى لدواب المسلمين التي يقوم بحفظها كخيل الجهاد والصدقة ونعم الجزية، والبهائم الضالة عن أصحابها، ويمنع الناس من أن يرعوا ماشيتهم فيما حماه بشرط عدم الإضرار بالمسلمين؛ للسنة الفعلية: حيث إنه صلى الله عليه وسلم: "حمى النقيع لخيل المسلمين" والدواب غير الخيل مثلها، والنقيع هو: ما يستنقع فيه الماء، وموضع النقيع الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم على عشرين فرسخًا من المدينة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مصلحة عامة لجميع المسلمين، واشترط عدم الإضرار بعامة المسلمين؛ دفعًا للضرر عنهم، ودفع المفاسد يقدم على جلب المصالح.
(22)
مسألة: إذا حمى النبي صلى الله عليه وسلم كأرض النقيع كما سبق في مسألة (21) - لا يجوز لأحد أن ينقضه ولا تغييره إلّا إذا انعدمت الحاجة إليه أما ما حماه من بعده من الخلفاء: فإنه يجوز نقضه وتغييره؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كون حمى النبي صلى الله عليه وسلم نصًا: عدم جواز نقضه وتغييره، ويلزم من كونه حمى غيره صدر عن اجتهاد: جواز تغييره ونقضه؛ الجواز نقض الاجتهاد.
(23)
مسألة: لا يجوز أن يأخذ أحد عوضًا من أصحاب الدواب التي ترعى العشب=
جلس في نحو جامع لفتوى، أو إقراء: فهو أحق بمكانه ما دام فيه، أو غاب لعذر وعاد قريبًا، ومن سبق إلى رباط، أو نزل فقيه بمدرسة، أو صوفي بخانقاه: لم يبطل حقه بخروجه منه لحاجة
(24)
.
= من أراض موات أو يأخذه ممن حمى أرضًا مواتًا، ومن أخذ منهم: فإنه يُعزَّر؛ لقاعدتين: الأولى السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والنار، والكلأ" فيلزم من كونهم شركاء في العشب: عدم جواز أخذ أحد ممن رعى بهائمه فيه، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تساوي الناس في العشب، والحمى: عقاب من أخذ شيئًا عوضًا عن ذلك؛ لأنه أخذ مالهم بغير حق، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية الناس من أكل أموالهم بغير حق.
(24)
مسألة: إذا جلس فقيه أو عالم لفتوى أو إقراء، أو تعليم: فإنه يكون أحق بمكانه ما دام فيه، أو ذهب عنه قليلًا ثم عاد؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به" وهذا عام لهذا ولغيره كما سبق بيانه، وغيابه عنه قليلًا لا يؤثِّر، وهذا داخل فيما سبق، ولا أدري لماذا كرَّره.
هذه آخر مسائل باب "إحياء الموات" ويليه باب "الجعالة أو الوعد بالجائزة".
باب الجعالة
بتثليث الجيم، قاله ابن مالك، قال ابن فارس: الجعل، والجعالة، والجعيلة: ما يُعطاه الإنسان على أمر يفعله (وهى) اصطلاحًا: (أن يجعل) جائز التصرف (شيئًا) متمولًا (معلومًا لمن يعمل له عملًا معلومًا) كرد عبد من محل كذا، أو بناء حائط كذا (أو) عملًا (مجهولًا مدَّة معلومة) كشهر كذا (أو) مدَّة (مجهولة) فلا يُشترط العلم بالعمل ولا المدة، ويجوز الجمع بينهما هنا، بخلاف الإجارة، ولا تعيين العامل للحاجة
(1)
،
باب الجعالة، أو الوعد بالجائزة
وفيه عشرون مسألة:
(1)
مسألة: الجعالة لغة: تسمية مال يُعطى إياه بسبب عمل يعمله، وشارطه عليه، واصطلاحًا:"أن يجعل شخص جائز التصرُّف مالًا معلوم المقدار لمن يعمل له عملًا معلومًا، أو عملًا مجهولًا في مدَّة معلومة أو مجهولة" وأتي بعبارة: "جائز التصرف" لإخراج جعل غير المكلف، فهذا لا يُعتبر، وأتي بعبارة:"مالًا معلوم المقدار" لبيان اشتراط: كون الجُعْل معلوم المقدار لمن سيُعطى إياه كألف ونحوه، بالوصف أو بالرؤية، وأتي بعبارة "لمن يعمل له عملًا معلومًا أو عملًا مجهولًا" لبيان أنه لا يُشترط في العمل الذي سيعمله المجعول له: أن يكون معلومًا، بل يجوز في المعلوم والمجهول فيجوز أن يقول:"إن رددت عبدي فلانًا فلك كذا" ويجوز أن يقول: "إن خطت ثوبًا فلك كذا"، ولبيان أنه لا يُشترط تعيين المجعول له؛ فيجوز أن يقول:"إن بنيت حائطًا في هذا المكان فلك كذا"، ويجوز أن يقول:"من بنى لي حائطًا في هذا المكان فله كذا"، وأتي بعبارة:"في مدَّة معلومة أو مجهولة" لبيان أنه لا يُشترط في مدَّة العمل: أن تكون معلومة البداية والنهاية: فيجوز أن يقول: "إن رددت عبدي في شهر كذا فلك كذا" ويجوز أن يقول: "من=
ويقوم العمل مقام القبول؛ لأنه يدلّ عليه كالوكالة
(2)
، ودليلها: قوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير) وحديث اللَّديغ
(3)
، والعمل الذي يؤخذ الجعل عليه (كرد عبد
= بني لي حائطًا فله كذا"، وبهذا يُعلم الفرق بين الجعالة والإجارة؛ حيث إن الجعالة لا يُشترط فيها العلم بالعمل، ولا بالمدة، بخلاف الإجارة كما سبق بيانه فيُشترط ذلك، وكذا: عقد الجعالة يجوز ولو لم يعلم العاقد والعامل، بخلاف الإجارة، ومنها: أن الجعالة عقد جائز، والإجارة لازم.
(2)
مسألة: إذا بدأ شخص بالعمل بما طُلِب في الجعالة: فهذا يدل على قبوله لهذا العمل، فمثلًا: إذا قال زيد: "من بنى جدارًا لي فله ألف" ثم بدأ عمرو بالبناء: فإنه يكون قابلًا لذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو قال لعمرو: "قد وكَّلتك في كذا" فبدأ عمرو بالعمل بذلك: فإن هذا يدل على قبوله لتلك الوكالة، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن العمل فيما طُلب يدلّ على قبوله، وهذا من باب التيسير على الأمة، وهو المقصد منه.
(3)
مسألة: الجعالة جائزة عند الجمهور؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {قالوا نفقد صواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم} - وذلك في قصة يوسف وإخوته - فهنا جعل لمن جاء بالمكيال حمل بعير يأخذه مجانًا، فدلَّ على جواز ذلك؛ لأن شرع مَنْ قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا نسخه، وهنا لم يرد شيء ينسخه فلزم جوازه، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث إن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حيًا من أحيا العرب، فلم يقروهم - أي: يضيفوهم - فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم راق؟ فقالوا: لم تقرونا، فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلًا، فجعلوا لهم قطيع شياه، فجعل رجل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه، ويتفل، فبرأ الرجل - وهو سيدهم - فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فضحك، وقال:"وما أدراك أنها رقية؟ خذوها، واضربوا لي فيها بسهم"، فإن=
ولقطة) فإن كانت في يده فجعل مالكها جعلًا؛ ليردَّها: لم يُبح له أخذه
(4)
(و) كـ
= قلت: لِمَ حازت؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحاجة تدعو إلى الجعالة؛ حيث إن بعض الناس يُخرج بعض الجوائز والمكافآت التي يقدر عليها لأجل أن يقوم أيُّ شخص لعمل شيء له من رد عبد هارب، أو بناء جدار، أو نحو ذلك كشركة المضاربة، والإجارة: إلا أنها أوسع منهما من حيث عدم تقدير مدَّة، وعدم لزومها وعدم تعيين العامل ونحو ذلك؛ تيسيرًا على الناس، فإن قلت: لا تجوز الجعالة إلّا في ردِّ عبد هارب فقط، وهو قول الحنفية؛ للمصلحة حيث إن الجعالة - كما سبق بيانها - فيها غرر وجهالة؛ حيث إنه يُجهل العمل، والمدة، فقد يكون العمل شاقًا، والأجرة قليلة وقد يكون العكس، وفي ذلك غرر وضرر على العاقدين، فدفعًا لذلك لا تجوز، وإنما صحَّت الجعالة على رد عبد هارب؛ للاستحسان؛ حيث إنه يُستحسن دفع جعل أو جائزة لمن يرد العبد الهارب من سيده. قلتُ: إنه إذا جازت الجعالة في رد العبد فإنها تجوز في غير ذلك من الأعمال بجامع: أن كلًّا منها فيه مصلحة، وما هربتم منه من عدم العلم بالعمل، أو المدَّة فقد وقعتم فيه في الجعالة على ردِّ العبد الهارب؛ إذ يوجد في رد العبد جهالة وغرر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع الكتاب، والسنة التقريرية" فيقدمان عندنا عليها، وأيضًا:"تعارض مع المصلحتين" فعندنا: تقدم المصلحة العامة؛ وهي قضاء قضاء حاجات المسلمين في جواز الجعالة، وهي أعظم منفعة مما قالوا من المصالح.
(4)
مسألة: الجعالة مشروعة في شيء لم يكن في يد العامل - أو المعطى للجعل - فمثلًا: لو قال زيد - وهو المالك للعبد - لعمرو - وهو القابض لذلك العبد -: "من ردَّ عبدي فله جُعلا وجائزة": فردَّه عمرو إلى زيد: لم يجز لعمرو أن يأخذ الجعل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حصول العبد تحت يده بدون جهد أو عقد: عدم جواز أخذه للجعل؛ لكونه أخذه بدون جهد ولانه حاصل قبل العقد، وهو المقصد منه.
(خياطة وبناء حائط) وسائر ما يستأجر عليه من الأعمال (فمن فعله بعد علمه بقوله) أي: بقول صاحب العمل: "من فعل كذا فله كذا": (استحقه)؛ لأن العقد استقرّ بتمام العمل
(5)
(والجماعة) إذا عملوه (يقتسمونه) بالسوية؛ لأنهم اشتركوا في العمل الذي يستحق به العِوَض فاشتركوا فيه
(6)
(و) إن بلغه الجعل (في أثنائه) أي: أثناء العمل (يأخذ قسط تمامه)؛ لأن ما فعله قبل بلوغ الخبر غير مأذون له فيه، فلم يستحق به عوضًا، وإن لم يبلغه إلّا بعد العمل: لم يستحق شيئًا لذلك
(7)
(و) الجعالة
(5)
مسألة: الجعالة مشروعة في شيء وعمل لم يقع قبل علمه بقول صاحب العمل، فمثلًا: لو قال: "من بنى حائطًا فله ألف" فبناه زيد فإنه يستحق الألف، أما لو بني زيد هذا الحائط قبل علمه بالجعل: فلا يستحق ذلك الجعل - وهو الألف -؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الربح في شركة المضاربة يستحقه العامل بعد العقد والاتفاق والاشتغال، ولا يستحقه قبل ذلك فكذلك الحال في الجعالة، والجامع: أن كلًّا من العامل في الجعالة، وشركة المضاربة قد استقر العقد بتمام العمل، فاستحق ما جُعل له، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه بيان أن الجعالة لا يستحقها إلّا من عمل بعد قول صاحب العمل، لا ما عمل قبله.
(6)
مسألة: إذا قال زيد: "من وجد دراهمي أو من وجد عبدي: فله ألف": فاشترك أربعة وبحثوا عن ذلك فوجد هؤلاء الأربعة كلهم ذلك العبد - مثلًا -: فإنهم يشتركون في الجعل، فكل واحد يأخذ مائتين وخمسين ريالًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراك هؤلاء في العمل اشتراكًا متساويًا: اشتراكهم في العوض - وهو الجعل - اشتراكًا متساويًا؛ لتحقيق العدالة، وهو المقصد الشرعي.
(7)
مسألة: إذا قال زيد: "من خاط ثوبًا لي فله مائة"، وبلغ عمرًا هذا القول بعد خياطته لنصفه: فإنه يستحق نصف الجعل، أي يستحق خمسين، أما إن بلغه ذلك بعد الانتهاء من خياطته: فلا يستحق شيئًا؛ للتلازم؛ حيث إن فعله في الخياطة قبل بلوغه غير مأذون له فيه فيلزم عدم استحقاقه عليه عوض، وهذه=
عقد جائز (لكل) منهما (فسخها) كالمضاربة
(8)
(فـ) متى كان الفسخ (من العامل) قبل تمام العمل: فإنه (لا يستحق شيئًا)؛ لأنه أسقط حق نفسه؛ حيث لم يأت بما شُرط عليه (و) إن كان الفسخ (من الجاعل بعد الشروع) في العمل: فـ (للعامل أجرة) مثل عمله؛ لأنه عمله بعوض لم يسلم له، وقبل الشروع في العمل لا شيء للعامل
(9)
، وإن زاد أو نقص قبل الشروع في الجعل: جاز؛ لأنها عقد جائز
(10)
(ومع الاختلاف
= المسألة داخلة في عموم مسألة (5).
(8)
مسألة: عقد الجعالة عقد جائز من صاحب العمل، ومن المجعول له، فيجوز لكل واحد منهما أن يفسخ متى ما شاء؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين؛ إذ لو كانت عقد لازم: للحق كثيرًا من الناس الحرج والضيق، والتخلُّص من قضاء حاجة الآخرين، وهي بذلك كشركة المضاربة.
(9)
مسألة: إذا قال زيد: "من بنى لي حائطًا فله ألف" فبدأ العامل - وهو عمرو - في البناء، ففسخ عمرو وترك البناء قبل تمام البناء: فلا يستحق عمرو شيئًا من ذلك الألف، أما إذا فسخ صاحب العمل - وهو زيد - في هذه الحالة: فإن للعامل - وهو عمرو - أجرة مثل عمله الذي مضى، أما إن فسخ صاحب العمل - وهو زيد - قبل شروع العامل في العمل: فلا شيء لذلك العامل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إسقاط العامل - وهو عمرو - حق نفسه، وهو عدم إتمام العمل: عدم استحقاقه للعوض كله، ويلزم من عمل العامل - قبل فسخ صاحب العمل -: أن يستحق عوضًا على عمله الذي مضى، وهو أجرة مثل عمله، ويلزم من فسخ صاحب العمل قبل شروع العامل في العمل: عدم استحقاق العامل لشيء؛ إذ لم يقع عمل.
(10)
مسألة: يجوز لصاحب العمل أن يزيد وينقص في الجعل، فيجوز أن يقول في أول الأمر:"من فعل كذا فله ألف" ويجوز أن يزيد قائلًا: "فله ألفان" ويجوز أن ينقص قائلًا: "فله خمسمائة" بشرط: أن يكون هذا القول قبل أن يشرع العامل=
في أصله) أي: أصل الجعل (أو قدره: يُقبل قول الجاعل)؛ لأنه منكر، والأصل: براءة ذمَّته
(11)
(ومن ردَّ لُقْطَة أو ضالة، أو عمل لغيره عملًا بغير جعل) ولا إذن: (لم يستحق عوضًا)؛ لأنه بذل منفعة من غير عوض، فلم يستحقه، ولئلا يُلزم الإنسان لم يلتزمه
(12)
(إلا) في تخليص متاع غيره من هلكة: فله أجرة المثل؛ ترغيبًا وإلا
= بالعمل، أما بعد شروعه فلا يجوز النقصان من الجعل، وتجوز الزيادة؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون الجعالة عقد جائز: جواز الزيادة، أو النقصان قبل بدء العامل بالعمل؛ إذ يستطيع ذلك العامل بأن يفسخ ويرفض العمل بلا عوض، الثانية المصلحة؛ حيث إن نقصان صاحب العمل من الجعل بعد شروع العامل في العمل يُلحق به ضررًا ظاهرًا؛ إذ قبل مشقّة العمل نظرًا لكثرة الجعل، فإذا نقص منه: تضرر، بخلاف ما لو زاد صاحب العمل الجعل: فهو زيادة على حق العامل قد تنازل عنه صاحب العمل.
(11)
مسألة: إذا اختلف صاحب العمل - وهو الجاعل - مع العامل بعد الانتهاء من العمل في أصل الجعل بأن قال العامل: إنك جعلت لمن يخيط لك ثوبًا ألفًا فأنكر صاحب العمل - وهو الجاعل - قائلًا: لم أقم بتسمية الجعل - وهو الألف - ولا بيّنة لأحدهما، أو اختلفا في قدر الجعل بأن قال العامل:"إنك جعلت لمن يخيط ثوبًا ألفًا" فأنكر ذلك صاحب العمل قائلًا: "لم أُحدّده بذلك بل حدَّدته بخمسمائة" ولا بيّنة: فإنه يُقبل قول صاحب العمل - وهو الجاعل مع يمينه؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر" وصاحب العمل منكر، فيقبل قوله مع يمينه؛ إذ لا بيّنة للمدعي هنا وهو: العامل، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزيادات، هي: زيادة التسمية، أو زيادة خمسمائة، فنبقى على هذا الأصل ونعمل به حتى يرد ما يُغيِّر الحالة.
(12)
مسألة: أيُّ شخص يعمل لغيره عملًا بغير عقد، أو جعل أو إذن كأن يقوم بردِّ=
(دينارًا، أو اثني عشر درهمًا عن ردِّ الآبق) من المصر، أو خارجه، روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود؛ لقول ابن أبي مليكة، وعمرو بن دينار: "إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في رد الآبق إذا جاء به من خارج الحرم دينارًا)
(13)
(ويرجع) راد الآبق (بنفقته أيضًا)؛ لأنه مأذون في الإنفاق شرعًا؛ لحرمة النفس ومحله إن لم ينو التبرع، ولو هرب منه في
= لقطة، أو بهيمة ضالة: فإنه لا يستحق على ذلك أيُّ عوضٍ عن عمله هذا؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حماية للمسلم من يُلزم بأشياء ومعاوضات وقيم هو لم يلتزم بها، وفيه دفع التحايل على أكل أموال الناس بالباطل، فهو كمن خدم آخر من غير مشارطة، فلا يستحق شيئًا.
(13)
مسألة: إذا خلص زيد مال غيره أو متاعه من مهلكة، كأن يخرجه من بحر، أو من دار قد احترقت أو خلصه من لصوص أو ردَّ عبدًا هاربًا إلى سيده: بدون عقد، أو جعل، أو إذن أو شرط من صاحبه: فإن زيدًا يستحق أجرة مثل من يقوم بذلك العمل بالإجارة؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حثٌّ وترغيبٌ على حماية أموال الغير من الهلكة، واللصوص، وإحراز لتلك الأموال من الضياع، فإذا عرف كل واحد يقوم بذلك أنه سيُعطى أجرته على ذلك: قاموا بذلك خير قيام، وخُلَّصت أموال الغير مما يهلكها، وبهذا يتكافل ويتعاون المجتمع الإسلامي على حماية بعضهم البعض، فإن قلتَ: إنه يستحق على رد العبد الهارب دينار أو اثنا عشر درهمًا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين الأولى: السنة القولية؛ حيث إن صلى الله عليه وسلم قد جعل في رد الآبق إذا جاء به من خارج الحرم دينارًا" الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك روي عن عمر، وعلي، وبن مسعود قلتُ: إن الحديث فيه مقال، فلا يُحتج به، أما قول الصحابي، فقد تكلَّم الناس فيه كما قال الإمام أحمد، يقصد: تكلم أهل الحديث فيه كما جاء في المغني (8/ 329) فإن قلتَ: ما الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في صحة الحديث وقول الصحابي" فعندنا ضعيفان وعندهم: قويان.
الطريق، وإن مات السيد: رجع في تركته
(14)
، وعُلم منه: جواز أخذ الآبق لمن وجده
(15)
، وهو أمانة بيده
(16)
، ومن ادَّعاه فصدَّقه العبد أخذه
(17)
. فإن لم يجد
(14)
مسألة: إذا ردَّ زيد عبدًا هاربًا إلى سيده: فإن جميع ما أنفقه زيد على ذلك العبد أثناء القبض عليه، والسفر به، وإرجاعه إلى سيده يأخذه من سيده إذا نوى أن يأخذ ذلك منه، أما إن نوى التبرُّع بذلك حين القبض عليه وإرجاعه: فلا يستحق شيئًا، وهذا مطلق أي: يأخذ تلك النفقة سواء أوصل زيد ذلك العبد إلى سيده، أو هرب العبد منه قبل الوصول إلى سيده، وسواء وجد السيد حيًا، أو مات السيد: فإنه يأخذ النفقة من ورثة السيد، للمصلحة: حيث إن النفقة في ذلك فيه حفظ مال أخيه المسلم، وفيه التعاون على حفظ حقوق المسلمين؛ إذ لو كانت نفقته ستضيع: لما حفظ أحد مال أحد، ولضاعت مصالح الناس، وتعطَّلت حقوق كثيرة، وبهذا تفسد أموال عظيمة، فلذا أذِن شرعًا في الإنفاق على الأنفس وتؤخذ تلك النفقات من مال صاحب المنفق عليه وإن لم يأذن صاحبه، وقد أشار ابن القيم إلى ذلك وأطال فيه.
(15)
مسألة: يجوز لأي مسلم أن يأخذ العبد الهارب إذا وجده، للمصلحة: حيث إن العبد لا يُؤمن منه أن يلتحق بدار الحرب، وأن يرتد عن الإسلام، أو اشتغاله بالفساد، فدفعًا لذلك: جاز لأي شخص أن يأخذه؛ لمنعه ذلك.
(16)
مسألة: إذا أخذ زيد ذلك العبد الهارب: فهو أمانة بيده تطبَّق عليه أحكام الأمانة والوديعة وهي إن تلف من غير تفريط ولا تعد: فلا ضمان عليه؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حث على حفظ أموال الآخرين عن الضياع، فلو ضمن آخذه إذا تلف: لما أخذه أحد؛ لئلا يضمنه لو تلف.
(17)
مسألة: إذا أخذ زيد ذلك العبد الهارب، ثم ادعاه قائلًا: عمرو: "إنه عبدي، وأنا سيده": فإن زيدًا يجب أن يدفعه إليه بأحد شرطين: أولهما: أن يقيم عمرو بيّنة تدل على أنه عبده ثانيهما: أو أن يعترف العبد بأن عمرًا سيده؛ للتلازم؛ حيث إن=
سيده: دفعه إلى الإمام أو نائبه؛ ليحفظه لصاحبه
(18)
، وله بيعه؛ لمصلحة
(19)
، ولا يملكه ملتقطه بالتعريف كضوال الإبل، وإن باعه: ففاسد
(20)
.
= البينة، أو الاعتراف تثبت الحقوق فيلزم دفعه لمن أوجد أحدهما.
(18)
مسألة: إذا لم يجد زيد الآخذ للعبد الهارب صاحبه - أي: سيد العبد - فيجب عليه أن يدفعه ويُسلِّمه إلى الإمام، أو نائبه - وهو القاضي -؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تخلُّص منه، والإمام أو نائبه مسؤول عن عموم المسلمين في هذا وفي غيره، ولأن بيده سلطة عليه وعلى سيده.
(19)
مسألة إذا رأى زيد - وهو الآخذ للعبد الهارب من سيده - أن المصلحة تقتضي بيع ذلك العبد الذي أخذه كأن يكون فاسدًا، أو لا يصلح بأن يختلط مع حاشيته أو نحو ذلك: فله بيعه؛ ويحتفظ بثمنه لسيده ويكون أمانة بيده حتى يجده، وإن لم يجده: فإنه يتصدَّق به لسيده؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه دفع مفسدة قد تصدر منه إلى بعض حاشية من وجده.
(20)
مسألة: إذا لم يجد زيد سيد العبد الذي أخذه وعرَّفه، وسأل عن صاحبه فلم يجده: فإنه لا يملكه بعد أن لم يجد صاحبه، ولا يجوز له بيعه لغير مصلحة، فإن باعه في هذه الحالة: فبيعه فاسد؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن الناقة الضالة لا يملكها من وجدها بتعريفها، ولا يجوز له بيعها لغير مصلحة فكذلك: العبد، والجامع: أن كلا منهما يحتفظ بنفسه، ويستطيع حماية نفسه، الثانية: التلازم؛ حيث إن بيعه لغير مصلحة تصرف فضولي، فيلزم بطلانه وفساده.
هذه آخر مسائل باب: "الجعالة، أو الوعد بالجوائز" ويليه باب: "اللُّقطَة".
باب اللُّقَطَة
بضم اللام وفتح القاف، ويُقال: لُقاطة - بضم اللام، و "لَقَطه" - بفتح اللام والقاف - (وهي مال، أو مختص ضلَّ عن ربِّه) قال بعضهم: وهي مختصّة بغير الحيوان، ويُسمَّى ضالة
(1)
(و) يُعتبر فيما يجب تعريفه: أن (تتبعه همَّة أوساط الناس) بأن يهتموا في طلبه
(2)
(فأما الرغيف والسوط) وهو الذي يُضرب به، وفي "شرح المهذب" هو: فوق القضيب ودون العصا (ونحوهما) كشسع النعل (فيملك)
باب اللُّقَطَة
وفيه أربع وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: اللُّقطة - بضم اللام وفتح القاف أو سكونها - لغة هو: اسم للشيء الذي تجده مُلقى فتأخذه، وهو قول الأزهري - كما في المصباح (556) -، وهي في الاصطلاح: كل مال ضائع عن صاحبه يلتقطه غيره - غير الحيوان" أي: أن زيدًا لو وجد زمرة من مال أو متاعًا أو نحو ذلك: فأخذه والتقطه: فهو لقطة، فإن قلت: لِمَ استثني الحيوان هنا؟ قلتُ: لأنها تسمَّى ضوال، ولا تسمَّى لقطة، وسيأتي بيانه.
(2)
مسألة: الشيء الذي يجب تعريف الناس عليه إذا التقط للبحث عن صاحبه هو: الذي يبحث عنه ويطلبه ويهتم به ويحرص عليه أوساط الناس، فأما أشرافهم وأعلاهم منزلة، فمعروف أنهم لا يهتمون بالبحث عن مثل ذلك، وأما أقلّ الناس وأسقاطهم فهم يهتمون ويبحثون عن كل شيء، فهؤلاء لا يُعتبر ما فعلوه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اهتمام أوساط الناس بهذا الشيء والبحث عنه: أن يكون له قيمة يستحق البحث عنها فهذا يستحق أن يُعرَّف عليه، ويصبر على المشقة التي تكون بسبب ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية وحفظ حقوق الناس.
بالالتقاط (بلا تعريف) ويُباح الانتفاع به؛ لما روى جابر قال: "رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، والسوط، والحبل يلتقطه الرجل ينتفع به" رواه أبو داود، وكذا: التمرة، والخرقة، وما لا خطر له ولا يلزمه دفع بدله
(3)
(وما امتنع من سبع صغير) كذئب ويرد الماء (كثور وجمل ونحوهما) كالبغال، والحمير، والضباء، والطيور، والفهود، ويُقال لها الضوال، والهوامي، والهوامل:(حرم أخذه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ضالة الإبل -: "ما لك ولها؟ معها سقاؤها، وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربها" متفق عليه، وقال عمر:"من أخذ الضالة: فهو ضال" أي
(3)
مسألة: الشيء الذي لا يجب تعريف الناس عليه إذا التُقط للبحث عن صاحبه هو: الشيء اليسير الذي لا يهتم ولا يعتني به أحد عادة إلا النوادر، فإذا التقطه أحد: فإنه يملكه بذلك وينتفع به ولا يُعرِّف به مثل: السوط الذي يُضرب به، والرغيف الواحد، وشسع النعل - وهو سيره -، والتمرة، والقطعة من القماش؛ ولو وُجد صاحبه لا يلزم اللاقط دفع بدله؛ لقواعد الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قال جابر "رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، والسوط، والحبل يلتقطه الرجل ينتفع به" وهذه الأشياء يُلحق بها غيرها مما لا يُهتم به أحد، من باب مفهوم الموافقة؛ لعدم الفارق، وهذا الترخيص يلزم منه عدم ضمانه ببدله، ولا نحو ذلك: ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى تمرة بالطريق قال: "لولا إني أخاف أن تكن من الصدقة لأكلتها" وهذا يدل على أن مثل ذلك لا يُعرَّف بها، وهي تملك، بدون بدل؛ الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن أُبي بن كعب قد صوَّب رجلًا قد التقط سوطًا ولم يُعرف به، الثالثة: العادة والعرف؛ حيث إن مثل هذه الأمور الصغيرة لم تجر عادة المسلمين بالتعريف عليها، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه الإذن بالانتفاع بما يُوجد من الصغائر في الطرق والممرات بدون حرج.
مخطئ، فإن أخذها: ضمنها
(4)
، وكذا: نحو حجر طاحون، وخشب كبير
(5)
(وله
(4)
مسألة: لا يجوز أخذ الضوال من البهائم التي تمتنع عادة من السباع الصغيرة - كذئب وثعلب - وتدافع عن نفسها وترد الماء وتأكل الشجر بنفسها مثل: الإبل، والبقر، والثور، والبغال، والحمير، والظباء، والطيور، والفهود، ونحو ذلك من الضوال، والماشية بلا راع - وهي الهوامي، والهوامل - مما هو قادر على الدفاع عن نفسه، بل تُترك حتى يجدها صاحبها، وإذا أخذها شخص: فإنه يضمنها إذا تلفت؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ضالة الإبل -: "ما لك ولها؟ معها سقاؤها، وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها" فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على السائل أخذ الإبل؛ لأن الاستفهام هنا إنكاري، وغير الإبل مما يمتنع عن السباع الصغيرة ويرد الماء ويأكل الشجر كالبقر والحمير ونحوها مثل الإبل؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن الغاصب إذا غصب شيئًا: فإنه يضمنه إذا تلف فكذلك الآخذ لهذه الضوال يضمنها إذا تلفت عنده، والجامع: أن كلًّا منهما منهي عن أخذه، وله قيمة، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث قال عمر: "من أخذ الضالة: فهو ضال" أي: ضل وأخطأ بأخذها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي: حماية أملاك الآخرين من الاعتداء عليها. (فرع): إذا غلب على ظن شخص: أن تلك الضوال ستهلك بسبب وجودها في أرض فيها سباع كبيرة، أو كانت قريبة من ديار الكفار، أو في موضع كثر فيه قطاع الطرق والفساق الذين يستحلّون أموال المسلمين، أو كانت في برِّية لا ماء فيها ولا مرعى: فإنه يجوز لهذا الشخص أن يأخذ تلك الضوال، ولا ضمان عليه فيما لو هلكت؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه إنقاذها، وحمايتها من الهلكة الغالبة على الظن.
(5)
مسألة: لا يجوز أخذ الأشياء الكبيرة التي تحتفظ بنفسها، ولا تضيع عن صاحبها، ولا تزول عن مكانها عادة كحجر الطاحون - وهو الرَّحى -، وخشب كبير،=
التقاط غير ذلك) أي: غير ما تقدَّم من الضوال ونحوها (من حيوان) كغنم، وفصلان، وعجاجيل، وأفلاء (وغيره) كأثمان ومتاع (إن أمن نفسه على ذلك) وقوي على تعريفها؛ لحديث زيد بن خالد الجهني قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق فقال: "اعرف وكاءها، وعفاصها ثم عرَّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر، فادفعها إليه" وسأله عن الشاة فقال: "خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب" متفق عليه مختصرًا، والأفضل تركها؛ روي عن ابن عباس وابن عمر (وإلا) يأمن نفسه عليها:(فهو كغاصب) فليس له أخذها؛ لما فيه من تعريض مال غيره ويضمنها إن تلفت: فرَّط أو لم يُفرَّط، ولا يملكها وإن عرَّفها
(6)
، ومن أخذها ثم ردَّها إلى موضعها، أو فرَّط
= وقدر كبير ونحو ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز أخذ الضوال - كما سبق في مسألة (4) - فكذلك لا يجوز أخذ الأشياء الكبيرة، والجامع: أن كلًّا منها لا تضيع عن صاحبها وتحتفظ بنفسها عادة، والمقصد من هذا هو نفس المقصد من مسألة (4).
(6)
مسألة: يستحب للشخص الواثق من أمانة نفسه، والقادر على التعريف: أن يلتقط ما رآه من أيِّ مالٍ ضائع - غير الضوال، والأشياء الكبيرة - كالذهب، والفضة، وأي ثمن والمتاع ونحو ذلك، وغنم، وصغار بقر - كعجاجيل - وصغار إبل - كفصلان - وصغار حمير - وخيل - كأفلاء - وإذا جاء صاحبها: فليعطها إياه ولا يضمنها إن تلفت بلا تعدٍّ أو تفريط، أما إذا لم يأمن نفسه: فلا يجوز له التقاط وأخذ ذلك، وإن أخذها - وهو كذلك -: فإنه يضمنها إن تلفت مطلقًا: أي: سواء فرَّط أو تعدَّى، أو لا، ولا يملكها وإن قام بتعريفها؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم وسئل عن لقطة الذهب والورق فقال: "اعرف وكاءها، وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه" وسئل عن الشاة فقال:=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= " خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب" حيث أباح التقاط هذه الأشياء، وغير الذهب والورق مما له ثمن مثلهما، وغير الشاة من الحيوانات الصغيرة مثل الشاة؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة" ثانيهما: قوله: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" حيث إن أخذ اللقطة من باب الإعانة على حفظ مال الآخرين؛ لئلا يأخذها الفساق - ويأكلونها بالباطل، وهذا لمن يعرف من نفسه أنه أمين، وسؤديها لصاحبها متى جاء، وهذا هو المقصد من مشروعية اللقطة، الثانية: القياس؛ بيانه، كما أن الشخص لا يجوز له أن يغصب مال غيره فكذلك غير الواثق من أمانة نفسه لا يجوز التقاط هذه الأشياء والجامع: أن كلًّا منهما أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه، وأن فيه تضييع مال غيره الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من كون غير الواثق من نفسه لم يأمن نفسه عليها ولو عرفها: أن يضمن ما أخذه إذا تلفت مطلقًا؛ لأن السبب المحرم لا يفيد الملك كالسرقة، فإن قلتَ: لا يُستحب للشخص أن يلتقط ويأخذ ما رآه من مال ضائع عن صاحبه: سواء كان واثقًا من أمانة نفسه، أو لا، وهذا قول كثير من العلماء وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث ورد عدم استحباب التقاط اللقطة عن ابن عباس، وابن عمر، الثانية: المصلحة؛ حيث إن التقاطها فيه تعريض الإنسان نفسه لتضييع الواجب: من تعريفها، وأداء الأمانة فيها: فكان من الأصلح له: عدم التقاطها. قلتُ: كل من قول الصحابي والمصلحة اجتهاد في مقابلة نص - وهي: السنة القولية التي ذكرناها من وجهين - ولا اجتهاد مع النص، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي والمصلحة مع السنة القولية" فعندنا: تقدم السنة؛ لما فيها من المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي من خفظ بعض المسلمين لأموال بعض، وفي ذلك: دفع مفسدة أكل أموال المسلمين بغير حق، ودفع المفاسد مقدم على جلب=
فيها: ضمنها
(7)
، ويُخيَّر في الشاة ونحوها بين: ذبحها وعليه القيمة، أو بيعها ويحفظ ثمنها، أو ينفق عليها من ماله بنية الرجوع
(8)
، وما يخشى فساده له بيعه، وحفظ ثمنه،
= المصالح، وعندهم تقدم مصلحة الشخص وهي خاصة، والمصلحة الخاصة لا تقوى على معارضة المصلحة العامة.
(7)
مسألة: إذا التقط اللقطة وأخذها شخص، ثم ردَّها إلى موضعها الذي أخذها منه وتلفت، أو تلفت بسبب تفريط أو تعدٍّ: فإنه يضمنها في الحالتين؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه إذا وُجدت أمانة في يده: فإنه يلزمه حفظها ولا يتخلَّى عنها، ولو تلفت بسبب تخليه عنها، أو بسبب تفريطه فيها: للزمه ضمانها، فكذلك اللقطة مثل ذلك، والجامع: أن كلًّا منهما أمانة بيد ذلك الشخص، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية أملاك الآخرين.
(8)
مسألة: إذا التقط شاة أو أيَّ شيء مثلها كالدجاج والفصلان، والعجاجيل، ونحوها: فإن الملتقط لا يُعرِّفها، بل يُخيَّر بين ثلاثة أمور: أولها: إما أن يذبحها، ويأكلها، وعليه قيمتها في حال ذبحها، يعطيه صاحبها إذا وجده، ثانيها: أو أن يبيعها، ويحفظ ثمنها، ويعطيه صاحبها إذا وجده، ثالثها: أو أن يصبر وينفق عليها من ماله؛ ليحفظها لمالكها بنيّة الرجوع فيما أنفق إلى صاحبها إن وجده، فلو تركها بلا إنفاق وتلفت: فإنه يضمنها لصاحبها؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في الشاة وما ماثلها -: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" حيث جعل الشاة لآخذها في الحال، ويلزم من تسويته بالذئب: جواز أكلها بالحال؛ لكون الذئب لا يؤخر أكلها: سواء وقع هذا الأكل في الصحراء أو في داخل البلدان، وغير الشاة مثلها في ذلك؛ لعدم الفارق من باب:"مفهوم الموافقة" ولم يذكر في النص تعريفًا لها، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه يجوز أكلها وحفظ ثمنها لصاحبها إذا وجد، فكذلك يجوز بيعها وحفظ ثمنها لصاحبها إذا وجد والجامع: حفظ ثمنها لصاحبها في كل. الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من تركها بدون نفقة=
وأكله بقيمته، أو تجفيف ما يمكن تجفيفه
(9)
(ويعرف الجميع) وجوبًا؛ لحديث زيد السابق، نهارًا بالنداء (في مجامع الناس) كالأسواق، وأبواب المساجد في أوقات الصلوات؛ لأن المقصود إشاعة ذكرها وإظهارها؛ ليظهر عليها صاحبها (غير المساجد) فلا تُعرَّف فيها (حولًا) كاملًا، روي عن عمر، وعلي، وابن عباس، عقب الالتقاط؛ لأن صاحبها يطلبها إذًا كل يوم أسبوعًا، ثم عرفًا
(10)
، وأجرة المنادي على
= وتلفها بسبب ذلك: ضمانها؛ لكونه فرَّط فيها، ويلزم من كون الملتقط قد أنفق على اللقطة لحفظها: أن يكون هذا الإنفاق من مال صاحبها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه فائدة للملتقط بأن يستفيد من تلك اللقطة بالحال، وفيه حماية لمال صاحب اللقطة حفظ ماله.
(9)
مسألة: إذا التقط شخص لقطة فيستحب أن يتصرَّف حيالها بما يناسبها من حيث النفع فمثلًا: لو التقط ما يخشى فساده بسبب حفظه كخضروات وفواكه ونحوهما: فإن الملتقط يُخيَّر بين أمور: أولها: إما أن يبيعه، ويحتفظ بثمنه حتى يجد صاحبه فيعطيه إياه، ثانيها: أو يأكله، ويعطي صاحبه قيمته حال أكله إياه حين يجده، ثالثها: أو يُجفِّفه إن كان قابلًا لذلك كعنب التقطه ونحو ذلك، أما إن ترك ذلك حتى تلف: فإنه يضمنه؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الملتقط؛ حيث يفعل ما يراه مناسبًا للقطة. الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من ترك ما التقطه حتى تلف: ضمانه بقيمته؛ لكون ذلك تفريطًا لا مبرر له.
(10)
مسألة: يجب على من التقط شيئًا وأخذه: أن يُعرِّفه قريبًا من المكان الذي وجده فيه، وينادي في مجامع الناس، وأبواب المساجد - غير داخلها - عند انتهاء كل صلاة، وفي الأسواق وذلك في النهار جهرًا، ويقول في المناداة:"من ضاع له شيء فهو عندي" ونحو ذلك هذه العبارة، ويُنادي بذلك عقب الالتقاط مباشرة إلى أن يتمّ له سنة كاملة، ويُنادي في أول أسبوع كل يوم، فإذا انتهى الأسبوع ينادي على حسب عادة الناس، وإن لم تكن لهم عادة: فإنه ينادي في الأسبوع=
الملتقط
(11)
(ويملكه بعده) أي: بعد التعريف (حكمًا) أي: من غير اختيار كالميراث: غنيًا كان أو فقيرًا؛ لعموم ما سبق، ولا يملكها بدون تعريف
(12)
(لكن لا يتصرَّف
= الثاني مرة واحدة، وبعده كل شهر مرة واحدة، وهكذا حتى تنتهي السنة؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ثم عرِّفها سنة"، حيث أوجب الشارع التعريف سنة؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن عمر، وعلي وابن عباس، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن المناداة والتعريف بها في النهار جهرًا سبب في ظهور صاحبها، وفي المناداة عليها كل يوم في الأسبوع الأول يُغلِّب العثور على صاحبها؛ لأن طلب صاحبها لها يكون في ذلك الأسبوع عادة، فإن قلت: لِمَ لا تعرَّف داخل المساجد؟ قلتُ: لقول الصحابي؛ حيث إن عمر قد أمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد.
(11)
مسألة: تكاليف وأجرة التعريف باللقطة تكون على صاحبها إذا كانت معتادة؛ وليست على الملتقط؛ للمصلحة: حيث إن الملتقط متبرِّع بحفظ اللقطة عن ضياعها، فإذا كان سيدفع أجرة التعريف بها: فإن هذا سيؤدي إلى أن ينفر الناس عن حفظ اللقطة، فدفعًا لذلك تكون أجرة التعريف على صاحبها يدفعها إلى الملتقط إن وجده، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط كون أجرة التعريف بأن تكون معتادة؟ قلتُ: للمصلحة: حيث إن بعض الناس قد يستأجر لذلك بأجرة عالية لا يتحملها صاحب اللقطة، فإن قلتَ: إن الأجرة هنا على الملتقط وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن التعريف واجب على الملتقط، فيلزم أن يكون ما يتمّ به هذا التعريف عليه من باب:"ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب" قلتُ: هذا بعيد؛ لأن كل واحد يعلم أن أجرة التعريف باللقطة التي أخذها وحفظها ستكون عليه: فإنه لن يأخذها أصلًا، وهذا يؤدي إلى ضياع أموال الناس هدرًا، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع التلازم" كما هو واضح.
(12)
مسألة: إذا عرَّف الملتقط اللقطة سنة، فلم يجد صاحبها: فإنه يملكها بعد ذلك=
فيها قبل معرفة صفاتها) أي: حتى يعرف وعاءها، ووكاءها، وقدرها، وجنسها، وصفتها، ويستحب ذلك عند وجدانها، والإشهاد عليها
(13)
(فمتى جاء طالبها
= من غير اختيار منه، ويتصرّف فيها كما شاء، وهذا مطلق، أي: سواء كان الملتقط غنيًا أو فقيرًا، وسواء كانت اللقطة لقطة حرم، أو لا، ولا يملكها بدون تعريفها سنة كاملة، فلو أخذها عازمًا على تملّكها بغير تعريف: فقد فعل محرمًا، ولا يحل له أخذها بدون نيّة التعريف بها فإن أخذها: لزمه ضمانها مطلقًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم في حديث زيد الجهني -: "فإن لم تُعرف فاستنفقها" وفي رواية: "إن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلا: فشأنك بها" حيث دلّ هذا على امتلاك الملتقط للقطة بعد تعريفها، ولم يعرفها أحد، الثانية: القياس؛ وهو من وجهين: أولهما كما أن الشخص يملك ما ورثه بدون اختياره: غنيًا أو فقيرًا فكذلك الملتقط يملك اللقطة مطلقًا بدون اختياره بعد تعريفها ولم يوجد صاحبها، والجامع: أن كلًّا منهما قد وجد سبب الملك له، فسبب ملك الوارث: هو موت المورِّث، وسبب ملك الملتقط اللقطة هو: الالتقاط والتعريف، ثانيهما: كما أن الغاصب للشيء يحرم عليه ذلك، ويضمنه إذا تلف مطلقًا، فكذلك الآخذ للقطة إذا أخذها بدون نية تعريفها: يحرم عليه ذلك، ويضمن ذلك كله إذا تلف والجامع: أن كلًّا منهما قد نوى تضييع الشيء على صاحبه، فيضمنه، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حث على أخذ اللقطة، والانتفاع بها وحماية مال صاحب اللقطة.
(13)
مسألة: يجب على الملتقط أن لا يتصرَّف باللقطة بعد تعريفها سنة - كما سبق في مسألة (12) - إلّا بعد أن يعرف صفاتها: فيعرف وعاءها الذي هي فيه من خرقة، أو قرطاس، أو نحوه، ويعرف وكاءها - وهو الخيط الذي يُشد المال في الخرقة، وقدر المال، وجنسه من دراهم، أو دنانير، ولون ذلك، ويُستحب: أن تكون هذه المعرفة فور وجدانها، وأن يُشهد عدلًا على أنه وجد لقطة صفاتها=
فوصفها: لزم دفعها إليه) بلا بيّنة، ولا يمين، وإن لم يغلب على ظنه صدقه؛ لحديث زيد، وفيه:"فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها: فأعطها إيّاه، وإلّا: فهي لك" رواه مسلم
(14)
ويضمن تلفها، ونقصها بعد الحول مطلقًا، لا قبله
= كذا؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة. ." حيث أوجب تلك المعرفة؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، والمراد بـ "العفاص": الوعاء الذي فيه اللقطة، وغير ذلك مثله، من باب "مفهوم الموافقة" ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "من وجد لُقطة فليُشهد ذوي عدل" والذي صرف الأمر بالإشهاد من الوجوب إلى الاستحباب المصلحة إذ هذا يقتضي التأكيد فقط، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يضمن مال صاحب اللقطة، ويحتاط به الملتقط.
(14)
مسألة: إذا وجد الملتقط صاحب اللقطة فوصفها صاحبها بالصفات المذكورة سابقًا: فإنه يجب على الملتقط أن يُسلِّمها إليه، أو بدلها، وهذا مطلق، أي: سواء أثبت بيّنة أو لا، وسواء حلف يمينًا أو لا، وسواء غلب على ظن الملتقط صدق من وصفها أو لا، ويدفع له معها نماءها المتصل والمنفصل؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها فأعطها إياه، وإلا فهي لك" وهذا الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، ولم يُقيَّد ببيان بينة أو يمين، وإنما علَّق الأمر بوصفها فقط، فلا تجب بيّنة ولا يمين في ذلك، الثانية: التلازم؛ حيث إن إقامة البيَّنة عليها يشق عادة فلزم عدم وجوبها، ويلزم من كون وصفها أظهر وأصدق من البينة واليمين: عدم وجوب اليمين والبينة على صاحبها، وتسليمها له وإن غلب على ظن الملتقط صدقه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير إيصالها لصاحبها، وتسليم الملتقط لها.
إن لم يُفرِّط
(15)
(والسفيه، والصبى يُعرِّف لقطتهما وليهما)؛ لقيامه مقامهما، ويلزمه أخذها منهما، فإن تركها في يدهما فتلفت: ضمنها، فإن لم تُعرف، فهي لهما
(16)
، وإن وجدها عبد عدل: فلسيده أخذها منه، وتركها معه؛ ليعرِّفها
(17)
، فإن لم يأمن
(15)
مسألة: إذا التقط وأخذ شخص لقطة فتلفت: فإنه لا يضمنها قبل مضي كامل عليها، وهي عنده إن لم يفرَّط أو يتعدَّ، أما بعد مضي الحول عليها: فيضمنها إذا تلفت مطلقًا، أي سواء فرَّط، أو لا، تعدَّى أو لا؛ للتلازم؛ حيث إنها قبل مضي الحول أمانة في يد الملتقط، فيلزم عدم ضمانها؛ لأن كل أمين لا يضمن ما اؤتمن عليه إن لم يُفرط، ويلزم من دخولها في ملك الملتقط بعد الحول: أن يضمنها إذا تلفت، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للملتقط، وصاحب اللقطة.
(16)
مسألة: إذا التقط صبي، أو مجنون، أو سفيه لقطة: فيجب على وليهم أن يأخذها منهم ويُعرِّف هذا الولي بها، فإن لم يُعرف صاحبها: فهي لهم، تُدخل في مالهم فإن وجد صاحبها: سُلِّمت إليه أو قيمتها، وإن ترك الولي تلك اللقطة في يد الصبي ونحوه حتى تلفت: فإن هذا الولي يضمنها من ماله، لا من مال الصبي ونحوه؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كون الولي يقوم مقام الصبي والمجنون والسفيه: أن يأخذها منهم، ويقوم مقامهم في التعريف بها؛ لكون الصبي ونحوه ليس أهلًا للحفظ والأمانة، ويلزم من كون الصبي ونحوه قد التقطها أن تكون له إن لم يوجد صاحبها، ويلزم من كون الولي هو المخاطب بحفظ ما يتعلَّق بحق موليه من صبي ونحوه: أن يضمن ما تلف بيده؛ لكونه فرَّط في هذه الولاية فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حبّ الولي على ملاحظة موليه، وفيه التأكيد على حماية مال صاحب اللقطة.
(17)
مسألة: إذا وجد عبد عدل لقطة وأخذها: فيُخيَّر سيده الأمين بين أمرين: أولهما: إما أن يأخذها منه؛ ليُعرِّفها بنفسه ولا ضمان عليه إن تلفت قبل نهاية السنة،=
سيده عليها: سترها عنه وسلَّمها للحاكم، ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان
(18)
، والمكاتب كالحر
(19)
، ومن بعضه حر: فهي بينه وبين سيده
(20)
(ومن ترك حيوانًا) لا
= ثانيهما: وإما أن يتركها مع العبد؛ ليعرِّفها هو بنفسه، ويكون السيد مستعينًا به في حفظها كسائر ماله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون العبد عدلًا: أن يأمنه سيده عليها، فيكون حافظًا لها كسيده. (فرع): إن كان العبد الواجد للقطة غير أمين، وتركها السيد معه فتلفت: فإن ذلك السيد يضمنها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تفريط السيد العدل؛ حيث ترك اللقطة بيد غير العدل أن يضمنها؛ نظرًا لتفريطه.
(18)
مسألة: إذا وجد عبد عدل لقطة، وكان سيده غير عدل: فيجب على العبد أن يسترها عنه، ويُسلِّمها إلى الحاكم - وهو القاضي -، وإذا عرفها الحاكم ولم يوجد صاحبها: فإنه يسلمها إلى سيده بشرط الضمان؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم أمانة السيد: عدم تسليمها إليه، ويلزم من كون الحاكم وليًا على الجميع أن يسلمها إليه، ويلزم من كونها من كسب العبد: أن يسلمها الحاكم إلى سيده - أي: سيد العبد - بعد أن عرَّفها عامًا فلم يوجد صاحبها، وذلك بشرط الضمان:(فرع): لو أن سيدًا أعتق عبده بعد التقاطه: فإن تلك اللقطة تكون من حق العبد المعتق؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونها من كسب العبد: أن تكون له، وعليه ضمانها.
(19)
مسألة إذا وجد مكاتب لقطة: فإن حكمه فيها حكم الحر: يُعرِّفها سنة، ثم يملكها بعد تلك السنة، ويضمنها لصاحبها إن وجد بنفسها، أو بقيمتها؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الحر يفعل ذلك فكذلك المكاتب والجامع: أن كلًّا منهما يملك اكتسابه فائدة المكاتب هو: العبد الذي اشترى نفسه من سيده بثمن يُسدِّده على أقساط.
(20)
مسألة: إذا وجد مبعَّض لقطة: فإنها تكون بينه وبين سيده على حسب قدر الحرية=
عبدًا، أو متاعًا (بفلاة؛ لانقطاعه، أو عجز ربه عنه: ملكه آخذه) بخلاف عبد ومتاع، وكذا: ما يُلقى في البحر؛ خوفًا من غرق، فيملكه آخذه
(21)
، وإن انكسرت سفينة فاستخرجه قوم: فهو لربه، وعليه أجرة المثل
(22)
(ومن أخذ نعله ونحوه) من متاعه (ووجد موضعه غيره: فلقطة) ويأخذ حقه منه بعد تعريفه
(23)
، وإذا وجد عنبرة
= والرق، فمثلًا: إذا كان ثلثه حر فإن السيد يأخذ ثلثي اللقطة وهكذا، هذا بعد تعريفها سنة، وإذا تلفت فإن السيد يتحمَّل ضمان ثلثيها، والمبعَّض يتحمّل ضمان ثلثها وهكذا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المبعَّض - وهو الذي ثلثه حر - إذا اكتسب شيئًا: فإن ثلث هذا المكسب له، والثلثين يكونان لسيده فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منها يُعتبر من اكتسابه، فائدة:"المبعَّض" هو: الذي أعتق سيده بعضه، دون البعض الآخر، أو قوي على شراء بعضه دون البعض الآخر.
(21)
مسألة: إذا ترك زيد حيوانًا في صحراء، أو ألقاه في بحر بسبب انقطاع أو عجز، أو خوف: فإن آخذه ولاقطه يملكه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشيء إذا ألقي؛ رغبة عنه: فإن مالكه يأخذه فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما قد ألقاه صاحبه اختيارًا، وأنه يتلف فيما لو ترك والمقصد منه: نفع المسلمين. (فرع): إذا ترك زيد عبدًا، أو متاعًا: فلا يملكه واجده؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الخشية من التلف عليهما: عدم ملكية واجدهما لهما؛ لكون العبد يُمكنه التخلص بأي طريقة والمتاع قد يدوم إلى أن يرجع إليه صاحبه، فإن قلتَ: ما الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة؟ قلتُ: الفرق واضح؛ حيث إن الحيوان سيتلف غالبًا، فأذن لآخذه أن يملكه، وهو أولى من تلفه دون أن من ينفع أحدًا.
(22)
مسألة: إذا انكسرت سفينة، فاستخرج قوم ما انكسر: فإن ذلك يكون لصاحب السفينة وعليه أن يدفع أجرة المثل لمن فعل ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من فعلهم ذلك: أن يأخذوا عليه أجرة من اشتغل مثل شغلتهم فيما لو استؤجروا عليه.
(23)
مسألة: إذا أُخذت نعال زيد وترك الآخذ نعاله بدل تلك النعال ثم أخذها زيد،=
على الساحل: فهي له
(24)
.
= فلا تكون تلك النعال لقطة، بل إن زيدًا يأخذ ما وجده من نعال بدل نعاله، ثم يُقيِّم نعال الآخذ، ونعاله: فإن كانت نعال الآخر أكثر ثمنًا وقيمة: فإنه يتصدَّق بالفرق ناويًا أن هذه الصدقة للآخذ، فمثلًا إذا كانت نعال زيد بثلاثين، ونعال الآخذ بأربعين: فإن زيدًا يتصدَّق بعشرة، وهكذا، ولا يكون ذلك لقطة: بأن تُعرَّف النعال عامًا، ثم يتملكها زيد بدون دفع قيمتها فيما لو ظهر صاحبها؛ للمصلحة: حيث إن ذلك أرفق بالناس من مشقّة جعلها لقطة تقتضي تعريفها سنة، ثم يدفعها أو قيمتها إذا ظهر صاحبها، فإن قلتَ: إن ذلك يكون لقطة وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك.
(24)
مسألة: إذا وجد شخص عنبرة على ساحل البحر فإنها تكون ملكًا له؛ للتلازم؛ حيث يلزم من سبق واجدها إليها إباحتها له؛ لأن من سبق إلى شيء فهو أحقّ به كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم.
هذه آخر مسائل باب "اللقطة" ويليه باب "اللقيط".
باب اللَّقِيط
بمعنى: ملقوط (وهو) اصطلاحًا: (طفل لا يُعرف نسبه، ولا رقُّه نبذ) أي: طُرح في شارع أو غيره (أو ضل
(1)
، وأخذه فرض كفاية)؛ لقوله تعالى:{وتعاونوا على البر والتقوى}
(2)
، ويُسنُّ الإشهاد عليه
(3)
(وهو حر) في جميع الأحكام؛ لأن
باب اللَّقِيط
وفيه ست وعشرون مسألة:
(1)
مسألة: اللَّقيط لغة: مأخوذ من لقطتُ الشيء لقطًا: إذا أخذته من حيث لا يشعر، وهو عام لكل ملقوط؛ لأن لقيط: فعيل بمعنى مفعول، وقد غلب إطلاق اللقيط على الطفل المنبوذ، وهو في الاصطلاح:"طفل لا يُعرف نسبُه، ولا رقُّه نُبذ وطرح في طريق أو مسجد، أو ضلَّ عن أهله فيأخذه أحد المسلمين" والمراد بالطفل: هو من لم يُميز ولم يبلغ من ذكر أو أنثى.
(2)
مسألة: يجب على من وجد هذا اللقيط - وهو الطفل -: أن يأخذه، وينفق عليه، ويحميه وجوبًا كفائيًا - إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين -، وإن تركه الجماعة كلهم أثموا بذلك مع إمكان أخذه؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} حيث إنه أوجب أخذ اللقيط والإنفاق عليه وحمايته؛ لكونه يدخل في فعل البر والتقوى؛ حيث إنهما عامان؛ لأن "البر والتقوى" اسم جنس معرّف بأل، وهو من صيغ العموم. الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن إطعام المضطر، وانقاذ الغريق واجب على الكفاية، فكذلك أخذ هذا الطفل، والإنفاق عليه، وحمايته والجامع: أن كلًّا منهما فيه إحياء للنفس، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك من باب التكافل الاجتماعي، والتعاون على الخير.
(3)
مسألة: يستحب للشخص إذا أخذ طفلًا لقيطًا: أن يُشهد أن هذا الطفل لقيط =
الحرية هي الأصل، والرق عارض
(4)
(وما وجد معه) من فراش تحته، أو ثياب فوقه، أو مال في جيبه (أو تحته ظاهرًا، أو مدفونًا طريًا، أو متصلًا به كحيوان وغيره) مشدودًا بثيابه (أو) مطروحًا (قريبًا منه فـ) ـهو (له)؛ عملًا بالظاهر، ولأن له يدًا صحيحة كالبالغ
(5)
= حال أخذه إياه وكذا: يُستحب الإشهاد على ما معه إن كان معه شيء؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه دفع طمع نفسه من أن تراوده نفسه باسترقاقه، ولئلا يحسبه بعض الناس من أولاد الآخذ، فيعامله على هذا الأساس، فيما لو مات الآخذ فجأة.
(4)
مسألة: اللقيط حر، فتطبَّق عليه جميع أحكام الحرية؛ لقول الصحابي؛ حيث إن هذا قد ثبت عن عمرو، وعلي، فإن قلتَ: إن أراد أن يلتقطه للحسبة فهو حر، وإن لم يرد ذلك وأراد أن يسترقه فله ذلك قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، ثم إن هذا مخالف للأصل؛ حيث إن الأصل في بني آدم الحرية، والرق عارض؛ فإذا لم يثبت ذلك العارض - وهو الرق - بدليل، فإن ذلك يبقى على الأصل.
(5)
مسألة: إذا وجد الشخص مع اللقيط فراشًا تحته، أو ثياب فوقه، أو مال في جيبه، أو تحته ظاهرًا، أو مدفونًا دفنًا حديثًا يغلب على الظن أنه له، أو كان هذا المال متصلًا به مشدودًا بثيابه أو بعضو من أعضائه كحيوان ونحوه، أو كان هذا المال موضوعًا ومطروحًا قريبًا منه: فإن هذه الأشياء كلها تكون ملكًا لذلك اللقيط وتؤخذ معه؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون ظاهر هذه الأشياء أنها تابعة لذلك اللقيط: أن تكون ملكًا له؛ عملًا بذلك الظاهر، ويلزم من عدم جواز التفريق بين الشخص وماله: وجوب أخذ تلك الأشياء مع اللقيط، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن البالغ يملك ماله، فكذلك هذا الطفل اللقيط يملك ما وجد معه، والجامع: أن يد كل منهما صحيحة فكل منهما يرث ويورث ونحو ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية=
(وينفق عليه منه) ملتقطه بالمعروف؛ لولايته عليه
(6)
(وإلا) يكن معه شيء: (فمن بيت المال)؛ لقول عمر رضي الله عنه "اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته" وفي لفظ: "وعلينا رضاعه"، ولا يجب على الملتقط، فإن تعذَّر الإنفاق من بيت المال: فعلى من علم حاله من المسلمين، فإن تركوه: أثموا
(7)
(وهو مسلم) إذا وجد في دار الإسلام، وإن كان فيها أهل ذمة؛ تغليبًا للإسلام والدار، وإن وجد في بلد كفار لا مسلم فيه فكافر؛ تبعًا للدار
(8)
(وحضانته لواجده الأمين)؛ لأن عمر أقرّ اللقيط في
= حق الطفل اللقيط.
(6)
مسألة: إذا وجد الملتقطُ للطفل مالًا معه: فللملتقط أن يُنفق على ذلك الطفل من ذلك المال على حسب العرف والعادة بدون ضرر؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الولي ينفق على موليه من ماله بالمعروف فكذلك الملتقط لذلك الطفل يفعل ذلك والجامع: أن كلًّا منهما يُعتبر وليًا، وأمينًا على ما ولي عليه، وفي ذلك تيسير على الملتقط.
(7)
مسألة: إذا وجد الملتقطُ الطفل، ولا مال معه: فلا يجب عليه أن ينفق عليه من عنده، بل نفقته تكون من بيت مال المسلمين، فإن تعذَّر ذلك لأي سبب: فيجب على من علم حاله من المسلمين - وجوبًا كفائيًا - وإن تركوه أثموا، فإن تعذَّر ذلك: فيجب أن يقوم بنفقته ملتقطه ويأخذها منه إذا بلغ إذا نوى ملتقطه عند الإنفاق عليه أنه سيأخذ تلك النفقة منه؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} وقد سبق بيان وجه الدلالة من ذلك في مسألة (2)، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود المنفق: أن يُنفق عليه ملتقطه، ويأخذها منه بعد بلوغه إذا نوى ذلك؛ لعدم جواز ترك الشخص بلا إنفاق.
(8)
مسألة: إذا وجد شخص اللقيط في بلد المسلمين: فهو مسلم، أي: يحكم بإسلامه وحريته، وإن كان في هذه البلد بعض الكفار من أهل الذمة، وإن وجده في بلد كفار: فهو كافر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه في بلاد لا كافر فيها، أو الكفار قلَّة فيها: أن يُحكم عليه بالإسلام، ويلزم من كونه في بلد كفار لا مسلم فيه: أن=
يد أبي جميلة حين قال له عريفه: إنه رجل صالح
(9)
(وينفق عليه) مما وجد معه من نقد أو غيره (بغير إذن حاكم)؛ لأنه وليه
(10)
، فإن كان فاسقًا، أو رقيقًا، أو كافرًا واللقيط مسلم، أو بدويًا ينتقل في المواضع، أو وجده في الحضر فأراد نقله إلى البادية: لم يُقر بيده
(11)
(وميراثه وديته) كدية حر (لبيت المال) إن لم يُخلِّف وارثًا كغير
= يحكم بكفره، وهذا من باب التغليب.
(9)
مسألة: إذا وجد شخص لقيطًا رضيعًا: فإنه أولى الناس بحضانته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من سبقه إليه أن يكون أولى الناس به تنبيه: أثر عمر مع أبي جميلة لا يصح الاستدلال به؛ لضعفه؛ حيث قال بعض المحدثين: إن أبا جميلة مجهول لا تقوم الحجة بحديثه.
(10)
مسألة: الملتقط للصبي يُنفق عليه من المال الذي وجده معه - إن وُجد معه مال - بغير إذن الحاكم والقاضي؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ولي اليتيم ينفق عليه بدون إذن الحاكم فكذلك آخذ اللقيط مثله والجامع: أن كلًّا منهما ولي أمين، والأمين لا يحتاج أن يستأذن أحدًا في تصرفاته، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ لأن هذا من الأمر بالمعروف، فيستوي في ذلك الحاكم والمحكوم.
(11)
مسألة: إن كان واجد اللقيط فاسقًا، أو عبدًا رقيقًا، أو كافرًا واللقيط مسلم، أو أن بدويًا لا يستقر في مكان معين، أو كان حضريًا أراد نقله إلى الصحراء، أو كان صبيًا، أو مجنونًا، أو سفيهًا: فإن اللقيط لا يُقرُّ بأيدي هؤلاء، والذي يملك منعهم من ذلك هو: الحاكم، أو نائبه؛ للمصلحة: حيث إنه لا ولاية شرعية للفاسق، والكافر، والعبد، والصبي، والمجنون، والسفيه، على أحد؛ لعدم قدرتهم على إصلاح غيرهم، وكون وجود اللقيط في مكان معيَّن - دون تنقله - أصلح وأرفق له، وأخف عليه، وأرجى لكشف أهله. (فرع): إن كان واجد اللقيط مجهول الحال - لا تُعرف عدالته -: فإنه يُقرُّ بيده؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في المسلمين العدالة، فيُستصحب ذلك ويُعمل به حتى يرد دليل يُغيِّر الحالة، فيقرُّ=
اللقيط
(12)
ولا ولاء عليه؛ لحديث: "إنما الولاء لمن أعتق"
(13)
، (ووليه في) القتل (العمد) العدوان (الإمام يُخيَّر بين القصاص والدية لبيت المال؛ لأنه ولي من لا ولي له
(14)
، وإن قُطع طرفه عمدًا انتظر بلوغه ورشده؛ ليقتص أو يعفو
(15)
، وإن ادَّعى
= بيده على هذا الأساس.
(12)
مسألة: إذا مات اللقيط، ولم يُوجد من يرثه بفرض أو تعصيب فجميع ميراثه لبيت المال، وكذا لو قتل خطأ: فديته تكون لبيت المال أيضًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الحر إذا مات أو قتل ولا وارث له، فإن ميراثه وديته لبيت المال فكذلك مال اللقيط، أو ديته والجامع: عدم وجود من يأخذ المال، والسلطان ولي من لا ولي له.
(13)
مسألة: لا ولاء على اللقيط؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق" حيث دلَّ مفهوم الحصر هنا: على أن اللقيط لا ولاء عليه؛ لأن الولاء حصره لمن أعتق، واللقيط لم يثبت عليه رق، ولا على آبائه، فيعمل على الأصل وهو: الحرية، والمقصد منه: إكرام اللقيط، فإن قلتَ: عليه الولاء لملتقطه؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عمر قال لأبي جميلة: "هو حر ولك ولاؤه" قلتُ: هذا ضعيف؛ لأن أبا جميلة مجهول كما تقدم، في مسألة (9) فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: الخلاف في أثر عمر" فعندنا: ضعيف، وعندهم قوي.
(14)
مسألة: إذا قُتل اللقيط عمدًا عدوانًا: فإن وليه في المطالبة في القصاص، أو الدية هو: الإمام، يفعل ما يراه صالحًا ومناسبًا في ذلك: فإن رأى الأصلح القصاص من القاتل: فعل، وإن رأى الأصلح أخذ الدية: فعل، وجَعَل تلك الدية في بيت المال؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "السلطان ولي من لا ولي له" وهذا لا ولي له فيلزم أن يكون وليًا له يرى ما تقتضيه المصلحة بشأنه، والمقصد منه: إكرام ذلك اللقيط والأخظ بحقه.
(15)
مسألة: إذا قُطع عضو من أعضاء اللقيط كيده، أو رجله، أو أذنه ونحو ذلك=
إنسان أنه مملوكه، ولم يكن بيده: لم يُقبل إلّا ببيِّنة تشهد أن أمته ولدته في ملكه ونحوه
(16)
(وإن أقرَّ رجل، أو امرأة) ولو (ذات زوج مسلم، أو كافر أنه ولده: لحق به)؛ لأن الإقرار به محض مصلحة للطفل؛ لاتصال نسبه، ولا مضرَّة على غيره فيه، وشرطه: أن يتفرد بدعوته، وأن يمكن كونه منه حرًا كان، أو عبدًا
(17)
، وإذا ادَّعته
= عمدًا عدوانًا: فإنه يحبس القاطع إلى أن يبلغ ويرشد ذلك اللقيط فإن شاء - أي: اللقيط - أن يقتص من الجاني والقاطع: فله ذلك وإن شاء: عفى؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون اللقيط هو المستحق للاستيفاء في ذلك: انتظاره حتى يبلغ ويرشد ليرى رأيه في الجاني، فإن قلتَ: لِمَ يُحبس الجاني هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه قد يهرب.
(16)
مسألة: إذا ادَّعى زيد أن هذا اللقيط مملوكه ورقيقه: فلا تُقبل هذه الدعوى إلّا ببيِّنة تشهد بما قاله: سواء كان بيده أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو ادَّعى أن عمرًا - وهو غير لقيط - مملوكه لا يُقبل إلّا ببيّنة فكذلك الحال هنا والجامع: أن الرق حق على المدَّعى عليه، ونقيصة تلحقه وأولاده ونسبه، والأصل الحرية، فلا تقبل دعوى الرق إلّا ببيِّنة قوية فإن قلتَ: إن كان ذلك اللقيط بيده: فتُقبل دعواه، وإن لم يكن بيده: فلا تقبل إلا ببيّنة تشهد بذلك وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كونه بيده: أنه ملكه؛ لأن اليد لها دلالة قلتُ: إن المدَّعي قد يُمسكه ويستعمله فترة، ويغش الناس بذلك؛ ليثبت أنه تحت يده، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم".
(17)
مسألة: إذا أقرَّ شخص بأن هذا الطفل اللقيط ولده: فإنه يُلحق به بمجرد هذا الإقرار: سواء كان هذا الشخص المقرّ به رجلًا أو امرأة، ذات زوج أو لا، وسواء كان مسلمًا أو كافرًا، حرًا أو عبدًا، بشرطين: أولهما: أن يكون هذا الشخص المقرُّ منفردًا، فإن ادَّعاه اثنان فأكثر: قبل في ذلك من دلَّت البيّنة على دعواه فإن تساوت البيّنات عند المدَّعين: فإنه يعرض على القافة، فإن ألحقته هذه=
المرأة: لم يُلحق بزوجها كعكسه
(18)
(ولو بعد موت اللَّقيط) فيلحقه وإن لم يكن له
= القافة بواحد من المدّعين ألحق به ثانيهما: أن يمكن كون اللقيط من ذلك: الشخص المدَّعي، فإن ادَّعاه من لا يمكن أن يكون منه كأن يدَّعيه من هو أصغر منه سنًا، أو يدَّعيه عقيم: فلا يُلحق به؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن هذا الشخص لو أقرّ لغير لقيط بمال: فإنه يُقبل ويلزم ذلك الشخص أن يُسلِّم ذلك المال للمقرّ له، فكذلك لو أقر بأن هذا اللقيط ولده، والجامع: أن كلًّا منهما فيه مصلحة للمقرّ له؛ فالمال مصلحة للمقرّ له، وادّعاء كونه ولده مصلحة للقيط؛ نظرًا لما في ذلك من اتصال نسبه ووجوب نفقته، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من هذين الشرطين وعدم المضرّة على غيره، وعدم وجود ظاهر يردُّه: وجوب إلحاقه به، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إكرام لهذا اللقيط، وإبعاد تعرّضه للتهم، فإن قلتَ: إذا أقرّت المرأة بأنه ولدها فلا يُقبل إقرارها بمجرده، بل لا بدّ أن تثبت بيّنة على ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إمكانها إقامة البينة على الولادة أن لا يُقبل مجرَّد دعواها، وهو ما ذكره ابن قدامة. قلتُ: هذا بعيد بل المرأة كالرجل في ذلك يُقبل مجرَّد إقرارها به وإن كانت ذات زوج؛ لأنه يمكن أن تكون قد أتت به من زوج سابق أو من وطء شبهة، وهي أحد الأبوين ولا يُقال ذلك مطلقًا، بل يُلحق بها إن أمكن كون ذلك اللقيط قد ولدته، أما إذا لم يمكن: فلا يلحق بها كما سبق بيانه.
(18)
مسألة إذا أقرّت امرأة بأن هذا اللقيط ولدها: فإنه يُلحق بها فقط، ولا يُلحق بزوجها ولو ادَّعت أنه ولد على فراشه إلّا إذا صدقها وأقرَّ مثلها، وكذا: إن أقرَّ رجل بأن هذا اللقيط ولده: فإنه يُلحق به فقط، ولا يُلحق بزوجته، ولو ادَّعى أنه منها إلّا إذا صدَّقته وأقرّت بذلك مثله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون إقرار أحدهما منعزل عن إقرار الآخر: أن إقرار أحدهما لا يسري على الآخر بدون بينة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه حفظ حقوق =
توأم، أو ولد؛ احتياطًا للنسب
(19)
(ولا يتبع) اللقيط (الكافر) المدعي أنه ولده (في دينه إلا) أن يُقيم (بينة تشهد أنه ولد على فراشه)؛ لأن اللقيط محكوم بإسلامه بظاهر الدار، فلا يُقبل قول الكافر في كفره بغير بيِّنة، وكذا: لا يتبع رقيقًا في رقِّه
(20)
(وإن اعترف) اللقيط (بالرق مع سبق مناف) للرق من بيع ونحوه، أو عدم سبقه: لم يُقبل؛ لأنه يُبطل حق الله تعالى من الحرية المحكوم بها: سواء أقرّ ابتداءً لإنسان، أو جوابًا لدعوى عليه
(21)
(أو قال) اللقيط بعد بلوغه: (إنه كافر: لم يُقبل منه)؛ لأنه محكوم
= الآخرين من أن يُعتدى عليها ويُنسب إليها ما لم يكن منهم.
(19)
مسألة: إذا أقرَّ شخص بأن اللقيط الميت ولده: فإنه يُلحق به فيرثه: سواء كان الشخص المقرّ رجلًا أو امرأة، أو كافرًا، وسواء كان للمقرّ توأم، أو ولد، أو لم يكن كذلك؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للنسب وإكرام بني آدم فلزم وجوب الإلحاق، وهذا هو المقصد منه.
(20)
مسألة: إذا أقرّ كافر ذمي بأن هذا اللقيط ولده: فإنه يُلحق به في نسبه فقط دون دينه، ولا حقَّ له في حضانته، ولا يُسلَّم إليه إلّا بعد أن يقيم ذلك الكافر بيّنة تشهد بأن ذلك اللقيط قد وُلد على فراشه وكذا: لو أقرّ رقيق بأن هذا اللقيط ولده: فلا يُقبل إلّا ببيِّنة؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: أن الصبي الناشيء في دار الإسلام أن يكون من أبوين مسلمين، فيحكم عليه بالإسلام؛ نظرًا لظاهر الدار، والأصل في الإنسان الحرية، فلا يُحكم بكفره، أو برقه إلا ببيِّنة تقوى على تغيير ذلك الأصل، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعزاز وإكرام ذلك اللقيط في الدنيا والآخرة بخلاف ما لو حكمنا عليه بالكفر أو الرق ففيه خزي له في الدنيا والآخرة.
(21)
مسألة: إذا أقر اللقيط بأنه رقيق لزيد واعترف بذلك: فإنه لا يُقبل منه ذلك الإقرار ولا الاعتراف: سواء وجد ما يُنافي في إقراره بالرق واعترافه، أو لا، وسواء كان هذا الاعتراف ابتداءً - بأن قال: "إنه ملك لزيد - وصدَّقه المقر،=
بإسلامه، ويُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل
(22)
(وإن ادَّعاه جماعة: قدِّم ذو البيّنة) مسلمًا أو كافرًا، حرًا، أو عبدًا؛ لأنها تظهر الحق وتبيّنه
(23)
(وإلا) يكن لهم بيّنة، أو
= أو كان هذا الاعتراف ورد جوابًا - بأن ادَّعى زيد عليه بالرق فقال ذلك اللقيط: "نعم أنا رقيق له" - فكل ذلك لا يُقبل إلّا إذا ثبتت بينة في ذلك؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل هو الحرية، ولا يُترك ذلك الأصل إلّا ببيِّنة وقرينة تثبت ذلك، وكون ذلك المنبوذ - وهو اللقيط - لا يعرف رقَّ نفسه، ولا حريتها، ولم يوجد شيء يدلّ على ذلك لا يصلح أن تكون بيِّنة على رقه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية هذا اللقيط من أن يؤذي بسبب رقه.
(22)
مسألة: إذا قال اللقيط بعد بلوغه وعقله: إنه كافر: فإنه لا يُقبل منه، بل يُستتاب ثلاثة أيام فإن تاب، وإلا قتل؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المسلم لو ترك الإسلام: لا يُقبل منه، ويُستتاب ثلاثة أيام ثم يُقتل إن لم يعد للإسلام فكذلك هذا اللقيط القائل: إنه كافر يُفعل به ذلك - والجامع: أن كلًّا منهما قد حُكم عليه بالإسلام: إما بإقراره - وهو مكلَّف -، أو بوجوده في دار الإسلام، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مضرة عن هذا اللقيط في الدنيا والآخرة.
(23)
مسألة: إذا ادَّعى ذلك اللقيط جماعة من الأشخاص كل يدّعي بأنه ولده: فإنه ينظر في بيّناتهم، فإذا ثبتت بيّنة قوية تُلحقه بأحد هؤلاء الأشخاص: قُدِّم، وأُلحق به، وهذا مطلق، أي: سواء كان صاحب البيّنة القوية مسلمًا، أو كافرًا، حرًا، أو عبدًا، للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كون البيّنة مظهرة ومبينة وموضحة للحق بعد خفائه: أن يحكم لصاحبها بهذا اللقيط، ويُلحق به، فإن قلتَ: المسلم والكافر، والحر والعبد ليسوا سواء في ذلك فالمسلم أولى من الكافر الذمي، والحر أولى من العبد، وهو قول أبي حنيفة، للمصلحة: حيث إن إلحاقه بالكافر الذمي، وبالعبد=
تعارضت: عرض معهم على القافة (فمن ألحقته القافة به): لحقه؛ لقضاء عمر به بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، وإن ألحقته باثنين فأكثر: لحق بهم
(24)
، وإن ألحقته
= ضرر على اللقيط قلتُ: هذا بعيد؛ لأن كل واحد لو انفرد لصحت دعوته، فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى كالأحرار المسلمين ولا فرق، والضرر الذي ذكرتموه لا يتحقق، لكوننا لا نحكم بكفره، ولا برّقه إلا بدليل آخر، غير دعوى النسب كما ظكره في مسألة (20).
(24)
مسألة: إذا ادَّعى ذلك اللقيط جماعة من الأشخاص، كلٌّ يدَّعي بأنه ولده، ولم توجد بينة لأي واحد منهم أو وُجدت بينة لكل واحد منهم ولكنها تساوت، أو تعارضت فتساقلت: فإن هذا اللقيط يُعرض على القافة مع وجود المدَّعين له، فإذا ألحقته القافة بشخص واحد: لحق به، وإذا ألحقته برجلين وأكثر فإنه يلحقهم جميعًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة مسرورًا فقال: "ألم تري أن مُجزِّزًا نظر إلى أقدام زيد وأسامة فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" وهذا يدل على أن القائف - وهو مجزز المدلجي - يُقبل قوله في إلحاق اللقيط بنسبه. الثانية: قول وفعل الصحابي؛ حيث إنه وقع في عهد عمر أن رجلين قد وطئا امرأة في طهر فقال القائف: قد اشتركا في الولد الذي ولدته تلك المرأة، فجعله عمر بينهما، وحصل ذلك مع علي، فإن قلتَ: لم شرعت القيافة؟ قلتُ للتلازم؛ حيث إنه إذا تعارضت أدلة الأشخاص المدَّعين لهذا اللقيط أو تساوت، وكانت مصلحة اللقيط أن ينتسب، ووجد شبه بين اللقيط وبين بعض المدَّعين بسبب قول أهل الخبرة - وهي القافة - لزم منه قبول قولها؛ فيثبت النسب بأدنى دليل: ولا ينتفي إلّا بأقوى الأدلة وهو مثل الحد في ذلك: لما كان ينتفي بالشبهة وهو أدنى دليل لا يثبت إلّا بأقوى الأدلة، فإن قلتَ: لا حكم للقافة، ويُلحق بالمدَّعين جميعًا، وهو قول جمهور الحنفية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: إن امرأتي=
بكافر، أو أمة: لم يحكم بكفره، ولا رقه
(25)
، ولا يلحق بأكثر من أم و "القافة": قوم يعرفون الأنساب بالشبه، ولا يختص ذلك بقبيلة معيّنة، ويكفي واحد، وشرطه: أن يكون ذكرًا، عدلًا، مجربًا في الإصابة، ويكفي مجرَّد خبره، وكذا: إن وطئ اثنان امرأة بشبهة في طهر، واحد وأتت بولد يمكن أن يكون منهما
(26)
.
= ولدت غلامًا أسود فقال: "هل لك من إبل؟ " قال نعم، قال:"فما لونها؟ " قال حمر، قال:"هل فيها من أورق؟ " قال: نعم، قال:"من أين أتاها ذلك؟ " قال: لعل عرقًا نزع، قال:"وهذا لعلَّ عرقًا نزع" فلم يحكم بذلك بالقافة بل ألحقه به، الثانية: التلازم؛ حيث إن الحكم بالقافة مبني على الشبه والظن والتخمين فلا تثبت القافة ولا يحكم بها؛ لكون الشبه يوجد بين الأجانب وينتفي بين الأقارب، قلتُ: أما الحديث: فهو حجّة عليكم، لأن إنكار الرجل ولده لمخالفة لونه لونه وعزمه على نفيه لذلك: يدل على أن العادة خلافه، وأن في طباع الناس إنكاره؛ لأن ذلك إنما يوجد نادرًا، وإنما ألحقه بالسائل؛ لوجود الفراش - لأن الولد للفراش وللعاهر الحجر - وتجوز مخالفة الظاهر للدليل، ولا يجوز تركه لغير دليل، ولأن ضعفه عن نفي النسب لا يلزم منه ضعفه عن إثباته، أما التلازم: فلا يُسلَّم؛ لأن الظاهر وجود الشبه يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "أين يكون الشبه" - لما قالت: أو ترى ذلك المرأة؟ - فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين".
(25)
مسألة: إذا ألحقت القافة ذلك اللقيط بكافر، أو أمة: فإنه لا يحكم بكفر اللقيط، ولا برقه، ولكن يلحق بهما نسبًا؛ للتلازم؛ حيث لا يلزم من لحوق النسب لحوق الدين والرق، وقد سبق بيان ذلك في مسألة (20).
(26)
مسألة: إذا ألحقت القافة ذلك اللقيط بأكثر من أم: فلا يجوز الحكم به؛ للتلازم؛ حيث يلزم من استحالة كون ولد واحد من أمَّين: عدم جواز إلحاقه بهما، فإن قلتَ: لِمَ جاز الحكم به لرجلين قلتُ: لكونه يمكن أن يكون قد جاء=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= منهما معًا؛ لإمكان اجتماع نطفتي الرجلين في رحم امرأة فيما لو وطيء رجلان امرأة بشبهة في طهر واحد، وأتت بولد يمكن أن يكون منهما، فائدة:"القافة" قوم يعرفون الأنساب بالشبه، ولا يختص ذلك بقبيلة معيّنة، بل كل شخص يعرف الشبه فهو قائف بشرط: أن يكون ذكرًا، عدلًا، مجرّبًا في الإصابة، ويكفي في ذلك واحد، ويكفي مجرَّد خبره بدون بينة منه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الحاكم يُشترط فيه أن يكون ذكرًا عدلًا فكذلك القائف، وكما أنه يكتفي بواحد في الرواية، ويكتفي بخبره فكذلك القائف مثله والجامع: أن كلًّا منهما مخبر عن شيء يعمل به.
هذه آخر مسائل باب "اللقيط" ويليه: كتاب "الوقف".
كتاب الوَقْف
يقال: وقَّف الشيء، وحبسه، وأحبسه، وسبَّله بمعنى واحد، وأوقفه لغة شاذة، وهو: مما اختصّ به المسلمون، ومن القرب المندوب إليها (وهو: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة) على بر أو قربة، والمراد بالأصل: ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، وشرطه: أن يكون الواقف جائز التصرُّف
(1)
(ويصح) الوقف (بالقول
كتاب الوَقْف
وفيه خمس وخمسون مسألة:
(1)
مسألة: الوَقْفُ لغة: مصدر قولك: "وقفتُ الدابة" ومنه قولهم: "وقفت الأرض للمساكين وقفًا": حبستها، والمراد: وقف على تلك الجهة لا ينتفع به في غيرها، وجمعه:"الوقوف"، وقول بعضهم:"أوقفه" لا يصح؛ لأنها لغة رديئة - كما جاء في اللسان (9/ 359) - وهو في الاصطلاح: "أن يقوم جائز التصرُّف بتحبيس الأصل وتسبيل المنفعة" وأتي بعبارة "جائز التصرُّف" لاشتراط: أن يكون الواقف جائز التصرف شرعًا، وهو البالغ العاقل الرشيد المالك ملكًا حقيقيًا، فأخرج بذلك: الصبي، والمجنون، والسفيه، والمحجور عليه، والمكاتب، والمراد بقوله:"تحبيس الأصل": توقيف هذا المال الذي يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كأرض ودار ونحوهما. فلا يُتعرَّض له ببيع ولا تأجير، والمراد بقوله:"وتسبيل المنفعة" أن يجعل الواقف ريع هذه العين الموقفة والمسبَّلة ينتفع به الآخرون من أقرباء وغيرهم على جهة بر، أو معروف، أو قربة، والمراد من ذلك كله: أن يحصل الواقف على أجر عظيم بسبب ذلك، ويخرج هذا الموقوف عن ملك الواقف. (فرع) الوقف مستحب، أي: من القرب المندوب إليها؛ لقواعد الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وافعلوا الخير} و"الخير" عام شامل لكل خير، فيدخل الوقف في ذلك؛ لأن "الخير" اسم جنس معرف بأل، وهو من صيغ=
وبالفعل الدال عليه) عرفًا (كمن جعل أرضه مسجدًا وأذن للناس في الصلاة فيه) أو أذَّن فيه وأقام (أو) جعل أرضه (مقبرة وأذن) للناس (في الدفن فيها) أو سقاية
= العموم، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: أن ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها قائلًا: إني أصبتُ أرضًا بخيبر لم أصب قط مالًا أنفس عندي منه فما تأمرني فيه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت حبست أصلها، وتصدَّقت بها غير أنه لا يُباع أصلها، ولا يُبتاع ولا يُوهب ولا يُورث" قال: فتصدَّق بها عمر في الفقراء وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها ويطعم صديقًا بالمعروف، غير متموِّل فيه، وهذا صريح في استحباب الوقف على الطريقة هذه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرشد إلّا على طاعات وهو دال على منع التصرف في الموقوف، ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: "صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، والوقف والسبيل من باب "الصدقة الجارية" إذا جعله في الفقراء المحتاجين له، الثالثة: فعل الصحابي: حيث إن جابرًا قال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلّا وقف"، فإن قلتَ: لِمَ استحب الوقف؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يُعتبر بابًا من أبواب الخير الذي يستمر في الحياة وبعد الممات؛ إذا كان على وجه القربة بأن وقف ذلك للفقراء والمساكين، فإن قلتَ: إن الوقف غير مشروع، وهو قول القاضي شُريح؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا حبس عن فرائض الله" فلو كان الوقف جائزًا لأدَّى ذلك إلى أن يحول الواقف بين الورثة وبين أخذ نصيبهم المفروض قلتُ: هذا الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته: فإن المراد به إبطال عادة الجاهلية بقصر الإرث على الذكور والكبار، دون الإناث والصغار. تنبيه: قال النووي: "الوقف مما اختصَّ به المسلمون، قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية دارًا ولا أرضًا فيما علمتُ" فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين".
وشرعها لهم؛ لأن العرف جار بذلك، وفيه دلالة على الوقف (وصريحه) أي: صريح القول: (وقفتُ، وحبستُ، وسبَّلت) فمتى أتى بصيغة منها صار وقفًا من غير انضمام أمر زائد (وكنايته: تصدَّقتُ، وحرَّمت وأبَّدتُ)؛ لأنه لم يثبت لها فيه عرف لغوي ولا شرعي (فتشترط النية مع الكناية، أو اقتران) الكناية بـ (أحد الألفاظ الخمسة) الباقية من الصريح والكناية: كتصدقت بكذا صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبَّلة، أو محرمة، أو مؤبَّدة؛ لأن اللفظ يترجح بذلك لإرادة الوقف (أو) اقترانها بـ (حكم الوقف) كقوله:"تصدَّقتُ بكذا صدقة لا تباع ولا تورث"
(2)
(ويُشترط فيه) أربعة
(2)
مسألة: الوقف يصح من الواقف بطريقين: الطريق الأول: القول وهو: صريح القول بالوقف، وكنايته، أما صريحه فكقول الواقف:"وقفتُ هذه الدار" و "حبستُها" و "سبَّلتُها"، فإذا تلفَّظ الواقف بذلك صارت الدار وقفًا من غير حاجة إلى أن ينضم إلى هذه الصيغ شيء زائد كنية، أو قرينة، أو فعل، أما كنايته: فكقول الواقف: "تصدَّقتُ بهذه الدار على المحتاجين" أو "حرَّمتُها علي" أو "أبَّدتُها"، وهذا اللفظ يُشترط فيه: أن يقترن هذا القول بنية الوقف، أو يقترن هذا القول بأحد الألفاظ الخمسة الباقية - من ألفاظ الصريح والكناية - كأن يقول الواقف:"تصدَّقت بهذه الدار صدقة موقوفة" أو "صدقة محبسة"، أو "صدقة مسبَّلة" أو "صدقة محرمة" أو "صدقة مؤيَّدة" أو نحو ذلك، أو يقترن هذا اللفظ بحكم الوقف كأن يقول:"تصدقتُ بهذه الدار صدقة لا تُباع ولا تورث" ونحو ذلك، فإن لم تقترن تلك الألفاظ الكنائية بأحد تلك الأمور الثلاثة: فلا يُعتبر وقفًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من خلوص "وقفت، وحبست، وسبلت" للوقف، وعدم احتمال غيره: لكونها صريحة فيه لا تحتاج إلى انضمام غيرها يقويها، ويلزم من عدم خلوص:"تصدَّقتُ، وحرَّمتُ، وأبَدتُ" للوقف، واحتمال غيره: كونها كنايات عن الوقف تحتاج إلى انضمام غيرها إليها يقويها كاقتران النية بها، أو أيّ لفظ آخر من الصريح أو الكناية، أو اقتران حكم الوقف بها الطريق الثاني: الفعل،=
شروط: الأول: (المنفعة) أي: أن تكون العين ينتفع بها (دائمًا من معيَّن) فلا يصح وقف شيء في الذمّة كعبد، ودار، ولو وصفه كالهبة (ينتفع به مع بقاء عينه كعقار وحيوان) ونحوهما من أثاث وسلاح
(3)
، ولا يصح وقف المنفعة كخدمة عبد موصى له
= وهو: الفعل الدال على الوقف في عرف وعادة الناس كأن يجعل الواقف أرضه مسجدًا ويأذن للناس في الصلاة فيها، أو بناها على هيئة مسجد، أو كتابة لوح بالإذن أو الوقف، أو أذَّن فيه، أو للصلاة أقام للصلاة فيما بناه، أو جعل أرضه على شكل مقبرة، وأذن للناس في الدفن فيها، أو جعل قسمًا من منزله طريقًا يطرقه الناس، أو جعل فيه موضع سقاية، أو موضع تطهير، أو موضع قضاء الحاجة، فكل ذلك يدلّ على الوقف؛ للقياس، وهو من وجوه: أولها: كما أن القول يدل على الوقف - كما سبق - فكذلك الفعل يدل عليه والجامع: الاشتراك في الدلالة على الوقف، ثانيها: كما أن من قدَّم لضيفه طعامًا: فإن هذا يدل على أنه أذن له في أكله فكذلك الفعل يدلّ على الوقف، والجامع: أن الحال يدلّ على المقصود في كل، ثالثها: كما أن البيع ينعقد بدون قول أو لفظ - بل بفعل: وهو: أخذ المثمن، وتسليم الثمن - وهو المسمَّى بالمعاطاة - فكذلك الوقف ينعقد ويتم بالفعل الدال عليه والجامع: أن الحال يدلّ على المقصود في كل فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير الوقف بأي أسلوب أراده الواقف.
(3)
مسألة في الأول - من شروط صحة الوقف - وهو: أن تكون العين الموقوفة يجوز بيعها، ويمكن الانتفاع بها نفعًا مستمرًا مع بقاء تلك العين كالعقارات، والحيوانات، والأثاث، والسلاح ونحو ذلك، وبناء على ذلك: لا يصح الوقف في الذمة، ولا يصح وقف المجهول؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهو حديث ابن عمر الوارد ذكره في الفرع التابع لمسألة (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: "من احتبس فرسًا في سبيل الله. . ." الثانية: السنة التقريرية؛ حيث إن أم معقل جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم =
بها
(4)
، ولا عين لا يصح بيعها كحر، وأم ولد
(5)
، ولا ما لا ينتفع به مع بقائه
= فقالت: إن أبا معقل جعل ناضحه في سبيل الله، وإني أريد الحج أفأركبه؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم:"اركبيه، فإن الحج والعمرة من سبيل الله"، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن ما جاز بيعه، وأمكن الانتفاع به دائمًا هو الذي يأتيه أجره في حياته وبعد موته، وهو المقصد من مشروعية الوقف، الرابعة: القياس، بيانه: كما أنه لا يجوز هبة المجهول، أو ما في الذمة، فكذلك الوقف مثله والجامع: أن كلًّا منهما نقل ملك على وجه الصدقة والهبة.
(4)
مسألة: يصح وقف أيِّ منفعة كأن يوصي زيد بأن عمرًا ينتفع بخدمة عبد له - أي: لزيد -، فيقوم عمر بوقف هذه الخدمة على العاجزين ونحو ذلك، وكأن يوقف منفعة أم ولده في حياته، وكأن يوقف زيد منفعة العين التي استأجرها سنة مثلًا، وكأن يوقف طيبًا يشمه أهل المسجد، ويوقف طيبًا للكعبة، وهو قول الكثير من العلماء، ومنهم ابن تيمية؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه منفعة للموقوف عليه، ولا أثر لقصر مدة المنفعة أو طولها، فإن قلتَ: إنه لا يصح ذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن شرط صحة الوقف: دوام الانتفاع بالموقوف، ويلزم من كون تلك المنفعة لا تدوم: عدم صحة وقفها قلتُ: إن كل منفعة تدوم على حسبها، ولكن الفرق: أن بعضها تدوم دائمًا، وبعضها ينقطع نفعها، وهذا لا أثر له، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل المشترط دوام المنفعة وإن ذهبت العين، أو المشترط دوام منفعة العين ما دامت تلك العين موجودة؟ " فعندنا: الثاني، وعندهم: الأول.
(5)
مسألة: لا يصح وقف عين لا يجوز بيعها كأن يوقف زيد الحر نفسه أو ولده، أو يوقف السيد أم ولده بعد مماته، أو يوقف عينًا مرهونة، أو كلبًا أو خنزيرًا أو سباعًا أو طيورًا لا تصلح للصيد؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يجوز بيع تلك الأشياء فكذلك لا يجوز وقفها والجامع: أن كلًّا من البيع والوقف فيه نقل=
كطعام لأكل
(6)
، ويصحّ وقف المصحف
(7)
، والماء
(8)
، والمشاع
(9)
(و) الشرط الثاني: (أن يكون على بِرٍّ) إذا كان على جهة عامة؛ لأن المقصود منه التقرّب إلى الله تعالى، وإذا لم يكن على بِرٍّ لم يحصل المقصود (كالمساجد، والقناطر، والمساكين) والسقايات، وكتب العلم
(10)
(والأقارب من مسلم وذمِّي)؛ لأن القريب الذمي
= للملك في الحياة، وهذا لا يصح في تلك الأشياء، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ لعدم وجود تسبيل منفعة هنا وهو المقصود من مشروعية الوقف.
(6)
مسألة: لا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقائه دائمًا كالأثمان والطعوم: من ذهب، أو فضة، دراهم، أو دنانير، والمأكولات جميعًا؛ للتلازم؛ حيث إن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهذه الأشياء لا يمكن الانتفاع بها إلا بإتلافها فيلزم عدم صحة وقفها، أي: أنه إذا انتفع بالدراهم وصرفت فإنها تتلف بذلك، ولا يبقى منها شيء، وإذا أكل الأكل: فإنه يذهب، ولا تبقى عينه وهكذا ومثل هذا لا يصح وقفه؛ لمخالفته لحقيقة الوقف.
(7)
مسألة: يصح وقف المصحف ليُقرأ فيه؛ للتلازم؛ حيث إن حقيقة الوقف موجودة فيه؛ فيمكن تحبيس ذلك المصحف، وتُسبَّل منفعته.
(8)
مسألة: يصح وقف الماء؛ للتلازم؛ حيث إن حقيقة الوقف قد وجدت فيه، إذ يُمكن تحبيس الآلة التي يخرج منها الماء كالعين والبئر، ونحوهما وتسبيل منفعة ما يخرج منهما من ماء، وهو دائم.
(9)
مسألة: يصح وقف الملك المشاع بينه وبين غيره؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إن عمر أصاب مائة سهم من خيبر فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فيها فأذن له في وقفها، وهي مملوكه له ولغيره ملكًا مشاعًا، الثانية: القياس، بيانه: كما يجوز بيع المشاع، فكذلك يجوز وقفه والجامع: أن كلًّا منهما عقد يجوز على بعض الجملة.
(10)
مسألة: في الثاني - من شروط صحة الوقف - وهو: أن يكون الوقف على برٍّ عام كالمساجد، والجسور، والمساكين، والغزاة. وكتب العلم: من قرآن، وحديث،=
موضع القربة بدليل: جواز الصدقة عليه، وقفت صفية رضي الله عنها على أخ لها يهودي، فيصح الوقف على كافر معيَّن
(11)
(غير حربي) ومرتد؛ لانتفاء الدوام؛ لأنهما مقتولان عن قرب
(12)
(و) غير (كنيسة) وبيعة، وبيت نار، وصومعة، فلا
وفقه وأصول والسقايات والمقابر، وسبيل الله، وإصلاح الطرق، والمدارس ونحو ذلك أعمال القرب والبر، والخيرات، التي يُرجى فيها الثواب، وبناء من على ذلك لا يصح الوقف على غيره توددًا، أو على ولده خشية بيعه بعد موته وإتلاف ثمنه، أو خشية أن يحجر عليه، ويباع في دينه، أو وقفه رياء وسمعه: فهذا لا ثواب فيه، بل منع من أن يأخذ الورثة حقوقهم، وهذا حرام؛ للتلازم؛ حيث إن كون المقصود من الوقف التقرّب إلى الله تعالى، يلزم منه اشتراط كون الوقف على برٍّ؛ لأنه إذا لم يكن على بر: لم يحصل المقصود الذي من أجله فعل الوقف، بل يكون عليه إثم؛ لكونه لم يبتغ فيه وجه الله تعالى، وهو المقصد منه.
(11)
مسألة يصح أن يوقف الواقف هذا الشيء على مسلم معين، أو كافر ذمي معين، سواء كانا قريبين، أو أجنبيين، ويستمر هذا الوقف على الكافر الذمي بعد إسلامه؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} وهذا يدل على جواز البر بالكافر الذمي، وهو الصدقة عليه، والوقف عليه كالصدقة عليه من باب "مفهوم الموافقة"؛ لعدم الفارق كالمسلمين، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن صفية رضي الله عنها قد وقفت على أخ لها يهودي، فإن قلت: لَمَ شُرع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دعوة إلى الله تعالى.
(12)
مسألة: لايصح الوقف على كافر حربي، ولا على مرتد عن الإسلام، ولو كان قد وقف عليه، ثم ارتدّ: فإنه يمنع عنه هذا الوقف، ويُسلب منه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط دوام الأصل -وهو تحبيسه على الموقف عليه ـ: عدم جواز الوقف على الحربي والمرتد؛ لكونهما غير دائمين؛ حيث إنهما مقتولان عن قرب،
يصحّ الوقف عليها؛ لأنها بُنيت للكفر، والمسلم والذمي في ذلك سواء
(13)
(و) غير (نسخ التوراة، والإنجيل، وكتب الزندقة) وبدع مُضلَّة، فلا يصح الوقف على ذلك؛ لأنه إعانة على معصية، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر شيئًا استكتبه من التوراة، وقال:"أفي ذلك شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم أت بها بيضاء نقية؟ ولو كان أخي موسى حيًا ما وسعه إلّا اتباعي" ولا يصح أيضًا على قطَّاع الطرق، أو المغاني، أو فقراء أهل الذمة أو التنوير على قبر، أو تبخيره، أو على من يقيم عنده، أو يخدمه، ولا وقف ستور لغير الكعبة، (وكذا: الوصية) فلا تصح على من لا يصح الوقف عليه
(14)
(و) كذا (الوقف على نفسه) قال الإمام: "لا أعرف الوقف إلّا ما
ولكون أموالهما مباحة، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حث على الإسلام والدخول فيه.
(13)
مسألة لا يصح للمسلم ولا الذمي أن يوقفا هذا الشيء على كنائس، وبِيَع، وصوامع، وبيوت نار -وهي أماكن متعبَّدات اليهود والنصارى والرهبان والمجوس- ولا على قناديلها، وفرشها؛ للمصلحة: حيث إن الوقف على تلك الأشياء فيه إعانة على إظهار الكفر، وهذا فيه إذلال للإسلام والتقليل من شأنه، فدفعًا لذلك لا يصح، فإن قلت: لِمَ شرع الوقف على الكافر الذمي؟ قلتُ: لا يتعيَّن كون الوقف عليه لأجل دينه، بخلاف ما نحن فيه.
(14)
مسألة: لا يصح الوقف على أي كتاب غير شرعي، فلا يصح الوقف على نسخ التوراة، والإنجيل، ولا على كتب فيها زندقة، أو بدع، أو أهواء، ولا يصح على قطاع الطرق، ولا على الأغنياء، ولا على الفسقة، ولا على أماكن الأغاني والموسيقا، ولا على جميع فقراء أهل الذمة، ولا على طائفة منهم، ولا على شيء فيه بدعة وضلالة كأن يوقف على من يقوم بتنوير قبره بعد موته، أو على من يُبخِّره، أو على من يُقيم عنده، أو يخدمه، ولا يوقف على ستائر على غير الكعبة ونحو ذلك من الضلالات والبدع؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى=
أخرجه لله تعالى، أو في سبيله، فإن وقفه عليه حتى يموت: فلا أعرفه"؛ لأن الوقف إما تمليك للرقبة، أو المنفعة، ولا يجوز له أن يملك نفسه من نفسه
(15)
، ويُصرف في الحال لمن بعده كمنقطع الابتداء
(16)
، فإن وقف على غيره، واستثنى كل الغلَّة، أو بعضها، أو الأكل منه مدَّة حياته، أو مدَّة معلومة: صح الوقف والشرط؛ لشرط عمر رضي الله عنه أكل الوالي منها، وكان هو الوالي عليها، وفعله جماعة من الصحابة
(17)
، والشرط الثالث أشار إليه بقوله:(ويُشترط في غير) الوقف على
الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} حيث حرّم التعاون على كل ما فيه إثم وعدوان، لأن النهي هنا مطلق فيقتضي التحريم، والوقف على هذه الأشياء من باب التعاون على الإثم فيُحرَّم، ويؤيده: إنكار النبي الله صلى الله عليه وسلم على عمر نظره في التوراة، تنبيه: لا تصح الوصية على من لا يصح الوقف عليه مما سبق في المسائل -كما سيأتي في بابها -.
(15)
مسألة: لا يصح أن يوقف على نفسه حتى يموت؛ للتلازم؛ حيث إن الوقف تمليك للرقبة، أو للمنفعة، والوقف على نفسه ليس بأحدهما؛ لأنه لا يمكن أن يُملِّك نفسه من نفسه فيلزم عدم صحته (فرع): لو وقع ووقف على نفسه فقط: فإن هذا الموقوف يُورث بعده؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم صحة وقفه على نفسه: ملكه لهذا الوقف بحاله، فإذا مات دخل مع حقوق الورثة.
(16)
مسألة: إذا وقَّف على نفسه، ثم من بعده على أولاده قائلًا:"وقفتُ ذلك على نفسي، ثم من بعدي على أولادي": فإن ريع الوقف وثمرته ومنفعته تصرف في الحال لمن بعده -وهم أولاده-، لقاعدتينك الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عدم صلاحية نفسه للوقف عليها -كما سبق في مسألة (15) ـ: عدم اعتبارها؛ حيث إن وجودها كعدمها؛ الثانية: القياس، بيانه: كما أنه لو وقَّف على فاسق ومن بعده عدل: فإنه يكون للعدل، فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما جعل من يجوز الوقف عليه بعد من لا يجوز الوقف عليه.
(17)
مسألة: إذا وقَّف على غيره نخلًا مثلًا واشترط الواقف: أن يأخذ كل الغلَّة، أو=
(المسجد ونحوه) كالرباط والقنطرة: (أن يكون على معيَّن يملك) ملكًا ثابتًا؛ لأن الوقف تمليك -فلا يصح على مجهول، كرجل ومسجد، ولا على أحد هذين، ولا على عبد ومكاتب، و (لا) على (ملَك) وجني، وميت (وحيوان، وحمل، وقبر) أصالة، ولا على من سيولد
(18)
ويصح على ولده، ومن يولد له، ويدخل الحمل والمعدوم
بعضها، أو الأكل منه، أو الانتفاع لنفسه، أو لأهله، أو أن ينفع منه صديقه مدة معيّنة، أو مدة حياته: فإن الوقف يصح، وكذلك الشرط؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أنه لو وقَّف مسجداً أو قنطرة كان له الانتفاع بهما بالإجماع فكذلك غيرهما مثلهما والجامع: عدم مخالفة ذلك لحقيقة الوقف، ولا شروطه في كل، الثانية فعل الصحابي؛ حيث إن عمر قد استثنى أكل الوالي منها لما وقَّف وقفه وكان هو الوالي عليه، وكان يلي صدقته، ووقَّف عثمان بئر رومة، وجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين.
(18)
مسألة في الثالث -من شروط صحة الوقف- وهو أن يكون الوقف ـ غير المسجد ونحوه- على معيَّن يملك ملكًا ثابتًا: كأن يقول: "وقَّفت هذا على مسجد كذا، أو على فلان الفلاني"؛ وبناء على ذلك: فلا يصح أن يوقف على غير معيَّن كقوله: "وقَّفت هذا على رجل أو مسجد" ولا يصح أن يوقف على مجهول كقوله: "وقَّفت على أحد المسجدين أو على أحد هذين" ولا يصح الوقف على من لا يملك كقوله: "وقَّفت على عبد" أو يقول: "وقَّفتُ على ملك من الملائكة، أو على جني، أو على شخص ميت" أو يقول: "وقَّفت على حيوان، أو على قبر فلان يخصِّصه به" أو يقول: وقَّفتُ على من سيولد لفلان" فلا يصح ذلك أصالة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الوقف تمليك، ويقتضي الدوام: وجوب الوقف على من يملك ملكًا ثابتًا كالبيع ويلزم من عدم ذلك: عدم صحة الوقف على من لا يملك أصلًا، أو ملكه غير مستقر ـكما مثَّلنا- (فرع): يصح الوقف على الحمل كقوله: "وقَّفت على ما في بطن هذه المرأة" وهو قول ابن عقيل، وابن تيمية =
تبعًا
(19)
، الشرط الرابع: أن يقف ناجزًا، فلا يصح مؤقتًا، ولا معلَّقا
(20)
إلّا بموت
(21)
، وإذا شرط: أن يبيعه متى شاء، أو يهبه، أو يرجع فيه: بطل الوقف
ويصح الوقف على المكاتب؛ للتلازم؛ حيث إن هذا المولود يملك ملكًا ثابتًا كإرثه وكذلك المكاتب: فلزم صحة الوقف عليه، فإن قلت: لا يصح الوقف على هذين، وهو ما ذكره المصنف هنا؟ قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.
(19)
مسألة: يصح الوقف على ولده، ومن يولد له، ويدخل الحمل والمعدوم عند وقت الوقف تبعًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون المحمول به، والمعدوم يملكان ملكًا ثابتًا: صحة الوقف عليهما.
(20)
مسألة في الرابع -من شروط صحة الوقف- وهو: أن يقف وقفًا ناجزًا، فلا يصح مؤقتًا بأن يقول الواقف:"وقَّفت هذه الدار على فلان سنة، ثم يرجع إليّ" أو يقول: "وقَّفتها ولي أن أرجع متى شئت"، ولا معلقًا على شرط في الحياة كأن يقول الواقف:"إن قدم زيد فداري هذه وقف" أو يقول: "إذا وُلد لي ولد فهي وقف" وهكذا؛ للقياس؛ بيانه كما أن الهبة يشترط فيها أن تكون ناجزة، فلا تؤقَّت، ولا تعلَّق بشيء فكذلك الوقف مثلها والجامع: أن كلًّا منهما نقل للملك فيما لم يبن على التغليب والسراية، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن الوقف من الطاعات التي يُرجى فيها الثواب، وهذا يكون ناجزًا معزومًا عليه.
(21)
مسألة: يصح أن يُعلَّق الوقف بالموت، ويكون هذا الوقف يؤخذ من ثلث مال الواقف بعد موته كالوصايا كأن يقول الواقف:"هذه الدار وقف بعد موتي" فتكون وقفًا بعد موت الواقف ولكن بشرط: ألا تزيد عن الثلث كسائر الوصايا؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، بيانه: كما أن الهبة والصدقة المطلقة يصحّ أن يُعلقهما الواهب والمتصدِّق بعد الموت فكذلك الوقف مثله، والجامع: أن كلَّا منهما تبرُّع معلَّق بالموت، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عمر أوصى، فكان في وصيته: "هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث أن ثمغا =
والشرط، قاله في "الشرح"
(22)
(لا قبوله) أي: قبول الوقف، فلا يُشترط ولو كان على معين
(23)
(ولا إخراجه عن يده)؛ لأنه إزالة ملك يمنع البيع، فلم يُعتبر فيه ذلك
صدقة، والعبد الذي فيه، والسهم الذي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة وسق الذي أطعمني محمد صلى الله عليه وسلم، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهله" فدل قوله:"إن حدث به حدث" أن الوقف يصح معلَّق بالموت، ويكون حكمه حكم الوصية، فإن قلتَ: لا يصح الوقف المعلَّق بالموت، وهو قول كثير من العلماء ومنهم أبو يعلى، تلميذه أبو الخطاب وإذا فعل تكون وصية لا وقف؛ للقياس؛ بيانه كما لا يصح الوقف إذا علَّق على شرط في الحياة ـ كما سبق في مسألة (20) - فكذلك لا يصح الوقف المعلَّق بالموت، والجامع: أن كلًّا منهما قد عُلِّق على شرط قلتُ: إن الهبة المعلَّقة بالحياة لا تصح، بينما الهبة المعلَّقة بالموت تصح، والوقف مثله، والوصية أوسع من الوقف -كما سيأتي ـ والحقيقة: أن الخلاف هنا أقرب ما يكون إلى أنه لفظي؛ لأن أصحاب المذهب الأول قالوا: إن الوقف المعلَّق بالموت يصح، ويكون وصية، ولو تدبَّرت أدلة الفريقين لوجدت هذا.
(22)
مسألة إذا شرط الواقف: أن يبيع الوقف متى شاء، أو يهبه، أو يرجع فيه، أو: له الخيار في هذا الوقف: فإنه يبطل الوقف والشرط؛ للتلازم؛ حيث إن مقتضى عقد الوقف أن يكون ناجزاً ناقلاً للملك من الواقف إلى الله تعالى، وهذا الشرط يُنافي هذا المقتضى: فيلزم بطلان الوقف والشرط معًا، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن عقد الوقف لا يصلح فيه التردُّد.
(23)
مسألة: لا يُشترط قبول الوقف: سواء كان الوقف على غير معين كالفقراء، والمساكين، أو كان الوقف على من لا يتصوَّر منه القبول كالوقف على المساجد، والقناطر والجسور، أو كان الوقف على آدمي معيَّن، فإن قبل الموقوف عليه ذلك الوقف فحصل القبول، وإن لم يقبله انتقل إلى من بعده ولا يبطل بالرد؛ للقياس؛ وهو من وجهين: أولهما: كما أن النوع الثاني - وهي الطبقة الثانية - لا يُشترط له=
كالعتق
(24)
وإن وقف على عبده، ثم المساكين: صُرف في الحال لهم
(25)
وإن وقف
القبول، فكذلك النوع الأول -وهي الطبقة الأولى من الموقوف عليهم- لا يُشترط له القبول والجامع: أنه في كل منهما المقصود فيه تحصيل الثواب من الله تعالى، ثانيهما: كما أن العبد يعتق ولا يُشترط قبوله، فكذلك الموقوف عليه لا يُشترط قبوله والجامع: أنه في كل منهما إزالة ملك تمنع البيع والهبة والميراث، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير الوقف، وعدم إحراج الموقوف عليهم، فإن قلتَ: يشترط القبول إذا كان الوقف على آدمي معين، وهو رأي كثير من العلماء؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الهبة من شرطها قبول الموهَب فكذلك الوقف على آدمي معيَّن من شرطه قبوله والجامع: أن كلًّا منهما تبرّع لآدمي قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الوقف لا يختص لمعين، بل يتعلق به حق من يأتي بعده في المستقبل، فيكون الوقف على جميعهم إلا أنه مرتَّب فصار بمنزلة الوقف على الفقراء الذي لا يبطل برد واحد منهم، ولا يقف على قبوله، والهبة لمعين على خلاف ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فألحقناه بالطبقة الثانية، والعبد إذا أعتق لأنهما أكثر شبهًا به، وهم ألحقوه بالموهَب؛ لأنه أكثر شبهًا به عندهم، وهو المسمى بقياس الشبه.
(24)
مسألة: لا يُشترط في الوقف: إخراجه عن يده بل يبقى تحت يده وتصرُّفه ولا مانع من ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عقد الوقف: لزومه وزوال ملكه عن الواقف بمجرَّد اللفظ يمنع البيع، وهذا يلزم منه أن إخراجه عن يده ليس شرطًا لصحته مثل: العتق: الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عمر قد وقَّف وكان وقفه بيده حتى مات، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على الواقفين، والاستيثاق.
(25)
مسألة: إذا وقف على من لا يجوز الوقف عليه، ثم على من يجوز الوقف عليه: كأن يوقف على عبده، ثم على المساكين: فإن الوقف يصح، ويُصرف في الحال=
على جهة تنقطع كأولاده، ولم يذكر مآلًا، أو قال:"هذا وقف" ولم يُعيِّن جهة: صحّ، وصرف بعد أولاده لورثة الواقف نسبًا على قدر إرثهم وقفًا عليهم؛ لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس ببرِّه، فإن لم يكونوا: فعلى المساكين
(26)
.
على المساكين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود من لا يصح الوقف عليه: عدم اعتباره، فوجوده كعدمه.
(26)
مسألة: إذا وقف زيد دارًا على جهة تنقطع كأولاده فقط ولم يذكر مآلًا: كأن يقول الواقف - وهو زيد -: "هذه الدار وقف على أولادي" فقط، ولم يقل:"ثم هو من بعدهم وقف على كذا"، أو قال:"هذه الدار وقف، أو صدقة موقوفة" ولم يذكر الجهة الموقوفة عليها: فإن هذا يصح، فإذا مات أولاده -في الصورة الأولى-: فإن ريع هذه الدار الموقفة يُصرف لورثة الواقف ـوهو زيدـ نسبًا ـ فلا يدخل أولاد الأولاد- يُقسَّم بين أولئك الورثة على قدر إرثهم وقفًا عليهم: غنيهم وفقيرهم سواء، فإن لم يوجد للواقف -وهو زيدـ ورثة: فإنه يصرف على الفقراء والمساكين وقفًا عليهم، والفقراء الذين هم من أقارب الواقف أولى بأن يصرف هذا الريع عليهم من الفقراء الأجانب؛ إلا إذا وُجد فقير أجنبي مضطر فهو أولى من الفقراء الأقارب جميعًا، وكذلك في الصورة الثانية - وهي: إذا قال: "هذا وقف" ولم يُعيِّن جهة: فإن ريع الوقف يُصرف على الفقراء والمساكين كما سبق تفصيله؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "صدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة" ثانيهما قوله: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" حيث إن هذا يدل على أن ورثة الواقف أولى من غيرهم في هذا الريع، ثم الفقراء من أقاربه، الثانية: التلازم؛ حيث إن كون مصرف الوقف البر، وكون الأقارب أولى الناس ببره يلزم منه صرف ريع الوقف لأقاربه الفقراء، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن أقارب الإنسان هم أرحم به من غيرهم غالباً، فيكونون أولى الناس بصدقات النوافل والمفروضات.
فصل: (ويجب العمل بشرط الواقف)؛ لأن عمر رضي الله عنه وقف وقفًا وشرط فيه شروطًا، ولو لم يجب اتباع شرطه: لم يكن في اشتراطه فائدة (في جمع) بأن يقف على أولاده، وأولاد أولاده، ونسله وعقبه، (وتقديم): بأن يقف على أولاده مثلًا يقدم الأفقه، أو الأدين، أو المريض ونحوه (وضد ذلك): فضد الجمع الإفراد: بأن يقف على ولده زيد، ثم أولاده، وضد التقديم التأخير: بأن يقف على ولد فلان بعد بني فلان (واعتبار وصف وعدمه) بأن يقول: على أولاده الفقهاء، فيختص بهم، أو يطلق فيعمهم وغيرهم (والترتيب) بأن يقول: على أولادي، ثم أولادهم، ثم أولاد أولادهم (ونظر): بأن يقول: "الناظر فلان، فإن مات ففلان"؛ لأن عمر رضي الله عنه جعل وقفه إلى حفصة تليه ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها (وغير ذلك) كشرط أن لا يؤجَّر، أو قدر مدَّة، الإجارة، أو أن لا ينزل فيه فاسق، أو شرير، أو متجوه ونحوه
(27)
، وإن نزل مستحق تنزيلًا شرعيًا: لم يجز صرفه بلا موجب
(27)
مسألة: يجب أن يُعمل بكل ما يقوله الواقف في وقفه من شروط إذا لم يكن فيه مخالفة للشارع: فإن اشترط الواقف أن يجمع الموقوف عليهم كأن يقول: "هذه الدار وقف على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي وعقبي" فيجب أن يُساوى بين المستحقين فلا فرق بين الأولاد وأولاد الأولاد في النصيب؛ وإن اشترط الواقف تقديم بعض الموقوف عليهم على بعض؛ نظرًا لاعتبار وصف ونحوه: كأن يقول: "هذه الدار وقف على أولادي بشرط" أن يقدم الأفقه، أو الأصلح، أو المريض، أو الأفقر، ولو بدون اعتبار وصف كأن يقول:"هذه وقف على أولادي، ثم على زيد بن فلان"، أو اشترط الإفراد كأن يقول الواقف:"هذه الدار وقف على ولدي زيد فقط، ثم أولاده" أو اشترط الترتيب كأن يقول الواقف: "هذه الدار وقف على ولد زيد بعد بني عمرو" أو يقول: "هذه الدار وقف على أولادي، ثم أولادهم، ثم أولاد أولادهم"، وتضمَّن ذلك اشتراط تقديم وتأخير، أو اشترط تعيين الناظر كأن يقول: "الناظر على هذا الوقف=
شرعي
(28)
(فإن أطلق) في الموقوف عليه (ولم يشترط) وصفًا: (استوى الغني والذكر وضدهما)، أي: الفقير والأنثى؛ لعدم ما يقتضي التخصيص
(29)
(والنظر) فيما إذا لم
فلان، فإن لم يصلح أو مات: ففلان"، أو اشترط شروطًا أخر كأن يشترط: عدم تأجير الوقف، أو تأجيره مدَّة أو اشترط أن لا ينزل فيه فاسق، أو منافق أو شرير أو صاحب جاه، أو متعال على غيره، أو مبتدع ونحو ذلك من الشروط: فإنه يُعمل بذلك بكل دقة؛ لقاعدتين: الأولى: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن عمر قد وقف وقفًا، واشترط فيه شروطًا كثيرة، واشترط أن تقوم عليه حفصة، ثم يليه ذو الرأي من أهله -كما قد سبق ذكره في مسألة (21) ـ واشترط ابن الزبير أن تسكن في وقفه المردودة من بناته، ولم يُنكر عليهما أحد من الصحابة العالمين بذلك، وهذا متضمِّن لموافقة أكثر الصحابة، فلو لم تكن تلك الشروط مُتَّبعة ويُعمل بها: لم يكن فيها فائدة، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الشارع إذا اشترط شرطًا يجب العمل به فكذلك الواقف يُعمل بشروطه، والجامع: أن المشترط في كل يعلم أن المصلحة تكمن في تلك الشروط، وهذا هو المقصد منه. (فرع): لا يجوز لأي فاسق أن ينزل في الأماكن الموضوعة للبر والطاعات كالأعيان الموقوفة، والمدارس ونحو ذلك: سواء كان فسقه ظاهرًا أو باطنًا، وسواء نص على اشترط ذلك الواقف أو لا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} حيث إن الإذن لهؤلاء بالنزول في هذه الأماكن فيه إعانة لهم، وهذا لا يجوز؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم.
(28)
مسألة: إذا نزل شخص من الموقوف عليهم في المكان الموقوف وهو موافق لشروط الواقف: فلا يجوز إخراجه وصرفه عن ذلك بلا بيّنة شرعية؛ للتلازم؛ حيث إن نزول ذلك الشخص من حقه: فيلزم عدم أخذ حقه إلَّا ببيَّنة تقوى على ذلك.
(29)
مسألة: إذا أطلق الواقف في وقفه ولم يشترط وصفًا في الموقوف عليه: فإنه=
يشترط النظر لأحد، أو شرط لإنسان ومات: فالنظر (للموقوف عليه) المعيَّن؛ لأنه ملكه وغلَّته له، فإن كان واحدًا: استقلَّ به مطلقًا، وإن كانوا جماعة: فهو بينهم على قدر حصصهم، وإن كان صغيرًا أو نحوه: قام وليه مقامه فيه
(30)
، وإن كان الوقف على مسجد، أو من لا يمكن حصرهم كالمساكين: فللحاكم، وله أن يستنيب فيه
(31)
(وإن وقف على ولده) أو أولاده (أو ولد غيره، ثم على المساكين: فهو لولده)
يستوي في ذلك الغني والفقير، والذكر والأنثى، والعالم والجاهل، ممن يدخلون تحت عموم لفظ الواقف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم التخصيص بوصف أو شرط: التساوي في الاستحقاق؛ إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر فيه، وهو المقصد منه.
(30)
مسألة: إذا لم يشترط الواقف ناظرًا معينًا، أو شرط شخصًا ومات: فإن الذي يقوم بالنظر على الوقف هو الموقوف عليه إن كان آدميًا أو مجموعة يمكن حصرهم: فإن كان الموقوف عليه واحدًا كأن يقول: "هذه الدار وقف على ولدي زيد" فالنظر يكون لزيد، فيكون مستقلًا بهذا الوقف من حيث أخذ ريعه والنظر فيه، وإن كان الوقف على جماعة كأن يقف على أولاده، وأولاد زيد: فإن النظر يكون لهم جميعًا على قدر حصصهم، وإن كان الوقف على صبي، أو مجنون أو سفيه: فإن النظر يكون لوليهم، وهذا الناظر يقوم بما يحتاجه الوقف من حفظ، وتعمير ما انهدم وتحصيل ريع وصرفه في جهاته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ريع الوقف وملكه لهذا الموقوف عليه: أن يكون ناظرًا له؛ لكونه أعلم بمصالحه، أكثر اهتمامًا وهو به من غيره، وهذا هو المقصد منه.
(31)
مسألة: إذا لم يُعيِّن الواقف ناظرًا، أو عينه فمات وكان الموقوف عليه غير آدمي كالوقف على المساجد، والقناطر، أو لا يمكن حصرهم: كالفقراء والمساكين: فإن الذي يقوم بالنظر هو الحاكم -وهو القاضي-، وله أن يُقيم من يثق به - ديانة- نائبًا عنه في النظر على ذلك الوقف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الحاكم=
الموجود حين الوقف (الذكور والإناث) والخناثى: لأن اللفظ يشملهم (بالسوية)؛ لأنه شرَّك بينهم، وإطلاقها يقتضي التسوية، كما لو أقرَّ لهم بشيء
(32)
، ولا يدخل فيهم الولد المنفى باللعان؛ لأنه لا يُسمَّى ولده
(33)
(ثم) بعد أولاده لـ (ـــولد بنيه) وإن
ولي من لا ولي له: أن يقوم بالنظر على مثل ذلك الوقف، أو يقوم نائبه بذلك.
(32)
مسألة إذا وقف على ولده، أو أولاده، أو ولد غيره بأن قال الواقف "هذه الدار وقف على ولدي، أو على أولادي، أو لى ولد عمرو" فإن ريع هذه الدار أو سكناها يكون لأولاده الموجودين حين نطقه بالوقف والمحمول بهم في البطون، ويستوي في ذلك: الذكر والأنثى، والخنثى، فمثلًا لو كان ريع الدار ستمائة وله ولدان ذكران، وبنت: فإن كل واحد يأخذ مائتين؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ يلزم من إطلاق الوقف على أولاده، وتشريكه بينهم في العبارة: أن يقتسموا الريع بالسوية، الثانية: القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما لو أقر بأن عنده لأولاده ستمائة: فإن كل واحد يأخذ مثل نصيب الآخر لا فرق بين ذكر وأنثى فكذلك إذا وقف عليهم والجامع: أن كلًّا منهما يُسمَّى إقرارًا بشيء، دون تمييز، ثانيهما: كما أن ولد الأم في الميراث لا فرق بين ذكورهم وإناثهم؛ حيث قال تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} ، فهم قد تساووا فيه، فكذلك الأولاد الموقوف عليهم لا فرق بين ذكورهم وإناثهم، والجامع: أن كلًّا منهم قد شُرِّكوا بالحق (فرع): إذا قال الواقف "هذا وقف على ولدي" أو قال "هذا وقف على أولادي": فالعبارتان سواء؛ للتلازم؛ حيث إن المفرد المنكر المضاف إلى معرفة -وهي ياء المتكلم- من صيغ العموم وكذلك الجمع المنكر المضاف إلى معرفة من صيغ العموم.
(33)
مسألة: إذا قال الواقف: "هذا وقف على أولادي" فإنه لا يدخل معهم الولد المنفي باللعان كأن يتهم الواقف امرأته بالزنا، وأن هذا الولد الذي أتت به ليس بولده، فيتلاعنان عند القاضي وينفيه الواقف، فهذا الولد الذي نفاه الواقف لا=
سفلوا؛ لأنه ولده ويستحقونه مرتبًا: وجدوا حين الوقف أو لا (دون) ولد (بناته) فلا يدخل ولد البنات في الوقف على الأولاد إلَّا بنص أو قرينة؛ لعدم دخولهم في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (كما لو قال: على ولد ولده، وذريته لصلبه) أو عقبه أو نسله، فيدخل ولد البنين: وجدوا حالة الوقف أو لا، دون ولد البنات إلّا بنص أو قرينة
(34)
، والعطف بـ "ثمَّ" للترتيب، فلا يستحق البطن الثاني
يدخل في أولاده أصلاً؛ إذ لا يُنسب إليه، ولا يرثه؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من عدم تسميته ولده: عدم دخوله في الأولاد الموقوف عليهم.
(34)
مسألة: إذا قال الواقف: "هذا وقف على أولادي": فإن جميع أولاده: من بنين وبنات يدخلون هنا، ويستحقون حقًا من ريع الوقف بالسوية ـكما سبق في مسألة (32) -، ثم من بعد أولاده هؤلاء: يكون ريع الوقف لأولاد بنيه: وهكذا وإن سفلوا، يستحقون ريع الوقف مرتبًا بعد آبائهم بطنًا بعد بطن، أو الأقرب فالأقرب: سواء وجدوا حين الوقف، أو لم يوجدوا، ولا يدخل هنا: أولاد بنات الواقف، ولا أولاد بنات بنيه، ولا بنات بني بنيه؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} وقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} فإن لفظ "الولد" في الآيتين تناول ولد البنين دون ولد البنات، ويُحمل المطلق من كلام الآدمي إذا خلا عن القرينة على المطلق من كلام الله تعالى، ويُفسَّر بما يُفسَّر به، الثانية: القياس، بيانه: كما أن الواقف لو قال "وقفتُ هذا على ولد ولدي وذريته لصلبه، أو عقبه أو نسله": فيدخل ولد البنين فقط، دون ولد البنات فكذلك إذا قال: "هذا وقف على أولادي يدخل أولاده، وأولاد بنيه، دون أولاد بناته والجامع: أن الولد حقيقة هو الولد من الصلب، لا الولد الذي من صلب آخر لذلك قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا
…
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فإن قلت: إن ولد البنات يدخل في لفظ "الأولاد"، وهو قول بعض العلماء؛=
شيئاً حتى ينقرض الأول إلّا أن يقول: من مات عن ولد فنصيبه لولده
(35)
، والعطف
للتلازم؛ حيث إن البنات أولاده فيلزم أن يكون أولادهن أولاد أولاده حقيقة قلتُ: هذا لا يُسلَّم؛ لأن ولد ابنتك ليس بولدك لا حقيقة ولا مجازًا، بل هو ولد ابنتك، وفرق بينهما من حيث اللغة، والأحكام، أما من حيث اللغة: فاللغوي لا يُطلق على ولد بنته بأنه ولده، بل يقول: إنه ولد بنته، بينما يقول لولد ابنه: إنه ولده، وأما من حيث الأحكام: فإن ولد الولد يحجب الأخوة من الإرث، ويُعدُّ من عاقلة الإنسان، أما ولد البنت فلا يحجب الأخوة، ولا يُعدُّ من العاقلة، وكذا: فإن الجد يزوج بنت ابنته، ولكنه لا يزوج بنت بنته إلّا بتوكيل منها، وهكذا، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في ولد البنت هو هل ولد أب البنت أم لا؟ ".
(35)
مسألة إذا وقف على أولاده ثم على أولاد أولاده بطنًا بعد بطن: فإن ريع الوقف يكون لأولاده الموجودين حين الوقف وهم مثلًا زيد وعمرو وبكر ـوهو البطن الأول-، فإذا مات زيد مثلًا: فإن نصيبه يكون لولده محمد مثلًا، وإن لم يمت عمر وبكر -وهما عما محمد-، أي: وإن لم ينقرض البطن الأول، وهذه رواية عن أحمد رجَّحها ابن تيمية؛ للمصلحة: حيث إن ذلك أيسر وأسهل، وأكثر أجرًا من اشتراط انقراض البطن الأول بكامله؛ حيث يؤدِّي إلى أن يستحوذ واحد على جميع ريع الوقف، وقد يطول عمره، وفي ذلك حرمان ورثة زيد من الاستفادة من ريع ذلك الوقف، وهذا مخالف للمقصد من مشروعية الوقف وهو: الحصول على أكثر ما يُقدر عليه من الأجر، فإن قلتَ: إنه إذا وقف على أولاده ثم على أولاد أولاده بطنًا بعد بطن: فإن ريع الوقف يكون للبطن الأول فقط حتى ينقرض، ولا يستحق البطن الثاني إلا بعد انقراض الأول، إلا أن يُصرِّح الواقف قائلًا:"من مات عن ولد فنصيبه لولده"؛ للتلازم؛ حيث إن "ثم" تفيد العطف مع الترتيب؛ فيلزم منه: أن يكون البطن الثاني بعد انقراض كل=
بـ"الواو" للتشريك
(36)
(ولو قال: على بنيه، أو بني فلان: اختصَّ بذكورهم)؛ لأن لفظ "البنين" وضع لذلك حقيقة قال تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}
(37)
(إلا أن يكونوا قبيلة) كبني هاشم، وتميم، وقضاعة (فيدخل فيه النساء)؛ لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها (دون أولادهن من غيرهم)؛ لأنهم لا ينتسبون إلى القبيلة الموقوف عليها
(38)
(والقرابة) إذا وقف على قرابته، أو قرابة زيد (وأهل بيته وقومه)،
البطن الأول ويلزم من التصريح بغير ذلك: حكمه، قلتُ: هذا التفريق مخالف للمصلحة التي ذكرناها فيما سبق، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع المصلحة".
(36)
مسألة: إذا قال الواقف: "هذا وقف على زيد وعمرو" فإن ريع الوقف يُقسم بينهما بالسوية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون "الواو" لمطلق الجمع والتشريك: أن يشتركا في ريع الوقف بالسوية.
(37)
مسألة: إذا وقف شخص على بنيه، أو على بني زيد من الناس: فإن ريع الوقف يختص بالبنين فقط دون البنات والخناثى، وإذا وقف على بناته أو على بنات زيد من الناس: فإن ريع الوقف يختص بتلك البنات، دون الذكور؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون لفظ "البنين" يختص بالذكور: عدم دخول الإناث، ويلزم من كون لفظ "البنات" يختص بالإناث: عدم دخول الذكور؛ لأن الله تعالى فرّق بينهما قائلًا: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} .
(38)
مسألة إذا وقف شخص على قبيلته، أو على قبيلة بني تميم، أو بني هاشم ونحوهم: فإن أبناء وبنات وذكور وإناث ونساء وخناثى تلك القبيلة يدخلون في هذا الوقف بأن يأخذ كل واحد نصيبًا كما أخذ الآخر، ولكن لا يدخل أولاد النساء الذين آباؤهم من غير تلك القبيلة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون اسم "القبيلة" شاملًا للذكر وللأنثى: أن يدخل جميع من ينتسب إلى تلك القبيلة من الذكور والإناث، والخناثى، ويلزم من كون أولاد بنات تلك القبيلة لا ينتسبون =
ونسباؤه (يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه و) أولاد (جده و) أولاد (جد أبيه) فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى، ولم يعط قرابة أمه، وهم بنو زهرة شيئًا، ويستوي فيه الذكر والأنثى، والكبير والصغير، والقريب والبعيد، والغني والفقير؛ لشمول اللفظ لهم، ولا يدخل فيهم من يخالف دينه
(39)
،
إلى تلك القبيلة الموقوف عليها: عدم دخولهم في الوقف.
(39)
مسألة: إذا وقف زيد على قرابته، أو وقف على قرابة عمرو، أو وقف على أهل بيته، أو وقف على قومه، أو وقف على نسبائه، أو وقف على آله: فإنه يُعطى من ريع الوقف جميع من يُعرف بأنه قريب لزيد -وهو الواقف-: سواء كان قريبًا من جهة أبيه، أو جهة أمه، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الشافعي، ويستوي في ذلك: الذكر، والأنثى، والكبير والصغير، والقريب للواقف والبعيد عنه، والغني والفقير، يُقسم ريع الوقف على الجميع بالتساوي على حسب ذلك الريع، وعلى ما يراه الناظر لذلك الوقف إلّا من يُخالف الواقف في دينه: فلا يُعطى من وقفه: فإن كان الواقف مسلمًا: لم يدخل في قرابته كافرهم، وإن كان الواقف كافرًا: لم يدخل في قرابته المسلم منهم؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل هذا امتثل للأمر قائلًا: "يا بني كعب بن لؤي، يا بني مرَّة" ففعله هذا يدل على أن هؤلاء يُطلق عليهم لفظ "الأقربين" وإن كانوا بعيدين، الثانية: التلازم؛ حيث إن اسم "القرابة" يشمل كل قريب، ويتناوله في عمومه فيلزم دخول هؤلاء، ويلزم عدم دخول الكافر؛ لكونه لا يقصد في الوقف الثالثة فعل الصحابي؛ حيث إن أبا طلحة وقف على أقربائه فدخل فيه حسَّان وأُبي، ومعلوم: أن بين "أُبي" و "أبي طلحة" ستة أجداد، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المقصد من الوقف هو صنع المعروف للآخرين؛ طمعًا في الحصول على الأجر والثواب، وهذا يُحصِّله كل قريب، فإن قلتَ: إنه إذا وقف بتلك العبارات: فإنه يدخل الأقرباء القريبون=
وإن وقف على ذوي رحمه: شمل كل قرابة له من جهة الآباء والأمهات والأولاد؛ لأن "الرحم" يشملهم
(40)
، والموالي يتناول المولى من فوق وأسفل
(41)
(وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو) تقتضي حرمانهن: عمل بها) أي: بالقرينة؛ لأن دلالتها كدلالة اللفظ
(42)
(وإذا وقف على جماعة يمكن حصرهم) كأولاده، أو أولاد
وهم: أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه فقط، فلا يُعطى من ريع الوقف غير هؤلاء، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشم بهم ذوي القربى، ولم يعط قرابة أُمِّه، وهم بنو زهرة شيئًا منه، فكذلك لا يُعطون من الوقف، قلتُ: إن إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم بعض قرابته في سهم الغنيمة لا يمنع تعميم عطاء الواقف جميع قرابته من الوقف؛ لكون المقصد من الوقف هو: أن يتحصَّل الواقف على الأجر، وهذا لا يختلف فيه القريب في القرابة والبعيد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف فيما إذا خصَّص الشارع أناسًا بالعطاء هل يمنع من تعميم العطاء في غير هذا الموضع" فعندنا: لا، وعندهم: نعم.
(40)
مسألة: إذا وقف زيد على ذوي رحمه: بأن قال: "هذا وقف على ذوي رحمي": فإنه يُعطى من ريع الوقف جميع قرابة زيد من جهة آبائه، وأمهاته، وأولاده باتفاق، ولو كانوا متجاوزين أربعة بطون؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لفظ "الرحم": شمول ذلك لكل قريب؛ لأنه يشملهم جميعًا.
(41)
مسألة: إذا وقف زيد على مواليه كأن يقول: "هذا وقف على مواليي": فإن جميع الموالي يُعطون من ريع ذلك الوقف: سواء كانوا موالٍ من فوق -وهم الذين أعتقوه ـ أو موال من أسفل -وهو الذي أعتقهم-، ويُعطى كل واحد منهم نصيبًا مثل نصيب الآخر، لا فرق بين الذكر والأنثى والخنثى؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون لفظ "الموالي" عامًا شموله لجميع من يُطلق عليه مولى.
(42)
مسألة: إذا وُجدت قرينة تدل على أن الواقف أراد إدخال الإناث كأن يقول: =
زيد، وليسوا قبيلة:(وجب تعميمهم والتساوي) بينهم؛ لأن اللفظ يقتضي ذلك، وقد أمكن الوفاء به، فوجب العمل بمقتضاه
(43)
، فإن كان الوقف في ابتدائه على من يمكن استيعابه، فصار ممن لا يمكن استيعابه كوقف علي رضي الله عنه: وجب تعميم من أمكن منهم، والتسوية بينهم (وإلا) يمكن حصرهم واستيعابهم كبني هاشم، وتميم: لم يجب تعميمهم؛ لأنه غير ممكن و (جاز التفضيل) لبعضهم على بعض؛ لأنه إذا جاز حرمانه: جاز تفضيل غيره عليه (والاقتصار على أحدهم)؛ لأن مقصود الواقف: برُّ ذلك الجنس، وذلك يحصل بالدفع إلى واحد منهم
(44)
، وإن وقف
"هذا وقف على أولادي -وفيهم بنات- ومن مات منهم فنصيبه لولده" فإنه يعمل بالقرينة، ويدخل الإناث، وكذلك إذا وجدت قرينة دالة على أن الواقف أراد حرمانهن: كأن يقول: "هذا وقف على أولادي وأولادهم من صلبي" أو "على من ينتسب إلي": فإنه يُعمل بتلك القرينة، فلا يدخل الإناث هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ظاهر لفظ الواقف في الصورة الأولى: دخول الإناث، ويلزم من ظاهره في الصورة الثانية: إخراج الإناث وهذا يُعتبر من لوازم الألفاظ، والعمل بالظاهر، ولا فرق بين دلالة القرينة ودلالة اللفظ.
(43)
مسألة: إذا وقف زيد وقفًا على جماعة يمكن حصرهم واستيعابهم بالوقف كأن يوقف على أولاده، أو أولاد عمرو فقط، أو مواليه، أو موالي عمرو -من ليسوا بقبيلة-: فإنه يجب على الناظر أن يُعمِّم عليهم ريع ذلك الوقف، وأن يقسمه بينهم بالتساوي: الأنثى كالذكر، والصغير كالكبير -كما سبق بيانه-؛ للتلازم؛ حيث إن إمكان استيعابهم، والوفاء بذلك: يلزم منه: أن يُعمل عليه، لوجوب العمل بمقتضى لفظ الواقف فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إيصال البر إلى أهله بدون مشقة.
(44)
مسألة: إذا وقف زيد وقفًا على جماعة يمكن حصرهم واستيعابهم، وبعد ذلك صاروا لا يمكن حصرهم واستيعابهم، أو وقف وقفًا على قبيلة ابتداء كبني تميم =
مدرسة، أو رباطًا ونحوهما على طائفة: اختصَّت بهم، وإن عيَّن إمامًا ونحوه: تعيَّن والوصية في ذلك كالوقف
(45)
.
فصل: (والوقف عقد لازم) بمجرَّد القول، وإن لم يحكم به حاكم كالعتق؛ لقوله عليه السلام:"لا يُباع أصلها، ولا يوهب ولا يورث" قال الترمذي: "العمل على هذا الحديث عند أهل العلم"
(46)
فـ (ــلا يجوز فسخه) بإقالة ولا غيرها؛ لأنه
أو على بلد أو منطقة، أو على المساكين، والفقراء: فإنه لا يجب على الناظر: أن يُعمِّم ريع الوقف عليهم جميمًا، بل يُعطى منه من يمكن عطاؤه بدون مشقة، فيُفضّل، ويُقتصر في العطاء من الوقف على من يمكن عطاؤه، دون من يشق عطاؤه، ويُراعى في ذلك الأحق منهم؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} : الثانية: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" حيث إن هذا عام لكل شيء شق العمل به: فإنه يُعمل بما يقدر عليه؛ لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه، الثالثة: التلازم؛ حيث إن مقصود الواقف هو بر جنس تلك المجموعة من القبيلة، أو البلد أو المساكين، أو الفقراء فيلزم إجزاء ذلك بإعطاء بعض منهم؛ لحصول الدفع، والأجر في ذلك، وهذا هو المقصد منه.
(45)
مسألة إذا وقف شخص مدرسة، أو رباطًا على طائفة الناس، أو وقف من مسجدًا وعيّن له إمامًا، أو مؤذنًا، أو اشترط أيّ شرط لا يُخالف أحكام الشريعة: فإن كل ذلك يُعمل به: فتكون المدرسة والرباط خاصين بتلك الطائفة، ويتعيَّن الإمام والمؤذن على حسب شرط الواقف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تخصيصه المدرسة، والرباط لهؤلاء الناس، أو الإمام والمؤذن: أن يُعمل به؛ لأنه من شروط الواقف، وشرط الواقف يجب العمل به ـكما سبق- (تنبيه): يجب أن يُعمل على ألفاظ الموصي كما يُعمل على ألفاظ الواقف، وسيأتي بيانه في كتاب "الوصايا".
(46)
مسألة: الوقف عقد لازم يقع بمجرَّد أحد الطريقين اللَّذين يصح الوقف من =
مؤبَّد
(47)
، (ولا يُباع) ولا يُناقل به
(48)
(إلا أن تتعطَّل منافعه) بالكلية كدار انهدمت،
الواقف بهما، وهما: القول الصريح، والكناية أو الفعل الصادر من الواقف -كما سبق في مسألة (2) - وإن لم يحكم به حاكم -وهو القاضي- ويكتبه في صكٍ، فلا يحتاج إلى ذلك كله، بل يكفي كتابة ذلك بيده، أو يمليه على غيره بشهادة عدل أو نحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعمر لما أوقف أرضًا له بخيبر: "إن شئتَ حبستً أصلها وتصدَّقتَ بها، غير أنه لا يُباع أصلها، ولا يُبتاع ولا يُوهب، ولا يُورث" وهذا يلزم منه لزوم عقد الوقف، بمجرَّد قول الواقف أو فعله الدال على أنه وقف، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو أعتق عبدًا له: فإنه يقع عتقه، ويكون ذلك العبد حرًا بمجرد العتق بلا إذن حاكم، فكذلك الوقف يقع بمجرَّد القول بلا إذن حاكم، والجامع: أن كلًّا منهما تبرُّع أخرجه المالك لا دخل لأحد به، وهو يمنع الهبة والبيع وأيَّ تصرُّف فيهما فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير وتوسيع على فاعلي الطاعات.
(47)
مسألة: لا يجوز للواقف، ولا الغيره: أن يفسخ الوقف، أو ينقضه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون عقد الوقف عقدًا لازمًا مؤيَّدًا: عدم جواز فسخه أو نقضه لا من الواقف ولا من غيره، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع التلاعب والعبث بالطاعات، وأبواب الخير والبر.
(48)
مسألة: لا يجوز للواقف ولا لغيره أن يبيع العين الموقوفة، ولا يُبدله بغيره ولا يهبه لغيره، ولو وقع ذلك: فلا يصح؛ للسنة القولية: حيث قال صلى الله عليه وسلم: "غير أنه لا يُباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يُوهب" فنهى عن بيع الوقف، وهبته، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم والفساد وتبديله بغيره كبيعه فلا يصح مثل بيعه؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتَ: للمصلحة؛ وهي ما ذكرناها في مسألة (47). (فرع): إذا وقف زيد وقفًا على الفقراء والمساكين، أو =
أو أرض خربت، وعادت مواتًا، ولم تمكن عمارتها، فيُباع؛ لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد - لمّا بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نُقب -:"أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل" وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان كالإجماع، ولو شرط الواقف: أن لا يُباع إذًا: ففاسد (ويُصرف ثمنه في مثله)؛ لأنه أقرب إلى غرض الواقف، فإن تعذَّر مثله: ففي بعض مثله، ويصير وقفًا بمجرَّد الشراء، وكذا: فرس حبيس لا يصلح لغزو (ولو أنه) أي: الوقف (مسجد) ولم ينتفع به في موضعه، فيُباع إذا خربت محلَّته (وآلته) أي: ويجوز بيع بعض آلته، وصرفها في عمارته
(49)
(وما فضل عن
على أولاده أو غيرهم، ثم أعسر زيد -وهو الواقف- فإنه يأخذ من ريع وقفه بالمعروف، وهو أولى به؛ للمصلحة: حيث إن المقصود بالوقف هو: البر بالآخرين من أجل تحصيل الثواب، وهو أولى بذلك إذا افتقر؛ سدًا لحاجته، وإكرامًا له من تكفف الناس؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"إبدأ بنفسك ثم بمن تعول".
(49)
مسألة: إذا تعطَّلت منافع الوقف بالكلية، كأن وقف دارًا فانهمدت، أو أرضًا فماتت، أو وقف فرسًا فصار لا يصلح للغزو، أو وقف مسجدًا فانهدم، أو خربت محلَّته وانتقل من كانوا حوله، ولم يُصل فيه إلّا نادرًا، أو كانت آلة المسجد لا تنفع لشيء: فإنه يجوز لناظر الوقف، أو للحاكم: أن يبيع ذلك الوقف من دار، وأرض، وفرس، ومسجد، وآلته، ويجوز بيع بعض ذلك لعمارة البعض الآخر،، ويجوز مناقلته ويشتري بثمنه في مثل العين الموقوفة كدار أو أرض أخرى، أو فرس، أو مسجد آخر ونحو ذلك وهذا مطلق، أي: سواء اشترط الواقف عدم بيعه أو لا؛ لقواعد: الأولى: قول الصحابي؛ حيث إن عمر قد أمر بنقل مسجد في الكوفة إلى مكان آخر، ولم ينكر ذلك أكثر الصحابة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن بيعه وشراء شيء ينفع الواقف، ويتحصَّل على الأجر الذي قصده من وقفه، أو استبداله بشيء آخر منه مصلحة للواقف والموقوف عليهم، وهذا لا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يخفى على أحد، الثالثة التلازم؛ حيث يلزم من النهي عن إضاعة المال: لزوم بيعه وشراء غيره يُحصِّل مقصود الواقف؛ لكون ذلك أحفظ له، ويلزم من الحرص على تنفيد لفظ الواقف: أن يُشترى بثمن الوقف ما هو مثله؛ أو بعض مثله؛ لتحصيل غرض الواقف أو ما يقرب منه على حسب الإمكان، الرابعة: القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أن الشخص لو اشترى أضحية بثمن أضحية قد عيّنها: فإن الشاة المشتراة الثانية تكون أضحية بمجرّد شرائها، فكذلك لو اشترى الناظر شيئًا بدلًا عن الوقف الذي تعطّلت منافعه: فإنه يكون وقفًا بمجرَّد الشراء والجامع: أن المشتري هو وكيل في الشراء فقط، وللاحتياط؛ لئلا ينقضه بعد ذلك لا من يرى وقفه، ثانيهما: كما يجوز بيع جميع الوقف عند الحاجة إلى بيعه: فإنه من باب أولى بيع بعضه مع بقاء البعض الآخر من الوقف، والجامع: مصلحة الوقف في كل، والمقصد من ذلك واضح كما سبق. (فرع): إذا لم تتعطَّل منافع الوقف بالكلية، ولكنها قلَّت، وكان غيره أنفع وأكثر ريعًا على أهل الوقف: فيجوز أيضًا بيع الوقف وشراء ما هو أنفع منه وأكثر ريعًا ومناقلته بما هو أنفع منه بشرط: أن الذي يفعل ذلك هو ناظر الوقف المعيَّن من جهة الواقف، أو من جهة الحاكم، وهو قول كثير من العلماء، واختيار ابن تيمية وابن القيم؛ للقياس؛ بيانه: كما يجوز بيع ومناقلة الوقف إذا تعطَّلت منافعه بالكلية فكذلك يجوز فعل ذلك إذا قلَّت تلك المنافع، والجامع: مصلحة الواقف والموقوف عليهم وهذه المصلحة هي المقصد منه، فإن قلتَ: لا يجوز ذلك، للاستصحاب؛ حيث إن الأصل تحريم البيع فيُعمل بذلك، حتى يرد ما يُغيِّر الحالة، وكون الريع قليلًا لا يصلح أن تكون قرينة تغيِّر ذلك الأصل؛ لكونه قد أمكن تحصيل الانتفاع قلتُ: هذا بعيد؛ لأن مقصود الواقف هو تحصيل الأجر والثواب من هذا الوقف فكلَّما كان الأجر أكثر كلَّما كان هو مقصود الواقف، ولا شكَّ أن=
حاجته) من حصره، وزيته، ونفقته، ونحوها:(جاز صرفه إلى مسجد آخر)؛ لأنه انتفاع به في جنس ما وُقَّف له (والصدقة به على فقراء المسلمين)؛ لأن شيبة بن عثمان الحجبي كان يتصدَّق بخُلقان الكعبة، وروى الخلَّال بإسناده أن عائشة أمرته بذلك، ولأنه مال الله تعالى لم يبق له مصرف فصُرف إلى المساكين
(50)
، وفضل موقوف على معيَّن استحقاقه مقدَّر يتعيَّن إرصاده ونصَّ فيمن وقف على قنطرة فانحرف الماء: يُرصد؛ لعله يرجع
(51)
، وإن وقف على ثغر فاختل: صرف في ثغر مثله، وعلى قياسه
كامل المنافع أحب إلى الواقف من ناقصها؛ نظرًا لكثرة الأجر والثواب في الكامل، دون الناقص، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض لفظ الواقف ومقصده فأيُّهما المقدم؟ " فعندنا: يُقدَّم مقصده، وعندهم: يُقدَّم لفظه. (فرع ثان) يجب على الحكّام والقضاة وولاة الأمر أن يتصرَّفوا بتلك الأوقاف المعطَّله، وهي كثيرة جدًا في أنحاء البلاد، فيبيعوها، ويجعلوا أثمانها فيما ينفع فقراء المسلمين، وبذلك تعمر الأراضي والدور الخربة، وينتفع فقراء المسلمين.
(50)
مسألة: إذا وقف شخص مسجدًا، وفضل عن حاجته من فرشه، أو زيته، أو نفقته، أو خشبه، أو شيء من بنائه: فإنه يُصرف إلى مسجد آخر محتاج إلى مثل هذه الأمور، أو تباع ويُتصدَّق بثمنها على الفقراء والمساكين؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي، حيث إن عائشة قد أمرت من اختصّ بحجابة الكعبة بأن يبيع ما فضل من ثياب الكعبة، ويتصدَّق بثمنها في سبيل الله والمساكين، الثانية: التلازم، حيث يلزم من عدم وجود المصرف الذي نصَّ عليه الواقف: أن يُصرف فيما ماثله، أو غيره مما يُحصِّل الأجر والثواب؛ لأنه مال قصد به وجه الله تعالى، كالوقف المنقطع المنافع، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مصلحة للواقف وللمسلمين جميعًا.
(51)
مسألة: إذا وقف زيد دارًا على عمرو وعين مقدار ما يُعطى من ريع تلك الدار كل سنة وفضل شيء من ذلك الريع: بأن قال الواقف ـوهو زيد-: "هذه الدار=
مسجد، ورباط، ونحوهما
(52)
، ولا يجوز غرس شجرة، ولا حفر بئر بالمسجد
(53)
،
وقف على عمرو، ويُعطى من ريعها كل سنة مائة درهم" وكان ريع الدار مائة وخمسين: فإنه يجب على الناظر أن يصرف ما زاد عن المائة إلى الفقراء والمساكين، ووجوه الخير مما يقرب من مصرف ما نص عليه الواقف؛ للمصلحة حيث إن مقصد الواقف هو تكثير الأجر والثواب في الوقف، وهذا يحققه لا سيما إذا عرفنا أن بقاء ما بقي من الريع -وهو الخمسون في كل عام ـ يُفسد ذلك الريع بسبب تراكمه مع أن الواقف محتاج إليه، فإن قلتَ: إن ما فضل وزاد على المعين -وهو في المثال خمسون- يُرصد ويحفظ، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن ذلك أحوط، فقد يحتاج الوقف إلى إصلاح فيُصرف على إصلاحه من هذا المرصود والمحفوظ، قلتُ: هذه مصلحة محتملة فقد لا تتحقق فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض المصلحتين" فقدمنا المصلحة الغالبة والمحققة لغرض الواقف، وقدموا المصلحة المحتملة احتمالًا بعيدًا.
(52)
مسألة: إذا وقف على شيء فاختلّ وفسد: فإن ريع هذا الوقف يُصرف على ما يماثله فمثلًا: لو قال الواقف: "وقفت هذه الدار يُصرف ريعها وأجرتها على الثغر الفلاني -وهو حراسة حدود المسلمين-" أو قال: "يُصرف ريعها وأجرتها على المسجد الفلاني، أو على الرباط الفلاني، أو على السقاية الفلانية، فاختل وفسد الموقوف عليه: فإن ذلك الرَّيع والأجرة تُصرف على ما يُماثل الموقوف، فيُصرف في تلك الأمثلة على ثغر آخر، وعلى مسجد آخر، أو على رباط آخر، أو على سقاية أخرى على حسب القدرة؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يُحصِّل غرض الواقف تقريبًا: فلزم ووجب فعله؛ لمصلحة الواقف، وهذا هو المقصد منه.
(53)
مسألة: إذا وقف شخص مسجدًا: فلا يجوز له ولا لغيره أن يغرس شجرة، أو أن يحفر بئرًا في ذلك المسجد إذا لم يكن في هذا الغرس أو الحفر مصلحة، وفيه تضييق على المصلين، أما إن اقتضت المصلحة غرس شجرة أو حفر بئر، ولم =
وإذا غرس الناظر، أو بنى في الوقف
(54)
من مال الوقف أو من ماله، ونواه للوقف: فللوقف، قال في "الفروع": ويتوجَّه في غرس أجنبى أنه للوقف بنيته
(55)
.
يوجد تضييق: فيجوز فعل ذلك؛ للمصلحة: حيث إن غرس الغرس والحفر فيه مفسدة تضييق على المصلِّين: فلم يجز لذلك، وإذا كان فيه مصلحة، ولم يكن فيه تضييق: فيجوز؛ تحقيقًا لتلك المصلحة.
(54)
مسألة: إذا قال الواقف: "هذه الدار وقف يُصرف ريعها على كذا وكذا" وجعل الناظر عليها زيدًا، ثم غرس أو بنى ذلك الناظر -وهو زيدـ في تلك الدار الموقوفة من مال الوقف -وهو ريع الدار-: فإن ذلك الغرس والبناء للوقف وأجره وثوابه للواقف: وهذا مطلق، أي: سواء نواه الناظر، أو لم ينوه؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كون المال مال الواقف: أن يكون الغرس والبناء تابعًا للوقف، وأجره للواقف؛ لكونه من ماله وريعه.
(55)
مسألة: إذا وقف شخص دارًا يُصرف ريعها على كذا وكذا، ثم بنى أو غرس ناظرها في تلك الدار الموقوفة من غير مال الوقف، أو فعل ذلك أجنبي: فإن ذلك البناء والغرس لفاعله إن نواه له، وإن لم ينوه له: فهو للوقف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نيّته: أن يكون تابعًا له؛ عملًا بالنية، ويلزم من عدم نيته: أن يكون ذلك البناء للوقف؛ لأنه صاحب الأصل، فيتبعه ما وضع فيه بعد ذلك.
هذه آخر مسائل كتاب: "الوقف"، وهو آخر المجلد الثالث من كتاب:"تيسير مسائل الفقه شرح الروض المربع، وتنزيل الأحكام على قواعدهما الأصولية، وبيان مقاصدها ومصالحها، وأسرارها وأسباب الاختلاف فيها لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: عبد الكريم بن علي بن محمد النملة نفع الله به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الرابع وأوله باب: "الهبة والعطية والهدية".