المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الجنايات جمع جناية، وهي لغة: التعدِّي على بدن، أو مال، - تيسير مسائل الفقه شرح الروض المربع - جـ ٥

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

‌كتاب الجنايات

جمع جناية، وهي لغة: التعدِّي على بدن، أو مال، أو عرض، واصطلاحًا: التعدِّي على البدن بما يُوجب قصاصًا، أو مالًا

(1)

، ومن قتل مسلمًا عمدًا عدوانًا: فسق، وأمره إلى الله إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له

(2)

‌كتاب الجنايات والجِراح

‌بيان حقيقة الجنايات والجراح، وأنواعها، وحكم القصاص من المشتركين في القتل ومن المنفرد أو المتسبّب به

وفيه سبع وعشرون مسألة:

(1)

مسألة: الجنايات جمع جناية، وهي لغة: التعدِّي على نفس أو مال أو عرض، تقول:"جنيتُ على زيد" إذا تعدَّيت على خاصية من خواص زيد: إما نفسه وبدنه أو ماله، أو عرضه، وهو في الاصطلاح: التعدِّي على البدن والنفس بما يُوجب قِصاصًا، أو مالًا، فإن قلتَ: لِمَ قصرت الجنايات هنا على ما يخص البدن والنفس مع أنه عام لكل جناية؟ قلتُ: ثبت هذا بالعرف؛ وسمَّى الفقهاء الجناية على الأموال: غصبًا، ونهبًا، وسرقة، وإتلافًا، والجراح جمع جراحة وهي: ما تتسبَّب في إزهاق الروح، أو مبينة للعضو، فإن قلتَ: لِمَ عنون بعض الفقهاء بـ "الجنايات" وبعضهم عنون بـ "الجراح"؟ قلت: كل واحد من الفقهاء نظر إلى اعتبار لم ينظر إليه الآخر: فمن عنون بـ "الجنايات: قال هذا أولى؛ لشمولها للجناية بالجرح وغيره كالقتل بمثقَّل، وبمسموم، وبسحر، ومن عنون بـ "الجراحة" قال: هذا أولى؛ لكون الجراحة أغلب طرق القتل، لذلك حسن الجمع بين اللفظين "الجنايات" و "الجراح".

(2)

مسألة: القتل بغير حق، حرام ومن فعله: فإنه يفسق؛ لكونه قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي =

ص: 5

وتوبته مقبولة

(3)

(وهي) أي: الجناية: ثلاثة أضرب: (عمد: يختص القَوَد به)

= حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} فحرم قتل النفس بغير حق؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم وقال:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وهذا عقاب، ولا يُعاقب إلّا على فعل حرام، فيلزم: أن يكون القتل عمدًا حرامًا، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" الثالثة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على تحريم القتل بغير حق، ومن فعله عمدًا: فإن يفسق، وأمره إلى الله: إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، فإن قلتَ: لِمَ حرم القتل العمد؟ قلتُ: للمصلحة الضرورية؛ وهي حفظ نفوس المسلمين، ولولا هذا، وعقوبة القاتلين التي ستأتي لأهلك الناس بعضهم بعضًا، ولما استمرّت الحياة، ولانقطعت السبل، ولذلك كان في عقوبة القصاص والقطع ونحو ذلك مما سيأتي: حياة للناس، وحماية لهم من إفناء بعضهم بعضًا أو إضرار بعضهم ببعض قال:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ولو تدبّر المسلم هذه الآية فقط؛ لأدرك أن منزلة الإسلام، وعدالته، وإنصافه لا تساويها عدالة ولا منزلة، ولا إنصاف.

(3)

مسألة: القاتل عمدًا إذا تاب توبة نصوحًا: فإن هذه التوبة تُقبل إن شاء الله؛ لقاعدتين؛ الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} فيدخل القتل فيما دون الشرك والكفر، فيلزم أن تقبل توبة التائب منه إن شاء الله تعالى، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} والقتل ذنب من الذنوب فيدخل في عموم ذلك، فيغفره إن تاب القاتل، وشاء الله تعالى؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إن رجلًا قتل مائة رجل ظلمًا، ثم سأل: هل له من توبة؟ فدُلَّ على عالم، فسأله فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة، ولكن أخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة، فاعبد الله فيها، فخرج =

ص: 6

والقَوَد: قتل القاتل بمن قتله (بشرط: القصدْ) أي: أن يقصد الجاني الجناية (و) الضرب الثاني: (شبه عمد و) الثالث: (خطأ) روي ذلك عن عمر، وعلي رضي الله عنهما

(4)

(ف) القتل (العمد: أن يقصد من يعلمه آدميًا معصومًا فيقتله بما يغلب على

= تائبًا، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فبعث الله إليهم مَلَكًا، فقال: قيسوا ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر فجعلوه من أهلها"، وهذا واضح الدلالة على قبول توبة التائب من القتل العمد، فإن قلتَ: لا تُقبل توبته، وهو محكي عن ابن عباس؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وهي آخر ما أنزل، ولم يرد ما ينسخها، وورودها بلفظ الخبر يدل على عدم جواز نسخها؛ لأن الخبر من الله لا يكون إلا صدقًا قلتُ: عنه جوابان: أولهما: إن الآية عامة، وقد خصصتها الآية الأخرى التي ذكرناها؛ والسنة القولية؛ وتخصيص الكتاب بالكتاب، وتخصيص الكتاب بالسنة جائز، ثانيهما: على فرض عدم التخصيص: فإن الآية محمولة على من لم يتب، أو على بيان أن هذا جزاؤه إن لم يغفر الله له، وإذا تطرّق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. فائدة التوبة النصوح لها شروط، هي: أن يُقلع عمّا كان يفعله، وأن يندب على فعله، وأن لا يعود إليه، وأن يكره العودة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب مع الكتاب" و "تعارض الكتاب مع السُّنّة".

(4)

مسألة: القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أولها: "العمد" وهو يختص بالقَوَد به إذا كان القاتل قاصدًا له. ثانيها: شبه العمد، ثالثها: الخطأ، وسيأتي بيانها فيما يلي من المسائل؛ القاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إلا أن دية الخطأ شبه العمد: ما كان بالسوط والعصا: مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" فسمَّى هنا قسمًا ثالثًا، وبين حكمه، وسيأتي، الثانية: قول =

ص: 7

الظن موته به) فلا قصاص إن لم يقصد قتله، ولا إن قصده بما لا يقتل غالبًا، وللعمد تسع صور

(5)

: إحداها: ما ذكره بقوله: (مثل: أن يجرحه بماله مور) أي:

= الصحابي؛ حيث ورد هذا التقسيم عن عمر، وعثمان، وعلي، فإن قلتَ: لا يوجد شبه العمد، وهو رواية عن مالك، وجعله تابعًا للعمد؛ للاستصحاب؛ حيث إنه لا يوجد في كتاب الله إلا العمد والخطأ فقط، ويبقى الزائد - وهو شبه العمد - على النفي الأصلي، فيُستصحب ذلك ويُعمل به قلتُ: ما ورد في السنة التي ذكرناها زيادة على ما جاء في الكتاب يُعمل بها؛ لأن العمل بالزيادة على النصّ واجب إذا ثبتت، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السُّنّة مع الاستصحاب" فائدة المراد بالقَوَد: قتل القاتل بمن قتله؛ لكون القاتل يُقاد بحبل، فيمكن لأولياء المقتول: أن يُمسكوه بذلك الحبل: فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه، وإن شاؤوا عفوا عن القود والقصاص وأخذوا الدِّية، فإن قلتَ" لِمَ حُصر ذلك في هذه الأقسام الثلاثة؟ قلت: لأن الجاني إن لم يقصد عين المجني عليه: فهو الخطأ، وإن قصدها؛ فإن كان بما يقتل غالبًا فهو العمد، وإن كان بما لا يقتل غالبًا: فهو شبه العمد.

(5)

مسألة: القتل العمد: هو: "أن يقوم شخص ويقصد من يعلمه آدميًا معصومًا، فيقتله بشيء يغلب على الظن موته به" أو تقول: "هو: قصد الفعل العدوان، وعين الشخص المجنى عليه بما يقتل قطعًا أو غالبًا" فيشترط للقتل العمد شروط: أولها: أن يقصد قتله، ثانيها: أن يقتله بما يقتل غالبًا، ثالثها: أن يقصد آدميًا معصومًا، فإذا توفّرت تلك الشروط: فإن ذلك هو القتل العمد، الموجِب للقود والقِصاص، أما إن لم يقصد قتله، أو قصده بما لا يقتل غالبًا، أو قصد بما يقتل غالبًا آدميًا غير معصوم فليس هذا بقتل عمد، وستأتي أمثلة للقتل العمد في الصور التالية: وستأتي أيضًا شروط وجوب القصاص، وشروط استيفائه في بابين منفصلين.

ص: 8

نفوذ (في البدن) كسكين، وشوكة، ولو بغرزة بإبرة ونحوها، ولو لم يداوَ مجروح قادر جرحَه

(6)

الثانية: أن يقتله بمثقَّل، كما أشار إليه بقوله:(أو يضربه بحجر كبير ونحوه) كَلُتٍّ، وسندان، ولو في غير مقتل

(7)

، فإن كان الحجر صغيرًا: فليس بعمد إلا إن

(6)

مسألة: في الأولى - من صور القتل العمد - وهي: أن يقوم زيد بجرح عمرو بآلة لها مور ونفوذ ومروق في جسمه مثل: السكين، والشوكة، والإبرة، وأيِّ شيء جارح مكوِّن من الحديد، أو الذهب، أو الفضة أو النحاس، أو الرصاص، أو من الخشب، أو القصب، أو العظم، أو فصده بآلة حادة، فترك شدَّ فصاده، فمات عمرو بسبب هذا الفعل: فهذا قتل عمد يجب على زيد القود والقصاص: سواء كان الجرح كبيرًا، أو صغيرًا، وسواء قام المجروح القادر بعلاج جُرحه، أو لم يقم بذلك؛ وسواء حصل المور أو لا، وسواء كان في مقتل أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حصول ذلك بآلة محدَّدة لهامور في الجسم: أن يغلب على الظن تعمُّده قتله؛ لأن المحدَّد لا يكون إلا كذلك غالبًا، ويلزم من وجود مقاتل خفية في الجسم، وجرحه جرحًا صغيرًا بمحدَّد له سراية ومور: أن يثبت تعمُّده قتله كما لو جرحه به جرحًا كبيرًا، ويلزم من ظاهر موت عمرو بفعل زيد: أن يكون هذا قتل عمد، وإن ترك القادر ذلك الجرح بدون علاج.

(7)

مسألة: في الثانية - من صور القتل العمد - وهي: أن يقتل زيد عمرًا بمثقل كبير: كأن يضربه بحجر كبير، أو يُلقيه عليه أو يلقي عليه حائطًا أو سقفًا، أو سندانًا، أو قطعة كبيرة من الحديد: فمات عمرو بسبب ذلك: فهذا قتل عمد يجب على زيد القود والقصاص: سواء كان قد ضربه بالحجر الكبير في مقتل، أو لا وسواء كان المجنى عليه في حالة ضعف أو لا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} حيث إن هذا عام؛ حيث إن "مَنْ" الشرطية من صِيغ العموم، فيدخل فيه المقتول بالمثقَّل؛ لكونه مقتولًا ظلمًا، وقال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وهو عام أيضًا؛ لأن "القتلى" جمع =

ص: 9

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= معرّف بأل، وهو من صيغ العموم، فيدخل فيه المقتول بالمثقل؛ لكونه مقتولًا بغير حق، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يُؤدّى، وإما يُقاد"، وهذا عام؛ لأن فيه "مَنْ" الشرطية وهي من صيغ العموم، فيدخل فيه المقتول بالمثقَّل؛ لكونه مقتولًا بغير حق، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث إن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بين حجرين" وهذا نص في المسألة؛ حيث إن اليهودي قد رضَّ رأس جارية على قطعة من ذهب - وهو الأوضاح - بحجر كان معه حتى ماتت، فقتله النبي عليه السلام بشيء مماثل لذلك؛ لأن الجزاء من جنس العمل، ولو لم يكن القتل بالمثقَّل قتلًا عمدًا موجبًا للقصاص: لما فعل النبي عليه السلام ذلك، الرابعة: القياس؛ بيانه: كما أن القتل بالمحدَّد قتل عمد يوجب القصاص، فكذلك القتل بالمثقَّل، والجامع: أن كلًّا منهما يقتل غالبًا، فإن قلتَ: إن القتل بالمثقَّل ليس بقتل عمد، فلا يوجب القصاص، وهو قول أبي حنيفة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إلا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط، والعصا، والحجر مائة من الإبل" فأوجب في قتيل الحجر الدية، دون القصاص، وسماه عمد الخطأ، وليس بعمد، الثانية: التلازم؛ حيث إن عدم اعتبار العمل بنفسه، وعدم إمكان ضبطه بما يقتل غالبًا؛ نظرًا لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير - كما سبق - يلزم منه: أن يضبط بما يجرح، والمثقَّل لا يجرح وإن قتل، فلا يوجب القصاص - قلتُ: أما الحديث: فهو محمول على الحجر الصغير - الذي لا يُوجب القصاص وإن قتل كما سيأتي بيانه - بدليل قرنه بالعصا والسوط، وأما التلازم: فهو ممنوع عندنا؛ لأن القتل العمد يحصل بما غلب على ظننا أنه استعمل آلة قاتلة، فيجب فيه القصاص، ولا يصح ضبطه بالجرح - كما سبق بيانه في مسألة (6) - فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض السنة القولية؛ التي: =

ص: 10

كان في مقتل، أو حال ضعف قوة من مرض، أو صِغر، أو كِبر، أو حَر، أو برد، ونحوه، أو يعيده به، (أو يلقي عليه حائطًا) أو سقفًا، ونحوهما

(8)

(أو يلقيه من شاهق) فيموت

(9)

، الثالثة: أن يلقيه بجحر أسد، أو نحوه، أو مكتوفًا بحضرته، أو في مضيق بحضرة حية، أو يُنهشه كلبًا، أو حية، أو يلسعه عقربًا من القواتل

= ذكروها مع السنة القولية والفعلية التي ذكرناهما" وأيضًا: "الاختلاف في القتل العمد هل يضبط بما يجرح، أو بما يغلب على الظن القتل به؟ " فائدة:"اللَّت" هو نوع من أكبر السلاح و "السندان" آلة ثقيلة من الحديد يعمل عليها الحداد صناعته.

(8)

مسألة إذا ألقى زيد على عمرو حجرًا صغيرًا، أو خشبة، أو ضربه بيده ومات: فإن هذا يُعتبر قتل عمد بشروط ثلاثة: أولها: أن يضربه بالحجر الصغير، أو الخشبة، أو اليد في مقتل - كمساواة قلبه، أو رأسه، أو خصيتيه -، ثانيها: أن يضربه بذلك وهو في حالة ضعيفة كأن يكون المضروب مريضًا، أو صغيرًا، أو شيخًا كبيرًا، أو في وقت حرّ أو في وقت برد شديدين ثالثها: أن يُكرِّر ضربه بذلك حتى مات فهذا كله يعتبر قتل عمد، فيه القصاص والقود، أما إن ضربه بتلك الأمور الصغيرة، ولم تتوفر تلك الشروط: فليس بعمد، ولا قصاص فيه ولا قَوَد؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو ضربه بمثقَّل كبير ومات: فهو قتل عمد، فيه القَوَد - كما سبق في مسألة (7) - فكذلك إذا ضربه بشيء صغير وتوفّرت فيه تلك الشروط الثلاثة ومات: فهو قتل عمد، فيه القود، والجامع: أنه في كل منهما قتله بما يقتل غالبًا؛ فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع التحايل من قتل الآخرين بمثل تلك الأساليب - تنبيه: قوله: "أو يلقي عليه حائطًا .. " قد سبق بيانه في مسألة (7).

(9)

مسألة: إذا ألقى زيد عمرًا من شاهق، ومات عمرو: فهو قتل عمد، فيه القَوَد؛ قياسًا على القتل بالمثقَّل، والجامع: أن كلًا منهما يقتل غالبًا، وإن لم يجرح.

ص: 11

غالبًا

(10)

، الرابعة: ما أشار إليها بقوله: (أو) يُلقيه (في نار، أو ماء يُغرقه، ولا يمكنه التخلُّص منهما)؛ لعجزه، أو كثرتهما، فإن أمكنه: فهدر

(11)

، الخامسة: ذكرها بقوله:

(10)

مسألة في الثالثة - من صور القتل العمد - وهي: أن يجمع زيد بين عمرو وبين حيوان يقتل الإنسان عادة في حين عدم تمكُّن عمرو من الهرب كأن يجمع بينه وبين أسد، أو نمر في جحرهما، أو يُكتِّف زيد عمرًا ويجعله بحضرتهما، أو يجعله في مكان ضيّق بحضرة حية، أو بجعل كلبًا ينهشه، أو عقربًا أو حية تلسعه، فيموت عمرو: فهو قتل عمد، فيه القَوَد سواء كان السبع صغيرًا أو كبيرًا، حية لا تقتل كحية الحجاز أو لا؛ للتلازم: حيث يلزم من كون ذلك يقتل غالبًا: أن يكون فعله قتل عمد، فيه القود دون تفريق بين السباع والحيات، فإن قلتُ: ليس هذا قتل عمد، ولا قود، وهو قول الشافعي، رجَّحه أبو يعلى؛ للتلازم: حيث يلزم من كون الأسد، والحية يهربان من الإنسان وكون ذلك ليس بسبب ملجيء: عدم اعتبار ذلك قتل عمد، ولو مات عمرو؛ لاحتمال أن يكون قد مات من الخوف قلتُ: لا يُسلَّم أن الأسد والحية تهربان من الإنسان؛ حيث ثبت أن الأسد يعتدي على الآدمي المطلق، فكيف يهرب من المكتوف، أو ورد عليه في جحره، والحية - إنما تهرب في المكان الواسع، وهذا كان معها في مكان ضيّق - كما مثَّلنا -، فيغلب على الظنّ أنها تدافع عن نفسها بالنهش، وهذا قاتل في الغالب، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في هذه الصور هل تُعتبر من القتل الملجئ أو لا؟ ".

(11)

مسألة في الرابعة - من صور القتل العمد - وهي: أن يلقي زيد عمرًا في نار، أو ماء مغرق أو حفرة في حين عدم تمكُّن عمرو من التخلُّص من تلك النار، أو ذلك الماء أو الحفرة؛ أو لكثرة ماء وطول حفرة فمات: فهذا قتل عمد، فيه القَوَد، أما إن أمكنه التخلُّص منهما، ومع ذلك بقي فيهما حتى مات: فهذا: ليس بقتل عمد، ولا قود فيه، بل هدر، ولا يضمنه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من =

ص: 12

(أو يخنقه) بحبل، أو غيره، أو يسد فمه، وأنفه، أو يعصر خصيتيه زمنًا يموت في مثله

(12)

، السادسة: أشار إليها بقوله: (أو يحبسه، ويمنع عنه الطعام، أو الشراب، فيموت من ذلك في مدَّة يموت فيها غالبًا) بشرط: تعذُّر الطلب عليه، وإلا: فهدر

(13)

، السابعة: ما أشار،

= كون تلك النار، أو الماء، والحفرة تقتل غالبًا: أن يكون هذا قتل عمد، فيه القود، ويلزم من كونه لم يخرج من النار، أو الماء، أو الحفرة مع إمكانه: عدم القود، وعدم ضمانه؛ لأنه مهلك لنفسه بإقامته.

(12)

مسألة: في الخامسة - من صور القتل العمد - وهي: أن يخنقه بحبل أو بيديه أو بأي شيء يمنع خروج نفسه، أو يضع خرقة على أنفه، أو فمه بحيث يمنع عنه النفس، وذلك في زمن يموت في مثله عادة، فهذا إن مات: فهو قتل عمد، فيه القَوَد؛ وإن فعل ذلك في مدَّة لا يموت الآدمي فيها: فهو شبه العمد، لا قود فيه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك الخنق بأي آلة مدَّة تكفي للموت: أن يكون ذلك قتل عمد، فيه القَوَد، ويلزم من عدم كفاية المدَّة للموت: عدم كون ذلك قتل عمد.

[فرع]: إذا عصر زيد خصيتي عمرو زمنًا يموت في مثله الإنسان فهذا إن مات: فهو قتل عمد، فيه القَوَد، وإن فعل ذلك في مدَّة لا يموت الآدمي فيها: فلا يعتبر عمدًا؛ للتلازم؛ وقد بيّنته في مسألة (12).

(13)

مسألة في السادسة - من صور القتل العمد - وهي: أن يمنع زيد عن عمرو الطعام أو الشراب مدَّة يموت فيها الإنسان فيها عادة، فإذا فعل ذلك، ومات عمرو: فهذا قتل عمد، فيه القَوَد بشرط: عدم قدرة عمرو على طلب الماء والطعام، أما إن كان قادرًا على طلب الماء، والطعام، ومع ذلك تركهما: فهذا هدر، وليس بقتل عمد، ولا قود عليه، ولا يضمنه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك المنع من الطعام، أو الشراب مدَّة تكفي للموت: أن يكون ذلك قتل عمد، فيه القود، ويلزم من عدم كفاية المدَّة للموت، أو ترك المجنى عليه طلب =

ص: 13

إليها بقوله: (أو يقتله بسحر) يقتل غالبًا

(14)

، الثامنة: المذكورة في قوله: (أو) يقتله

= الماء، أو الطعام باختياره فمات: عدم كون ذلك قتل عمد وعدم ضمانه بشيء؛ لكون هذه المدَّة لا يموت فيها الإنسان ولو مُنع عنه الطعام، أو الشراب، ولكونه قتل نفسه بتركه طلب الطعام والشراب مع قدرته.

[فرع]: إن ترك زيد عمرًا في مكان بارد جدًّا، أو حار جدًّا في وقت يُمكن الموت فيه على حسب الزمان؛ لكون الشتاء غير الصيف، وعلى حسب الأفراد؛ لكون بعض الناس أكثر تأثرًا بالحر، أو البرد من الآخر، أو على حسب المكان؛ لكون بعض الأمكنة أبرد أو أحرّ من بعض، فمات عمرو بسبب وضع زيد له في ذلك: فإن هذا قتل عمد، فيه القَوَد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ذلك الترك في ذلك المكان مدَّة تكفي لموت عمرو فيه على حسب الظرف الذي هو فيه: أن يكون ذلك قتل عمد، فيه القَوَد.

(14)

مسألة: في السابعة - من صور القتل العمد - وهي: أن يسحر زيد عمرًا، فإذا قتله بذلك السحر، فهو قتل عمد، فيه القَوَد بشرط: أن يكون زيد عالمًا بأن هذا السحر يقتل غالبًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن القتل بالمحدَّد المقصود: يُعتبر قتل عمد، فيه القَوَد - كما سبق - فكذلك القتل بالسحر، والجامع: أن كلًا منهما يقتل غالبًا، أما إذا لم يعلم بأن السحر يقتل غالبًا: فمات: فلا يكون هذا عمدًا، ولا قودًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم علمه: ذلك.

[فرع]: يُقتل الساحر هذا قصاصًا، لا حدًّا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تقديم حق الآدمي: أن يُقتل من قتله قصاصًا، [فرع ثانٍ]: إذا كان زيد معيانًا - وهو الذي يقتل الناس بعينه - وعاين عمرًا فقتله: فإن هذا قتل عمد، فيه القَوَد بشرطين: أولهما: أن يكون زيد عالمًا بأن عينه تقتل غالبًا ثانيهما: أن يكون قد فعل ذلك باختياره أما إن كان لا يعلم بأن عينه تقتل غالبًا، أو علم ذلك، ولكن وقع ذلك منه دون اختيار منه وإرادة: فلا يسمَّى هذا قتل عمد، ولا قَوَد عليه، بل يكون =

ص: 14

ب (سم): بأن سقاه سمًا لا يعلم به، أو يخلطه بطعام ويُطعمه له، أو بطعام أكله، فيأكله جهلًا

(15)

، ومتى ادَّعى قاتل بسم، أو بسحر عدم علمه أنه قاتل: لم يُقبل

(16)

، التاسعة: المشار إليها بقوله: (أو شهدت عليه بيّنة بما يوجب قتله): من زنا، أو ردَّة لا تقبل معها التوبة، أو قتل عمد (ثم رجعوا) أي: الشهود بعد قتله (وقالوا: عمدنا

= قتل خطأ، فتجب عليه الدية؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن القتل بالمحدد يُعتبر قتل عمد فيه القود - كما سبق - فكذلك يُقتل المعيان إذا قتل غيره بذلك - بشرطيه - والجامع: أن كلًّا منهما يقتل غالبًا، الثانية: التلازم؛ حيث إن عدم علمه بأن عينه تقتل غالبًا، وأنه وقع أو علم ذلك، ولكن وقع ذلك دون اختياره: يلزم منه عدم اعتبار قتله به قتل عمد، ويلزم من تسببه في إزهاق نفسه: أن يكون ذلك قتل خطأ، وهذا يوجب الدية.

(15)

مسألة في الثامنة - من صور القتل العمد - وهي: أن يقتل زيد عمرًا بسُمٍّ يقتل غالبًا: بأن يسقيه إياه، أو يخلطه بطعام فيُطعمه له أو نحو ذلك فمات عمرو: فهذا قتل عمد، فيه القَوَد بشرط: أن يكون المجنى عليه - وهو عمرو - لا يعلم بهذا السم، أما إذا علم عمرو بأن هذا يقتله ومع ذلك أكله فمات: فلا يكون هذا قتل عمد، ولا يضمنه؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن القتل بالمحدد: قتل عمد، فيه القَوَد، فكذلك القتل بالسم مثله، والجامع: أن كلًا منهما يقتل غالبًا، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من علم عمرو بأن هذا السم يقتله ومع ذلك أكله فمات: عدم كون هذا قتل عمد وعدم ضمان عمرو؛ لأنه قتل نفسه بذلك.

(16)

مسألة: إذا ادَّعى القاتل بسم، أو بسحر، أو بعين: أنه لا يعلم أن ذلك قاتل: لا يُصدَّق ولا يُكذَّب، بل يُرجع إلى التحقيق والتدقيق في شأنه، ويُحكم بصدقه، أو بكذبه على حسب البيّنات والأدلة، فإن أثبتت صدق دعواه بعدم علمه: بُرِّئ، ولا قَوَد عليه، وإن أثبتت كذبه، وأنه قال ذلك لأجل أن يتخلَّص: فإنه =

ص: 15

قتله) فيُقاد بهذا كله (ونحو ذلك)؛ لأنهم توصّلوا إلى قتله بما يقتل غالبًا

(17)

، ويختص بالقصاص مباشر للقتل، عالم بأنه ظلم، ثم ولي عالم بذلك، فبيّنة وحاكم علموا ذلك

(18)

(وشبه العمد: أن يقصد جناية لا تقتل غالبًا، ولم يجرحه بها: كمن ضربه في

= يُعتبر قتل عمد فيه القود؛ للمصلحة: حيث إن التحقيق الدقيق والعمل بالبراهين والبيّنات فيه مصلحة للطرفين، وعدمها: فيه إضرار بهما، أما إذا لم يدل دليل على صدقه ولا على كذبه: فالظاهر: أن هذا يكون قتل عمد، فيه القود؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون السم، والسحر، والعين تقتل غالبًا: عدم قبول دعواه.

(17)

مسألة في التاسعة - من صور القتل العمد - وهي: أن يشهد على عمرو جماعة بأنه فعل ما يوجب قتله: كأن يشهدوا عليه بأنه زنا وهو محصن، أو ارتدّ عن الإسلام، بسبِّه لله ورسوله - بحيث لا تقبل توبته فيما فعله -، أو شهدوا عليه بأنه قتل عمدًا، فقتل الحاكم عمرًا - بسبب تلك الشهادة عليه - ثم رجع أولئك الجماعة عن تلك الشهادة قائلين: قد عمدنا قتل عمرو بتلك الشهادة: فإن هذا يُعتبر قتل عمد، فيه القَوَد، فيُقتل بذلك جميع أولئك الجماعة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونهم قد توصلوا إلى قتل عمرو بما يقتل غالبًا: أن ذلك يُعتبر قتل عمد، فيه القَوَد، ويلزم من اجتماعهم على ذلك: أن يقتلوا به جميعًا دون تفريق بينهم - كما سيأتي بيانه -.

(18)

مسألة: الذي يختص بالقصاص والقَوَد هو: المباشر للقتل، العالم بأن هذا القتل ظلم، المتعمِّد لهذا القتل، ثم يختص بالقصاص ولي عالم بأنه قتله ظلم، وإن وكَّل شخصًا فباشر القتل وهذا الوكيل عالمًا بأن المقتول مظلوم: فعليه القصاص أيضًا، وإن لم يعلم: فعلى الوالي، ثم تختص بيّنة شهدت بقتله، واعترفت بأنه ظلم، ثم حاكم علم كذب الشهود، ومع ذلك قام بقتله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من القتل المباشر، أو التسبُّب للقتل مع علمهم بظلم المقتول: أن يقتلوا جميعًا به.

ص: 16

غير مقتل بسوط، أو عصا صغيرة) ونحوها (أو لكزه ونحوه) بيده، أو ألقاه في ماء قليل، أو صاح بعاقل اغتفله، أو بصغير على سطح فمات

(19)

(و) قتل (الخطأ: أن

(19)

مسألة: القتل شبه العمد: هو: أن يقصد زيد الجناية على عمرو بما لا يقتل غالبًا، إما لقصد العدوان عليه، أو لقصد تأديبه فيُسرف فيه في غير مقتل، ولا يجرحه بسبب تلك الجناية: فيموت عمرو بسبب ذلك: كأن يضرب زيد عمرًا بالسوط والعصا الصغيرين، أو يضربه بيده، أو يُلقيه في ماء قليل، أو يسحره بشيء لا يقتل غالبًا، أو يصيح بصبي أو معتوه غافلين وهما على سطح فيسقطان منه، ويموتان: فهذا هو القتل شبه العمد، ويُسمَّى "خطأ العمد" و "عمد الخطأ"؛ نظرًا لاجتماع العمد والخطأ فيه؛ حيث إنه تعمَّد الفعل، وأخطأ في القتل، أي: أنه متردد بين العمد والخطأ: فيشبه العمد من جهة قصد ضربه، ويُشبه الخطأ من جهة ضربه بما لا يقصد به القتل، فيشترط فيه شروط ثلاثة: أولها: أن يقصد الجاني الجناية بسبب عداوة، أو لتأديب ثانيها: أن يقصده بما لا يقتل غالبًا، ثالثها: أن لا يجرحه بسبب تلك الجناية، فإذا اجتمعت تلك الشروط: كان القتل شبه عمد، لا قَوَد فيه، وفيه الدية، وتكون تلك الدية على العاقلة، والكفارة من مال القاتل؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قول أبي هريرة: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم: "أن دية جنينها: عبدًا أو وليده، وقضى بدية المرأة على عاقلتها" أي: أوجب دية المقتولة على عاقلة القاتلة، فلو كان عمدًا: لما أوجبه عليها؛ لأن العاقلة لا تحمل العمد وأوجب الكفارة من مال القاتلة ولأنه يلزم من تلك القضية شروط قتل شبه العمد؛ حيث إن العداوة واضحة بين المرأتين، وقصدتها القاتلة بما لا يقتل، وهو أنها رمتها بحجر، وما يرمى به يكون عادة حجرًا صغيرًا، وهذا الحجر لم يصبها بجرح؛ لأنه لا يجرح عادة، ثانيهما: قوله عليه السلام: "ألا إن في قتيل خطأ العمد: قتيل السوط والعصا والحجر مائة من =

ص: 17

يفعل ماله فعله مثل: أن يرمي ما يظنه صيدًا أو) يرمي (غَرضًا أو) يرمي (شخصًا) مباح الدم كحربي، وزان محصن (فيُصيب آدميًا) معصومًا (لم يقصده) بالقتل فيقتله، وكذا: لو أراد قطع لحم، أو غيره مما له فعله، فسقطت منه السكين على إنسان فقتله (و) كذا (عمد الصبي والمجنون)؛ لأنه لا قصد لهما، فهما كالمكلف المخطئ، فالكفارة في ذلك في مال القاتل، والدية على عاقلته - كما يأتي - ويصدق إن قال: كنت يوم قتلته صغيرًا أو مجنونًا، وأمكن، ومن قتل بصف كفار من ظنه حربيًا فبان مسلمًا، أو رمي كفارًا مترسوا بمسلم، وخيف علينا إن لم نرمهم، ولم يقصده فقتله: فعليه الكفارة فقط؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ولم يذكر الدية

(20)

.

= الإبل" وفي لفظ: "عقل شبه العمد مغلَّظ، مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه" وهو نص في شبه العمد. تنبيه: قد أنكر الإمام مالك شبه العمد، وقد سبق ذكر دليله، والجواب عنه في مسألة (4).

(20)

مسألة: القتل الخطأ على قسمين: القسم الأول: أن يفعل زيد ماله فعله شرعًا فيؤدِّي ذلك إلى قتل مسلم معصوم: كأن يرمي صيدًا، أو هدفًا وغرضًا أو بهيمة: فيُصيب آدميًا معصومًا فيقتله، أو يرمي شخصًا مباح الدم - كالكافر الحربي، أو الزاني المحصن - فيُصيب آدميًا معصومًا لم يقصده بالقتل، فقتله، أو أراد قطع لحم أو قطع خشب ونحوهما بأي شيء حاد فسقط ذلك الشيء الحاد على آدمي فقتله أو انقلب نائم على آخر فقتله، أو تعمَّد صبي، أو مجنون قتل آدمي بأي آلة أو حفر مكلف بئرًا، أو نصب شيئًا فأدّى إلى قتل معصوم: فكل ذلك قتل خطأ: لا قود فيه، بل يدفع زيد القاتل الكفارة من ماله، وتدفع عاقلته الدية لأولياء المقتول سواء كان المقتول مسلمًا، أو ذميًا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} وقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ =

ص: 18

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}: فأوجب الكفارة والدية في قتل المعصوم خطأ سواء كان مسلمًا، أو كافرًا ذميًا ولم يوجب القصاص؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "رُفع عن أمّتي الخطأ، والنسيان وما استكرهوا عليه" وهو عام؛ لأن "الخطأ" و"النسيان" وما" الموصولة؛ من صيغ العموم؛ فيشمل ما نحن فيه، فلا قصاص في قتل الخطأ، وإنما وجبت الكفارة والدية بالآيتين؛ الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن القتل شبه العمد لا قصاص فيه فمن باب أولى أن لا يكون في القتل الخطأ قصاص، والجامع: عدم قصد القتل. القسم الثاني: أن يقتل في دار الحرب من يظنه كافرًا، فبان مسلمًا، أو تترَّس واحتمى كفار بمسلم لا يقدر على الخروج عنهم، وخاف المسلمون المواجهون لذلك إن لم يرموا هؤلاء جميعًا - ومعهم المسلم -: فإنهم سيتغلبون عليهم، ويقتلونهم جميعًا، فرموهم جميعًا، ولم يقصد المسلم بالرمي: فمات المسلم مع الكفار: فهذا كله قتل خطأ: لا قَوَد فيه، وفيه الكفارة فقط، دون الدية؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}؛ حيث أوجب الكفارة هنا، ولم يذكر دية هنا، فيلزم من عدم ذكرها، ونصه عليها في الآيتين السابقتين في القسم الأول: أن الدية غير واجبة في هذا القسم، فإن قلتَ: إن الدية واجبة هنا الكفارة، وهو رواية عن أحمد، وهو قول مالك، والشافعي؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} وهذا عام في قتل المؤمن وهو بين المسلمين، أو بين الكفار الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "ألا إن في قتيل خطأ العمد: قتيل السوط والعصا: مائة من الإبل" وهو عام أيضًا قلتُ: إن الآية التي ذكرناها لم تدخل في عموم الآية التي ذكروها؛ للتلازم الذي ذكرناه، وهي أيضًا - أي: الآية التي ذكرناها - خاصة، فيُخصُّ بها عموم الحديث الذي ذكروه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: =

ص: 19

(فصل): (نقتل الجماعة) أي: الاثنان فأكثر (بـ) الشخص (الواحد) إن صلح فعل كل واحد لقتله؛ لإجماع الصحابة، وروى سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا، وإن لم يصلح فعل كل واحد للقتل: فلا قصاص، ما لم يتواطؤا عليه

(21)

(وإن سقط القَوَد) بالعفو عن القاتلين (أدُّوا دية واحدة)؛ لأن القتل واحد،

= سببه: "تعارض الآيتين" وأيضًا: "تعارض الآية مع السنة القولية" فإن قلتَ: لِمَ كان عمد الصبي والمجنون خطأ؟ قلتُ: لأنهما لا قصد لهما أصلًا: فكل ما يفعلانه خطأ، فإن قلتَ: ما شرط قتل الخطأ؟ قلتُ: أن يفعل الإنسان ما له فعله شرعًا، فيؤدِّي إلى قتل معصوم بدون قصد، فإن قلتَ: ما الفرق بينه وبين القتل شبه العمد؟ قلتُ: إن القاتل في شبه العمد والقاتل خطأ يشتركان في وجوب الكفارة في مال الجاني، ووجوب الدية على العاقلة، ولكنهما يفترقان: أن القاتل في شبه العمد آثم، نظرًا لقصده الجناية، دون القتل، أما القاتل في القتل خطأ: فهو غير آثم؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "عُفي عن أمتي الخطأ .. " وهذا يدل بمفهوم الصفة على أن غير الخطأ لا يعفى إثمه.

[فرع]: إذا قال القاتل: إني يوم قتلته صغيرًا أو مجنونًا: يصدق إن أمكن ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم منه: تصديقه وسيأتي.

(21)

مسألة: إذا اجتمع جماعة - اثنان فأكثر - وقتلوا شخصًا واحدًا: فإنهم يقتلون به، بشرط: أن يباشر كلُّ واحد منهم القتل، وأن يكون فعل كل واحد يصلح للقتل، وإن تفاضلت الجراحات، أما إن لم يُباشر كل واحد منهم القتل، ولم يفعل كل واحد ما يصلح للقتل ولم يتواطؤوا على قتله: فلا قصاص؛ لقاعدتين: الأولى: قول وفعل الصحابي: حيث إن عمر قد قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا واحدًا، وقال:"لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا"، وثبت عن علي: أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلًا واحدًا، وعن ابن عباس مثل ذلك، الثانية: القياس وهو =

ص: 20

فلا يلزم به أكثر من دية كما لو قتلوه خطأ وإن جرح واحد جرحًا، وآخر مائة: فهما سواء

(22)

، وإن قطع واحد حشوته، أو دجيه، ثم ذبحه آخر: فالقاتل الأول، ويعزَّر

= من وجهين: أولهما: كما أنه لو اجتمع جماعة فقطعوا يد شخص: فإن أيديهم تقطع أيديهم جميعًا بتلك اليد الواحدة فكذلك لو اجتمعوا على قتل شخص: فإنهم يقتلون به، والجامع: أن كلًا منهما عقوبة تجب للواحد على الواحد؛ فوجبت للواحد على الجماعة، ثانيهما: أنه لو اجتمع جماعة فقذفوا شخصًا واحدًا: فإنهم يُحدَّون بحدِّ القذف، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القصاص لو سقط بالاشتراك لأدَّى إلى أن الشخص إذا أراد قتل شخصٍ آخر: جمع معه بعض الناس، واشتركوا في قتله حتى يسقط عنه القصاص، فيؤدِّي إلى قتل الناس بعضهم بعضًا بهذا الطريق.

[فرع]: إن تواطؤا على قتله، وقصدوا إسقاط القصاص بأن ضرب كل واحد منهم بما لا يقتل غالبًا، فمات: فعليهم القصاص؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قال عمر: "ولو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا" وهذا نص في التواطؤ، الثانية: المصلحة؛ حيث إن هذه الطريقة لو كانت دارئة للقصاص: لأدّى إلى إسقاط القصاص عن كثير ممّن يقتلون غيرهم بغير حق.

[فرع ثان]: إن لم يتواطؤا على قتله، ولم يقصدوا إسقاط القصاص بفعلهم بأن ضربه كل واحد منهم بحجر صغير: فمات بسبب مجموع الضربات: فلا قصاص عليهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تواطئهم على القتل، وعدم حصول ما يوجب القود من أحدهم: عدم وجوب القصاص.

(22)

مسألة: إذا قتل جماعة شخصًا واحدًا، وأسقط ولي دمه القصاص: فتجب دية واحدة عليهم جميعًا: سواء بذلوا دية واحدة أو أكثر، وسواء اتّحدوا في الجراح، فكل واحد جرح مثل ما جرحه الآخر حتى مات المقتول، أو جرح واحد جرحًا =

ص: 21

الثاني

(23)

(ومن أكره مكلَّفًا على قتل) معيَّن (مكافئه فقتله: فالقتل) أي: القَوَد إن لم

= واحدًا، والآخر مائة، والثالث خمسين، فلا فرق، أي: أن كل شخص يدفع مثل نصيب الآخر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه قتلًا واحدًا: أن لا يلزم أكثر من دية، ويلزم من صلاحية فعل كل واحد للقتل لو انفرد: وجوب الدية عليهم على التساوي.

(23)

مسألة: إذا قطع زيد حشوة بكر - وهي: أمعاؤه - وأبانها بحيث لا يعيش بسبب ذلك، أو قطع دجيه - وهما العرقان في العنق -، ثم ذبحه عمرو وفصل عنقه: فإن القاتل هو زيد، فيقتص منه، أما عمرو: فإنه يعزَّر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون القتل والموت قد تمّ بقطع حشوته وأمعائه أو دجيه: أن يجب القصاص على من فعل ذلك - وهو زيد هنا -، ويلزم من كون عمرو قد اعتدى على ميت - وهو بكر -: أن يُعزَّر بما يراه الحاكم مناسبًا.

[فرع] إن شقَّ زيد بطن بكر، أو قطع يديه ورجليه ثم جاء عمرو فقطع رأسه: فإن القاتل هو عمرو هنا، فيقتص منه؛ للتلازم؛ حيث إن عمرو هنا هو المفوت للنفس المزهق للروح؛ لأن الإنسان قد يعيش إذا خيط بطنه، أو بدون يدين أو رجلين، ولكنه لا يعيش بدون رأس، ويضمن زيد ما أتلفه بالقصاص منه، أو الدية.

[فرع ثان]: إذا رمى زيد بكرًا من شاهق، فتلقَّاه عمرو بسيفه فقدَّه به فمات بكر: فالقاتل هو عمرو هنا فيُقتص منه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو رمى بكرًا بسهم، فقطع عمرو رأسه قبل وصول سهم زيد إليه: فإن القاتل هنا عمرو، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًا من السهم والرمي من الشاهق قد لا يقتلانه بخلاف السيف؛ فإنه يقتل غالبًا. تنبيه: الأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، ولكن عليك بالقياس على ما سبق ذكره.

ص: 22

يعف وليه (أو الدية) إن عفا (عليهما) أي: على القاتل، ومن أُكره؛ لأن القاتل قصد استبقاء نفسه بقتل غيره، والمكرِه تسبَّب إلى القتل بما يفضي إليه غالبًا، وقول قادر:"اقتل نفسك، وإلّا قتلتك" إكراه

(24)

(وإن أمر) مكلَّف (بالقتل غير مكلَّف) كصغير، أو مجنون: فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور آلة له لا يمكن إيجاب القصاص عليه، فوجب على المتسبِّب به (أو) أمر مكلَّف بالقتل (مكلَّفًا يجهل تحريمه) أي: تحريم القتل - كمن نشأ بغير بلاد الإسلام، ولو عبدًا للآمر: فالقصاص على الأمر؛ لما تقدم (أو أمر به) أي: بالقتل (السلطان ظلمًا من لا يعرف ظلمه فيه) أي: في القتل: بأن لم

(24)

مسألة: إذا أكره زيد عمرًا - وهما مكلَّفان - على قتل بكر المكافئ له - في الدِّين، والحرية، أو الرق - بأن قال له:"أقتل بكرًا وإلا قتلتك": فقتل عمرو بكرًا: فإنه يقُتص من زيد - المُكرِه - وعمرو - المكرَه -، فيُقتلان قصاصًا ببكر إن لم يعفُ ولي بكر عنهما، أما إن عفا عنهما فتجب الدية عليهما على التساوي بينهما بشرط: أن يكون المكرِه - وهو زيد - قادرًا على قتل عمرو إن امتنع عن قتل بكر، أما إذا لم يكن قادرًا على قتل عمرو إن امتنع، ومع ذلك قتل عمرو بكرًا: فإن القصاص، أو الدية تجب على عمرو فقط، ولا شيء على زيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قدرة زيد على قتل عمرو إن امتنع عن قتل بكر، وقصد عمرو استبقاء نفسه بقتل بكر: وجوب القصاص على عمرو، ويلزم من كون زيد هو المتسبِّب للقتل بذلك الإكراه: وجوب القصاص عليه أيضًا؛ لأن الإكراه على ذلك يفضي ويؤدي إلى القتل غالبًا، ويلزم من عدم قدرة المكرِه - وهو زيد - على قتل عمرو - إن امتنع عمرو عن قتل بكر -: وجوب القصاص على عمرو فقط، دون زيد؛ لأن عمرًا يستطيع التخلُّص بالامتناع، لكنه لم يفعل فوجب عليه القصاص كالمريد بدون إكراه، وهذا من باب "تكليف المكرَه"، فإن قلتَ: يجب القصاص على المكرِه - وهو زيد -، دون المكرَه - وهو عمرو - هنا، وهو قول أبي حنيفة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن السيف أو السهم الذي استعمل للقتل لا يُعتبر، فكذلك =

ص: 23

يعرف المأمور أن المقتول لم يستحق القتل (فقتل) المأمور: (فالقَوَد) إن لم يعف مستحقه (أو الدية) إن عفا عنه (على الآمر) بالقتل، دون المباشر؛ لأنه معذور؛ لوجوب طاعة الإمام في غير المعصية، والظاهر: أن الإمام لا يأمر إلّا بالحق (وإن قتل المأمور) من السلطان أو غيره (المكَّلف) حال كونه (عالمًا تحريم القتل: فالضمان عليه) بالقَوَد، أو الدية؛ لمباشرته القتل مع عدم العذر؛ لقوله عليه السلام:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(دون الآمر) بالقتل، فلا ضمان عليه، لكن يؤدَّب بما يراه الإمام: من ضرب، أو حبس

(25)

، ومن دفع إلى غير مكلَّف آلة قتل، ولم يأمره به فقتل: لم يلزم

= المكرَه لا يُعتبر، فلا يقتص منه، والجامع: أن كلًا منهما آلة للقتل؛ حيث إن المكرَه صار بالإكراه بمنزلة الآلة، والقصاص إنما يجب على مستعمل الآلة، لا على الآلة قلتَ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن المكرَه له إرادة واختيار، فيستطيع أن يمتنع عن قتل بكر، ثم يقتله زيد - وهو المكره - ولكنه فعل مع استطاعته وقدرته على الامتناع، ولذلك يأثم بالقتل؛ لكونه قاتلًا، ودليله: أنه جرح بالسيف وهو يقتل غالبًا بخلاف آلة القتل - كالسيف والسهم - فلا إرادة لها، ولا قدرة فهي كورقة في رياح، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم" فإن قلتَ: لا يجب القصاص على واحد منهما، وهو قول بعض الحنفية كأبي يوسف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون المكرِه - وهو زيد - غير مباشر للقتل، إنما هو متسبِّب، والمكرَه مسلوب الاختيار: عدم وجوب القصاص عليهما قلتُ: هذا لا يُسلَّم؛ لأن المكرِه قد تسبَّب إلى القتل بما يفضي إليه غالبًا - وهو الإكراه -، والمكرَه استبقى نفسه بقتل غيره وهذا من أوضح الدلالة على اختياره وإرادته وهذا يصلح جوابًا لمن قال: إن القصاص يجب على المكرَه فقط؛ لأنه هو المباشر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".

(25)

مسألة: إذا أمر زيد عمرًا بأن يقتل بكرًا فقتله ففي القَوَد والقصاص أو الدية =

ص: 24

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حالتان: الحالة الأولى: إن كان عمرو - وهو المأمور - صبيًا، أو مجنونًا، أو معتوهًا أو كان عمرو - وهو المأمور - مكلَّفًا، وهو يجهل تحريم قتله، أو كان زيد سلطانًا فأمر عمرًا بقتل بكر ظلمًا، وعمرو لا يعلم أن قتله هذا ظلم: فيجب القصاص على الآمر - وهو زيد - دون المأمور - وهو عمرو - إن لم يعف أولياء المجنى عليه، وإن عفوا: فالدية عليه فقط - أي على زيد وهو الآمر -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود العذر عند عمرو هنا - وهو الصبا، أو الجنون، أو العته، أو الجهل -: عدم التكليف، فلا يجب على عمرو القصاص، ولا الدية، وإن كان مباشرًا، ويلزم من تكليف وعلم زيد وتسبُّبه في قتل بكر بشيء يقتل غالبًا: أن يكون القصاص، أو الدية عليه وحده. الحالة الثانية: إن كان المكلَّف يعلم تحريم قتل بكر ومع ذلك قتله: فالقصاص، أو الدية تجب عليه وحده - دون زيد - الآمر - ويُعزَّر - أي: الآمر وهو زيد - بما يراه الإمام مناسبًا لردعه: من جلد، أو حبس، أو نفي، أو أخذ مال منه أو نحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" حيث من أطاع أمرًا بقتل آخر - سواء كان سلطانًا أو لا - مع علمه بتحريم قتله، فقد أطاع المخلوق، في معصية الخالق، وقد نهى الشارع عنه بنهي مطلق، فيقتضي التحريم؛ الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون عمرو يعلم تحريم قتل بكر ومع ذلك قتله: وجوب القصاص أو الدية عليه فقط، دون الآمر - وهو زيد -؛ نظرًا لمباشرته القتل مع عدم العذر، ويلزم من كون زيد قد أمر بقتل بكر - من غير وجه حق - ولم يباشر، ولم يكره عمرًا على ذلك: أن يُعزَّر لتأديبه بما يراه الحاكم مناسبًا لردعه وزجره: من حبس، أو جلد، أو أخذ مال أو نحوها؛ لاختلاف الناس فيما يردعهم ويزجرهم. فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنا نحتاط بذلك من القاتل الحقيقي؛ حتى يأخذ جزاءه العادل.

ص: 25

الدافع شيء

(26)

(وإن اشترك فيه) أي: في القتل (اثنان لا يجب القَوَد على أحدهما) لو كان (منفردًا؛ لأبوة) للمقتول (أو غيرها) من إسلام، أو حرية، كما لو اشترك أب وأجنبي في قتل ولده، أو حر ورقيق في قتل رقيق، أو مسلم وكافر في قتل كافر:(فالقود على الشريك) للأب في قتل ولده، وعلى شريك الحر والمسلم؛ لأنه شارك في القتل العمد العدوان، وإنما امتنع القصاص عن الأب، والحر، والمسلم، لمعنى يختص بهم، لا لقصور في السبب؛ بخلاف ما لو اشترك خاطئ وعامد، أو مكلَّف وغيره، أو ولي قصاص، وأجنبي، أو مكلَّف وسبع، أو مقتول في قتل نفسه: فلا قصاص (فإن عدل) ولي القصاص (إلى طلب المال) من شريك الأب ونحوه: (لزمه نصف الدية) كالشريك في إتلاف مال، وعلى شريك قن نصف قيمة المقتول

(27)

.

(26)

مسألة: إذا دفع زيد إلى عمرو غير المكلَّف آلة قتل - كسكين، أو سيف، أو خنجر ونحوها - ولم يأمر زيد عمرًا بأن يقتل بكرًا بذلك، ولكن عمرًا قتل بكرًا: فإن الدافع - وهو زيد - لا شيء عليه؛ للتلازم؛ حيث إن كون زيد ليس بآمر، ولا بمباشر، ولا بمكرِه، وكون آلة القتل يُنتفع بها في غير القتل يلزم منه: عدم وجوب شيء على زيد.

(27)

مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في قتل بكر، وكان زيد لا يجب القَوَد والقصاص عليه؛ نظرًا لكونه والدًا لبكر، أو نظرًا لكونه حرًا وعمرو عبد وبكر عبد، أو نظرًا لكونه - أي: زيد - مسلمًا وعمرو كافر، وبكر كافر: فالقَوَد والقصاص يجب على عمرو فقط إن لم يعف ولي بكر، أما إن عفا ولي بكر: فعلى عمرو نصف الدية، أو نصف قيمة المقتول إن كان بكرًا عبدًا، وعلى زيد النصف الآخر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من امتناع القصاص عن الأب، والحر، والمسلم في هذه الصورة وشريكه قد قتل عمدًا عدوانًا: أن يكون القصاص على شريكه الآخر وهو عمرو؛ لمساواة عمرو مع المقتول في الرتبة من حيث الإسلام، والرق، وكون كل واحد منهما أجنبيًا عن الآخر، ويلزم من اشتراكهما في قتل =

ص: 26

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بكر، وعفو الولي عن القصاص: أن يشتركا في الدية والقيمة كما لو اشتركا في إتلاف مال.

[فرع]: إذا اشترك خاطئ وعامد، أو مكلَّف، وغير مكلَّف، أو ولي قصاص وأجنبي، أو مكلَّف وسبع، أو حاول شخص لقتل نفسه فساعده آخر: فلا قصاص هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه قتل لم يتمحَّض عمدًا: فلم يلزم منه القصاص كقتل شبه العمد، ويلزم من مشاركته من لا قصاص عليه: عدم القصاص عليه هو.

هذه آخر مسائل: "حقيقة الجنايات والجراح، وأنواعها، وحكم القصاص من المشتركين في القتل، ومن المنفرد، أو المتسبِّب به" ويليه باب: "شروط وجوب القصاص".

ص: 27

‌باب شروط وجوب القصاص

(وهي: أربعة) أحدها: (عصمة المقتول): بأن لا يكون مهدر الدم: (فلو قتل مسلم) حربيًا، أو نحوه (أو) قتل (ذمي) أو غيره (حربيًا، أو مرتدًا) أو زانيًا محصنًا، ولو قبل ثبوته عند حاكم:(لم يضمنه بقصاص، ولا دية) ولو أنه مثله

(1)

، الشرط

‌باب شروط وجوب القصاص

وفيه ثلاث عشرة مسألة:

(1)

مسألة في الأول - من شروط وجوب القصاص والقَوَد - وهو: أن يكون المقتول معصوم الدم، فإن كان المقتول مهدر الدم: فلا قصاص ولا قود على قاتله: فمثلًا: لو قتل زيد المسلم، عمرًا الكافر الحربي، أو قتل زيد الكافر الذمي عمرًا الكافر الحربي، أو قتل زيد الذمي عمرًا المرتدّ عن الإسلام، أو قتل زيد المسلم عمرًا الزاني المحصن - وهو الذي زنا بعد نكاحه، أو بعد عقد نكاحه -: فلا شيء على زيد، أي: لا قصاص ولا دية ولا كفارة على زيد: سواء كان المقتول في مرتبته كأن يقتل زيد الزاني المحصن عمرًا الزاني المحصن قبل أن يحكم به الحاكم، أو قتل زيد المرتد عمرًا المرتد أو ليس بمرتبته؛ للقياس؛ وهو من وجهين: أولهما: كما أن قاتل الخنزير لا شيء عليه، فكذلك قاتل الحربي، والمرتد، والزاني المحصن، والجامع: أن كلًا منهم مباح الدم، أو متحتم قتله، وصادف القتل محلَّه، ثانيهما: كما أن الحربي لا يضمنه المسلم إذا قتله، فكذلك لا يضمنه الذمي إذا قتله، والجامع: أنه مهدر الدم، فإن قلتَ: يجب على قاتل الزاني المحصن القصاص؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشخص لو قتل شخصًا آخر عليه القصاص: فإنه يقتل به؛ إذا كان القاتل غير مستحقه، فكذلك قاتل الزاني المحصن مثله، والجامع: أن هذا يُعتبر معتد؛ حيث إن ولي المقتول هو الذي يستحق أن يقتله، والإمام هو المستحق لقتل الزاني المحصن قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ =

ص: 28

(الثاني: التكليف) بأن يكون القاتل بالغًا عاقلًا؛ لأن القصاص عقوبة مغلظة (فلا) يجب (قصاص على صغير و) لا (مجنون) أو معتوه؛ لأنه ليس لهم قصد صحيح

(2)

،

= لأن قتل القاتل غير متحتم، فقد يعفو ولي المقتول، وهو مستحق عن طريق المعاوضة فاختص بمستحقه، أما من زنى وهو محصن فقتله متحتم لله تعالى، ولا يسقط بأي عفو، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فنحن قسناه على الخنزير؛ لأنه أكثر شبهًا به، وهم قاسوه على ولي دم المقتول، وهو قياس:"غلبة الأشباه"، فإن قلتَ: لم اشتُرط هذا الشرط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القصاص شُرع لحفظ الدماء المعصومة، التي لها قيمة، ومهدر الدم غير معصوم، ولا قيمة له، وفي ذلك دفع مفاسد الاعتداء عن المسلمين العاملين.

(2)

مسألة: في الثاني - من شروط وجوب القصاص والقَوَد - وهو: أن يكون القاتل مكلَّفًا - أي: يكون بالغًا عاقلًا -، فإن كان القاتل صغيرًا، أو مجنونًا، أو معتوهًا، أو زائل العقل بسبب يُعذر فيه كالنائم، والمغمى عليه: فلا قصاص عليه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "رُفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يبلغ" حيث دلَّ بمنطوقه على أن هؤلاء الثلاثة غير مكلَّفين، والمعتوه والمغمى عليه كالثلاثة في ذلك؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة"، وهو عام لجميع التكاليف الشرعية، ومنها: أنه لا يُقتص ممن قتل منهم، ودل بمفهوم الغاية على اشتراط التكليف - وهو: البلوغ والعقل والإدراك - الثانية: التلازم؛ حيث إن كون هؤلاء لا قصد لهم صحيح، والقصاص عقوبة مغلَّظة توقع على الفاعل يلزم منه: أن لا يُعاقب بها إلا المكلَّف المدرك لفعله، القاصد له، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المكلَّف هو الذي يصدر منه عادة القتل العمد العدوان، فمنعًا له، وردعًا لأمثاله اشتُرط ذلك؛ لحفظ المجتمع.

[فرع]: إذا قتل السكران: وجب عليه القصاص، وهو قول كثير من المحققين =

ص: 29

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= منهم أبو يعلى؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الصحابة أقاموا سكره مقام قذفه، فأوجبوا عليه حدّ القاذف؛ لقيام مظنته، وإذا وجب الحد، فالقصاص الخاص بحق الآدمي أولى بالإيجاب، والجامع: أن كلًا منهما حق لآدمي، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الشخص إذا لم يوجب عليه القصاص إذا قتل في حال سكره لأدَّى ذلك إلى أنه إذا أراد قتل أحد يشرب المسكر، ثم يقتل، ويفعل جميع المنكرات كالزنى، والسرقة، ونحوها، ثم يسلم من القصاص والعقاب، وهذا فيه مفاسد عظيمة، ويكون عصيانه سببًا لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه، فدفعًا لذلك: أوجب عليه جميع ما يفعله أثناء سكره كما قلنا في وقوع طلاقه، فإن قلتَ: لا يجب عليه القصاص؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المجنون والصبي إذا قتلا عمدًا لا يجب عليهما القصاص، فكذلك السكران، والجامع: زوال العقل، أو قصوره عن إدراك حقائق الأمور، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الجنون والصبا آفة سماوية تقع للإنسان من غير إرادة منه واختيار، بخلاف السكران؛ حيث لم يسكر إلّا باختيار وإرادة منه، فهو مكتسب ويُجازى الإنسان بما اكتسبه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" كما سبق.

[فرع ثان]: إذا قتل شخص شخصًا آخر، وادَّعى القاتل: أنه صغير، أو مجنون، أو معتوه في حال قتله، وكذَّبه ولي المقتول أو قال ولي المقتول: كنت سكرانًا لما قتلت، فقال القاتل: كنت مجنونًا ولا بيِّنة، فإنه يقبل قول القاتل مع يمينه بشرط: أن يكون القاتل ممكن أن يكون صغيرًا، أو مجنونًا: بأن عمره أثناء القتل ممكن أن يكون صغيرًا، وقد اعتراه حال جنون قبل قتله؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في المسلم الصدق، وبراءة ذمته من القصاص، فيستصحب ذلك ويُعمل به حتى يرد ما يُغيِّره، أما إن لم يمكن أن يكون القاتل =

ص: 30

الشرط (الثالث: المكافأة) بين المقتول، وقاتله حال جنايته:(بأن يساويه) القاتل (في الدِّين، والحرية، والرِّق) يعني: بأن لا يفضل القاتل المقتول بإسلام، أو حرية، أو ملك

(3)

: (فلا يقتل مسلم) حر أو عبد (بكافر) كتابي، أو مجوسي: ذمي، أو معاهد؛ لقوله عليه السلام:"ولا يقتل مسلم بكافر" رواه البخاري، وأبو داود

(4)

(ولا) يقتل

= صغيرًا، ولم ترد عليه حالة جنون قبل القتل: فيُقبل قول ولي المجنى عليه؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في المسلم السلامة من ذلك، فيستصحب ويعمل به حتى يرد ما يُغيِّره.

(3)

مسألة: في الثالث - من شروط وجوب القصاص والقَوَد - وهو: أن يكون القاتل والمقتول متكافئين ومتساويين وقت القتل في الدِّين، والحرية، والرق: بأن لا يكون القاتل يفضل المقتول بإسلام، أو حرية، أو ملك: كأن يكون القاتل مالكًا للمقتول؛ للتلازم؛ حيث إن القصاص مبني على تطبيق العدل والإنصاف، وإرجاع الحق لأهله، فإذا كان المقتول أقلّ من القاتل في تلك الأمور الثلاثة السابقة: ومع ذلك قتلنا القاتل: فإنه يلزم أن نكون قد ظلمنا القاتل؛ لأن المقتول قد أخذ - بسبب ذلك - أكثر من حقه، ويلزم من كون القصاص يجب من حال القتل: أن يحسب التكافؤ بين القاتل والمقتول من وقت القتل؛ لكونه وقت انعقاد السبب، فإن قلتَ: لمِ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط في الإنصاف؛ لئلا يُظلم أحد في ذلك.

(4)

مسألة: إذا قتل مسلم كافرًا: فإن المسلم لا يُقتل قصاصًا: سواء كان المسلم القاتل حرًا، أو عبدًا، وسواء كان الكافر المقتول كتابيًا، أو لا، وسواء كان ذميًا، أو معاهدًا، أو حربيًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يُقتل مسلم بكافر" وهذا يشمل المسلم القاتل الحر، والعبد، ويشمل الكافر المقتول: الحر والعبد، والحربي، والذمي والمعاهد؛ لأن "مسلم" و "كافر" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون =

ص: 31

(حر بعبد)؛ لحديث أحمد عن علي: "من السنة أن لا يقتل حر بعبد"، وروى الدارقطني عن ابن عباس يرفعه:"لا يقتل حر بعبد"

(5)

، وكذا: لا يُقتل حر

= الكافر قد انتقص بالكفر، عدم قتل المسلم بالكافر؛ لأنه لا يساويه في الرتبة، فإن قلتَ: بل يُقتل المسلم إذا قتل ذميًا؛ وهو قول جمهور الحنفية؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} حيث إن هذا عام للمسلم والكافر، فتقتل أيُّ نفس قتلت نفسًا أخرى: سواء كانت النفس القاتلة مسلمة، أو لا، وسواء كانت النفس المقتولة مسلمة أو لا. الثانية: السنة الفعلية والقولية؛ حيث أقاد النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذمي وقال: "أنا أحق من وفَّى بذمته" قلتُ: أما الآية: فهي عامة، قد خُصِّصت بحديث:"لا يُقتل مسلم بكافر"، من باب تخصيص الكتاب بالسنة، وأما الحديث الذي احتجوا به فهو، ضعيف، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب مع السنة" وأيضًا: "الاختلاف في ضعف الحديث الذي احتجوا به" فإن قلتَ: لِمَ لا يقتل المسلم بالكافر؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إعلاء للمسلمين.

(5)

مسألة: إذا قتل حر عبدًا: فإن الحر لا يقتل قصاصًا؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يُقتل حر بعبد" وهو صريح في النهي عنه؛ الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن الأب لو قتل ابنه: فإن الأب لا يقتل به فكذلك الحر لو قتل العبد مثله، والجامع: أن كلًا الابن والعبد منقوص بالبنوة والرق، فلا يساوي الابن أباه، ولا يساوي العبد الحر، الثالثة قول الصحابي وفعله؛ حيث إن أبا بكر وعمر، وعلي، وزيد، وابن الزبير لا يقتلون الحر بالعبد، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حث على ترك الرق، وتحرير العبيد. فإن قلتَ: يقتل الحر إذا قتل عبدًا، وهو قول جمهور الحنفية؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} والعبد نفس، فيُقتل من قتله وإن كان حرًا، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "المسلمون تتكافأ =

ص: 32

بمبعَّض

(6)

، ولا مكاتب بقنِّه؛ لأنه مالك لرقبته

(7)

(وعكسه): بأن قتل كافر مسلمًا،

= دماؤهم" فلم يفرق بين العبد والحر في ذلك، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن الحر إذا قتل حرًا: فإنه يُقتل به، فكذلك إذا قتل عبدًا: فإنه يقتل به، والجامع: أن كلًا منهما دمه معصوم قلتُ: أما الآية: فهي عامة، وخصَّت بحديث: "لا يُقتل حر بعبد" من باب: تخصيص الكتاب بالسنة، وأما الحديث فهو عام، ولكنه مخصوص بما جاء في آخره؛ حيث قال عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مؤمن بكافر" من باب ذكر الخاص بعد العام، وأما القياس: فهو فاسد؛ لأنه قياس مع النص، ثم إنه منقوض بكون الأب لا يُقتل إذا قتل ابنه مع أنهما يشتركان بكون كل واحد آدمي معصوم الدم. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب مع السنة" وأيضًا: "تعارض القياس مع النص".

(6)

مسألة إذا قتل حر، مبعَّضًا - وهو من كان بعضه حرًا، وبعضه الآخر عبدًا -: فإن الحر لا يُقتل به؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون القاتل قد فضل وزاد في حريته: عدم قتله إذا قتل من هو أقل منه حرية؛ تطبيقًا للعدالة.

(7)

مسألة: إذا قتل مكاتِب - وهو من اشترى نفسه من سيده على أقساط يُسددها فيما بعد - قنًّا له: فإن هذا المكاتِب لا يقتل؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الحر لا يُقتل بعبده، فكذلك المكاتِب لا يُقتل إذا قتل قنًا له، والجامع: أن كلًا من المكاتب، والحر قد فضلا على القن ويملكانه.

[فرع]: إذا قتل مكاتِب قنَّ غيره: فإنه يُقتل به: سواء قد أدَّى من كتابته شيئًا أو لا، وسواء ملك ما يؤدي أو لا؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} والمكاتب عبد فيدخل ضمن عموم ذلك، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم".

ص: 33

أو قنٌّ، أو مبعَّض حرًا (يُقتل)

(8)

القاتل، ويقتل القنُّ بالقنِّ، وإن اختلفت قيمتهما، كما يؤخذ الجميل بالذميم، والشريف بضده

(9)

(ويُقتل الذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر) والمكلَّف بغير المكلَّف؛ لعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}

(10)

، الشرط (الرابع: عدم الولادة): بأن لا يكون المقتول ولدًا للقاتل،

(8)

مسألة: إذا قتل كافر مسلمًا، أو قتل عبد، أو مبعَّض حرًا: فإن الكافر يُقتل بالكافر والعبد والمبعض يُقتل بالحر؛ القاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إن يهوديًا رضّ رأس جارية من الأنصار على أوضاح لها: فقتل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليهودي: بأن رضّ رأسه بين حجرين. الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه إذا قتل الكافر بالكافر، والعبد بالعبد: فإنه يقتل الكافر بمن هو فوقه - وهو المسلم - ويقتل العبد بمن هو فوقه - وهو الحر - من باب أولى.

(9)

مسألة إذا قتل عبد عبدًا آخر: فإن القاتل يقتل: سواء تساوت قيمتهما، أو تفاوتت؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وهذا عام؛ لأن "العبد" مفرد محلى بأل وهو من صيغ العموم، فيشمل كل عبد سواء كانت قيمتهما متساويتين، أو كان المقتول، أقل قيمة، والقاتل أكثر، الثانية: كما أنه لو قتل شريف أو عالم أو جميل وضيعًا، أو جاهلًا، أو قبيحًا أو دميمًا: فإن القاتل يُقتل، فكذلك يقتل العبد الأكثر قيمة إذا قتل عبدًا أقلّ قيمة والجامع: أنه ليس لهذا الاختلاف أثر في إقامة العقوبة أو عدمها هنا.

(10)

مسألة: إذا قتل ذكر أنثى أو خنثى: فإن هذا الذكر يُقتل، وإذا قتلت الأنثى أو الخنثى ذكرًا: فإن هذه الأنثى تُقتل، ويُقتل الخنثى إذا قتل ذكرًا، أو أنثى، وإذا قتل مكلَّف - بالغ عاقل - غير مكلف - صبي أو مجنون -: فإن هذا المكلف يُقتل، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقال: {والحر بالحر} حيث إن ذلك عام وشامل للقاتلين والمقتولين بصرف النظر عن الذكورية، أو الأنوثة، أو الخناثة، أو التكليف بالنسبة للقاتل. الثانية: السنة =

ص: 34

وإن سفل، ولابنته وإن سقطت:(فلا يُقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل والد بولده) قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم

(11)

(ويُقتل الولد بكل

= الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد قتل يهوديًا قد قتل جارية من الأنصار الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن الذكرين إذا قتل أحدهما الآخر: فإن القاتل يقتل، فكذلك الذكر إذا قتل امرأة: فإنه يقتل بها، والجامع: أن كلًا منهما يحد إذا قذف صاحبه، ومثله القتل والقصاص، فإن قلتَ: يقتل الرجل بالمرأة، ويُعطى أولياء الرجل نصف الدية؛ لقول الصحابي؛ حيث ثبت عن علي ذلك قلتُ: عنه جوابان: أولهما: أنه مخالف للكتاب، والسنة والقياس، وهذه الأدلة أقوى بلا شك من قول الصحابي، فتقدَّم عليه، ثانيهما: أنا لا نسلِّم وجوب شيء مع القصاص، إذ لا شيء بعد القصاص، وكون القاتل رجلًا، فيُقتل وهو بدل عن امرأة لا عبرة به في القصاص يؤيده أن الجماعة يُقتلون بالواحد، وأن العبد يقتل بالعبد وإن اختلفت قيمتهما، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي مع الكتاب، والسنة، والقياس".

(11)

مسألة في الرابع - من شروط وجوب القصاص والقَوَد - وهو: أن لا يكون المقتول ولدًا للقاتل، فلو قتل أب ابنه، أو ابنته: فلا يقتل الأب، وكذا: لو قتلت أم ابنها، أو ابنتها: فلا تقتل الأم سواء اتفقا في الدين، أو في الحرية، أو لا، فلو قتل كافر ولده المسلم، أو قتل المسلم أباه الكافر، أو قتل العبد ولده الحر، أو قتل الحر ولده العبد: فلا قصاص بينهما؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام "لا يُقتل والد بولده" وهذا عام للأب والأم الحر والعبد، والكافر والمسلم، وقال:"أنت ومالك لأبيك" وهذا فيه نوع تمليك الولد لوالده، وهذه شبهة تدرأ القصاص؛ لأنه يدرأ بالشبهات، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون الوالد سببًا لإيجاد الولد: أن لا يكون الولد سببًا لإعدام =

ص: 35

منهما) أي: من الأبوين وإن علوا؛ لعموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي

= الوالد، ويلزم من شرف الأبوة: انتفاء القصاص، وهذا الشرف موجود ولو كان الولد والوالد مختلفين في الدين والرق والحرية.

[فرع]: إذا قتل الجد ولد ولده أو ولد بنته، أو قتلت الجدة ولد ولدها، أو ولد بنتها: فإن الجد والجدة يقتلان؛ للسنة القولية: السابقة الذكر في مسألة (11) والمقصود بالوالد والوالدة هما: الوالدان المباشران، والمقصود بالأب - في الحديث الآخر - الأب المباشر - فلا يدخل الجد والجدة هنا ودخولهما بعيد جدًّا كما قال ابن تيمية، فإن قلتَ: إن الجد والجدة إذا قتلا أولاد أولادهما: لا يقتلان وهو قول المصنف هنا؛ للسنة القولية: وهي المذكورة في مسألة (11)؛ لأن الجد والجدة والدان فيدخلان في عموم النص، قلتُ: إن المتبادر إلى الأذهان من ذكر: "الوالد" هو الأب المباشر، والأم المباشرة، دون الجد والجدة؛ حيث لا يدخلان إلّا بقرينة، يؤيده: أنهما غير الأبوين في الميراث، وغيرهما في ولاية النكاح ونحو ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: الاختلاف في لفظ "والد" الوارد في الحديث هل يدخل فيه الجد والجدة حقيقة أو مجازًا؟ فعندنا: مجازًا، وعندهم: حقيقة، فإن قلتَ: إن الأم إذا قتلت ولدها: فإنها تقتل به؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الأخ إذا قتل أخاه يقتل به، فكذلك الأم إذا قتلت ولدها تقتل به، والجامع: عدم الولاية على المقتول في كل قلتُ: إن الأم كالأب في ذلك؛ لكونها أحد الأبوين، ولكونها أولى بالبر فكانت أولى في سقوط القصاص عنها إذا قتلت ولدها، والولاية لا تُعتبر في القصاص بدليل: أن الأب إذا قتل ولده الكبير: فإن الأب لا يُقتل به، وإن كان لا ولاية له على هذا الولد الكبير فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض القياس مع النص".

ص: 36

الْقَتْلَى}، وخُصَّ منه ما تقدَّم بالنص

(12)

، ومتى ورث قاتل، أو ولده بعض دمه: فلا قود، فلو قتل أخا زوجته، فورثته، ثم ماتت فورثها القاتل، أو ولده: فلا قصاص؛ لأنه لا يتبعَّض

(13)

.

(12)

مسألة: إذا قتل شخص أباه، أو أمه: فإن هذا الشخص يُقتل به؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} حيث إن هذا عام: في أن من قتل غيره عمدًا عدوانًا: فإنه يُقتل القاتل وخص الوالد: فلا يقتل بولده بالسنة التي ستأتي، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يُقتل والد بولده" وهذا خاص، قد خصَّص عموم الآية السابقة، من باب:"تخصيص الكتاب بالسنة"، ودلّ مفهوم الصفة: على أن الولد يقتل إذا قتل والده: من أب أو أم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأن حرمة الوالد على الولد آكد فإن قلتَ: لا يقتل الولد إذا قتل أباه، أو أمه، وهذا رواية عن: أحمد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الوالد لا يُقتل إذا قتل ولده فكذلك الولد لا يُقتل إذا قتل والده والجامع: أن كلًا منهما لا تقبل شهادة الآخر له بحق النسب قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الابن مضاف إلى أبيه بلام التمليك في قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك"، دون العكس وهذا فيه شبه تملك الوالد لولده دون العكس، ثم إن الوالد أعظم حرمة وحقًا من الأجنبي، فإذا قتُل الولد بالأجنبي فلأن يُقتل إذا قتل والده من باب أولى، فإن قلتَ: ماسبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع النص" وأيضًا: "تعارض القياسين" كما سبق بيان ذلك.

(13)

مسألة: إذا قتل زيد عمرًا، ثم ورث ولد زيد القصاص، أو شيئًا منه، أو ورث القاتل - وهو زيد - شيئًا من دمه: فإن القصاص يسقط عن زيد، فمثلًا لو قتل زيد زوجته، أو قتلته زوجته ولهما ولد: فإن القصاص يسقط عن القاتل منهما، وكذا: لو قتل زيد أخًا لزوجته فورثته، ثم ماتت، فورثها ولدها - الذي هو ولد =

ص: 37

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= زيد - أو ورثها زيد القاتل: فإن القصاص يسقط عن زيد أيضًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب القصاص: أن يجب لولد زيد، ولا يجب للولد قصاص على أبيه: سواء كان هذا الولد هو الوارث الوحيد للمقتول، أو معه غيره من الورثة؛ للتلازم؛ حيث اشترك ذلك الولد في ميراث القصاص، وإذا أسقط بعض ورثة المقتول القصاص: سقط جميعه؛ لأن القصاص لا يتبعَّض فيكون شبيهًا بما لو عفا أحد الشريكين.

وكذا: لو قتلت زوجة أخًا لزوجها، ولها ولد من أخيه المقتول: فالحكم فيها كما قلنا في المسألة، والأمثلة على ذلك كثيرة.

هذه آخر مسائل باب "شروط وجوب القصاص"، ويليه باب:"استيفاء القصاص".

ص: 38

‌باب استيفاء القصاص

وهو: فعل مجني عليه، أو فعل وليه بجان مثل ما فعله أو شبهه (يُشترط له) أي: استيفاء القصاص (ثلاثة شروط

(1)

: أحدها: كون مستحقه مكلَّفًا) أي: بالغًا عاقلًا، (فإن كان) مستحق القصاص، أو بعض مستحقه (صبيًا، أو مجنونًا: لم يستوفه) لهما أب، ولا وصي، ولا حاكم؛ لأن القصاص ثبت لما فيه من التشفِّي، والانتقام، ولا يحصل ذلك لمستحقه باستيفاء غيره (وحبس الجاني) مع صغر مستحقه

‌باب استيفاء القصاص

وفيه سبع عشرة مسألة:

(1)

مسألة: المراد بـ "استيفاء القصاص": أن يفعل المجني عليه مثل ما فعله الجاني به أو شبهه - إن كانت الجناية على ما دون النفس كقطع بيد أو رجل أو قلع عين ونحوها -، أو يفعل ولي المقتول مثل ما فعله الجاني أو شبهه بالمقتول - إن كانت الجناية على النفس -، فمثلًا: لو كان القاتل: قد قطع أطراف شخص قبل قتله: فإن ولي هذا الشخص المقتول يقطع أطراف هذا القاتل، ثم يقتله تمامًا كما فعل بالمقتول - وسيأتي بيانه - فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن أولياء المقتول يجدون في أنفسهم ذلَّة بسبب قتل ذلك الشخص لصاحبهم، وعدوانه عليه، وهذا في العادة والعرف، ويجدون غيظًا، فشرع لهم الاستيفاء للقصاص من قاتل صاحبهم بالطريقة التي أذاق بها صاحبهم؛ لإعادة مكانتهم، وإعزازهم، ولدرك الغيظ الذي وجدوه، وهذا قد لا يحس به إلا من مرَّ عليه، وذاق أنواعًا من الظلم، ولا يكفي في ذلك أخذ الدية عند أكثرهم، وهذا فيه مصالح عظيمة، ودفع لمفاسد لا تحصى، إذ سيمتنع كل من حدَّثته نفسه أن يقتل أحدًا، أو يعتدي على أحد، ومن تمام محاسن الشريعة: أنها لم تطلق استيفاء القصاص، بل قيّدته بشروط سيأتي ذكرها؛ لئلا يُظلم الجاني أيضًا.

ص: 39

(إلى) البلوغ و) مع جنونه إلى (الإفاقة)؛ لأن معاوية حبس هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة فلم يُنكر

(2)

، وإن احتاجا لنفقة:

(2)

مسألة: في الأول - من شروط استيفاء القصاص - وهو: أن يكون مستحق القصاص مكلفًا - وهو ولي المجني عليه - فإن كان صبيًا، أو مجنونًا: فإن القاتل يُحبس حتى يبلغ الصبي، ويعقل المجنون ويقدم الغائب، هذا إذا كان الولي واحدًا وأما إن كان أولياء المجني عليه أكثر من واحد: فإن اتّفق المكلَّفون منهم على القصاص فإنه يُحبس أيضًا حتى يبلغ الصبي منهم والمجنون ولا يستوفي القصاص عنهما أبوهما، ولا وصيهما، ولا الحاكم، وإن أسقط واحد من المكلَّفين حقَّه من القصاص: فإن القصاص يسقط عن القاتل، وحينئذٍ لا يُحبس، وتجب الدية؛ لقواعد: الأولى: التلازم؛ حيث إن غير المكلَّف ليس أهلًا للتصرُّف في شيء ولا يدرك حقائق الأمور وقد لا يحس بالتشفّي والانتقام: فيلزم عدم استحقاقه لاستيفاء القصاص، وهو في حالة الصبا والجنون، ويلزم من كون القصاص قد شرع للتشفي والانتقام: أن لا يقوم به أب المستحق، أو وليه، أو وصيه، أو الحاكم؛ لأن هذا التشفّي والانتقام لا يحصل إلا لمستحقه الخاص؛ لكونه يحسُّ به حقيقة، ويلزم من إسقاط بعض المكلَّفين لحقه من القصاص: سقوط القصاص كله؛ لأن القصاص لا يتبعَّض، ويلزم أيضًا منه: عدم سجنه، وتستقر عليه الدية إن طالب بها أولياء المقتول، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن معاوية قد حبس هدبة بن خشرم في قصاص، حتى بلغ ابن القتيل، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن القاتل لو لم يُحبس لهرب وضاع الحق، فدفعًا لذلك: شرع هذا، فإن قلتَ: إن والد الصبي، أو المجنون يستوفي عنهما القصاص، وهو قول أبي حنيفة، ومالك؛ للقياس؛ بيانه: كما أن للأب أخذ الدية عنهما فكذلك استيفاء القصاص عنهما والجامع: أن كلًا من القصاص، والدية أحد بدلي النفس قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الدية يحصل الغرض باستيفاء الأب لها، بخلاف القصاص فلا =

ص: 40

فلولي مجنون فقط العفو إلى الدية

(3)

الشرط (الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه) أي: في القصاص (على استيفائه، وليس لبعضهم أن ينفرد به)؛ لأنه يكون مستوفيًا لحق غيره بغير إذنه، ولا ولاية له عليه، (وإن كان من بقي) من الشركاء فيه (غائبًا، أو صغيرًا، أو مجنونًا: انتظر القدوم) للغائب (والبلوغ) للصغير (والعقل) للمجنون

(4)

،

= يحصل الغرض من استيفائه إلا إذا قام به مستحقه الحقيقي لأنه للتشفِّي، والانتقام، وهذا لا يحس به إلا مستحقه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم والمصلحة".

[فرع]: لا يصح أن يُقيم القاتل كفيلًا ضامنًا له ليُخلى سبيله؛ للتلازم؛ حيث إن الكفالة والضمان لا تكون في القصاص؛ لأنه لا يمكن استيفاء القصاص من غير القاتل.

(3)

مسألة: يُباح لولي المجنون أن يعفو عن القصاص بدلًا عنه، ويأخذ الدية في حالة واحدة وهي: إذا كان ذلك المجنون المستحق للقصاص فقيرًا؛ للتلازم؛ حيث إن المجنون ليس له وقت ينتظر فإذا جاء أفاق فيه، ورجع إلى عقله، فلزم ما ذكر.

[فرع]: إذا كان الصبي المستحق للقصاص فقيرًا: فليس لوليه أن يعفو عن القصاص، ويأخذ الدية؛ للتلازم؛ حيث إن الصبا مؤقت ينتهي ببلوغه: فيلزم عدم عفو الولي عن القصاص وأخذ الدية والإنفاق عليه، فإذا بلغ الصبي يُسدِّد ما عليه من النفقات.

(4)

مسألة في الثاني - من شروط استيفاء القصاص - وهو: أن يتّفق الأولياء المشتركين في القصاص وهم: المستحقون له - وهم ورثته: من النسب، والسبب: الرجال والنساء، الكبار والصغار - ولا يجوز لأي واحد منهم أو مجموعة منهم: أن يقوم باستيفاء القصاص دون البعض الآخر: فإن كان بعضهم غائبًا: انتظر حتى يعود، وإن كان صغيرًا: انتظر حتى يبلغ، وإن كان مجنونًا: انتظر حتى يعقل إن أمكن؛ للتلازم؛ حيث إن القصاص حق الجميع المشتركين في ميراث المقتول: فيلزم عدم =

ص: 41

ومن مات قام وارثه مقامه

(5)

، وإن انفرد به بعضهم: عُزِّر فقط

(6)

، ولشريك في تركة جان حقه من الدية، ويرجع وارث جان على مقتص بما فوق حقه

(7)

، وإن عفا

= جواز استيفائه من البعض دون البعض الآخر من غير إذنه، ولا تصح في الاستيفاء الولاية، ولا النيابة، ولا يحصل التشفّي للمستحق إذا قام به غيره.

(5)

مسألة: إذا قتل زيد عمرًا عمدًا عدوانًا، وكان المشتركون في القصاص ثلاثة - بكر، ومحمد، وزينب - وهم ورثة عمرو، ومات بكر: فإن ورثته - أي: ورثة بكر - يشتركون مع محمد، وزينب في استيفاء القصاص من زيد القاتل - بدلًا من مورِّثهم: بكر؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ورثة بكر يشتركون مع محمد وزينب في ميراث عمرو، فكذلك يشتركون معهما في استيفاء القصاص من زيد القاتل، والجامع: أن كلًا منهما حق يستحقه الوارث، فيجب أن يستوفيه، وهو من باب إعطاء كل ذي حق حقه، وهو المقصد منه.

(6)

مسألة: إذا انفرد باستيفاء القصاص واحد من المشتركين فيه: كأن يقتل محمد زيدًا؛ لكونه قد قتل عمرًا مورِّثه - كما سبق في مسألة (5) -: فإن محمدًا لا يُقتل قصاصًا هنا؛ للتلازم؛ حيث إن محمدًا - وهو من المستحقين لاستيفاء القصاص من زيد - قتل نفسًا يستحق بعضها: فيلزم عدم وجوب قتله بتلك النفس - وهي: نفس زيد -، لأن النفس الكاملة - وهي نفس محمد هنا - لا تؤخذ ببعض النفس - وهي بعض نفس زيد -؛ لأن محمدًا قد استحق بعض نفس زيد؛ لأنه من ورثة عمرو المقتول.

(7)

مسألة: إذا انفرد باستيفاء القصاص واحد من المشتركين فيه بلا إذن بقية الورثة والمستحقين - كما فعل محمد بزيد وقتله؛ لكونه قتل عمرًا - كما سبق في مسألتي (5 و 6) -: فإن الذي لم يقتل من الأولياء - وهما بكر وزينب كما سبق في مسألة (5) - يأخذ قسطه من الدِّية من وارث زيد القاتل الجاني - الذي قتله محمد - ويرجع وارث زيد - الجاني والقاتل - على المقتص - وهو محمد هنا - ويأخذ منه ما =

ص: 42

بعضهم: سقط القَوَد

(8)

الشرط (الثالث: أن يؤمن في الاستيفاء: أن يتعدَّى الجاني)

= زاد على ما يستحقه: من دم الجاني، سواء كانت دية الجاني مثل دية المقتول، أو لا، أو أقل؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو مات الجاني - وهو القاتل وهو زيد هنا -: فإن لورثة المجني عليه قسطهم من الدية، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن حق كل منهم قد سقط بغير اختياره، فوجبت الدية؛ ضرورة.

(8)

مسألة: إذا عفا بعض المستحقين لاستيفاء القصاص - وهم ورثة المقتول -: فإن القصاص يسقط، سواء كان المسقط لحقه من القصاص ذكرًا، أو أنثى، كبيرًا، أو صغيرًا، فكل واحد منهم يصح عفوه ويسقط بذلك القصاص، ولا سبيل إلى القاتل - حينئذٍ -؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "فأهله بين خيرتين" وهذا عام في جميع أهل المقتول، والمرأة تعتبر من أهله، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن جميع الورثة - الكبار والصغار، الرجال والنساء - يرثون الدية، فكذلك يرثون القصاص، أي: كما أن لكل وارث حقه من ميراث الدية - لا يفرق بين الرجال والنساء - فكذلك لكل وارث حقه من القصاص، والجامع: أن كلًا منهما حق للوارث، الثالثة: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن عمر قد أسقط القصاص عن رجل قد عفت امرأة عن حقها في استيفاء القصاص منه، فإن قلتَ: ليس للنساء عفو، فلو عفون عن القصاص، فلا يُنظر لذلك: سواء كُنّ وارثات أو لا، وهو قول الليث والأوزاعي، ومحكي عن مالك، للقياس؛ بيانه: كما أن ولاية النكاح يختص بالرجال والعصبات، فكذلك العفو يختص بالرجال، والجامع: أن كلًا منهما قد ثبت لدفع العار، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع النص - وهي السنة القولية السابقة - فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع النص" و "تعارض القياسين".

[فرع]: إذا عفا بعض المستحقين لاستيفاء القصاص - وهم بعض الورثة - عن القاتل، ثم قتله البعض الآخر مع علمهم بذلك العفو، وسقوط القصاص =

ص: 43

إلى غيره؛ لقوله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}

(9)

(فإذا وجب) القصاص (على) امرأة (حامل أو) امرأة (حائل فحملت: لم تقتل حتى تضع الولد، وتسقيه اللبأ)؛ لأن قتل الحامل يتعدَّى إلى الجنين، وقتلها قبل أن تسقيه اللبأ يضرُّه؛ لأنه في الغالب لا يعيش إلّا به (ثم) بعد سقيه اللبأ (إن وجد من يُرضعه): أعطي الولد لمن يرضعه، وقتلت؛ لأن غيرها يقوم مقامها في إرضاعه (وإلا) يوجد من يُرضعه: (تركت حتى تفطمه لحولين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قتلت المرأة عمدًا: لم تقتل حتى تضع ما في

= بذلك: فإن هؤلاء القاتلين له: يجب عليهم القصاص والقود، سواء حكم به الحاكم، أو لا؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كونهم قد قتلوا معصومًا مكافئًا لهم عمدًا عدوانًا مع علمهم بأنه لا حق لهم في قتله: وجوب القصاص على القاتل، فإن قلتَ: لا يجب القصاص على من قتله وهو قول للشافعي؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وقوع شبهة؛ نظرًا لوقوع الاختلاف فيه: عدم القصاص؛ لأن القصاص يُدرأ بالشبهات قلتُ: إن الاختلاف لا يسقط الحقوق كالقصاص، فمثلًا: لو قتل زيد مسلمًا قد قتل كافرًا: فإنّا نقتل زيدًا هذا وجود الاختلاف السابق في مسألة (4) من باب: "شروط وجوب القصاص" فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل الاختلاف في حكم قصاص في شيء يُعتبر شبهة تدرأ القصاص؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(9)

مسألة: في الثالث - من شروط استيفاء القصاص - وهو: أن يُؤمن في استيفاء القصاص من شخص: عدم تعدِّي القصاص من الجاني إلى غيره إن كان القصاص بالنفس، أما إن كان القصاص في الأطراف يُشترط أن يؤمن: عدم تعدِّيه إلى طرف آخر غير المقتصّ منه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} حيث إن التعدِّي في القتل، أو في قطع طرف إسراف في القصاص، وهذا قد نهى عنه الشارع، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تحقيق للعدالة والإنصاف.

ص: 44

بطنها إن كانت حاملًا، وحتى تكفل ولدها، وإذا زنت: لم ترجم حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملًا وحتى تكفل ولدها" رواه ابن ماجه (ولا يقتص منها) أي: من الحامل (في طرف) كاليد والرجل (حتى تضع) وإن لم تسقه اللبأ (والحد) بالرجم إذا زنت المحصنة الحامل، أو الحائل وحملت (في ذلك كالقصاص): فلا ترجم حتى تضع وتسقيه اللبأ، ويوجد من يرضعه، وإلا: فحتى تفطمه

(10)

، وتحد بجلد عند

(10)

مسألة: إذا وجب القصاص على امرأة: سواء كان قصاصًا في نفس، أو قصاص في طرف كقطع يدها، أو رجلها، أو وجب الحد عليها بسبب سرقة، أو بسبب زناها وهي محصنة، وكانت هذه المرأة قد ثبت حملها: فإنها لا تقتل، ولا يقتص منها بما دون النفس إلا بعد أن تضع حملها، ثم تسقي مولودها اللبأ - وهو: أول اللبن بعد الولادة مباشرة - فإن وُجد من يرضعه عنها بعد ذلك: فإن المولود يُسلَّم لتلك المرضعة، ثم تقتل أمه، وإن لم يوجد من يرضعه: فإنها ترضعه حتى تفطمه بعد حولين، فإذا تمّ الحولان، فإنها تُقتل قصاصًا، أو حدًا، أو يقطع طرفها قصاصًا أو حدًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "إذا قتلت المرأة عمدًا: لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملًا، وحتى تكفل ولدها، وإذا زنت: لم ترجم حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملًا، وحتى تكفل ولدها، وهذا نهي، وهو مطلق، فيقتضي التحريم، ثانيهما: أنه عليه السلام قال للغامدية المقرّة بالزنى: "ارجعي حتى تضعي ما في بطنك" لما ثم وضعته جاءت به فقال لها: "ارجعي حتى ترضعيه" ثم جاءت به وبيده خبزة يأكل منها، فأمر بها فرجمت، وما ذكر من قطع أطرافها قصاصًا أو حدًا مثل القتل والزنى: في أنه لا يُقام عليها القصاص والحدّ إلّا أن تضع ما في بطنها، وأن تفطمه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن حرمان الطفل المولود من اللبأ، وعدم إيجاد من يرضعه: قد يضره: فدفعًا لذلك الضرر: أمر بإرضاعه.

تنبيه: قوله: "وإن لم تسقه اللَّبأ" في الاقتصاص منها بما دون النفس لم =

ص: 45

الوضع

(11)

.

(فصل): (ولا يجوز أن (يستوفي قصاص إلا بحضرة سلطان، أو نائبه)؛ لافتقاره إلى اجتهاده، وخوف الحيف

(12)

(و) لا يستوفي إلّا بـ (آلة ماضية)، وعلى الإمام تفقُّد الآلة؛ ليمنع الاستيفاء بآلة كالَّة؛ لأنه إسراف في القتل

(13)

، وينظر في

= أجد دليلًا على ذلك، والصحيح: أن الحكم واحد - كما سبق بيانه.

(11)

مسألة: إذا وجب على المرأة حدٌّ فيه جلد حد القذف، فإنها لا تجلد وهي حامل، فإذا وضعت حملها: فإنها تجلد وإن كانت في حال إرضاعها لذلك المولود بشرط: عدم الإضرار بها وبولدها، للمصلحة: حيث إن جلدها بعد وضعها مباشرة غير مضرّ بها عادة، ويؤجَّل إن أضرَّ بها أو بولدها؛ دفعًا للضرر، أصله: قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقاعدة: "الضرر يزال".

(12)

مسألة: يجب أن يستوفى القصاص من الجاني بحضرة إمام، أو نائبه؛ للتلازم؛ حيث إن افتقار وحاجة استيفاء القصاص إلى اجتهاد الإمام أو نائبه، والخوف من حيف وظلم المستحق للاستيفاء على الجاني يلزم منه: أن لا يُستوفى القصاص إلا بحضرته؛ ليمنع ما خالف الشرع في - وهو المقصد منه.

[فرع]: إذا استوفى مستحق القصاص بدون حضور الإمام أو نائبه: فإنه يصح، ويقع الموقع، ولكن يستحق هذا المستوفي التعزير والتوبيخ؛ للتلازم؛ حيث إن حضور الإمام أو نائبه فيه دفع مفسدة الجور أو الظلم: فيلزم تعزير المستوفي دونه؛ لافتياته بفعل ما منع فعله.

[فرع ثان]: يُستحب أن يحضر شاهدان استيفاء القصاص؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه ضمان عدم جحد المجني عليه الاستيفاء.

(13)

مسألة: يجب أن يستوفي ولي الدم القصاص بآلة ماضية قاتلة، وقاطعة بسرعة، ويجب على الإمام أو نائبه التأكّد من ذلك بنفسه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم =

ص: 46

الولي، فإن كان يقدر على استيفائه ويحسنه: مكَّنه منه، وإلا: أمر أن يوكِّل

(14)

، وإن احتاج إلى أجرة: فمن مال جان

(15)

(ولا يستوفى) القصاص (في النفس إلّا

= فأحسنوا القِتْلة" والقتل بآلة ماضية وسريعة من الإحسان في القتل؛ الثانية: المصلحة؛ حيث إن الاستيفاء بآلة كالَّة لا تُميت سريعًا فيه إيذاء للمقتول وإسراف في القتل المنهي عنه، فمنعًا لذلك: وجب أن يُقتل بآلة ماضية، ووجب على الإمام أو نائبه أن يتأكد من ذلك بنفسه؛ تحقيقًا لذلك؛ لكونه قادرًا على منع الظلم.

[فرع]: إذا قتل المستحق لاستيفاء القصاص بآلة كالَّة: صح ذلك، ولكنه يُعزَّر؛ للمصلحة حيث فوَّت إراحة المقتول.

(14)

مسألة: إذا كان الولي يقدر على استيفاء القصاص بنفسه، ويُحسن ذلك: فإنه يُمكَّن من ذلك، وإن لم يقدر على ذلك: فإنه يُجبر على توكيل آخر يقدر عليه، والعادة عند الحكام والولاة وجود أشخاص عندهم يقدرون على استيفاء القصاص عن غيرهم مستكملين لشروط الاستيفاء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الحق له: أن يستوفيه بنفسه إذا كان قادرًا على ذلك، ويلزم من عدم قدرته: توكيله من يحسنه؛ لقيام الوكيل مقام الموكِّل.

(15)

مسألة: إذا كانت إقامة القصاص تحتاج إلى أجرة - كأجرة الذي يقطع الرقبة، أو حمل الجاني من مكان إلى مكان آخر ونحو ذلك -: فإن هذا كله يؤخذ من مال الجاني؛ للتلازم؛ حيث إن استيفاء القصاص شرع لأخذ الحق الذي عليه فيلزم أن تكون أجرة ذلك الاستيفاء لازمة له.

[فرع]: إذا وجد أولياء للمجني عليه - وهم ورثته -: فإنهم يوكِّلون أحدهم لاستيفاء القصاص من الجاني، فإن تشاحُّوا وأراد كل واحد منهم أن يستوفيه: فإنه يُقدَّم أكثرهم نصيبًا في إرث المجني عليه إذا كان قادرًا على ذلك، وإن تعذَّر ذلك: فيُقدَّم الأقدر عليه فإن كانوا سواء: أقرع؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من =

ص: 47

بضرب العنق بسيف، ولو كان الجاني قتله بغيره)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"لا قَوَد إلّا بالسيف"

(16)

، ولا يُستوفى من طرف إلا بسكين ونحوها؛ لئلا

= كون أحدهم أكثر إرثًا: أن يكون هو المقدَّم، ويلزم من كون أحدهم أقدر: أن يُقدَّم، نظرًا لكون الشارع قد قدم ذلك في الإمامة، ويلزم من تساويهم في ذلك: أن تستعمل القرعة؛ لكون الحقوق متساوية.

(16)

مسألة: إذا أراد ولي الدم أن يستوفي القصاص: فإنه يفعل بالجانَي كما فعل بالمجنى عليه، فإن كان الجاني قد قطع أطرافه قبل قتله، فإن ولي المقتول يقطع أطرافه، ثم يقتله، ولو أغرق أو أحرق الجاني المجني عليه فمات: فإن ولي المجنى عليه يُغرق، أو يُحرق الجاني حتى الموت وإن قطع عنقه فله ذلك وهو مذهب الجمهور؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقال: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} فأمر الشارع مجازاة الجاني بمثل ما فعل مع المجني عليه تمامًا، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إن يهوديًا قد رضّ رأس جارية من الأنصار، فأمر عليه السلام برضّ رأسه بين حجرين، وهذا أصرح شيء في الباب، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من لفظ "القصاص": أن يكون ذلك القصاص على المماثلة، فيجب أن يستوفى منه مثل ما فعل، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك يتسبَّب في منع إلحاق الضرر بالآخرين. فإن قلتَ: لا يستوفى القصاص في النفس إلا بضرب عنقه بالسيف، ولو كان الجاني قتل المجني عليه بغير السيف، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا قَوَد إلّا بالسيف" حيث حصر القصاص بقطع العنق بالسيف ودلّ مفهوم الحصر على أن لا يُقتل الجاني بما قتل المجني عليه به قلتُ: هذا الحديث قد ضعَّفه كثير من أئمة الحديث، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: الاختلاف في حديث: "لا قَوَد إلّا بالسيف": فعندنا ضعيف، وعندهم قوي.

ص: 48

يحيف

(17)

.

(17)

مسألة: إذا جنى شخص على شخص آخر فقطع طرفًا من أطرافه: فلا يستوفي المجني عليه ذلك ويقطع طرف الجاني إلّا بسكين ونحوها من الآلات الحادَّة التي يُؤمن من ميلانها عن موضع الطرف؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه أمان من الحيف والميل عن موضع الطرف الذي يراد قطعه، وهذا فيه إنصاف للجاني.

هذه آخر مسائل باب: "استيفاء القصاص" ويليه باب: "العفو عن القصاص".

ص: 49

‌باب العفو عن القصاص

أجمع المسلمون على جوازه (يجب بـ) القتل (العمد القود، أو الدية، فيُخيَّر الولي بينهما)؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "من قُتل له قتيل: فهو بخير النظرين، إما أن يُؤدَّى، وإما أن يُقاد" رواه الجماعة إلا الترمذي (وعفوه) أي: عفو ولي القصاص (مجانًا) أي: من غير أن يأخذ شيئًا (أفضل)؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ولحديث أبي هريرة مرفوعًا:"ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزًّا" رواه أحمد، ومسلم، والترمذي

(1)

،

‌باب العفو عن القصاص

وفيه عشر مسائل:

(1)

مسألة: إذا قتل زيد عمرًا عمدًا عدوانًا: فإن ولي عمرو يُخيَّر: فإن شاء اقتص، وقتل زيدًا - قاتل عمرو - وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا عن القصاص والدية معًا، وهذا الأخير أفضل؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} : أي: كفارة للذي عفا بسبب صدقته، ففي هاتين الآيتين حثّ على العفو، وأن ما يقوى عليه إلا من اتّصف بالتقوى، التي هي أعظم صفة يتمناها كل مسلم؛ الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "من قُتل له قتيل، فهو بخير النظرين؛ إما أن يُؤدى وإما أن يُقاد" والمراد بـ "القتيل" هنا: القريب الذي كان حيًا، فصار قتيلًا بذلك القتل، والحديث صريح في تخيير ولي المقتول بين القصاص، والعفو، ثانيهما: قوله عليه السلام: "ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزًا"، والمرأة مثل الرجل؛ لعدم الفارق، فحثّ الشارع على العفو هنا، وجعل له هذه المكرمة - وهي العزَّة في الدنيا والآخرة - وهي فضيلة نتمنى أن نكون من أهلها: أنا، =

ص: 50

ثم لا تعزير على جان

(2)

.

(فإن اختار) ولي الجناية (القَوَد، أو عفا عن الدية فقط) أي: دون القصاص: (فله أخذها) أي: أخذ الدية؛ لأن القصاص أعلى، فإذا اختاره: لم يمتنع عليه الانتقال إلى الأدنى (و) له (الصلح على أكثر منها) أي: من الدية، وله أن يقتص؛ لأنه لم يعف مطلقًا

(3)

، (وإن اختارها) أي: (اختار الدية: فليس له غيرها، فإن قتله بعد:

= وجميع إخواني المسلمين العاملين بالإسلام بإخلاص، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تخيير ولي المقتول بين "القصاص" و"الدية" فيه توسعة ورحمة وتخفيف لم يكن في الشرائع السابقة؛ حيث كان القصاص على اليهود واجبًا، وكانت الدية واجبة على النصارى، وشُرع العفو: لنشر التسامح بين المسلمين، والحثّ على التعاون والترابط بين أفراد المجتمع، فإن قلتَ: لِمَ كان العفو جائزًا بالإجماع؟ قلتُ: لأن العفو إذا كان أفضل من غيره، فيلزم أن يكون جائزًا؛ لأن الأفضل فعله: جواز وزيادة.

(2)

مسألة: إذا عفا ولي المجنى عليه - أو أولياؤه، وهم ورثته - عن قصاص الجاني: فإنه - أي: الجاني - يكون حرًا طليقًا، لا تعزير ولا تأديب عليه؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه إذا عُفي عن الدية بالنسبة للقاتل خطأ: فإنه لا شيء عليه، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما عليه حق واحد وقد سقط، فلا يُطالب بشيء آخر.

(3)

مسألة: القصاص، أو الدية واجب على الجاني، وولي المجني عليه مخيَّر بينهما: إن شاء اقتصّ، وإن شاء أخذ الدية، فإذا عفا عن القصاص والقَوَد: فإن الدّية تتعيَّن، فيأخذها ولي المجني عليه وإن لم يرض ولي المجني عليه إلا بأكثر من الدية: فله ذلك، ويأخذ أكثر منها صلحًا بينه وبين الجاني؛ للتلازم؛ حيث إن القصاص أو الدية واجب مخيَّر فيلزم منه: أنه إذا اختار أحدهما لا بعينه: سقط الآخر، فيلزم من عفوه عن القصاص: وجوب الدية له؛ لأن إسقاط ما هو =

ص: 51

قتل به؛ لأنه أسقط حقه من القصاص

(4)

(أو عفا مطلقًا): بأن قال: "عفوتُ" ولم يقيده بقصاص، ولا دية: فله الدية؛ لانصراف العفو إلى القصاص؛ لأنه المطلوب الأعظم

(5)

(أو هلك الجاني: فليس له) أي: لولي الجناية (غيرها) أي: غير الدية من تركة الجاني؛ لتعذُّر استيفاء القَوَد، كما لو تعذَّر في طرفه

(6)

(وإذا قطع) الجاني (إصبعًا

= أعلى - وهو القصاص - لا يمنع الانتقال إلى ما أدنى، فتكون بدلًا من القصاص.

[فرع]: إذا قامت جماعة بقتل شخص: فإن ولي المقتول يخير بين القصاص منهم جميعًا، أو أخذ الدية، أو العفو عنهم، أو القصاص من بعضهم، وأخذ الدية من البعض الآخر من القاتلين؛ للقياس؛ بيانه: كما يفعل ذلك بالمنفرد، فكذلك يفعل بالجماعة والجامع: أن لولي الدم الحق في ذلك.

(4)

مسألة: إذا اختار ولي المجني عليه الدية، أو أعطي إياها فأخذها: فقد ثبت عنه: أنه أسقط القصاص والقَوَد، ولا يملك بعد ذلك طلب القصاص، ولو قتل ولي المجني عليه الجاني بعد اختياره للدية: فإنه - أي: ولي المجني عليه - يُقتل به قصاصًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من أخذه للدية: أنه أسقط حقه من القصاص، ويلزم من ذلك أن الجاني: يبرأ ويكون كأنه لم يجنِ على أحد، ويلزم من قتل ولي المجني عليه له: أنه قتله عمدًا عدوانًا بدون وجه حق: فيلزم إيجاب القصاص عليه كما لو قتل ابتداءً، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا فيه منع للتعدِّي على الآخرين.

(5)

مسألة: إذا قال ولي المجني عليه: "عفوتُ" وأطلق اللفظة، فلم يُقيِّد ذلك بقصاص، ولا دية: فله الدية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون المطلوب الأعظم هو القصاص: أن يُصرف العفو عن القصاص فقط، لكونه هو المتبادر إلى الذهن عند ذكر العفو.

(6)

مسألة إذا مات الجاني: فليس لولي المجني عليه إلا الدية، تؤخذ من تركة الجاني، =

ص: 52

عمدًا فعفا) المجروح (عنها، ثم سرت) الجناية (إلى الكف، أو النفس، وكان العفو على غير شيء فـ) السراية (هدر)؛ لأنه لم يجب بالجناية شيء، فسرايتها أولى (وإن كان العفو على مال: فله) أي: للمجروح (تمام الدية) أي: دية ما سرت إليه: بأن يسقط من دية ما سرت إليه الجناية أرش ما عفا عنه، ويجب الباقى

(7)

(وإن وكَّل) ولي الجناية

= فإن لم يُخلِّف تركة: فإن الدية تسقط، ولا يُجبر أولياء الجاني على دفع الدية؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الشخص لو قطع يد شخص آخر: وتعذَّر قطع يد الجاني قصاصًا؛ نظرًا لعدم وجودها: فتجب الدية ضرورة، فكذلك إذا مات الجاني مثل ذلك، والجامع: تعذر استيفاء القصاص، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود تركة للجاني: سقوط الدية؛ لأن العاقلة لا تحمل العمد المحض.

(7)

مسألة: إذا قطع زيد إصبع عمرو عمدًا، فعفا عمرو عن ذلك، ثم سرت الجناية إلى كف عمرو فأتلفته فقُطع، أو سرت إلى نفسه فمات: فيجب على زيد تمام الدية، ويُسقط من تلك الدية دية الإصبع فقط - وهي عشر الدية -، والباقي يجب على زيد دفعه: سواء كان العفو الصادر من عمرو على غير شيء، أو كان على مال، وهو قول الجمهور؛ للتلازم؛ حيث يلزم من سراية الجناية إلى كتفه، أو إلى نفسه: وجوب الدية كاملة لعدم العفو عن ذلك، ويلزم من عفوه عن قطع الإصبع: اختصاص السقوط بما عفا عنه، دون غيره فيحسم منه، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا هو الإنصاف في إعطاء كل ذي حق حقه، فإن قلتَ: إن كان عفو عمرو على غير شيء: فإذا سرت الجناية: فسرايتها هدر، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الجناية لم يجب بسببها شيء، فإن عدم وجوب شيء في سرايتها من باب أولى قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الجناية على الإصبع قد عفا عنها، وهو لم يعلم أن ذلك سيسري على باقي يده، أو على نفسه، وعفوه عن قطع الإصبع لا يتعدَّاه إلى =

ص: 53

(من يقتص) له (ثم عفا) الموكِّل عن القصاص (فاقتصَّ وكيله ولم يعلم) بعفوه: (فلا شيء عليهما) لا على الموكِّل؛ لأنه محسن بالعفو، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، ولا على الوكيل؛ لأنه لا تفريط منه

(8)

، وإن عفا مجروح عن قَوَد نفسه، أو ديتها: صح كعفو وارثه

(9)

(وإن وجب الرقيق قَوَد أو) وجب له (تعزير قذف: فطلبه) إليه

= غيره من أنحاء البدن، فيختصّ العفو بالإصبع فقط، ولم يرد من عمرو ما يدل على أن العفو عام لا بلفظ، ولا بإشارة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في العفو هنا هل هو عفو عن محل الجناية، أو عنه وعن ما يسري إليه؟ ".

(8)

مسألة: إذا قتل زيد عمرًا عمدًا عدوانًا، فوكَّل بكر - ولي عمرو - محمدًا ليقتصّ من زيد، فعفا بكر - وهو الموكل - عن زيد، ولم يعلم محمد، فاستوفى - أي محمد - القصاص من زيد: فلا شيء على الموكِّل - وهو بكر - ولا شيء على الوكيل - وهو محمد -، ولا ضمان على أي واحد منهما؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الموكِّل - وهو بكر - قد أحسن بالعفو: عدم الضمان عليه، وعدم الرجوع عليه؛ لقوله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، ويلزم من عدم التفريط من الوكيل - وهو محمد -: عدم الضمان عليه؛ لأن العفو قد حصل على وجه لم يعلم به، فيُعذر به.

(9)

مسألة: إذا ضرب زيد عمرًا بسيف ونحوه، فلم يمت عمرو مباشرة، وأمكنه من العفو عن القصاص والقَوَد من زيد، أو الدية: فإن هذا العفو يصح، ولا يُطالب زيد بشيء إذا مات عمرو: سواء كان هذا بلفظ "العفو"، أو "الوصية" أو "الإبراء" أو غير ذلك مما يُفهم إسقاط الحق عن زيد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ولي المقتول - وهو عمرو هنا - إذا عفا عن القصاص، والدية: فإنهما يسقطان عن القاتل - وهو زيد هنا - فمن باب أولى أن يسقطان عن زيد إذا عفا عنهما المجني عليه نفسه - وهو عمرو - قبل أن يموت، والجامع: أنه حق لكل من المجني عليه، =

ص: 54

(وإسقاطه إليه) أي: إلى الرقيق، دون سيده؛ لأنه مختص به (فإن مات) الرقيق بعد وجوب ذلك له:(فلسيده) طلبه، وإسقاطه؛ لقيامه مقامه؛ لأنه أحق به ممّن ليس له فيه ملك

(10)

.

= أو وليه، بعد موت المجني عليه.

(10)

مسألة: إذا قتل شخص، وكان ولي المقتول رقيقًا، أو قذفه: فإن حقَّ المطالبة بالقصاص والقَوَد والتعزير مختص بذلك الرقيق: فإن شاء اقتصّ، وإن شاء عفا، ولا حقَّ لسيده في ذلك، هذا إذا كان ذلك الرقيق حيًا، أما إن مات الرقيق بعد استحقاقه للقصاص والقود والتعزير من الجاني: فإنه يحق لسيده طلب القصاص والتعزير، أو العفو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون المقصود من القصاص وإقامة العقوبة التشفِّي: أن يختص القصاص، والتعزير بولي المقتول، أو نفس المقذوف، دون غيره، ويلزم من موت الرقيق: أن يكون سيده أحق بالمطالبة أو العفو؛ نظرًا لقيام السيد مقام رقيقه؛ لاختصاصه بمنافعه، وهو المقصد منه.

هذه آخر مسائل باب: "العفو عن القصاص" ويليه باب: "ما يوجب القصاص فيما دون النفس من الأطراف، والجراح".

ص: 55

‌باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس من الأطراف والجراح

(من أقيد بأحد في النفس)؛ لوجود الشروط السابقة: (أُقيد به في الطرف والجراح)؛ لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية (ومن لا) يُقاد بأحد في النفس كالمسلم بالكافر، والحر بالعبد، والأب بولده:(فلا) يُقاد به في طرف، ولا جراح؛ لعدم المكافأة (ولا يجب إلّا بما يوجب القَوَد في النفس

(1)

، وهو)

‌باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس من الأطراف والجراح

وفيه ثمان عشرة مسألة:

(1)

مسألة: إذا قطع زيد طرفًا لعمرو، أو جرح جرحًا فيه: فلعمرو أن يقتص من زيد فيقطع مثل طرفه الذي قطعه، ويجرحه مثل جرحه الذي جرحه بشرطين: الشرط الأول: أن يكون ممّن يُقتص منه في النفس - وهو الذي توفّرت فيه شروط أربعة: العصمة، والتكليف، والمكافأة، وعدم الولادة - كما سبق في مسائل (1 و 2 و 3 و 11) من باب:"شروط وجوب القصاص" -، أما إن كان لا يُقتص منه في النفس: فلا يقتص منه في الطرف والجراح: فمثلًا: لو قطع مسلم يد كافر: فلا تُقطع يد المسلم، ولو جرح مسلم كافرًا: فلا يُجرح المسلم، ولو قطع صغير أو مجنون يد مكلَّف أو جرحه: فلا يُقتص منهما، ولو قطع حر يد عبد، أو جرحه: فلا يُقتصُّ من الحر، ولو قطع أب يد ولده، أو جرحه: فلا يقتص من الأب في ذلك، الشرط الثاني: أن يكون ذلك القطع، أو ذلك الجرح عمدًا عدوانًا محضًا، فلا قصاص ولا قود في الخطأ، ولا في شبه العمد: فلو ضرب زيد عمرًا بدون قصد إتلاف عضو من أعضائه فأتلف يد عمرو، أو عينه: فلا قصاص ولا قود على زيد، بل تجب عليه دية مغلَّظة تؤخذ من مال زيد، ولا تحمله العاقلة؛ =

ص: 56

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وهذا واضح الدلالة على ثبوت القصاص والقود بقطع الأطراف، والجراح، الثانية: السنة القولية؛ حيث إن الربيع بنت النظر كسرت ثنية جارية، فطالب أولياؤها بالقصاص، فجاء أنس بن النظر أخوها فقال: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال النبي عليه السلام:"يا أنس كتاب الله: القصاص" فعفا القوم فقال النبي عليه السلام: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه" يقصد بذلك أنسًا، فهنا: قد أصرَّ عليه السلام على أن يأخذ بالقصاص في ذلك السن، وهذا يدل على جريان القصاص بالأطراف، الثالثة: القياس؛ وهو من وجهين: أولهما: كما أن القصاص ثابت في النفس بالشروط الأربعة السابقة، فكذلك يثبت في الأطراف والجراح والجامع: أن كلًا منهما بحاجة إلى حفظه، ثانيهما: كما أنه يسقط القصاص إذا كانت الجناية خطأ أو شبه عمد، أو تخلَّف أحد الشروط الأربعة المشروطة في قصاص النفس بالنفس: فكذلك يسقط القصاص فيما دون النفس إذا تخلَّف أحد تلك الشروط، والجامع: عدم التساوي بين الجاني والمجني عليه، فإن قلتَ: لِمَ وجبت دية مغلَّظة على من ضرب غيره فأتلف طرفًا، أو أحدث جرحًا من غير قصد؟ قلتُ: لأن هذا الفعل شبه عمد؛ لكونه قصده بالضرب، والدية الواجبة عن طريق شبه العمد مغلظة من حيث سن الإبل كما سيأتي في باب مقادير ديات النفس في مسالتي (2 و 4)؛ لأن الفعل وقع مقصودًا، بخلاف جناية الخطأ على نفس، أو طرف، أو جرح: فإن العاقلة تحملها؛ لأن الجاني فعل ما له فعله شرعًا: بأن رمى صيدًا فقتل آدميًا معصومًا، أو أتلف طرفًا من أطرافه، أو جرحه، وهذا ليس من فعله، ولم يقصد شيئًا من ذلك، لذا كانت عليه دية مخفَّفة تتحمَّلها العاقلة عنه - وقد سبق - تنبيه: القصاص فيما دون النفس نوعان: وهما كما يلي:

ص: 57

أي: القصاص فيما دون النفس (نوعان: أحدهما: في الطرف: فتؤخذ العين) بالعين (والأنف) بالأنف (والأذن) بالأذن (والسن) بالسن (والجفن) بالجفن (والشفة) بالشفة: العليا بالعليا، والسفلى بالسفلى (واليد) باليد: اليُمنى باليُمنى واليسرى باليسرى (والرِّجل) بالرجل كذلك (والإصبع) بالإصبع تماثلها في موضعها (والكف) بالكف المماثلة (والمرفق) بمثله (والذكر، والخصية، والإلية، والشُّفر) بضم الشين - وهو: أحد اللحمين المحيطين بالفرج كإحاطة الشفتين على الفم - (كل واحد من ذلك بمثله)؛ للآية السابقة (وللقصاص في الطرف شروط) ثلاثة

(2)

(الأول: الأمن من

(2)

مسألة: في النوع الأول - من نوعي القصاص فيما دون النفس - وهو: القصاص في الطرف، وهو نهاية كل شيء، وهي: كما يلي:

1 -

أن تُفقأ عين الجاني كما فقأ عين المجني عليه: اليُمنى باليُمنى، واليسرى باليسرى.

2 -

أن يُجدع أنف الجاني كما جدع أنف المجني عليه.

3 -

أن يُقلع سن الجاني كما قلع سن المجني عليه.

4 -

أن تُقطع أذن الجاني كما قطع أذن المجني عليه، اليمني باليمنى، واليُسرى باليسرى.

5 -

أن يُقطع جَفْن الجاني كما قطع جفن المجني عليه: الأيمن بالأيمن، والأيسر بالأيسر.

6 -

أن تُقطع شفة الجاني كما قطعت شفة المجني عليه، الشفة العليا بالعليا، والشفة السفلى بالسفلى.

7 -

أن تقطع يد الجاني كما قطع يد المجني عليه: اليمني باليمنى، واليسرى باليسرى.

8 -

أن تُقطع رجل الجاني كما قطع رجل المجني عليه: اليمنى باليمنى، واليسرى باليُسرى. =

ص: 58

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 9 - أن يُقطع إصبع الجاني المماثل في موضعه كما قطعه من إصبع المجني عليه.

10 -

أن يقطع كف الجاني كما قطع كف المجني عليه: الأيمن بالأيمن، والأيسر بالأيسر.

11 -

أن يؤخذ مرفق الجاني كما أخذ مرفق المجني عليه: الأيمن بالأيمن، والأيسر بالأيسر.

12 -

أن يُقطع ذكر الجاني كما قطع ذكر المجني عليه.

13 -

أن تقطع خصية الجاني كما قطع خصية المجني عليه.

13 -

أن تقطع إلية الجاني كما قطع إلية المجني عليه: اليُمنى باليُمنى، واليُسرى باليسرى.

14 -

أن تقطع شفر الجانية - والشفران لحمان محيطان بفرج المرأة كعرف الديك - كما قطعت شفر المجني عليها الأيمن بالأيمن، والأيسر بالأيسر؛ لقاعدتين: الكتاب؛ والسنة القولية؛ وقد سبق بيانهما في مسألة (1)، وما لم يذكر فيهما من الأطراف مثل ما ذكر؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة".

[فرع]: لا يُشترط التساوي بين المقطوع جناية، والمقطوع قصاصًا من حيث: القوة، والضعف أو الكبر والصغر، أو الصحة والمرض، أو الذكر والأنثى، أو الشيخ والشاب؛ للتلازم؛ حيث إن الاختلاف بين المقطوع جناية والمقطوع قصاصًا لا يؤثر في استيفاء القصاص؛ فيلزم: عدم اشتراط التساوي؛ لكونه لو أثر ذلك: لأفضى إلى سقوط القصاص؛ لأنه لا يخلو من ذلك: فلزم عدم اشتراط التساوي. تنبيه: المقصود في هذه القصاص في الطرف هو: إتلاف الانتفاع بطرف الجاني كما أتلفه وفوته على المجني عليه: سواء كان ذلك بقطع =

ص: 59

الحيف) وهو: شرط جواز الاستيفاء، ويُشترط لوجوبه: إمكان الاستيفاء بلا حيف: (بأن يكون القطع من مفصل، أوله حدٌّ ينتهي إليه) أي: إلى حد (كمارن الأنف، وهو: ما لان منه) دون القصبة، فلا قصاص في، جائفة، ولا كسر عظم غير سن، ولا بعض ساعد، ونحوه، ويقتص من منكب ما لم يخف جائفة

(3)

، الشرط (الثاني:

= الطرف، أو بإتلافه، تنبيه ثان: لا يُقتص في الأطراف مطلقًا، بل يُشترط للقصاص في ذلك ثلاثة شروط، سيأتي بيانها.

(3)

مسألة: في الأول - من شروط القصاص في الطرف - وهو: أن يُمكن قطع الطرف مع الأمان من الحيف، أي: إذا أُمن الحيف والتعدِّي إلى شيء أكثر من الطرف الذي يُراد قطعه: جاز استيفاء القصاص والقود، وإذا شُكَّ، أو خيف الحيف والسراية إلى عضو آخر: فلا يجوز استيفاء القصاص، والأمن من الحيف والسراية يتحقَّق إذا قُطع الطرف من مفصل جلي واضح، أو يكون للطرف حدٌّ ينتهي إليه فيُقطع مما انتهى إليه: فمثلًا: إذا أريد قطع وجدع أنف: فإنه يُقطع من مارن ذلك الأنف، وهو ما لان منه، أما قصبة الأنف فلا تُقطع، وكذا: يُقلع السن، وكذا: يقتص من المنكب، والكف، أما ما لا حدَّ له: فلا يثبت فيه القصاص: كالجائفة - وهي: الجرح الواصل إلى باطن الجوف - أو كسر عظم من وسطه ككسر ساق، أو عضد، أو ورك، أو ساعد، أو نحو ذلك: فلا يجوز استيفاء القصاص هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الطرف له نهاية وحدُّ: جواز استيفاء القصاص فيه. لأنه يغلب على الظن عدم الحيف والسريان إلى غيره من الأعضاء، ويلزم من كون الطرف لا نهاية ولا حد له: عدم جواز استيفاء القصاص فيه؛ لأنه يغلب على الظن الحيف وسريان التلف إلى غيره من الأعضاء، فإن قلتَ: لِمَ اشترط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه كمال الإنصاف والعدالة، ودفع المفاسد عن الجاني والمجني عليه.

ص: 60

المماثلة في الاسم والموضع: فلا تؤخذ يمين) من يد، ورجل، وعين، وأذن، ونحوها (بيسار، ولا يسار بيمين، ولا) يؤخذ (خنصر ببنصر، ولا) عكسه؛ لعدم المساواة في الاسم، ولا يؤخذ (أصلي بزائد، وعكسه): فلا يؤخذ زائد بأصلي؛ لعدم المساواة في المكان والمنفعة (ولو تراضيا) على أخذ أصلي، بزائد، أو عكسه:(لم يجز) أخذه به؛ لعدم المقاصّة، ويؤخذ زائد بمثله موضعًا وخِلْقة

(4)

، الشرط (الثالث: استواؤهما)

(4)

مسألة: في الثاني - من شروط القصاص في الطرف - وهو: أن يكون الطرف المقطوع قصاصًا مثل الطرف المقطوع جناية في الاسم، والموضع والخِلْقة: فإذا قطع الجاني اليد، أو الرجل أو العين أو الأذن، اليمنى من المجني عليه: فيجب أن تُقطع أو تقلع يد، أو رجل، أو عين، أو أذن الجاني اليمني باليمنى، واليسرى باليسرى وهكذا؛ فلا تُؤخذ يمين بيسار مما سبق، ولا يسار بيمين مما سبق، ولا يؤخذ إصبع سبابة ببنصر ولا العكس، ولا يؤخذ بنصر بخنصر ولا العكس، ولا يؤخذ إصبع أصلي بإصبع زائد، ولا العكس، وهذا مطلق أي: سواء اتفق الجاني والمجني عليه في ذلك وتراضيا عليه أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لفظ "القصاص" الوارد في الكتاب، والسنة: المماثلة في الاسم، والموضع، والخِلْقة، فإن اختلف شيء من ذلك: فلا يكون ذلك قصاصًا، ويلزم من كون الدماء لا تستباح بالإباحة كالأبضاع: عدم جواز الاختلاف في الأطراف وإن تراضيا على ذلك، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: لما ذكرناه في مسألة (3)؛ فإن قلتَ: إنه لا يشترط ذلك في الشفتين، والجفنين، فتؤخذ السفلى من الشفتين بالعليا، والعكس ويؤخذ الجفن الأيسر بالأيمن وهكذا، وهو قول محكي عن ابن سيرين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من استوائهما في الخِلْقة والمنفعة: عدم اشتراط ذلك قلتُ: إن المصلحة، ودفع المفسدة يقتضيان المماثلة في كل شيء ينقسم إلى أعلى وأسفل، وهو من لوازم لفظ "القصاص": فإن خُولف ذلك: فلا يصدق على ما فُعل اسم "القصاص" وهو كأخذ اليد اليمنى باليمنى تمامًا، ولا نسلِّم أن المنفعة =

ص: 61

أي: استواء الطرفين: المجني عليه، والمقتص منه (في الصحة، والكمال: فلا تؤخذ) يد، أو رجل (صحيحة بـ) يد، أو رجل (شلَّاء، ولا) يد، أو رجل (كاملة الأصابع) أو الأظفار (بناقصت) هما (ولا) تؤخذ (عين صحيحة بـ) عين (قائمة) وهي: التي بياضها وسوادها صافيان، غير أن صاحبها لا يُبصر بها قاله الأزهري، ولا لسان ناطق بأخرس، ولو تراضيا؛ لنقص ذلك

(5)

(ويؤخذ عكسه) فتؤخذ الشلاء، وناقصة الأصابع، والعين القائمة بالصحيحة (ولا أرش)؛ لأن المعيب من ذلك كالصحيح في الخِلْقة، وإنما نقص في الصفة

(6)

، وتؤخذ أذن سميع بأذن أصم شلاء، ومارن الأشم

= متساوية في الأعلى والأسفل، بل كل له ما يخصه من الوظائف، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".

(5)

مسألة: في الثالث - من شروط القصاص في الطرف - وهو: أن يكون الطرف المقطوع قصاصًا مثل الطرف المقطوع جناية في الصحة والكمال: فإذا قطع الجاني يد صحيحة من المجني عليه يجب أن تُقطع يد صحيحة من الجاني، فلا يجوز أن تؤخذ يد صحيحة بيد شلاء لا نفع فيها، ولا تؤخذ يد كاملة الأصابع بيد ناقصتها، ولا تؤخذ عين صحيحة بعين لا يُبصر بها صاحبها - وهي القائمة وإن كانت موجودة -، ولا يؤخذ لسان ناطق، بلسان أخرس: سواء اتفق الجاني والمجني عليه على ذلك وتراضيا عليه أو لا، ولا يؤخذ ذكر فحل بذكر خصي، أو عِنِّين، ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لفظ "القصاص" الوارد في الكتاب والسنة: المماثلة في الصحة والكمال، فإذا اختلف شيء من ذلك: فلا يكون ذلك قصاصًا، ويلزم من كون الدماء لا تستباح بالإباحة والبذل كالأبضاع: عدم جواز الاختلاف في الأطراف تلك وإن تراضيا على ذلك، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لما ذكرناه في مسألة (3)، ويُزاد: عدم أخذ ما فيها نفع بما لا نفع فيه؛ لأنه ظلم.

(6)

مسألة: إذا قطع زيد يد عمرو، أو رجله، أو قلع عينه الصحيحة: فإنه يُقتص =

ص: 62

الصحيح بمارن الأخشم الذي لا يجد رائحة الشيء؛ لأن ذلك لعلَّة في الدماغ

(7)

.

= بقطع يد، أو رجل، أو قلع عين زيد وإن كانت غير صحيحة أو ناقصة الأصابع وشلاء، ولا يجب على زيد أن يدفع لعمرو أرش النقص - وهو الفارق بين يد عمرو الصحيحة، وبين يد زيد غير الصحيحة وإن شاء عمرو لم يقتص بقطع يد زيد غير الصحيحة ويأخذ دية يده الصحيحة كاملة؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما تؤخذ الصحيحة بالصحيحة فكذلك تؤخذ غير الصحيحة بالصحيحة، والجامع: التماثل في ذات العضو وصفته. الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عجز استيفاء المجني عليه حقه على الكمال بالقصاص: جواز أخذه للدِّية؛ لاستحقاقه ويلزم من كون المعيب من ذلك كالصحيح في الخِلْقة: عدم جواز أخذه للأرش مع أخذه لغير الصحيح من الطرف.

(7)

مسألة: إذا قطع زيد أذن عمرو الأصم، أو قطع مارن أنف عمرو الأخشم - وهو الذي لا يشم، ولا يجد رائحة شيء -: فإنه يُقتص بقطع أذن زيد السميع، وبقطع مارن زيد الأشم، وهذا بخلاف سائر الأعضاء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون سبب عدم الشم والسمع يرجع إلى علَّةٍ في الرأس والدماغ ونقصٍ فيه؛ لأنه محلُّه: أن تؤخذ أذن سميع بأذن أصم، ويؤخذ مارن أنف أشم بمارن أنف أخشم؛ لكونهما صحيحين في ذاتهما، ولكن عدم السمع، والشمع جاء إليهما من خارجهما وهو الرأس.

[فرع]: إذا أُخذت يد، أو رجل، أو عين، أو أذن ونحو ذلك قصاصًا، ثم قدر الجاني على إلصاق تلك الأشياء بعد قطعها قصاصًا فالتصقت وثبتت: فإنه يجب قطعها مرة أخرى؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود هو إبانة تلك الأشياء، وإزالة وجودها في الجاني على الدوام كما أبانها الجاني وأزالها عن المجني عليه على الدوام فإذا أعادها وأثبتها الجاني: فإنه لم تتم إزالتها على الدوام، فلم يتم القصاص المشروع: فيلزم قطعها مرَّة أخرى إذا أُعيدت.

ص: 63

(فصل): (النوع الثاني) من نوعي القصاص فيما دون النفس: (الجراح: فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم)؛ لإمكان استيفاء القصاص من غير حيف، ولا زيادة وذلك (كالموضحة) في الرأس، والوجه (وجرح العضد و) جرح (الساق و) جرح (الفخذ و) جرح (القدم)؛ لقوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}

(8)

(ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج) كالهاشمة، والمنقلة، والمأمومة (و) لا في غير ذلك من (الجروح) كالجائفة؛ لعدم أمن الحيف والزيادة، ولا يُقتص في كسر عظم (غير كسر سن)؛ لإمكان الاستيفاء منه بغير حيف كبرد ونحوه

(9)

(إلا أن يكون) الجرح (أعظم من

(8)

مسألة: في النوع الثاني - من نوعي القصاص فيما دون النفس - وهو: القصاص في الجروح، أي: يجب القصاص في كل جرح بشرط: أن يكون ذلك الجرح ينتهي إلى عظم كالموضِّحة في الرأس والوجه، وجرح العضد، وجرح الساق، وجرح الفخذ، وجرح القدم؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُقطع الكفّ من الكوع قصاصًا، فكذلك يُقتص في كل جرح بالشرط السابق، والجامع: أنه في كل منها أمكن استيفاء القصاص من غير حيف ولا زيادة؛ لانتهاء كل منها إلى عظم فاصل، فإن قلتَ: لا قصاص إلا في الموضِّحة في الرأس والوجه فقط، وهو قول لبعض الشافعية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من صعوبة تقدير ذلك: عدم ثبوت القصاص فيها قلتُ: عنه جوابان: أولهما: أنه اجتهاد في مقابلة نص - وهو قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، ولا اجتهاد مع النص. ثانيهما: عدم التسليم بأن القصاص في هذا فيه صعوبة؛ بل سهل ويسير؛ لكون ذلك ينتهي إلى عظم، وهو شرط القصاص في الجروح كما سبق، فهو مثل القصاص في الموضحة الذي سلمتموه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتَ: سببه: "الاختلاف في تقدير الجرح هل هو سهل، أو فيه صعوبة؟ " فعندنا: الأول، وعندهم: الثاني. فائدة: سميت الموضحة بهذا الاسم: لأنها توضح وتبين العظم، فيكون ظاهرًا.

(9)

مسألة: لا يجوز القصاص في أيِّ نوعٍ من الشجاج والجروح إذا لم تكن منتهية إلى =

ص: 64

الموضِّحة كالهاشمة، والمنقلة، والمأمومة: فله) أي: للمجني عليه (أن يقتص موضَّحة)؛ لأنه يقتصر على بعض حقه، ويقتص من محل جنايته (وله أرش الزائد) على الموضِّحة فيأخذ بعد اقتصاصه من موضحة في هاشمة خمسًا من الإبل، وفي منقلة عشرًا، وفي مأمومة ثمانية وعشرين وثلثًا

(10)

، ويُعتبر قدر جرح بمساحة، دون كثافة

= عظم - كالموضِّحة، وجرح العضد والساق، والفخذ، والقدم - كما سبق في مسألة (9) -: فلو هشم زيد عظمًا من عظام عمرو - وهي: المسماة بالهاشمة - أو ضرب عظمه ونقل بعضها من شدَّة الضربة إلى موضع آخر - وهي: المسماة بالمنقلة - أو ضرب عظم رأسه، ووصل إلى جلدة الدماغ - وهي: المسماة بالمأمومة -، أو جرح جرحًا وصل إلى جوفه كبطنه، وصدره، وخاصرته - وهي: المسماة بالجائقة -: فلا يقتص عمرو في ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الأمن من الحيف والزيادة أثناء استيفاء القصاص: عدم جواز القصاص في مثل هذه الأمور؛ لئلا يحصل ظلم للجاني عند القصاص منه، وهذا هو المقصد منه، تنبيه: قوله: "ولا يُقتص في كسر عظم غير كسر سنٍّ" إلى آخره قلت قد سبق ثبوت القصاص في السن في مسألة (2)؛ لإمكان استيفاء القصاص فيه بدون حيف ولا ضرر بأن يُحكُّ في مُبْرَدٍ حتى يزول، أو يقلع عند طبيب الأسنان.

(10)

مسألة: إذا جرح زيد عمرًا بجرح أعظم من الموضِّحة: بأن أظهر بجرحه العظم، وهشم ذلك العظم، أو نقل بعض أجزاء ذلك العظم إلى موضع آخر، أو وصل بسبب ذلك إلى جلدة الدماغ: فلعمرو الحق بأن يقتصَّ من زيد موضِّحة: بأن يجرحه حتى يتَّضح ويظهر العظم في الموضع الذي جرحه فيه، ثم يقف عند هذا الحد، أما ما زاد عن الموضِّحة: فإن عمرًا يأخذ أرش تلك الزيادة: ويكون هذا الأرش خمسًا من الإبل إذا كانت، هاشمة، وعشرًا منها إذا كانت منقلة، وثمانية وعشرين منها، وثلث جمل إذا وصل إلى جلدة الدماغ - وهي المأمومة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه قد جرحه موضحة: أن يقتصّ منه موضحة؛ للأمن من =

ص: 65

اللحم

(11)

(وإذا قطع جماعة طرفًا) يوجب قَوَدًا: كيد (أو جرحوا جرحًا يوجب القَوَد) كموضحة، ولم تتميز أفعالهم كأن وضعوا حديدة على "يد" وتحاملوا عليها حتى بانت:(فعليهم) أي: على الجماعة القاطعين، أو الجارحين (القَوَد)؛ لما روي عن علي: أنه شهد عنده شاهدان على رجل بسرقة، فقطع يده، ثم جاءا بآخر فقالا: هذا هو السارق، وأخطأنا بالأول، فردَّ شهادتهما على الثاني، وغرَّمهما دية يد الأول،

= الحيف؛ لانتهاء ذلك بعظم، ويلزم من عدم أمن الحيف والظلم للجاني إذا اقتصّ من أكثر من موضحة: عدم جواز القصاص فيه، وأخذ الأرش، ويلزم من التفاوت بين الهاشمة والموضحة: أن يأخذ الهاشمة خمسًا عن من الإبل، ويلزم من كون المنقلة أعظم من الهاشمة بالضعف: أن يأخذ عنها عشرًا منها، ويلزم من كون المأمومة أعظم من المنقلة، وكونها وصلت إلى جلدة الدماغ: أن يأخذ عنها ثلث الدية - وهي: ثلاث وثلاثون وثلث من الإبل - ثم نسقط دية موضحة - وهي: خمس من الإبل - فيبقى ثمان وعشرون وثلث منها، وهي أرش المأمومة.

(11)

مسألة: إذا أريد القصاص من الجرح: فإن المعتبر في ذلك الجرح الطول والعرض، دون كثافة اللحم وطريقة ذلك: أنه إذا أراد الاستيفاء من موضحة وما ماثلها: فإن كان على موضعها شعر: أزاله، ثم يعمد إلى موضع الشجّة من رأس المشجوج - وهو المجني عليه - فيعلم طول الشجة، وعرضها بخشبة أو خيط دقيق، ثم يضع ذلك على رأس الشاجّ - وهو الجاني - ويضع علامات للطول والعرش بشيء أسود كحبر ونحوه، ثم يأخذ حديدة عرضها كعرض الشجّة، وطولها كطول الشجة فيضعها في أول المعلَّم لبيان طول أو عرض، ثم يجرها إلى آخرها، فيكون بذلك آخذًا مثل الشجة طولًا، وعرضًا، ولا يراعي العمق وكثافة اللحم؛ للتلازم؛ حيث إن كون حد الموضحة العظم، وكون الناس يختلفون في قلَّة اللحم، وكثرته يلزم منه: أن يراعى في استيفاء القصاص الطول والعرض فقط، دون كثافة اللحم، وتلزم تلك الطريقة التي ذكرتها.

ص: 66

وقال: "لو علمتُ أنكما تعمَّدتما: لقطعتكما"

(12)

، وإن تفرقت أفعالهم، أو قطع كل واحد من جانب: فلا قَوَد عليهم

(13)

(وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها)

(12)

مسألة: إذا اجتمعت جماعة فقطعوا طرفًا من عمرو: كيده، أو رجله، بأن وضعوا حديدة على يده فتحاملوا عليها فقطعوها معًا دون تفريق، أو اجتمعوا وجرحوا عمرًا بجرح الموضِّحة، أو بجرح انتهى إلى عظم: فلعمرو أن يقتص من هؤلاء الجماعة - القاطعين، أو الجارحين - فتقطع يد كل واحد منهم، أو يُجرح كل واحد منهم بشرط: أن لا يتميز فعل كل واحد منهم؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما تُقتل الجماعة إذا قتلوا واحدًا - كما سبق - فكذلك يقتص من كل واحد ممّن اجتمعوا على قطع أو جرح واحد بشرطه، والجامع: أنه يُقتص من كل واحد لو انفرد بقتل النفس، أو القطع، أو الجرح، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إنه قد شهد عند علي رجلان على آخر بأنه قد سرق، فقطعت يده، ثم بعد ذلك جاءاه برجل آخر وقالا: إن هذا هو السارق الحقيقي، وأخطأنا بالأول، فلم يقبل شهادتهما على الثاني، وأوجب عليهما - أي على الرجلين الشاهدين - دية يد الأول، وسلَّمها له: وقال: "لو أعلم أنكما قد تعمّدتما ذلك لقطعتكما" وهذا يدل دلالة واضحة على القصاص في الأطراف والجروح من الجماعة إذا اجتمعوا على قطع أو جرح منفرد، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ المجتمع من أن يظلم بعضهم بعضًا، فلو لم يقتص من الجماعة إذا جرحوا أو قطعوا آخر: لكان هذا طريقًا سهلًا لقطع وجرح الآخرين، كما قلنا في المقصد من قتل الجماعة بالواحد، وهذا فيه رد على من خالف في ذلك ردًا صريحًا.

(13)

مسألة: إذا اجتمعت جماعة فقطعوا طرفًا من عمرو: كيده، لكن تفرّقت أفعالهم: بأن ضرب كل واحد منهم يده، أو قطع كل واحد من جانب حتى انفصلت تلك اليد وبانت: فلا يجوز لعمرو أن يقتص منهم بأن تُقطع يد كل =

ص: 67

فلو قطع إصبعًا فتآكلت أخرى، أو اليد، وسقطت من مفصل: فالقَوَد، وفيما يُشل: الأرش

(14)

(وسراية القود مهدرة) فلو قطع طرفًا قودًا فسرى إلى النفس فما دونها:

= واحد منهم بشرط: أن لا يتواطؤوا على أن مقصدهم بهذه الأفعال المتفرقة منهم هو: قطع يد عمرو وإن كان فعل كل واحد منهم وصل إلى درجة الجرح الذي يُقتصّ منه: فإنه يقتص منه قصاص جرح، لا قصاص قطع، أما إن تواطؤوا واتفقوا على أن مقصدهم هو: إبانة وقطع يد عمرو: فإنه يقتص منهم؛ للتلازم؛ حيث إن كلَّ واحدٍ منهم لم يقطع اليد بمفرده، ولم يحصل تواطؤ واتفاق منهم جميعًا على قطعها يلزم منه عدم القصاص منهم، ويلزم من وجود التواطؤ والاتفاق على قطعها: ثبوت القصاص، وإن كان فعلهم متفرقًا، ويلزم من وصول فعل كل واحد إلى الجرح المتعمَّد: ثبوت القصاص في الجرح، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه قد يقع مثل ذلك، فدفعًا للضرر: شرع ما قيل من التفصيل.

(14)

مسألة: سراية الجناية مضمونة بقصاص، أو دية على حسب ما يختاره المجني عليه أو وليه: فلو قطع زيد إصبع عمرو، فتآكل إصبع آخر، أو تآكلت اليد كلها وسقطت من المفصل: فلعمرو الحق بأن يقتص وتقطع يد زيد أو يطلب الدية، ولو شُلَّت يد عمرو بأن فسدِت، ولم ينتفع بها بسبب قطع ذلك الإصبع: ففي ذلك أرش ودية، ولو مات عمرو بسبب تلك الجناية على إصبعه، أو بسبب أن هشمه زيد في رأسه فمات: فلولي عمرو الحق بأن يقتص من زيد، أو يطلب الدية؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الجناية نفسها مضمونة بقصاص، أو دية فلولي عمرو الحق بأن يقتص من زيد، أو يطلب الدية - على حسب اختيار المجني عليه أو وليه - فكذلك سرايتها مثلها، والجامع: أن ذلك كله وقع بسبب الجناية، والأثر تابع للمؤثِّر في الحكم، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عدم إمكان القصاص في الشلل: تعيُّن الدية.

ص: 68

فلا شيء على قاطع؛ لعدم تعدِّيه

(15)

، لكن إن قطع قهرًا مع حر، أو برد، أو بآلة كالَّة، أو مسمومة، ونحوها: لزمه بقية الدية

(16)

(ولا) يجوز أن (يقتص من عضو قبل

(15)

مسألة: سراية القَوَد والقصاص غير مضمونة، وهي هدر، فلو قطع زيد يد عمرو، أو جرحه في رأسه، ثم اقتص عمرو - بعد ما حكم الحاكم -، فقطع يد زيد، أو جرح رأسه كما فعل به زيد، ثم سرى ذلك حتى مات زيد: فلا يضمن عمرو ذلك، أو سري ذلك حتى شُلَّ زيد: فإن عمرًا لا يضمن شيئًا من ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو سرق، ثم قطع الحاكم يده، ثم سرى ذلك إلى نفسه فمات: فلا ضمان فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًا منهما قطع مستحق مقدَّر، لم يقع فيه تعدِّي فلا تضمن سرايته، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن سراية القود والقصاص غير مضمونة ثابت عن أبي بكر، وعمر، وعلي، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لأنه فعلٌ بحق، فإن قلتَ: إن سراية القود والقصاص مضمونة بالدية يدفعها المقتصّ من ماله؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المقتص - وهو هنا عمرو - لو ضرب عنق المقتص منه - وهو زيد -: لضمنه فكذلك الحال هنا، والجامع: تفويت نفسه في كل والمقتص - في الحقيقة - لا يستحق إلا طرفه قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن المقتص من الطرف - وهو عمرو - لم يضرب عنق المقتص منه حقيقة، بل أخذ حقه بالقصاص من الطرف أو الجرح، بخلاف من قصد ضرب عنقه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين".

(16)

مسألة: إذا اقتصَّ المقتص - وهو عمرو في مسألة (15) - من المقتَصِّ منه - وهو زيد - وقطع يده قهرًا بلا إذنه، أو إذن الإمام أو نائبه، أو اقتصَّ منه مع حرارة الجو الشديدة، أو مع برودته الشديدة، أو اقتصّ منه بآلة كالَّة لا تقطع سريعًا، فمات المقتص منه: فتجب الدية على المقتص - وهو عمرو - ويسقط منها دية اليد - التي قُطعت قصاصًا -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تساهل وتفريط المقتصّ هنا: =

ص: 69

برئه)؛ لحديث جابر: "أن رجلًا جرح رجلًا، فأراد أن يستقيد فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُستفاد من الجارح حتى يبرأ المجروح" رواه الدارقطني (كما لا تطلب له) أي: للعضو، أو الجرح (دية) قبل برئه؛ لاحتمال، السراية، فإن اقتصّ قبل: فسرايتها بعد هدر

(17)

، ولا قَوَد، ولا دية لما رُجي عوده من: نحو سن، ومنفعة في مدَّة تقولها أهل

= وجوب دية المقتص منه إذا مات بعد القصاص من يده.

[فرع]: إذا اقتصّ المقتص - وهو عمرو هنا - من المقتص منه - وهو زيد - فقطع يده بآلة مسمومة، وهو - أي: عمرو - يعلم ذلك: ثم مات المقتص منه: فيجب القصاص والقود على عمرو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون عمرو يعلم أن الآلة التي اقتصّ بها مسمومة وموت زيد بسبب ذلك، وجوب الاقتصاص من عمرو، أو الدية على حسب ما يراه ولي دم زيد فإن قلتَ: إن الدية تجب هنا، ويُسقط منها دية اليد - التي قُطعت قصاصًا - وهو ما ذكره المصنف هنا للقياس على ما لو اقتص عمرو بآلة كالَّة، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الآلة الكالَّة تقطع ولا يسري ذلك في بقية البدن غالبًا، لكن الآلة المسمومة تقطع ويسري ذلك في بقية البدن غالبًا، ومع الفرق لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم".

(17)

مسألة: إذا قطع زيد يد عمرو، أو جرحه: فلا يجوز لعمرو أن يقتصّ من زيد - ويقطع يده، أو يجرحه في نفس موضع جرحه - ولا يجوز له - أي: لعمرو - أن يطلب دية يده، أو جرحه من زيد قبل شفاء وبرء جرحه - أي: جرح عمرو -، فإن اقتصّ عمرو من زيد، أو أخذ الدية قبل برء جرحه: فسرايتها هدر، أي: ليس من حق عمرو ولا وليه أن يأخذ شيئًا من زيد، ولا أن يُقتص منه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "إنه عليه السلام نهى أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح"، فحرم القَوَد من الجاني قبل أن يبرأ جرح المجني عليه؛ لأن النهي مطلق، والنهي المطلق يقتضي التحريم، ودلّ بمفهوم الغاية على أنه إذا برأ =

ص: 70

الخبرة، فلو مات: تعيَّنت دية الذاهب

(18)

.

= جرح المجروح: كان من حق المجني عليه القَوَد، وأخذ الدية كالقَوَد في ذلك؛ لكونها بديلًا عنه؛ فلا فرق، وهذا من باب:"مفهوم الموافقة" للتلازم؛ حيث يلزم من احتمال السراية: الانتظار فلا يُستقاد، ولا تؤخذ الدية قبل البرء والشفاء، ويلزم من استعجال المجني عليه بأخذ قصاصه، أو أخذ الدية قبل برء جرحه: رضاه بترك ما يزيد عليه بالسراية فيما بعد، فيبطل حقه منه؛ لكونه قد دخله العفو بالقصاص، أو أخذ الدية، فإن قلتَ: لم حُرِّم على المقتص - وهو المجني عليه وهو عمرو هنا - أن يقتص هنا قبل برء جرحه، وإذا اقتصّ قبل ذلك: فسراية ذلك لا يضمن، بينما منعه من القصاص في البرد والحر، وبآلة كالّة، قلتُ: منعه في هذه المسألة لمصلحة المجني عليه، وهو عمرو، إذ قد تسري الجناية إلى طرف آخر، أو إلى النفس، بخلاف منعه من القصاص في الآلة الكالَّة، أو الحر أو البرد: فإن ذلك لمصلحة الجاني - وهو زيد هنا - فلذلك ضمن السراية في مسألة (16).

(18)

مسألة: إذا كسر زيد سنًا لعمرو، أو جرحه في موضع غلب على الظن عود السن، أو عود منفعة العضو المجروح: فإنه يجب تأخير القصاص، أو أخذ الدية مدَّة يتحقق فيها عود السن، أو المنفعة، على حسب ما يقوله أهل الخبرة - وهم الأطباء - في مثل هذه الأمور، فإن تحقق ذلك في تلك المدَّة أو بعدها بقليل: فلا قود ولا قصاص، ولا دية على الجاني - وهو زيد هنا - أما إن مات عمرو قبل الانتهاء من تلك المدَّة: فيجب القصاص من زيد، أو أخذ الدية - على حسب ما يراه ولي الدم -، وإن مضت تلك المدَّة التي قررها أهل الخبرة - وهم الأطباء - ولم يعد السن، أو المنفعة: فإن لعمرو الحق في مطالبة زيد بالقصاص، أو الدية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عود المتلف: عدم جواز مطالبة الجاني؛ لأن ما أتلفه عاد كما كان، ويلزم من عدم العود: المطالبة.

هذه آخر مسائل باب: "ما يوجب القصاص فيما دون النفس من الأطراف والجراح" وهو آخر أبواب كتاب "الجنايات" ويليه كتاب: "الديات".

ص: 71

‌كتاب الدِّيات

جمع "دية"، وهي المال المؤدَّى إلى مجني عليه، أو وليه بسبب جناية، يقال:"وديت القتيل": إذا أعطيت ديته

(1)

، (كل من أتلف إنسانًا بمباشرة، أو سبب)؛ بأن ألقى عليه أفعى، أو ألقاه عليها، أو حفر بئرًا محرمًا، حفره، أو وضع حجرًا، أو قشر بطيخ، أو ماء بفنائه، أو طريق، أو بالت بهما دابته، ويده عليها، ونحو ذلك:(لزمته ديته): سواء كان مسلمًا، أو ذميًا، أو مستأمنًا، أو مهادنًا؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}

(2)

(فإن كانت) الجناية (عمدًا محضًا

‌كتاب الدِّيات

‌تعريفها، وبيان من يتحملها، وهل يضمن المؤدِّب ما تلف بسبب ذلك؟ وضمان الجنين إذا سقط، وضمان المأمور بفعل، والأجير

وفيه إحدى عشرة مسألة:

(1)

مسألة: الديات جمع دية، وأصلها في اللغة:"ودية" على وزن "فعلة"، وهي مشتقة من الودي، وهو: دفع الدية مثل "العِدَة" من "الوعد"، تقول:"وديت القتيل أديه، وديا ودية" أي: أدَّيت ديته، وهي في الاصطلاح: المال الواجب تأديته وإعطائه إلى مجني عليه، أو وليه بسبب جناية في نفس، أو فيما دونها من أطراف، أو جروح، فإن قلتَ: لِمَ جُعل هذا الكتاب بعد كتاب القصاص؟ قلتُ: لأن الدية بدل عن القصاص، فناسب أن يذكر البدل بعد المبدل، كما جُعل التيمم بعد الوضوء والغسل في "كتاب الطهارة"، فإن قلتَ: لِمَ جُمَعت الدية على "ديات"؟ قلتُ: نظرًا لاعتبار دية النفس، والأطراف، والجروح، أو نظرًا لاعتبار الأشخاص.

(2)

مسألة: إذا أتلف زيد عمرًا بشيء مباشر، أو تسبَّب في إتلافه وهلاكه، أو إتلاف =

ص: 72

فـ) الدية (في مال الجاني)؛ لأن الأصل يقتضي أن بدل المتلف يجب على متلفه، وأرش الجناية على الجاني، وإنما خولف في العاقلة؛ لكثرة الخطأ، والعامد لا عذر له، فلا يستحق التخفيف، وتكون (حالَّة) غير مؤجَّلة، كما هو الأصل في بدل المتلفات

(3)

.

= شيء منه كأن ألقى عليه أفعى، أو ألقاها عليه، أو روَّعه وخوَّفه بشيء، أو حفر بئرًا لا يجوز حفره في فنائه، أو فناء غيره، أو في طريق ضيق، أو في طريق واسع لغير مصلحة المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، أو وضع حجرًا، أو قشر بطيخ، أو وضع ماء بفنائه، أو في طريق، أو بالت دابته، ويده عليها: سواء كان راكبًا عليها، أو لا، أو رمى بحجر، أو وقع عليه: فمات عمرو بسبب تلك الصور السابقة: فيجب على زيد أن يدفع ديته: سواء كان عمرو - الذي مات - مسلمًا، أو ذميًا، أو مستأمنًا، أو مهادنًا، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} إلى قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} حيث إنه سبحانه قد أوجب الدية إذا قتل شخص مسلمًا، أو صاحب ميثاق وعهد من الكفار، الثانية: السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام قد كتب إلى عمرو بن حزم كتابًا إلى أهل اليمن فيه الفرائض، والسنن والديات وقال فيه:"وفي النفس مائة من الإبل" الثالثة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على وجوب الدية في الجملة، فإن قلتَ: لِمَ وجبت الدية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إرجاع بعض الحق للمجني عليه بسبب فقده لعضو من أعضائه، أو جرحه، أو ورثته، لجبر أنفسهم، وتهوين المصيبة التي نزلت بهم بسبب قتل مورِّثهم.

(3)

مسألة: إذا قتل زيد عمرًا عمدًا عدوانًا محضًا، وتنازل المستحقون للقصاص - وهم ورثة عمرو - عن القصاص: فإن الدية تجب في مال الجاني - وهو القاتل، وهو زيد هنا - يدفعها لهم حالًا، دون تأخير، ولا تتحمَّلها العاقلة، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} حيث إن هذا عام =

ص: 73

(و) دية (شبه العمد والخطأ على عاقلته) أي: عاقلة الجاني؛ لحديث أبي هريرة: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها، وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها" متفق عليه

(4)

، ومن دعا من يحفر له بئرًا

= في كل شيء؛ إذ لا يتحمَّل أحد عقاب ذنب غيره، ويشمل ما نحن فيه، فلا تتحمَّل عاقلة زيد ما تعمَّد فعله، بدون عذر، الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل يقتضي أن المتلِف يدفع ثمن ما أتلفه، والجاني يُعاقب على جنايته؛ لقوله عليه السلام:"لا يجني جان إلّا على نفسه"، وخولف هذا الأصل بتحمُّل العاقلة دية شبه العمد والخطأ؛ لكثرة وقوعهما، فتتحمَّلها العاقلة؛ مواساة للقاتل وتخفيفًا عنه؛ لأنه معذور، أو شبه معذور بدليل خصص ذلك وبقيت دية العمد يُعمل بها على الأصل، وهو: أن يتحمَّلها من جنى وأذنب؛ لكونه لا يستحق التخفيف. الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن المتلِف يجب عليه أن يدفع قيمة المتلَف حالًا بدون تأخير، فكذلك الدية هنا يجب أن يدفعها الجاني حالًا بدون تأخير والجامع: عدم العذر الذي يجوز التأخير، فإن قلتَ: لِمَ وجبت الدية في مال الجاني هنا ولا تتحمَّل العاقلة ذلك؟ قلتُ: لأن هذا قد وجب عليه القصاص، ومع سقوطه بالعفو اختصّ بتحمُّل الدية، دون عاقلته، فداء لنفسه، أو فداء لطرف من أطرافه، أو لجرح من جروحه.

(4)

مسألة: إذا قتل زيد عمرًا قتل شبه العمد، أو خطأ: فإن عاقلة زيد هي التي تتحمَّل الدية، تحمُّلًا مؤجَّلًا إن شاؤوا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قول أبي هريرة: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى عليه السلام بدية المرأة على عاقلتها" أي: حمَّل عاقلة المرأة القاتلة دية المرأة المقتولة، وهذا حصل في شبه العمد - حيث إنها قصدت الفعل، ولكنها لم ترد القتل، وهذه حقيقة شبه العمد - فإذا كانت دية شبه العمد على العاقلة فمن باب أولى أن تكون دية الخطأ عليها من =

ص: 74

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= باب "مفهوم الموافقة الأولى" ثانيهما: أنه ثبت عنه عليه السلام أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إنه قد ثبت عن عمر، وعلي، وابن عباس أن دية شبه العمد مؤجَّلة، والخطأ أولى بالتأجيل منه، وثبت عن عمر وعلي أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن شبه العمد، والخطأ يكثر وقوعهما، ودية الآدمي كثيرة، فلو تحمَّلها القاتل بمفرده وأخرجها من ماله الخاص للحقه الضرر الشديد، فدفعًا لهذا الضرر عنه، أوجبها الشارع على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل، وللإعانة له، وللتخفيف عنه؛ لكونه معذورًا في فعله، فإن قلتَ: إن دية شبه العمد تؤخذ من مال القاتل، معجَّلة غير مؤجلة، وهو قول ابن سيرين، وبعض الحنابلة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يتحمَّل دية العمد حالة - كما سبق في مسألة (3) - فكذلك يتحمَّل دية شبه العمد حالَّة - غير مؤجلة، والجامع: أن كلًا منهما حصل بسبب فعل قد قصده قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن العمد مغلَّظ من كل وجه؛ حيث إنه قصد في فعله القتل والإتلاف وإزهاق الروح، أما شبه العمد: فهو يُغلَّظ من وجه، وهو قصده الفعل، ويُخفَّف من وجه آخر، وهو: كون الفاعل لم يقصد القتل، والإتلاف، وإزهاق الروح، ومع هذا الفارق: فلا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة"، فإن قلتَ: إن دية شبه العمد تجب على العاقلة ولكنها حالَّة، أي: لا تؤخَّر؛ للقياس؛ بيانه: كما أن قيم المتلفات تجب حالَّة فكذلك دية شبه العمد، والجامع: أن كلًا منهما بدل متلف قلتُ: هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الدية تخالف سائر المتلفات في كون الدية تجب على غير الجاني - وهي العاقلة - على سبيل المؤاساة له، فاقتضت المصلحة تخفيفها عليهم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع قول الصحابي والمصلحة". =

ص: 75

بدارة فمات بهدم لم يلقه أحد عليه: فهدر

(5)

(وإن غصب حرًا صغيرًا) أي: حبسه عن أهله (فنهشته حية) فمات (أو أصابته صاعقة) وهي نار تنزل من السماء فيها رعد شديد، قاله الجوهري فمات: وجبت الدية (أو مات بمرض): وجبت الدية، جزم به في "الوجيز"، و "منتخب" الآمدي، وصحَّحه في "التصحيح"، وعنه: لا دية عليه، نقلها أبو الصقر، وجزم بها في "المنور" وغيره، وقدَّمها في "المحرر" وغيره، قال في "شرح المنتهى": على الأصح، وجزم بها في "التنقيح"، وتبعه في "المنتهى" و "الإقناع"(أو غلَّ حرًا مكلَّفًا، وقيَّده، فمات بالصاعقة، أو الحية: وجبت الدية)؛ لأنه هلك في حال تعدِّيه بحبسه عن الهرب من الصاعقة، والبطش بالحية، أو دفعها عنه

(6)

.

[فرع]: كفارة القتل تجب في مال القاتل، لا يتحمَّلها أحد غيره؛ للقياس؛ بيانه: كما أن كفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة اليمين وسائر الكفارات يتحمَّلها من وجد منه سببها، فكذلك كفارة القتل، والجامع: أن كلًا منها شُرعت لتكفير الذنب الذي اقترفه الجاني، ولا يحصل ذلك إلا إذا تحمَّلها بنفسه، والكفارة غير مجحفة في مال الجاني؛ لقلَّتها ..

[فرع ثان]: لا يجب على القاتل شيء من دية شبه العمد، ودية الخطأ؛ للسنة القولية: وهو حديث أبي هريرة السابق الذكر في مسألة (4)؛ حيث قضى النبي عليه السلام بدية المرأة على عاقلة القاتلة، ولم يُشر إلى وجوب شيء عليها فإن قلتَ: لِمَ لَمْ يجب على القاتل هنا شيء من الدية؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القاتل تجب عليه الكفارة فرفعًا للمشقّة لم يجمَع عليه دفع قسط من الدية والكفارة.

(5)

مسألة: إذا دعا زيد عمرًا ليحفر له بئرًا بداره - أي: بدار زيد - فمات عمرو بسبب هدم حصل في البئر من غير تدخُّل من أحد: فلا شيء على زيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تعدّي زيد عليه: عدم وجوب شيء عليه.

(6)

مسألة: إذا حبس زيد حرًا صغيرًا عن أهله، أو قيَّد حرًا مكلَّفًا بحبل ونحوه، فمات الصغير، أو المكلَّف بسبب نهش حية، أو عقرب، أو سقوط صاعقة من =

ص: 76

(فصل): (وإذا أدَّب الرجل ولده) ولم يُسرف: لم يضمنه، وكذا: لو أدَّب زوجته في نشوز (أو) أدَّب (سلطان رعيته أو) أدَّب (معلِّم صبيه، ولم يُسرف: لم يضمن ما تلف به) أي: بتأديبه؛ لأنه فعل ما له فعله فعله شرعًا، ولم يتعدَّ فيه، وإن أسرف، أو زاد على ما يحصل به المقصود، أو ضرب من لا عقل له: من صبي أو غيره؛ ضمن؛ لتعدِّيه

(7)

(ولو كان التأديب لحامل، فأسقطت جنينًا: ضمنه المؤدَّب) بالغرَّة؛ لسقوطه

= السماء، أو ماتا بمرض أصيبا به بسبب ذلك الحبس، أو القيد: فتجب ديتهما على زيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعدِّي زيد على الصغير والمكلَّف بحبسه وقيده عن الهرب، أو الدفاع عن نفسه بضرب الحية أو العقرب: وجوب الدية عليه؛ لكونه قد تلف في يده العادية، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية للناس، لئلا يُتّخذ ذلك وسيلة لقتل الناس بهذه الطريقة، فإن قلتَ: لا شيء على زيد وهو رواية عن أحمد، وهو قول بعض الحنابلة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الصغير، والمكلَّف حرًا: عدم الجناية هنا؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد، قلتُ: هذا بعيد جدًّا؛ لأن تعدِّي الحابس والمقيِّد - وهو زيد - واضح جلي وفي هذه الحالة لا يُنظر إلى حالة المحبوس، أو المقيَّد من كونه حرًا أو ليس بحر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".

(7)

مسألة: إذا أدَّب رجل ولده، أو أدَّب زوجته بسبب نشوزها، أو أدَّب سلطان واحدًا من رعيته، أو أدَّب معلم أحد صبيانه التلاميذ أو علمه السباحة، ولم يُسرف الوالد، والزوج، والسلطان، والمعلم في ذلك التأديب، ولم يتعدَّ على الضرب المعتاد بعدد، أو شدَّة وتلف المضروب بسبب التأديب: فلا شيء على هؤلاء الأربعة - الوالد، والزوج، والسلطان، والمعلِّم - أما إن أسرف وتعدَّى في ذلك، أو ضرب أحد هؤلاء شخصًا لا عقل له - من صبي ومكلَّف - فتلف المضروب: فإن الضارب والمؤدِّب يضمنه؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من كون المؤدِّب فعل ماله فعله شرعًا بدون إسراف، وتعدِّي: عدم ضمان المؤدَّب إذا =

ص: 77

تعدِّيه

(8)

(وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى) فأسقطت (أو استعدى

= تلف، ويلزم من إسرافه وتعدِّيه في التأديب: ضمان المؤدَّب إذا تلف، ويلزم من ضربه من لا عقل له: ضمانه إذا تلف؛ لأنه لا فائدة من ضربه لتأديبه، فإن قلتَ: كيف نعرف الإسراف والتعدِّي في التأديب من عدم ذلك؟ قلتُ: يعرف ذلك بعرف وعادة أوساط الناس بالعقل، فيؤخذ ثلاثة، أو خمسة، أو سبعة منهم ونحو ذلك: فإن قال أغلبهم: إن هذا التأديب لا إسراف ولا تعدِّي فيه: فهو كذلك، وإن قالوا: فيه تعدِّي وإسراف: فهو كذلك، أما المتشددين من الناس، أو المتساهلين منهم: فلا يؤخذ لهم رأي في ذلك؛ قياسًا على كثير الدم الذي ينقض الوضوء، والحركة الكثيرة التي تبطل الصلاة، إذ المرجع في ذلك إلى عرف عقلاء الناس.

(8)

مسألة: إذا قام رجل بتأديب امرأة حامل، فأسقطت جنينًا حرًا ميتًا - وهو الولد في بطن أمه -: فإن المؤدِّب يضمنه بالغرَّة: وهو عبد أو أمة؛ للسنة القولية: حيث إن عمر استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة: شهدتُ النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرَّة: عبد أو أمة، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لكونه قد سقط بسبب تعدِّي المؤدِّب الضارب لأمه، فإن قلتَ: كيف يُعرف بأنه سقط بسبب الضرب والتأديب؟ قلتُ: يعلم ذلك إذا سقط عقيب الضرب، أو تبقى المرأة متألمة من الضرب إلى أن يسقط، فائدة: سُمِّي العبد أو الأمة بالغرَّة؛ لأنهما من أنفس الأموال، والأصل في الغرة الخيار.

[فرع]: إذا ضرب شخص امرأة حاملًا سكَّنت حركة الجنين، ولم يتحرَّك بعد تلك الضربة: فإن عليه غرَّة - عبد أو أمة -؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو أسقطه ميتًا: فعليه غرَّة - كما سبق - فكذلك الحال هنا والجامع: قتل الجنين في كل، فإن قلتَ: لا شيء عليه هنا، وهو قول الجمهور؛ للتلازم؛ حيث يلزم من احتمال كون الحركة قد سكنت من غير الضرب: عدم ضمان ذلك؛ لأنه لا يجب =

ص: 78

عليها رجل) أي: طلبها لدعوى عليها (بالشُّرَط في دعوى له، فأسقطت) جنينًا: (ضمنه السلطان) في المسألة الأولى؛ لهلاكه، بسببه (و) ضمن (المستعدي) في المسألة الثانية؛ لهلاكه بسببه (ولو ماتت) الحامل في المسألتين (فزعًا) بسبب الوضع أو لا:(لم يضمنا) أي: لم يضمنها السلطان في الأولى ولا المستعدي في الثانية؛ لأن ذلك بسبب لهلاكها في العادة؛ جزم به في "الوجيز" وقدَّمه في "المحرَّر" و "الكافي" وعنه: أنهما ضامنان لها كجنينها؛ لهلاكها بسببهما، وهو المذهب، كما في "الإنصاف" وغيره، وقطع به في "المنتهى" وغيره

(9)

، ولو ماتت حامل، أو حملها من ريح طعام ونحوه:

= الضمان بالشك قلتُ: إن الظاهر: أنه مات بسبب الضرب، وإن لم يخرج فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس".

[فرع آخر]: إذا ألقت المرأة الجنين: فتجب فيه غرَّة - كما سبق - وهذا مطلق: أي: سواء ألقته في حياتها، أو بعد وفاتها؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو سقط وهي حية: وجبت فيه الغرَّة، فكذلك إذا سقط بعد موتها مثل ذلك، والجامع: أن الجنين تلف بسبب جنايته عليها.

[فرع ثالث]: الغرَّة هي: عبد أو أمة؛ للسنة القولية: وهي: حديث المغيرة السابق، فإن قلتَ: إن الغرَّة هي: عبد، أو أمة، أو فرس أو بغل؛ للسنة القولية: حيث قال أبو هريرة: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة: عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل" قلتُ: إن ذكر "الفرس، والبغل" في حديث أبي هريرة زيادة غير ثقة؛ حيث إن من رواته عيسى بن يونس - انفرد به - وهو متروك الحديث، وحديث المغيرة قد قال به أكثر العلماء، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين" فعندنا: حديث أبي هريرة، ضعيف، وعندهم قوي، وأيضًا:"هل زيادة عيسى بن يونس" زيادة ثقة هنا؟ " فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(9)

مسألة: إذا طلب السلطان - أو القاضي - أو من له رهبة امرأة حاملًا في قضية تخصها كوجوب حد، أو تعزير، أو تخص غيرها، أو أحضر رجل الشرطة =

ص: 79

ضمن ربُّه إن علم ذلك عادة

(10)

(ومن أمر شخصًا مكلفًا أن ينزل بئرًا أو) أمره أن

= لإحضارها في دعوى له: فأسقطت جنينها، أو ماتت بسبب ذلك: فإن السلطان، وذلك الرجل - الذي أحضر الشرطة - يضمنان المرأة، وجنينها، فيدفعان ديتها، وغرَّة: عبد أو أمة عن الجنين الذي سقط وهو قول كثير من الحنابلة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من هلاك الجنين بسبب تلك الرهبة والخوف الحاصلين من ذلك الطلب والاستدعاء: وجوب ضمانه على السلطان، والرجل الذي أحضر الشرطة لاستدعائها، وذلك بغرَّة: عبد أو أمة، ويلزم من وجود هلاكها بسبب ذلك الاستدعاء منهما والفزع في الظاهر: وجوب ضمانها بدفع الدية على السلطان، وذلك الرجل المستدعي لها، فإن قلت: إن ماتت بسبب استدعاء السلطان لها، أو استدعاء ذلك الرجل بواسطة الشُّرَط: فلا ضمان على السلطان، ولا على غيره، وهو ما ذكره المصنف هنا، وهو قول كثير من الحنابلة والشافعية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الاستدعاء من السلطان، أو ذلك الرجل لا يُسبّب في العادة الهلاك: عدم وجوب الضمان عليهما- أي: على السلطان وذلك الرجل ـ قلت: هذا لا يُسلَّم مطلقًا؛ حيث إن الناس في ذلك يختلفون: فمنهم من يحصل عنده هلاك عند استدعاء السلطان، أو مجيء الشرطة عند بابه، ومنهم من يتضرر، ومنهم من لا يحدث له شيء، ومع وقوع ذلك الاختلاف بين الناس في ذلك، ومع موتها بعد الاستدعاء مباشرة: فإن الظاهر: أنها لم تمت إلا بسببهما، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في استدعاء السلطان ومن معه الرهبة هل يُسبِّب الهلاك أو لا؟ " فعندنا: يُسبِّبان ذلك: فضمن السلطان، أو الرجل، وعندهم: لا: فلم يضمناهما.

(10)

مسألة: إذا كان عند زيد طعام له ريح فماتت امرأة حامل، أو مات جنينها بسبب تلك الريح: فإن زيدًا يضمن ذلك، فيدفع دية المرأة، وغرَّة عن الجنين بشرط: أن يكون زيد يعلم أن تلك الريح تقتل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعدِّيه =

ص: 80

(يصعد شجرة) ففعل (فهلك به) أي: بنزوله، أو صعوده:(لم يضمنه) الأمر (ولو أن الآمر سلطان)؛ لعدم إكراهه له، و (كما لو استأجره سلطان أو غيره) لذلك وهلك به؛ لأنه لم يجن، ولم يتعدَّ عليه، وكذا: لو سلَّم بالغ عاقل نفسه، أو ولده إلى سابح حاذق؛ ليعلِّمه السباحة، فغرق: لم يضمنه السابح

(11)

.

* * *

= بذلك: وجوب الضمان عليه.

(11)

مسألة إذا أمر زيد عمرًا المكلَّف بأن ينزل في بئر، أو يصعد شجرة، أو استأجره زيد للنزول في البئر، أو الصعود على الشجرة، أو سلَّم عمرو نفسه إلى زيد الماهر في السباحة؛ ليعلمه السباحة، أو سلَّمه ولده: فهلك عمرو، أو ولده بسبب نزوله في البئر، أو صعوده على الشجرة، أو الغرق: فإن زيدًا لا يضمنه: سواء كان زيد مكلَّفًا، أو لا، وسواء كان سلطانًا أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من فعل زيد ما جرت العادة بفعله لمصلحته: عدم ضمانة ما حصل بسبب ذلك.

تنبيه: هذا كله بشرط: عدم التعدِّي من زيد، وقد سبق تفصيل ذلك في مسألتي (5 و 7).

هذه آخر مسائل: "تعريف الديات"، ومن يتحمَّلها؟ وهل يضمن المؤدب ما تلف بسبب ذلك؟ وضمان الجنين إذا سقط وضمان المأمور، بفعل، والأجير" ويليه باب:"مقادير ديات النفس".

ص: 81

‌باب مقادير ديات النَّفس

المقادير: جمع مقدار، وهو مبلغ الشيء وقدره (دية الحر المسلم مائة بعير، أو ألف مثقال ذهبًا، أو اثنا عشر ألف درهم فضة، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة)؛ لحديث أبي داود عن جابر رضي الله عنه: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة" رواه أبو داود، وعن عكرمة عن ابن عباس: أن رجلًا قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألف درهم" وفي كتاب عمرو بن حزم: "وعلى أهل الذهب ألف دينار" (هذه) الخمس المذكورات (أصول الدية) دون غيرها (فأيها أحضر من تلزمه) أي: الدية (لزم الولي قبوله)؛ سواء كان ولي الجناية من أهل ذلك النوع، أو لم يكن؛ لأنه أتى بالأصل في قضاء الواجب عليه

(1)

، ثم تارة تغلَّظ الدية، وتارة تخفَّف (فـ) ـــتغلَّظ (في قتل العمد

‌باب مقادير ديات النفس

وفيه إحدى وعشرون مسألة:

(1)

مسألة: إذا وجبت دية مسلم حر قد قُتل: فإن القاتل، وعاقلته يُخيَّرون في أن يدفعوا أحد أصول الديات الخمسة وهي: إما مائة من الإبل، أو ألف مثقال- وهو دينار- من الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم من الفضة - أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، فإذا أحضروا واحدًا مما سبق: فيجب على ولي الجناية أن يقبل ذلك: سواء كان ولي الجناية من أهل الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو الدنانير، أو الدراهم، أو لم يكن كذلك، وإن وقع اتفاق على دفع ما يُعادل قيمة مائة من الإبل، ونحوها مما ذكر من العملة المستعملة في البلد والعصر الذي حصلت فيه الجناية: فيصح؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث أوجب النبي صلى الله عليه وسلم إحدى هذه الأصول في حديث جابر، وابن عباس، وعمرو بن حزم، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من إتيان الواجب عليه الدية بأحد أصول الدية: لزوم ولي الجناية قبوله؛ =

ص: 82

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لكون الآتي بها قد قضى الواجب عليه، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن من وجبت عليه كفارة اليمين يُخيَّر بين: الإعتاق، والإطعام، والإكساء، أيُّ واحدة يفعلها تسقط عنه الأخرى، فكذلك من وجبت عليه الدية يخيّر بين تلك الأصول الخمسة، ولا ينظر لاختيار ولي الجناية - وهو ولي المقتول- والجامع: التخيير في كل، الرابعة: قول الصحابي؛ حيث إن عمر خطب الناس قائلًا: "ألا إن الإبل قد غلت" قال الراوي: "فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة"، الخامسة: المصلحة؛ حيث إن الاتفاق على دفع ما يعادل قيمة مائة من الإبل، أو غيرها من أصول الديات بالعملة المستعملة في العصر الذي وقعت فيه الجريمة فيه دفع مفسدة الضيق على الناس، فإن قلت: إن الإبل هي الأصل في الدية خاصة، وهو رواية عن أحمد، وذهب إليه الشافعي في الجديد، ولذلك تقوَّم مائة من الإبل بأيِّ عملة إن تعذَّرت الإبل، للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط مائة من الإبل" فنصَّ على الإبل هنا، قلت: هذا زيادة في التأكيد على الإبل؛ حيث إنها هي المعروفة في عصره عليه السلام، وكانت ذا قيمة وأهمية عند العرب وكان أغلبهم لا يعرفون إلا الإبل، وهذا هو سبب تكرار ذكرها، وهذا لا يخالف ما سبق من تخييره بين تلك الأصول الخمسة للديات، بل تخيير من وجبت عليه الدية بين تلك الأصول الخمسة فيه توسعة على المسلمين المنتشرين في أنحاء العالم، فكل يدفع ما يلائم ويناسب مجتمعه، وبيئته، وهذا هو المقصد الشرعي منه، تنبيه: زعم بعض الحنابلة: أن ما ذكره المصنف هنا هو من مفردات الحنابلة، وهذا غير صحيح، بل ذهب إليه محمد بن الحسن، وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة إلا أنهما زادا أصلًا سادسًا وهو: دفع مائتي حلَّة من حلل اليمن: كل حلة بردان: إزار، ورداء جديدان، وهو رواية عن أحمد =

ص: 83

وشبهه) فيؤخذ (خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقَّة، وخمس وعشرون جَذَعة) ولا تغليظ في غير إبل

(2)

(و) تكون الدية (في الخطأ) مخفَّفة: فـ (تجب أخماسًا: ثمانون من الأربعة المذكورة) أي: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة (وعشرون من بني

= أيضًا؛ لقول الصحابي؛ حيث إن عمر قال ذلك أثناء خطبته بالناس - كما سبق - قلت: إن سبب عدم جعل الحلل أصلًا - مع أنها وردت في خطبة عمر على مجمع من الصحابة - هو المصلحة؛ حيث إن الحلل تختلف ولا تنضبط، فيقع بسبب ذلك اختلاف بين أهل المقتول، والقاتل، فدفعًا لذلك: لم تُجعل أصلًا سادسًا: فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض النصوص والآثار، والمصالح" كما سبق بيانه.

(2)

مسألة: إذا كان القتل عمدًا، واختار أولياء الدم الدية، أو كان قتل شبه عمد: فإن الدية تكون مغلَّظة، فتجب المائة من الإبل أرباعًا: فيؤخذ خمس وعشرون بنت مخاض - وهي الناقة التي بلغت سنة من عمرها - وخمس وعشرون بنت لبون - وهي: الناقة التي لها سنتان - وخمس وعشرون حِقَّة - هي: الناقة التي لها ثلاث سنوات- وخمس وعشرون جَذَعة - وهي: الناقة التي تم لها أربع سنوات-، ولا يكون ذلك في غير الإبل؛ للسنة التقريرية: حيث قال السائب بن يزيد: "كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرباعًا: خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين حِقَّة، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسًا وعشرين بنت مخاض" وهو نص في المسألة، وهذا فيه تغليظ على من وجبت عليه الدية؛ لكون هذا التنويع بالعدد يشق على كثير من الناس، فإن قلت: لَم غُلّظت الدية هنا؟ قلتُ: لأن الجاني في العمد وفي شبهه قد قصد الجناية، وإن كان لم يرد أن يقتل المجني عليه في شبه العمد، فعوقب بتغليظ الدية بتحديد أسنانها.

ص: 84

مخاض) هذا قول ابن مسعود

(3)

وكذا: حكم الأطراف

(4)

، وتؤخذ من بقر مسنات،

(3)

مسألة: إذا كان القتل خطأ: فإن الدية تكون مخفَّفة، فتجب المائة من الإبل أخماسًا: فيؤخذ: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جَذَعة، وعشرون من بني مخاص؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "في دية الخطأ عشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعَة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بني مخاض، وعشرون بنت لبون" وهذا فيه توسعة وتخفيف على الناس، الثانية: قول الصحابي؛ حيث ثبت ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، فإن قلتَ: لَمَ خُفِّفت الدية هنا؟ قلت: لأن الجاني في الخطأ معذور به، فهو فعل ماله فعله، ولم يقصد جناية ولا قتلًا فخفِّفت الدية عليه من جهتين: أولهما: ما ذكر من التخفيف، ثانيهما: أنها واجبة على العاقلة، فإن قلت: هي أخماس إلا أنه يجعل مكان عشرين من بني مخاض، عشرين من بني لبون، وهو قول مالك والشافعي؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد ودى الذي قتل في خيبر بمائة من إبل الصدقة، وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض قلتُ: إن هذا الحديث ورد في دية القتل العمد -كما ذكر ذلك - فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "الخلاف في حديث قتيل خيبر هل هو عمد، أو خطأ؟ " فعندنا: أنه عمد، وعندهم: أنه خطأ.

(4)

مسألة: إذا كان قطع الطرف، أو الجرح عمدًا، أو شبه عمد: فإن ديتهما مغلَّظة، وإذا كان قطع الطرف أو الجرح خطأ: فإن ديتهما مخفَّفة، فمثلًا: لو قطع زيد يد عمر عمدًا، أو شبه عمد: فيجب فيها نصف الدية - وهو: خمسون من الإبل - تؤخذ مغلَّظة أرباعًا: فتؤخذ اثنتا عشرة بنت مخاض، واثنتا عشرة بنت لبون، واثنتا عشرة حقة، واثنتا عشرة جذعة، ثم يؤخذ بنت مخاض واحدة، وبنت لبون واحدة استكمالًا للخمسين، أما لو قطع زيد يد عمرو خطأ: فيجب فيها نصف الدية - وهو خمسون من الإبل - تؤخذ مخففة أخماسًا: فتؤخذ عشر من بنات =

ص: 85

وأتبعة، ومن غنم ثنايا، وأجذعة نصفين

(5)

(ولا تعتبر القيمة في ذلك) أي: أن تبلغ قيمة الإبل، أو البقر، أو الشياء دية نقد؛ لإطلاق الحديث السابق (بل) تعتبر فيها (السلامة) من العيوب؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة

(6)

(ودية) الحر (الكتابي)

= مخاض، وعشر من بنات لبون، وعشر من الحقق، وعشر من الأجذعة، وعشر من بني مخاض، وكذا يُفعل في الجرح الواقع عمدًا وشبه عمد، والخطأ؛ للقياس؛ على ما يجب من الدية في النفس.

(5)

مسألة: إذا أراد الجاني، أو العاقلة أن يدفعوا دية قتل العمد، أو شبهه، أو الخطأ من البقر: فيدفعوا مائتي بقرة: يدفع مائة بقرة من المسنات - وهي ما لها سنتان - والمائة الأخرى تكون من الأتبعة - وهي ما لها سنة واحدة -، وإذا أرادوا أن يدفعوا من الغنم: فيجب أن يدفعوا ألفي شاة: ويدفع ألف واحدة من الثنايا: سواء كانت من الضأن، أو من المعز، أو منهما، ويدفع الألف الأخرى من الأجذعة، وهي من الضأن لقاعدتين الأولى: القياس؛ بيانه: كما أنه يعمل بذلك في الزكاة فكذلك يُعمل به في الدية من التقيّد بالأسنان، الثانية: المصلحة؛ حيث إن التنويع في البقر، والغنم، والإبل فيه مصلحة للجاني والمجني عليه.

(6)

مسألة: إذا توفرت مائة من الإبل، أو مائتان من البقر، أو ألفان من الغنم سالمة من العيوب: فإن الجاني أو العاقلة يدفعونها للمجني عليه، أو لوليه وهي مجزئة: سواء كانت في البلد والعصر الذي حصلت فيه الجناية غالية القيمة، أو رخيصة القيمة، فقيمتها لا تعتبر ولا تشترط، القواعد الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة" وقوله: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" وهذا مطلق، فتدفع، والأصل في الإطلاق السلامة من العيوب فاشتُرطت تلك السلامة منها، فإذا وُجدت تلك الإبل، أو البقر أو الغنم على هذه الصفة: فإنها تدفع بصرف النظر عن قيمتها، الثانية التلازم؛ حيث إن مائة من الإبل =

ص: 86

الذمي، أو المعاهد، أو المستأمن (نصف دية المسلم)؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين" رواه أحمد، وكذا جراحه

(7)

(ودية المجوسي) الذمي أو المعاهد، أو المستأمن (و) دية

= كانت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم تساوي ثمانية آلاف درهمًا فلما كان عصر عمر قال: "إنها قد غلت" فقوَّمها على أهل الورق اثني عشر ألفًا فيلزم من ذلك: أنها في حال رخصها أقل قيمة، ولذا: لا يُنظر إلى القيمة، ولا يُعتبر الثالثة: المصلحة؛ حيث إنه لو اعتبرت قيمة الإبل، والبقر، والغنم لأدَّى ذلك إلى الاختلاف والتنازع؛ لاختلاف ذلك باختلاف العصور والبلدان. تنبيه: إذا وقع صلح على أخذ قيمة مائة من الإبل، أو مائتين من البقر، أو ألفين من الغنم فلا بأس.

(7)

مسألة: دية الكافر الحر الكتابي: نصف دية الحر المسلم - فتكون: خمسين من الإبل، أو مائة من البقر أو ألفًا من الغنم-، وكذا: دية قطع طرف من أطرافه، أو جراحه على النصف من دية المسلم في طرفه وجراحه: سواء كان هذا الكتابي ذميًا -وهو من يدفع الجزية - أو معاهدًا - وهو من عاهده إمام المسلمين، وهو في بلده - أو مستأمنًا - وهو الذي أعطي أمانًا فيسافر إلى ديار المسلمين تاجرًا، أو زائرًا -؛ للسنة القولية: حيث إن النبي عليه السلام: "قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين" رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفي لفظ: "دية المعاهد نصف دية المسلم" وإذا كان الأمر كذلك في النفس، فهو على نصف دية الحر المسلم في قطع طرف، أو جرح، فإن قلت: إن ديته كدية المسلم الحر؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه عليه السلام: "أن دية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم" الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن عمر، وعثمان، وابن مسعود قلتُ: أما الحديث فما ذكرناه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أقوى مما رووه عنه، لذا ذكره أكثر أئمة الحديث في كتبهم، دون ما رووه، وأما قول الصحابي: فهو مخالف للسنة القولية =

ص: 87

(الوثني) المعاهد، أو المستأمن (ثمانمائة درهم) كسائر المشركين، روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وجراحه بالنسبة

(8)

(ونساؤهم) أي: نساء أهل الكتاب، والمجوس، وعبدة الأوثان، وسائر المشركين (على النصف) من دية ذكرانهم (كـ) دية نساء (المسلمين)؛ لما في كتاب عمرو بن حزم:"دية المرأة على النصف من دية الرجل"

(9)

، ويستوي الذكر والأنثى فيما يوجب دون ثلث الدية؛ لحديث عمرو بن

= التي ذكرناها: فلا يحتج بقوله هنا، فإن قلت: ما الخلاف هنا؟ "تعارض السنتين القوليتين" وأيضًا: "تعارض قول الصحابي مع السنة القولية".

(8)

مسألة: دية الكافر الحر المجوسي، أو الوثني أو غيرهما من المشركين - غير أهل الكتاب - ثمانمائة درهم: سواء كان معاهدًا، أو مستأمنًا، ودية طرف، وجراح هؤلاء على النسبة من ديتهم تلك - وهي ثمانمائة درهم-؛ لقول الصحابي؛ حيث ثبت ذلك عن عمر، وعثمان، وابن مسعود.

[فرع]: إذا لم يكن للكافر أمان ولا عهد: فلا دية له إن قتل، أو قطعت أطرافه، أو جُرح، بل تكون دماؤهم مهدرة، لا قيمة لها.

(9)

مسألة: دية النساء على النصف من دية الذكور: فدية المرأة المسلمة الحرة على النصف من دية المسلم الحر، فتكون ديتها على ذلك خمسين من الإبل، ومائة من البقر، وألفًا من الغنم - ودية المرأة الكافرة الكتابية الحرة على النصف من دية الكافر الكتابي الحر - فتكون ديتها على ذلك: خمسًا وعشرين من الإبل، وخمسين من البقر، وخمسمائة من الغنم - ودية المرأة المجوسية والوثنية، وسائر الكفار المعاهدة، أو المستأمنة على النصف من دية المجوسي والوثني - فتكون ديتها على ذلك أربعمائة درهم -؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام في كتاب عمرو بن حزم -: "دية المرأة على النصف من دية الرجل" وهو نص في المسألة، فإن قلت: إن ديتها مثل دية الذكر، وهو قول ابن علية والأصم؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" - وهو عام، فيشمل الذكر والأنثى؛ =

ص: 88

شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته" أخرجه النسائي

(10)

، .......

= لأن "النفس" اسم جنس معرَّف بأل، وهو من صيغ العموم قلتُ: إن ما ذكروه وما ذكرناه من السنة قد وردا في كتاب واحد - وهو كتاب عمرو بن حزم - فيكون حديثنا مخصِّصًا لحديثهم، من باب تخصيص السنة القولية بالسنة القولية، فإن قلت: ما الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين القوليتين"، فإن قلت لم كانت دية المرأة على النصف من دية الذكر؟ قلت: لما ذكرناه من سبب كون المرأة تأخذ نصف نصيب الذكر في الميراث؛ وملخصه: أن الرجل أنفع من المرأة، ويسد ما لا تسده المرأة، من المناصب الدينية، والولايات، والحروب، وعمارة الأرض، والانتشار فيها لطلب الرزق، وهو الذي عليه المعتمد في النفقات دونها حتى لو أبت أن ترضع ولده منها وهو أقرب الناس إليها: فعليه أن يستأجرها أو غيرها ليتمّ رضاعه، فلم يجعلها الشارع مساوية له في هذه الأمور.

(10)

مسألة وتساوي دية جراح المرأة وطرفها دية جراح الرجل وطرفه إلى ثلث الدية الكاملة، فإذا زادت عن الثلث: صارت على النصف من دية الرجل - كما سبق في مسألة (9) - فمثلًا: إذا قطع ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ففيها ثلاثون من الإبل، مثل دية أصابع الرجل؛ لكونه وصل إلى ثلث الدية، وإذا قطعت أربعة أصابع: ففيها عشرون من الإبل: نصف دية الرجل، وهكذا وقد قضى بهذا سعيد بن المسيب؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته" فساوى الشارع بين عقل الرجل والمرأة في الدية قبل أن تبلغ الدية ثلثها، ودلَّ مفهوم الغاية على أنها إذا بلغت دية أطرافها وجراحها ثلث دية الرجل: فإنها تكون على النصف من ديته، الثانية: قول الصحابي؛ حيث ثبت هذا عن عمر، وزيد بن ثابت وابن عمر، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن الجنين إذا =

ص: 89

ودية خنثى مشكل نصف دية كل منهما

(11)

(ودية قن) ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو

= سقط: فإن فيه غرَّة: عبد أو أمة، لا فرق بين الذكر والأنثى، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلا منهما قليل. فإن قلت: لم شُرع هذا؟ وفُرِّق بينه وبين ما زاد عليه؟ قلت: لأن ما دون الثلث قليل، فجبرت مصيبة المرأة فيه بمساواتها للرجل، فإن قلت: إن دية طرف، وجرح المرأة على النصف من دية الرجل: سواء قلَّ أو كثر؛ وهو قول أبي حنيفة، والشافعي في الجديد؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن المسلم والكافر تختلف دية نفسيهما وجراحهما مطلقًا: قل أو كثر، فكذلك المرأة تختلف عن دية الرجل في نفسيهما وجراحهما: قل أو كثر بجامع: الاختلاف في كل، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إنه ثبت هذا عن علي. قلت: أما القياس فهو فاسد؛ لأنه قياس مع النص - وهو حديث عمرو بن شعيب - أما قول الصحابي: فلا يحتج به هنا؛ لأنه عارض السنة، ولأنه عارضه قول صحابي آخر فتساقطا، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض القياس مع النص" و"تعارض قول الصحابي مع السُّنة".

(11)

مسألة: دية الخنثى المشكل نصف دية ذكر مسلم حر ونصف دية أنثى مسلمة حرة فتكون ديته - على ذلك -: خمسًا وسبعين من الإبل -، وهو مجموع نصف دية الذكر - وهو خمسون من الإبل ونصف دية أنثى - وهو: خمس وعشرون من الإبل -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من احتمال الذكورية، واحتمال الأنوثية احتمالًا متساويًا: أن تكون ديته نصف دية الذكر، ونصف دية الأنثى؛ حيث إن هذا هو المتوسط، فيجب العمل بكلا الحالين؛ تحقيقًا للعدالة والإنصاف، وهو المقصد منه، فإن قلت: إن ديته دية الأنثى - وهي نصف دية الذكر - كما سبق في مسألة (9) - وهو قول الشافعي؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل العمل بما تيقنًا منه، واليقين هنا: هو دية الأنثى، فلا يجب الزائد؛ لأنه مشكوك فيه، ولا يُعمل بالشك. قلت: إنه قد وجد دليل غيَّر الحالة المستصحبة وهي: احتمال كون الخنثى =

ص: 90

كبيرًا، ولو مدبرًا، أو مكاتبًا (قيمته) عمدًا كان القتل، أو خطأ؛ لأنه متقوَّم فضمن بقيمته، بالغة ما بلغت كالفرس

(12)

(وفي جراحه) أي: جراح القن إن قُدِّر من حر

= ذكرًا، وأنثى احتمالًا متساويًا، فوجب العمل بكلا الاحتمالين؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.

[فرع]: قطع أطراف الخنثى، أو جرحه: فإن كانت توجب دية دون الثلث: فإنه يستوي في ذلك الذكر، والأنثى، والخنثى، وفيما زاد على ذلك: فإن ديته نصف دية مجموع نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى، وهو: ثلاثة أرباع دية ذكر حر مسلم؛ للتلازم؛ حيث إن كون أدنى حاليه أن يكون امرأة، وهي تساوي الذكر فيما دون الثلث -كما سبق في مسألة (10) - يلزم منه: ما ذكرناه، ويلزم من كونه خنثى: أن تكون ديته ثلاثة أرباع دية ذكر حر مسلم - كما في مسألة (11) -.

[فرع ثان]: إذا قتل الخنثى ذكرًا، أو امرأة عمدًا عدوانًا: فإنه يُقتل بهما، وإذا قتل الذكر، أو الأنثى ذلك الخنثى عمدًا عدوانًا: فإنهما يقتلان به؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم اختلاف الخنثى وغيره في ذلك: أن يُقاد أحدهما بالآخر؛ لأن كلًا منهم نفس مزهقة.

(12)

مسألة: دية القنّ الرقيق: قيمته: سواء كانت قيمته كثيرة، أو قليلة، وسواء كانت هذه القيمة له تبلغ دية الحر - وهي من الإبل، أو مائتان من البقر، أو ألفان من الغنم - أو لا تبلغ ذلك، وسواء كان ذلك الرقيق ذكرًا، أو أنثى، كبيرًا أو صغيرًا، مكاتبًا أو لا، مدبَّرًا أو لا أم ولد أو لا، وسواء كان قتله عمدًا، أو شبه عمد، أو خطأ؛ لقاعدتين: الأولى القياس؛ بيانه: كما أنه لو أُتلف فرسًا: فإنه يُضمن بقيمته، فكذلك القن والرقيق مثله، والجامع: أن كلًا منهما مال متقوَّم، فيُضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون المكاتب، والمدبَّر، وأم الولد يُطلق عليهم عبيد: أن تكون ديتهم قيمتهم؛ =

ص: 91

بقسطه من قيمته: ففي يده نصف قيمته: نقص بالجناية أقل من ذلك أو أكثر، وفي أنفه قيمته كاملة، وإن قطع ذكره، ثم خصاه: فقيمته لقطع ذكره، وقيمته مقطوعة، وملك سيده باق عليه، وإن لم يُقدَّر من حر: ضمن بـ (ما نقصه) بجنايته (بعد البرء)، أي: التئام جرحه كالجناية على غيره من الحيوانات

(13)

(ويجب في الجنين) الحر:

= لأن المكاتب يطلق عليه عبد؛ لقوله عليه السلام: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" غيره مثله في ذلك؛ لعدم الفارق، فإن قلت: إذا بلغت قيمة العبد دية الحر: فلا تدفع له، بل ينقص عن دية حر، وهو قول أبي حنيفة؛ للتلازم؛ حيث إن كون الحر أشرف؛ نظرًا لخلوّه عن نقص الرق فقد جعل له الشارع دية كاملة لا تزيد، فيلزم من ذلك: عدم دفع قيمة للعبد زائدة أو مساوية لدية الحر؛ لئلا يساويه في الضمان قلتُ: إن هذا غير مسلَّم؛ لأن الحر ليس مضمونًا بالقيمة والمال، وإنما ضمن بما قدَّره الشارع، فلا يتجاوزه، بخلاف العبد: فهو مضمون بالقيمة المالية يزيد بزيادة قيمته، وينقص بنقصانها، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الحر هل يضمن ضمان مال أو لا؟ فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(13)

مسألة: إذا جُني على العبد، فقطع طرفه، أو جُرح: ففيه حالتان. الحالة الأولى: إن كان ذلك القطع والجرح مقدَّر من حُرٍّ: فإنه يضمن بقسطه من قيمته بعد التئام ذلك الجرح، فلو قُطعت يد العبد: فإن القاطع يدفع نصف قيمة العبد: سواء نقص بتلك الجناية أقل من ذلك أو أكثر، فمثلًا: لو كانت قيمة العبد عشرة آلاف درهم، فإن القاطع يدفع لسيده خمسة، وهذا مطلق، أي: سواء كان العبد يساوي بعد هذه الجناية هذه الخمسة، أو أقل منها أو أكثر، وكذا: لو قطع أنفه: فإن القاطع يدفع لسيده كامل قيمته - وهي عشرة آلاف درهم-، وكذا: لو قطع ذكره، ثم قطع خصيتيه: فإن القاطع يدفع كامل قيمته - وهي عشرة آلاف درهم-؛ نظرًا لقطع ذكره، وعليه أن يدفع قيمته مقطوعة فلو كانت قيمته قبل =

ص: 92

(ذكرًا كان، أو أنثى) إذا سقط: ميتًا بجناية على أمه: عمدًا أو خطأ (عشر دية أُمِّه: غرَّة) أي: عبدًا، أو أمة قيمتها خمس من الإبل إن كان حرًا مسلمًا (و) يجب في الجنين (عشر قيمتها) أي: قيمة أُمِّه (إن كان) الجنين (مملوكًا، وتقدر الحرة) الحامل برقيق (أمة) ويؤخذ عشر قيمتها يوم جنايته عليها نقدًا

(14)

وإن سقط حيًا لوقت يعيش لمثله،

= القطع عشرة آلاف، ثم صارت قيمته بعده: خمسة: فإن القاطع للذكر، والخصيتين يدفع خمسة عشر ألفًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العبد يساوي الحر في ضمان الجناية بالقصاص، والكفارة فكذلك يساويه في اعتبار ما دون النفس، كما ساوت المرأة الرجل في ذلك والجامع: ضمان النقص في كل، الحالة الثانية: إن كان ذلك الجرح لم يُقدَّر من حر كأن يقطع الجاني جلد العبد: فإن الجاني يضمن ما نقص من قيمته بسبب جنايته عليه بعد التئام الجرح، فمثلًا: لو كانت قيمة العبد قبل الجناية عشرة آلاف درهم، وصارت بعد الجناية تسعة: فإن الجاني يدفع لسيد العبد ألف درهم؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الجاني لو جنى على حيوان فنقصت قيمته بسبب تلك الجناية: فإن الجاني يضمن هذا النقص، فكذلك العبد مثله، والجامع: أن كلًا منهما مال قد أتلفه أو بعضه غير صاحبه فيُضمن.

[فرع]: ملك السيد لعبده في الحالتين السابقتين في مسالة (13) باق على ما هو عليه؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل بقاء العبد تحت ملك سيده، ولم يوجد سبب أو دليل أو قرينة موجبة لزوال هذا الملك، فبقي على ما كان عليه، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لو أُتلف بعض مال السيد: فإنه يبقى الباقي تحت ملكه، فكذلك إذا تلف بعض أعضاء العبد: فإنه يبقى الباقي تحت ملك سيده، والجامع: أن كلًا منهما مال للسيد.

(14)

مسألة: دية الجنين إذا سقط ميتًا بسبب جناية على أمه: عشر دية أُمِّه، غرَّة: عبد أو أمة قيمة ذلك خمس من الإبل، أو عشرون من البقر، أو مائة من الغنم إن كان حرًا مسلمًا: سواء كان الجنين ذكرًا، أو أنثى، وسواء كانت الجناية عمدًا: =

ص: 93

وهو نصف سنة فأكثر: ففيه إذا مات ما فيه مولودًا

(15)

، .......................

= أو شبه عمد، أو خطأ، أما إن كان الجنين مملوكًا: فديته عشر قيمة أُمِّه، ولو كانت أمه حرَّة بأن أعتقها وهي حامل، وسقط جنينها بالجناية: فإنها تقدَّر بأنها أمة، ويؤخذ عشر قيمتها في يوم الجناية عليها نقدًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قضى عليه السلام في امرأة رمت أخرى بحجر فقتلتها وأسقطت جنينها: "بأن في جنينها غرَّة: عبدًا أو أمة" الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كونه جنين آدمية: أن تكون دية جنين الأمة: عشر قيمة أُمه؛ لكون قيمة الأمة بمنزلة دية الحرَّة، ويلزم من الاعتبار بحال الجنين: أن تكون قيمته، تقدر في يوم الجناية نقدًا.

(15)

مسألة: إذا سقط الجنين حيًا لوقت يعيش لمثله - وهو أن تضعه لستة أشهر فصاعدًا-: ففيه إذا مات دية كاملة إن كان ذكرًا مسلمًا حرًا ـ وهو مائة من الإبل، وغير ذلك من أصول الديات-، أما إن لم يكن سقوطه لوقت يعيش لمثله - كدون ستة أشهر -: فإنه يُعتبر كميت تجب فيه غرَّة: عبد أو أمة؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أنه لو باشر قتله بعد وضعه فيجب كامل ديته، فكذلك إذا سقط الجنين حيًا لوقت يعيش لمثله، ثم مات مثله والجامع: أن كلًا منهما مات بسبب جنايته، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون العادة لم تجر بحياة من لم يكن سقوطه لوقت يعيش لمثله - وهو ماله أقل من ستة أشهر في البطن - أن يكون حكمه حكم السقط الميت، وفيه غرَّة: عبد أو أمة.

[فرع]: إذا أسقطت الحامل جنينها بأي دواء، أو شيء سقط: فعليها غرَّة: عبد، أو أمة، لا ترث منها شيئًا، وكذلك: لو أسقطه أبوه مثل ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إسقاط الجنين بفعل الأم، أو الأب، وجنايتهما: فلزمهما ضمانه بالغرَّة، ويلزم من كون القاتل لا يرث: أن لا ترث الأم، أو الأب من الغرّة شيئًا، ويرث الغرة سائر ورثة الجنين.

ص: 94

وفي جنين دابة: ما نقص أُمَّه

(16)

(وإن جنى رقيق خطأ أو) جنى (عمدًا لا قَود فيه) كالجائفة (أو) جني عمدًا (فيه قود، واختير فيه المال، أو أتلف) رقيق (مالًا) وكانت الجناية والإتلاف (بغير إذن السيد: تعلَّق) ما وجب بـ (ذلك برقبته)؛ لأنه موجب جنايته، فوجب أن يتعلَّق ذلك برقبته كالقصاص (فيخيَّر سيده بين أن يفديه بأرش جنايته) إن كان قدر قيمته فأقل، وإن كان أكثر منها: لم يلزمه سوى قيمته؛ حيث لم يأذن في الجناية (أو يُسلِّمه) السيد (إلى ولي الجناية فيملكه، أو يبيعه) السيد (ويدفع ثمنه) لولي الجناية إن استغرقه أرش الجناية، وإلا: دفع منه بقدره، وإن كانت الجناية بإذن السيد، أو أمره فداه بأرشها كله

(17)

، وإن جنى عمدًا فعفا الولي على رقبته: لم

(16)

مسألة: إذا جنى شخص على بهيمة حامل فأسقطت جنينها: فيضمن الجاني ما نقص من قيمة أمه، فمثلًا لو كانت قيمة هذه البهيمة خمسمائة درهم وهي حامل، فصارت قيمتها بعد سقوط جنينها ثلاثمائة: فإن الجاني يدفع مائتين؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو جنى على بهيمة فقطع بعض أعضائها: فإن الجاني يضمن ما نقص منها بعد الجناية فكذلك الحال هنا، والجامع: النقص من متقوَّم في كل.

(17)

مسألة إذا جنى رقيق على عمرو جناية عمد لا قصاص فيها كالجائفة - وهي الضربة التي تؤدي إلى الجوف - أو جناية خطأ أو جناية فيها القود، ولكن اختير المال، أو أتلف هذا الرقيق مالًا لعمرو: ففيه حالتان: الحالة الأولى: إن كانت تلك الجناية، أو ذلك الإتلاف بغير إذن سيده: فإن كل ذلك يتعلَّق برقبة ذلك الرقيق: وعند ذلك يُخيَّر سيده بين أمور ثلاثة: أولها: إما أن يفديه بأرش جنايته إن كان ذلك أقل من قيمته فيدفع إرش الجناية إلى ولي الجناية وهو عمرو أو وليه وإن كان ذلك أكثر: لم يلزم السيد إلا قيمة الرقيق، ثانيها: وإما أن يُسلِّم السيد ذلك الرقيق إلى ولي الجناية - وهو عمرو أو وليه -، ثالثها أو يبيع السيد ذلك الرقيق، ويدفع ثمنه لولي الجناية - وهو عمرو أو وليه - إن كان أرش الجناية =

ص: 95

يملكه بغير رضي سيده

(18)

، وإن جنى على عدد: زاحم كل بحصته)

(19)

، وشراء ولي قود له عفو عنه

(20)

،

= يستغرق ثمنه، وإن لم يكن يستغرقه: فإنه يدفع أرش الجناية والباقي للسيد؛ لقاعدتين: الأولى: القياس بيانه: كما أن هذا الرقيق لو قتل عمدًا عدوانًا: فإن القصاص متعلَّق برقبته، فكذلك لو جنى على غيره، أو أتلف شيئًا لغيره بغير إذن سيده، والجامع: أن ذلك موجب جنايته الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من جناية الرقيق بدون إذن سيده: أن يُخيَّر سيده بين تلك الأمور الثلاثة، الحالة الثانية: إن كانت تلك الجناية، أو ذلك الإتلاف بإذن أو أمر من سيده: فإن السيد هو الذي يضمن ما جناه ذلك السيد، فيتحمَّل أرش ذلك كله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون السيد هو المعتدي الحقيقي: أن يضمن كل ذلك، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا التفصيل؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهو: إيصال كل حق لصاحبه.

(18)

مسألة: إذا جنى الرقيق عمدًا، فعفا ولي الجناية - وهو عمرو في مسألة (17) - بشرط: أن يملك رقبة ذلك الرقيق: فإنه لا يملكه إلا إذا رضي سيده؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عفوه عن القصاص منه: أن ينتقل حقه إلى المال، والمال لا يُملك بغير رضا مالكه؛ لقوله عليه السلام:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه".

(19)

مسألة: إذا جنى الرقيق على جماعة: فإن كل واحد يأخذ من قيمته بقدر حصته: سواء كانت الجناية عليهم في وقت واحد، أو بعضهم بعد بعض؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونهم تساووا في سبب تعلُّق الحق استواؤهم في الاستحقاق، كما لو جنى عليهم دفعة واحدة.

(20)

مسألة: إذا اشترى زيد وهو ولي من قتله الرقيق - ذلك الرقيق القاتل: فلزيد - وهو ولي الجناية - أن يعفو عن القود، وله أن يطالب البائع بالدية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه وليًا للقود: أن يكون من حقه العفو عنه، ويلزم من كونه قد =

ص: 96

(21)

.

= تنازل عن القود: استحقاقه للدية، فيأخذها من سيد الرقيق.

(21)

مسألة: إذا أعتق السيد عبده الجاني، أو باعه، أو وهبه: فإنه يصح العتق، والبيع، والهبة، ويضمن السيد ما تعلق به من أرش الجناية إن كان المشتري لم يعلم بحاله، أما إن كان المشتري عالمًا بحاله: فلا حق له في شيء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون السيد قد أتلف محل الجناية على من تعلَّق حقه به: أن يُغرَّم ما لزم عبده ويلزم إذا لم يكن المشتري عالمًا بحاله، ويلزم من علم المشتري بحال العبد - من كونه قد جنى: عدم استحقاقه لشيء؛ لكونه قد دخل على بصيرة.

هذه آخر مسائل باب: "مقادير ديات النَّفس" ويليه باب "ديات الأعضاء ومنافعها".

ص: 97

‌باب ديات الأعضاء ومنافعها

أي: منافع الأعضاء (من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنلف) ولو من أخشم، أو مع عِوَجه (واللسان، والذكر) ولو من صغير: (ففيه دية) تلك (النفس) التي قطع منها على التفصيل السابق؛ لحديث عمرو بن حزم مرفوعًا: "وفي الذكر الدية، وفي الأنف إذا أوعب جدعًا الدية، وفي اللسان الدية" رواه أحمد والنسائي واللفظ له

(1)

(وما فيه) أي: في الإنسان (منه شيئان كالعينين) ولو مع حَوَل

‌باب ديات الأعضاء ومنافعها

وفيه ست عشرة مسألة:

(1)

مسألة: إذا أتلف شخص عضوًا من شخص آخر لا يوجد فيه غيره: كأن يُتلف أنفه، أو لسانه، أو ذكره: فإن على المتلف كامل دية ذلك الشخص المتلف منه ذلك العضو: فإن كان المتلف منه ذلك العضو: مسلمًا ذكرًا حرًا: فعلى المتلف: مائة من الإبل، أو مائتان من البقر، أو ألفان من الغنم أو ما يعادل ذلك من الأثمان إن اتفقا عليه، وإن كان المتلف منه عضو امرأة حرة مسلمة فعلى المتلف: خمسون من الإبل، ومائة من البقر، وألف من الغنم، وإن كان المتلف منه ذلك العضو رقيقًا: فعلى المتلف كامل قيمته، وإن كان المتلف منه ذلك العضو خنثى مشكل فعلى المتلف خمس وسبعون من الإبل أو ما ذكر معها من أصول الديات، وإن كان المتلف منه ذلك العضو كافرًا حرًا كتابيًا فعلى المتلف: خمسون من الإبل - وما ذكر معها من أصول الديات، وإن كان المتلف منه ذلك العضو كافرًا غير كتابي: فعلى المتلف ثمانمائة درهم كما فُصِّل ذلك في مسائل "باب مقادير ديات النفس"-، وهذا مطلق، أي: سواء كان المتلف صحيحًا أو فيه عيب ككون الأنف المتلف أخشمًا، أو معوجًا، وسواء كان المتلف من صغير جدًا، أو من كبير جدًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "وفي الذكر =

ص: 98

أو عَمَش (و) كـ (الأذنين) ولو أصم (و) كـ (الشفتين و) كـ (اللحيين) وهما: العظمان اللذان فيهما الأسنان (و) كـ (ثديي المرأة وكـ (ثندوتي الرجل) بالثاء المثلثة، فإن ضممتها همزت، وإن فتحتها لم تهمّز، وهما للرجل بمنزلة الثديين للمرأة (و) كـ (اليدين، والرجلين، والإليتين، والأنثيين، وإسكتي المرأة) بكسر الهمزة وفتحها، وهما: شفراها: (ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها) أي: نصف الدية لتلك النفس

(2)

(وفي المنخرين ثلثا الدية، وفي الحاجز بينهما ثلثها)؛ لأن المارن يشمل ثلاثة

= الدية، وفي الأنف إذا أوعب جدعًا الدية، وفي اللسان الدية" - كما ورد في كتاب عمرو بن حزم، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لو أتلف نفسًا كاملة فعليه كامل الدية، فكذلك إذا أتلف عضوًا لا يوجد غيره فيه فعليه كامل الدية، والجامع: أنه في كل منهما قد أذهب منفعة الجنس، وهو المقصد من هذا الحكم.

(2)

مسألة: إذا أتلف شخص عضوًا من شخص آخر يوجد فيه عضوًا آخر مثله: فعلى المتلف أن يدفع نصف الدية، وإذا أتلفهما معًا: فعليه الدية كاملة: فإذا أتلف العينين، أو الأذنين، أو الشفتين، أو اللحيين، أو الثديين من المرأة، أو الثديين من الرجل، أو اليدين، أو الرِّجلين، أو الإليتين، أو الأنثيين - وهما الخصيتان-، أو الشفرين اللذين في فرج المرأة فعلى المتلف دية كاملة، وإذا أتلف عينًا أو أذنًا، أو شفة، أو لحية، أو ثديًا، أو يدًا، أو رجلًا، أو إلية، أو خصية، أو شفرًا: فعلى المتلف نصف الدية وهذا مطلق، أي: سواء كانا صحيحين أو فيهما عيب: فالدية أو نصفها لا تتأثر بذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية" كما ورد في كتاب عمرو بن حزم، ودل بمفهوم العدد على أن في الشفة الواحدة نصف الدية، وفي البيضة الواحدة - وهي الخصية - نصف الدية، وفي العين الواحدة: نصف الدية، وأن في الرِّجلين معًا: دية كاملة، وما لم يذكر - مما يوجد في البدن منه اثنان - مثل ما =

ص: 99

أشياء: منخرين وحاجزًا، فوجب توزيع الدية على عددها

(3)

(وفي الأجفان الأربعة

= ذكر في الحديث؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة" الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من إتلافهما: إذهاب منفعة الجنس فكان فيهما دية كاملة، ويلزم من ذلك: أن في أحدهما نصف الدية، فإن قلت: لم شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إذهاب منفعتهما معًا فيه الدية، وإذهاب واحد منهما فيه نصف الدية فيه أقصى ما تبتغيه النفوس من العدالة والإنصاف، فإن قلت: إن في الشفة السفلى ثلثي الدية، وفي العليا: ثلثها، وهو رواية عن أحمد؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن زيد بن ثابت، الثانية: المصلحة؛ حيث إن النفع بالشفة السفلى أكثر من النفع بالعليا؛ لأن السفلى تدور وتتحرك، وتحفظ الطعام والريق قلتُ: أما قول الصحابي، فقد خالف مفهوم السنة القولية، فلا يكون فيه حجة، وعلى فرض عدم حجية مفهوم العدد: فإن قول زيد قد خالفه قول أبي بكر، وعلي في أن في كل شفة نصف الدية، وإذا تعارضا: تساقطا، أما المصلحة: فلا نسلِّمها؛ لأنه لا اعتبار بزيادة النفع في ذلك، يؤيده أنه إذا قطع اليد اليمنى، أو اليسرى: ففي ذلك نصف الدية، وإن كانت اليمنى أنفع من اليسرى، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض قول الصحابي مع السنة" وأيضًا "تعارض أقوال الصحابة".

(3)

مسألة: إذا أتلف شخص منخرين لشخص آخر: فعلى المتلف: ثلثا الدية، وإذا أتلف الحاجز الذي بينهما: فعلى المتلف ثلث الدية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون المارن يشمل ثلاثة أشياء من جنس واحد، وهي: المنخران، والحاجز: أن توزَّع الدية بينها أثلاثًا، فينتج أنه إذا أتلف المنخرين: فعليه ثلثا الدية، وإذا أتلف الحاجز الذي بينهما أيضًا: فعليه الثلث الباقي من الدية، وإذا أتلف الحاجز، ومنخرًا واحدًا: فعليه ثلثا الدية، فإن قلت: إن في المنخرين دية كاملة، فيكون في منخر واحد نصف دية؛ وفي الحاجز حكومة، وهو قول كثير من الشافعية، وهو =

ص: 100

الدية، وفي كل جفن ربعها) أي: ربع الدية

(4)

(وفي أصابع اليدين) إذا قُطعت (الدية كأصابع الرجلين) ففيها دية إذا قُطعت (وفي كل إصبع) من أصابع اليدين، أو الرجلين (عشر الدية)؛ لحديث ابن عباس مرفوعًا:"دية أصابع اليدين، والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع" رواه الترمذي وصحَّحه (وفي كل أنملة) من أصابع اليدين، أو الرجلين (ثلث عشر الدية)؛ لأن في كل أصبع ثلاث مفاصل والإبهام)

= رواية عن أحمد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن قطع اليدين فيه دية كاملة، وفي قطع اليد نصف الدية، فكذلك المنخران مثل اليدين، والجامع عدم وجود ثالث لكل من اليدين، والمنخرين، وقطع كل من اليدين، والمنخرين فيه إذهاب الجمال كله والمنفعة قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الحاجز بين المنخرين له وظيفته في إمساكهما، واشتراك المنخرين فيه، بخلاف اليدين فكل واحدة منفصلة عن الأخرى فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم".

(4)

مسألة: إذا أتلف شخص أجفان شخص آخر الأربعة: فعلى المتلف: الدية كاملة، وفي كل جفن: ربع الدية؛ للتلازم؛ حيث إن في الأجفان جمال ظاهر، ونفع كامل؛ حيث إنها تحفظ العين من الحر، والبرد، وبعض الأتربة والغبار فيلزم وجوب الدية في قطعها كلها، ويلزم من ذلك أنه إذا أتلف واحدًا منها أن يكون على المتلف ربع الدية. قاعدة: كل ما في الإنسان منه شيء واحد: ففيه دية كاملة، - كما سبق في مسألة (1) - وكل ما فيه منه شيئان: ففي كل واحد منهما نصف الدية - كما سبق في مسألة (2) -، وكل ما فيه منه ثلاثة أشياء: ففي كل واحد منها ثلث الدية - كما سبق في مسألة (3) -، وكل ما فيه منه أربعة ففي كل واحد منها: ربع الدية - كما سبق في مسألة (4) -، فلو ذكر ذلك المصنف لكان أولى؛ للاختصار.

ص: 101

فيه (مفصلان، وفي كل مفصل) منهما (نصف عشر الدية

(5)

كدية السن) يعني: أن في

(5)

مسألة: إذا قُطعت أصابع اليدين معًا: ففيها دية كاملة، وكذا: إذا قُطعت أصابع الرِّجلين ففيها دية كاملة أيضًا، فتقسم هذه الدية على عشرة: فيكون في كل أصبع من أصابع اليدين: عُشْر الدية، فينتج: أن دية كل أصبع من أصابع اليدين العشرة: عشر من الإبل، أو عشرون من البقر، أو مائتان من الغنم، وكذلك أصابع الرجلين العشرة يُقال فيها كما في أصابع اليدين، وفي كل أنملة وهو المفصل من أصابع اليدين، ومن أصابع الرجلين: ثلث عشر الدية؛ لأن كل إصبع يتكون من ثلاثة أنامل ومفاصل، فتقسم دية الإصبع الواحد - وهو عشر الدية وهو عشرة من الإبل - على ثلاثة: فيكون لكل أُنملة ومفصل ثلاثة من الإبل، وثلث بعير، أو ست بقرات وثلثا بقرة، أو ست وستون من الغنم، وثلثا شاة، أما الأنملة والمفصل من إصبع الإبهام من أصابع اليدين أو الرجلين: ففيه نصف عشر الدية؛ فتقسم عشر من الإبل - وهو دية الإبهام - على اثنين، فيكون دية الأنملة - والمفصل من الإبهام: خمس من الإبل، أو عشر من البقر، أو مائة من الغنم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "دية أصابع اليدين والرجلين: عشر من الإبل لكل أصبع" وقال: "هذه وهذه سواء" يعني الخنصر والبنصر والإبهام، وهذا يلزم منه: أن في كل أنملة ومفصل ثلث العشر من الإبل، وفي أنملة الإبهام: نصف العشر من الإبل؛ ضرورة تقسيم ذلك - كما سبق - الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون في كل أصبع ثلاث أنامل: أن تقسم دية الإصبع الواحد على أنامله، كما قسمت دية اليد على الأصابع بالسوية، وهذا منتهى الإنصاف والعدل، وهو المقصد الشرعي منه.

[فرع]: إذا قُلع أو أُتلف ظفر ولم يعد: ففيه خمس دية الإصبع - وهو: بعيران - أو أربع من البقر - أو أربعون من الغنم، وهو قول بعض من العلماء؛ لقول الصحابي؛ حيث إن هذا قد ثبت عن ابن عباس فإن قلت: إن في ذلك حكومة، =

ص: 102

كل سن أو ناب، أو ضرس، ولو من صغير، ولم يعد: خمسًا من الإبل؛ لخبر عمرو بن حزم مرفوعًا: "في السن خمس من الإبل" رواه النسائي

(6)

.

= وهو قول كثير من العلماء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تقدير ذلك في الكتاب والسنة: أن يكون فيه حكومة؛ لأن التقديرات توقيفية قلت: إنه إذا لم يرد تقدير ذلك في الكتاب والسُّنة فقد ورد في دليل آخر احتجَّ به جمهور العلماء، وهو قول الصحابي، وهو: ابن عباس وترجمان القرآن، ثم إن القول بوجوب خمس دية الإصبع أقطع للنزاعات والاختلافات التي تحصل عند فعل الحكومة؛ حيث إنه في الحكومة يقوَّم المجني عليه كأنه عبد سليم، ثم يقوَّم والجناية به، فما نقص من القيمة فللمجني عليه مثل نسبته من الدية. فمثلًا: إذا قدرنا على أنه عبد سليم يساوي ستين، وقيمناه على أنه عبد قد جرح بخمسين، فيكون قد نقص سدس قيمته، فيكون للمجني عليه - الحر - سدس ديته وهذا يؤدِّي عادة إلى الاختلافات والنزاعات التي جاءت الشريعة بمحاربتها، فتقتضي المصلحة: وضع شيء موافق للقياس كما ذكره ابن عباس، وسيأتي بيان أن الحكومة لا يلجأ إليها إلا عند الضرورة القصوى؛ لما فيها من بعض المفاسد، وذلك في مسألة (2) من باب "الشجاج، وكسر العظام، وما يجب فيها من الديات".

(6)

مسألة: إذا قُلع، أو أتلف سن، أو ضرس، أو ناب ولم يعد: ففيه خمس من الإبل - وهي: "نصف عشر الدية" وإن عاد مع وجود عيب فيه: ففيه حكومة؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "في السن خمس من الإبل" وهذا يعم: الأسنان، والأضراس، والأنياب؛ لأن كل واحد منها يُطلق عليه اسم "السن" وقال عليه السلام:"الأصابع سواء، والثنية والضرس سواء، والأسنان سواء هذه وهذه سواء" وهو نص في المسألة يجاب فيه على من اجتهد، وقسَّم الدية الكاملة على الأسنان؛ إذ لا اجتهاد مع النص، ويدل هذا بمفهوم الصفة على أن =

ص: 103

(فصل): في دية المنافع (و) تجب (في كل حاسة دية كاملة، وهي) أي: الحواس (السمع، والبصر، والشم، والذوق)؛ لحديث: "وفي السمع الدية" ولقضاء عمر رضي الله عنه في رجل ضرب رجلًا، فذهب سمعه، وبصره، ونكاحه، وعقله بأربع ديات، والرجل حي (وكذا) تجب الدية كاملة (في الكلام و) في (العقل و) في (منفعة المشي و) في منفعة (الأكل و) في منفعة (النكاح و) في (عدم استمساك البول، أو الغائط)؛ لأن في كل واحد من هذه منفعة كبيرة ليس في البدن مثلها كالسمع والبصر، وفي ذهاب بعض ذلك إذا عُلم بقدره: ففي بعض الكلام بحسابه، ويُقسَّم على ثمانية وعشرين حرفًا، وإن لم يُعلم قدر الذاهب: فحكومة

(7)

(و) يجب (في كل واحد من الشعور الأربعة الدية،

= السن أو الضرس، أو الناب إذا عاد كما كان: فإن ديته تسقط، وإن عاد بعيب: فإن فيه حكومة وأرش يقدره أهل الخبرة.

(7)

مسألة: إذا أتلف شخص حاسَّة واحدة لشخص آخر - كأن أتلف وأذهب سمعه، أو بصره، أو شمه، أو ذوقه - أو أتلف وأذهب كلامه، أو عقله، أو منفعة مشيه، أو أكله، أو منفعة نكاحه، أو جعله لا يُمسك بوله، أو غائطه: فإن في كل واحد مما سبق - دية كاملة، وإذا أذهب بعض ذلك: فتجب عليه بعض الدية على حسب المتلف إذا علم الذاهب، فيقدَّر فمثلًا: لو أذهب بعض كلامه: فإن الدية كلها تُقسَّم على ثمانية وعشرين حرفًا - وهي الحروف الهجائية العربية - فإذا أتلف حرفًا: فإن عليه نصيبه من الدية، ففي الحرف الواحد ثلاثة من الإبل، ونصف بعير، وهكذا، أما إن لم يُعلم قدر الذاهب مما سبق: فإن ذلك فيه حكومة، يُقدِّرها أهل الخبرة والطب، كأن نقص سمعه، أو بصره، أو شمه، أو قلَّ مشيه، أو نكاحه، أو لا يمسك بوله أو غائطه كثيرًا، أو في كلامه ثقل، أو تمتمة، أو عجلة، أو اسود بياض عينيه، أو احمرّ، أو تقلَّصت شفته، أو أصبح لا يلتفت، أو يصعب عليه بلع ريقه أو نحو ذلك: ففي ذلك حكومة- كما سبق بيانها -؛ لقواعد؛ الأولى السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "وفي =

ص: 104

وهي) أي: الشعور الأربعة: (شعر الرأس و) شعر (اللحية و) شعر (الحاجبين، وأهداب العينين) روي عن علي، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: (في الشعر الدية"، ولأنه أذهب الجمال على الكمال، وفي حاجب نصف الدية، وفي هدب ربعها

(8)

،

= المشام الدية" في كتاب عمرو بن حزم، وقال: "وفي السمع الدية، الثانية: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن رجلًا ضرب رجلًا آخر - في عهد عمر - فذهب سمعه، وبصره، ونكاحه، وعقله فقضى عمر على الجاني بأربع ديات والرجل حي وغير هذه الأشياء الأربعة مثلها في وجوب دية كاملة على من أذهبها؛ لعدم الفارق باختصاص النفع من باب "مفهوم الموافقة" الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من وجوب دية كاملة على إذهاب واحد من تلك الأشياء: وجوب بعض الدية إذا أذهب بعض واحد منها إن علمنا قدره، ويلزم من عدم علمنا بقدر الذاهب: الرجوع إلى حكومة أهل الخبرة والطب في تقدير حقه من الدية، فإن قلت: لم شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الإنسان ينتفع بكل واحد من تلك الأشياء تمام الانتفاع: فإذا أُذهب وحُرم منه: فيجب عليه تمام الدية، وهذا فيه دفع مفاسد عن المسلمين، فإن قلت: لم لم يُعدّ حاسة اللمس من الحواس هنا؟ قلت: لأنه يكتفى عنها بالكلام عن الشلل؛ حيث إن المشلول لا يحس بشيء، فإذا شُلّ إنسان بسبب جناية: فإنه لا يحس، وفي ذلك دية كاملة إذا أُصيب بشلل كامل، أما إن شُلَّ بعض أطرافه: ففي ذلك نصيبه من الدية.

(8)

مسألة: إذا أذهب، وأتلف شخص واحدًا من الشعور الأربعة لدى شخص آخر: ففي كل واحد دية كاملة، ولذا: يكون في إذهاب وإتلاف شعر الرأس: دية كاملة، وكذا: في شعر اللحية، وكذا: في شعر الحاجبين، وكذا: أهداب العينين، أما إذا أذهب وأتلف حاجبًا واحدًا: ففيه نصف الدية، وأما إذا أذهب من الأهداب واحدًا: ففيه ربع الدية، وإذا أذهب نصف شعر الرأس، أو نصف شعر اللحية: ففيه نصف الدية، وهكذا؛ لقواعد: الأولى قول الصحابي؛ حيث إنه =

ص: 105

وفي شارب حكومة

(9)

(فإن عاد) الذاهب من تلك الشعور: (فنبت: سقط موجبه) فإن كان أخذ شيئًا: ردَّه

(10)

، وإن ترك من لحية أو غيرها ما لا جمال فيه: فدية كاملة

(11)

(و) يجب (في عين الأعور الدية كاملة) قضى به عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، ولم يُعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، ولأن قلع عين الأعور يتضمَّن إذهاب البصر كله؛ لأنه يحصل بعين الأعور ما يحصل بالعينين

(12)

، وإن قلع صحيح عين

= ثبت عن علي، وزيد أنهما قد ذكرا "أن في الشعر الدية" وهذا عام في الأربعة السابقة، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن في أنف الأخشم الدية كاملة فكذلك في كل واحد من الشعور الأربعة الدية، والجامع: أنه أذهب الجمال على الكمال بسبب ذلك، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من تقسيم الدية الكاملة على عدد ما ذهب: أنه إذا أذهب حاجبًا: فعليه نصف الدية لأنهما اثنان وإذا أذهب واحدًا من الأهداب فعليه ربع الدية؛ لأنها أربعة.

(9)

مسألة: إذا أذهب شخص شارب شخص آخر: ففيه حكومة -كما سبق بيانها -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تقديره شرعًا: أن يكون فيه حكومة كما قلنا في الظفر في الفرع التابع لمسألة (5).

(10)

مسألة: إذا أذهب شخص أحد الشعور الأربعة - المذكورة في مسألة (8) - أو الشارب ثم عاد ذلك الشعر، ونبت فلا دية فيه، فإن كان المجني عليه قد أخذ من الجاني دية أو أرشًا: فإنه يردّها إليه؛ للتلازم؛ حيث إن الموجب للدية قد انتفى فيلزم أن تنتفي الدية.

(11)

مسألة: إذا أذهب شخص بعض لحية شخص آخر، أو بعض شعر رأسه ونحو ذلك، وبقي ما لا جمال فيه، بل قد يكون الباقي قد شوَّه منظره: فتجب على الجاني دية كاملة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ذهاب الجمال على الكمال: وجوب الدية بكاملها.

(12)

مسألة: إذا قلع شخص عين أعور - لا يرى إلا بها -: فعلى الجاني نصف الدية، =

ص: 106

أعور أقيد بشرطه، وعليه معه نصف الدية

(13)

(وإن قلع الأعور عين الصحيح)

= وهو مذهب كثير من العلماء، منهم أبو حنيفة، والشافعي، والثوري؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "وفي العين خمسون من الإبل" والخمسون هذه نصف دية الحر المسلم الذكر، فيقتضي: أن يكون في العين الواحدة نصف دية، وهذا مطلق في الأعور وغيره، ثانيهما: قوله عليه السلام: "وفي العينين الدية" يلزم منه: أن في العين الواحدة نصف الدية، وهذا مطلق: سواء قلعهما واحد، أو اثنان في وقت واحد، أو في وقتين، وقالع الثانية قالع عين أعور، فإن قلت: إن عليه دية كاملة وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أنه لو قلع عينيه معًا، وأذهب بصره بالكامل: فعليه دية كاملة، فكذلك الحال هنا، والجامع: إذهاب البصر كاملًا في كل، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر قد قضوا بذلك قلت: أما القياس، فلا يصح؛ لأنه قياس مع النص، و"القياس مع النص فاسد"، أما قول الصحابي: فلا يصح أيضًا؛ لأنه اجتهاد منهم مع وجود نص، "ولا اجتهاد مع النص" فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض القياس مع النص" و"تعارض قول الصحابي مع النص".

(13)

مسألة: إذا قلع صحيح - أي: متمتع بالعينين - عين أعور: فإنه يُقاد بها، وتقلع عينه بشرط: أن يكون القلع عمدًا عدوانًا محضًا، والمكافأة، والمماثلة في العين: فإن تخلف شيء من ذلك: فلا قصاص ولا قود -كما سبق في شروط القصاص-، وإن تنازل عفا المجني عليه عن القصاص، أو لم تتوفر شروط القصاص: فيجب على الجاني أن يدفع نصف الدية؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} هذا إذا توفرت شروط القصاص، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين - وقد سبق أن بيّناهما بالتفصيل في مسألة (12) - فإن قلت: إنها تقلع عين الجاني - إذا توفرت شروط القصاص - وعليه أيضًا نصف =

ص: 107

العينين (المماثلة لعينه الصحيحة عمدًا: فعليه دية كاملة، ولا قصاص) روي عن عمر، وعثمان، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، ولأن القصاص يفضي إلى استيفاء جميع البصر من الأعور، وهو إنما أذهب بصر عين واحدة، وإن كان قلعها خطأ: فنصف الدية

(14)

(و) يجب (في قطع يد الأقطع) أو رجله، ولو عمدًا (نصف

= الدية، وإن عفا المجني عليه فعلى الجاني دية كاملة، وهو ما ذكره المصنف هنا، وهو مبني على قوله في مسألة (12)، وقد ضعَّفنا أدلة هذا القول في تلك المسألة - أعني مسألة (12) ـ وبيّنا فيها سبب الخلاف.

(14)

مسألة: إذا قلع الأعور عين صحيح العينين: ففيه حالتان: الحالة الأولى: إن قلع العين التي لا تماثل عينه - أي: عين الأعور - الصحيحة عمدًا أو قلع المماثلة لها خطأ: فلا قصاص، وعلى الجاني - وهو الأعور - نصف الدية؛ للتلازم؛ حيث إن هذا هو الأصل في القصاص والدية؛ حيث إنه لم يوجد تماثل بين العينين، أو قلع خطأ، فيلزم عدم القصاص، ويلزم من سقوطه وجوب نصف الدية؛ لأنه قلع عينًا واحدة، الحالة الثانية: إذا قلع الأعور العين - من الصحيح - المماثلة لعينه الصحيحة - أي: عين الأعور - عمدًا: فللمجني عليه القصاص، فتقلع عين الأعور - وإن لم يكن عنده إلّا هي - وإن عفا المجنى عليه: فله نصف الدية، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} فتقلع عين الجاني كما قلع عين المجني عليه؛ إن وجدت شروط القصاص - السابقة الذكر، وهي: العمد، والمكافأة، والمماثلة - الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين، وقد ذكرناهما في مسألة (12)؛ حيث دلَّت على أن في العين الواحدة نصف الدية وهذا مطلق، الثالثة: القياس؛ حيث إنه لو قلعها غير الأعور: فالواجب فيها نصف الدية فكذلك إذا قلعها هو فإن قلت: لا قصاص في الحالة الثانية وعلى الجاني - وهو الأعور - أن يدفع دية كاملة؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث روي عن عمر، وعلي وعثمان ذلك، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من القصاص من =

ص: 108

الدية كغيره) أي: كغير الأقطع، وكبقية الأعضاء

(15)

، ولو قطع يد صحيح: أقيد بشرطه

(16)

.

* * *

= الأعور: إذهاب جميع بصر الأعور، وهو إنما أذهب بصر عين واحدة من المجني عليه، قلت: إن قول الصحابي والتلازم مبنيان على الاجتهاد، وما ذكرناه من الأدلة نصوص، ولا اجتهاد مع النص، ثم إن القصاص - إذا توفرت شروطه - هو: الحكم الأعدل والأمثل؛ لمنع اعتداء العوران على أعين الأصحّاء، ولو لم يجز القصاص هنا؛ لعمّ الفساد، وهذا هو المقصد الشرعي من ذلك، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي مع النص" و"تعارض التلازم مع النص".

(15)

مسألة: إذا قطع صحيح - أي: سليم اليدين والرجلين - يد الأقطع - وهو الذي لا توجد عنده غيرها - أو رجله الوحيدة: فللمجني عليه القصاص إذا توفرت شروطه، فإن عفا: فله نصف الدية؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو قُطعت يد واحدة من صاحب يدين، أو رجل واحدة من صاحب رجلين: ففي ذلك نصف الدية فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه أتلف شيء واحد مما في البدن منه اثنان: فتجب نصف دية النفس.

(16)

مسألة: إذا قطع شخص أقطع - وهو من لا يوجد عنده إلا يد واحدة - يدًا واحدة من صحيح اليدين: فللمجني عليه القصاص - إذا توفرت شروطه وهي: العمد، والمماثلة، والمكافأة - فتقطع يد الأقطع - وإن لم يوجد عنده إلا تلك اليد - وإن عفا: فللمجني عليه نصف الدية - كما قلنا في الحالة الثانية من حالتي مسألة (14) -، والأدلة نفس الأدلة هناك.

هذه آخر مسائل باب: "ديات الأعضاء ومنافعها" ويليه باب "الشجاج وكسر العظام".

ص: 109

‌باب الشِّجاج وكسر العظام

"الشَّجُ": القطع، ومنه: شججتُ المفازة، أي: قطعتها، (الشجَّة: الجرح في الرأس والوجه خاصة) سُميت بذلك؛ لأنها تقطع الجلدة، فإن كان في غيرهما: سُمِّي جرحًا، لا شجة (وهي) أي: الشجَّة باعتبار تسميتها المنقولة عن العرب (عشر) مرتَّبة

(1)

، أولها:(الحارصة) بالحاء والصاد المهملتين (التي تحرص الجلد، أي: تشقّه قليلًا، ولا تدميه) أي: لا يسيل منه دم، والحرص: الشق، يُقال: حرص القصار الثوب: إذا شقّه قليلًا، وتسمَّى أيضًا:"القاشرة" و"القشرة"(ثم) يليها (البازلة، وهي: الدامية، والدامعة) بالعين المهملة؛ لقلة سيلان الدم منها؛ تشبيهًا بخروج الدمع من العين (وهي: التي يسيل منها الدم، ثم) يليها (الباضعة، وهي التي تبضع اللحم) أي: تشقّه بعد الجلد، ومنه سُمِّي البضع (ثم) يليها (المتلاحمة، وهي: الغائصة في اللحم) ولذلك اشتقت منه (ثم) يليها (السمحاق وهي) التي ما بينها وبين العظم

‌باب الشجاج وكسر العظام

وفيه ثلاث عشرة مسألة:

(1)

مسألة: الشجُّ لغة: القطع والشق، ومنه:"شججت الصحراء" أي قطعتها، وقولهم:"شجَّت السفينة البحر": إذا قطعته وشقَّته جارية فيه والشجة في الاصطلاح: "الجرح في الرأس أو الوجه خاصة" وهي خاصة بهما، فإن وُجد ذلك الجرح في غير الرأس والوجه: فلا تسمَّى شجة، بل تسمَّى جرحًا، فإن قلت: لم سُمِّيت الشجة بالجرح؟ قلت: لأنها تقطع الجلدة من الرأس، والوجه - كما ورد ذلك في المصباح (305) تنبيه: الشجاج عشر مراتب، لكل مرتبة اسم سماها به العرب، كما ثبت بالاستقراء منها خمس لم يقدر الشارع لها دية، وهي أخفّها، وقد بدأ بها المصنف، فإن قلت: لم جعل هذا الباب هنا؟ قلتُ: لأنه لما فرغ من ديات الأعضاء ومنافعها: ناسب أن يشرع في ديات الجروح.

ص: 110

قشرة رقيقة) تسمَّى السمحاق، سميت الجراحة الواصلة إليها بها؛ لأن هذه الجراحة تأخذ في اللحم كله حتى تصل إلى هذه القشرة (فهذه الخمس لا مقدَّر فيها، بل) فيها (حكومة)؛ لأنه لا توقيف فيها في الشرع، فكانت كجراحات بقية البدن

(2)

(2)

مسألة: الشجات الخفيفة خمس أولها: الحارصة، وهي: التي تشق الجلد وتقشر شيئًا يسيرًا من ذلك الجلد، ولم يظهر منه دم، وفيها نصف بعير، ثانيها: البازلة، وهي: التي تشقُّ الجلد، وتقشر شيئًا يسيرًا منه، ويظهر دم قليل جدًا بسبب ذلك، وتسمَّى "الدامعة"؛ لأن ما يظهر من الدم بسبب ذلك يشبه دمع العين إذا ظهر ووجه الشبه: قلَّة ما يخرج من الدم والدمع، وفيها بعير، ثالثها: الباضعة، وهي: التي تشقُّ الجلد، وتبضع اللحم وتشقّه، وفيها بعيران، رابعها: المتلاحمة، وهي: التي تشقُّ الجلد، وتغوص في اللحم وتدخل فيه دخولًا أقوى من الباضعة، ودون السمحاق، وفيها ثلاثة أبعرة، خامسها: السمحاق، وهي: التي تشقُّ الجلد، وتغوص في اللحم حتى تصل إلى قشرة رقيقة تكون عادة فوق العظم، تسمَّى تلك القشرة سمحاقًا، ولذا سُمِّيت الجراح الواصلة إليها بها، وفيها أربعة أبعرة، وهي مرتبة على حسب ما ذكر، وهذه التقادير في إرشها رواية عن أحمد، وبعض العلماء إلا الحارصة؛ لقواعد: الأولى: قول الصحابي؛ حيث إن زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب قد قضيا بأن في البازلة الدامية: بعير وفي الباضعة: بعيران، وفي المتلاحمة: ثلاثة، وفي السمحاق: أربعة، وقال أحمد:"وأنا أذهب إليه" الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من جعل في البازلة الدامية بعير واحد: أن يُجعل فيما هو دونها - وهي الحارصة نصف بعير؛ لأنها أقل منها ضررًا، فتكون أقل منها تكلفة على الجاني، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن هذا التقدير فيه دفع مشقة طريقة الحكومة، وهي: أن يُقوَّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوم وبه جناية، فما نقص من القيمة يكون للمجني عليه مثل نسبته من الدية، فمثلًا: لو جنى زيد على عمرو بحارصة، أو بازلة - كما سبق بيانهما - فإنّا نقدِّر عمرًا وكأنه عبد، ثم نقوِّمه، =

ص: 111

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وهو خال من الجناية بمائة، ثم نُقوِّمه بعد الجناية بثمانين مثلًا، فيكون قد نقص خمس قيمته، فيكون للمجني عليه خمس الدية، وهذه فيها مشقّة من أمور: أولها: عدم وجود العبيد الأرقّاء في كل العصور، خاصة في عصرنا هذا، ثانيها: إذا وُجد العبد الرقيق فيصعب أن نساوي الحر به من حيث ما نقص من قيمته؛ لاختلافهما في كثير من الأمور، مما يؤدي إلى الاختلافات والنزاعات، ثالثها: أن نسبة ما نقص من قيمة العبد تُجعل نسبة لما يستحق الحر المجني عليه من ديته، وهذا يزيد عما جُعل للموضِّحة من أرش ودية أو غيرها وهي خمس من الإبل - كما سيأتي - فمثلًا في المثال السابق سيكون للحر المجنى عليه- وهو عمرو - عشرون بعيرًا لأجل حارصة، أو بازلة، وهذا أكثر من أرش الموضِّحة بكثير مع أن الموضحة أكثر ضررًا على المجني عليه من الحارصة، أو غيرها - من الخمس السابقة وهذا ظلم للجاني، فدفعًا لذلك: شُرع أن يجعل لكل واحدة مما سبق ما يناسبها من الأبعرة على حسب الضرر اللاحق للمجني عليه كما قررنا، فإن قلت: إن في السمحاق نصف أرش الموضِّحة - أي فيها بعيران ونصف -؛ لأن الموضِّحة فيها خمس من الإبل كما سيأتي - وهو قول عمر وعثمان رضي الله عنهما قلت: ما ذكرناه من أن فيها أربعة أبعرة أنسب؛ لأن ما بعدها مباشرة فيها خمسة أبعرة مقدَّرة، فإن قلت: إن في تلك الشجات الخمس السابقة حكومة - كما بيّناها سابقًا - وهو ما ذكره المصنف هنا وهو مذهب الجمهور؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون النبي عليه السلام قد قضى بالموضِّحة بخمس من الإبل ولم يقض فيما دونها: أن يكون فيما دونها حكومة؛ لعدم التقدير قلت: إنه ورد فيها تقدير عن زيد، وعلي بل وقع خلاف في تقدير بعضها كما ورد عن عمر وعثمان والصحابة أعلم بمقاصد الشريعة ومرادات ألفاظ الكتاب والسنة ممن جاؤوا بعدهم؛ لأنهم عاصروا النبي عليه السلام وشاهدوا التنزيل، وأخذ =

ص: 112

(وفي الموضِّحة، وهي: ما توضِّح اللحم) هكذا في خطِّه، والصواب: العظم (وتبرزه) عطف تفسير على توضحه، ولو أبرزته بقدر إبرة لمن ينظره (خمسة أبعرة)؛ لحديث عمرو بن حزم:"وفي الموضِّحة خمس من الإبل"، فإن عمَّت رأسًا، ونزلت إلى وجه: فموضِّحتان (ثم) يليها (الهاشمة وهي: التي توضِّح العظم وتهشمه) أي: تكسره (وفيها عشرة أبعرة) روي عن زيد بن ثابت ولم يعرف له في عصره مخالف من الصحابة (ثم) يليها (المنقلة، وهي: ما توضِّح العظم، وتهشمه، وتنقل عظامها، وفيها خمسة عشرة من الإبل)؛ لحديث عمرو بن حزم، (في كل واحدة من المأمومة) وهي: التي تصل إلى جلدة الدماغ، وتسمى "الآمة" و"أم الدماغ"(والدامغة) بالغين المعجمة، التي تخرق الجلدة (ثلث الدية)؛ لحديث عمرو بن حزم "وفي المأمومة ثلث الدية" والدامغة أبلغ

(3)

، .......................................

= الشريعة من فيِّ النبي عليه السلام خاصة زيد، وعلي رضي الله عنهما فهما ملازمان له عليه السلام، ثم إن هذا التقدير الذي ذكرناه لكل من الحارصة، والبازلة، والباضعة، والمتلاحمة، والسمحاق أدفع لمشقة استعمال الحكومة- التي سبق بيانها - فهي أصلح للناس قديمًا وحديثًا -كما سبق توضيح ذلك -، وكون تقدير أرش هذه الشجات الخمس لم يرد في القرآن أو في السنة لا يمنع من أن يؤخذ تقدير أرشها من دليل آخر كقول الصحابي- لمن احتجّ به وقدَّمه على القياس - فهو أقوى من التلازم الذي ذكروه، فإن قلت: ما الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض التلازم مع قول الصحابي والمصلحة".

(3)

مسألة: الشجّات الثقيلة والقوية خمس أولها: الموضِّحة، وهي التي توضِّح العظم وتبرزه وتظهر بياضه - تأتي بعد "السمحاق مباشرة التي ذكرت في مسألة (2) -: سواء كان أبرزته ووضَّحته إبرازًا كثيرًا، أو قليلًا جدًا بقدر الإبرة، وفي ذلك خمسة من الأبعرة - وهي الإبل: الذكر أو الأنثى - وإن عممَّت رأسًا ونزلت إلى وجه: فيحسب ذلك على أنهما موضحتان - فيها عشرة أبعرة - وهكذا ثانيها: =

ص: 113

وإن هشمه بمثقَّل، ولم يوضِّحه

(4)

، أو طعنه في خدِّه، فوصل إلى فمه: فحكومة كما

= الهاشمة، وهي: التي توضِّح العظم وتبرز بياضه وتهشمه وتكسره، وفي ذلك عشرة أبعرة، ثالثها: المنقلة، وهي: ما توضح العظم، وتهشمه، وتنقل بعض عظامه، ولا يلتئم إلا إذا نقل إليه بعض العظام وفي ذلك خمس عشرة من الإبل، رابعها: المأمومة - وهي: التي توضح العظم، وتهشمه، وتنقل العظام، وتصل إلى جلدة الدماغ وفي ذلك ثلث الدية - وهي ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث بعير - خامسها: الدامغة، وهي التي توضِّح العظم، وتهشمه، وتنقل العظام، وتخرق جلدة الدماغ، وفي ذلك ثلث الدية - وهي: ثلاث وثلاثون من الإبل، وثلث بعير-؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "وفي الموضحة خمس من الإبل، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية" - كما ورد في حديث عمرو بن حزم، الثانية: القياس الأولى؛ بيانه: كما أن في المأمومة ثلث الدية فمن باب أولى أن يكون في الدامغة ثلث الدية؛ لأن الدامغة مأمومة وزيادة خرق جلدة الدماغ، الثالثة قول الصحابي؛ حيث إنه ثبت أن في الهاشمة عشرة أبعرة عن زيد بن ثابت، الرابعة: التلازم؛ حيث يلزم من أن اسم "الموضح" يشمل الجرح الموضِّح للعظم وجوب أرش الموضحة - وهي: خمس من الإبل- في الجرح الصغير، والكبير، والبارز والمستور، ويلزم من تعدد وجود مواضع الموضِّحة في الرأس والوجه وجود تعدد أرشها.

(4)

مسألة: إذا هشم عظمه، بدون توضيحه وإبرازه ففي ذلك عشرة أبعرة؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يلزم من كونه قد أوقع هشم العظم: أن تكون هاشمة وفي الهاشمة عشرة أبعرة، فإن قلت: إن في ذلك حكومة وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم توضيح العظم: أنه غير مقدَّر، وغير المقدر فيه حكومة قلتُ: أن تحقُّق هشم العظم: يلزم منه: تحقق الأرش الذي في الهاشمة؛ لأن الحكم يدور مع العلَّة عندنا، فإن قلت ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في هل =

ص: 114

لو أدخل غير زوج إصبعه في فرج بكر

(5)

(وفي الجائفة ثلث الدية)؛ لما في كتاب عمرو بن حزم: "وفي الجائفة ثلث الدية"(وهي) أي: الجائفة (التي تصل إلى باطن الجوف) كبطن، ولو لم تخرق أمعاء وظهر، وصدر، وحلق ومثانة، وبين خصيتين، ودُبُر

(6)

وإن أدخل السهم من جانب، فخرج من جانب آخر: فجائفتان، رواه

= يُنظر إلى الهشم، أو لا؟ " فعندنا: ينظر إلى الأول.

(5)

مسألة: إذا طعنه في خدِّه فوصل إلى داخل فمه، أو أدخل غير زوج إصبعه في فرج بكر فأذهب بكارتها: ففي ذلك ثلث الدية وهي - ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث - للقياس؛ بيانه: كما أن في الجائفة ثلث الدية - كما سيأتي - فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًا من الفم، وفرج المرأة مجوّف، فأشبه ما لو وصل إلى البطن، فإن قلت: في ذلك حكومة وهو ما ذكره المصنف هنا وهي: أن يقدَّر الحر كالعبد إن وجد عبد، ثم يقوَّم العبد وهو سليم، ثم يقوَّم بعد الجناية فما نقص هو نسبة ما يأخذه من الدية - كما سبق في مسألة (2) -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الفم، وفرج المرأة ليس بجوف: عدم فرض أرش الجائفة قلتُ: ليس المقصود بالجائفة هي التي تصل إلى جوف الإنسان المعروف، وإنما المقصود هو الذي يصل إلى شيء مجوَّف، لذلك لو ضربه ودخل على حلقه فعليه دية جائفة -كما سيأتي - فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في المقصود في الجوف" فعندنا: عام لكل مجوَّف، وعندهم: خاص.

(6)

مسألة: الجائفة فيها ثلث الدية - وهي ثلاث وثلاثون من الإبل، وثلث بعير-، والجائفة هي: الجرح الذي يصل إلى باطن مجوَّف لا يظهر شيء منه للرائي: كداخل البطن، وداخل ظهر، وداخل صدر، وداخل حلق، وداخل مثانة، وما بين الخصيتين، وما بين القبل والدُّبُر: سواء انخرقت بسبب ذلك أمعاءٌ، أو لا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "في الجائفة ثلث الدية"- كما ورد في حديث عمرو بن حزم، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن هذا =

ص: 115

سعيد بن المسيب عن أبي بكر

(7)

، ومن وطئ زوجة لا يوطأ مثلها فخرق ما بين مخرج بول ومني، أو ما بين السبيلين: فعليه الدية إن لم يستمسك بول، وإلا: فثلثها، وإن كانت ممن يوطأ مثلها لمثله: فهدر

(8)

(و) يجب (في الضلع) إذا جُبر كما كان بعير

= الجرح الداخل في أي مجوَّف مؤثر على الصحة العامة والخاصة، وله سلبيات مؤثِّرة في المستقبل لذلك كان في ذلك ثلث الدية.

(7)

مسألة: إذا أدخل شخص سهمًا، أو سكينًا، أو أي شيء حاد في جانب شخص، فخرج من الجانب الآخر منه: فإنه يُحسب ذلك على أنه عن جائفتين، أي: على الجاني ثلثا دية - وهو: ست وستون من الإبل، وثلثا بعير -؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن أبي بكر وعمر، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لو ضربه بضربتين من جانبين، ودخلت الآلة الضاربة من كل جانب: فإن عليه جائفتين، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما قد نفذ ودخل من موضعين، فإن قلت: إن هذا يُحسب على أنه جائفة واحدة، فلا يجب في ذلك إلّا ثلث الدية، وهو قول بعض الشافعية، وبعض الحنفية؛ للتلازم؛ حيث إن الجائفة هي التي تنفذ من ظاهر إلى مجوَّف باطن فيلزم منه عدم وجوب شيء في الثانية التي نفذت من الباطن إلى الظاهر قلت: إن المقصود من الجائفة أوسع مما ذكرتموه فهي الجرح الذي يصل إلى الجوف: سواء كان هذا الجرح حدث من ظاهر إلى باطن، أو من باطن إلى ظاهر: فهذا الاختلاف في كيفية الحدوث غير معتبر، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في المقصود بالجائفة" فعندنا: المقصود أوسع مما ذكروه كما سبق.

(8)

مسألة: إذا وطئ شخص زوجة لا يُوطأ مثلها - كأن تكون صغيرة، أو هزيلة جدًا - فخرق ما بين مخرج البول والمني، أو خرق ما بين السبيلين: ففي قدر الدية حالتان: الحالة الأولى: إن أُصيبت تلك الزوجة بعدم استطاعتها لمسك البول أو الغائط، أو كلاهما بسبب ذلك الوطء: فتجب دية كاملة على الواطئ؛ =

ص: 116

(و) يجب في كل واحدة من الترقوتين بعير)؛ لما روى سعيد عن عمر رضي الله عنه: "في الضلع جمل، وفي الترقوة جمل" و"الترقوة" العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف، ولكل إنسان ترقوتان، وإن انجبر الضلع، أو الترقوة غير مستقيمين: فحكومة

(9)

(و) يجب (في كسر الذراع وهو: الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد،

= للقياس؛ بيانه: كما أنه لو قُطع أسكتيها، أو قُطع لسانها فلم تحس بالذوق: فإنه تجب دية كاملة، فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه في كل منهما قد فوَّت منفعة ما أفسده، الحالة الثانية: إن لم تُصب بشيء؛ حيث إنها بعد هذا الخرق تمسك البول والغائط: فيجب عليه ثلث الدية؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يُعتبر جائفة فيلزمه ديتها وأرشها، وهو ثلث الدية؛

[فرع]: إن كانت الزوجة ممن يوطأ مثلها، ثم وطئها، وخرق ذلك: فهدر، أي: لا شيء على الواطئ؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشخص إذا داوى امرأته بإذن منها، فماتت بسبب ذلك، أو قطع يد السارق بإذن من الحاكم فمات المقطوع: فلا شيء عليه، فكذلك الحال هنا؛ والجامع: أن كلًا منهما قد فعل ما له فعله شرعًا.

(9)

مسألة: إذا كسر شخص ضلع شخص آخر، أو كسر ترقوة واحدة منه: فإن عليه بعير واحد لكل واحد منهما؛ بشرط أن ينجبر ذلك كما كان قبل الكسر، أما إن انجبرا غير مستقيمين فتجب عليه حكومة - كما سبق بيان المراد منها - لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قال عمر: "في الضلع جمل، وفي الترقوة جمل"؛ الثانية: التلازم؛ حيث إن عدم انجبار الكسر كما كان قبل الكسر فيه عيب وتشويه، ولم يقدر الشارع ذلك: فيلزم أن يُقدَّر ذلك عن طريق الحكومة -كما سبق بيانها-، فإن قلت: إن فيما سبق كله حكومة، وهو قول أبي حنيفة، ومالك؛ للتلازم؛ حيث إن كون الضلع، أو الترقوة، عظم باطني لا يختص بجمال ومنفعة، يلزم منه: عدم وجوب أرش مقدَّر، قلتُ عنه جوابان: أولهما: أن هذا منتقض بالهاشمة؛ فإنها كسر عظم باطني ومع ذلك وجد فيها مقدر - وهو عشرة أبعرة كما =

ص: 117

و) في (الفخذ و) في (الساق) والزند (إذا جبر ذلك مستقيمًا بعيران)؛ لما روي سعيد عن عمرو بن شعيب: أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كُسر: فكتب إليه عمر: "أن فيه بعيرين، وإذا كُسر الزندان: ففيهما أربعة من الإبل" ولم يظهر له مخالف من الصحابة

(10)

(وما عدا ذلك) المذكور (من الجراح، وكسر العظام) كخرزة صلب، وعصعص، وعانة:(ففيه حكومة، والحكومة: أن يقوَّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوَّم، وهي) أي: الجناية (به قد برئت، فما نقصت من القيمة: فله) أي للمجني عليه (مثل نسبته من الدية: كأن) أي: لو قدَّرنا أن (قيمته) أي: قيمة المجني عليه لو كان (عبدًا سليمًا) من الجناية (ستون، وقيمته بالجناية خمسون: ففيه) أي: في جرحه (سدس ديته)؛ لنقصه بالجناية سدس قيمته (إلا أن

= سبق في مسألة (3) - ثانيهما: لا يُسلَّم قولكم: إن هذين العظمين لا يختصان بجمال، ولا منفعة؛ حيث إن جمالهما، ومنفعتهما لا يوجد في غيرهما، ولا مشارك لهما فيه؛ فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه "تعارض التلازمين" كما سبق. فائدة: الترقوة: هو العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف، ولا تكون الترقوة إلّا في الإنسان خاصة دون الحيوانات - كما في المصباح (75) -.

(10)

مسألة: إذا كسر شخص زند شخصٍ آخر، أو فخذه، أو ساقه، أو عضده: فإن على الكاسر بعيرين بشرط: أن يكون قد انجبر ذلك المكسور مستقيمًا كما كان قبل الكسر، أما إن انجبر وهو غير مستقيم: فعلى الجاني حكومة - كما سبق بيان المراد منها في مسألة (2، و 5) - لقول الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن عمر في الزند والعضد، والساق والفخذ كالزند؛ لعدم الفارق، فإن قلت: إن كل ما سبق فيه حكومة، وهو قول الجمهور؛ للتلازم؛ وقد سبق بيان ذلك - فيما ذكره أبو حنيفة ومالك ومن معهما في مسألة، (9)، وقد الجواب عنه، وبيان سبب الخلاف في تلك المسألة. فائدة: الزند هو: ما انحسر عنه اللحم من الذراع والعضد: ما بين المرفق والكتف.

ص: 118

تكون الحكومة في محل له مقدَّر) من الشرع: (فلا يبلغ بها) أي: بالحكومة (المقدَّر) كشجة دون الموضِّحة، لا تبلغ حكومتها أرش الموضِّحة

(11)

، وإن لم تنقصه الجناية

(11)

مسألة: ما عدا ما سبق ذكره من العظام والجراح - وهي: الحارصة، والبازلة، والباضعة، والمتلاحمة، والسمحاق، والموضِّحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة، والطعن في الخد، والجائفة، والضلع، والترقوة، والذراع، والزند، والساق، والعضد، والفخذ كما سبق بيانها في مسائل (2 و 3 و 5 و 6 و 9 و 10): فيجب فيها حكومة، أي: ما عدا ما ذكر في تلك المسائل: الواجب فيه حكومة كخرزة صلب، وعصعص، وعانة، ونحوها، والحكومة: قد سبق بيانها في مسألتي (2 و 5) ولكن بشرط: أن لا تكون الحكومة في محل له مقدَّر من الشرع، فإن كان في محل له مقدَّر فلا يبلغ فيه أرش المقدَّر، فلو شجَّه في وجهه دون الموضِّحة كالسمحاق، فتسبب ذلك في نقص قيمته عشر قيمته، فمقتضى الحكومة: وجوب عشر من الإبل، وهذا لا يمكن مع أن الموضحة لا يجب فيها إلا خمس؛ لقاعدتين: الأولى: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل في كسر العظام والجراح الحكومة، وإنما خولفت في تلك العظام والجراح المقدرة في المسائل السابقة؛ لأدلة أخرجتها عن ذلك الأصل، وبقي الباقي على الأصل، وهي الحكومة، الثانية: التلازم؛ حيث إن كون الموضحة كاملة لا يجب فيها إلا خمس من الإبل ـ كما سبق في مسألة (3) -: يلزم منه: أن لا يجب في السمحاق إلا أقل من ذلك؛ لأن: السمحاق بعض الموضِّحة ولا يمكن أن يجب في البعض ما وجب في الكل وهذا مقتضى العدل والإنصاف، وهو المقصد الشرعي منه، فإن قلت: يجب ما تخرجه الحكومة كائنًا ما كان أي: سواء زاد عن أرش الموضِّحة وغيرها، أو لا وسواء في مكان المقدر أو لا، وهو قول محكي عن مالك، للقياس؛ بيانه: كما أن الكسر، والجرح في سائر البدن تجب فيها الحكومة مطلقًا، فكذلك في مواضع الشجات وهي الوجه والرأس، والجامع أن كلًا منهما جراحة وكسر لا مقدَّر =

ص: 119

حال برء: قوِّم حال جريان دم

(12)

، فإن لم تنقصه أيضًا، أو زادته حسنًا: فلا شيء فيها

(13)

.

* * *

= فيها فوجب فيها ما نقص مهما بلغ، قلتُ: إن تقدير الموضِّحة في خمس من الإبل فيه تنبيه وإيماء على أن ما دونها لا يزاد فيه على هذا المقدار؛ لأن الضرر في الموضِّحة أكبر، والشَّين أعظم والمحل واحد فكيف يجب فيما دونها أكثر مما وجب فيها؟!، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس".

[فرع]: لا يمكن تقويم الكسر، أو الجرح إلّا بعد أن يبرأ المكسور، والمجروح، للتلازم؛ حيث إن أرش الجرح بالمقدَّر إنما يستقر ويُعرف بعد البرء فيلزم تأخير التقويم إلى ما بعد البرء.

(12)

مسألة: إذا لم تنقص الجناية قيمة، وأرش الشخص حال برءه: فإنه يُقوَّم حال جريان الدم من أثر الكسر، والجرح بما سبق ذكره؛ للتلازم؛ حيث يلزم من الخوف عليه من النقص: وجوب تقويمه في هذه الحال.

(13)

مسألة: إن كانت الجراحة مما لا تنقص المجروح شيئًا بعد الاندمال والبرء؛ أو زادته جمالًا وحسنًا: كقطع إصبع زائدة أو يد زائدة، أو قطع لحية امرأة: فلا يضمن الجاني؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه لم يُذهب منفعة عضو، ولم يحصل بفعله تشويه عضو: عدم تضمين الجاني؛ لكونه قد أحسن بما فعله.

هذه آخر مسائل باب: "الشجاج، وكسر العظام وما يجب فيها من الأرش والدية" ويليه باب العاقلة وما تحمله، وكفارة القتل".

ص: 120

‌باب العاقلة وما تحمله

(عاقلة الإنسان) ذكور (عصابته كلهم من النسب والولاء قريبهم) كالإخوة (وبعيدهم) كابن ابن ابن عم جد الجاني، (حاضرهم، وغائبهم حتى عمودي نسبه) وهم آباء الجاني وإن علوا، وأبناؤه وإن نزلوا: سواء كان الجاني رجلًا أو امرأة؛ لحديث أبي هريرة: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان، سقط ميتًا بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لزوجها وبنتيها، وأن العقل على عصبتها" متفق عليه، يقال:"عقلت عن فلان": إذا غرمت عنه دية جنايته، ولو عرف نسبه من قبيلة، ولم يعلم من أي بطونها: لم يعقلوا عنه، ويعقل هرم، وزمن، وأعمى، أغنياء

(1)

(ولا عقل على

‌باب العاقلة وما تحمله، وكفارة القتل

وفيه أربع عشرة مسألة:

(1)

مسألة: العاقلة التي تتحمَّل دية شبه العمد، والخطأ عن الجاني هي: عصبات الجاني من الذكور البالغين الأحرار وذلك من النسب والولاء، ويدخل فيهم الآباء والأبناء والأخوة وسائر العصبات من العمومة، وأبنائهم، والموالي: وهذا مطلق، أي: سواء كانوا قريبين، أو بعيدين، وسواء ورثوا، أو لا، وسواء كانوا حاضرين، أو غائبين، وسواء كانوا شيوخًا، أو شبابًا، وسواء كانوا مرضاء، أو أصحّاء، وسواء كانوا يبصرون أو لا، وسواء كان الجاني رجلًا، أو امرأة بشرط: أن يكونوا أغنياء؛ بحيث تجب عليهم الزكاة - أي: عندهم من المال التام النصاب والحول-؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث اقتتلت امرأتان، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم "في الجنين بغرَّة: عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة المقتولة أن تكون على عاقلة المرأة القاتلة" وفي رواية: "قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا لا يرثون منها إلا ما =

ص: 121

رقيق)؛ لأنه لا يملك، ولو ملك فملكه ضعيف (و) لا على (غير مكلَّف) كصغير، ومجنون؛ لأنهما ليسا من أهل النصرة (ولا) على (فقير) لا يملك نصاب زكاة عند

= فضل عن ورثتها" فدل هذا على أن الدية على عصبة الجاني: سواء ورثوا، أو كان من حقهم الميراث لولا حجبهم بغيرهم، وهذا عام للبعيدين، والقريبين والغائبين والحاضرين، الثانية: التلازم؛ حيث إن العصبة في تحمُّل العقل كلهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب، وآباؤه وأبناؤه أحقُّ العصبات بميراثه فيلزم: أن يكونوا أولى بتحمُّل عقله، ويلزم من كون المريض، والشيخ الفاني، والأعمى من أهل المواساة: أن يكونوا من العاقلة، فإن قلت: إن المريض، والشيخ الفاني، والأعمى، ليسوا من العاقلة وهو قول بعض العلماء؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الصبي لا يُحسب من العاقلة فكذلك هؤلاء، والجامع: أن هؤلاء جميعًا ليسوا من النصرة قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن المريض، والشيخ الفاني، والأعمى إذا كانوا أغنياء فإنهم من أهل النصرة المالية وهو المراد هنا، أما النصرة البدنية فلا حاجة للجاني فيها هنا، بخلاف الصبي فهو يملك ماله بالقوة، دون الفعل، فلا يكون من النصرة المالية ولا البدنية، فإن قلت: لم سُمِّيت العصبة، وأقارب الجاني عاقلة؟ قلت: لكونهم يعقلون عنه الدية، أخذًا من قولهم: "عقلتُ فلانًا إذا أعطيت ديته، وغرمتها عنه" مأخوذة أصلًا وهي من كون أقارب القاتل يعقلون الإبل - وهي مائة منها - بفناء وأمام بيوت أولياء المقتول.

فإن قلت: لم اشتُرط الغنى في العاقلة؟ قلت: لأنهم هم الذين يستطيعون المواساة من أموالهم.

[فرع]: إذا عرف نسب القاتل، وأنه من قبيلة كذا، لكن لا يعلم من أي بطونها: فإن تلك القبيلة لا تعقل عنه، للتلازم؛ حيث يلزم من كون القبيلة لا ترث القاتل فيما لو مات - كما سبق بيانه في الفرائض - فكذلك لا يعقلون عنه شيئًا، والجامع: عدم وجود أب يتميزون به، ويتفرع عنه الأقرباء في كل.

ص: 122

حلول الحول فاضلًا عنه كحج، وكفارة ظهار، ولو معتملًا؛ لأنه ليس من أهل المواساة (ولا أنثى، ولا مخالف لدين الجاني)؛ لفوات المعاضدة والمناصرة

(2)

، ويتعاقل أهل ذمة اتّحدت مللهم

(3)

، وخطأ إمام وحاكم في حكمهما في بيت

(2)

مسألة: الذين لا يتحمَّلون شيئًا من العقل - وإن كانوا من عصبات الجاني - سبعة وهم: 1 - الأنثى. 2 - الخنثى. 3 - الصبي. 4 - المجنون - الفقير وإن كان له حرفة. 6 - المخالف للجاني في الدِّين، فلا يعقل كافر عن مسلم، ولا العكس.

7 -

الرقيق؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن كون الأنثى، والخنثى، والصبي، والمجنون، والفقير، والرقيق ليسوا من أهل النصرة والمواساة؛ لكونهم لا يملكون مالًا، أو لكونهم مملوكين، أو لكونهم يملكونه بالقوة لا بالفعل يلزم منه: عدم كونهم من العاقلة، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لا توارث بين المختلفين في الدِّين، فكذلك لا يكون أحدهما من عاقلة الآخر، والجامع: عدم التعاضد والمناصرة في كل، فإن قلت: إن الفقير يتحمَّل ويكون من العاقلة، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وهو رواية عن أحمد، وبعض الحنابلة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الغني من العاقلة فكذلك الفقير مثله، والجامع أن كلًا منهما قريب للجاني، وهو من أهل نصرته، قلت: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، حيث إن الغني من أهل المواساة من ماله، بخلاف الفقير، كالزكاة تجب على من وجد نصابًا وحال عليه الحول- وهو زائد عن حوائجه الأصلية وعن واجباته العينية كالحج، والكفارات - أما الذي لا يجد ذلك، فلا يجب عليه شيء من عقل أو زكاة؛ لأنه يكون تثقيل عليه، بينما المراد من العاقلة: التخفيف عن الجاني، لكونه معذورًا في جنايته، فإن قلت ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس الذي ذكروه مع التلازم الذي ذكرناه".

(3)

مسألة: يتعاقل أهل ذمَّة اتَّحد دينهم وملَّتهم، فإذا جنى يهودي: فإن عاقلته تكون من عصباته اليهود وهكذا؛ للقياس؛ بيانه كما أن المسلمين يتعاقلون، فكذلك =

ص: 123

المال

(4)

، ومن لا عاقلة له، أو له وعجزت، فإن كان كافرًا: فالواجب عليه، وإن كان مسلمًا: فمن بيت المال: حالًّا إن أمكن وإلا: سقطت

(5)

(ولا تحمل العاقلة

= هؤلاء مثلهم، والجامع: أن كلًا من المسلمين وأهل الذمة لهم ديات معصومين، ويتوارثون، فكذلك يتعاقلون.

(4)

مسألة: إذا أخطأ إمام، أو نائبه في حكمهم: فإن دية ذلك لا تجب على عاقلتهما، وإنما تؤخذ من بيت المال، لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن كون الحاكم ينوب عن الله في أحكامه وأفعاله يلزم منه: أن يكون أرش جنايته في مال الله تعالى، الثانية: المصلحة؛ حيث إنه لو تحمَّلت عاقلتهما ذلك: فإنه سيضرّ بها؛ لكثرة ما يقع من أخطاء في ذلك، وهو المقصد الشرعي منه، فإن قلت: إن الحاكم، أو نائبه إذا وقع الخطأ منهما: فإن عاقلته هي التي تتحمَّل ذلك؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عمر لما استدعى امرأة فأفزعها، فأسقطت مولودها، فمات بعد ولادته: دفع ديته بإشارة من علي رضي الله عنهما قلت: عنه جوابان: أولهما: أن هذا لا يدل على أنه دفع ديته من ماله، أو من عاقلته، حيث يحتمل أنه دفع ذلك من بيت المال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ثانيهما: على فرض أنه دفع ذلك من ماله، أو من عاقلته، فهو اجتهاد صحابي قد عارض التلازم؛ والمصلحة وهما الدليلان اللذان ذكرناهما، وهما أقوى منه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض فعل الصحابي مع التلازم والمصلحة".

(5)

مسألة: إذا كان القاتل لا عاقلة له، أو له عاقلة ولكنها عجزت عن دفع الدية: فإن بيت المال يتحمَّل ذلك إن كان القاتل مسلمًا، فتُصرف تلك الدية لأولياء المجني عليه حالًا، فإن لم يمكن ذلك: فإن تلك الدية تسقط؛ لقواعد: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال، الثانية: القياس؛ بيانه كما أن المسلم إذا لم يكن له وارث: فإن تركته تصرف في بيت المال، فكذلك يتحمَّل بيت المال ديته، والجامع: السلطان ولي من لا ولي =

ص: 124

عمدًا محضًا) ولو لم يجب به قصاص كجائفة، ومأمومة؛ لأن العامد غير معذور، فلا يستحق المواساة، وخرج بالمحض شبه العمد فتحمله (ولا) تحمل العاقلة أيضًا (عبدًا) أي: قيمة عبد قتله الجاني، أو قطع طرفه، ولا تحمل أيضًا جنايته (ولا) تحمل أيضًا (صلحًا) عن إنكار (ولا اعترافًا لم تصدّق به): بأن يقرّ على نفسه بجناية، وتُنكره العاقلة، روى ابن عباس مرفوعًا:"لا تحمل العاقلة عمدًا، ولا عبدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا" وروي عنه موقوفًا (ولا) تحمل العاقلة أيضًا (ما دون ثلث الدية التامة) أي: دية ذكر حر مسلم؛ لقضاء عمر "أنها لا تحمل شيئًا حتى يبلغ عقل المأمومة"

(6)

،

= له، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن عمر وعلي قد ثبت عنهما أنهما قد عقلا من بيت المال عن من لم يكن له عاقلة، الرابعة: التلازم؛ حيث يلزم من العجز عن دفع الدية من العاقلة، ومن بيت المال: سقوطها كما يسقط ركن الصلاة بالعجز عنه، فإن قلت: إن القاتل هو الذي يتحمَّل الدية عند عجز عاقلته عنها، وهو قول كثير من الحنابلة، وهو قول الشافعي؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل أن الدية واجبة على الجاني، وإنما تحمَّلتها العاقلة تخفيفًا عنه، فإذا عجزت: عاد الحكم إلى الأصل قلت: إن الشارع قد أوجبها على العاقلة لحكمة قصدها، وهي: أن الأخطاء تكثر، وأنه متحمّل للكفارة، فلو وجبت عليه الدية أيضًا: لثقل عليه الأمر، بينما العاقلة يتقاسمون تلك الدية: كل يدفع شيئًا يسيرًا بحيث لا يضرّهم، فلذلك يكون القول بسقوطها عند عجز العاقلة عنها هو الأرجح؛ نظرًا لهذه المصلحة. فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الاستصحاب مع التلازم والمصلحة اللذين قد قلناهما".

[فرع]: إذا كان القاتل كافرًا لا عاقلة له، أو له وعجزت عنها: فإن الدية تجب في ماله حالًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون بيت المال هو خاص للمسلمين: فإنه لا يعقل عن الكفار.

(6)

مسألة: العاقلة لا تتحمَّل الدية في خمس حالات الحالة الأولى: إذا كان القتل قتل =

ص: 125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عمد محض: سواء وجب فيه قصاص، ثم عفا أولياء الدم عنه فوجبت الدية، أو لم يجب فيه قصاص أصلًا: كالجائفة والمأمومة؛ حيث إن هاتين الجنايتين لا يجب في كل واحدة منهما إلا ثلث الدية - كما سبق بيانه - لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قال ابن عباس: "لا تحمل العاقلة عمدًا، ولا عبدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا" وهو واضح الدلالة، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون العامد غير معذور: أن يتحمَّل هو ما جنته يداه، فلا يستحق المواساة، الحالة الثانية: إذا قتل شخص عبدًا أو قطع طرفه، أو جرحه: فلا تتحمَّل عاقلة القاتل له، أو قاطعه، أو جارحه شيئًا من قيمة ذلك العبد، وكذا، لا تتحمَّل جنايته؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشخص لو أتلف متاع غيره: فإن هذا الشخص هو الذي يتحمَّل قيمة المتلف، دون عاقلته فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما مال من الأموال، وسلعة من السلع، ويؤيد بقول الصحابي السابق. الحالة الثالثة: إذا ادَّعى زيد على عمرو بأنه قتل مورِّثه، فأنكره المدعى عليه - وهو عمرو - وصالح المدعي على مال: فإن العاقلة لا تحمل ذلك المال؛ لقول الصحابي؛ وهو قول ابن عباس الذي ذكر في الحالة الأولى، الحالة الرابعة: إذا أقرّ شخص على نفسه بقتل خطأ، أو شبه عمد: فلا تحمل العاقلة دية ذلك، وإنما تجب عليه؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ وهو قول ابن عباس المذكور في الحالة الأولى، الثانية: سد الذرائع؛ حيث إنه قد يتَّفق هذا الشخص مع المقرّ له بذلك لتؤخذ الدية من العاقلة، ثم يقتسمان تلك الدية بينهما، فسدًا لهذه الحيلة: شرّع هذا الحكم، الحالة الخامسة: إذا كانت الجناية خطأ أو شبه عمد، وبلغ الأرش ما دون ثلث الدية فلا تتحمَّله العاقلة، بل تؤخذ من الجاني، أي: إذا بلغت الدية ثلاثًا وثلاثين من الإبل، وثلث بعير: فإن العاقلة تتحمَّله، أما ما دون ذلك: فلا تتحمَّله؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قضى عمر: "أنها لا تحمل شيئًا حتى =

ص: 126

إلا غرَّة جنين مات بعد أمه، أو معها بجناية واحدة لا قبلها

(7)

، ويؤجَّل ما وجب بشبه العمد، والخطأ على ثلاث سنين

(8)

، ويجتهد الحاكم في تحميل كل منهم ما يسهل

= يبلغ عقل المأمومة" ومعلوم أن دية المأمومة ثلث الدية الكاملة -كما سبق بيانه - الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل: أن كلَّ شخص يتحمَّل ويضمن ما جنت يداه؛ لأنه بدل ما أتلفه، وإنما خولف ذلك فيما زاد على ثلث الدية؛ لدفع المفسدة والمضّرة عن الجاني؛ نظرًا لكثرته، وما نقص من الثلث يبقى على الأصل؛ لكونه قليلًا لا يضرّ في العادة.

(7)

مسألة: غرة الجنين إذا مات مع أمه، أو بعدها بسبب جناية واحدة خطأ أو شبه عمد، تحمله العاقلة مع دية أمه، ولا تحمل ذلك إذا مات قبل أمه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ديتهما وجبت في حال واحدة بجناية واحدة مع زيادتهما على الثلث: أن تتحمل ذلك العاقلة كالدية الواحدة، ويلزم من كون غرة الجنين أقل من الثلث إذا مات قبل: أمه أن لا تتحمله العاقلة؛ إذ لا تبعية لموته قبلها.

(8)

مسألة: إذا وجبت الدية بسبب قتل شبه العمد أو الخطأ: فإن تلك الدية تؤجَّل على العاقلة على مدى ثلاث سنين تبدأ من حين وجوب الدية، كل سنة يُدفع ثلثها؛ لقول الصحابي؛ حيث ثبت ذلك عن عمر وعلي في قتل الخطأ، وشبه العمد مثله؛ فإن قلت: لَم شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على أفراد العاقلة.

[فرع]: إذا تنازل أهل الدم عن القصاص في قتل العمد: فإن الدية تجب على حالَّة على القاتل إلا أن يتفق أهل الدم مع القاتل على التأجيل؛ حيث يلزم من كون دية العمد مغلّظة: وجوب تعجيلها على القاتل.

[فرع ثان]: إذا مات أو جُنَّ، أو افتقر أحد أفراد العاقلة قبل الحول: فلا يلزمه شيء، أما إن حصل ذلك بعد الحول: فلا يسقط عنه نصيبه؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الزكاة تجب إذا حال الحول على النصاب، ولو مات أو جُنَّ، أو افتقر: فإنها تؤخذ من تركته، أما لو حصل ذلك قبل الحول: فلا تجب الزكاة =

ص: 127

عليه ويبدأ بالأقرب فالأقرب، لكن تؤخذ من بعيد لغيبة قريب

(9)

.

(فصل): في كفارة القتل (من قتل نفسًا محرمة) ولو نفسه، أو قنه، أو مستأمنًا، أو جنينًا، أو شارك في قتلها (خطأ) أو شبه عمد (مباشرة أو تسببًا) كحفره بئرًا:(فعليه) أي: على القاتل، ولو كافرًا، أو قنًّا، أو صغيرًا، أو مجنونًا (الكفارة)؛ عتق رقبة، فإن لم يجد: فصيام شهرين متتابعين، ولا إطعام فيها

(10)

، وإن كانت النفس

= عليه، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منهما مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة، وهو لا يملك إسقاطه في حياته، فلا يُسقطه موته، وهذا جواب من قال: إن ذلك يسقط بموته.

(9)

مسألة: إذا أراد الحاكم أخذ الدية من العاقلة: فإنه يجتهد في تحميل كل واحد من العاقلة ما يستطيع دفعه دون إلحاق مشقّة أو ضيق عليه، ويبدأ بأخذها من الأقرب للجاني فالأقرب: فيُقسِّمها على الآباء، والأبناء، ثم على الأخوة، ثم على الأعمام، ثم على أبنائهم، وهكذا، فإن اكتملت الدية من أموال الأقربين: فإنه لا يأخذ شيئًا من الأقرباء البعيدين، فإن لم تكتمل: فإن من هو أبعد منهم يساهم معهم؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون المقصود بتحميل العاقلة هو مواساة الجاني، والتخفيف عنه: أن لا يشق على غيره بها فيفرض على كل فرد ما يقدر عليه، ويلزم من كون هذا لا نص فيه: أن يُرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم كتقدير النفقات، الثانية: القياس؛ بيانه كما أنه يُقدَّم في الميراث الأقرب فالأقرب، وإذا لم يوجد القريب دخل البعيد في ذلك فكذلك يُفعل في العاقلة والجامع: أن القريب أولى بالتقديم، والغرم بالغنم، وهو المقصد منه.

[فرع]: إذا تساوت جماعة في القرب من الجاني: فإنه يُقسَّم القدر الذي يلزمهم بينهم بالتساوي؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تساويهم في القرابة المقتضية للعقل: تساويهم في الحكم.

(10)

مسألة: إذا قتل شخص شخصًا آخر - معصوم - الدم: قتل خطأ، أو شبه عمد: =

ص: 128

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فتجب عليه كفارة القتل، وهي: تحرير رقبة مؤمنة ـ أي: عتق عبد أو أمة مسلمين-، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، وهذا مطلق، أي: سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى أو خنثى، وسواء كان مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان حرًا، أو عبدًا، وسواء كان بالغًا، أو صغيرًا، وسواء كان عاقلًا، أو مجنونًا، وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى أو خنثى، عبدًا، أو حرًا، مسلمًا، أو كافرًا، مستأمنًا، وسواء كان حيًا خارج بطن أمه، أو كان جنينًا داخل بطنها بأن ضربها فألقته ميتًا، وسواء كان قد باشر القتل منفردًا، أو متسبِّبًا كحفر بئر، وسواء كان منفردًا أو مع جماعة؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} حيث إن هذه الآية أوجبت الكفارة على القاتل خطأ، وهي عامة لكل من ذكرنا من القاتلين من المسلمين، والكفار، والأحرار والعبيد إلى آخر من ذكرنا، وهي موجبة للكفارة على الترتيب: حيث إن الواجب العتق على من يقدر عليه، فإن لم يقدر عليه: فيصوم شهرين متتابعين؛ الثانية: القياس، وهو من وجهين: أولهما: كما أنه في كفارة الظهار، وكفارة الوقاع في نهار رمضان: يعتق رقبة، فإن لم يجد، فيصوم، فإن لم يستطع فيطعم ستين مسكينًا، فكذلك يُفعل في كفارة القتل مثل ذلك، والجامع: أن كلا منها كفارة شُرعت لتكفير الذنب، وهذا مثله، ثانيهما: كما أن الكفارة تجب في قتل الخطأ، فكذلك تجب في قتل شبه العمد والجامع: أن كلا منهما لم يُقصد فيه القتل، فإن قلت: إن كفارة القتل لا إطعام فيها، بل إن القاتل إذا عجز عن العتق، والصوم: فإنه يثبت في ذمته =

ص: 129

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حتى يستطيع فعل أحدهما، فإن مات: فإن الكفارة تسقط، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للكتاب؛ حيث إن الآية السابقة الذكر لم تذكر الإطعام، فيستدل بمفهوم ذلك على عدم الإطعام، قلتُ: إن عدم ذكر ذلك في الكتاب، لا يمنع من ثبوته بدليل آخر، وهو القياس كما سبق بيانه كسائر الكفارات، وكلّا من الكتاب، والقياس حجة يثبت الأحكام، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المفهوم مع القياس".

[فرع]: الشخص إذا قتل نفسه خطأ: فلا تجب عليه كفارة، وهو قول جمهور الحنفية، وكثير من الحنابلة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ، ولم يأمر النبي عليه السلام فيه بكفارة، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لا يجب عليه ضمان نفسه، فكذلك لا تجب الكفارة على قتل نفسه، فإن قلت: بل تجب الكفارة عليه وتؤخذ من تركته، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهو مطلق في حق قتل نفسه، أو غيره قلتُ: إن المراد بالآية: إذا قُتِل بقرينة قوله بعد ذلك: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وقاتل نفسه لا تجب لنفسه الدية، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المراد بالآية".

[فرع ثان]: إذا اشترك مجموعة من الأشخاص في قتل واحد خطأ أو شبه عمد: فتجب على كل واحد كفارة كاملة، للقياس؛ بيانه: كما أنه لو اشترك مجموعة في قتل عمد محض: فيجب أن يُقتصَّ من كل واحد منهم فكذلك تجب على كل واحد منهم كفارة كاملة والجامع: أن كلًا من القصاص والكفارة لا يتبعَّض فإن قلت: بل تجب عليهم كفارة واحدة يتقاسمونها وهي رواية عن أحمد؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} و"من" تتناول الواحد والجماعة، ولم يوجب إلا دية واحدة =

ص: 130

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يتقاسمونها، فكذلك لا تجب إلا كفارة واحدة قلتُ: إن الدية تتبعَّض، بخلاف الكفارة فلا يمكن فيها التبعيض، ومع هذا الفرق: فلا قياس، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: "سببه تعارض القياسين".

[فرع ثالث]: تجب الكفارة بقتل العبد، للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} إلخ، وهو مؤمن فيشمله النص، فإن قلت: لا تجب في قتله كفارة، وهو قول مالك؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو قتل بهيمة فلا كفارة، فكذلك إذا قتل عبدًا مثل ذلك، والجامع: أن كلًا منهما مضمون بالقيمة، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض القياس مع عموم الكتاب".

[فرع رابع]: لا كفارة في قتل العمد؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ .. } وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} حيث يلزم من هاتين الآيتين: أن العمد لا كفارة فيه؛ لكونه ذكر الخطأ وذكر الكفارة، وذكر العمد ولم يذكر كفارة، بل جعل جزاءه جهنم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إن عمرًا بن أمية، الضمري، وسويد بن الصامت قد قتلا عمدًا: فأوجب النبي عليه السلام القَود عليهما، ولم يوجب عليهما كفارة، فإن قلت: بل تجب الكفارة في القتل العمد، وهو رواية عن أحمد، وهو قول الشافعي؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال وائلة بن الأسقع: أتينا النبي عليه السلام بصاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال: "اعتقوا عنه رقبة يُعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار" فأوجب هنا الكفارة؛ لأن الأمر هنا مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن الكفارة تجب في الخطأ فإنها تجب في العمد من باب أولى؛ لأن العمد أعظم جرمًا، فتكون حاجة القاتل إلى تكفير ذنبه أعظم قلتُ: أما حديث وائلة: فيُحتمل أنه قتل خطأ، ويحتمل أنه قتل شبه عمد، ويحتمل أنه أمرهم بالكفارة أمر استحباب، وإذا تطرق الاحتمال =

ص: 131

مباحة كباغ، أو القتل قصاصًا، أو حدًّا، أو دفعًا عن نفسه: فلا كفارة

(11)

، ويكفِّر قنٌّ بصوم

(12)

، ومن مال غير مكلَّف وليه

(13)

، ...............................................................................

= إلى الدليل بطل به الاستدلال، أما القياس: ففاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن القاتل خطأ وشبه العمد معذور بعض العذر في قتله، وفيه نوع تفريط، فشرعت الكفارة هنا؛ لأنها تقوى على تكفير ذنبه لخفَّته، بخلاف القاتل عمدًا عدوانًا: فلا عذر له، فلا تقوى أيُّ كفارة لتكفير ذنبه كما قال عليه السلام:"ثلاثة لا يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: "أشيمط زان، وعائل مستكبر، وملك كذاب" فهؤلاء لا عذر لهم في ذنوبهم تلك، لذلك لا يُقبل منهم أي شيء، فكانت عليهم تلك العقوبات، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض النصوص" و"تعارض القياس مع النص".

(11)

مسألة: إذا قتل زيد عمرًا، وعمرو مستحق للقتل، ونفسه مباحة: كأن يكون عمرو حربيًا، أو من البغاة، أو قطاع الطرق، أو من المحاربين، أو كان عمرو زانيًا محصنًا، أو كان مستحقًا للقصاص، أو الحد، أو كان مرتدًا، أو صال عمرو على زيد يريد قتله، أو فعل الفاحشة فيه، أو في واحد من أهله، أو سرقة ماله، فقتله زيد دفاعًا عن نفسه، أو قتل زيد نساء أهل الحرب، أو صبيانهم: فلا كفارة على زيد في كل الصور السابقة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون القتل في تلك الصور السابقة مأمور به: عدم وجوب الكفارة؛ لكون الكفارة لا تجب لمحو المأمور به، ويلزم من عدم إيمان نساء أهل الحرب وصبيانهم وعدم أمانهم: عدم الكفارة في قتلهم.

(12)

مسألة: يُكفِّر العبد إذا قتل قتل خطأ، أو شبه عمد بصوم فقط؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم ملكه للمال: أن يُكفِّر بالصوم؛ لأنه هو الذي يملكه.

(13)

مسألة: يُكفِّر ولي الصبي، والمجنون عنهما بإعتاق عبد من مالهما، فإن لم يستطع:

ص: 132

وتتعدَّد بتعدُّد القتل

(14)

.

* * *

= فإنه -أي: الولي - يطعم ستين مسكينًا عنهما؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم إمكان الصوم منهما: تعين العتق، فإن لم يقدر، فالإطعام فقط، ولا صوم؛ لكون الصوم يحتاج إلى نية، ولا نيابة في النية، كما يخرج عنهما زكاة ماليهما.

(14)

مسألة: إذا تعدَّد القتل الخطأ، أو شبه العمد من شخص: فإن الكفارة تتعدَّد عليه؛ للقياس؛ بيانه كما أن الدية تتعدَّد بتعدد القتل، فكذلك الكفارة مثلها والجامع قيام كل قتل بنفسه، وعدم تعلُّقه بغيره.

هذه آخر مسائل باب: "العاقلة وما تحمله وكفارة القتل" ويليه باب "القسامة".

ص: 133

‌باب القسامة

(وهي) لغة: اسم القسم، أقيم مقام المصدر، من قولهم: أقسم إقسامًا، وقسامة، وشرعًا:(أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم)

(1)

روى أحمد ومسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية"

(2)

، ولا تكون في دعوى قطع

‌باب القسامة

وفيه عشرون مسألة:

(1)

مسألة: القسامة لغة: مأخوذة من أقسم، إقسامًا، أي: حلف حلفًا ويمينًا، وسمِّيت بـ "القسامة"؛ لكونها أيمان كثرت وتكررت وبولغ فيها، وهي في الاصطلاح:"أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم" والمراد من ذلك: أن يُقتل قتيل يغلب على الظن أن القاتل بينه وبين القتيل عداوة وبغضاء، أو بينه وبين أهله عداوة وبغضاء، ولم يُعلم قاتله يقينًا، ولا بيِّنة في ذلك، فيحلف ورثة المقتول خمسين يمينًا بأنهم قتلوه ثم يحلف المدَّعى عليهم قتله خمسين يمينًا بأنهم لم يقتلوه، وسيأتي بيان ذلك وشروطه.

(2)

مسألة: القسامة مشروعة وأصل من أصول الشرع؛ للسنة القولية والفعلية، والتقريرية؛ حيث إن النبي عليه السلام "قد أقرّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية" - كما روى ذلك مسلم وأحمد، قال ابن عباس:"أول قسامة كانت فينا بني هاشم رجل منا قتله رجل من قريش، فقال أبو طالب: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، أو يحلف خمسون من قومك، وإلا: قتلناك به، فحلفوا" وروى من سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج: أن محيصة بن مسعود، وعبد الله بن سهل انطلقا إلى خيبر، فتفرّقا في النخيل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتّهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن، وأبناء عمه حويصة، ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلموا في أمر صاحبهم، فقال النبي عليه السلام: "يُقسم خمسون منكم على رجل منهم =

ص: 134

طرف، ولا جرح

(3)

(ومن شروطها) أي: القسامة: (اللَّوث، وهو: العداوة الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضًا بالثأر)، وكما بين البغاة، وأهل العدل، وسواء جد مع اللَّوث أثر قتل أو لا

(4)

(فمن ادعي عليه القتل من غير لوث: حلف يمينًا

= فيدفع إليكم برمته" فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمين منهم" فقالوا يا رسول الله: قوم كفار ضلال قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله، فإن قلت: لَمِ شُرعت القسامة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن فيها مصالح للعباد من حيث الأخذ بحق شخص قتل ظلمًا ولم يعلم من قتله قطعًا إعزازًا له ولقومه، فإن قلت: إن الأصل: أن البيِّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر كما هو نص الحديث، فلا أيمان على المدّعي، قلت: إن حادثة القتل إذا حصلت بهذه الطريقة فلها أصل آخر قد ورد في السنة القولية والفعلية والتقريرية السابقة الذكر، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة" وهذا الاستثناء زيادة ثقة يجب العمل بها؛ لأنها حجة فيخصَّص بهذا الاستثناء الأدلة العامة، فإن قلت: لَمِ ذكر هذا الباب بعد القصاص، والديات، والعاقلة وما تحمله؟ قلتُ: لمناسبته لما سبق ذكره؛ حيث إن ما سبق يبحث عن حق القتيل إذا عُرف قاتله، أما هنا فيبحث عن القسم الآخر، وهو: حق القتيل إذا لم يعرف قاتله.

(3)

مسألة: في الأول - من شروط صحة القسامة - أن يدَّعي أولياء المجني عليه القتل بالعمد، أو شبهه، أو الخطأ، لذلك لا تكون في دعوى قطع طرف، أو دعوى جرح، أي: إذا قُطعت يد إنسان أو جُرح: فلا يُطالب بالقسامة، ولا تشرع في حقه؛ للتلازم؛ حيث إن القسامة وردت في النفس وثبتت فيها فقط - على خلاف الأصل - وذلك لعِظَم حرمتها فيلزم: اختصاص القسامة بالنفس، دون الأطراف، والجروح، وهذا مثل الكفارة.

(4)

مسألة: في الثاني - من شروط صحة القسامة - وهو: أن يكون هناك عداوة =

ص: 135

واحدة وبريء)؛ حيث لا بيّنة للمدعي كسائر الدعاوى، فإن نكل: قضي عليه بالنكول، إن لم تكن الدعوى بقتل عمد، فإن كانت به: لم يحلف، وخُلِّي سبيله

(5)

،

= ظاهرة، وشرّ واضح بين المدَّعى عليه والمقتول: كالقبائل التي يطلب بعضها بعضًا بثأر كما كان بين الأنصار ويهود خيبر، وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين البغاة، وأهل العدل وما بين الشرطة واللصوص، وكل ما بينه وبين المقتول ضِغَن يغلب على الظن أنه قتله لأجل ذلك، وهذا مطلق، أي: سواء وجد مع تلك العداوة الظاهرة أثر قتل على المقتول أو لا، وسواء وجد القتيل في موضع لعدو أو لا؛ للسنة القولية، والتقريرية؛ حيث إن النبي عليه السلام في حديث عبد الله بن سهل السابق الذكر في مسألة (2) - لم يسأل الأنصار هل كان في خيبر غير اليهود أم لا؟ والظاهر وجود غيرهم فيها؛ لأنها كانت أملاكًا للمسلمين يقصدونها لأخذ غلاتهم منها، وعمارتها، والاطلاع عليها، يؤيده: أنها كانت مدينة على جادة فيبعد أن تخلو من غير أهلها، وكذا: قول الأنصار: "ليس لنا عدو بخيبر إلا اليهود" يلزم منه: أن بها غيرهم ممّن ليس بعدو، وترك الاستفسار عن الحال يُنزل منزلة العموم في المقال، أي: يعم جميع الحالات التي ذكرناها، فإن قلتَ: يُشترط في اللوث: أن يكون على القتيل أثر قتل، وهو رواية عن أحمد، - وهو قول أبي حنيفة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود أثر قتل: أنه مات حتف أنفه قلتُ: لا يشترط ذلك؛ للسنة السابقة الذكر؛ فلم يسأل النبي هل به أثر أو لا.

(5)

مسألة: إذا وُجد قتيل، فادَّعى أهل المقتول على شخص بأنه هو الذي قتله بدون لوث، وعداوة ظاهرة بينه وبين المقتول: فإن هذا المدعى عليه يحلف يمينًا واحدة بأنه لم يقتله، ويبرأ بذلك، فإن امتنع ذلك الشخص المدَّعى عليه عن اليمين ونكل، فإنه يُقضى عليه بالنكول وتؤخذ منه الدية: سواء كانت الدعوى عليه قتل خطأ، أو شبه عمد، أو عمد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه =

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= السلام "البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر" وقال: "لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى قوم دماء رجال، وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه"؛ حيث أوجب اليمين على المدعى عليه وهذا عام، فيشمل جميع الدعاوى، ومنها ما نحن فيه، الثانية: القياس وهو من وجوه: أولها: كما أنه في دعوى المال يستحلف يمينًا واحدة، فكذلك دعوى الدم والقتل والجامع: أن كلًا منهما دعوى في حق آدمي، ثانيها: كما أنه في سائر الدعاوي إذا نكل: فإنه يقضى عليه بالدعوى، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلا منهما نكول عن وجوب مال عليه، ثالثها: كما أن الحد يدرأ بالشبهة فكذلك القصاص مثله لا يجب بالنكول، والجامع: الشبهة والحجّة الضعيفة لا يُقتص بها، ولا يحدّ بها، أي: أن القتل لم يثبت ببيّنة ولا إقرار، ولم يعضده لوث: فلم يجب القصاص كما لو لم ينكل، والأيمان بدل عن الإقرار والبيّنة، والبدل يكون عادة أضعف من المبدل، والضعيف شبهة والشبهة تدرأ الحد والقصاص، فإن قلت: إن كانت الدعوى بقتله عمدًا بدون لوث وعداوة: فإنه لا يحلف المدعى عليه ويُخلَّى سبيله وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الدعوى ليس بمال عدم الحلف قلتُ: إنه لا فرق بين الدعوى هذه، والدعوى بمال كما سبق بيانه، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس"، فإن قلت: إن نكل المدَّعى عليه، فإن اليمين ترد إلى المدّعى فيحلف خمسين يمينًا، فيستحق المدعى عليه القصاص بذلك وهو قول كثير من الشافعية؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الدية وجبت بالنكول فكذلك القصاص، والجامع: أن كلًا وجب بسبب القتل قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن القصاص لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال، ولا بالشاهد واليمين، ويُحتاط له، ويُدرأ بالشبهات بخلاف الدية فتثبت بما سبق، ولا تدرأ بالشبهات، فإن قلت: ما الخلاف هنا؟ قلت: سببه: =

ص: 137

ومن شرط القسامة أيضًا: تكليف مدَّعى عليه القتل

(6)

، وإمكان القتل منه

(7)

، ووصف القتل في الدعوى

(8)

، وطلب جميع الورثة، واتفاقهم على الدعوى

(9)

، وعلى

= " تعارض القياسين" فنحن قسنا القصاص على الحد؛ لأنه أكثر شبهًا به، وهم قاسوه على الدية، لأنه أكثر شبهًا بها عندهم.

(6)

مسألة: في الثالث - من شروط صحة القسامة - وهو: أن يكون المدَّعى عليه القتل مكلَّفًا - أي: يكون بالغًا عاقلًا - فإن كان صبيًا، أو مجنونًا: فلا القسامة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تكليفهم: عدم صحة الادِّعاء عليهم بشيء.

(7)

مسألة: في الرابع - من شروط صحة القسامة - وهو: أن يكون المدَّعى عليه القتل قادرًا على القتل ممكنًا منه فإن كان لا يقدر عليه؛ لمرض، أو ضعف ظاهر، أو كونه بعيدًا عن المكان الذي قُتل فيه القتيل، ولا يمكنه المجيء إليه، أو نحو ذلك مما يكذبه الحس: فلا تصح القسامة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم القدرة على القتل نفي القتل عنه، وإذا ثبت نفيه: فلا قسامة.

(8)

مسألة: في الخامس - من شروط صحة القسامة - وهو: أن يصف المدَّعي - وهم ورثة القتيل - في الدعوى: طريقة القتل: كأن يقول: جرحه بسيف، أو سكين، أو خنجر أو رماه ببندقية، في محل كذا من بدنه، أو خنقه، أو ضربه، أو أغرقه، أو هدم عليه جدارًا، أو أي شيء يقتل غالبًا؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك فيه اطّلاع على سبب الموت، واطلاع على القاتل هل هو متمكِّن من القتل بهذه الطريقة أو لا؟ فيلزم اشتراط ذلك الوصف.

(9)

مسألة: في السادس - من شروط صحة القسامة - وهو: أن يطلب جميع الورثة القسامة، ويتفقوا على الدعوى للقتل، فإن طلب بعضهم ذلك، دون بعضهم الآخر، أو أنكر بعضهم ذلك: فلا قسامة؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عدم انفراد البعض بالحق: اشتراط جميعهم فيه، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه يُشترط اتفاق الورثة بالمطالبة بالقصاص من قاتل مورثهم، فكذلك الحال هنا، =

ص: 138

عين القاتل

(10)

، وكون فيهم ذكور مكلَّفون

(11)

، وكون الدعوى على واحد

= والجامع: أن كلًا منهما فيه دعوى قتل.

(10)

مسألة: في السابع - من شروط صحة القسامة - وهو: أن يتفق جميع الورثة على عين القاتل، بأن يُعينوا قاتلًا لمورِّثهم، أما إن قال بعض الورثة قتله زيد، وقال بعضهم الآخر، بل قتله عمرو، أو قال فريق ثالث منهم: لا أعلم قاتله، فلا قسامة؛ للتلازم؛ حيث إن الأيمان أُقيمت مقام البينة فيلزم أن يُعيَّن القاتل كما يُعين بالبيِّنة.

(11)

مسألة: في الثامن - من شروط صحة القسامة - وهو: أن يكون المدعون ذكورًا مكلَّفين: سواء كانوا حاضرين، أو غائبين، ولا مدخل للنساء، ولا للصبيان، ولا للمجانين في القسامة: عمدًا كان القتل أو خطأ؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "يُقسم خمسون رجلًا منكم ويستحقون دم صاحكبم"، حيث دل مفهوم الصفة على: أن لا مدخل للنساء، ولا للصبيان ولا للمجانين في القسامة؛ لأن لفظ "رجل" يلزم منه ذلك، إذ الرجل ضد المرأة، وهو يُطلق عادة على البالغ العاقل، الثانية: القياس؛ بيانه: أن الصبي أو المجنون لا يقبل إقراره في حق نفسه، فكذلك لا يُقبل في حق غيره من باب أولى، فإن قلت: إن للنساء مدخلًا في القسامة في قتل الخطأ، وهو قول مالك، وقال الشافعي: يقسم كل وارث بالغ عاقل؛ للقياس؛ بيانه كما أن النساء وغيرهن من العقلاء البالغين يقسمون في الدعاوى الأخرى فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منها يمين في دعوى، قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنه قياس مع النص، ولا قياس مع النص، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع النص"، فإن قلت: لِمَ أخرجت النساء هنا؟ قلتُ: لأن الجناية المدعاة التي يجب القسامة عليها هي القتل، ولا مدخل للنساء في إثباته فإن قلت: لم أخرج الصبي والمجنون هنا؟ قلتُ: لأن الأيمان حجّة على الحالف، والصبي والمجنون لا تثبت بقولهما حجة. =

ص: 139

معيّن

(12)

،

(13)

، ويُقاد فيها إذا تّمت الشروط

(14)

(ويبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم فيحلفون خمسين يمينًا)

(15)

،

= [فرع]: الخنثى المشكل لا يقسم؛ للتلازم؛ حيث إن احتمال كونه امرأة يلزم منه: عدم دخوله في القسامة كالمرأة، فإن قلت: إنه يقسم؛ للتلازم؛ حيث إن احتمال كونه ذكرًا: يلزم منه دخوله. قلت: إن الاحتمال الذي ذكرناه أحوط".

(12)

مسألة: في التاسع - من شروط صحة القسامة - وهو: أن يتفق الورثة على شخص معيَّن مفرد، لا أكثر، ولا مبهم، فلو قالوا: قتله زيد منهم مع آخر، أو قال: قتله زيد أو عمرو: فلا قسامة؛ للقياس؛ بيانه كما أن سائر الدعاوى لا تُسمع إذا لم يكن المتهم واحدًا معينًا فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًا منها دعوى على غير معين.

(13)

مسألة: في العاشر - من شروط صحة القسامة - وهو: أن يتفق المدَّعون - وهم أولياء المقتول وورثته - على القتل بحضرة حاكم - وهو القاضي المجتهد-؛ للتلازم؛ حيث إن النظر في توفر شروط صحة القسامة يحتاج إلى مجتهد يفصل في ذلك ويُلزم في حكمه ولا يقوم بذلك إلا الحاكم المجتهد، فلزم حضوره.

(14)

مسألة: إذا تمت شروط صحة القسامة العشرة - السابقة الذكر في مسائل (3 و 4 و 6 و 7 و 8 و 9 و 12 و 13) -، وتأكد الحاكم المجتهد من توفر تلك الشروط، وتوفرت شروط القصاص والقود والاستيفاء السابق ذكرها في باب:"شروط وجوب القصاص" وباب "استيفاء القصاص" وأقسم المدَّعون، وهم أولياء المقتول خمسين يمينًا: فإن المدعى عليه يُقاد بذلك، ويُقتل به؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "يحلف خمسون منكم على رجل منهم فيُدفع إليكم برمَّته" وفي لفظ: "ويُسلَّم إليكم"، وهذا يلزم منه القصاص والقود من المدَّعى عليه القتل مع توفر الشروط السابقة الذكر

(15)

مسألة: الأيمان تُشرع في حق المدَّعين -وهم الرجال من أولياء المقتول وورثته- =

ص: 140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أولًا، فيحلفون خمسين يمينًا على المدعى عليه أنه قتل مورِّثهم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث أمر عليه السلام المدَّعين فيه بالقسم والحلف خمسين يمينًا وذلك في حديث سهل بن أبي حثمة - المذكور في مسألة (2) - وقال عليه السلام: "البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة" وزيادة: "إلا في القسامة" زيادة ثقة - وهو الراوي وهو: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما سبق ذكره، وزيادة الثقة حجّة فتُقبل، وتخالف القاعدة في ذلك؛ لأجل اختصاصها في ذلك، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه فى اللَّعان يبدأ بأيمان المدَّعين، فكذلك في القسامة يبدأ بأيمان المدَّعين، والجامع: أن كلًا منها أيمان مكررة فإن قلت: يبدأ في القسامة بأيمان المدَّعى عليهم أولًا فيحلفون خمسين يمينًا، ويبرؤون، فإن أبوا: فإنه يُستحلف المدعون بخمسين يمينًا، ثم تثبت الدية على المدّعى عليهم؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر" وفي لفظ: "واليمين على المدَّعى عليه" فجعل الأيمان على المدَّعى عليهم أولًا، ثانيهما: روى سليمان بن يسار عن رجال من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليهود وبدأ بهم: "يحلف منكم خمسون رجلًا" فأبوا، فقال للأنصار:"استحقوا" قالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله؟ فجعلها رسول الله الله على اليهود ابتداء قلتُ: أما حديث: "البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر": فإن حديث سهل يُرجَّح عليه؛ لأمرين: أولها: أن سهل هو صاحب القصة وحضرها فيرجح ما رواه صاحب القصة على ما رواه غيره؛ لأن ذلك من مرجحات الأخبار إذا تعارضت، ثانيها: أن حديث سهل متفق عليه بخلاف ذلك الحديث الذي ذكروه، أما حديث سليمان بن يسار: فإنه يرويه عن رجال من الأنصار، ولم يُذكر لهم صحبة وهو يُعتبر في ذلك منقطع، فلا يقوى على معارضة حديث سهل، فإن قلت: ما الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض =

ص: 141

وتوزّع بينهم بقدر إرثهم، ويكمل كسر، ويُقضى لهم

(16)

، ويُعتبر حضور مدَّع ومدعى عليه، وسيد قن وقت حلف

(17)

، ومتى حلف الذكور: فالحق - حتى في عمد - لجميع الورثة

(18)

.

(فإن نكل الورثة) عن الخمسين يمينًا، أو عن بعضها (أو كانوا) أي: الورثة كلهم (نساء: حلف المدَّعى عليه خمسين يمينًا وبرئ) إن رضي الورثة، وإلا: فدى

= رواية الحديث المثبت للقسامة" وأيضًا: "الاختلاف في زيادة الثقة هل هي حجة أو لا؟ ".

(16)

مسألة: توزّع الخمسين يمينًا على المدَّعين - وهم الرجال- من الورثة ذوي الفروض والعصبات - وذلك بقدر إرثهم من المقتول، هذا إذا كانوا جماعة، ويُكمل الكسر، فإذا تَّمت الأيمان قُضي لهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من توزيع الإرث بقدر نصيب كل واحد منهم: أن توزَّع الأيمان كذلك؛ لأن الغرم بالغنم.

[فرع]: إن لم يوجد إلا شخص واحد يرث المقتول حلف خمسين يمينًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم غيره: وجوبها عليه.

(17)

مسألة: يُشترط: أن يحضر المدعي، والمدعى عليه القتل، وذلك في وقت سماع الحاكم الأيمان الخمسين، ويحضر مع العبد سيده؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ذلك يُشترط في إقامة البيِّنة على شخص معين، فكذلك يُشترط هنا، والجامع: المطالبة بالحق في كل.

(18)

مسألة: إذا حلف جميع ورثة المقتول من الذكور - واستكملت جميع الشروط السابقة الذكر-: فإن الحق في القود والقصاص، أو الدية يكون لجميع الورثة - سواء كانوا رجالًا، أو نساء، صغارًا، أو كبارًا -؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "وتستحقون دم صاحبكم" وفي لفظ: "يقسم خمسون منكم على رجل فيدفع إليكم برمّته" وأراد بذلك دم القاتل، الثانية: القياس، بيانه: كما أن البيِّنة حجة يثبت بها العمد فيجب بها القَوَد، فكذلك القسامة حجة يثبت بها القَوَد والجامع: أن كلًا منهما، حجة الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من كونه حقًا ثبت للميت: أن يثبت لورثته.

ص: 142

الإمام القتيل من بيت المال كميت في زحمة جمعة، وطواف

(19)

،

(20)

.

(19)

مسألة: إذا طلب أولًا من أولياء القتيل أن يحلفوا خمسين يمينًا، فنكلوا وامتنعوا عنها، أو عن بعضها، أو كان الورثة كلهم نساء: فإن المدَّعى عليه يحلف خمسين يمينًا - ويقول: "والله ما قتلته في كل يمين، أو نحو هذه العبارة" فإذا أكملها: فإنه يبرأ بشرط: أن يكون ورثة المقتول قد رضوا بتلك الأيمان من المدَّعى عليه، أما إن لم يرضَ ورثة المقتول تلك الأيمان من المدَّعى عليه: فإن الإمام يفدي ذلك القتيل من بيت المال، وتُقسَّم تلك الفدية على ورثة المقتول كمن قتل في زحمة جمعة، وطواف ونحوهما؛ لقواعد الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام في حديث سهل بن أبي حثمة المذكور في مسألة (2) -: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم" حيث يلزم من ذلك: أن المدَّعى عليه يبرأ إذا حلف ذلك، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إن النبي عليه السلام في حديث سهل السابق - أدَّى دية المقتول - وهو عبد الله بن سهل- من عنده، ولم يغرم اليهود بسبب أن الأنصار لم يرضوا بأيمان اليهود - كما سبق ذكره - الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إنه ثبت عن عمر وعلي: أنهما فديا من مات بسبب زحام في عرفة من بيت المال.

(20)

مسألة: يُستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في القسامة تأكيدًا فيقول: "والله الذي لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور: إن هذا هو قاتل صاحبنا، أو يقول ذلك المدعى عليه ثم يقول: "إني لم أقتله ولم أشارك في قتله"؛ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تأكيد على ذلك، لئلا يُفهم غير ذلك، أو يتوسّع في الفهم، وهو من باب الاحتياط.

هذه آخر مسائل باب "القسامة" وهو آخر أبواب كتاب "الديات" ويليه كتاب: "الحدود".

ص: 143

‌كتاب الحدود

جمع "حد"، وهو لغة: المنع، وحدود الله محارمه، واصطلاحًا: عقوبة مقدَّرة شرعًا في معصية؛ لتمنع الوقوع في مثلها

(1)

،

‌كتاب الحدود

‌بيان تعريفها، وحكمها، وشروط من تجب عليه ومَنْ يقيمها وأين؟ والشفاعة فيها وكيفية الضرب فى الحد، وأشد الجلد، وحكم من مات في حد، وحكم الحفر للمرجوم، وحضور إقامة الحد

وفيه إحدى وثلاثون مسألة:

(1)

مسألة: الحدود جمع حد، والحد لغة: المنع، ومنه قولهم:"البواب حدَّاد": أي: مانع من دخول الناس، وقولهم:"حدود الله محارمه" أي: تمنع المؤمنين من الوقوع في شيء فيه حدّ من حدود الله، وتحرِّم عليهم الوقوع فيها، وهو في الاصطلاح: عقوبة مقدَّرة شرعًا بسبب فعل معصية كالزني، والقذف، والسرقة، وشرب الخمر، ونحوها - مما سيأتي-، فإن قلت: لِمَ جُعل كتاب الحدود بعد كتاب الجنايات والديات؟ قلت: للتناسب والتلائم بينها! إذ القصاص، والديات والكفارات والحدود عقوبات تمنع من الوقوع في مثلها، فإن قلت: لم شُرعت الحدود؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن في إقامة الحدود على العصاة منع لهم ولغيرهم من أن يعتدوا على أعراض وأموال، ونسل، وعقول الآخرين، وهو: إحسان ورحمة من الله لعباده: إذ لا عيش المجتمع إلا إذا عُوقب العاصي والمعتدي بعقوبات مقدَّرة من الشارع كالحدود أو غير مقدّضرة كالتعزيرات، فإقامتها من أعظم المصالح ودفع المفاسد في العاجل والآجل للعباد والبلاد وفي المعاش، والمعاد، وترك إقامتها من أعظم المفاسد للمجتمع، إذ لا يتم أمر، ولا نهي لأي =

ص: 144

.

(2)

(لا يجب الحد إلّا على بالغ عاقل)؛ لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة"

(3)

(ملتزم) أحكام المسلمين: مسلمًا كان أو ذميًا،:

= حاكم مهما كان إذا تُركت إقامتها، أو تدخَّلت الشفاعات والمحسوبيات في عدم إقامتها على بعض الناس.

(2)

مسألة: تجب إقامة الحدود على العصاة - على حسب ما قدره الشارع؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك، ومستند ذلك الكتاب والسنة كما سيأتي ذكر الآيات والأحاديث الدالّة بصراحة على وجوب إقامة الحدود.

(3)

مسألة: في الأول - من شروط من يقام عليه الحد- وهو: أن يكون مكلَّفا- أي: بالغ عاقل -، فإن كان من زنا، أو سرق - أو فعل أي شيء فيه حد - صبيًا، أو مجنونًا أو كان في حال فعله لهذا نائمًا: فلا يُقام عليه الحد؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ". حيث دلّ هذا بمنطوقه على عدم تكليف الصبي، والمجنون، والنائم وهم في حال الصبا، والجنون، والنوم، فإذا سقطت جميع التكاليف، وهم في هذه الحالة: من عبادات، وسقطت عنهم الآثام في المعاصي، فإن الحدود تسقط عنهم إذا فعلوا من المعاصي ما يقتضيها، وهم في تلك الحالة، ودلَّ مفهوم الغاية من الحديث على أنه إذا بلغ الصبي وعقل المجنون، واستيقظ النائم: فإنهم سيُكلَّفون كغيرهم، ثانيهما: أنه عليه السلام لما أراد رجم ماعز - لمَّا زنا - سأل عنه قائلًا: "أمجنون هو؟ " قالوا: ليس به بأس، فلم يسأل عنه عليه السلام هذا إلا لغرض وعلَّة؛ حفاظًا لكلام النبي عليه السلام عن اللغو، فيلزم من هذا السؤال: أن المجنون لا يُرجم؛ لأن السؤال كالمعاد في الجواب، والتقدير: إذا كان مجنونًا: فلا يحد"، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن مجنونة زنت في عهد عمر، فأراد عمر أن يرجمها، فمنعه علي، مستدلًا بالحديث السابق. الثالثة: القياس الأولى، بيانه: كما أن الصبي والمجنون تسقط عنهما التكاليف في العبادات، والآثام إذا فعلوا بعض المعاصي =

ص: 145

بخلاف الحربي، والمستأمن

(4)

(عالم بالتحريم)؛ لقول عمر، وعثمان، وعلي:"لا حدَّ إلّا على من علمه"

(5)

(فيقيمه الإمام أو نائبه) مطلقًا: سواء كان الحد الله كحد الزنى،

= فمن باب أولى أن تسقط عنهما الحدود، لكون الحدود تدرأ وتسقط بالشبهات، فإن قلت: كيف يقع الزنى في النوم ولو أقرّ به هل يقام عليه حد الزنى؟ قلتُ: مثل أن يزني رجل بنائمة، أو هي تستدخل ذكر نائم، فهذا النائم لا يُقام عليه حد الزنى، ولو أقرَّ النائم بأنه زنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون كلام النائم لا يُعتبر، ولا يُعتدُّ به، ولا يدل على حجة مدلوله: أن لا يُؤاخذ على إقراره بما فعله وهو نائم.

[فرع]: إذا كان الجنون غير مطبق - أي: يفيق أحيانًا -: فإن الحد يقام عليه إذا علم وقت إفاقته أما إذا لم يعلم: فلا يقام عليه حد، للسنة السابقة الذكر.

(4)

مسألة: في الثاني - من شروط مَنْ يُقام عليه الحد - وهو: أن يكون ملتزمًا بأحكام المسلمين، في ضمان النفس، والمال والعرض، وإقامة الحدود ونحو ذلك: سواء كان مسلمًا، أو ذميًا، أما إن كان غير ملتزم بذلك كالكافر الحربي، والمستأمن: فلا تُقام عليهما الحدود المتعلِّقة، بحقوق الله كالزنى، أما الحدود المتعلِّقة بحقوق الآدميين كالقذف، ونحوه: فإنها تُقام عليهما؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب حيث قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وإقامة الحدود عليهم حكم بما أنزل الله، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون المسلم والذمي ملتزمين بأحكام الإسلام: إقامة الحدود عليهما؛ لأنها من ضمن الأحكام، ويلزم من كون الحربي والمستأمن: لم يلتزما بها: عدم إقامتها عليهما، لكونهما غير مكلَّفين بفروع الإسلام، ويلزم من كون الحقوق للآدميين - كالقذف، والسرقة -: وجوب إقامة الحدود فيها على الحربي والمستأمن؛ لكونه من باب الحكم الوضعي؛ حيث وجد السبب: فلا بد أن يوجد الحكم.

(5)

مسألة: في الثالث - من شروط من يقام عليه الحد - وهو: أن يكون عالمًا بتحريم =

ص: 146

أو لآدمي كحد القذف؛ لأنه يفتقر إلى اجتهاد، ولا يؤمن من استيفائه الحيف، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه

(6)

، ويُقيمه (في غير مسجد) ويحرم فيه؛ لحديث حكيم بن حزام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يستقاد بالمسجد وأن تُنشد

= ما تقتضي تلك الحدود: كالزنى، والسرقة، وشرب الخمر، والقذف وغيرها، فإن كان جاهلًا بحكم التحريم كأن يجهل تحريم الزنى، أو السرقة فيزني، أو يسرق، أو كان عالمًا بالتحريم، ولكنه يجهل عين المرأة كأن يتزوج امرأة فيُزفُ إليه امرأة أخرى فيظنها زوجته فيُجامعها، أو يُدفع إليه غير جاريته التي اشتراها فيطأها وهو يظنها جاريته: فلا يُقام على هذا حد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" والجهل شبهة، فلا يقام الحد لأجل ذلك، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر، وعثمان، وعلي، ورد عنهم:"أنه لا حدَّ إلا على من علمه"، وثبت أن عثمان قد أراد أن يرجم رجلًا قد زنا، فلما أصبح حدَّث الناس بما فعل، فمنعه علي حتى ينظر في الرجل، فلما استُدعي من الشام: وسُئل عن أحكام الإسلام وُجد أنه جاهل بها، فلم يُحد، فإن قلت: لَم شُرع هذا؟ قلت: لأنه معذور بالجهل.

(6)

مسألة: لا يجوز أن يقيم الحد إلا الإمام، أو نائبه مطلقًا سواء كان الحد الله تعالى كحد الزنى، أو لآدمي كحد القذف؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن كون إقامة الحد مفتقر ومحتاج إلى اجتهاد - في توفّر شروط من يقام عليه ونحو ذلك - وكون استيفاء الحد لا يؤمن الحيف والزيادة على الواجب، وكون الإمام نائبًا عن الله في خلقه يلزم ذلك كله: أن لا يُقيمه إلا الإمام أو نائبه؛ لعدم قدرة غيره على ذلك، وهذا هو المقصد منه، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي كانوا يتولَّون إقامة الحدود، ويُنيبون غيرهم من ولاتهم في أطراف الدولة الإسلامية من أجل إقامتها عليهم.

ص: 147

الأشعار، وأن تُقام فيه الحدود"

(7)

، وتحرم شفاعة، وقبولها في حد الله تعالى بعد أن يبلغ الإمام

(8)

، ....................

(7)

مسألة: لا يجوز أن يقام الحد في أي مسجد يُصلَّى فيه؛ للسنة القولية: حيث نهى عليه السلام "عن أن تقام الحدود بالمسجد" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، فإن قلت: لم كان ذلك محرمًا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن إقامة الحدود في المسجد يؤدِّي إلى تلوّث وتلطيخ المسجد بما يخرج من المحدود عادة من قاذورات أثناء عملية العقوبة بالحد فدفعًا لذلك: شرع عدم الجواز هنا.

[فرع]: إذا تمّت إقامة الحد في المسجد: فإنه يسقط الفرض ويصح إيقاعه فيه؛ للتلازم؛ حيث إن كون المقصود من إقامة الحدود - وهو الزجر والردع - قد حصل وكون المحدود نفسه لم يفعل ذلك: يلزم منه: سقوط الفرض عنه.

(8)

مسألة: تحرم الشفاعة في حد من حدود الله تعالى، ويحرم على الإمام أن يقبل تلك الشفاعة إذا بلغه الأمر؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد وجب" حيث بيَّن بمنطوقه على وجوب إقامة الحد إذا بلغ الإمام أما قبل ذلك: فلا مانع من الشفاعة والعفو، ثانيهما: قوله عليه السلام: "أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ " وذلك حين شفع أسامة في المخزومية التي سرقت - حيث إنه يلزم من هذا الاستفهام الإنكاري: عدم جواز الشفاعة في الحدود، إذا بلغت الإمام، الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال ابن عمر: "من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله: فقد ضاد الله في حكمه"، فقد حرم الشفاعة المانعة من إقامة الحدود؛ لأنه توعَّده بهذا الوعيد، وهو عقاب، ولا يُعاقب إلا على فعل محرّم، وقد ذهب إلى ذلك أيضًا من الصحابة الزبير، وعمَّار، وابن عباس، فإن قلت: لم شُرع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إنه لو دخلت الشفاعة والمحسوبية في الحدود لأفضى إلى عدم إقامة الحدود إلا على الضعيف الذي لا يجد من يشفع له، فتقع المفاسد العظيمة، ولا =

ص: 148

ولسيد مكلّف عالم به، وبشروطه إقامته بجلد

(9)

، ..........................................

= تستمر حياة مع شفاعات ووسائط ومحسوبيات، ولم يفسد الدول الإسلامية إلا ما حدث من شفاعات ومحسوبيات في ذلك.

[فرع]: يجوز أن يُلقَّن الذي فعل معصية توجب حدًا ليرجع عن إقراره به ليسقط عنه الحد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام لماعز: "لعلَّك قبَّلت أو لمست"، وقال لسارق:"ما أخالك سرقت" فهذه العبارات يلزم منها جواز تلقين فاعل المعصية عمومًا بشيء يسقط عنه الحد، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر قد أُتي بسارق فسأله: أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه، وروي معنى ذلك عن أبي بكر، وأبي هريرة، وابن مسعود، وأبي الدرداء، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن هذا يُعتبر من تيسير الإسلام.

(9)

مسألة: إذا كان المحدود عبدًا، أو أمة فلا يملك سيدهما أن يقيم الحد عليهما، ويُقيمه الإمام أو نائبه فقط - كما سبق في مسألة (6) - سواء كان الحد جلدًا أو قطعًا، وهو قول الحنفية، وبعض العلماء من غيرهم؛ لقواعد: الأولى: التلازم؛ حيث إن كون الحد يُشترط فيه شروط لا يُقام إلا باستكمالها، وهي دقيقة يندر من تكون فيه، وكونه يُخاف من الحيف والزيادة حين إقامته أو بعد ذلك: يلزم منه أن لا يُقيم الحد إلا الإمام أو نائبه؛ لأنه هو الذي يستطيع ذلك، ومعه من القوة والسلطنة ما يستطيع بها إلزام من يراه من الفقهاء بالنظر في هذا الأمر أو ذاك بخلاف السيد: فإنه يكون عامِّيًا غالبًا الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لا يُقيم القطع والقتل إلا الإمام فكذلك الجلد وغيره، والجامع: أن كلًا منها حدّ من حدود الله تعالى، ولا يؤمن فيه الحيف والزيادة، والمضاعفات، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن إقامة الحدّ من قبل الإمام أو نائبه يقطع عادة المنازعات والاختلافات، بخلاف ما إذا فعله السيد، فإن قلت: إن السيد المكلَّف، العالم بإقامة الحد =

ص: 149

وإقامة تعزير على رقيق كله له

(10)

(ويُضرب الرجل في الحد قائمًا)؛ لأنه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظَّه من الضرب

(11)

(بسوط) وسط (لا جديد ولا خَلِق) - بفتح

= وبشروطه يقيم الحد إذا كان جلدًا خاصة على عبده وهو قول المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وفاطمة بنت رسول الله عليه السلام، قلتُ: أما الحديث: فإنه يحتمل إقامة الحدود عليهم عند الإمام أو نائبه، وإذا تطرّق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، أما قول الصحابي: فهو اجتهاد، لا يقوى على معارضة ما ذكرناه من التلازم، والقياس، والمصلحة، ثم كل يدّعي توفر الشروط عنده في حين أنه خلاف ذلك. فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة، وقول الصحابي مع أدلّتنا: التلازم، والقياس، والمصلحة".

(10)

مسألة: يجوز للسيد أن يُعزِّر عبده أو أمته بأي عقاب يرى أنه سيؤدّبه به بشرط: عدم وصوله إلى عقاب حدّ من حدود الله تعالى؛ للقياس؛ بيانه: كما أن للسيد أن يؤدِّب زوجته، أو ولده، بما يراه مناسبًا لإصلاحه، وتهذيبه فكذلك يجوز له أن يفعل ذلك مع عبد أو أمته، والجامع: أن كلًا تام الولاية عليه، وهو قاصد الإصلاح والتهذيب، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه إصلاح المجتمع بذلك، وعدم الخوف من التبعات.

[فرع]: لا يجوز أن يُعزِّر السيد عبدًا له فيه شريك، أو أمة مزوَّجة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قصور ولايته عليه: عدم جواز تفرُّده بتعزيره وتأديبه.

(11)

مسألة: عندما يُجلد الرجل في حد من حدود الله - كحد القذف، وحد الزنى لغير المحصن، وحد شرب الخمر -: فإنه يُجلد وهو قائم، لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث إن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه ونصيبه من الضرب، فيلزم أن يُضرب وهو قائم؛ تحقيقًا لذلك؛ الثانية: قول الصحابي؛ حيث قال علي: "لكل موضع من =

ص: 150

الخاء-؛ لأن الجديد يجرحه، والخَلِق لا يؤلمه

(12)

(ولا يُمدُّ، ولا يُربط، ولا يُجرَّد)

= الحد حظ إلّا الوجه والفرج" وقال للجلاد: "اضرب وأوجع واتّق الرأس، والوجه" فإن قلت: لم يُعط كل عضو حقه من الضرب؟ قلتُ: لأن كل عضو نال من اللَّذة المحرمة، فيجب أن يناله شيء من العقاب، فإن قلتَ: إنه يجلد جالسًا، وهو رواية عن أحمد، وهو قول مالك، لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عدم الأمر بضربه قائمًا: أن يُضرب جالسًا، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن المرأة تضرب جالسة فكذلك الرجل، والجامع: أن كلًا منهما مجلود في حد قلتُ: أما التلازم فلا يصح؛ لأن الشارع لم يُبيّن الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها، فعلمناها من دليل آخر، وهما: التلازم، وقول الصحابي؛ حيث دلاَّ على القيام، أما القياس، فهو فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن المرأة قد أمر بجلدها وهي جالسة؛ لقصد سترها؛ لأنه يغلب على الظن أنها إذا قامت سيظهر منها شيء، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم وقول الصحابي اللذين ذكرناهما - مع التلازم والقياس اللذين ذكروهما".

(12)

مسألة: يُجلد في الحدود بسوط وسط، أي: لا يكون جديدًا شديد الضرب، ولا خَلِقًا ضعيف الضرب؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابي وقوله؛ حيث إن الخلفاء الراشدين ضربوا المحدودين بالسياط وقال علي: "ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين" والمراد: وسطًا لا شديد، فيقتل، ولا ضعيف فلا يردع، الثانية: المصلحة؛ حيث إن المصلحة تقتضي أن يُضرب المحدود ضربًا يؤلمه؛ لردعه وزجره، ولكن لا يجرحه فيكون قد زاد على الضرب فيكون حيفًا وظلمًا للمجلود، ونظرًا لذلك: شُرع ذلك وهو المقصد من ذلك، فإن قلت: يُضرب بالنعال والأيدي وأطراف الثياب وهو قول بعض العلماء؛ للسنة التقريرية: حيث إن النبي لما أُتي بشارب أمر بضربه قائلًا: "اضربوه" فقال أبو هريرة: "فمنَّا الضارب بيده، ومنّا الضارب بنعله، والضارب بثوبه" قلتُ: إن هذا كان =

ص: 151

المحدود من ثيابه عند جلده؛ لقول ابن مسعود: "ليس في ديننا مد، ولا قيد، ولا تجريد"(بل يكون عليه قميص، أو قميصان)، وإن كان عليه فرو، أو جُبَّة محشوة: نُزعت

(13)

(ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد)؛ لأن المقصود تأديبه، لا إهلاكه، ولا

= في أول الإسلام، ثم نسخ بالضرب بالسوط حيث ثبت عنه عليه السلام ذلك، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الضرب في غير السوط هل نسخ، أو لا؟ ".

(13)

مسألة: يُجلد المحدود وعليه قميص وقميصان وهو طبيعي الوقوف، فلا يُمد المحدود على الأرض، ولا يربط بحبل في رجليه أو يديه، ولا يُشدَّان، ولا يُجرَّد من ثيابه، وإن كان عليه جُبَّة، أو فروة، أو أيُّ شيء سميك: فإنه يُنزع؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي وفعله؛ حيث جلد الخلفاء الراشدون بدون قيد وربط ولا مد، ولا تجريد، بل يكون عليه القميص والقميصان، وقال ابن مسعود:"ليس في ديننا مد، ولا قيد ولا تجريد"، الثانية: التلازم؛ حيث إن المقصود بالضرب إيقاع الألم عليه، ووجود الجبة، أو الفروة، أو أي شيء سميك على المجلود يمنع إحساسه بالألم فشرع نزع ذلك؛ تحقيقًا لذلك المقصود. فإن قلت: لِمَ لا يُمدُّ، ولا يربط، ولا يجرَّد؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه إذا مُدَّ أو قيد، فسيكون الضرب على جهة واحدة مما سيؤثِّر عليها تأثيرًا بليغًا، دون الجهات الأخرى، وإذا جُرِّد فسيشق جلده بالضرب ويُتلفه، وهذا حيف، وظلم، بينما إذا جلد وعليه القميص، أو القميصان: فإن ذلك لا يمنع ألم الضرب، وسيحقِّق الغرض الذي من أجله شُرع الجلد: فشرع ما ذكرنا، فإن قلت: إنه يُجرَّد عند جلده، وهو قول مالك وبعض العلماء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من الأمر بجلده: مباشرة بدنه، ولا يكون ذلك إلَّا بتجريده، قلتُ: إن الله تعالى أمر بجلده، ولم يأمر بتجريده من ثيابه عند جلده ولا يلزم تجريده؛ لأن من جلد من فوق الثوب الخفيف فإنه يصدق عليه أنه جلد، ثم إن تجريده مخالف لما فعله الصحابة، ولقولهم، =

ص: 152

يرفع ضارب يده بحيث يبدو إبطه (و) سن أن (يُفرِّق الضرب على بدنه) ليأخذ كل عضو منه حظَّه، ولأن توالي الضرب على عضو واحد يؤدِّي إلى القتل، ويُكثر منه في مواضع اللحم كالإليتين، والفخذين، ويُضرب من جالس ظهره، وما قاربه

(14)

(ويتّقي) وجوبًا (الرأس، والوجه، والفرج، والمقاتل) كالفؤاد، والخصيتين؛ لأنه ربما أدَّى ضربه على شيء من هذه إلى قتله، أو ذهاب منفعته

(15)

(والمرأة كالرجل فيه)

= وللمصلحة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الأمر بجلد المحدود هل يلزم تجريده من ثيابه أو لا؟ فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(14)

مسألة: لا يجوز للذي يتولَّى الجلد أن يبالغ في جلد المحدود، ولعدم المبالغة في ذلك علامات: أولها: أنه لا يجلد إلّا بسوط وسط - كما سبق في مسألة (12) - ثانيها: أنه لا يرفع يده بحيث يظهر إبطه عند ضرب المجلود، ثالثها: أن يُفرِّق الضرب على بدنه: فيضرب كل عضو بشيء من الضرب، ولا يجعل الضرب أو أكثره على عضو واحد، رابعها: إذا انكشف الجلد بعد خرق القميص: عليه أن يتجنَّب ذلك الموضع المنكشف، خامسها: أن يُكثر الضرب على المواضع التي يكثر فيها اللحم عادة مثل: الإليتين، والفخذين، والظهر إن كان المجلود جالسًا، سادسها: أن لا يُمد المجلود ولا يُربط، ولا يُقيد، ولا يُجرَّد؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود من جلده: تأديبه، وإصلاحه، لا إهلاكه فيلزم من ذلك عدم جواز المبالغة في جلده في تلك العلامات الست، وهو المقصد منه. تنبيه: قوله: "ويسن" هذا غير مسلّم، بل يجب تفريق الضرب كما سبق بيانه.

(15)

مسألة: يجب على الضارب: أن يجتنب - أثناء ضربه - كلًا من رأس المجلود، ووجهه، وفرجه، وما هو مواجه قلبه، وخصيتيه ونحو ذلك من مقاتله؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن ضرب تلك المواضع قد يؤدِّي إلى إهلاكه، أو تلف بعض أعضائه: كالسمع، أو البصر، أو العقل أو نحو ذلك، أو يؤدي إلى ذهاب منافعه، فحماية ودفعًا له: شرع هذا وهو المقصد منه، وقد روي أن =

ص: 153

أي: فيما ذكر

(16)

(إلا أنها تضرب جالسة)؛ لقول علي: "تضرب المرأة جالسة والرجل قائمًا"(وتشد عليها ثيابها، وتُمسك يداها؛ لئلا تنكشف)؛ لأن المرأة عورة، وفعل ذلك بها أستر لها

(17)

، وتُعتبر لإقامته نية

(18)

، ...................

= رجلًا ضرب رجلًا آخر فأذهب سمعه، وبصره، ونكاحه، وعقله فقضى عليه عمر بأربع ديات، فهذا يدلّ على أن الضرب في هذه المواضع يؤدّي إلى ذلك، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عليًا قال: "لكل موضع من الجسد حظ إلّا الفرج والوجه".

(16)

مسألة: تجلد المرأة كجلد الرجل فيما سبق ذكره: من أنها تُجلد بسوط وسط - كما سبق في مسألة (12) - وتجلد وعليها قميص، أو قميصان، ولا تمد، ولا تربط ولا تقيد، ولا تجرَّد، ولا تُشد يداها ولا رجلاها، وإن كان عليها جُبَّة، أو فروة، أو أي شيء سميك: فإنه يُنزع - كما سبق في مسألة (13) -، ولا يجوز للذي يتولَّى الجلد أن يبالغ فيه أثناء جلدها -كما سبق في مسألة (14) -، ويجب على الضارب أن يجتنب الرأس منها، ووجهها، وفرجها، وقلبها، ونحو ذلك من مواضع مقاتلها -كما سبق في مسألة (15) -؛ لقول الصحابي، والمصلحة، والتلازم، وقد سبق بيانها في (12 و 13 و 14 و 15).

(17)

مسألة: عندما تُجلد المرأة في حدٍّ من حدود الله: فإنها تُجلد وهي جالسة، بعد سترها بثيابها، وشدِّها عليها ومسك يديها أثناء الجلد، لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام قال: "المرأة عورة" حيث يلزم من جلدها واقفة كشف عورتها، وهذا مخالف لذلك، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عليًا قال: "تُضرب المرأة جالسة، والرجل قائمًا" الثالثة: المصلحة؛ حيث إن ضربها جالسة أستر لها، ومسك يديها أثناء ضربها وشد ثيابها عليها فيه المحافظة عليها من أن تنكشف عورتها؛ منعًا للفتنة، وهو المقصد منه.

(18)

مسألة: يجب أن ينوي الضارب: أنه ضرب المجلود لإقامة حدّ من حدود الله تعالى، لكونه أمر به، وأن يقصد بذلك الإصلاح والتهذيب، ولو ضرب بدون =

ص: 154

لا موالاة

(19)

(وأشد الجلد) في الحدود (جلد الزنى ثم) جلد (القذف ثم) جلد (الشرب ثم جلد (التعزير)؛ لأن الله تعالى خصَّ الزنا بمزيد تأكيد بقوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} وما دونه أخف منه في العدد، فلا يجوز أن يزيد عليه في الصفة

(20)

.

تلك النية لصح الضرب والجلد، ولكنه يأثم؛ لعدم نيته؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إنما الأعمال

بالنيات" والضرب عمل فيجب أن يُنوى أنه الله تعالى.

(19)

مسألة: يُشترط في الجلد: الموالاة، وهي: التتابع في الضرب؛ للمصلحة: حيث إن المقصود منه التأديب والإصلاح والرَّدع والزَّجر، وهذا لا يكون إلّا بالتتابع في الضرب، فإن قلتَ: لا يُشترط ذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا، قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، وإذا لم يحصل التتابع في الضرب فلا يحصل ألم؛ حيث إن المقصود بالضرب إيلام المجلود، ولا يحصل ذلك بعدم التتابع.

(20)

مسألة: يجب أن يكون الجلد في الزنى لغير المحصن أشدّ من الجلد في القذف، والجلد في القذف أشد من الجلد في شرب الخمر، والجلد في شرب الخمر أشد من الجلد في التعزير؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى - في جلد الزنى -: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فخصَّ الشارع جلد الزناة غير المحصنين بهذه الخاصية ولم يذكر ذلك في غيره فلزم منه: أن الجلد في الزنى أشد من غيره، الثانية: التلازم؛ حيث إن كون الجلد في الزنى أعلاها عددًا - حيث إنه مائة جلدة للبكر - يلزم منه أن لا يزيد غيره عليه في الشدَّة، ولا يكون مثله؛ لأنَّه كلَّما خفَّ في عدده: كان أخف في صفته - وهو قوة الضرب - وأنَّه لا يجوز أن يزيد عليه في إيلامه ووجعه؛ لأنَّه يؤدّي إلى أن يكون الأقل عددًا والأشد ضربًا يساوي أو يزيد على الأكثر عددًا والأخفّ ضربًا، وهذا لم يقصده الشارع، ويلزم من كون مفسدة الزنا أعظم المفاسد؛ ثم يليه في عظم المفسدة القذف، ثم يليه في ذلك: شرب الخمر، ثم تلي ذلك المعصية التي تستلزم التعزير والتأديب: أن تكون =

ص: 155

ولا يؤخر حد لمرضٍ، ولو رُجي زواله

(21)

، ولا لحر، أو برد،

عقوبة الزنى أشد ثم تليها عقوبة القذف، ثم عقوبة الشرب، ثم عقوبة المعاصي الأخرى؛ فالعقوبة توافق العمل كما قال تعالى:{جَزَاءً وِفَاقًا} .

(21)

مسألة: إذا وجب حدٌّ على شخص مريض: ففي تأخير إقامة الجلد عليه أولا حالات: الحالة الأولى: إن كان الحدُّ رجمًا، أو قتلًا: فإنه لا تؤخر إقامة الحد عليه، بل يُقام حالًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون قتله متحتمًا: أن يُقام عليه الحد؛ لأن مآله إلى الموت، ولا يُنظر إلى مرضه، الحالة الثانية: إن كان الحدُّ جلدًا، ومرضه يُرجى بُرؤه وزواله: فإن الحد لا يُقام عليه، بل يُنتظر حتى يزول مرضه، ثم بعد ذلك يُقام عليه الحدُّ وهو قول الجمهور؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن في تأخيره إلى البرء، إقامة الحد على الكمال من غير إتلاف عضو أو منفعته فكان الأولى الأخذ به، الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن عليًا أخر إقامة الحد بحديثة عهد بنفاس فإن قلتَ: لا يؤخَّر إقامة الحد لأجل المرض، بل يُقام الحد حالًا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ القاعدتين: الأولى فعل الصحابي؛ حيث إن عمر أقام الحد على عثمان بن مظعون في مرضه، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من وجوب إقامة الحد على الفور، وعدم تأخير ما أوجبه الله بغير حجّة: عدم تأخيره لأي سبب قلتُ: أما فعل عمر، فيحتمل أن مرض عثمان كان مرضًا خفيفًا لا يمنع من إقامة الحدّ عليه بكماله وإذا تطرّق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، وأما التلازم: فلا نسلمه؛ لأنَّه يؤخر الحكم للعذر الشرعي كالمرض ونحوه بدليل الصلاة، وغيرها، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض أقوال الصحابة وأيضًا: "تعارض التلازم مع المصلحة" الحالة الثالثة: إن كان الحد جلدًا، ومرضه لا يُرجى برؤه وزواله: فإن الحد يُقام عليه حالًا، أي: يُجلد، ولا يُؤخَّر ذلك بشرط: أن يجلد بسوط يؤمن معه التلف، أو بشمراخ من النخل فإن خيف عليه الهلاك، أو تلف شيء من أعضائه: فإنه=

ص: 156

ونحوه

(22)

، فإن خيف من السوط: لم يتعيَّن، فيقام بطرف ثوبٍ ونحوه

(23)

................

يُجمع ضغثًا - وهو العذق - فيه مائة شمراخ فيضرب به ضربة واحدة، وإن كان فيه خمسون شمراخًا يُضرب به مرتين وهكذا، ويكفي ذلك؛ للسبر والتقسيم، بيانه: أنه إما أن يُقام عليه الحدّ على الطريقة التي ذكرناها، وإما أن لا يُقام عليه الحد، وإما أن يُضرب ضربًا كاملًا، والثاني لا يصح؛ لأنَّه مخالف للكتاب والسنة، والثالث لا يصح أيضًا؛ لأنَّه يفضي إلى إتلافه وهلاكه، أو إتلاف عضو من أعضائه فتعيَّن الأول، وهو: ما ذكرناه، فإن قلتَ: لا يُفعل ذلك، فلا يُجلد مرة واحدة بضغث فيه مائة شمراخ، وهو قول مالك،؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ و} والفعل والجلد بالعذق والضغث جلدة واحدة قلتُ: يجوز أن يُقام ذلك مقام مائة جلدة - بعدد الشماريخ - كما قال تعالى - بحق أيوب عليه السلام لما حلف ليضربنّ امرأته مائة جلدة ـ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، فيُستعمل ذلك في حال العذر، وما نحن فيه مثله، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الآيتين".

(22)

مسألة: إذا وجب حدٌّ على شخص فلا يُقام عليه في شدَّة حر، ولا في شدَّة برد، للمصلحة: حيث إن ذلك يُخشى منه تلف المجلود، أو تلف بعض أعضائه، فدفعًا لذلك، لا يُقام عليه حتى تزول هذه الشدَّة، ويكون الجو قريبًا من الاعتدال، فإن قلت: لا يُؤخَّر الحدُّ؛ لأجل ذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن عمر قد أقام الحد على عثمان بن مظعون وهو مريض فكذلك يقام الحد في حال البرد والحر، قلتُ: إن أي حكم يؤخَّر لأجل أيِّ عذر شرعي، وهذا - وهو شدَّة الحر أو البرد - من الأعذار، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع المصلحة".

(23)

مسألة: إذا وجب حدٌّ على شخصٍ، وخيف عليه من الضرب بالسوط أن يتلف=

ص: 157

ويؤخَّر لسكر حتى يصحو

(24)

(ومن مات في حد: فالحق قتله) ولا شيء على من حدَّه؛ لأنَّه أتى به على الوجه المشروع بأمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم

(25)

، ومن زاد ولو جلدة، أو في السوط،

بسببه: فإنه يُضرب بطرف ثوب، أو نعال، أو شمراخ عذق نخل أو بعذق فيه مائة شمراخ مرَّة واحدة، أو بعذق فيه خمسون شمرخًا مرتين، وهكذا أو بأي شيء يؤمن منه عدم إتلافه؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "اضربوه بمثكال فيه مائة شمراخ" وهو نص في المسألة. الثانية: القياس على جلد المريض مرضًا لا يُرجى برؤه وزواله - كما سبق بيانه في الحالة الثالثة حالات من مسألة (21) فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة هذا المحدود، وحمايته من التلف.

(24)

مسألة: إذا وجب حدٌّ على شخصٍ، وكان هذا الشخص في حالة سكر، فيجب أن يؤخَّر إقامة الحد حتى يصحو ويزول سكره، وإن أُقيم عليه وهو في حالة سكره: فلا يسقط عنه، ويجب أن يُعاد إذا زال عنه السكر؛ للمصلحة: حيث إن المقصود من الحد هو الزجر والرَّدع، وإحساسه بالألم، ولا يحصل ذلك إذا أُقيم وهو في حالة السكر، لذا لا يقع، موقعه ولا يوافق محلَّه، فلذلك شرع هذا.

(25)

مسألة: إذا حُدَّ شخص بجلد، ثم مات المحدود: فلا شيء على من حدَّه، بشرط: أن لا يزيد في عدد الجلدات، وأن يكون الجلد في وقته، دون مانع أو عذر شرعي: من مرض أو حر، أو برد شديدين، للقياس: بيانه: كما أنه لو قُطعت يده قصاصًا وسرى ذلك إلى سائر بدنه فمات: فلا شيء على القاطع، فكذلك إذا جلد الجلد الشرعي فمات لا شيء على القائم بالجلد، والجامع: أن كلًا منهما قد أتى بما أمر به الله تعالى، وأمر به رسوله عليه السلام على الوجه المشروع، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو ضمن من قام الحد ذلك: لما أُقيم حدٌّ من حدود الله تعالى.

ص: 158

أو بسوط لا يحتمله فتلف المحدود: ضمنه بديته

(26)

(ولا يُحفر للمرجوم في الزنى) رجلًا كان أو امرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية، ولا لليهوديين

(27)

، لكن تُشدُّ على المرأة ثيابها؛

(26)

مسألة: إذا حُدَّ شخص بجلد، ثم زاد القائم بالجلد جلدة واحدة، أو ضربه بسوط لا يحتمله، أو ضربه بسوط، وهو لا يحتمل إلا الضرب بأطراف الثياب، أو النعال فمات ذلك الشخص المحدود: فإن من قام بالضرب يضمنه بديته الكاملة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو ضربه في غير حدّ - لتأديبه - فبالغ بالضرب بشهادة أصحاب العقول السليمة حتى مات -: فإنه يضمنه بدفع ديته كاملة، فكذلك ما نحن فيه، والجامع: وقوع الإتلاف بسبب عدوانه، فإن قلت: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه منع القائم بالضرب والحد من الاعتداء على المجلود بزيادة، أو شدَّة بالضرب غير معهودة، وهذا منتهى الإنصاف؛ حيث حمت الشريعة العاصين من الاعتداء عليهم.

(27)

مسألة: إذا كان الحد رجمًا بالحجارة - وهو الشخص الزاني المحصن -: فإنه لا يُحفر للمرجوم حفرة يُجعل فيها حتى لا يتمكَّن من الهرب، بل يُرجم، وهو واقف، أو جالس: سواء كان المرجوم رجلًا، أو امرأة، وسواء ثبت الزنى بإقرار الزاني به، أو ثبت بالبيِّنة عليه أنه زنى؛ لقاعدتين: الأولى: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام لم يحفر لماعز، ولا للجهنية، ولا لليهوديين لما رجموا - بسبب زناهم - ولم يأمر بالحفر قال أبو سعيد:"لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعز خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا، له ولا أوثقناه ولكن قام لنا" الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون الحفر عقوبة لم يرد بها الشرع: عدم ثبوتها، فإن قلتَ: إن ثبت زنى المرأة بإقرارها لم يُحفر لها، وإن ثبت بالبيِّنة حُفر لها، وهو قول كثير من الشافعية وبعض الحنابلة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه روي أن النبي عليه السلام رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة - كما رواه بريدة - قلتُ: إن هذا لا يجوز أن يحتجوا به؛ لأن كثيرًا من رواهُ هذا الحديث ذكروا أنه ثبت زناها بإقرارها، وهذا =

ص: 159

لئلا تنكشف

(28)

، ويجب في إقامة حد الزنى حضور إمام، أو نائبه

(29)

، وطائفة من المؤمنين ولو واحدًا

(30)

، وسن حضور من شهد وبداءتهم برجم

(31)

.

مخالف لما قرَّروه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في حديث بريدة هل ثبت زناها بإقرارها، أو بالبيِّنة؟ ".

(28)

مسألة: يجب أن تُشدُّ على المرأة ثيابها عند رجمها ـ إذا ثبت زناها -؛ للسنة القولية: حيث إنه عليه السلام أمر أن تشدُّ عليها ثيابها" فإن قلتَ: لم شُرع هذا؟

قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أكمل لسترها، وهو مقصد من مقاصد الشريعة.

(29)

مسألة: يجب على الإمام أو نائبه: أن يحضر إقامة حد الزني، وكل حدّ من حدود الله سواء كان الله أو كان لآدمي؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" حيث كلَّف رسول الله، نائبًا عنه، وهو: أنيس بأن يقيم الحد على امرأة العسيف إذا اعترفت به، الثانية: القياس؛ بيانه: كما يجب على الإمام أو نائبه أن يحضر استيفاء القصاص، فكذلك الحال هنا والجامع: أن الإمام أو نائبه يُعتبر نائبًا عن الله تعالى في إقامة الحدود، فلا بدّ من حضوره.

(30)

مسألة: يجب أن تحضر طائفة من المؤمنين إقامة حدّ الزنى، وهم ثلاثة فأكثر، ولو حضر الإمام أو نائبه مع القائم بالضرب، والشاهد لكفي؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} والطائفة تطلق على الجمع، وأقل الجمع ثلاثة حقيقة - كما فصَّلتُ ذلك في كتابي:"أقل الجمع عند الأصوليين وأثر الاختلاف فيه" تنبيه: قوله: "ولو واحدًا" هذا لا يصح؛ لأن أقلّ ما يطلق عليه طائفة جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وقد سبق بيانه وقد تُطلق على الواحد ولكن هذا نادر، وليس مقصودًا في هذه الآية.

(31)

مسألة: إذا ثبت الزنى بالبيِّنة - وهي شهادة الشهود - وقبلها الإمام أو نائبه:=

ص: 160

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فيُستحبّ أن يبدأ الإمام أو نائبه، بالرجم، ثم الشهود، ثم سائر الناس؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن علي رضي الله عنه، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك أبعد عن التهمة في الكذب عليه.

هذه آخر مسائل: "تعريف الحدود، وحكمها، وشروط من تجب عليه، ومَنْ يقيمها؟ وأين؟ والشفاعة فيها، وكيفية الضرب في الحد، وأشد الجلد، وحكم من مات في حد، وحكم الحفر للمرجوم، وحضور إقامة الحد" ويليه باب "حد الزنى".

ص: 161

‌باب حدِّ الزِّنى

وهو: فعل الفاحشة في قُبُل، أو دُبُر

(1)

(إذا زنا) المكلَّف (المحصن: رُجم حتى يموت)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام، وفعله، ولا يُجلد قبله، ولا يُنفى

(2)

(والمحصن:

‌باب حدِّ الزِّنى

وفيه أربع عشرة مسألة:

(1)

مسألة: الزنى لغة واصطلاحًا هو: "الفجور وفعل الفاحشة في قُبُل، أو دُبُر" أو تقول: هو: كل وطءٍ وقع على غير نكاحٍ صحيحٍ، ولا شبهةِ نكاحٍ، ولا ملكِ يمين"، والمراد منه: إذا وطئ رجل من أهل دار الإسلام امرأة محرمة عليه من غير عقد، ولا شبهة عقد، وغير ملك، ولا شبهة ملك وهو عاقل بالغ مختار عالم بالتحريم: وجب عليه الحد، وهو: الجلد مائة جلدة إن كان غير محصن، والرجم إن كان محصنًا، فإن قلتَ: لَمِ جعل هذا الباب هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لما تكلَّم عن أحكام الحدود بصورة عامة: بدأ بذكر تفصيل الحدود فبدأ بحد الزنا، فإن قلتَ: لَمِ بُديء بحد الزنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الزنى من الكبائر العظام، وهو من أكبر الذنوب بعد الشرك والقتل، وهو يُعتبر من أمهات الجرائم عند أهل الإسلام وعند جميع أهل الملل السابقة، وهو جناية عظمى على الأعراض والأنساب، ومفسد للمجتمعات، ومفرّق لها، ومسبب لكل الجرائم الأخرى من قتل، وفساد ذريع، وهو مسبب للأمراض المستعصية، ولهذا كان حدُّه أشد الحدود، قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} وقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} .

(2)

مسألة: إذا زنا المكلَّف - وهو: البالغ العاقل -المحصن - وهو: الثيب-: فإن عقوبته: أن يُرجم بحجارة متوسطة - مثل الحجر الذي في حجم كف الرجل المتوسط في خِلْقته -=

ص: 162

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حتى يموت: رجلًا كان أو امرأة، ثم يفعل به ـ كما يُفعل بالميت: من تغسيل، وكفن، وصلاة عليه، ودفن، ولا يُجلد قبل رجمه، ولا يُنفى؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال تعالى - فيما نسخ لفظه دون حكمه -: {والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله} الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد رجم ماعزًا، والغامدية، ولم يجلدهما، ولم ينفهما الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن المرتد يقتل بدون جلد، ولا نفي، فكذلك الزاني المحصن والجامع: أن كلًا منهما حدّ فيه قتل، فلم يجتمع معه جلد، الرابعة: التلازم؛ حيث يلزم من وجود قتل بالرجم: سقوط ما سواه، الخامسة: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن عمر وعثمان قد رجما ولم يجلدا، وقال ابن مسعود:"إذا اجتمع حدَّان فيهما القتل أحاط القتل"، فإن قلتَ: إن الزاني المحصن يجلد ثم يُرجم، وهو رواية عن أحمد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث روى عُبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال: "والثيب بالثيب الجلد والرجم" فجمع بينهما هنا وهو واضح الدلالة، الثانية: قول الصحابي وفعله؛ حيث إن عليًا قد جلد امرأة قد زنت ثم رجمها، وقال: جلدتها بكتاب الله - يقصد قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} - ثم قال: ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد حديث عُبادة السابق - وروى ذلك ابن عباس، قلتُ: أما السنة القولية - وهو حديث عبادة - فقد كان في أول الإسلام، فجاءت بعد ذلك قصة ماعز، ورجمه ولم يجلده فيكون ذلك آخر الأمرين، فتكون السنة الفعلية ناسخة لما ورد من الجلد في السنة القولية؛ نقل الأثرم، وإسماعيل بن سعيد عن أحمد أنه قال:"حديث عبادة كان أول حديث نزل، وأن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله عليه السلام ولم يجلده، وعمر رجم ولم يجلد"، أما فعل الصحابي وقوله - وهو علي -: فإنه معارض بالسنة الفعلية، وإذا كان الأمر كذلك: فلا يُحتج به، وكذلك معارض بقول وفعل صحابي آخر - وهو قول وفعل عمر، وعثمان، وإذا تعارضت أقوال وأفعال الصحابة:=

ص: 163

من وطئ امرأته المسلمة، أو الذمية) أو المستأمنة (في نكاح صحيح) في قُبُلها (وهما) أي: الزوجان (بالغان، عاقلان حرَّان، فإن اختلَّ شرط منها) أي: من هذه الشروط المذكورة (في أحدهما) أي: أحد الزوجين: (فلا إحصان لواحد منهما)

(3)

،

تساقطت، ويُرجع إلى دليل آخر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين" وأيضًا: "تعارض قول وفعل الصحابي مع السنة الفعلية" وأيضًا: " تعارض أقوال الصحابة"، فإن قلتَ: لَمِ يُرجم الزاني المحصن وهي عقوبة مغلَّظة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الزنى غاية في القبح، فيُجازى بما هو غاية من العقوبات الدنيوية، وذلك لأن الثيب والمحصن لا يكون كذلك إلا إذا كان متزوجًا، وهو في ذلك قد أحرز نفسه واستغنى عن الفروج المحرمة، فلم يفعل الزنى إلّا لأنَّه أراد مخالفة الشارع؛ لكونه لا عذر له، فلذلك غُلِّظت له العقوبة كما قال عليه السلام:"ثلاثة لا يظلّهم الله في ظلَه يوم لا ظل إلّا ظله، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان وعائل مستكبر، وملك كذاب" فهؤلاء لا عذر لهم فيما فعلوه: فلذلك كان عليهم هذه العقوبة المغلظة فإن قلتَ: ما سبب تقديم "الزانية" على "الزاني" في الآية السابقة بينما قدم السارق على السارقة في آية السرقة؟ قلتُ: لأن المرأة الفاسقة هي أصل الفساد في كل مجتمع فهي التي تُغري الرجال في الوقوع بالفاحشة، لذلك بدأ الشارع بذكرها للتنبيه على ذلك، والحذر من النساء الفواسق، والعاهرات، بخلاف آية السرقة.

(3)

مسألة: يكون الشخص - من رجل أو امرأة - محصنًا وثيبًا يُرجم إذا زنى إذا توفّرت فيه شروط ثلاثة: أولها: أن يكون مكلَّفًا - أي: بالغ عاقل - ثانيها: أن يكون حرًا، ثالثها: أن يكون قد جامع زوجته في نكاح صحيح في قبلها: سواء كانت مسلمة، أو ذمية، أو مستأمنة، فإن كان أحد الزوجين صغيرًا، أو مجنونًا، أو رقيقًا، أو لَمِ يجامع زوجته في قبلها، أو جامعها في قبلها ولكن بنكاح غير صحيح فإنه غير محصن فإذا زنا: يُجلد، ولا يُرجم؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث

ص: 164

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} يقصد: المتزوجات، الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "الثيب بالثيب الجلد والرجم" والثيوبة تحصل بالوطء في القُبُل، دون الدُّبُر، ولا يكون الشخص - من رجل أو امرأة - ثيبًا إلّا إذا بلغ وعقل، ثانيهما: أن ابن عمر قال: "جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلًا وامرأة زنيا "فأمر بهما عليه السلام فرُجما" فدل هذا على أن الإسلام لا يُشترط في الإحصان، فلو تزوَّج مسلم ذمية فجامعها: فإنه يكون محصنًا، الثالثة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على اشتراط الحرية في الإحصان، فلو زنى عبد بأمة ثيب وهما ثيبان: فلا يرجمان، ومستند ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} والرجم لا ينتصف، وإيجابه كله يُخالف النص، وما نُقل من مخالفة أبي ثور والأوزاعي لا يُلتفت إليه؛ لأن الإجماع منعقد على ما قلناه قبل ولادتهما، الرابعة: القياس؛ بيانه: وهو من وجهين: أولهما: كما أن وطء الشبهة لا يحصل به الإحصان، فكذلك وطء في نكاح غير صحيح، والجامع: أن كلًّا منهما وطء في غير ملك، ثانيهما: كما أن الجناية بالزنا ومفاسده استوت من المسلم والذمي، والمستأمن فكذلك يجب أن يستويا في الحد، فإن قلتَ: إن الذمية لا تحصن المسلم، وهي رواية عن أحمد، وهو قول مجاهد والثوري وغيرهما؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أشرك بالله فليس بمحصن" - كما رواه ابن عمر - قلتُ: إن هذا الحديث لم يصح عند كثير من علماء الحديث، وقال بعضهم: إنه موقوف على ابن عمر فلا يقوى على معارضة السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام قد رجم اليهوديين، وعلى فرض صحته: فإنه يمكن الجمع بينهما بأن يُحمل حديثهم على إحصان القذف، وسبب هذا الجمع: أن حديثنا - وهو رجم اليهوديين - صريح فإن قلتَ: إنه حكم على اليهوديين بالرجم بحكم التوراة؛ لكونه قد راجعها فوجد الرجم فيه=

ص: 165

ويثبت إحصانه بقوله: "وطأتها" ونحوه، لا بولده منها مع إنكار وطئه

(4)

(وإذا زنى) المكلَّف (الحر غير المحصن: جُلد مائة جلدة)؛ لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (وغُرِّب) أيضًا مع الجلد (عامًا)؛ لما روى الترمذي عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب وغرَّب، وأن أبا بكر ضرب وغرَّب، وأن عمر ضرب وغرَّب

(5)

(ولو) كان المجلود (امرأة) فتُغرَّب مع محرم، وعليها أجرته، فإن

قلتُ: إنه حكم عليهما بحكم الإسلام؛ إذ لا يسوغ للنبي عليه السلام أن يحكم بغير شريعته، وإنما راجع التوراة؛ ليثبت لهم أن شريعتهم لا تخالف شريعتنا في ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين القوليتين".

(4)

مسألة: يثبت إحصان الرجل بقوله: "إني قد جامعتها، أو وطئتها" وكذلك يثبت إحصان المرأة بذلك، ولذلك لو كان لرجل ولد من امرأة، ونفى أن يكون قد وطئها: فإنه لا يثبت إحصانه، فإذا زنى لا يُرجم، وكذلك لو كان العكس: بأن كان للمرأة ولد منه، ونفت أن يكون قد وطئها: فإنه لا يثبت إحصانها، فإذا زنت فلا تُرجم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تلك العبارة: التصريح بحقيقة الوطء، ويلزم من نفي وإنكار الرجل - أو المرأة - الوطء: عدم ثبوت إحصان كل منهما؛ ولو كان له ولد، منها، أو لها ولد منه؛ لكون ذلك يكون في درجة إمكان الوطء، والإحصان لا يثبت إلّا بحقيقة الوطء.

(5)

مسألة: إذا زنى الذكر المكلّف الحر غير المحصن - وهو البكر -: فإنه يُجلد مائة جلدة، ويُغرَّب عاماً كاملًا إلى بلد آخر يبعد عن بلده مسافة قصر - وهي (82 كم) -؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وخُصِّص ذلك بالزاني البكر المكلَّف - البالغ العاقل - والحر، والذي خصَّصه بذلك عدَّة مخصصات أولها: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام "الثيب بالثيب الجلد والرجم" فخرج المحصن، وقوله عليه السلام:"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق" حيث دلّ=

ص: 166

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بمنطوقه على أنه لا تكليف عليهما، فلا يؤاخذان بما يفعلانه، فاشترط البلوغ والعقل، ثانيها: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد رجم ماعزًا، والغامدية، فخرج المحصن، ثالثها: القياس؛ بيانه: كما أن الأمة تجلد خمسين جلدة إذا زنت؛ لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، فكذلك العبد مثلها في ذلك؛ لعدم الفارق، فخرج العبد، والخلاصة: أن آية الزنا قد خُصِّصت بالزاني البكر المكلف الحر، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وخصِّصت المصلحة ذلك بالذكر؛ لأن المرأة لو غرِّبت لكان إفسادًا لها، وسيأتي بيانه. الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام: "جلد وغرَّب" الرابعة: فعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر وعمر قد جلدا البكر الزاني، وغرَّباه، فإن قلتَ: إن حد الزاني البكر جلد مائة جلدة فقط، بدون تغريب، وهو قول أبي حنيفة، وبعض الحنفية؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فأمر بالجلد فقط، والتغريب زيادة على النص القرآني، فلا يُعمل به لأن الزيادة هنا نسخ، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر قد غرَّب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصَّر فقال عمر: والله لا أغرِّب مسلمًا أبدًا" قلتُ: أما الكتاب فقد ورد فيه الجلد، والتغريب ورد بالسنة، وهي زيادة غير مستقلَّة، فلا تكون نسخًا؛ لأن حقيقة النسخ هو: رفع حكم الخطاب وإزالته، والخطاب وحكمه - وهو: وجوب جلد الزاني البكر مائة جلدة باق لَمِ يختلف ولم يتغيّر، ولم يرتفع، بل انضم إليه حكم آخر - وهو التغريب الوارد بالسُنّة - وقد فصَّلتُ الكلام في ذلك في كتابي: إتحاف ذوي البصائر (2/ 464)، وأما قول الصحابي - وهو قول عمر -: فقد ورد في تغريبه في الخمر، وهذا غير ما نحن فيه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الزيادة على النص هل هي نسخ أو لا؟ ".

ص: 167

تعذَّر المحرم: فوحدها إلى مسافة قصر

(6)

، ..................

(6)

مسألة: إذا زنت الأنثى المكلَّفة، البكر - وهي غير المحصنة - الحرَّة: فإنها تجلد مائة جلدة فقط، ولا تغرَّب: سواء وجدت محرمًا، أو لا وهو قول مالك، والأوزاعي، وكثير من الحنابلة لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلّا مع ذي محرم" فحرَّم سفرها إلّا مع محرم، وإن غُرِّب المحرم معها عُوقب مثلها من غير ذنب صدر منه وهذا لا يأتي به الشرع - وسيأتي زيادة لذلك- الثانية: السبر والتقسيم، بيانه: إما أن لا تغرَّب المرأة الزانية، وإما أن تغرَّب بمفردها، وإما أن تغرَّب مع محرم لها بدون إعطائه أجرته، وإما أن تغرَّب به ويُعطى أجرته من مالها، فهذه أربعة أقسام، أما الثاني - وهو تغريبها بمفردها - فباطل؛ لأن هذا مساعدة لها في الفجور، وتضييع لها، بدلًا صيانتها وحفظها، وأما الثالث - وهو تغريبها مع محرم بدون أجرة له - فهذا باطل أيضًا؛ لأنَّه عقاب لشخص غير مذنب، وهذا لا يرد في الشريعة، وأما الرابع - وهو: تغريبها مع محرم وتعطيه أجرة ذلك - فهو باطل أيضًا؛ لأن هذا زيادة على عقوبتها لَمِ يرد به الشرع، فلم يبق إلّا الأول -وهو: عدم جواز تغريبها إذا زنت-، فإن قلتَ: إن الرابع هو الصحيح، وهو أنها تغرَّب مع محرم وأجرته عليها، وإن تعذَّر المحرم: فإنها تغرب وحدها إلى مسافة قصر - وهو (82) كم) - وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"؛ وهذا عام للذكر والأنثى؛ لأن "البكر" اسم مفرد محلى بأل، وهو من صيغ العموم قلتُ: هذا مخصَّص بالذكر، والذي خصَّصه به أمور: أولها: السنة القولية؛ وهو قوله عليه السلام: "لا يحل لامرأة .. " ثانيها: السبر والتقسيم كما سبق بيانهما في هذه المسألة، ثالثها: التلازم؛ حيث يلزم من قوله عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام": عدم جواز زيادة العقاب على ذلك، وذلك =

ص: 168

ويُغرَّب غريب إلى غير وطنه

(7)

(و) إذا زنى (الرقيق) جلد (خمسين جلدة)؛ لقوله تعالى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} والعذاب المذكور في القرآن، مائة جلدة لا غير (ولا يُغرَّب) الرقيق؛ لأن التغريب إضرار بسيده

(8)

، ويجلد، ويُغرَّب

بمفهوم العدد، والصفة، ولكن لو دفعت الزانية أجرة المحرم الذي يُغرَّب معها: فإن ذلك لا يجوز؛ فيكون العمل بعموم الحديث الذي استدللتم به مخالفًا لما دلَّ عليه مفهومه، فيُعمل بالمفهوم وهو: عدم أخذ الزيادة على عقوبتها، رابعها: المصلحة؛ حيث إن تغريب المرأة إفساد لها، وتعريض لها للفتنة، لا سيما إذا كانت قد سبق فسادها وثبت - وهو زناها - فهو يعتبر من التشجيع على الزنا، فنظرًا لهذه الأمور الأربعة: خصصنا بها حديثكم - وهو: البكر بالبكر .. ": فلزم من ذلك كله: أن المرأة لا تغرَّب مطلقًا.

(7)

مسألة: إذا زنى شخص مكلَّف بكر حر في بلد غير بلده الأصلي: فإنه يُغرَّب إلى بلد غير بلده الأصلي؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من لفظ "التغريب": أن يُبعد إلى بلد ليس به له أنيس، فإذا غُرِّب إلى وطنه وبلده الأصلي: لَمِ يتحقق المقصود من التغريب فلا يقع موقعه، فلا يصح.

(8)

مسألة: إذا زنى الرقيق: فإنه يُجلد خمسين جلدة: سواء كان هذا الرقيق عبدًا أو أمة، وسواء كان محصنًا - وهو: الثيب - أو غير محصن - وهو البكر -، ولا يُغرَّبان؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} حيث إنه قد أوجب جلد الأمة خمسين جلدة إذا زنت والرجم لا يتبعَّض، فتحدَّد الجلد، والعبد مثلها؛ لعدم الفارق، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: لمن سأله عن الأمة إذا زنت ولم تحصن -: "إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير"؛ وقال علي: "إن أمة لرسول الله زنت فأمرني أن أجلدها" ولم يذكر التغريب في النقلين، والعبد مثلها؛ لعدم الفارق الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن =

ص: 169

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عقوبة الرقيق الجلد خمسون جلدة فقط: سواء كان ثيبًا أو لا، وسواء كان ذكرًا أو أنثى دون تغريب ثابت عن عمر: وعلي وابن مسعود، الرابعة: المصلحة؛ حيث إن تغريب العبد هو إلحاق الضرر بسيده؛ لأنَّه يُحرم من خدمته مدة تغريبه، والعبد الزاني يرتاح في ذلك التغريب، فدفعًا للضرر عن السيد: شرع عدم تغريبه، فإن قلتَ: إن كانا محصنين: فإنهما يُرجمان إذا زنيا وهو قول بعض العلماء كأبي ثور؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الثيب بالثيب الجلد والرجم" وهذا عام للأحرار والعبيد؛ لأن "الثيب" مفرد محلىَّ بأل، وهو من صيغ العموم قلتُ: إن مفهوم قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} ، وقول الصحابي قد خصَّصا ذلك العموم، وهو من باب "تخصيص عموم السنة بالكتاب"، و"تخصيص السنة بقول الصحابي"، فإن قلتَ: إن كانا محصنين - وهما المتزوجان -: فعليهما نصف الحد -وهو خمسون جلدة-، وإن كانا غير ذلك فلا حدَّ عليهما، وهو قول مروي عن ابن عباس؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} فيُفهم من لفظ "أُحصنَّ" أن يقيَّد الحكم بذلك، ولا حدَّ على غير المحصنات قلتُ: إن هذا مخالف للسنة القولية التي ذكرناها، والمفهوم لا يُعمل به إذا خالف منطوقًا، فإن قلتَ: إن الرقيق البكر إذا زنى يجلد خمسين جلدة، ويُغرَّب نصف عام، وهو قول الثوري، وأبي ثور؛ لقواعد الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} فيكون عليه نصف كل عقوبة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وهذا عام للأحرار والعبيد؛ لأن لفظ "البكر" مفرد محلى بأل، وهو من صيغ العموم، الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر جلد مملوكًا ونفاه إلى فدك قلتُ: أما الكتاب فإن التنصيف ينصرف إلى ما ذكر في القرآن فقط، وهو الجلد، وأما السنة القولية: فهي عامة، ولكن =

ص: 170

مبعَّض بحسابه

(9)

(وحد لوطي) فاعلًا كان أو مفعولًا (كزان): فإن كان محصنًا: فحدُّه الرجم، وإلا: جلد مائة وغرب عامًا، ومملوكه كغيره، ودُبُر أجنبية كلواط

(10)

(ولا

خصِّصت بالسنة القولية التي نقلها علي: وقول الصحابي، والمصلحة التي قد سبق ذكرها في أول هذه المسألة وأما فعل الصحابي، وهو - ابن عمر - فهو اجتهاد منه في حق نفسه، وقد أسقط حقه من خدمة العبد إذا غرَّبه، وهذا شأنه، لكن ليس بحجّة هنا؛ لمخالفته السنة القولية - كما سبق أن ذكرنا ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض العموم مع الخصوص من النصوص".

(9)

مسألة: إذا زنى شخص مبعَّض - وهو الذي بعضه حر، وبعضه الآخر عبد -: فإنه يجلد نصف جلد الحر - وهو خمسون جلدة، -ويجلد نصف جلد الرقيق ـ وهو خمس وعشرون-، ويُغرَّب نصف عام، ويكون ذلك من مدَّة حريته هو، لا من مدَّة سيده، فتكون عقوبته: خمس وسبعون جلدة، وتغريب ستة أشهر، ويُحسب ما زاد عن الحرية أو نقص بهذه الطريقة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من بيان حدّ الزاني الحر وبيان حد الزاني العبد: ما ذكرناه في المبعَّض.

(10)

مسألة: إذا فعل شخص فعل قوم لوط - وهو: أن يأتي الذكرُ الذكر من الدُّبُرَ: فإنه يُحدُّ بحد الزنا السابق: أي إن كان محصنًا - وهو الثيب المتزوج -: فإنه يُرجم، وإن كان غير محصن ـ وهو البكر غير المتزوج -: فإنه يجلد مائة، ويُغرَّب عامًا كاملًا، هذا إن كان حرًا، أما إن كان رقيقًا: فإنه يجلد خمسين جلدة، وهذا مطلق، أي: سواء كان فاعلًا أو مفعولًا به - مع الاختيار - وسواء كان الفاعل سيدًا للمفعول به أو لا، وسواء كان دُبُر أنثى أجنبية، أو ذكر؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إذا أتى الرَّجلُ الرجلَ فهما زانيان" فوصف من فعل اللواط: بأنه زان، فيلزم من ذلك: أن حكمه حكم الزاني وهو عام لما ذكرنا، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن من فعل الزنا يُفعل به ذلك، فكذلك اللوطي يُفعل به ذلك، والجامع أن كلًّا منهما إيلاج في فرج آدمي=

ص: 171

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مُشتهى. وهذا من باب "القياس في اللغة" وهو جائز عندنا، فيكون رجم اللائط المحصن، وجلد غير المحصن اللائط ثابت بنص الكتاب؛ حيث قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا

}، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: لكونه قريبًا من الزنا في عظم الإثم قال تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} وقال عليه السلام: "لعن الله من عمل عمل قوم لوط" وكرَّر ذلك، فإن قلتَ: إن حدَّ اللائط الرجم؛ وهو: رواية عن أحمد، وهو قول مالك؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما فعل بقوم لوط ذلك - حيث إنهم قد رُجموا بالحجارة - فكذلك من فعل مثل فعلهم، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن علي، وابن عباس قلتُ: أما القياس، فهو فاسد؛ لأنَّه قياس مع النص؛ حيث إنه ثبت بالسنة أن اللائط زان ولا حجة في قياس قد خالف نصًا أما قول الصحابي: فلا حجّة فيه أيضًا؛ لمخالفته للنص السابق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس وقول الصحابي اللذين ذكروهما مع السنة" وأيضًا: "تعارض القياسين"، فإن قلتَ: إن اللائط يُحرَّق، وهو قول بعض العلماء؛ لقول الصحابي؛ حيث إن أبا بكر أمر بتحريق رجل كان يفعل ذلك قلتُ: هذا مخالف للنص من أن اللائط زان - كما سبق بيانه-، ولا حجّة في قول صحابي خالف نصًا فإن قلتَ: لا حدَّ على اللائط، وهو قول أبي حنيفة وبعض العلماء؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو فعل ذلك في غير فرج: فإنه لا يحد، فكذلك من فعل بالدبر فلا حدّ عليه، والجامع: أن كلًّا منهما ليس بمحل للوطء قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنَّه قياس مع النص - وهي: السنة القولية التي ذكرنا - وهي: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" - ولا قياس مع النص، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة القولية" وأيضًا: "تعارض القياسين" وأيضًا: "تعارض قول الصحابي ـ وهو ما ذكره أبو=

ص: 172

يجب الحد) للزنا (إلا بثلاثة شروط. أحدها: تغييب حشفة أصلية كلها) أو قدرها؛ لعدم (في قُبُل، أو دُبُر أصليين) من آدمي حي، فلا يحدّ من قبَّل، أو باشر دون الفرج ولا من غيَّب بعض الحشفة، ولا من غيَّب الحشفة الزائدة، أو غيَّب الأصلية في زائد، أو ميت، أو في بهيمة، بل يُعزَّر، وتُقتل البهيمة

(11)

، وإنما يحدُّ الزاني إذا كان

بكر - مع السنة".

(11)

مسألة: في الأول - من شروط وجوب حدِّ الزنا واللواط - وهو: أن يُغيِّب الزاني حشفته الأصلية كلها أو قدرها؛ نظرًا لعدم الأصلية، وذلك في قُبُل، أو دُبُر أصليين من آدمي حي، أما إن قبَّل رجل أجنبية، أو قبَّلت هي أجنبيًا، أو باشر بما دون الفرج، أو غيَّب بعض حشفته، أو غيَّب حشفته الزائدة، أو غيَّب الحشفة الأصلية في زائد، أو غيَّب حشفته في قُبُل، أو دبر ميت، أو غيَّب حشفته في بهيمة: فإن الفاعل لهذه الصور التسع: لا يُحدَّ حدُّ الزنا بل يعزَّر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تغييب الحشفة الأصلية في فرج أصلي: قبلًا كان أو دُبُرًا من حي: حصول اللَّذة المحرمة، فتناسبه العقوبة - وهي حد الزنا واللواط-، ويلزم من عدم ذلك - وهي الصور التسع السابقة الذكر - عدم عقوبة الزنا واللواط؛ لعدم وجود شرط الزنا واللواط، ويلزم من كون البهيمة لا حرمة لها، ولا تشتهيها النفوس السليمة: عدم وجوب الحدّ على من وطأ البهيمة، ويلزم من كون فعل تلك الصور التسع اعتداء على الآخرين ومخالفة شرعية: ثبوت عقوبة التعزير على من فعلها.

[فرع]: إذا أتى رجل بهيمة، فهو محرم، ولا حدَّ عليه كما سبق، ولا تُقتل البهيمة، من أجل هذا الفعل، وهو قول بعض العلماء؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن إضاعة المال" وقتلها في حين لا جناية لها فيه إضاعة مال بغير حق، فإن قلتَ: بل تُقتل وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" قلتُ: إن هذا الحديث قد =

ص: 173

الوطء المذكور (حرامًا محضًا) أي: خاليًا من الشبهة، وهو معنى قوله: الشرط (الثاني: انتفاء الشبهة) لقوله عليه الصلاة والسلام: "اِدرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم"(فلا يُحدُّ بوطء أمة له فيها شرك)، أو محرمة برضاع، ونحوه (أو لولده) فيها شرك (أو وطئ امرأة في منزله (ظنها زوجته أو) ظنها (سرّيته) فلا حدّ (أو) وطئ امرأة (في نكاح باطل اعتقد صحته أو) وطئ امرأة في (نكاح) مختلف فيه كمتعة، أو بلا ولي، ونحوه (أو) وطئ أمة في (ملك مختلف فيه) بعد قبضه كشراء فضولي، ولو قبل الإجازة (ونحوه) أي: نحو ما ذكر كجهل تحريم الزنا من قريب عهد بالإسلام، أو ناشئ ببادية بعيدة (أو أكرهت المرأة) المزني بها (على الزنا): فلا حدّ، وكذا: ملوط به أكره بإلجاء، أو تهديد، أو منع طعام أو شراب مع إضرار فيهما

(12)

، الشرط (الثالث: ثبوت الزنا

ضعَّفه كثير من أئمة الحديث، ولم يُعمل به في قتل الفاعل الجاني ففي حق الحيوان الذي لا جناية منه، أولى، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في الحديث الأخير هل هو صحيح، أو ضعيف؟ ".

(12)

مسألة: في الثاني - من شروط وجوب حد الزنا واللواط - وهو: أن يكون الوطء حرامًا محضًا، وهو الخالي عن الشبهة، أما إن وجدت شبهة: كأن يطأ أمة له فيها شرك: سواء اشترك فيها مع آدمي آخر، أو كانت تابعة لبيت المال، أو جامع أخته من الرضاع، أو جامع أمة أبيه، أو ابنه، أو جامع أمته المزوجة، أو المعتدَّة، أو جامع أمته المرتدَّة، أو جامع المجوسية، أو جامع امرأة في منزله ظنها زوجته، أو ظنها أمته وسريته، أو جامع امرأة في نكاح باطل اعتقد صحّته كأن يعتقد صحة التزوج بخامسة، ثم جامعها، ومثله يجهل ذلك، أو جامع امرأة في نكاح مختلف في صحته كأن يتزوج بلا ولي، أو بلا شهود، أو ينكح نكاح شغار، أو محلِّل، أو جامع أمة مختلف في ملكه لها كأن يشتري زيد لعمرو أمة، ثم يجامعها عمرو قبل إجازته لهذا الشراء، أو يزني ظنًا منه جواز الزنا - ومثله يجهل ذلك كمن أسلم حديثًا - أو الناشيء بصحراء بعيدة، أو أن تكره المرأة، أو =

ص: 174

ولا يثبت) الزنا (إلا بأحد أمرين: أحدهما: أن يُقرُّ به) أي: بالزنا مكلَّف، ولو قنًا (أربع مرات)؛ لحديث ماعز، وسواء كانت الأربع (في مجلس أو مجالس و) يُعتبر أن (يُصرِّح بذكر حقيقة الوطء) فلا تكفي الكناية؛ لأنها تحتمل ما لا يوجب الحد، وذلك شبهة تدرأ الحد (و) يُعتبر أن (لا ينزع) أي: يرجع (عن إقراره حتى يتمّ عليه الحد) فلو رجع عن إقراره، أو هرب: كفَّ عنه، ولو شهد أربعة على إقراره به أربعًا، فأنكر، أو صدَّقهم دون أربع: فلا حدّ عليه، ولا عليهم الأمر (الثاني) مما يثبت به الزنا:(أن يشهد عليه في مجلس واحد بزنا واحد يصفونه) فيقولون: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقرّ عنده ماعز: قال له: "أنكتها؟ " لا يُكنِّي؟ قال: نعم، قال: كما يُغيَّب المرود في المكحلة،

الرجل على الزنا: سواء كان هذا الإكراه بمنع الطعام والشراب، أو بالضرب، أو القتل: ففي تلك الصور: لا يثبت فيها حدّ الزنا، وكذلك: لائط، وملوط به في هذه الصور: لا يثبت فيه حد الزنا واللواط؛ لقواعد الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" فأوجب منع الحدود إذا حصلت أية شبهة في الفاعل أو المفعول به؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: التلازم؛ حيث إن ما ذكر من الصور توجد شُبه تدرأ الحد: إما للاشتباه في المرأة الموطوءة، أو جهله لحكم الزنا واللواط عمومًا، أو لجهله بأحكام النكاح، أو نحو ذلك فيلزم أن لا يُقام عليه حدّ الزنا واللواط، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن عمر وعلي لم يقيما حدّ الزنا على من أكرهت، ولم يقم عثمان وعلي حد الزنا على من فعله، وهو يجهل حكمه، والذكر مثل الأنثى، والأنثى مثل الذكر، واللواط كالزنا في ذلك؛ لعدم الفارق في مثل ذلك.

[فرع]: إذا أتى رجل زوجته، أو سريته من دبرها: أو أتى أيَّ امرأة مما سبق ذكرهن في مسألة (12) فلا حد عليه، وإنما يعزر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الزوجة، أو الأمة محلًا للوطء في الجملة: عدم وجوب الحد على الفاعل.

ص: 175

والرشاء في البئر" قال: نعم، وإذا اعتبر التصريح في الإقرار: فالشهادة أولى (أربعة) فاعل يشهد؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، ويُعتبر: أن يكونوا (ممن تُعتبر شهادتهم فيه) أي: في الزنا: بأن يكونوا رجالًا عدولًا، ليس فيهم من به مانع، من عمى، أو زوجية (سواء أتوا الحاكم جملة، أو متفرقين) فإن شهدوا في مجلسين فأكثر، أو لَمِ يكمل بعضهم الشهادة، أو قام به مانع: حدوا للقذف كما لو عيَّن اثنان يومًا، أو بلدًا، أو زاوية من بيت كبير، وآخران آخر

(13)

(13)

مسألة: في الثالث - من شروط وجوب حدّ الزنا واللواط - وهو: أن يثبت الزنا ثبوتًا قطعيًا، ولا يثبت الزنا إلا بأحد طريقين: الطريق الأول: أن يقر الزاني بالزنا بنفسه وهو في حالة تكليفه أربع مرات سواء كان هذا الإقرار في مجلس واحد، أو مجالس متعدَّدة، وسواء كان هذا المقر حرًا أو عبدًا، ويُشترط لذلك الإقرار شرطان: أولهما: أن يُصرِّح بذكر حقيقة الجماع والوطء بتفاصيله، فلا يكتفى بالكنايات هنا ثانيهما: أن لا يرجع عن إقراره إلى أن يتم الحدّ عليه، فإن رجع عن إقراره فلا حدّ عليه، ولو هرب أثناء إقامة الحدّ عليه: فإنه يترك لا يُمسك لإتمام الحدّ عليه، ولو أقرّ أربع مرات على أنه زنا وشهد على ذلك أربعة شهود عدول، فأنكر ذلك الإقرار، أو صدَّقهم بأنه أقرّ ثلاث مرات: فلا حدّ عليه ولا عليهم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية والفعلية؛ حيث إن ما ورد في رجم ماعز، والغامدية يدلّ على ما قلناه؛ حيث إن ماعزًا أقرّ في مجلس واحد، والغامدية أقرّت في مجالس أربع مرات: فاعترف ماعز: المرة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة فرده، فقيل لماعز: إن اعترفت عنده الرابعة، رجمك فاعترف، فأمر برجمه، وقال عليه السلام لماعز:"لعلك قبَّلت أو غمزت؟ قال: لا، قال: "أفنكتها؟ " قال: نعم قال: "حتى غاب ذاك منك في ذاك منها" قال: نعم، قال: "كما يغيب المروَد في المكحلة والرشاء في البئر" قال: نعم، قال: "أتدري ما الزنا؟ " قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا، فهذا يدل على

ص: 176

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اشتراط الأول - وهو التصريح لحقيقة الوطء - الذي لا يحتمل سوى الوطء في الفرج، وعدم اعتبار الكناية عنه، وأيضًا: لما هرب ماعز من شدَّة الرجم بالحجارة: اتبعه الناس وقبضوا عليه، وأكملوا رجمه حتى مات فلما علم النبي عليه السلام: قال: "هلَّا تركتموه لعلَّه يتوب، فيتوب الله عليه" فبدل هذا على اشتراط الثاني - وهو عدم رجوعه عن إقراره حتى استكمال الحد-، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من احتمال الكناية عن الوطء: الوطء في الفرج، وغير ذلك: ويلزم من هروبه بعد بدء الحد: احتمال رجوعه عن إقراره، ويلزم من إنكاره على الأربعة الذين شهدوا على إقراره: احتمال عدم إقراره بها جميعًا، أو احتمال عدم إقراره أربعًا: وهذه شبه محتملة فتدرأ عنه الحد؛ لأن الحد يُدرأ بأية شبهة، فإن قلتَ: لا يثبت الزنا إلّا في أربع إقرارات في أربعة مجالس، وهو قول أبي حنيفة؛ للسنة التقريرية: حيث إن ماعزًا قد أقرّ في أربعة مجالس، قلتُ: إن ما ثبت عند كثير من المحدثين هو أن ماعزًا قد أقرّ في مجلس واحد بأربع إقرارات، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف فيما ورد عن ماعز هل أقرّ أربع مرات في مجلس واحد أو في مجالس؟ " الطريق الثاني - من طريقي ثبوت الزنا -: وهو: أن يشهد أربعة رجال عدول مسلمين أحرار في مجلس واحد من مجالس الحاكم بأن زيدًا قد زنى بشرط: أن يتّفق هؤلاء الأربعة في صفة الزنا وطريقته، وموضعه وزمنه، وعدم وجود مانع يمنعهم من ذلك ككون أحدهم أعمى، أو أحدهم زوجًا للمزني بها، فيتّفق هؤلاء الأربعة على أنهم رأوا ذكره داخل في فرجها كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر، وأنَّه فعل ذلك بها بطريقة كذا، وفي موضع كذا، وفي زمن كذا، فإذا ثبت هذا كله فإن زيدًا يُجلد مائة جلدة ويُغرَّب عامًا إن كان بكرًا، وإن كان ثيبًا: فإنه يُرجم، ولو هرب أثناء الحد: فإنه يُلحق ويكمل عليه الحد: سواء حصلت هذه الشهادة منهم في مجلس واحد، =

ص: 177

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أو متفرقين في ذلك المجلس، فإن اختلف هؤلاء الأربعة في صفة الزنا، أو في زمنه: بأن قال أحدهم: زنا في يوم السبت، والآخر قال: في يوم الأحد، أو اختلفوا في مكانه من البيت، أو كان أحدهم أعمى، أو كان أحدهم زوجًا للمزني بها، أو كان أحدهم فاسقًا، أو كان أحدهم مجهول الحال في العدالة، أو شهدوا في مجلسين منفصلين من مجالس الحاكم، أو لَمِ يكمل أحدهم الشهادة بأن وصف الزنا، ولكنه لَمِ يعرف مكانه، أو زمانه فلا يُحد زيد حد الزنا، ويُجلد هؤلاء جلد القذف - ثمانين جلدة - إلّا الزوج إن لاعن؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} حيث اشترط أربعة شهداء الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه يشترط التصريح في الإقرار بالزنا - كما سبق في الطريق الأول وما فعله عليه السلام مع ماعز - فمن باب أولى أن يُشترط التصريح بالشهادة على الزنا والجامع: البعد عن احتمال غير الزنا في كل، الثالثة: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكرة قد شهد على المغيرة بالزنا عند عمر، فأمره أن يأتي بأربعة شهود، فأتى بهم، ولكن الرابع نكل، فجلد عمر أبا بكرة والاثنين اللذين معه ثمانين جلدة - حدّ القذف - وهذا ثابت بالقياس أيضًا؛ حيث إن الذي شهد بالزنا ولم يستكمل الشهادة: فإنه يجلد جلد القاذف بجامع: أن كلًّا منهما قد وقع منه القذف عند الحاكم، ولو كان اتحاد المجلس غير مشترط: لَمِ يجز أن يحدّهم حدّ القذف؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر.

الرابعة: التلازم؛ حيث إن عدم التصريح بالزنا من الأربعة، وعدم وصف الزنا، ووقته، ومكانه، ووجود فسق في أحد الأربعة أو عمى، أو كونه زوجًا للمزني بها، وكون أحدهم مجهول العدالة وكون شهادة واحد منهم منفصلة عن شهادة الآخرين - في مجلس الحكم: يلزم منه: عدم حدّ الشهود عليه؛ لأن هذه =

ص: 178

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الصور تثبت فيها الشبهة، والحدود تدرأ بأية شبهة، ويلزم جلد الشاهدين حد القذف؛ لكون حقيقة القذف قد وجدت فيه، فإن قلتَ: لِمَ اشترط في الشهود الأربعة تلك الشروط السبعة - وهي: كونهم أربعة، رجال، عدول، مسلمين، أحرار، في مجلس واحد يصفون الزنا وصفًا دقيقًا من حيث الطريقة، والمكان والزمان؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الزنا من أعظم المحرّمات والمنكرات، وهو يُشوه ويُقبِّح ويسيء إلى سمعة الزاني، والزانية، وقبيلتهما؛ لذلك اشتُرط فيه أربعة شهداء يتّصفون بتلك الصفات، بخلاف سائر الشهادات، فدفعًا لتلك المضرّة، اشتُرطت تلك الشروط: فلا تقبل في إثبات الزنا شهادة النساء مطلقًا؛ وذلك لتطرّق الضلال إليهن، ولا تُقبل شهادة الفساق، ولا مجهول الحال الذي لا نعلم عدالته؛ لكون الفاسق لا يخاف الله، ومجهول الحال قد يكون فاسقًا، ولا تقبل شهادة الكفار؛ لأنهم متهمون في الدين أبدًا، ولا تقبل شهادة العبيد؛ لكونه مختلف في شهادته في سائر الحقوق، ولا تقبل شهادة من جاء من الشهود بعد أن قام الحاكم؛ لاحتمال أن يتواطؤوا على الكذب، ويُعلِّم بعضهم بعضًا، والمجلس الواحد بمنزلة الحالة الواحدة ولذلك ثبت فيه خيار المجلس. ولا تُقبل شهادتهم إذا اختلفوا في وصف، أو مكان، أو زمان الزنا؛ لكون ذلك دليلًا على كذبهم، وما ذكر في هذه الصور كلها شبه تدرأ الحدّ عن المشهود عليه، ومعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات، فإن قلتَ: لِمَ اشترط عدم وجود زوج مع الشهداء على الزنا؟ قلتُ: لأن الزوج لا تُقبل شهادته على امرأته؛ لأنَّه بشهادته مقرّ بعدوانه لها، والعدو لا تقبل شهادته على من يُعاديه، وحكمه: أن يلا عن زوجته - كما سبق بيانه -، فإن قلتَ: لِمَ يُلحق ويُكمل حده إذا هرب في حالة ثبوت الزنا بالشهود، بينما إذا أقرّ: فإنه لا يلحق إذا هرب؟ قلتُ: لكونه إذا أقرّ، ثم هرب: فإنه يُفهم منه رجوعه عن إقراره، وهذه شبهة يدرأ بها الحدّ،=

ص: 179

(وإن حملت امرأة لا زوج لها، ولا سيد لَمِ تحد بمجرَّد ذلك) الحمل، ولا يجب أن تُسأل؛ لأن في سؤالها عن ذلك إشاعة الفاحشة، وذلك منهي عنه، وإن سُئلت، وادَّعت أنها مكرهة، أو وُطئت بشبهة، أو لم تعترف بالزنا أربعًا: لم تحد، لأن الحد يدرأ بالشبهات

(14)

.

بخلاف ما إذا شهد عليه ثم هرب: فلا شبهة في ذلك، فلا يدرأ عنه الحد فيستكمل الحد عليه.

(14)

مسألة: إذا حملت امرأة لا زوج لها، ولا سيد: فإنها تُسأل عن سبب حملها، فإن ادَّعت أنها أكرهت على الزنا، أو وُطئت بشبهة: فإنه يطلب منها إثبات ذلك بالأدلة والبينات، وإن لم تدَّع شيئًا، أو ادَّعت، ولم تثبت صدق دعواها ببيِّنة ودليل: فإنها تحدّ حدّ الزنا: فإن كانت بكرًا: فإنها تجلد مائة جلدة، وإن كانت ثيبًا: فإنها ترجم؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من الحمل بلا زوج ولا سيد، ولا وطء بإكراه أو شبهة: أن يكون ذلك الحمل من الزنا، فتحدّ حد الزنا، ولا يُلتفت إلى الاحتمالات الضعيفة؛ لأنَّه لو التفت إلى مثل تلك الاحتمالات: لما صحَّ لنا حكم شرعي، الثانية: قول الصحابي وفعله؛ حيث قال عمر: "الرجم على من زنا من الرجال والنساء إذا كان محصنًا إذا قامت البيِّنة، أو كان الاعتراف والحبل" وقال علي: "إن الزنا زناءان: زنا سر، وزنا علانية: فزنا السر: أن يشهد الشهود، وزنا العلانية: أن يظهر الحبل أو الاعتراف"، وثبت عن عمر أنه حكم برجم الحامل، بلا زوج ولا سيد وكذا: عثمان ثبت عنه ذلك، وهذا هو الموافق للقواعد الأصولية الشرعية كما قال ابن تيمية وابن القيم، فإن قلتَ: لا تحدّ المرأة إذا حملت، وإن كان لا زوج لها ولا سيد، ولا يجب أن تسأل عن سبب حملها إذا لَمِ تعترف هي بذلك، أو يشهد عليها أربعة شهود وهذا ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه يُحتمل أن يكون ذلك بسبب وطء بشبهة، أو إكراه لا تريد أن تُصرِّح به وقد قيل: إن المرأة يمكن أن تحمل =

ص: 180

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من غير وطء بأن تُدخل ماء الرجل في فرجها: إما بفعلها، أو بفعل غيرها، ولهذا تُصوّر حمل البكر، وهذا يلزم منه وجود احتمال وشبهة: فلا تُحد مع وجود ذلك؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ويلزم من خشية إشاعة الفاحشة عنها: عدم وجوب سؤالها عن سبب حملها قلتُ: إن الشبه التي تدرأ الحدود هي الشبه والاحتمالات القوية التي يمكن أن يُعتمد عليها في منع إقامة الحدّ، وما ذكرتموه من احتمالات حملها بدون شيء، أو بشيء لا تريد أن تُصرِّح به أو نحو ذلك من الاحتمالات: فهي ضعيفة جدًا لا يمكن لأي عاقل أن يعتمد عليها؛ سدًا للذرائع، ومنعًا للفساد والإفساد في الأرض؛ إذ لو قُبلت مثل تلك الاحتمالات التي لا يصدِّقها ولا يقبلها أحد عنده ذرَّة من التفكير: لانتشر الزنا، والسرقة، وجميع المعاصي، وفلت أصحابها من العقوبات بسبب تلك العلل الضعيفة، أو بسبب عدم سؤال الزانية عن فعلها، أما قولهم: إن سؤالها يشيع الفاحشة: فهذا لا يُسلَّم؛ لأن الذي سيسألها هو حاكم عادل كاتم للأسرار التي يطَّلع عليها، وهذا معروف عند الحكّام والقضاة، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "هل كل احتمال يُعتبر شبهة تدرأ الحد، أم يُشترط: أن يكون الاحتمال والشبهة فيهما من القوة ما يمكن بها منع الحد؟ فعندنا: الثاني، وعندهم الأول.

هذه آخر مسائل باب: "حد الزنا" ويليه باب "حد القذف".

ص: 181

‌باب حد القَذْف

وهو: الرمي بزنا، أو لواط

(1)

،

(2)

(إذا قذف المكلَّف) المختار، ولو أخرس

‌باب حد القَذْف

وفيه خمس عشرة مسألة:

(1)

مسألة: القذف لغة: الرمي بقوة بحجر، ومنه قولهم:"قذفته بحجر": أيك رميته، وهو في الاصطلاح:"أن يرمي شخص شخصًا آخر بالزنا، أو اللواط، أو يشهد عليه بأحدهما ولم تكمل شهادته"، وبين تعريفه لغة واصطلاحًا تناسب وتشابه؛ حيث إن الرمي بالحجارة والرمي بالمكاره يُؤثّران في المرمى بهما؛ لوجود الأذى في كل منهما؛ وأذية القول أعظم من أذية الفعل أحيانًا.

(2)

مسألة: القذف محرَّم، وهو من الكبائر الموبقات، للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك ومستند ذلك قاعدتان: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} حيث حرم القذف وهو الرمي بالزنا؛ لأنَّه توعَّد فعله بالعقاب، ولا يتوعَّد بذلك إلّا من فعل حرامًا واللواط كالزنا في ذلك؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: وما هنَّ يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" فحكم على هذه الأشياء السبعة - ومنها القذف - بأنها موبقات ومهلكات لصاحبها، فيلزم: تحريم كل واحد منها واللواط كالزنا، فإن قلتَ: لَمِ حُرِّم ذلك، ووجب حدّ القذف على من فعله؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن القذف بالزنا فيه إلحاق العار بالمقذوف، وتشويه سمعته، فدفعًا =

ص: 182

بإشارة بالزنا (محصنًا) ولو مجبوبًا، أو ذات محرم، أو رتقاء:(جُلد) قاذف (ثمانين جلدة إن كان القاذف (حرًا)؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (وإن كان) القاذف (عبدًا) أو أمة، ولو عتق عقب قذف: جلد (أربعين) جلدة كما تقدم في الزنا (و) القاذف (المعتق بعضه) يُجلد (بحسابه): فمن نصفه حر يُجلد ستين جلدة (وقذف غير المحصن) ولو قنه (يوجب التعزير) على القاذف؛ ردعًا عن أعراض المعصومين (وهو) أي: حد القذف (حق للمقذوف) فيسقط بعفوه، ولا يقام إلّا بطلبه - كما يأتي، لكن لا يستوفيه بنفسه - وتقدَّم - (والمحصن هنا) أي: في باب القذف هو: (الحر المسلم، العاقل، العفيف) عن الزنا ظاهرًا، ولو تائبًا منه، (الملتزم، الذي يجامع مثله) وهو: ابن عشر، وبنت تسع (ولا يُشترط بلوغه) لكن لا يحد قاذف غير بالغ حتى يبلغ، ويُطالب

(3)

، ومن

لذلك حرم، ووجب حد القذف عليه؛ دفعاً للأذى عن المقذوف، وصيانة لسمعته ودينه وعرضه، فإن قلتَ: لَمِ أتي بباب حدّ القذف هنا؟ قلتُ: لمناسبته لباب حدّ الزنا؛ حيث إن القذف هو الرمي بالزنا، أو اللواط، وإذا شهد ثلاثة على رجل بالزنا أو اللواط: فإنهم يجلدون حد القذف كما سبق في مسألة (13) من باب "حد الزنا".

(3)

مسألة: يُشترط في إقامة حد القذف شروط ستة. أولها: أن يكون القاذف مكلَّفًا - أي: عاقل بالغ - ثانيها: أن يكون القاذف مختارًا، ثالثها: أن يكون المقذوف محصنًا - وهو: المسلم، الحر العاقل، العفيف عن الزنا ظاهرًا، ولو كان يفعله ثم تاب عنه، رابعها: أن يكون المقذوف معه آلة الزنا - أي: يجامع مثله - كابن عشر سنوات، أو بنت تسع، ولا يشترط بلوغه، ولا يحد من قذف شخصًا غير بالغ إلا بعد بلوغ المقذوف ومطالبته بحد من قذفه، خامسها: أن يُطالب المقذوف بحد من قذفه، سادسها: أن لا يأتي القاذف ببيِّنة، ولا يقر المقذوف، فإذا توفرت هذه الشروط الستة: فإن القاذف يجلد ثمانين جلدة إن كان حرًا، أما إن كان القاذف=

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عبدًا: فإنه يجلد، أربعين وإن كان القاذف مُبعضاً: فإنه يجلد بحسابه: فإن كان نصفه حر: فإنه يُجلد نصف حد الحر - وهو أربعون - ونصف حد العبد ـ وهو عشرون - فيُجلد ستين جلدة، وهكذا، وهذا مطلق: أي سواء كان القاذف سليمًا، أو كان أخرسًا تفهم إشارته بأن المقذوف قد زنا، أو لا، وسواء كان القاذف صحيحًا أو مريضًا، وسواء كان المقذوف صحيحًا أو مريضًا، أو مجبوبًا، أو المقذوفة رتقاء، أو قرناء، أو مريضة، وسواء كان القاذف والمقذوف قريبين لبعضهما، أو أجنبيين، فإن تخلَّف شرط مما سبق كأن يكون القاذف مجنونًا، أو صغيرًا، أو مكرهًا، أو كان المقذوف غير محصن: كأن يكون ـ أي: المقذوف - عبدًا أو أمة، أو كافرًا، أو مجنونًا، أو غير عفيف عن الزنا وعن المعاصي، أو كان المقذوف لا يُجامع مثله كمن دون العشر، أو البنت التي دون التسع، أو لم يُطالب المقذوف بإقامة حدّ القذف على قاذفه وعفى عنه: فإنه لا يقام عليه حد القذف، بل يُعزَّر بما يراه الإمام، أو نائبه مناسبًا لردعه عن أعراض الناس، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} والمراد بـ "المحصنات" هنا: العفائف الحرائر المسلمات العاقلات، والذكر هنا كالأنثى؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، وهذا عام في أفراد القاذفين وأفراد المقذوفين؛ لأن اسم الموصول - وهو:"الذين" - و "المحصنات" - وهو جمع معرّف بأل ـ من صيغ العموم، الثانية: القياس؛ بيانه: كما حد العبد والأمة على النصف من حد الحر والحرة في الزنا، فكذلك الحال في حد القذف، والجامع: الاختلاف في كل، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من بيان حد الحر، وحد العبد في القذف: أن حد المبعَّض كما ذكرنا، فإن قلتَ: لَمِ وجب تعزير من قذف ولم تتوفّر فيه تلك الشروط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه ردعه وزجره من أن يتساهل في أعراض الناس، فإن قلتَ: إذا كان =

ص: 184

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حكم القذف عامًا للذكور والإناث فلم خصَّ الشارع الإناث في الآية السابقة؟ قلتُ: لأن قذفهن أغلب وأشنع، ولأن الواقعة التي نزلت بسببها الآية وردت بهن، فإن قلتَ: لَمَ لا يُحدُّ من قذف شخصًا غير بالغ إلّا بعد بلوغ المقذوف، ومطالبته؟ قلتُ: للتلازم؛ حيث إن عدم اعتبار مطالبته قبل بلوغه، وعدم صلاحية الولي أن يُطالب عنه؛ لفقدان التشفّي يلزم منه: أن القاذف لا يُحد هنا إلّا بعد ما ذكر.

[فرع]: لا يجوز أن يستوفي المقذوف حد القذف بنفسه، ويجلد القاذف ثمانين جلدة والذي له الحق في إقامته هو: الإمام، أو نائبه؛ للتلازم؛ حيث إن كون إقامة الحد يحتاج إلى اجتهاد، ولا يؤمن من استيفائه الحيف والسراية، ووجود اختلاف، وتنازع في ذلك: يلزم منه: قصر إقامة الحدود جميعًا على الإمام أو نائبه - وقد سبق بيانه - ولو فعل المقذوف ذلك: فلا يُعتد به؛ لعدم وقوعه موقعه. تنبيه: قوله: "الملتزم" يقصد أن الكافر الملتزم بأحكام الإسلام محصن، قلتُ: هذا مخالف للشرط الثالث، فلا يعتبر ما ذكره، وخالفه على هذا جمهور الحنابلة، وعلى رأسهم ابن قدامة في "المغني" فائدة:"المحصنات" وردت في الكتاب على أربعة معان: أولها: بمعنى العفائف المسلمات، الحرائر العاقلات، ويشمل الذكور، والإناث - وهو المراد هنا كما سبق في الآية، ثانيها: بمعنى المزوجات كقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} ، ثالثها: بمعنى الحرائر كقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} رابعها: بمعنى الإسلام كقوله تعالى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} وإحصانها: إسلامها هنا كما قال ابن مسعود.

ص: 185

قذف غائبًا: لم يحد حتى يحضر ويُطالب، أو يثبت طلبه في غيبته

(4)

، ومن قال لابن عشرين: زنيت من ثلاثين سنة: لم يحد

(5)

(وصريح القذف) قوله: (يا زاني، يا لوطي، ونحوه) كيا عاهر، أو قد زنيت، أو زنى فرجك أو يا منيوك، ويا منيوكة إن لم يُفسّره بفعل زوج أو سيد (وكنايته) أي: كناية القذف: (يا قحبة) و (يا فاجرة) و (يا خبيثة) و (فضحت زوجكِ، أو نكست رأسه، أو جعلت له قرونًا ونحوه) كعلَّقتِ عليه أولادًا من غيره، أو أفسدت فراشه، ولعربي: يا نبطي، ونحوه، وزنت يدك، أو رجلك، ونحوه (وإن فسَّره بغير القذف: قُبل) وعُزّر كقوله: يا كافر، يا فاسق، يا فاجر، يا حمار، ونحوه

(6)

(وإن قذف أهل بلد أو) قذف (جماعة لا يتصور منهم الزنا

(4)

مسألة: إذا قذف زيد عمرًا بالزنا، أو اللواط، وكان عمرو غائبًا: فإن زيدًا يحد بحد القذف بأحد طريقين: أولهما: أن يحضر عمرو ويطالب بحقه. ثانيهما: أو يثبت مطالبته في غيبته عند حاكم البلد الذي هو فيه؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو سرق زيد مال عمرو: فإن لعمرو الحق بالمطالبة به حاضرًا أو غائبًا، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما حق من حقوقه وهذا فيه حفظ حقوق الآخرين.

(5)

مسألة: إذا قال زيد لعمرو - البالغ عشرين سنة -: "أنت زنيت منذ ثلاثين أو أربعين أو خمس وعشرين سنة": فإن زيدًا لا يحد، أو قال زيد لمسلمة:"زنيت وأنت نصرانية، أو يهودية" أو "زنيتِ وأنتِ أمة" ولم تكونا كذلك: فإنه يحد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من العلم بكذبه في قذفه لعمرو: عدم وجوب الحد عليه، ويلزم من العلم بكذبه في قذفه للمسلمة: وجوب الحدّ عليه.

(6)

مسألة: ألفاظ القذف تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ألفاظ صريحة، وهي: التي لا تحتمل إلا الزنا أو اللواط فقط مثل: أن يقول القاذف للمقذوف: "يا زاني" و"يا لوطي"و "يا زانية " و"يا عاهر" و "يا عاهرة" أو "قد زنيتِ" أو "قد زنى فرجك" أو "يا منيوك" أو "يا منيوكة" بشرط: عدم تفسير ذلك من القائل: بفعل زوج، أو سيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم احتمال ذلك إلّا الزنا أو اللواط:=

ص: 186

عادة: عُزِّر)؛ لأنَّه لا عار عليهم به؛ للقطع بكذبه

(7)

وكذا: لو اختلفا في أمر، فقال أحدهما: الكاذب ابن الزانية: عُزِّر ولا حد

(8)

(ويسقط حد القذف بالعفو):

أن يكون قد قذفه صراحة وإن فسرها بغيره: فلا يقبل. القسم الثاني: ألفاظ الكناية، والتعريض، وهي التي تحتمل الزنا وغيره كقول القائل لآخر:"يا قحبة" أو "يا فاجرة" أو "يا فاجر" أو "يا خبيثة" أو "فضحتِ زوجك" و "ناكسة رأس زوجك" أو "جعلت لزوجك قرونًا" أو "علَّقتِ عليه أولادًا من غيره" أو " أفسدت فراشه "أو "زنت رجلكِ" أو "زنت يدكِ" أو "زنت عيناك" ونحو ذلك: فإن هذه الألفاظ إذا فسرها القائل لها بغير القذف: فإنه يُقبل منه، مع يمينه، ويُعزِّر بما يراه الإمام مناسبًا لردعه؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون تلك الألفاظ تحتمل الزنا واللواط وغيرهما: عدم وجوب حد القذف على قائلها؛ لأن ذلك شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. الثانية: القياس؛ بيانه: كما لو قال شخص لغيره: "يا كافر" أو "يا فاسق" أو "يا فاجر" أو "يا "حمار" أو "يا تيس" أو "يا خنزير" أو "يا "كلب" أو "يا شارب": فإنه يُعزَّر، فكذلك من قال لغيره كنايات القذف، والجامع: أن كلًّا منها يحتمل أن يكون المقصود منها معانيها الحقيقية، ويحتمل أن يكون المقصود منها معانيها المجازية.

(7)

مسألة: إذا قذف شخص أهل بلد، أو قذف جماعة لا يتصوَّر منهم الزنا، ولا اللواط عادة: فإن هذا الشخص لا يحد، بل يُعزِّره الإمام بما يراه مناسبًا؛ لردعه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من القطع بكذبه: عدم حدِّه حد القذف، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: لكون ذلك لا يُلحق بهم العار.

(8)

مسألة: إذا وقع خلاف وتنازع بين زيد وعمرو في شأن مال أو نحو ذلك، فبينما هما يتخاصمان، ويتحاوران قال زيد العمرو:"يا كاذب يا ابن الزانية" أو قال له: "أنت ملعون ولد زنا": فإن زيدًا لا يحد، بل يُعزَّر بما يراه الإمام مناسبًا؛ لردعه عن مثل هذه الألفاظ؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حال غضب أحدهما من=

ص: 187

أي: عفو المقذوف عن القاذف

(9)

(ولا يستوفى) حد القذف (بدون الطلب) أي: طلب المقذوف؛ لأنَّه حقه - كما تقدَّم -

(10)

، ولذلك لو قال المكلَّف:"اقذفني": فقذفه: لم يحد، وعُزِّر

(11)

، وإن مات المقذوف، ولم يُطالب به: سقط، وإلا: فلجميع

الآخر، واحتدام الخلاف والتنازع بينهما: عدم وجوب حد القذف هنا، ويلزم استحباب التأدُّب مع الآخرين في الألفاظ: وجوب تعزير زيد على تلك الألفاظ.

(9)

مسألة: إذا قذف زيد عمرًا بالزنا أو اللواط - مع استكمال شروطه السابقة- وعفا عمرو عن زيد: فإن حدّ القذف يسقط؛ للتلازم؛ حيث إن حدّ القذف والتشفّي من القاذف من حق المقذوف خاصة، فإذا أسقط حقه فيلزم سقوط الحدّ عن القاذف.

(10)

مسألة: إذا قذف زيد عمرًا بالزنا فلا يحق لأي شخص - غير عمرو - أن يُطالب باستيفاء حد القذف من زيد: سواء كان سلطانًا أو لا، وسواء كان وارثًا لعمرو أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون المطالبة بذلك من حق عمرو الخاص: عدم جواز المطالبة به من غيره.

(11)

مسألة: إذا قال عمرو لزيد: "اقذفني": فقذفه زيد: فإن زيدًا لا يُحدُّ، وإنما يُعزَّر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون حد القذف من حق المقذوف، وقد أذن عمرو في قذفه: عدم وجوب حد القذف على زيد؛ لأن عمرًا قد أسقط حقه بالإذن فيه، ويلزم من فعل زيد للمعصية: أن يُعزَّر، فإن قلتَ: إن زيدًا هنا يُحدُّ؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود شروط حد القذف: وجوب حدِّه قلتُ: يجب إذا لم يُسقط المقذوف حقه، وعمرو هنا قد أسقطه بالإذن فيه، فإن قلتَ: ما الخلاف سبب هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في حد القذف هل هو من حقوق الله تعالى، أو من حقوق الآدميين؟ فعندنا: الثاني، وعندهم: الأول.

ص: 188

الورثة، ولو عفا بعضهم: حُدَّ للباقي كاملًا

(12)

، ومن قذف ميتًا: حد بطلب وارث محصن

(13)

، ومن قذف نبيًا: كفر، وقتل ولو تاب

(14)

(12)

مسألة: إذا قذف زيد عمرًا فمات عمرو بعد القذف: ففي ذلك حالتان: الحالة الأولى: إن كان عمرو لم يطالب زيدًا بحقه قبل موته مع علمه به: فإن حدّ القذف يسقط عن زيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم مطالبته بحقه مع علمه به: عدم وجوب الحد على زيد؛ لإسقاط عمرو حقه. الحالة الثانية: إن كان عمرو قد طالب بحقه من زيد قبل موته فمن حق ورثة عمرو أن يُطالبوا زيدًا بذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه من حق الورثة أن يطالبوا باستكمال إجراءات الشفعة إن طالب بها مورثهم قبل موته فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما من حق الورثة؛ حيث إن الورثة يقومون بما يقوم به مورثهم في مثل هذه الأشياء.

[فرع]: إن أسقط بعض الورثة حقه في مطالبة زيد في حد القذف، وطالبه الباقي به: فتجب إقامته على زيد كاملًا للتلازم؛ حيث يلزم من لحوق العار بكل واحد منهم على انفراد إذا لم يطالبوا به: استحقاقهم لذلك، وكل ذلك من أجل نفي العار عن المسلمين، وهو المقصد منه.

(13)

مسألة: إذا قذف زيد عمرًا بعد موته: فمن حق وارثه أن يُطالب زيدًا بحد القذف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من لحوق العار بالورثة إذا سكتوا عن هذا القذف: وجوب الحد على القاذف لمورثهم؛ نفيًا للعار عنه وعنهم.

(14)

مسألة إذا قذف مسلم نبيًا من أنبياء الله: فإنه يكفر ويُقتل، ولو تاب؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك تشكيك في صدق دعواه، وفسقه: كفر من فعله، ويلزم من كفره: وجوب قتله؛ لأنَّه ارتدَّ بذلك، ويلزم من إقامة حد القذف على القاذف ولو تاب: أن يقتل من قذف نبيًا: ولو تاب؛ بل هذا من باب أولى؛ لتقديم حق الأنبياء على حق غيرهم.

ص: 189

أو كان كافراً فأسلم

(15)

.

(15)

مسألة: إذا قذف شخص وهو كافر نبيًا من الأنبياء، ثم أسلم: فإنه يسقط عنه الحد بالإسلام؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الإسلام يهدم ما قبله " وهذا عام؛ لأن "ما" موصولة، وهي من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه، فإن قلتَ: لا يسقط بإسلامه وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن قذف أي آدمي من كافر لا يسقط بالإسلام فكذلك قذف النبي عليه السلام، والجامع: أنه حق من حقوق المقذوف قلت: هذا فاسد؛ لأنَّه قياس مع النص، وهو الحديث السابق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع النص".

هذه آخر مسائل باب: "حد القذف" ويليه باب "حد المسكر".

ص: 190

‌باب حدِّ المسكِر

أي: الذي ينشأ عنه السكر، وهو: اختلاط العقل

(1)

،

(2)

(كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام، وهو خمر من أي شيء كان)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل

‌باب حدِّ المسكر

وفيه ثلاث عشرة مسألة:

(1)

مسألة: المسكر: هو: "الذي يتسبَّب في اختلاط العقل بحيث يجعله يختلط في كلامه، ويستوي عنده الحسن والقبيح غالبًا، فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي بهذا الاسم؟ قلتُ: لأنَّه يُسكّر العقل ويسدُّه عن إدراك حقائق الأمور، مأخوذ من قولهم: "سكّرتُ الباب" إذا أغلقته فإن قلتَ: لَمِ سُمِّي خمرًا؟ قلتُ: لأن كل ما يُخامر العقل، ويستره ويغطيه ويجعله غير مدرك لحقائق الأمور يُسمَّى خمرًا لذلك يُسمَّى الشيء الذي تغطي المرأة به رأسها "خِمارًا".

(2)

مسألة: شرب الخمر، وأي مُسكر حرام؛ للإجماع، ومستنده قاعدتان: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والنهي هنا مطلق، وهو يقتضي التحريم، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" وقال: "لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه"، واللعن عقاب، ولا يُعاقب إلّا على فعل محرم، فإن قلتَ: لَم حُرِّم الخمر، وحُدَّ شاربه؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الخمر، وجميع المسكرات أَم الخبائث، فمن شرب ذلك وتعاطاه: فإنه سيفعل كل منكر: من زنا، وقتل، وسرقة وغير ذلك، وسيُفسد المجتمع؛ فدفعًا لذلك حرّم، ووجبت على الشارب تلك العقوبة ردعًا له وزجرًا لأمثاله.

ص: 191

مسكر خمر، وكل خمر حرام" رواه أحمد وأبو داود

(3)

(ولا يباح شربه) أي: شرب

(3)

مسألة: كل شراب أسكر كثيره: فإن قليله حرام، ويُطلق على ذلك خمرًا من أي شيء صُنع: أي: سواء صُنع من عصير العنب النيء إذا اشتدّ وقذف زبده، أو طبخ أو كان من التمر، والزبيب، أو من الحنطة والشعير، أو كان من الذرة، أو الأرز، أو كان من المصنوعات الحديثة كالأفيون والبنج، والهيرويين، والحشيش، مطبوخًا أو لا مشروبًا أو مشمومًا، ومن فعل ذلك فإنه يحد بجد الخمر؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" وقال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وقال: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرَق فملء الكف منه حرام" والمراد بـ "الفَرَق": مكيال يسع ستة عشر رطلًا، وهذه الأحاديث صريحة الدلالة على ما ذكرناه في أول المسألة، الثانية: قول الصحابي؛ حيث ثبت ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، وعائشة، وأُبي بن كعب، وسعد بن أبي وقاص، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للدِّين، وبُعد عن الوقوع في المحرمات، فإن قلتَ: إن نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخ يحل إذا شرب بلا لهو ولا طرب، وكذلك: الخليطان من الزبيب والتمر، وكذلك نبيذ العسل والتين، والبر، والشعير يحل: سواء طبخ أو لا، بلا لهو ولا طرب، وكذلك الطلاء، أو المثلث العنبي وإن اشتدّ، وهو: ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه يحل إذا شرب لقصد استمراء الطعام، والتداوي، والتقوي على طاعة الله بشرط: أن لا يسكر هذا رأي أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تحريم الخمر المشتد: جواز شرب ما سبق ذكره؛ إذ لا يوجد فيها معنى الخمرية التي حرمها بقوله: "حرمت الخمرة" لأنَّه لا شدَّة فيها قلتُ: إن مقصد الشارع هو: تحريم كل ما يُسكر، أو يكون مآله إلى السكر؛ سدًا للذرائع؛ حيث إن شارب هذه الأمور - التي يدَّعي بعضهم أنها=

ص: 192

ما يسكر كثيره (اللذَّة، ولا لتداو، ولا عطش، ولا غيره إلّا لدفع لقمة غصَّ بها، ولم يحضره غيره) أي: غير الخمر، وخاف تلفًا؛ لأنَّه مضطر

(4)

، ويُقدَّم عليه بول،

تشرب بشرط: عدم وصولها إلى الإسكار - قد يسكر وهو لا يعلم، أو قد يُغش في ذلك أو نحو ذلك من الاحتمالات، فسدًا لذلك حرّم كل مسكر حقيقة أو ما يؤدي إليه كما أحلّ الشارع قتل خمس في الحل والحرم ـ وهي: العقرب، والحية والحدأة، والكلب الأسود، والفأرة - مقصوده قتل كل مؤذي للإنسان، وكل ما يغلب على الظن أنه مؤذ ولو آجلاً، فكذلك هنا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض اللفظ مع المقصد الشرعي". تنبيه: الرأي المختار لجمهور الحنفية هو ما ذهب إليه الجمهور - وهو: "أن كل ما أسكر كثيره فقليله حرام".

(4)

مسألة: لا يجوز للمسلم أن يشرب شيئًا يسكر كثيره ليتلذذ به ولا لغير ذلك، فإن غصَّ بلقمة وخشي على نفسه الهلاك والتلف: فإنه يشرب منه ما يُذهب به تلك الغصة بشرط: عدم وجود غير الخمر عنده؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} فرخَّص الشارع للمضطر ـ وهو المشرف للهلاك ـ أن يفعل أي شيء ينقذ حياته، وهو عام؛ لأن الشرط من صيغ العموم، فيشمل ما نحن فيه، فيشرب ما يُذهب عنه الغصة فقط، دون أن يزيد على ذلك، وهذا من الرخص الواجبة - كما بينتُ ذلك في كتابي:"الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس" - فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث رخَّص الشارع بإزالة الغصَّة بقدر من الخمر؛ للحفاظ على النفس، وهو مقدم على مصلحة عدم شربه، من باب: تعارض المفسدتين".

[فرع]: يجوز التداوي بشرب الخمر، ويجوز شربه للعطش، وهو قول أبي حنيفة، وكثير من الشافعية؛ للقياس؛ بيانه: كما تدفع الغصة بشرب الخمر ويجوز أكل الميتة للمضطر، فكذلك يجوز شرب بعض الخمر؛ للتداوي به وإزالة=

ص: 193

وعليهما ماء نجس

(5)

(وإذا شربه) أي: المسكر (المسلم) أو شرب ما خلط به، ولم

العطش، والجامع: الاضطرار وخوف الهلاك في كل، فإن قلتَ: لا يجوز للمسلم أن يشرب شيئًا يسكر كثيره لأجل التداوي به، أو لإزالة العطش، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إنه ليس بدواء ولكنه داء" فوصف الخمر بعدم صلاحيته لكونه دواء يُستشفى منه، بل هو داء فيلزم التحذير منه. الثانية: المصلحة؛ حيث إن شربه لا يزيل العطش، بل يزيده عطشًا، فحفاظًا عليه حُرِّم ذلك، قلتُ: أما السنة: فالمقصود منه: النهي عن شربه للتداوي به عن الأمراض الطارئة الخفيفة، أما إذا قال طبيب عدل بأن شفاءه بشرب قليل مما يسكر كثيره: فهذا يدخله ضمن المضطرين فيدخل في عموم قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ} .. أما المصلحة: فنحن نوافق على شربه لقليل من الخمر الذي يُزيل العطش، أو مخلوط به بعض الماء، أما ما يزيد من عطشه فغير مقصود لأي أحد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس الذي ذكرناه مع السنة التي ذكروها" وأيضًا "تعارض القياس الذي ذكرناه مع المصلحة التي ذكروها" وأيضًا: "تعارض المصلحتين".

(5)

مسألة: إذا عطش شخص عطشًا شديدًا، أو مرض مرضًا شديدًا، أو غصَّ بلقمة، وخشي على نفسه الهلاك من ذلك، وعنده ماء نجس، وبول، وخمر: فإنه يشرب، ويداوي نفسه، ويُزيل اللقمة بالماء النجس، وإن لم يُوجد ماء نجس: فإنه يشرب، ويداوي نفسه، ويزيل اللقمة بالبول، فإن لم يكن عنده إلّا الخمر: فعل ذلك كله به؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الماء النجس مطعومًا، أن يقدَّم على البول؛ لكون البول ليس مطعومًا، ويلزم من كون البول لا يُحدُّ من شربه: أن يقدَّم على الخمر؛ لأن الخمر يحدُّ على شربه، ويلزم من عدم وجود شيء غير الخمر عنده: أن يشربه، ويداوي نفسه، ويُزيل الغصة به؛ للحفاظ على نفسه من التلف، وهذا هو المقصد منه.

ص: 194

يستهلك فيه، أو أكل عجينًا لتَّ به (مختارًا عالمًا أن كثيره يسكر: فعليه الحد ثمانون جلدة مع الحرية)؛ لأن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن:"اجعله كأخف الحدود ثمانين" فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد، وأبي عبيدة في الشام، رواه الدارقطني وغيره، فإن لم يعلم أن كثيره يسكر: فلا حدَّ عليه، ويُصدَّق في جهل ذلك (و) عليه (أربعون مع الرق): عبدًا كان، أو أمة

(6)

، ويُعزِّر من وُجد منه

(6)

مسألة: شروط وجوب حد الخمر ـ وهو: ثمانون جلدة ـ خمسة: أولها: أن يكون الشارب مكلَّفًا - وهو البالغ العاقل - ثانيها: أن يكون الشارب مسلمًا، ثالثها: أن يكون الشارب مختارًا، رابعها: أن يكون الشارب عالمًا بتحريم قليل ما أسكر كثيره، خامسها: أن يكون عالمًا أن ما شربه خمر، فإذا توفرت تلك الشروط: فيجب أن يحد ذلك الشارب ويجلد ثمانين جلدة إن كان حرًا، ويُجلد الرقيق - سواء كان عبدًا أو أمة - أربعين جلدة ويجلد المبعَّض بحسابه ـ كما سبق بيانه في القذف - أما إن كان الشارب صغيرًا، أو مجنونًا، أو كافرًا، أو مكرهًا، أو جاهلًا بحكم الخمر، أو جاهلًا بأن هذا الذي شربه هو خمر، أو كان جاهلًا أن كثير ما شربه يسكر: فإنه لا يحدُّ بحد الخمر؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من شرب الخمر فاجلدوه" فأوجب جلد شارب الخمر؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد جلد شارب الخمر أربعين جلدة، الثالثة: قول وفعل الصحابي؛ وهو من وجهين: أولهما: أن أبا بكر وعلي قد جلدا شارب الخمر أربعين جلدة، ثانيهما: أنه في عهد قد احتقر الناس عقوبة الخمر التي جلد بها الرسول عليه السلام، وأبو بكر - وهي أربعون - فاستشار عمر الصحابة فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، وروي عنه أنه قال:"إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى فأرى أن عليه حد المفتري "وهو: القذف - وهو ثمانون جلدة، فجلد عمر شارب الخمر ثمانين جلدة، وكتب به إلى ولاته في الأطراف، الرابعة: المصلحة؛

ص: 195

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حيث إن المصلحة اقتضت أن يُجلد شارب الخمر ثمانين جلدة؛ لأن العقوبة شُرعت للرَّدع والزَّجر، ولا يحصل ذلك إلّا بثمانين، فيكون جلد أربعين ثبت بالنص، والأربعين الأخرى ثبتت بقول الصحابي وفعله لاقتضاء المصلحة، وذلك تعزيرًا، الخامسة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن حد الرقيق على النصف من حد الحر في ذلك، فإن قلتَ: إن حد شارب الخمر أربعين جلدة فقط؛ للسنة الفعلية وقول وفعل الصحابي؛ أبي بكر وعلي، حيث إن عليًا جلد الوليد بن عقبة أربعين، ثم قال جلد النبي عليه السلام أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إليّ" قلتُ: إن عليًا لم ينكر ما فعله عمر باستشارة كثير من الصحابة، فدل على موافقته على جلده ثمانين بالنص، وبالاجتهاد على حسب ما تقتضيه المصلحة، ودفع المفسدة، وهذا يجوز في ذلك كما جُوِّز الاجتهاد في صفة الضرب فيه من قوته وضعفه، فإن قلتَ: ما الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة مع قول وفعل الصحابي: عمر ومن وافقه من الصحابة"، فإن قلتَ: لَمِ اشترطت تلك الشروط؟ قلتُ: لأن من اجتمعت فيه تلك الشروط، ومع ذلك شرب: فإنه قاصد لارتكاب معصية الله تعالى، بخلاف الصغير، والمجنون، والمكره، والجاهل بالحكم فهم معذورون بالصغر، والجنون، والإكراه والجهل؛ لكونهم لم يقصدوا ارتكاب المعصية، لذلك لا يأثموا لو شربوا، ولا يُحدُّوا، والأصل في ذلك قوله عليه السلام:"رفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق .. وقوله: "عفي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه" والجهل مثل الخطأ؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة"، أما الكافر فلا يُحدُّ؛ لأن الكفار غير مكلفين بفروع الإسلام - كما فصَّلتُ ذلك في كتابي: "الإلمام في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام "-.

[فرع]: إذا شرب شخص خمرًا وادَّعى جهله، بتحريمه، أو جهله بأن ما شربه=

ص: 196

رائحتها

(7)

، ........................................

خمرًا: فإنه يُصدَّق في دعواه مع يمينه؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل في المسلم الصدق، فيستصحب، ويُعمل به، ويحلف؛ للاحتياط والتأكيد.

[فرع ثان]: إذا شرب شيئًا قد خُلِط به خمر ولم يستهلك، أو يذوب فيه، أو أكل عجينًا قد عُجن بخمر، وليَّ، أو طبخ فيه لحمًا، وأكل من مرقه: فإنه يُحدُّ بحد الخمر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود عين الخمر في ذلك: ثبوت شربه وأكله لشيء يُسكر كثيره، وهذا حقيقة ما يوجب الحد.

(7)

مسألة: إذا شمَّ زيد رائحة الخمر من فم عمرو أو تقيأ عمرو خمرًا: فإنه لا يُحدُّ بجد الخمر، بل يُعزِّره الإمام أو نائبه بما يراه مناسبًا؛ للتلازم؛ حيث إن مجرَّد رائحتها، أو التقيء يُحتمل: أنه تمضمض بها، أو ظنها ماء، فلما صارت في فيه مجَّها وأخرجها، أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرهًا على شربها، أو شرب شراب التفاح، فإن رائحته كرائحة الخمر وهذه الاحتمالات شبهة تدرأ تقوى على درء الخمر ومنعه؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، فإن قلتَ: إنه إذا وُجد منه ذلك: فإنه يحد بحد الخمر، وهو قول مالك، وهو رواية عن أحمد في الرائحة؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الإقرار بشربها، أو قيام البينة بشربها يوجب إقامة حدها، فكذلك وجود رائحتها، أو تقيأها الشخص مثل ذلك، والجامع: ثبوت شربها الثانية: قول الصحابي وفعله؛ حيث إن ابن مسعود جلد رجلًا وجد منه رائحة الخمر، وقال عمر:"من قاءها فقد شربها" قلتُ: أما القياس فهو فاسد؛ لأنَّه قياس مع الفارق؛ حيث إن الإقرار أو ثبوت البيِّنة بشربها لا يتطرق إليه احتمال عدم شربها، بخلاف وجود رائحتها، أو أن يتقيأها فيوجد عدَّة احتمالات في الشرب وعدمه والاحتمال شبهة تدرأ الحد - كما سبق، أما قول وفعل الصحابي: - وهما ابن مسعود، وعمر - فهو اجتهاد يحتمل وجود قرينة رجَّحت كون المحدود قد شرب الخمر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع =

ص: 197

أو حضر شربها

(8)

، لا من جهل التحريم، لكن لا يُقبل ممن نشأ بين المسلمين

(9)

، ويثبت بإقراره مرَّة كقذف، أو بشهادة عدلين

(10)

، ويحرم عصير غلا، أو أتي عليه ثلاثة أيام بلياليها

(11)

،

القياس وقول وفعل الصحابي".

(8)

مسألة: إذا حضر شخص قومًا يشربون الخمر: فإنه يُعزَّر وإن لم يشربها؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} حيث إن حضورها - من غير إكراه - يُعتبر رضى بها، وهذا يدخل ضمن التعاون على الإثم والعدوان، وهذا يوجب عقاب من فعل ذلك؛ لأنَّه حرام؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، وإذا لم يوجد حد: فيتقرَّر أن يُعزِّره الإمام أو نائبه بما يراه مناسبًا لردعه عن حضور أماكن المنكرات والمعاصي، وهذا هو المقصد منه.

(9)

مسألة: إذا شرب شخص الخمر وادَّعى أنه جاهل في حكم الخمر فلا يعلم هل هو حلال، أو حرام؟ فإنه يُعذر بجهله، ولا يحد بشرط: أن يكون ممّن يجهل مثله - كمن نشأ في الصحراء، فإن كانت نشأته بين المسلمين: فلا يُعذر بجهله فيحد، وهذه قاعدة عامة لجميع الأحكام الإسلامية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من جهله: عذره به، وهذه شبهة تدرأ عنه الحد، ويلزم من أن تحريم الخمر لا يخفى على من عاش بين المسلمين: عدم قبول دعواه في ذلك.

(10)

مسألة: يثبت أن الشخص قد شرب الخمر-؛ ليُحد بجده - بأحد طريقين: أولهما: أن يقرّ الشارب بأنه شرب الخمر ولو كان هذا الإقرار مرَّة واحدة ولو رجع: قبل منه، ثانيهما: أو أن يشهد عليه عدلان بأنه قد شرب خمرًا. للقياس؛ بيانه: كما أنه لو أقرّ أنه قذف فلانًا، أو شهد عليه عدلان بأنه قذفه: فإنه يثبت القذف، ويجب حدّ القذف هنا، فكذلك شرب الخمر مثله، والجامع: أن كلًّا منهما لا يتضمن إتلافًا.

(11)

مسألة: يحرم شرب عصير عنب، أو قصب، أو رمان، أو ليمون، أو برتقال،=

ص: 198

ويكره الخليطان كنبيذ تمر مع زبيب

(12)

، لا وضع تمر، أو نحوه وحده في ماء لتحليته ما لم يشتدّ أو تتم له ثلاثة أيام

(13)

.

أو موز إذا وُضع في قدر ثم تُرك يغلي فوق النار، وبدأ يقذف بزبده، ويظهر له رائحة، وصوت، ولو لم يسكر، وكذلك إذا تُرك ثلاثة أيام بلياليها: فإنه يحرم ولو لم يغل، ولم يسكر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود الشدَّة عادة فيما يغلي، أو يُترك ثلاثة أيام: تحريم شربه؛ لأن العلة في تحريم الخمر هي: وجود الشدَّة.

(12)

مسألة: ويُكره شرب المخلوط من التمر والزبيب إذا لم يشتد، ويحرم إذا اشتد؛ للتلازم؛ حيث إنه إذا اشتدَّ، وظهر له رائحة، وصوت، وزُبَد: فإنه يحرم؛ لأنَّه خمر، ويلزم من عدم اشتداده: كراهية شربه؛ لأنَّه في طريقه إلى الإسكار.

(13)

مسألة: إذا وضع شخص تمرًا، أو تفاحًا أو نحوهما؛ لتحلية ماء: فيجوز شربه بشرط: عدم اشتداده، وعدم مرور وعدم مرور ثلاثة أيام بلياليها عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم اشتداد ما ذكرناه، أو مرور ثلاثة عليه: جواز شربه.

هذه آخر مسائل باب: "حد المسكر" ويليه باب "التعزير".

ص: 199

‌باب التعزير

(وهو) لغة: المنع، ومنه: التعزير بمعنى النصرة؛ لأنَّه يمنع المعادي من الإيذاء، واصطلاحًا:(التأديب)؛ لأنَّه يمنع مما لا يجوز فعله (وهو) أي: التعزير (واجب في كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة: كاستمتاع لا حد فيه) أي: كمباشرة دون الفرج (و) كـ (سرقة لا قطع فيها)؛ لكون المسروق دون نصاب، أو غير محرز، (و) كـ (جناية لا قود فيها) كصفع، ووكز (و) كـ (إتيان المرأة، المرأة، والقذف بغير الزنا) إن لم يكن المقذوف ولدًا للقاذف، فإن كان: فلا حد ولا تعزير (ونحوه) أي: نحو ما ذكر: كشتمه بغير الزنا، وقوله:"الله أكبر عليك أو خصمك"

(1)

، ولا يُحتاج في إقامة

‌باب التعزير

وفيه ثمان مسائل:

(1)

مسألة: التعزير لغة: المنع والرَّد، ومنه قوله تعالى:{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} وقوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي: لتنصروه، ونصرتموه، فكأن من نصرته قد رددت عنه أعداءه، ومنعتهم أذاه، ولهذا قيل للتأديب الذي هو دون الحد تعزير؛ لأنَّه يمنع الجاني أن يُعاود الذنب والمعصية - كما جاء في اللسان (4/ 562) ـ، ويترك ما لا يجوز فعله مطلقًا، واصطلاحًا هو:"عقوبة للتأديب في كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة" فكل معصية وذنب لا يصل إلى درجة إقامة حدّ على الفاعل: فإن الإمام، أو نائبه يُعزَّر ويُعاقب هذا الفاعل بما يراه مناسبًا لردعه وزجره كأن يُباشر امرأة دون الفرج، أو يسرق شيئًا لا يبلغ النصاب، أو شيئًا لم يُحفظ ويُحرز ـ كما سيأتي في باب السرقة-، أو يضرب شخصًا ضربًا لا جناية فيه أو تفعل امرأتان السحاق - وهو: إتيان المرأة المرأة-، أو أن يقذف شخصًا بغير الزنا واللواط، أو يشتمه، أو يسبه، أو يقول له:"يا حمار" أو" يا كلب" أو "يا خنزير"، أو "الله أكبر عليك" أو "الله خصمك" أو نحو ذلك، فإن قلتَ: لَمِ جُعل هذا الباب =

ص: 200

التعزير إلى مطالبة

(2)

.

(ولا يُزاد في التعزير على عشر جلدات)، لحديث أبي بردة مرفوعًا:"لا يُجلد أحد فوق عشرة أسواط إلّا في حد من حدود الله" متفق عليه

(3)

، وللحاكم نقصه عن

هنا؟ قلتُ: لمناسبته لذلك؛ لأن المعاصي تنقسم إلى قسمين - من حيث تقدير عقوبتها أو لا -: القسم الأول: ما قدَّر الشارع عقوبتها، وهي: الجنايات، والقصاص، والديات، والكفارات، وحدّ الزنا، وحد القذف، وحد المسكر، وحد السرقة، وحد قاطع الطريق، وحد المرتد، القسم الثاني: ما لم يقدِّر الشارع عقوبتها - وهي المعاصي التي لا حدّ فيها ولا كفارة، ويعني بذلك التعزير ـ كما سبق بيانه، فهذا جعل تقدير عقوبته للإمام أو نائبه.

[فرع]: إذا كان المقذوف بأي شيء ولدًا للقاذف: فلا شيء على القاذف من حد، ولا تعزير بخلاف العكس، فالولد يُحدُّ إذا قذف والده، ويُعزِّر إذا طلب الوالد ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يقتص من الوالد إذا قتل ولده، فكذلك القذف مثله، والجامع: أن الوالد سبب لوجود الولد، فلا يكون الولد سببًا في إعدامه، أو إهانته.

(2)

مسألة: إذا فعل شخص أيَّ معصية مما لا يوجب حدًا مما سبق ذكرها، أو نحوها: فإن الإمام أو نائبه يؤدِّبه تعزيرًا: سواء طالب من فعلت معه تلك المعصية، أو لم يُطالب، ولذلك وجب تأديب من سبَّ أيَّ صحابي، أو أيَّ مسلم، أو أهانه، أو أذلَّه، أو بصق عليه، أو سخر منه، أو هزأ به، أو أذاع أخباره بدون إذنه، أو قلَّل من قيمته بأيِّ طريقة: سواء بالكلام، أو بالإيماء والإشارة، أو بالفعل، وهذا مطلق: أي سواء طالب وارثه ذلك أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن التعزير مشروع لتأديب وتهذيب أفراد المجتمع: فوجب إقامته لذلك.

(3)

مسألة: إذا أراد الإمام أو نائبه أن يُعزِّر شخصًا لتأديبه عن طريق الجلد: فإنه=

ص: 201

العشرة حسبما يراه

(4)

، لكن من شرب مسكرًا في نهار رمضان: حُدَّ للشرب، وعُزِّر

يجلده عشرة أسواط فقط، ولا يزيد عليهن وإن رأى الإمام تنقيصها: فله ذلك، وهذا في جميع الذنوب والمعاصي التي لا حدّ فيها ولا كفارة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلّا في حد من حدود الله" حيث دلَّ بمفهوم العدد على تقييد التعزير بالضرب بعشرة فما دونها وتحريم الزيادة عليها؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، ثانيهما: قوله عليه السلام: "من بلغ حدًا في غير حد فهو من المعتدين" والمراد: إذا عاقب الإمام شخصًا عقوبة بلغ بها حدًا، في غير ما يوجب حدًا: فإنه من المعتدين الظالمين، والله لا يحب المعتدين، الثانية: التلازم؛ حيث إن العقوبة على قدر الإجرام، والمعاصي والجرائم المنصوص على حدودها أعظم في العقوبة من غيرها: فيلزم: عدم جواز التعزير على معصية خفيفة بعقوبة عظيمة تفوق عقوبة المنصوص على حدودها، أو تساويها أو تقاربها، فإن قلتَ: تجوز الزيادة في التعزير على عشرة أسواط إذا رأى الإمام أو نائبه ذلك، ولكن لا يبلغ به المقدَّر مشرعًا وهو قول كثير من العلماء؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما قد زادا على العشرة قلتُ: يُحتمل: أن يكونا قد عزَّرا شخصًا على عدَّة معاصي كأن يُجلد الشخص عشرة أسواط على تقبيله امرأة أجنبية، ويجلد عشرة أخرى على انتهاكه حرمتها من جهة أخرى، فتجتمع هذه الأعداد فيظن ظان أنه عُزِّر بما زاد عن الحد، وهذا يجاب به عن قول مالك:"إنه يُزاد بالتعزير على الحد مستدلًا بما فعله علي رضي الله عنه" وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال وعلى فرض عدم وجود هذا الاحتمال: فإن ما فعله هؤلاء الصحابة مخالف للسنة القولية، فلا يحتج به؛ لمعارضته نصًا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض أفعال الصحابة مع السنة".

(4)

مسألة: التعزير راجع إلى ما يراه الإمام مناسبًا لردع وزجر هذا العاصي، أو ذاك، =

ص: 202

لفطره بعشرين سوطًا؛ لفعل علي رضي الله عنه، ومن وطئ أمة امرأته: حُدَّ ما لم تكن أحلَّتها له فيجلد مائة، إن علم التحريم فيهما، ومن وطئ أمة له فيها شرك: عُزِّر بمائة إلّا سوطًا

(5)

، ويحرم تعزير بحلق لحية وقطع طرف، أو جرح

(6)

، أو أخذ

فيعزِّر أحيانًا بالضرب عشر، أو أقل من الأشواط، وأحيانًا بالحبس، وأحيانًا بالنفي والطرد، وأحيانًا بأخذ الأموال، وأحيانًا بالعزل عن المناصب، وأحيانًا بالإذلال بأي طريقة، وأحيانًا بالتوبيخ والكلام الجارح، ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تفاوت واختلاف الجرائم، والمعاصي بالشدة والضعف، واختلاف الأفراد واختلاف الأحوال، والظروف، والأزمنة: أن تختلف العقوبة التعزيرية: إذ ما يردع هذا قد لا يردع الآخر فكل له ما يناسبه، وهذا هو سبب إسناد تقدير عقوبتها إلى الإمام، أو نائبه.

(5)

مسألة: إذا شرب شخص المسكر في نهار رمضان: فإنه يجلد جلد الشرب - وهو ثمانون -، ويُعزِّر بعشرة أسواط، وإذا وطأ جارية امرأته: فإنه يحد حد الزنا، ومن وطأ جارية له فيها شرك: فإنه يُعزَّر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه قد شرب المسكر بلا عذر: أن يحد بحد المسكر، ويلزم من شربه للمسكر في نهار رمضان: أن يعزَّر بعشرة أسواط؛ لانتهاكه لحرمة رمضان، ويلزم من وطئه لجارية زوجته من غير عقد زواج، ولا ملك: أن يحد بحد الزنا، ويلزم من وطئه لجارية فيها شرك: أن يُعزَّر؛ لأن هذه الشراكة شبهة تدرأ عنه الحد، تنبيه: ما ذكره المصنف هنا من زيادة على عشرة أسواط، أو جلد مائة إلّا سوطًا أو نحو ذلك قول قد استند إلى اجتهادات بعض الصحابة، وهي محتملة ومخالفة للنص من السنة القولية - كما سبق ذكره في مسألة (3) -.

(6)

مسألة: لا يجوز للإمام أو نائبه: أن يُعزِّر أحدًا بحلق لحيته، أو قطع طرف من أطرافه، أو جرحه بشيء حاد؛ للتلازم؛ حيث إن تعزيره بذلك يُعتبر مُثْلَةً نهى الله عنها فيلزم تحريم ذلك.

ص: 203

مال، أو إتلافه

(7)

(ومن استمنى بيده) من رجل أو امرأة (بغير حاجة عُزِّر)؛ لأنَّه معصية، وإن فعله خوفًا من الزنا: فلا شيء عليه إن لم يقدر على نكاح، ولو لأمة

(8)

.

(7)

مسألة: يجوز للإمام أو نائبه أن يُعزِّر بأخذ مال من المعزِّر، وإتلافه؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود تأديبه، وبعض الناس لا يتأدَّب إلّا بأخذ شيء من ماله، فيلزم جواز التعزير به، فإن قلتَ: يحرم أخذ، مال، أو إتلافه قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.

(8)

مسألة: من استمنى بيده - من رجل أو امرأة - لحاجة وهو غير مستطيع للزواج بحرة، أو بأمة، أو بسرية وخاف من الوقوع بالزنا أو اللواط: فلا شيء عليه، أما إن فعل ذلك من غير حاجة، أو هو قادر على النكاح والتسري ومع ذلك تركه إلى الاستمناء بيده: فإنه يُعزَّر بما يراه الإمام أو نائبه، للتلازم؛ حيث يلزم من فعله لذلك من غير حاجة ارتكابه للمعصية وهذا يُعزَّر.

هذه آخر مسائل باب "التعزير" ويليه باب "القطع في السرقة".

ص: 204

‌باب القطع في السرقة

وهي: أخذ مال على وجه الاختفاء من مالكه، أو نائبه (إذا أخذ) المكلَّف (الملتزم) مسلمًا كان أو ذميًا، بخلاف المستأمن ونحوه (نصابًا من حرز مثله من مال معصوم) بخلاف حربي (لا شبهة له فيه على وجه الاختفاء: قُطع)؛ لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، ولحديث عائشة:"تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"(فلا قطع على منتهب) وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة (ولا مختلس) وهو: الذي يخطف الشيء ويمرّ به (ولا غاصب، ولا خائن في وديعة أو عارية أو غيرها)؛ لأن ذلك ليس بسرقة، لكن الأصح: أن جاحد العارية يقطع إذا بلغت نصابًا؛ لقول ابن عمر: "كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها" رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وقال أحمد:"لا أعرف شيئًا يدفعه"

(1)

‌باب القطع في السرقة

وفيه ثلاثون مسألة:

(1)

مسألة: السرقة التي تُقطع اليد بسببها هي: "أن يأخذ المكلَّف الملتزم بأحكام الإسلام مالًا محترمًا لمعصومٍ يبلغ ربع دينار أو ثلاثة دراهم من حرز مثله لا شبهة له فيه على وجه الاستتار والاختفاء" وسيأتي بيان ذلك في شروط القطع في السرقة، وبهذا بان الفرق بين السارق وبين المختلس والمنتهب، والغاصب، والخائن في وديعة، أو عارية ونحوها؛ إذ المختلس هو: الذي يخطف الشيء ويسلبه بغير حق على حين غفلة من مالكه، وغيره لكن من غير غلبة، والمنتهب هو: الذي يأخذ الشيء بغير حق على وجه الغلبة والقهر على مرأى من الناس، فيُمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويُخلّصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم، والخائن هو الذي يأخذ المال من صاحبه بغير حق خفية مع إظهاره له النصيحة والحفظ، والغاصب هو: الذي يأخذ مال غيره بغير حق على وجه الغلبة والقهر =

ص: 205

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والاستيلاء، فالسارق تقطع يده، أما المختلس والمنتهب، والخائن، والغاصب: فلا تقطع أيديهم؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} حيث أوجب قطع اليد بسبب السرقة؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، واقتران الحكم - وهو القطع - بالفاء بعد وصف يناسب ذلك يدل على ذلك دلالة ظاهرة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا" وقال: "ليس على المنتهب قطع" وقال: "ليس على المختلس والخائن قطع"، الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث إن النبي عليه السلام "قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم" فإن قلتَ: لم تُقطع يد السارق، ولا تُقطع يد المختلس والمنتهب، والغاصب، والخائن؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن السارق - على التعريف السابق - لا يمكن التحرز والاحتراز منه؛ لأنَّه يُنقّب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، فلو لم تقطع يد من فعل ذلك: لعظم الضرر ـ كما قال ابن القيم -؛ لأنَّه سيسرق بعض الناس بعضهم الآخر، وسيأخذوا كسبهم، وكدَّهم، وعملهم بلا مقابل، وهذا عين الظلم فدفعًا لذلك حُدَّ السارق بقطع يده، بخلاف الأربعة السابق ذكرهم فيمكن التحرز منهم: فالمختلس يمكن أن يُهزم ويؤخذ الحق منه، وكذلك المنتهب يستطيع بعض الناس الذين رأوا ذلك أن يُخلِّصوا الحق منه، والخائن يمكن أن يُحذر، وكذلك الغاصب فلا يُسمَّى ما فعلوه سرقة، فإن قلتَ: لَمِ تقطع يد السارق؟ قلتُ: للمناسبة؛ حيث إن اليد قد امتدَّت إلى مال غيره بغير حق، فناسب قطعها؛ حتى لا تمتد مرة أخرى، ولا تمتد يد غيره، فإن قلتَ: إن جاحد العارية وهو الخائن فيها يقطع إذا بلغت العارية المجحودة ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وهي رواية عن أحمد، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث إنه عليه السلام قد أمر بقطع يد المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده. قلتُ: إن المخزومية تلك ليست جاحدة، وإنما هي سارقة فلذلك قطع =

ص: 206

(ويقطع الطَّرار) وهو (الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه) أو بعد سقوطه إن بلغ نصابًا؛ لأنَّه سرقة من حرز

(2)

(ويُشترط) للقطع في السرقة ستة شروط: أحدها: (أن يكون المسروق مالًا محترمًا)؛ لأن ما ليس بمال لا حرمة له، ومال الحربي تجوز سرقته بكل حال فلا (قطع بسرقة آلة لهو)؛ لعدم الاحترام (ولا) بسرقة (محرم كالخمر) وصليب

(3)

،

رسول الله عليه السلام يدها، بدليلين: أولهما: أن أسامة لما كلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها قال عليه السلام: "إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف قطعوه"، ثانيهما: أنه ورد في بعض طرق حديثها: أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، ثم ذكرت القصة - كما روى ذلك البخاري ـ، فإن قلتَ: لَمِ عبَّرت عائشة ـ وهي رواية حديث المخزومية - بقولها: "كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده؟ قلتُ: إنما عرَّفتها عائشة بذلك؛ لكونها مشهورة بذلك، ولا يلزم أن يكون الجحد هو سبب القطع.

(2)

مسألة: تُقطع يد الطَّرار ـ وهو: الذي يبط الجيب ويشقّه، أو كمه، أو صفنه، أو شنطته، ويسرق ما فيه إن بلغ نصابًا ـ وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم وكذلك: من أدخل يده في جيبه وسرق ما فيه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود حقيقة السرقة - السابق ذكرها - في ذلك صحة وصفة بأنه سارق، والسارق تُقطع يده.

(3)

مسألة: في الأول ـ من شروط السرقة التي تقطع اليد بسببها ـ وهو: أن يكون المال المسروق مالًا محترمًا يُنتفع به: سواء كان مما يُسرع إليه الفساد كالفواكه والخضروات أو لا، وسواء كان مالًا لمسلم أو لذمي، وبناء على ذلك: تجوز سرقة مال الكافر المعلن حربه للإسلام والمسلمين، وتجوز سرقة أيِّ آلة لهو كالمزامير، والعود، وآلات الموسيقى والطبل ونحو ذلك مما لا يتم الغناء إلّا به، وتجوز سرقة كل محرَّم كالخمور، والخنازير، والأصنام، والميتات، والصليب،=

ص: 207

وآنية فيها خمر

(4)

، ولا بسرقة ماء

(5)

، أو إناء فيه ماء

(6)

، ولا بسرقة مكاتِب، وأم

ونحو ذلك ولا قطع في ذلك كله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون المال مالًا محترمًا: أن يُقدِّره الشارع ويحميه لصاحبه، حفظًا لحقوقه وذلك بقطع يد من سرقه، ويلزم من عدم حرمة مال الحربي، وكون كل محرم لا يعتبر مالًا شرعيًا: جواز أخذه ولا قطع، فإن قلتَ: إن أي طعام يُسرع إليه الفساد كالفواكه والخضروات: فلا قطع على سارقه، وهو قول أبي حنيفة؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا قطع في تمر ولا كثر" حيث نفى القطع في ذلك، قلتُ: إن المراد بذلك الثمر المعلَّق بدليل أنه عليه السلام لما سئل عن الثمر المعلَّق فذكر حكمه، ثم قال:"ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤيه الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع" وعثمان قطع يد سارق اترجَّه وهي من الفواكه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المراد من حديث: لا قطع في ثمر ولا كثر".

(4)

مسألة: الأواني التي وُضعت فيها خمر، أو معدَّة لوضع الخمور فيها إذا سُرقت: تقطع يد سارقها؛ للتلازم؛ حيث إن الأواني مال، محترم، ولا دخل لها بالخمر فيلزم قطع يد سارقها.

(5)

مسألة: لا قطع في سرقة الماء؛ للاستصحاب؛ حيث إن أصله الإباحة، فيُستصحب ذلك ويُعمل به، ويكون ذلك شبهة تدرأ الحدّ آخذه.

(6)

مسألة: تُقطع يد سارق إناء فيه ماء؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو سرق إناء فارغ: فإن يده تُقطع فكذلك سرقة إناء فيه ماء مثله والجامع: أن كلًّا من الإناءين مال محترم، فإن قلتَ: لا تقطع يد سارق إناء فيه ماء، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو سرق إناء مشتركًا بينه وبين غيره: فلا قطع، فكذلك إذا سرق إناء فيه ماء لا قطع والجامع: أن كلًّا من الإناءين متصل بما لا قطع فيه، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنَّه قياس مع الفارق؛ إذ الإناء المشترك بينه وبين غيره في ملكيته فيه شبهة تدرأ عنه الحد، بخلاف الإناء الذي فيه ماء فلا شبهة فيه، وكون=

ص: 208

ولد

(7)

ومصحف

(8)

وحر، ولو صغيرًا ولا بما عليهما

(9)

، الشرط الثاني: ما أشار

الماء فيه ليست شبهة؛ لإمكان إخلاء الماء منه ووضعه في إناء آخر، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه تعارض القياسين".

(7)

مسألة: لا تُقطع يد سارق مكاتِب - ذكرًا كان أو أنثى - أو أم ولد؛ للقياس؛ بيانه: كما أن سارق الحر لا تقطع يده، فكذلك سارق المكاتِب وأم الولد لا تقطع يده والجامع: أن كلًّا منهم لا يحل بيعه.

(8)

مسألة: تُقطع يد سارق المصحف؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} حيث إن ذلك عام لجميع السارقين لجميع ما بلغت قيمته نصابًا الثانية القياس؛ بيانه: كما أن يد سارق كتب العلم تقطع فكذلك سارق المصحف مثل ذلك والجامع: أن كلًّا منها متقوَّم تبلغ قيمته نصابًا، فإن قلتَ: لا تقطع يد سارق المصحف، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم جواز أخذ العوض عنه: عدم قطع يد سارقه؛ لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله تعالى، قلتُ: لا يُسلَّم عدم جواز أخذ العِوَض عنه بل يجوز عندنا ـ كما سبق ذكر جواز بيعه - فبطل التلازم الذي ذكرتموه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في بيع المصحف هل يجوز أو لا؟ " فمن قال: يجوز بيعه: قال: من سرقه تُقطع يده إذا توفرت شروط السرقة، ومن قال: لا يجوز بيعه: قال: من سرقه لا تُقطع يده، وهذا من تأثير بعض الفروع على فروع أخرى، وهو كثير.

(9)

مسألة: لا تُقطع يد سارق الحر الصغير، للقياس؛ بيانه: كما أنه لا تقطع يد سارق الحر الكبير، فكذلك الحر الصغير، مثله والجامع: عدم جواز أخذ العوض عنهما، فإن قلتَ: تُقطع يد سارق الحر الصغير؛ للقياس؛ بيانه: كما أن سارق العبد الصغير تقطع يده فكذلك تقطع يد سارق الحر الصغير والجامع: عدم التمييز في كل، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنَّه قياس مع الفارق؛ لأن الحر الصغير ليس=

ص: 209

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بمال ولا يؤخذ العِوَض عنه، بخلاف العبد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟

قلتُ: سببه: "تعارض القياسين، فعندنا: إن الحر الصغير يُشبه الحر الكبير، وعندهم: إنه يُشبه العبد الصغير وهو: من قياس "الشبه".

[فرع]: إذا سرق شخص ما على الحر الصغير أو العبد الصغير، أو ما على المصحف ونحو ذلك من الأثواب والحلي، فالسارق تقطع يده إذا توفّرت شروط السرقة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وهذا عام لكل سارق لأي شيء له ثمن. الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه لو سرق الأثواب، أو الحلي منفردة: فإن يد السارق تُقطع فكذلك ما لو سرقها من على لابسها والجامع: أن كلًّا منهما قد سرق نصابًا من المال، فإن قلتَ: لا تُقطع يد سارق ذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ثياب الحر الكبير لو سُرقت وهي عليه: فإن يد السارق لا تُقطع فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منها تابع لما لا قطع في سرقته قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنَّه قياس مع الفارق؛ حيث إن ثياب الكبير لو أراد أحد أخذها وهي عليه لدافع عن ذلك بقوته، فإذا أخذها فيكون منتهبًا، أو غاصبًا، وقد سبق عدم قطع يد هذين في مسألة (1) بخلاف سرقة ما على الحر الصغير، أو العبد الصغير، أو ما على المصحف: فإن المدافعة لا توجد: فتقطع يد سارقها، فإن قلتُ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: تعارض القياسين"، وهو: من قياس "الشبه".

[فرع ثان]: لا تُقطع يد سارق العبد الكبير المميز، وتقطع يد سارق العبد الصغير - وهو: الذي لا يميز بين سيده وغيره-؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من تمييز العبد الكبير، واستطاعته المدافعة عن نفسه: عدم تسمية أخذه سرقة، بل يُسمَّى نهبًا، أو غصبًا، الثانية: القياس؛ بيانه: كما تُقطع يد سارق الحيوانات فكذلك تُقطع يد سارق العبد الصغير والجامع: أن كلًّا منها مال =

ص: 210

إليه بقوله: (ويُشترط) أيضًا: (أن يكون) المسروق (نصابًا، وهو) أي: نصاب السرقة (ثلاثة دراهم) خالصة، أو تخلص من مغشوشة (أو ربع دينار) أي: مثقال، وإن لم يُضرب (أو عرض قيمته كأحدهما) أي: ثلاثة دراهم، أو ربع دينار، فلا قطع بسرقة ما دون ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تُقطع اليد إلّا في ربع دينار فصاعدًا" رواه أحمد، ومسلم، وغيرهما، وكان ربع الدينار يومئذٍ ثلاثة دراهم، والدينار اثنا عشر درهمًا رواه أحمد

(10)

(وإذا نقصت قيمة المسروق) بعد إخراجه: لم يسقط القطع؛ لأن

مملوك، فقد عنده التمييز.

[فرع ثالث] إذا كان العبد الكبير لا يميز بين سيده وغيره بسبب نوم، أو جنون، أو أعجمية عنه أو نحو ذلك: فإن سارقه تقطع يده؛ قياسًا على الحيوانات كما سبق بيانه في الفرع الثاني.

(10)

مسألة: في الثاني - من شروط السرقة التي تُقطع اليد بسببها - وهو: أن يكون المال المسروق قد بلغ نصابًا، وهو ثلاثة دراهم، أو ربع دينار: سواء كان من النقد الخالص المضروب أو غير المضروب، أو كان عَرَضًا قيمته ثلاثة دراهم، أو ربع دينار، فإذا سرق شخص هذا النصاب، أو عرضًا قيمته ذلك فما فوق: فإن يده تُقطع، أما إن سرق أقل من ذلك: فلا قطع؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا تقطع اليد إلّا في ربع دينار فصاعدًا" الثانية: السنة الفعلية: "حيث إنه عليه السلام قد قطع في مجنٍّ قيمته ثلاثة دراهم" وكان ربع الدينار ثلاثة دراهم، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث قالت عائشة: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا" وثبت هذا عن عمر، وعثمان، وعلي، والسنة، وقول الصحابي قد خصَّصا عموم آية السرقة، فإن قلتَ: لا تقطع اليد إلّا بسرقة دينار كامل، أو عشرة دراهم، وهو قول أبي حنيفة وبعض العلماء؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث روى الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا قطع إلّا في عشرة دراهم" الثانية: السنة

ص: 211

النقصان وجد في العين بعد سرقتها

(11)

أو ملكها) أي: العين المسروقة (السارق) ببيع أو هبة، أو غيرهما (لم يسقط القطع) بعد الترافع إلى الحاكم

(12)

(وتعتبر قيمتها)

الفعلية؛ حيث قال ابن عباس: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجنٍّ قيمته دينار، أو عشرة دراهم" قلتُ: أما حديث الحجاج: فهو ضعيف ـ كما قال كثير من أئمة الحديث -، أما حديث ابن عباس: فلا دلالة فيه على عدم القطع بما دون الدينار، أو عشرة دراهم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في حديث الحجاج" فعندنا: ضعيف، وعندهم: قوي، وأيضًا:"الخلاف في دلالة حديث ابن عباس". تنبيه: هناك مذاهب في قدر النصاب الذي تُقطع اليد به غير ما ذكر هنا، وكلها ضعيفة؛ نظرًا لضعف أدلّتها.

(11)

مسألة: إذا سرق زيد ثوبًا مثلًا من عمرو - قد بلغ ثمنه نصابًا وأخرجه من ملك عمرو، ثم نقصت قيمته بعد تمام سرقته فكانت أقل من النصاب بعد الترافع إلى الحاكم: فإن يد زيد تقطع؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وهنا تمَّت السرقة: فوجب القطع، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن زيدًا لو استعمل ذلك الثوب بعد سرقته فنقصت قيمته: فإن يده تُقطع، فكذلك الحال هنا والجامع أن النقص حدث بالعين المسروقة فلم يمنع القطع، فإن قلتَ: يسقط قطع يد زيد هنا وهو قول أبي حنيفة وبعض العلماء؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من عدم الشرط - وهو استدامة النصاب -: عدم الحكم وهو القطع قلتُ: إن النصاب شرط لوجوب القطع حين السرقة، فلا تُشترط استدامته؛ قياسًا على الحرز، فإنه - لو زال الحرز -: فالقطع لا يسقط، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في استدامة النصاب هل هو شرط أو لا؟ فعندنا: لا، وعندهم: نعم.

(12)

مسألة: إذا سرق زيد ثوبًا - مثلًا - من عمرو، ثم بعد ذلك اشتراه من عمرو، ووافق عمرو على بيعه له، أو وهبه، له أو ورثه زيد من عمرو، أو أوصى عمرو =

ص: 212

أي: قيمة العين المسروقة (وقت إخراجها من الحرز)؛ لأنَّه وقت السرقة التي وجب بها القطع (فلو ذبح فيه) أي في الحرز (كبشًا) فنقصت قيمته أو شق فيه ثوبًا فنقصت قيمته عن نصاب) السرقة (ثم أخرجه) من الحرز: فلا قطع؛ لأنَّه لم يُخرج من الحرز نصابًا (أو أتلف فيه) أي: في الحرز (المال: لم يُقطع)؛ لأنَّه لم يخرج منه شيئًا

(13)

(و) الشرط الثالث (أن يُخرجه من الحرز، فإن سرقه من غير حرز) كما لو

به إلى زيد: فإن يد زيد تُقطع بعد الترافع إلى الحاكم، أما قبل ذلك: فلا تقطع يده؛ للسنة القولية: حيث إن صفوان بن أمية نام في المسجد، وتوسَّد رداءه، فأخذ من تحت رأسه، فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"فأمر به النبي عليه السلام أن يُقطع" فقال صفوان: أنا لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، وفي رواية: أن صفوان قال: "أتقطعه في ثلاثين درهمًا، أنا أبيعه وأُنسئه ثمنه قال عليه السلام: "هلا كان قبل أن تأتيني به؟ " حيث بيَّن الشارع: أن يد السارق تُقطع إذا تمّت السرقة، ووصل الأمر إلى الحاكم: سواء ملك السارق العين المسروقة بأي سبب من أسباب الملك أو لا، ودلّ بمفهوم الزمان على أن ملكية السارق للعين المسروقة لو حصلت قبل وصول الأمر إلى الحاكم: لسقط عنه القطع، فإن قلتَ: إن القطع يسقط ولو وصلت إلى الحاكم في هذه الحالة، وهو قول أبي حنيفة، وبعض العلماء؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو ملكها قبل وصول الأمر إلى الحاكم وقبل المطالبة: فإن القطع يسقط فكذلك الحال بعد وصوله إلى الحاكم، والجامع: أن العين صارت ملكًا للسارق، وما صار ملكه لا يُقطع به قلتُ: إن ملكية السارق للعين المسروقة تمَّت بعد تمام شروط السرقة ومنها: مطالبة المسروق بحقه عند الحاكم: وهذا يصدق عليه أنه سارقه، والسارق تقطع يده، بخلاف ملكيته لها قبل مطالبة المسروق بها عند الحاكم: فلم تتم شروط السرقة: فلا تقطع يده، ومع الفرق لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض النص مع القياس".

(13)

مسألة: النصاب الذي تُقطع به اليد ـ وهو ثلاثة دراهم، أو ربع دينار - يُحسب =

ص: 213

وجد بابًا مفتوحًا، أو حرزًا مهتوكًا:(فلا قطع) عليه (وحرز المال: ما العادة حفظه فيه)؛ إذ الحرز معناه الحفظ، ومنه: احترز أي تحفَّظ

(14)

(ويختلف) الحرز (باختلاف الأموال، والبلدان، وعدل السلطان وجوره، وقوّته وضعفه)؛ لاختلاف الأحوال باختلاف المذكورات (فحرز الأموال): أي: النقود (والجواهر، والقماش في الدور والدكاكين والعمران) أي الأبنية الحصينة، والمحال المسكونة من البلد (وراء

من وقت إخراج العين المسروقة من حرزها، ولا يُحسب من بعد إخراجها، فمثلًا: لو ذبح سارق كبشًا، أو شقَّ ثوبًا وهو في حرزه، فنقصت قيمته عن نصاب السرقة السابق الذكر، ثم بعد ذلك أخرجه من ذلك الحرز ـ وهو لا يبلغ نصاب السرقة -: فإنه لا تقطع يد السارق؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود الشرط؛ حيث لم يُخرج من الحرز نصابًا: عدم وجوب القطع.

(14)

مسألة: في الثالث - من شروط السرقة التي تُقطع اليد بسببها ـ وهو: أن يُخرج السارق العين المسروقة من حرزها، وهو - أي الحرز -: ما اعتاد الناس حفظ أموالهم فيه، مأخوذ من "احترز": أي: تحفَّظ وتحصَّن ولم يجعل أحدًا يطَلع على ما تحفّظ عليه وحصَّنه؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "ما أخذ من غير أكمامه واحتمل: ففيه قيمته، ومثله معه، وما كان في الجران: ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن" وهذا النص يُخصِّص آية السرقة، كما خصَّصناها باعتبار النصاب، الثانية: الإجماع؛ حيث أجمع كل من يُعتدُّ بقوله من العلماء ـ من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة - على اشتراط ذلك، ومن خالف فقوله شاذ لا يُعتدُّ به، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من وجوب قطع يد سارق الأموال من حرزه من غير بيانه: أن يُعرف ذلك عن طريق عرف وعادة الناس؛ لأنَّه لا طريق إلى معرفته إلّا من جهته، فإن قلتَ: لَمِ لم يُبين ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحرز يختلف باختلاف الأزمان، والبيئات، والأماكن، وحال الناس من أمن وخوف - كما سيأتي بيانه-، فدفعًا للمشقّة عليهم: تُرك بيان الحرز لما تعارفوا عليه.

ص: 214

الأبواب والأغلاق الوثيقة) والغلق: اسم للقفل: خشبًا كان أو حديدًا، وصندوق بسوق وثمَّ حارس: حرز (وحرز البقل، وقدور الباقلاء ونحوهما) كقدور طبيخ وخزف (وراء الشرائج) وهي: ما يُعمل من قصب ونحوه يضم بعضه إلى بعض بحبل أو غيره، (إذا كان في السوق حارس)؛ الجريان العادة بذلك (وحرز الحطب، والخشب الحظائر): جمع حظيرة - بالحاء المهملة، والظاء المعجمة -: ما يُعمل للإبل والغنم من الشجر، تأوي إليه، فيعبر بعضه في بعض ويربط، (وحرز المواشي: الصِّير): جمع صيرة وهي: حظيرة الغنم (وحرزها) أي: المواشي (في المراعي بالراعي، ونظره إليها غالبًا)؛ فما غاب عن مشاهدته غالبًا: فقد خرج عن الحرز، وحرز سفن في شط بربطها، وإبل باركة معقولة بحافظ حتى نائم، وحمولتها بتقطيرها مع قائد يراها، ومع عدم تقطيرها بسائق يراها، وحرز ثياب في حمام ونحوه محافظ كقعوده على متاع، وإن فرَّط حافظ حمام بنوم، أو تشاغل: ضمن، ولا قطع على سارق إذًا، وحرز باب ونحوه: تركيبه بموضعه

(15)

(و) الشرط الرابع: (أن تنتفي الشبهة) عن السارق؛

(15)

مسألة: الحرز هو: ما عُدَّ حرزًا في عرف الناس، وهو: ما جرت عادتهم وعرفهم بحفظ كل مال بحسبه، وهذا يختلف باختلاف الأموال، والبلدان، والأزمان والسلاطين، وظلم السلطان وجوره وعدله، وقوته وضعفه، وهذا يتبين بصور: أولها: حرز الأموال النقدية، والجواهر، واللؤلؤ، والقماش، يكون في الدور، والدكاكين، وداخل الأبنية الحصينة، والأمكنة المسكونة الموجودة وراء الأبواب المغلقة والمقفلة: سواء كانت هذه الأبواب حديدًا، أو خشبًا، ثانيها: إذا وجد صندوق في سوق، وعنده حارس له فهو حرز، ثالثها: حرز الخيمة من شعر، أو نحو ذلك: بوجود شخص داخلها، ولو كان نائمًا، رابعها: البقل، والباقلاء، وقدورهما، وقدور يُطبخ فيها، وخزف حرزها: كونها وراء الشرائج وهو: السور المكوَّن من قصب، ومسعف النخيل يربط بعضها ببعض بشرط: أن يكون هناك حارس في السوق الموجودة فيه، خامسها: الحطب، والخشب،=

ص: 215

لحديث: "اِدرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم"(فلا يقطع) سارق (بالسرقة من مال أبيه، وإن علا ولا) بسرقة (من مال ولده وإن سفل)؛ لأن نفقة كل منهما تجب في مال الآخر (والأب، والأم في هذا سواء)؛ لما ذكر

(16)

(ويقطع الأخ) بسرقة مال

والمواشي حرزها: كونها في الحظائر، وهو مكان معدٌّ لها مكوّن من سور من الشجر، وتُربط البهائم عادة فيها أما إن كانت البهائم في المرعى فحرزها: وجود راع لها ونظره إليها غالب وقته، سادسها: حرز السفن وجودها مربوطة على شط البحر أو النهر، سابعها: حرز سيارات ودراجات: وجودها في داخل سور وُضع مخصَّصًا لها، ثامنها: حرز طائرات وجودها في مطاراتها المخصَّصة لها، تاسعها: حرز إبل باركة معقولة بحبل يكون بوجود حافظ لها وإن كان نائمًا، عاشرها: حرز حمولة السفن، والسيارات، والطائرات، والبهائم، يكون بوجود حافظ لها يراها غالب وقته، حادي عشر: حرز ثياب في حمام يكون بوجود حافظ لها، ثاني عشر: حرز ثياب ونحوها مما لم تكن عليه: قعوده أو توسّده عليها، ثالث عشر: حرز باب: يكون بتركيبه بموضعه، وكل شيء حرزه على حسب ما تعارف عليه الناس في زمانهم، وهذا هو دليل وقاعدة هذه المسألة، فلو تشاغل هذا الحافظ، أو وجدت دور لا مكان فيها في الصحراء، أو وسط مزارع، وسُرق منها شيء: فلا قطع؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم الحرز: عدم القطع؛ لفقدانه لشرط من شروط السرقة، فإن قلتَ: لم يُرجع في حرز كل شيء إلى ما تعارف عليه الناس؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه مراعاة لظروف، وأحوال، وأزمان كل شخص.

(16)

مسألة في الرابع - من شروط السرقة التي تقطع اليد بسببها ـ وهو: عدم وجود شبهة في ملكية المال المسروق، فإن وُجدت شبهة: فلا قطع، فمثلًا: لو سرق من مال أبيه أو أمه، أو جده أو جدته، أو سرق أب من مال ولده، أو من مال ولد ولده وإن نزل، أو سرقت أم من مال ولدها أو ولد ولدها وإن نزل: سواء في ذلك الابن، أو البنت: فلا تقطع؛ للسنة القولية: وهي من وجهين:=

ص: 216

أخيه (و) يُقطع (كل قريب بسرقة مال قريبه)؛ لأن القرابة هنا لا تمنع قبول الشهادة من أحدهما للآخر، فلم تمنع القطع

(17)

(ولا يقطع أحد من الزوجين بسرقته من مال

أولهما: قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك"، وقال:"إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه" وفي لفظ: "فكلوا من كسب أولادكم" وهذا يلزم منه: عدم قطع اليد إذا أكل من مال ولده، ثانيهما: قوله عليه السلام: "اِدرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" حيث إن كون الشارع قد أذن للوالد - مطلقًا - بالأخذ من مال ولده، وكون كل واحد من الوالد والولد تجب نفقته من مال الآخر، وتمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه يلزم من ذلك وجود شبهة تدرأ حد السرقة عنهما، فإن قلتَ: إن هذا لا يُشترط، فتقطع يد أي سارق: سواء كان السارق ولدًا، أو والدًا للمسروق أو لا، وهو قول بعض العلماء أبو ثور، للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وهذا عام لجميع السارقين؛ لأن "السارق" مفرد محلى بأل، وهو من صيغ العموم قلتُ: إن السنة القولية قد خصَّصت عموم الآية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب مع السنة".

(17)

مسألة: إذا سرق أيُّ قريب من مال قريبه - سوى عمودي النسب السابق الذكر في مسألة (16) -: فإن يد السارق تقطع - بعد توفر شروط السرقة -: سواء كان السارق أخًا للمسروق أو لا؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل: أن تقع يد كل سارق؛ لأنَّه ثبت بعد استقراء وتتبع النصوص الواردة في قطع السارق من الكتاب والسنة: أنها عامة وشاملة لجميع السارقين، ويخصَّص منهم عمودا النسب - وهم الوالد وإن علا، أو الولد وإن نزل إذا سرق كل واحد منهما من مال الآخر؛ لأن السنة القولية التي ذكرت في المسألة (16) قد خصَّصت ذلك كما سبق ذكره فيبقى ما عداهما على الأصل ـ وهو قطع يده إذا سرق.

ص: 217

الآخر، ولو كان محرزًا عنه) روى ذلك سعيد عن عمر بإسناد جيد

(18)

(وإذا سرق

(18)

مسألة: تُقطع يد الزوج إذا سرق مال زوجته المحرز، وتُقطع يد الزوجة إذا سرقت من مال زوجها المحرز؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وهو عام الجميع السارقين وخُصِّص منه محمود النسب - وهم الوالد والولد - لتخصيص السنة القولية؛ لذلك ـ كما سبق في مسألة (16) - الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن الأجنبي إذا سرق مال أجنبي: فإن يده تقطع فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما سرق مالًا محرزًا عنه لا شبهة له فيه، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حق كل واحد منهما، فإن قلتَ: لا تقطع يد الزوج ولا الزوجة هنا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العبد لو سرق من مال سيده أو سيدته: فلا قطع عليه؛ حيث إن عبد الله بن عمرو الحضرمي جاء إلى عمر فقال: إن غلامي سرق مرآة امرأتي فقال عمر: "أرسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم"، فكذلك الزوج أي: إذا كان العبد لا يُقطع بسرقة مالها فمن باب أولى إذا سرق الزوج أنه لا يُقطع قلتُ: إن عمر لم يحكم على أن الزوج لا تقطع يده إذا سرق من مال زوجته المحرز، بل حكم على العبد بذلك، ولا يصح قياس الزوج على العبد؛ لأنَّه قياس مع الفارق؛ حيث إن العبد تجب نفقته على سيده، فلعلَّه ظنَّ أن كل ما في المنزل تبع لسيده، فيكون ماله قد سرق ماله، فتحصل الشبهة في ذلك، فتدرأ عنه الحد، ثم إن المرآة لا تُحرز عادة، فلم تقطع يد العبد؛ لعدم وجود شرطي الحد في العبد، بخلاف الزوج، وعلى فرض صحة قياسكم: فهو باطل من جهة أخرى وهي: معارضته للنص، ولقياس أقوى منه ـ وهما ما ذكرناهما في استدلالنا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس الذي ذكروه مع الكتاب" و "تعارض القياسين".

ص: 218

عبد) ولو مكاتبًا (من مال سيده، أو سيد من مال مكاتبه): فلا قطع

(19)

(أو) سرق (حر مسلم) أو قن (من بيت المال): فلا قطع (أو) سرق (من غنيمة لم تخَّمس) فلا قطع؛ لأن لبيت المال فيها خمس الخمس (أو) سرق (فقير من غلَّة موقوفة على الفقراء) فلا قطع؛ لدخوله فيهم (أو) سرق (شخص من مال له فيه شركة، أو لأحد ممّن لا يقطع بالسرقة منه) كأبيه، وابنه، وزوجته، ومكاتبه:(لم يقطع)؛ للشبهة

(20)

، الشرط

(19)

مسألة: إذا سرق عبد - ولو مكاتبًا - من مال سيده، أو سرق سيد من مال مكاتبه: فلا تُقطع يد العبد؛ ولا تُقطع يد السيد هنا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" حيث يلزم من وجوب نفقة السيد على عبده: وجود شبهة في سرقة مال سيده، ويلزم من كون المكاتب لا زال عبدًا - ما لم يُسدّد ما عليه من نجوم المكاتبة -: وجود شبهة في سرقة سيده من ماله، والشبهة تدرأ الحد؛ كما سبق، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر حكم على أن العبد لا تقطع يده إذا سرق من مال سيده ـ كما سبق في مسألة (18) - فإن قلتَ: إن يد العبد، والسيد تقطع هنا، وهو قول داود الظاهري؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} وهذا عام لجميع السارقين قلتُ: إن السنة القولية؛ وقول الصحابي قد خصَّصا ذلك العموم الوارد في الآية، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب مع السنة وقول الصحابي".

(20)

مسألة: إذا سرق شخص من مال له فيه حق ولو كان قليلًا جدًا: فلا قطع على السارق فمثلًا: لو سرق الحر المسلم، أو العبد من بيت المال، أو سرق من غنيمة بعد المعركة وقبل أن يؤخذ خمس خمسها لبيت المال، أو سرق الفقير من غلَّة موقوفة على الفقراء، أو سرق من مال له فيه شركة مع آخر، أو سرق من مال لأبيه، أو أمه وإن علا، أو لولده وإن نزل، أو لمكاتبه فيه شراكة: فإن يد السارق في تلك الصور لا تقطع؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "ادرؤوا=

ص: 219

الخامس: ثبوت السرقة، وقد ذكره بقوله:(ولا يُقطع إلّا بشهادة عدلين) يصفانها بعد الدعوى من مالك، أو من يقوم مقامه (أو بإقرار) السارق (مرَّتين) بالسرقة، ويصفها في كل مرَّة؛ لاحتمال ظنه القطع في حال لا قطع فيها (ولا ينزع) أي: يرجع (عن إقراره حتى يقطع)

(21)

الحدود بالشبهات ما استطعتم" فكل شخص يسرق من مال له فيه أدنى حق: فلا تقطع يده؛ لأن هذا الحق وإن قلَّ فهي شبهة تدرأ الحد عنه، وهذا موجود في الصور السابقة؛ إذ لكل مسلم حق من بيت المال: سواء كان حرًا أو عبدًا، ولكل مسلم حقه من خمس خمس الغنيمة الذي سيوضع في بيت المال، ولكل فقير حق من غلَّة موقوفة على الفقراء، وإذا تشارك اثنان أو مجموعة في شركة، فإنهم جميعًا يملكون ذلك المال، أو يملكه والده، أو والدته، أو ولده، أو ولد ولده، أو مكاتبه، فأخذ هذا السارق من ذلك المال فيه شبهة واحتمال أن يكون قد أخذه من حقه وإن قلَّ، فلذلك درأ ومنع عنه الحد. تنبيه: قوله: "وزوجه" يقصد أن الزوج لو سرق من مال زوجته، أو العكس فلا قطع على السارق منهما؛ للشبهة قلتُ: قد بينت أن هذا مرجوح في مسألة (18).

[فرع]: يسقط حدّ السرقة في المجاعة إذا عمَّت البلاد والعباد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي المذكورة في مسألة (20)؛ حيث إن المجاعة شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاجين الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه يسقط القطع في الغزو فكذلك المجاعة يسقط، والجامع: الحاجة في كل، فإن قلتَ: لِمَ سقط القطع في الغزو؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو أُقيم الحد وهو في الغزو لكان فيه ما هو أكثر ضررًا من القطع، وهو: أن يلحق المقطوع بالمشركين؛ لكونه في وقت حرب.

(21)

مسألة في الخامس - من شروط السرقة التي تقطع اليد بسببها ـ وهو: أن يثبت أنه سرق ثبوتًا شرعيًا، ولا يكون ذلك إلّا بأحد طريقين: الطريق الأول: أن يشهد =

ص: 220

ولا بأس بتلقينه الإنكار

(22)

(و) الشرط السادس: (أن يطالب المسروق منه) السارق

رجلان حران مسلمان عدلان على أن فلانًا قد سرق وهذا لا يُقبل إلّا بشرطين: أولهما: أن تكون شهادتهما تلك بعد مطالبة المسروق منه أو وكيله بالعين المسروقة عند الحاكم أو نائبه، ثانيهما: أن يصف الشاهدان العين المسروقة، وقيمتها، ووقت السرقة، ومكان ذلك، ويصفان الحرز الذي سرق منه تلك العين وصفًا دقيقًا ـ كما قلنا في الشهود على الزنا - الطريق الثاني: أن يُقرُّ السارق على نفسه مرَّة واحدة بأنه سرق وهذا يقبل بشرطين: أولهما: أن يصف السرقة فيذكر شروطها: من الحرز، والنصاب، وكيفية إخراج العين المسروقة، ووقت ذلك ومكانه ونحو ذلك ثانيهما: أن لا يرجع السارق عن إقراره هذا إلى أن يتم القطع، فإن شهد الشاهدان قبل مطالبة المسروق أو وكيله بما سُرق منه، أو لم يصف الشاهدان، أو أحدهما، أو السارق: لسرقة وشروطها صفة دقيقة، أو رجع السارق عن إقراره قبل القطع: فلا يجوز قطع يده؛ للقياس؛ بيانه: كما أن ذلك يُشترط في سائر الحقوق التي يُراد إثباتها، فكذلك السرقة يُشترط فيها ذلك، والجامع: ثبوته شرعًا وإذا لم تتوفر شروط الثبوت: لم يجب الحكم، فإن قلتَ: إنه يُشترط في الإقرار أن يُقرّ بالسرقة مرتين، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية والفعلية: حيث إنه عليه السلام لما أتي له بسارق قال له: "ما إخالك سرقت؟ " قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا فأمر به فقطع قلت: هذا لا يُفيد اشتراط تكرار الإقرار، وإنما نتج ذلك عن جوابه عن تلقين النبي عليه السلام له بالإنكار، فيريد السارق أن يطهر نفسه بالإقرار، وتأكيده، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في المراد من السنة القولية والفعلية التي احتجوا بها".

(22)

مسألة: يجوز أن يُلقن السارق الإنكار؛ ليرجع عن إقراره؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية السابقة الذكر وهي: قول النبي عليه السلام: "ما إخالك سرقت؟ "

والثانية: القياس على حد الزنا كما سبق بيانه.

ص: 221

(بماله) فلو أقرّ بسرقة من مال غائب، أو قامت بها بيّنة: انتظر حضوره ودعواه فيُحبس، وتُعاد الشهادة

(23)

(وإذا وجب القطع)؛ لاجتماع شروطه: (قُطعت يده

(23)

مسألة: في السادس - من شروط السرقة التي تقطع اليد بسببها ـ وهو: أن يُطالب المسروق منه السارق بماله الذي سرقه، فلو أقر زيد بأنه سرق من مال عمرو، أو شهد عدلان على أنه سرق من مال عمرو، وعمرو هذا غائب: فإن زيدًا يُحبس حتى يرجع عمرو: فإن طالب بالعين المسروقة: أُعيد سماع إثبات السرقة من إقرار، أو شهود فإذا تمّت الشروط: قطعت يده، وإن لم يُطالب عمرو بالعين المسروقة بعد رجوعه: أخرج زيد من ذلك السجن ولا شيء عليه؛ للتلازم؛ حيث إن المال يُباح بالبذل والإباحة، فيُحتمل أن مالكه أباحه إياه، أو وقَّفه على المسلمين، أو على طائفة الفقراء، أو المساكين وزيد ذلك منهم، أو أذن عمرو لطائفة منهم من الناس بالدخول في حرزه، وزيد من هذه الطائفة فيلزم من ذلك اشتراط المطالبة من المسروق منه - وهو هنا عمرو - لبيان هذا الاحتمال، أما إن لم يُطالب فتبقى هذه الاحتمالات قائمة فتحصل الشبهة في كون السارق له حق في هذا المال المسروق، ومعروف: أنه إذا وُجدت الشبهة وإن قلَّتَ: فلا قطع؛ ويلزم من كون السارق قد أخلَّ بحق الله، وحق واحد الشرعية: وجوب حبسه؛ لأخذ هذا الحق منه، فإن قلتَ: إن هذا لا يُشترط، بل يُقام على السارق حدّ السرقة إذا تمّت شروط السرقة السابقة وإن لم يُطالب المسروق منه بالعين المسروقة، وهو قول أبي حنيفة، وأبي ثور، وبعض الحنابلة للقياس؛ بيانه: كما أن حدّ الزنا يُقام إذا تمت شروطه وإن لم يُطالب أحد بإقامته فكذلك حد السرقة والجامع: أنه في كل منهما قد ثبت فيه موجب الحد قلتُ: هذا فاسد؛ لأنَّه قياس: مع الفارق؛ حيث إن الزنا لا يُباح بإذن المزني بها وإباحتها له، بخلاف المال: فإنه يُباح بإذن صاحبه بأخذه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: " تعارض القياس الذي ذكروه مع التلازم".

ص: 222

اليُمنى)؛ لقراءة ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما" ولأنه قول أبي بكر، وعمر، ولا مخالف لهما من الصحابة (من مفصل الكف)؛ لقول أبي بكر، وعمر: تقطع يمين السارق من الكوع، ولا مخالف لهما من الصحابة (وحُسمت) وجوبًا بغمسها في زيت مغلي؛ لتستد أفواه العروق، فينقطع الدم

(24)

، فإن عاد: قُطعت رجله اليسرى من مفصل كعبه بترك عقبه، وحسمت

(25)

، فإن عاد: حُبس حتى يتوب، وحُرِّم أن

(24)

مسألة: إذا توفَّرت جميع شروط قطع يد السارق الستة السابق ذكرها ـ في مسائل (3 و 10 و 14 و 16 و 21 و 23) -: فإن يده اليمنى تقطع من مفصل الكف ـ وهو الكوع -، ثم تُحسم: بأن تُغمس في الزيت المغلي؛ لقواعد الأولى: قول الصحابي؛ حيث قرأ ابن مسعود: فاقطعوا أيمانهما" والقراءة الأحادية حجّة، أي: يُعمل بها، وقال أبو بكر وعمر: "تقطع يمين السارق من الكوع" الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون اليمنى هي آلة السرقة عادة، وهي أقوى في البطش والأخذ: أن تقطع؛ لإذهاب الآلة التي تمّت السرقة بواسطتها، ولكون البداءة باليمن أردع وأزجر، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن حسم اليد بعد القطع في زيت مغلي فيه سد لفتحات العروق فينقطع الدم؛ لئلا يستمر في النزول فيؤدي إلى الهلاك.

(25)

مسألة: إذا سرق شخص، وقطعت يده اليمنى - كما سبق في مسألة (24) ـ فإن عاد مرة أخرى: فإن رجله اليسرى هي التي تقطع من مفصل كعبه، ويترك له عقبًا يمشي عليه، ثم يُحسم: بأن يُغمس في زيت مغلي؛ لقواعد الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله"، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أن المحارب تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فكذلك الحال هنا والجامع: فتقطع رجله اليسرى بعد قطع يده اليمنى، وهذه هي المخالفة المقصودة، الثالثة: قول الصحابي، وفعله؛ حيث إن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك في السارقين، وكان علي يقطع من شطر القدم من معقد الشراك، الرابعة: المصلحة؛ حيث إن المشي على الرجل اليمنى أسهل فوجب قطع اليسرى.

ص: 223

يقطع

(26)

.

(ومن سرق شيئًا من غير حرز: ثمرًا كان أو كُثَرا) - بضم الكاف، وفتح المثلثة -: طلع الفحال (أو غيرهما) من جمار، أو غيره:(أُضعفت عليه القيمة) أي: ضمنه بعوضه مرتين، قاله القاضي، واختاره الزركشي، وقدَّم في "التنقيح": أن التضعيف خاص بالثمر، والطلع والجمَّار، والماشية، وقطع به في "المنتهى" وغيره؛ لأن التضعيف ورد في هذه الأشياء على خلاف القياس، فلا يتجاوز به محل النص

(26)

مسألة: إذا سرق شخص: فقُطعت يده اليمنى - كما سبق في مسألة (24) ـ فإن عاد: قُطعت رجله اليسرى - كما سبق في مسألة (25 - فإن عاد ثالثة: فلا يُقطع منه شيء، بل يحبس حتى يتوب توبة نصوحًا؛ لقاعدتين: الأولى: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن عليًا قد أتي بسارق مقطوع اليد والرجل فقال: بأي شيء يأكل؟ وبأي شيء يتوضأ؟ وبأي شيء يغتسل؟ وبأي شيء يقوم على حاجته فسجنه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن قطع يده اليسرى، أو رجله اليمنى في الثالثة فيه إلحاق ضرر بالغ عليه - كما أشار إلى ذلك علي رضي الله عنه فدفعاً لذلك الضرر: شُرع ما ذكر، فإن قلتَ: إنه إذا سرق في الثالثة: فإن يده اليسرى تقطع، وإذا سرق في الرابعة: فإن رجله اليمنى تقطع، وفي الخامسة يُعزِّر، ويُحبس وهذا قول مالك والشافعي ورواية عن أحمد، لفعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر وعمر قد قطعا يد أقطع اليد والرجل قلتُ: إن هذا معارض بقول علي، فتتعارض اجتهادات الصحابة فتتساقط، ويبقى لنا الاستدلال بالمصلحة التي ذكرها علي في عدم قطع مقطوع اليد والرجل، بل يُقتصر على سجنه حتى يتوب. تنبيه: استدل قال: من يقطع مقطوع اليد والرجل ببعض الأحاديث التي بعضها أنكرها أئمة الحديث، والبعض الآخر لم توجد في كتب السنن المعتمدة، فلذلك لم أذكرها، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض أقوال الصحابة وأفعالهم".

ص: 224

(ولا قطع) لفوات شرطه وهو: الحرز

(27)

،

(28)

،

(29)

،

(27)

مسألة: إذا سرق شخص شيئًا من غير حرز: كأن يسرق ثمرًا على نخل، أو كُثرًا - وهو: طلع الفحل - أو جمَّارًا - وهو: شحم النخلة-، أو ماشية غير محروزة: فلا تُقطع يد سارقه، وإنما يُضاعف عليه ثمنه، فإذا كان المسروق يساوي عشرة دراهم: حسب على سارقه على أنه يساوي عشرين درهمًا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "وليس في شيء من الماشية قطع إلّا فيما آواه المراح .. " ثانيهما: قوله عليه السلام في الثمر المعلَّق -: "من أصاب منه بفيه من ذي حاجة غير متّخذ خبنة: فلا شيء عليه، ومن خرج منه بشيء: فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤيه الجرين فبلغ ثمن المجن: فعليه القطع" وهو واضح الدلالة، وطلع الفحل، والجمَّار كالثمر المعلَّق؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة" الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن غلمان حاطب بن أبي بلتعة قد نحروا ناقة وجدوها - وهي كانت لرجل من مزينة - فأغرمهم عمر مثليّ قيمتها. فإن قلتَ: لِمَ لا تقطع يده مع أنه سرق ما يساوي نصابًا؟ قلتُ: لفوات شرط من أهم شروط السرقة وهو: عدم الحرز، وإذا عُدم الشرط: عدم الحكم.

(28)

مسألة: إذا أُريد قطع يد سارق فطريقته هي: أن يجلس، ويربط بحبل؛ لئلا يتحرَّك، وتجريده بقوة حتى يتبين مفصل الكف، ثم توضع على هذا المفصل سكينًا حادة جدًا، أو أي آلة أحدّ وأقوى في القطع منها، وتجرُّ بقوة؛ ليقطع في مرة واحدة، وإن وُضع مُخدِّر؛ لئلا يحسّ بالألم فلا بأس؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تيسير قطع يده، وعدم تعذيبه.

(29)

مسألة: يجتمع على السارق واجبان: أولهما: قطع يده ـ بعد استكمال شروط السرقة - ثانيهما: ردُّ العين المسروقة إن وجدت بعينها، وإن لم توجد: فإنه يرد مثلها إن كانت مثلية، أو ردّ قيمتها؛ للقياس؛ بيانه كما أن المحرم في الحج لو =

ص: 225

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(30)

صاد صيدًا مملوكًا: فإنه يجب عليه الجزاء ودفع قيمته لصاحب الصيد فكذلك الحال هنا يجب أن تقطع يد السارق، وأن يدفع العين المسروقة أو ثمنها إلى المسروق منه والجامع: أن كلًّا منهما فيه حقان لمستحقين فجاز اجتماعهما، فإن قلتَ: إذا قُطع السارق قبل الغرم فلا يغرم العين المسروقة، وإن غُرِّم قبل القطع: فلا قطع؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إذا أقمتم الحد على السارق فلا غرم عليه" وهو واضح الدلالة قلتُ: إن الحديث ضعيف؛ لوجود راو مجهول، وهو غير قوي كما قال ابن عبد البر، وعلى فرض قوّته: فإنه يُحتمل أن المقصود: أنه لا يغرم أجرة القطع، وإذا تطرّق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في الحديث الذي ذكروه" فعندنا ضعيف؛ لذلك اكتفي بالاستدلال بالقياس، وأيضًا:"الاختلاف في المراد بالحديث على فرض صحته".

(30)

مسألة: تكاليف قطع السارق من عامل قطع، وآلة، وزيت يُحسم به العضو ونحو ذلك من بيت المال؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون القطع من جلب المصالح للأمة، ودفع المفاسد عنها: أن يؤخذ تكاليفه من بيت المال.

هذه آخر مسائل باب: "القطع في السرقة" ويليه باب "حد قطَّاع الطريق، وهم المحاربون".

ص: 226

‌باب حد قطَّاع الطريق

(وهم: الذين يعرضون للناس بالسلاح) ولو عصا، أو حجرًا (في الصحراء، أو البنيان) أو البحر (فيغصبونهم المال) المحترم (مجاهرة، لا سرقة)

(1)

، ويُعتبر ثبوته

‌باب حد قطَّاع الطريق -وهم المحاربون-

وفيه ثلاث عشرة مسألة:

(1)

مسألة: قطاع الطريق "هم: الذين يعرضون للناس مجاهرة بواسطة السلاح فيغصبونهم أموالهم المحترمة": سواء كان السلاح قادرًا على قتل، أو قطع طرفٍ أو إيجاد أيِّ ألمٍ، وسواء كان هذا السلاح من نوع العصا، أو الأحجار، أو السيوف والسكاكين ونحوها، وسواء كان حصل هذا في الصحراء، أو داخل المدن والبنيان، أو في البحر، وأتي بلفظ:"مجاهرة" لاشتراط أخذ المال قهرًا وهذا أخرج السارق؛ لأنَّه يأخذ المال خفية، وأُتي بلفظ:"بواسطة سلاح" لاشتراط وجود السلاح، هذا لإخراج من يعرض لهم بلا سلاح، فهذا ليس من قطاع الطريق؛ لأنهم لا يمنعون من قصدهم، وأُتي بلفظ:"المحترمة" لإخراج من يغصب الأموال غير المحترمة كالخمور، والكلاب، ومال كافر حربي، وأُتي بلفظ: فيغصبونهم أموالهم"؛ لبيان أن من قاتل جهرًا لأجل أخذ المال بأي نوع من أنواع القتال فهو قاطع طريق، ومن المحاربين، وخرج بذلك من قتل سرًا لأخذ المال، أو يدعو أحدًا إلى منزله لأي غرض فيقتله ويأخذ ماله، فهذا ليس من قطاع الطريق، فإن قلتَ: إن فعلوا ذلك في البنيان: فإنهم لا يكونون قطاع طريق، ولا محاربين، وهو رواية عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تسميته بقاطع الطريق: أن يكون ذلك في الصحراء؛ لكون قطع الطريق في الصحراء غالبًا، ويلزم من كون مَنْ في داخل البنيان يلحقه الغوث غالبًا فتذهب شوكة المعتدين: أن لا يكونوا قطاع طريق قلتُ: إن قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ

ص: 227

ببيِّنة، أو إقرار مرتين والحرز، ونصاب السرقة

(2)

(فمن) أي: فأي مكلَّف ملتزم، ولو أنثى، أو رقيقًا (منهم) أي: من قطاع الطريق (قتل مكافئًا) له (أو غيره) أي: غير مكافئ (كالولد) يقتله أبوه (و) كـ (العبد) يقتله الحر (و) كـ (الذمي) يقتله المسلم (وأخذ المال) الذي قتله لقصده: (قُتل) وجوبًا لحق الله تعالى، ثم غسل، وصُلِّي عليه (ثم صُلب) قاتل من يُقاد به في غير المحاربة (حتى يُشتهر) أمره، ولا يقطع مع ذلك

يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} وهي نازلة في قطاع الطريق والمحاربين من المسلمين كما قال ابن عباس، وهي عامة لكل محارب: سواء كان في الصحراء أو البنيان، ثم إنهم إذا عوقبوا في الصحراء فإنهم أحق بالعقوبة في البنيان من باب القياس الأولى؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة لا محل تقاتل الناس وتعاديهم فهذا يقتضي شدَّة العقوبة عليهم؛ حيث إنه يأتيهم في مأمنهم؛ لأنهم يسلبوا الرجل في داره جميع ماله، ولا يلزم ما قالوه؛ لأن سُمُّوا بقاطع الطريق على حسب الغالب؛ لأن الغالب: أن يكونوا في الصحراء فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم الذي قالوه مع عموم الكتاب، والقياس الأولى اللذين ذكرناهما".

(2)

مسألة: يُشترط لوجوب حد المحاربة ثلاثة شروط: أولها: ثبوته ببيِّنة وهو: أن يشهد رجلان حران مسلمان عدلان على حصول ذلك، أو ثبوته بإقرار المحاربين أنفسهم مرة واحدة، ثانيها: وجود الحرز للمال الذي أخذه ذلك المحارب من صاحبه ثالثها: أن يبلغ ما أخذه المحارب من المال المحترم النصاب الذي يُقطع به السارق - وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم أو ما يعادلهما-، فلو لم تثبت بيّنة على ذلك، ولم يُقرّ بالفعل، أو وُجد المال بدون حرز مثله، أو أخذ ما دون النصاب: فإنه لا يُقطع، للقياس؛ على السرقة كما سبق بيانه بالتفصيل في مسائل (3 و 10 و 14 و 21) من باب "القطع في السرقة".

ص: 228

(وإن قتل) المحارب (ولم يأخذ المال: قتل حتمًا، ولم يُصلب)؛ لأنَّه لم يذكر في خبر ابن عباس الآتي

(3)

(وإن جنوا بما يوجب قودًا في الطرف) كقطع يد، أو رجل ونحوهما:(تحتَّم استيفاؤه) كالنفس، صححه في "تصحيح المحرَّر"، وجزم به في "الوجيز" وقدَّمه في "الرعايتين" وغيرهما، وعنه: لا يتحتَّم استيفاؤه، قال في "الإنصاف": وهو المذهب، وقطع به في "المنتهى" وغيره

(4)

(وإن أخذ كل واحد)

(3)

مسألة: إذا قتل شخص من قطاع الطريق شخصًا آخر، وأخذ ماله: فإن ذلك الشخص القاتل والآخذ للمال يُقتل وجوبًا، ثم يُغسل ويُصلَّى عليه، ثم يُصلب حتى يُشهر أمره، ولا يقطع، أما إن قتل ولم يأخذ المال: فإنه يُقتل حتمًا، ولا يُصلب: وهذا مطلق، أي: سواء كان هذا الشخص الذي هو من قطاع الطريق مسلمًا، أو كافرًا، ذميًا، ذكرًا، أو أنثى، أو خنثى، حرًا أو عبدًا، وسواء كان مكافئًا للمقتول أو لا، فلو قتل مسلم ذميًا لقصد أخذ ماله: أو قتل والد ولده لأجل أخذ ماله، أو قتل حر عبدًا لأجل أخذ ماله: فإن المسلم، والوالد، والحر يقتل بمن قتله هنا في المحاربة، ولكن هؤلاء الثلاثة لا يصلبون؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ وهي آية المحاربة السابقة الذكر في مسألة (1) وحكمها عام فيشمل من ذكرنا الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عباس قال: "إذا قتلوا وأخذوا المال: قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال: قتلوا ولم يصلبوا" وثبت ذلك عن ابن عمر، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون هذا القتل من حق الله تعالى: عدم اعتبار المكافأة هنا.

(4)

مسألة: إذا جنى شخص من قطاع الطريق جناية توجب قودًا وقصاصًا فيما دون النفس كأن يقطع يداً، أو رجلًا، أو قلع عينًا، أو قطع أذنًا من المجني عليه: فيجب أن يُقتص من ذلك الشخص ويستوفي فتقطع يده كما قطع يد الآخر وهكذا، ولو عفى المجني عليه: لم يسقط؛ القاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أنه لو قتل نفسًا: فإنه يقاد ويقتل به فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما فيه نوع قود. الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون الجراح تابعة للقتل: ثبوت حكم =

ص: 229

من المحاربين (من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق) من مال لا شبهة له فيه (ولم يقتلوا: قطع من كل واحد يده اليُمنى، ورجله اليسرى في مقام واحد) وجوبًا (وحسمتا) بالزيت المغلي (ثم خُلِّي) سبيله

(5)

(فإن لم يصيبوا نفسًا، ولا مالًا يبلغ نصاب السرقة: نفوا بأن يُشردوا) متفرقين (فلا يتركون يأوون إلى بلد) حتى تظهر توبتهم؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ

= فيها مثل حكمه، فإن قلت: لا يتحتَّم استيفاء ذلك، وهوقول كثير من الحنابلة، وهو رواية عن أحمد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ذكر الشرع - في حدود المحاربين - للقتل والصلب، والقطع والنفي: عدم تعلُّق غيرها في المحاربة، فلا يتحتَّم قلتُ: لم يرد ما ذكرناه بالنص - ولكنه ثبت بالقياس والتلازم وهما دليلان معتبران، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم الذي ذكروه مع القياس، والتلازم اللذين ذكرناهما".

(5)

مسألة: إذا اجتمع مجموعة من قطاع الطريق، واعترضوا شخصًا، وأخذوا جميعًا منه مالًا قدر ما يُقطع به السارق - وهو: ربع دينار، أو ثلاثة دراهم - ولم يقتلوه: فإن كل واحد من قطاع الطريق تُقطع يده اليُمنى، ورجله اليسرى في زمان ومكان واحد، ثم تُحسما: بأن توضعا في زيت مغلي - كما يُفعل به عند القطع في السرقة - ثم يُخلَّى سبيله؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ وهي آية الحرابة - وقد سبق ذكرها في مسألة (1) - الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عبَّاس قال: "إذا لم يقتلوا، وأخذوا المال: قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف" الثالثة: المصلحة؛ حيث إن قطع يده اليمنى، ورجله اليسرى أكثر تأثيرًا في المجتمع من القتل؛ لأن القتل قد يُنسى، أما إذا رأى أفراد المجتمع شخصًا مقطوع اليد والرجل تذكروا بذلك جرمه، وابتعدوا عمّا فعل؛ لئلا يصيبهم مثل ما أصابه، الرابعة: التلازم؛ حيث يلزم من استيفاء ما لزمه بقطع اليد والرجل: تخلية سبيله بدون حبس، أو نفي.

ص: 230

الْأَرْضِ} قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: إذا قتلوا وأخذوا المال: قُتلوا وصُلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا، ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا: قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالًا: نُفوا من الأرض" رواه الشافعي

(6)

، ولو قتل بعضهم: ثبت حكم القتل في حق جميعهم، وإن قتل بعض، وأخذ المال بعض: تحتَّم قتل الجميع وصلبهم

(7)

(ومن تاب منهم) أي:

(6)

مسألة: إذا أخاف قطاع الطريق الناس، ولم يقتلوا، ولم يأخذوا مالًا يساوي نصاب السرقة: فإنهم يُنفوا، كل واحد في بلد مختلف عن بلد الآخر، فلا يتركون يجتمعون في بلد واحد حتى يُظهروا توبتهم توبة نصوحًا، ويكون نفيهم عامًا كاملًا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ وهو قوله في آية الحرابة وقطاع الطريق: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عبَّاس قال: وإذا أخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالًا نفوا من الأرض الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن الزاني غير المحصن - وهو البكر - يجلد مائة جلدة، ويُغرَّب عامًا - أي: يُنفى إلى بلد غير بلده - فكذلك قاطع الطريق الذي لم يقتل ولم يأخذ مالًا يُنفى، والجامع: أن المعاقبة بالنفي تناسب من فعل ذلك، قاعدة: عقوبة قاطع الطريق - وهو المحارب - تنقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول: القتل والصلب وهذا خاص بمن قتل وأخذ المال - كما سبق في مسألة (3) - القسم الثاني: القتل فقط، وهذا خاص بمن قتل ولم يأخذ مالًا - كما سبق في مسألة (3) - القسم الثالث: قطع يده اليُمنى، ورجله اليسرى فقط، وهذا خاص بمن أخذ المال، ولم يقتل - كما سبق في مسألة (5) - القسم الرابع: النفي فقط، وهذا خاص بمن أخاف الناس ولم يقتل ولم يأخذ مالًا - كما سبق في مسألة (6) -، وقد، بيَّن ذلك ابن عبَّاس، وخُصِّصت الآية به.

(7)

مسألة: إذا حصل تواطؤ بين مجموعة من الأفراد، وأخافوا الناس، وقتل بعض هذه المجموعة بعض الناس: فإن الإمام أو نائبه يقتل جميع تلك المجموعة: سواء =

ص: 231

من المحاربين (قبل أن يُقدر عليه: سقط عنه ما كان) واجبًا (لله) تعالى (من نفى وقطع) يد ورجل (وصلب وتحتُم قتل)؛ لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (وأخذ بما للآدميين من نفس، وطرف، ومال، إلا أن يعفى له عنها) من مستحقها، ومن وجب عليه حد، سرقة، أو زنا، أو شرب، فتاب منه قبل ثبوته عند حاكم: سقط، ولو قبل إصلاح عمل

(8)

(ومن صال

= مَنْ باشر القتل، أو لا، وكذلك: إذا قتل بعضهم، وأخذ المال البعض الآخر: تقتل كل المجموعة وتصلب؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن طليعة الجيش، ومؤخرته تستحق من الغنيمة مثل ما يستحق سائر الجيش فكذلك الحال هنا والجامع: استواء المباشر وغيره في الغرم، والغنم، الثانية: التلازم؛ حيث إن المحاربة مبنية على حصول المنفعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكّن المباشر من فعله إلّا بقوة الردء والمعين فيلزم: أن يُعمِّموا بعقاب واحد، فإن قلت: لَمِ شُرع هذا؟ قلت: لأن كل واحدٍ من المجموعة مقوِّي للآخر في إخافة الناس، فإن قلت: ليس على الردء والمعين إلّا التعزير، وهو قول الشافعي؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه في الحدود يجب إقامة الحد على فاعل ومرتكب المعصية فقط، ويُعزَّر المعين فكذلك الحال هنا قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن المحاربة مبنية على اجتماع المحاربين على المعاضدة فيلزم إنزال العقوبة عليهم جميعًا، بخلاف سائر الحدود فكل شخص يحدّ على حسب معصيته، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" وأيضًا: "تعارض القياس الذي ذكره مع التلازم".

(8)

مسألة: إذا تاب شخص من المحاربين قبل أن يُقدر ويُقبض عليه، أو تاب سارق، أو زان، أو شارب للخمر قبل ثبوت ذلك عند حاكم: فإن العقوبات التي لله تعالى تسقط وهي عقوبة المحاربين، أو قطع يد السارق، أو قتل أو جلد الزاني، أو جلد الشارب، وما هو حق للآدميين من الاقتصاص من النفس، أو الأطراف، أو الجراح، أو رد الأموال المسروقة: فإن جميع ذلك يُردّ إلى أصحابها

ص: 232

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= إلّا إذا عفى أصحابها عنها: وهذا مطلق: أي سواء حصل ذلك قبل مضي مدَّة يعلم بها صدق توبته وإصلاح عمله أو لا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى - بعد آية المحاربة -: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حيث استثنى الشارع التائبين قبل القدرة عليهم فلا يقام عليهم حد المحاربة، وهذا دل بمفهوم الموافقة على اعتبار توبة غيره بطريق أولى؛ لأن ما قُبلت توبته مع شدَّة ضرره وتعدِّيه وهو المحارب فمن باب أولى أن تقبل توبته فيما دون ذلك - وهي الحدود - الثانية: السنة القولية؛ وهي من وجوه: أولها: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبتُ حدًّا، فأقمه عليّ، قال:"أليس قد صلَّيت معنا؟ " قال: نعم قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك" ثانيها: قوله عليه السلام: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ومن لا ذنب له لا حدّ عليه، ثالثها: قوله عليه السلام في ماعز لما هرب من أذى الرجم -: "هلّا تركتموه لعلَّه يتوب فيتوب الله عليه؟ " الثالثة: القياس؛ بيانه: كما أن حدّ المحارب يسقط إذا تاب قبل القدرة عليه فكذلك الحدود الأخرى مثله تسقط بمجرد رد التوبة والجامع: أن كلًّا منها حق خالص الله تعالى، الرابعة التلازم؛ حيث يلزم من كون حقوق الآدميين عليهم ومبناها على المشاحة: عدم سقوطها عنهم، فإن قلت: لا تسقط الحدود - كحدّ السرقة والزنى، والشرب - بالتوبة قبل أن تصل إلى الإمام أونائبه وهو قول مالك، وأبي حنيفة وكثير من العلماء؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث إن آية السرقة، وآية الزنا وردتا عامتين، فيشملان التائب، وغيره الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إن النبي عليه السلام قد رجم ماعزًا، والغامدية، وقطع الذي أقرّ بالسرقة عنده مع أنهم جاؤوا تائبين قلتُ: أما الآيتان: فإن عمومهما قد خصِّصا بمنطوق ومفهوم آية المحاربة والسنة القولية والقياس - كما سبق ذكرها -، وأما السنة الفعلية: فقد وصل الأمر إلى ولي الأمر - وهو النبي عليه السلام لذلك أقام =

ص: 233

على نفسه، أو حرمته) كأمه، وبنته، وأخته، وزوجته (أو ماله: آدمي، أو بهيمة: فله) أي: للمصول عليه (الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به) فإذا اندفع بالأسهل: حرم الأصعب؛ لعدم الحاجة إليه (فإن لم يندفع) الصائل (إلّا بالقتل: فله) أي: للمصول عليه (ذلك) أي: قتل الصائل (ولا ضمان عليه)؛ لأنه قتله لدفع شره (وإن قتل) المصول عليه: (فهو شهيد)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد" رواه الخلال

(9)

(ويلزمه الدفع عن

= عليهم الحد ولم ينظر إلى توبتهم، وكلامنا فيمن تاب قبل أن يصل الأمر إلى الحاكم، فإن قلتَ: ما الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الآيات" و"تعارض الكتاب مع السنة" و"تعارض الكتاب مع القياس".

(9)

مسألة: إذا صال وهجم زيد عليك، أو على أحد من محارمك كأمك، أو أختك أو بنتك، أو زوجتك، أو أراد أخذ مالك، أو بهيمتك: فلك أن تدافع عن نفسك بما يغلب على ظنك أن زيدًا سيندفع به: سواء كان هذه الآلة سهلة كالعصا أو صعبة كالحديد، فإن لم يندفع زيد - وهو الصائل والهاجم عليك - إلا بقتله: فلك قتله، ولا ضمان عليك، فإن قتلك فأنت شهيد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال أبو هريرة: جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه" قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار" وقال عليه السلام "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل: فهو شهيد" وغير المال كالمال في الدفاع عنه؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة" الثانية التلازم؛ حيث يلزم من كون المقصود دفعه: أن يُدفع بأيسر السبل، ويلزم اضطراره إلى قتل الصائل: جواز قتله، ويلزم من كونه قد قتله لدفع شره: عدم ضمانه كالباغي، فإن قلت: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه لو لم يُشرع ذلك: لأدَّى إلى تسلّط الناس بعضهم على بعض.

ص: 234

نفسه) في غير فتنة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وكذا: يلزمه الدفع في غير فتنة عن نفس غيره (و) عن (حرمته) وحرمة غيره؛ لئلا تذهب الأنفس

(10)

(دون ماله) فلا يلزمه الدفع عنه، ولا حفظه عن الضياع والهلاك، فإن فعل: فلا ضمان عليه

(11)

(ومن دخل منزل رجل متلصِّصًا: فحكمه كذلك) أي:

(10)

مسألة: إذا صال وهجم زيد على نفسك، أو نفس غيرك: من ذكور، وإناث: بأن رأى شخصًا يريد أن يزني بامرأة، أو يلوط بذكر: فيجب عليك أن تدافع عن نفسك وعن نفس غيرك بشرط: عدم الفتنة، أي: بشرط: القدرة على هذا الدفاع، وعدم الحوق ضرر عليك في دفاعك أو بعده؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} حيث دلَّت الآية بعمومها على عدم جواز الدفاع عن الأنفس إذا كان ذلك سيؤدي إلى التهلكة والموت، أو أيِّ ضرر، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام في الفتنة -: "اِجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف: فغطِّ وجهك" ولقوله: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إن عثمان لم يدفع عن نفسه في الفتنة المعروفة، وترك القتال مع إمكانه، الرابعة: المصلحة؛ حيث إنه قادر على إحياء النفس فيلزم الدفاع عنها لأجل ذلك، ولمنع شيوع الفواحش بالنساء وغيرهن، وهذا هو المقصد منه.

(11)

مسألة: إذا صال وهجم زيد على مالك: فلا يجب عليك أن تدافع عنه فإن فعلت ودافعت: وقتلت الصائل والمهاجم: فلا ضمان عليك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من جواز بذل المال للغير: عدم وجوب المدافعة عنه، ولا حفظه عن الضياع والهلاك، ويلزم من أنه دافع عنه لدفع شره: عدم ضمانه فيما لو مات، فإن قلت: بل يجب عليك أن تدافع عن المال، وحفظه من الضياع والهلاك، وهو لكثير من العلماء؛ للسنة القولية: حيث نهى عليه السلام عن القيل والقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال" والنهي هنا، مطلق فيقتضي التحريم فيحرم =

ص: 235

يدفعه بالأسهل، فالأسهل، فإن أمره بالخروج فخرج: لم يضربه، وإلّا: فله ضربه بأسهل ما يندفع به، فإن خرج بالعصا: لم يضربه بالحديد

(12)

، ومن نظر في بيت غيره من خصاص باب مغلق ونحوه، فخذف عينه أو نحوها فتلفت: فهدر، بخلاف مستمع قبل إنذاره

(13)

.

* * *

= إضاعته بالتساهل بعدم الدفاع عنه قلتُ: إن هذا عام، وهو مخصَّص بالتلازم الذي ذكرناه، ثم إنه يُحتمل وجود ضرر على المدافع عن ماله: فدفعًا لذلك: شرع ما قلناه، وهو المقصد منه.

(12)

مسألة: إذا دخل زيد منزلك مُتلصِّصًا - أي: طالبًا للسرقة -: فادفعه بالأسهل بما يغلب على ظنك دفعه به، فإن كفى أمره بالخروج فخرج: فلا يجوز اتباعه وضربه، وإن خرج بالعصا: فلا تضربه بالحديد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اندفاع شره بالأسهل: عدم جواز ضربه بالأصعب.

(13)

مسألة: إذا نظر أي شخص من خصاص وخلل بابك، أو جدارك، أو رقى سطحًا، أو منارة وبدأ ينظر إلى بيتك: فطعنته بعود ونحوه فأصبت عينه، أو أي بقعة من بدنه فتلف: فلا ضمان عليك؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من اطلع في بيت ففقئت عينه: فلا دية، ولا قصاص" ومثله الاستماع. فإن قلت: لَمِ شُرع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه المحافظة على عورات الناس وأسرارهم.

هذه آخر مسائل باب: "حد قطاع الطريق - وهم المحاربون -" ويليه باب "قتال أهل البغي".

ص: 236

‌باب قتال أهل البغي

أي: الجور والظلم، والعدول عن الحق (إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة) - بفتح النون -: جمع مانع: كفسقة، وكفرة، وبسكونها بمعنى: امتناع يمنعهم (على الإمام بتأويل سائغ) ولو لم يكن فيهم مطاع: (فهم بغاة) ظلمة، فإن كانوا جمعًا يسيرًا لا شوكة لهم، أولم يخرجوا بتأويل، أو خرجوا بتأويل غير سائغ: فقطاع طريق

(1)

،

(2)

، ونصب الإمام فرض كفاية، ويُجبر من تعيَّن لذلك، وشرطه: أن يكون

‌باب قتال أهل البغي

وفيه عشر مسائل:

(1)

مسألة: أهل البغي - أو البغاة - هم: مجموعة من الناس من أهل الجور والظلم، والعدول عن الحق لهم قوة، وشوكة، ومنْعة، وسلاح، وعدد وعدَّة، وشدَّة لا يكفَّون إلا بجمع جيش يخرجون على الإمام ويخالفونه، ويريدون خلعه بتأويل سائغ ويحتمل قبوله: سواء كان هذا التأويل صوابًا أو خطأ: وهذا الاسم - وهو: البغاة - يُطلق عليهم: سواء كان فيهم ومعهم شخص مطاع، أو لا، وسواء كانوا في طرف دولة ذلك الإمام، أو في وسطها، فإن قلتَ: ما الفرق بين هؤلاء وبين قطاع الطريق؟ قلت: البغاة ما سبق ذكرهم، ويكونوا قطاع طريق إذا كانوا مجموعة يسيرة لا شوكة لهم، أوكانوا مجموعة كثيرة، ولكنهم خرجوا بلا تأويل، أو خرجوا بتأويل ولكنه غير سائغ، وفرق بين حكم البغاة - كما سيأتي - وبين حكم قطاع الطريق - كما سبق - فإن قلتَ: لَمِ جُعل هذا الباب بعد باب قطاع الطريق؟ قلتُ: لشبه البغاة بقطاع الطريق ببعض طرقه ووجوهه - كما سبق بيانه -.

(2)

مسألة: يجب قتال أهل البغي - كما سبق وصفهم -؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فأوجب الله =

ص: 237

حرًا، ذكرًا، عدلًا، قرشيًا، عالمًا، كافيًا ابتداء ودوامًا

(3)

(و) يجب (عليه) أي: على الإمام (أن يراسلهم) أي: البغاة، (فيسألهم) عن (ما ينقمون منه: فإن ذكروا مظلمة: أزالها، وإن ادّعوا شبهة: كشفها)؛ لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، والإصلاح إنما يكون بذلك، فإن كان ما ينقمون منه مما لا يحل: أزاله، وإن كان حلالًا لكن التبس عليهم، فاعتقدوا أنه مخالف للحق: بيَّن لهم دليله، وأظهر لهم وجهه (فإن فاؤوا) أي: رجعوا عن البغي، وطلب القتال: تركهم (وإلا) يرجعوا: (قاتلهم)

= تعالى قتال أهل البغي هنا؛ لأن الأمر مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من خرج على أمتي وهم جمع، فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان" وهذا الأمر للوجوب؛ لأنه مطلق، الثالثة: الإجماع؛ حيث أجمع الصَّحابة على قتال أهل البغي، فإن قلت: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه اجتماع لكلمة المسلمين، وحماية لهم من الفتن التي تحدث عادة بسب البغاة ممن لا يرضون بأحد من الولاة.

(3)

مسألة: يجب على المسلمين أن يضعوا عليهم إمامًا حاكمًا لهم يكون ذكرًا حرًا، عدلًا، عالمًا بأكثر الأحكام الفقهية، كافيًا في السياسة، وإقامة العقوبات على العصاة، والدفاع عن الأمة ابتداءً، ودوامًا وإن وُجد شخص قرشي صالح لها فهو أولى؛ وإذا أجمع المسلمون أو أكثرهم على شخص وعيّنوه فيجب عليه أن يقبلها، وإن أبى: فإنه يُجبر عليها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "الأئمة من قريش" الثانية: المصلحة؛ حيث لا يُمكن أن يُقام الدين، ولا الدنيا، ولا مصالح الناس المتعدِّدة إلا بنصب إمام وحاكم لهم، وأجمع المؤرخون وأهل الإسلام: على أن الناس لا يصلحون إلّا بولاة، ولو تولّى من الظلمة فهو خير من عدم ذلك، وسنة من إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمارة، وإذا كان ذكرًا حرًا عدلًا عالمًا كافيًا في ذلك قرشيًا فهو مقدم على غيره.

ص: 238

وجوبًا وعلى رعيته معونته

(4)

، ويحرم قتالهم بما يعم إتلافهم كمنجنيق ونار إلا

(4)

مسألة: إذا ظهرت جماعة من البغاة فيجب على الإمام أن يراسلهم ويتفاهم معهم على كل شيء: فيسألهم عن الأمور التي نقموا عليه بشأنها، فإن كان ما ينقمونه وينتقدونه مما لا يحل فعله شرعًا: أزاله؛ ليرجعوا إلى الطاعة، وإن كان ما ينقمونه حلالًا شرعًا، لكن التبس عليهم الأمر فظنوا أن الحلال باطل، أو العكس: بيَّن أدلة حلِّه، وقواعده الشرعية، وأظهر لهم وجهة نظره فإن رجعوا عن البغي إلى الحق: فإنه يتركهم، وإن أصروا على موقفهم وأبوا الرجوع: فإنه يعظهم هو، أو يرسل إليهم من العلماء المحققين المخلصين من يخلص لهم النصيحة، ويُبين لهم الحق، فإن أصرُّوا على موقفهم يجب عليه - أي: على الإمام - أن يقاتلهم حتى يُشتت شملهم، ويقضي عليهم قضاء لا قيام لهم بعده، ويجب على جميع الرعية أن يُعينوا الإمام على قتالهم، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} والمراد بالإصلاح المأمور به هنا: هو مراسلة البغاة، وكشف الشبهة" وإزالة المظلمة إن وُجدت والمخاطب هنا الإمام الذي بايعته الرعية فيكونون معه في ذلك فوجب قتالهم إن لم يرجعوا؛ لأن الأمر هنا مطلق، فيقتضي الوجوب، وقال تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فأوجب طاعة ولي الأمر إذا أمر بقتال هؤلاء البغاة، الثانية: المصلحة؛ حيث وجبت مناصحتهم، وكشف الشبهة لهم؛ لأن المقصود كفهم ودفع شرّهم، لا قتلهم، فإذا أمكن بمجرد القول فهو أولى من القتال؛ لما في القتال من الضرر على الفريقين وهو المقصد منه؛ الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث إن عليًا لمّا اعتزله الحرورية بعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فنصحهم وبيّن لهم الأدلة من الكتاب والسنّة فرجع منهم أربعة آلاف شخص.

ص: 239

لضرورة، وقتل ذريتهم ومُدْبرهم، وجريحهم، ومن ترك القتال

(5)

، ولا قود بقتلهم، بل الدية

(6)

، ومن أُسر منهم: حبس حتى لا شوكة، ولا حرب

(7)

، وإذا انقضت: فمن وجد منهم ماله بيد غيره: أخذه، وما تلف حال حرب غير مضمون

(8)

، وإن

(5)

مسألة: إذا أراد الإمام قتال البغاة: فلا يستعمل سلاحًا يقتل جميعهم كالمنجنيق، والقنابل، ونحو ذلك إلّا عند الضرورة القصوى بأن لا يمكنه صدَّهم إلّا بذلك فحينئذٍ يستعمله، وكذلك لا يجوز للإمام أن يقتل أولادهم وذريتهم، وإذا هرب أحد منهم من ساحة القتال فلا يتبع، ولا يجوز قتل جريحهم، ولا من ألقى السلاح منهم؛ لقواعد: الأولى: التلازم؛ حيث إن العدالة يلزم منها هذه الأحكام؛ لأنه ليس من العدل قتل، جميعهم، وذريتهم، وهاربهم، وجريحهم، ومن ألقى السلاح الثانية: القياس؛ بيانه: كما يجب على الإنسان قتل الصائل عليه بأي سلاح فكذلك الحال في البغاة الذين لا يمكن صدّهم إلّا بسلاح يهلك جميعهم، والجامع: الدفاع عن النفس الثالثة: قول الصحابي؛ حيث صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: "لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم" وفي لفظ: "ومن ألقى السلاح فهو آمن".

(6)

مسألة: إذا قتل الإمام من يحرم قتله أثناء المعركة مع البغاة: فلا قود، ولا قصاص؛ بل تجب الدية، للتلازم؛ حيث يلزم من الشبهة: عدم القصاص؛ لأن الشبهة تدرأ القود والقصاص، ويلزم من كون المقتول معصوم الدم: وجوب الدية.

(7)

مسألة: إذا أسر الإمام بعض البغاة: فإنه يُحبس إلى أن تنكسر شوكتهم، وينهزموا هزيمة لا قيام لهم بعدها، فإذا انتهت الحرب: فإن من حُبس منهم يُطلق سراحه؛ للمصلحة: حيث إن في حبسه كسرًا لقلوب البغاة، وفي إطلاقه قبل هزيمتهم، وانتهاء الحرب معهم ضررًا على أهل العدل.

(8)

مسألة: إذا انتهت الحرب مع البغاة، وهُزموا، فمن وجد ماله - من الرعية - على =

ص: 240

أظهر قوم رأي الخوارج، ولم يخرجوا عن قبضة الإمام: لم يتعرَّض لهم، وتجري الأحكام عليهم كأهل العدل

(9)

(وإن اقتتلت طائفتان؛ لعصبية أو) طلب (رئاسة: فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة) من الطائفتين (ما أتلفت) على (الأخرى) قال الشيخ تقي الدين: فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعلم عين المتلف، ومن دخل بينهما لصلح فقتل وجُهل قاتله، وما جُهل متلفه: ضمنتاه على السواء

(10)

.

= حاله بيد غيره منهم، أو من غيرهم: فهو أحقُّ به، ومن تلف ماله أو نفسه بسبب الحرب معهم: فلا ضمان فيه؛ لقاعدتين: الأولى: قول الصحابي؛ حيث قال علي: "من عرف شيئًا مع أحد فليأخذه" الثانية: المصلحة؛ حيث يلزم من حربهم ومقاتلتهم إتلاف أموالهم وأموال الآخرين؛ لضرورة الحرب والقتال، فلو كان كل ما تلف سيضمنه الإمام ومن معه: لما قاتلهم، ولعمَّت الفوضى، فدفعًا لذلك شرع هذا.

(9)

مسألة: إذا كفَّر قوم مرتكبي الكبائر، أو سبَّ أحدًا من الصَّحابة أو نحو ذلك مما يعتقده الخوارج ولكن هؤلاء القوم لم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يجتمعوا عليه بالحرب: فلا يجوز لهذا الإمام أن يتعرَّض لهم بقتال ولا قتل، وتُجرى عليهم أحكام الشريعة: من ضمان نفس ومال، وتطبيق الحدود عليهم؛ للقياس؛ بيانه: كما يفعل ذلك بأهل العدل، فكذلك يفعل بهؤلاء ذلك، والجامع: أن كلًّا منهم تحت قبضة الإمام.

(10)

مسألة: إذا اقتتلت طائفتان، أو قبيلتان - داخلتان في طاعة الإمام - بسبب عصبية، أو ثأر، أو طلب رئاسة: فإن كل واحدة ظالمة للأخرى، وكل من مات من الأنفس، أو أتلف من الأموال تضمنه كل واحدة منهما على السواء، أي: يُحسب الضمان على مجموع الطائفتين، دون تفريق بين أفرادها: سواء عُلم عين المتلف، أولا، هذا إذا جهل القاتل والمتلف، أما إذا عُلِم القاتل والمتلف: =

ص: 241

* * *

= فإن الذي أتلفه من الطائفتين، أو الأفراد: هو الذي يضمنه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من بغي إحداهما على الأخرى، وكون المتلف نفسًا معصومة، أو مالًا معصومًا، وعدم معرفة الفاعل: أن يكون الضمان عليهما معًا، ويلزم من معرفة عين الفاعل من الطائفتين، أو الأفراد: أن يوجب عليه الضمان بمفرده.

هذه آخر مسائل باب: "قتال أهل البغي" ويليه باب "حكم المرتد".

ص: 242

‌باب حكم المرتد

(وهو) لغة الراجع، قال تعالى:{وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} ، واصطلاحًا:(الذي يكفر بعد إسلامه) طوعًا، ولو مميزًا، أو هازلًا بنطق، أو اعتقاد، أو شك، أو فعل

(1)

(فمن أشرك بالله) تعالى كفر؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ

‌باب حكم المرتد

وفيه تسع عشرة مسألة:

(1)

مسألة: المرتد لغة: هو الراجع، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي: لا ترجعوا واصطلاحًا: هو: الشخص الذي يكفر بعد إسلامه باختياره: سواء كان مكلَّفًا، أو صبيًا مميزًا، وسواء كان جادًّا، أو هازلًا، وسواء كان ذلك الكفر بنطق، أو باعتقاد، أو بشك، أو بفعل فهذا يكفر وحكمه أن يقتل، ثبت هذا بقواعد: الأولى: الكتاب: وهو من وجوه: أولها: قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وهذا عام في كل ما يؤدي إلى الردّة من الإسلام إلى الكفر على اختلاف الأسباب التي ذكرناها، ثانيها: قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} حيث بيّن اشتراط كون الشخص مختارًا للردَّة، أما المُكره عليها: فلا يكون مرتدًا حقيقة، ثالثها: قوله تعالى: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} فقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} حيث دلّت على أن الهازل، والمتلاعب بألفاظ مكفرة: يكفر وإن كان هازلًا؛ الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من بدَّل دينه فاقتلوه" فأوجب قتل المرتد؛ لأن الأمر مطلق، فيقتضي الوجوب، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث ثبت عن الخلفاء الأربعة، ومعاذ، وابن عبَّاس وجوب قتل المرتد، الرابعة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على قتل المرتد، ومستند هذا الإجماع ما سبق من القواعد، فإن قلتَ: لَمِ يُقتل المرتد؟ =

ص: 243

به} (أو جحد ربوبيته) سبحانه (أو) جحد (وحدانيته أو) جحد (صفة من صفاته) كالحياة، والعلم: كفر (أو اتّخذ لله) تعالى (صاحبة، أو ولدًا، أو جحد بعض كتبه أو) جحد بعض (رسله، أو سب الله) سبحانه وتعالى (أو) سب (رسوله) أي: رسولًا من رسله، أو ادَّعى النبوة:(فقد كفر)؛ لأن جحد شيء من ذلك كجحده كله، وسب أحد منهم لا يكون إلّا من جاحده

(2)

(ومن جحد تحريم الزنا أو) جحد (شيئًا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها) أي: على تحريمها، أو جحد حل خبز ونحوه مما لا خلاف فيه، أو جحد وجوب عبادة من الخمس أو حكمًا ظاهرًا مجمعًا عليه إجماعًا قطعيًا (بجهل) أي: بسبب جهله، وكان ممن يجهل مثله ذلك:(عرِّف) حكم (ذلك)؛ ليرجع عنه (وإن) أصرّ أو (كان مثله لا يجهله: كفر)؛ لمعاندته للإسلام، وامتناعه من الالتزام لأحكامه، وعدم قبوله لكتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع الأمة، وكذا: لو سجد لكوكب ونحوه، أو أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء

= قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن المرتد لو تُرك مع تركه للإسلام لأدَّى ذلك إلى أن يدعو إلى الكفر الذي ذهب إليه، وهذا ينشر فساده، فدفعًا لذلك: شرع قتله، وقد سبق بيان ذلك.

(2)

مسألة: يكون الشخص مرتدًا عن الإسلام إذا أشرك مع الله غيره - أو به - أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم، ويتوكَّل عليهم، أو جحد ربوبية الله، أو أنكر الشهادتين معًا، أو إحداهما، أو جحد وحدانيته، أو صفة من صفاته، أو قال: إن الله صاحبة أو ولد، أو جحد بعض كتبه، أو جحد بعض رسله، أو سب الله، أو سب رسوله، أو كان مبغضًا الله ولرسوله، أو ادَّعى النبوّة، أو صدَّق من ادَّعاها، أو سخر بوعد الله، أو وعيده، أو لم يكفر اليهود والنصارى، أو غيرهم من طوائف الكفار، أو شكّ في كفرهم، أو قال: إن عليًا إله، أو نبي؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك، ومستنده الآيات والأحاديث الكثيرة التي دلّت على أن من فعل ذلك: فهو كافر.

ص: 244

بالدين، أو امتهن القرآن، أو أسقط حرمته

(3)

، لا من حكى كفرًا سمعه، وهو لا يعتقده

(4)

.

(فصل): (فمن ارتدَّ عن الإسلام، وهو مكلَّف مختار: رجل أو امرأة: دُعي إليه) أي: إلى الإسلام، واستتيب (ثلاثة أيام) وجوبًا (وضُيِّق عليه) وحُبس؛ لقول عمر رضي الله عنه:"فهلَّا حبستموه ثلاثًا، فأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه لعلَّه يتوب، أو يراجع أمر الله، اللَّهم إني لم أحضر، ولم أرض إذ بلغني" رواه مالك في "الموطأ"، ولو لم تجب الاستتابة: لما برئ من فعلهم (فإن) أسلم: لم يُعزَّر، وإن (لم يسلم: قتل بالسيف) ولا يحرق بالنار؛ لقوله عليه السلام: "من بدَّل دينه فاقتلوه، ولا تُعذِّبوه بعذاب الله" يعني: بالنار، أخرجه البخاري، وأبو داود

(5)

، إلا رسول

(3)

مسألة: من جحد أو أنكر حكمًا قد أجمع العلماء عليه إجماعًا قطعيًا: كأن يُحلّل حرامًا، أو يُحرِّم حلالًا كأن يحل الزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، والقتل بغير حق والسرقة ونحو ذلك، أو أن يحرم على نفسه أكل الخبز، أو يجحد عبادة من أركان الإسلام الخمس، أو لم يقبل حكم الكتاب، أو السنة، أو حكم إجماع المسلمين، أو سجد لكوكب أو صنم ونحو ذلك، أو استهزأ بالدين الإسلامي بقول، أو فعل، أو امتهن القرآن واحتقره، أو أسقط مهابته: فإنه يحكم بكفره إن كان مثله لا يجهل مثل تلك الأحكام، أما إن كان مثله يجهل تلك الأحكام - كمن عاش في الصحراء طول عمره أوحديث عهد بالإسلام -: فإنه يُعلَّم تلك الأحكام فإن أصرّ على إنكار ذلك وجحدها: فإنه يحكم بكفره؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك، ومستنده الآيات والأحاديث التي وردت في ذلك وهي كثيرة.

(4)

مسألة: لا يكفر من حكى كفرًا سمعه من غيره، وهو لا يعتقده؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم اعتقاد الكفر في ذلك: عدم الحكم بكفره.

(5)

مسألة: إذا ارتدَّ شخص مكلَّف مختار عن الإسلام: فإنه يُدعى إليه ثلاثة أيام: =

ص: 245

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بأن يُقال له في كل يوم: "عُد إلى الإسلام، أو أسلم وإلا قتلناك" ويُضيَّق عليه بحبس ونحوه، فإذا مضى ثلاثة أيام على هذا الاستتاب وأصر على كفره: فإنه يقتل بالسيف ولا يحرق بالنار: سواء كان هذا المرتد رجلًا، أو امرأة، أو خنثى؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "من بدَّل دينه فاقتلوه، ولا تعذِّبوه بعذاب" فأوجب الشارع قتل المرتد؛ لأن الأمر مطلق، وهو يقتضي الوجوب، وحرم الشارع أن يُعذَّب بعذاب الله - وهو النار-؛ لأن النهي مطلق، وهو يقتضي التحريم، وهو عام فيشمل النساء والرجال من المرتدين؛ لأن "من" الشرطية من صيغ العموم ثانيهما: قوله عليه السلام: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" والقتل بالسيف من الإحسان بالقتل، فيكون السيف من المأمور بالقتل به. الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن رجلًا كفر بعد إسلامه، فضُربت عنقه، فقال عمر:"فهلَّا حبستموه ثلاثًا، فأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه، لعله يتوب، أو يراجع أمر الله، اللَّهم إني لم أحضر، ولم أرض إذ بلغني" حيث يلزم من هذا وجوب الاستتابة ثلاثة أيام؛ لأنه لو لم تجب الاستتابة ثلاثًا، لما تبرأ عمر من فعلهم، الثالثة: التلازم؛ حيث إنه يحتمل أنه كفر لشبهة قد طرأت عليه، ولا تزول الشبه عادة إلا بعد مدَّة يُراود صاحبها فيها ويُناقش، وأقرب تلك المدة ثلاثة أيام فلزمت الاستتابة ثلاثة أيام وذلك ليُدعى في اليوم الأول، ويُبيَّن له ضلاله ثم تُعاد عليه في اليوم الثاني، ويترك ليفكِّر فيها، ثم تعاد عليه في اليوم الثالث: فإن أصرَّ بعدها: فلا عذر له، فيُقتل، فإن قلتَ: يجوز تحريقه بالنار؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن أبا بكر قد أمر خالدًا بأن يُحرِّق المرتدين وفعل خالد قلتُ: إن أبا بكر أمر بتحريق المرتدين لما كثروا من العرب، وعظم الأمر عليه رضي الله عنه فخشي على بيضة الإسلام، فرأى دفعًا لذلك: أن يفعل ذلك ليرجعوا إلى الإسلام، ولينزجر من حدّثته نفسه بذلك، وفرق بين ذلك وبين =

ص: 246

كفار: فلا يُقتل

(6)

، ولا يقتله إلا الإمام، أو نائبه ما لم يلحق بدار حرب، فلكل أحد قتله، وأخذ ما معه

(7)

(ولا تقبل) في الدنيا (توبة من سبَّ الله) تعالى (أو) سب (رسوله) سبًا صريحًا، أو تنقَّصه (ولا) توبة (من تكررت ردَّته) ولا توبة زنديق - وهو: المنافق الذي يظهر الإسلام، ويخفي الكفر - (بل يقتل بكل حال)؛ لأن هذه الأشياء تدل على فساد عقيدته، وقلَّة مبالاته بالإسلام

(8)

، ويصح إسلام مميز

= ما نحن فيه، ثم لو تساويا: فإنه اجتهاد صحابي لا يلزمنا إذا عارض نصًا شرعيًا - وهوالحديث السابق - فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة مع قول الصحابي".

[فرع]: إذا ارتدَّ شخص، ثم عاد إلى الإسلام بعد التوبة: فإنه لا يُعاقب؛ للمصلحة: حيث إن في معاقبته تنفيرًا له عن الإسلام، فشرع ما قيل؛ دفعًا لذلك، وتحبيبًا للإسلام.

(6)

مسألة: إذا كان المرتد رسول كفار إلى المسلمين: فلا يجوز لإمام المسلمين أو نائبه أن يقتله؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن رسولي مسيلمة الكذاب لم يقتلهما أبو بكر.

(7)

مسألة: لا يقتل المرتد إلا الإمام، أو نائبه إذا كان في دار الإسلام، أما إن كان في دار حرب: فيجوز لكل أحد أن يقتله، وسلبه، وأخذ ما معه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون قتله كان لحق الله تعالى: أن يقتله الإمام أو نائبه، ويلزم من كونه بدار حرب: أن يقتله كل أحد؛ لأنه صار حربيًا.

(8)

مسألة: إذا سبَّ شخص الله تعالى، أو رسوله سبًا صريحًا، أو تعريضًا، أو تنقَّصهما، أو استخفّ بهما، أو تكررت ردَّته، أو تزندق ونافق، ثم تاب توبة نصوحًا: فإن توبته تقبل؛ لقواعد الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} فإذا كان الكافر مطلقًا قد غفر الله له ما قد سلف من أنواع المعاصي فإن ما نحن فيه يُغفر له إن شاء الله إذا أخلص في التوبة وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ثم قال: {إلا =

ص: 247

يعقله

(9)

وردَّته، لكن لا يُقتل حتى يستتاب بعد البلوغ ثلاثة

= الَّذِينَ تَابُوا} فاستثنى سبحانه التائبين من المنافقين، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد كفَّ عن المنافقين بسبب إظهارهم للإسلام الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إنه ثبت عن ابن مسعود، وعلي: قبول توبة هؤلاء، فإن قلتَ: إن توبة هؤلاء لا تقبل بل يقتل حالًا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن من قامت به هذه الأشياء: من سب الله ورسوله، وتكرار الردة، والزندقة: والنفاق لا يُبالي عادة بالإسلام فيلزم عدم من الفائدة من توبته: فيُقتل حالًا قلتُ: هذا غير صحيح، فكم من شخص قد بالغ في العصيان فصلح كأحسن ما يكون الصلاح، وكم من شخص قد بالغ في الصلاح ففسد كأسوأ ما يكون الفساد، لذلك قد بيّن الله تعالى: أنَّه لا يوجد مانع يمنع الإنسان من التوبة وقبولها في الآيتين السابقتين مهما كان ذنبه، فإن قلت: ما الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب والسنة الفعلية مع التلازم".

(9)

مسألة: يصح إسلام الصبي المميز الذي يعقله، لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وهذا يعمّ البالغين والصبيان الذين يميزون ما يفعلون ويقولون؛ لأن "مَنْ" الشرطية، واسم الجنس المعرّف بأل - وهو: الناس" -من صيغ العموم، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إن النبي عليه السلام لم يرد على أحد إسلامه: سواء كان صغيرًا، أو كبيرًا منهم علي، والزبير، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما تصحّ الصلاة والحج من الصبي، فكذلك يصح الإسلام منه، والجامع: أن كلًّا منها عبادة محضة، فإن قلتَ: لا يصح الإسلام من الصبي مطلقًا، وهو قول الشافعي وبعض الحنفية؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "رُفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ" حيث بيّن الشارع بالمنطوق على عدم تكليف الصبي بشيء =

ص: 248

أيام

(10)

(وتوبة المرتد) إسلامه (و) توبة (كل كافر إسلامه: بأن يشهد) المرتد، أو الكافر الأصلي (أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)؛ لحديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكنيسة، فإذا هو بيهودي يقرأ عليهم التوراة، فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمته، فقال: هذه صفتك وصفة أمتك أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمَّد رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"آووا أخاكم" رواه أحمد

(11)

.............................................

= من الشريعة، فلا يصح شيء مما يقوله أو يفعله، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الصبي لو صحّ إسلامه للحقه الضرر: فوجبت عليه الزكاة في ماله، ووجبت عليه نفقة قريبه المسلم، وحرم من ميراث قريبه الكافر، قلتُ: أما الحديث: فلا يصح الاستدلال به هنا؛ لأنه يقتضي: أن لا يكتب عليه ذنب إذا فعل معصية، والإسلام طاعة يكون له، لا عليه، أما المصلحة: فإن هذه المضار التي تلحقه فيما لو أسلم ليست بشيء بجانب ما يحصل له من مصالح إسلامه الدنيوية والأخروية، والخلاص من شقاء الدارين، والخلود في الجحيم، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنة القولية؛ والفعلية التي ذكرناهما مع السنة القولية؛ والمصلحة التي ذكروهما".

(10)

مسألة: إذا ارتدَّ الصبي المميز عن الإسلام: فإن ردَّته تصح، ويُجبر على الإسلام، فإن أصر على ردَّته: فإنه يُستتاب بعد بلوغه ثلاثة أيام، فإن أسلم: ترك، وإن أصرّ على ردّته: فإنه يقتل؛ للتلازم؛ حيث إن عدم وجوب عقوبة على الصبي بدليل: عدم عقوبته على الزنا والشرب والسرقة وسائر الحدود، ولا يُقتل في القصاص يلزم منه: عدم عقوبته على ردته، ويلزم من بلوغه: عقوبته على ردّته بعد استتابته كالبالغ.

(11)

مسألة: توبة المرتد عن الإسلام أو الكافر الأصلي، هو: إسلامه، وذلك بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويُخلَّى سبيله؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا =

ص: 249

(ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه) كتحليل حرام، أو تحريم حلال، أو جحد نبي، أو كتاب، أو رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى غير العرب:(فتوبته مع) إتيانه بـ (الشهادتين إقراره بالمجحود به) من ذلك؛ لأنه كذَّب الله سبحانه بما اعتقده من الجحد، فلا بدّ في إسلامه من الإقرار بما جحده (أو قوله: أنا) مسلم أو (بريء من كل دين يخالف) دين (الإسلام) ولو قال كافر: أسلمت، أو أنا مسلم، أو أنا مؤمن: صار مسلمًا، وإن يلفظ بالشهادتين

(12)

، ولا يغني قوله: محمَّد رسول الله عن كلمة التوحيد

(13)

،

= لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" ثانيهما: أنَّه عليه السلام جعل اليهودي الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله من الإخوان المسلمين، وهذا كله يدلّ على أن ذلك كاف في توبته.

(12)

مسألة: إذا كان سبب كفر الشخص هو جحد فرض أجمع العلماء عليه مما ينبني عليه تحليل حرام، أو تحريم حلال، أو جحد نبي، أو كتاب، أو ملك من الملائكة، أو جحد أن النبي عليه السلام مرسل إلى الناس كافة؛ بل إلى العرب فقط: فتوبة هذا الشخص: أن يشهد الشهادتين، ويُقرُّ إقرارًا صريحًا بما جحده، ويكفي قوله:"أنا مسلم" أو قوله: "أنا بريء من كل دين مخالف للإسلام" أو قوله: "أنا مؤمن" في جعله من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم وإن لم يتلفّظ بالشهادتين؛ للتلازم؛ حيث إنه كفر بجحده ذلك فيلزم - لأجل أن يكون مسلمًا -: أن يُقر بما جحده، ويلزم من إقراره بما يتضمَّن الشهادتين بقوله:"أنا مسلم، أو مؤمن" ونحوهما: أن يكون مسلمًا.

(13)

مسألة: إذا قال مرتد، أو كافر أصلي:"محمَّد رسول الله" فقط، فلا يكون تائبًا ولا مسلمًا، لذلك لا بد أن يقول كلمة التوحيد - وهي: لا إله إلّا الله"، للتلازم؛ حيث يلزم من جحد شيئين - وهما الشهادتان - عدم زوال جحده إلّا بالإقرار بهما معًا، ويلزم من عدم تضمُّن الشهادة بأن محمدًا رسول الله الشهادة بالتوحيد: عدم كفايتها لوحدها.

ص: 250

وإن قال: "أنا مسلم ولا أنطق بالشهادتين": لم يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين

(14)

، ويُمنع المرتد من التصرّف في ماله، وتقضى منه ديونه، ويُنفق منه عليه، وعلى عياله، فإن أسلم، وإلا: صار فيئًا من موته مرتدًّا

(15)

، ويكفر ساحر يركب المكنسة فتسير به في الهواء ونحوه

(16)

، لا كاهن، ومنجِّم، وعرَّاف، وضارب بحصى، ونحوه إن لم يعتقد إباحته، وأنه يعلم به الأمور المغيبة، ويُعزَّر ويكف

(14)

مسألة: إذا قال المرتد، أو الكافر الأصلي:"أنا مسلم ولكني لا أنطق بالشهادتين": فإنه لا يحكم بإسلامه إلّا إذا أتى بالشهادتين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من امتناعه عن الإتيان بالشهادتين بإقراره ذلك: التشكيك في المقصود من قوله: "أنا مسلم"، وإذا احتمل القول الشك فلا تبنى عليه أحكام.

(15)

مسألة: إذا ارتدَّ شخص عن الإسلام: فإنه يمنع من التصرف في ماله من حين ردّته من بيع، أو شراء، أو هبة، أو عطية، أو نحو ذلك، وتُقضى منه ديونه، ويُنفق منه على من يعول، فإن رجع إلى الإسلام: أُعيد إليه ماله، وإن لم يرجع وقتل بعد استتابه: فإنه يكون فيئًا يُجعل في بيت مال المسلمين يُقسم في مصالح المسلمين؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن المفلس يُمنع من التصرف في ماله - وهو الحجر عليه - فكذلك المرتد والجامع: تعلُّق حق الغير بهذا المال في كل؛ الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كون الديون، ونفقة الأقارب حقوق يجب الوفاء بها: الإنفاق من مال المرتد على ذلك، ويلزم من كونه قد ارتدّ وقتل؛ لإصراره على ذلك: أن يُجعل ماله في بيت المال؛ لأنه لا وارث له؛ لكونه كافرًا، واختلاف الدين من موانع الإرث.

(16)

مسألة: الساحر - وهو الذي يفعل أشياء تفرّق بين المرء وزوجه، ويفرق بين مجتمعين، ويجمع بين متفرقين - يحكم بكفره، ويُقتل؛ للإجماع؛ حيث أجمع العلماء على ذلك، ومستند ذلك: الكتاب لما ورد في الآية، والمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع ضرر.

ص: 251

عنه

(17)

، ويحرم طلسم ورقية بغير العربي

(18)

ويجوز الحل بسحر ضرورة

(19)

.

* * *

(17)

مسألة: الكاهن - وهو الذي له من يأتيه بالأخبار من الجن - والمنجِّم - وهو من ينظر في النجوم يستدلّ بها على الحوادث - والعرَّاف - وهو الذي يحدس ويخرص - والضارب بالحصى - وهو القداح - هؤلاء لا يكفرون بما يفعلون ويعزّرون على أفعالهم بشرط عدم ادِّعاء الواحد منهم بأنه يعلم الغيب، أما إذا ادَّعى ذلك: فإنه يكفر، ويقتل؛ للتلازم؛ حيث إن فعل هؤلاء لا يصل إلى درجة الكفر، وضررهم أقلّ من ضرر الساحر فيلزم: عدم كفرهم، ويلزم من وجود بعض الضرر في أفعالهم: أن يُعزّرون، ويلزم من ادّعائهم على الغيب: كفرهم، وجزاء الكافر القتل.

(18)

مسألة: يحرم أن يستعمل بعض الناس الطلاسم - وهي الخطوط التي يكتبها بعض الناس زاعمًا أنَّها تدفع الأذى -، ويحرم أن تستعمل رقية - وهي: ما يرقى بها المريض من آيات وأدعية معلومة - إذا كانت بغير اللغة العربية، أما إن كانت الرقية بالعربية وبكلام الله، وبأسمائه وصفاته واعتقاد الراقي أنَّها تؤثر بتقدير الله تعالى: فإن الرقية تجوز؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم ورود الرقية على المشروع: استعمالها، ويلزم من إتيان الرقية على المشروع: جواز استعمالها.

(19)

مسألة: يجوز حلُّ وفكُّ السحر بسحر آخر؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه دفع الضرر عن المسحور.

هذه آخر مسائل باب: "حكم المرتد" وهو آخر كتاب "الحدود" ويليه كتاب "الأطعمة".

ص: 252

‌كتاب الأطعمة

جمع "طعام" وهو: ما يؤكل ويُشرب

(1)

(والأصل فيها الحل)؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعً} (فيباح كل) طعام (طاهر) بخلاف متنجس، ونجس (لا مضرَّة فيه) احترازًا عن السم ونحوه حتى المسك ونحوه كالعنبر (من حب، وثمر وغيرهما) من الطاهرات (ولا يحل نجس كالميتة والدم)؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية (ولا) يحل (ما فيه مضرَّة كالسم ونحوه)؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

(2)

‌كتاب الأطعمة

‌تعريفها، وبيان الأصل فيها، وما يحل منها، وما لا يحل، عند الاضطرار وعند عدمه، وحكم الضيافة

وفيه سبع وعشرون مسألة:

(1)

مسألة: الأطعمة جمع "طعام" وهو لغة: ما فيه طعم، وفي الاصطلاح: كل شيء يُساغ حتى الماء قال تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} وقال عليه السلام في ماء زمزم - "إنه طعام طُعم" - أي: يشبع الإنسان منه، وإذا أُطلق "الطعام" عند أهل الحجاز: فالمراد به البر خاصة، وفي العرف: الطعام: اسم لما يُؤكل، و "الشراب" اسم لما يُشرب - كما في المصباح (372) -.

(2)

مسألة: جميع الأطعمة والأشربة حلال للمسلم إلّا ما استثناه الشارع - كما سيأتي - فيباح له أن يأكل كل طعام طاهر لا يُلحق الضرر به: من حب وثمر وحيوانات وجامدات، ومائعات، ونحو ذلك، أما المتنجس، أو النجس كالغائط، والبول، والكلاب، والخنازير، والدم والميتة أوالطاهر الذي فيه مضَّرة على الآكل كالسم، والعطورات ونحو ذلك: فلا يجوز أكله ولا شربه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} حيث =

ص: 253

(وحيوانات البر مباحة

(3)

إلا الحمر الأهلية)؛ لحديث جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل" متفق عليه

(4)

(و) إلا (ماله ناب

= بيَّن أن الأصل في المطعومات الحل، وهذا لازم من اللام الواردة في لفظ "لكم"، والمراد خلقها لكي تنتفعوا بها، وقال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} حيث إن هذا مستثنى من الأصل، وقال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وأكل ما يضرّ بالإنسان يؤدي إلى الهلاك والموت والتلف فنهى عنه وقال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وهذا التحليل والتحريم عام للمأكولات، والمشروبات، ونحو ذلك، فكل طيب حلال، وكل خبيث حرام وهذا كله لجلب المصالح للعبد ودفع المفاسد عنه، وهذا من أعظم محاسن الشريعة.

(3)

مسألة: جميع حيوانات البر يُباح أكلها - إلا ما سيأتي ذكره -؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل حل جميع الأطعمة، والحيوانات من الأطعمة، فيحل أكلها؛ عملًا بذلك، وقد سبق في مسألة (2).

(4)

مسألة: يحرم أكل لحم الحمر الأهلية، وشرب ألبانها؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن أكل لحوم الحمر الأهلية" والنهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم وهو مخصص لعموم الآية المبيحة، فإن قلت: لِمَ حرم أكل ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الحمار الأهلي يأكل عذرات بني آدم -وهو غائطه إذا يبس- فكرَّم الشارع بني آدم من أن يأكل لحمًا قد نبت بعضه من تلك النجاسات المغلَّظة؛ حماية له من الضرر بسبب ذلك، فإن قلت: يجوز أكل لحم الحمار الأهلي؛ للسنة القولية: حيث جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله أصابتنا سنة لم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وأنت حرَّمت لحوم الحمر الأهلية قال:"أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية" وهذا يدل على أن آخر الأمرين: جواز أكل لحوم الحمر الأهلية، قلتُ: عنه جوابان: =

ص: 254

يفترس به) أي: ينهش بنابه؛ لقول أبي ثعلبة الخشني: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع" متفق عليه (غير الضبع)؛ لحديث جابر: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع" احتج به أحمد، والذي له ناب (كالأسد، والنمر، والذئب، والفيل، والفهد، والكلب، والخنزير، وابن آوى، وابن عرس، والسنُّور) مطلقًا (والنمس، والقرد، والدب) والفنك، والثعلب، والسنجاب، والسمُّور

(5)

،

(6)

(و) إلا (ماله

= أولهما: أن هذا الحديث قد ضعفه بعض أئمة الحديث، ثانيهما: على فرض قوّته: فإنه يُحتمل أنَّه رخص بأكل لحوم الحمر الأهلية هنا للضرورة - وهي المجاعة التي ذكرها ذلك الرجل السائل - فيكون هذا في مرتبة المضطر - وهذا يحل له أكل الميتة وهي أنجس من الحمر الأهلية، وإذا تطرّق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين".

(5)

مسألة: كل حيوان له ناب ينهش به - وهوالسن خلف الرباعية - يحرم أكل لحمه: كالأسد، والنمر، والذئب، والفيل، والفهد، والكلب، والخنزير، وابن آوى - وهو: حيوان يشبه الكلب كريه الرائحة - وابن عرس - وهو حيوان يشبه الفأرة مستطيل البدن - والسنور - وهو: القط - والنمس - وهو حيوان يشبه القط إلا أنَّه قصير اليدين والرجلين - والقرد، والدب، والثعلب، والفنك - وهو: حيوان يشبه الثعلب - والسنجاب - وهو حيوان يشبه الجربوع - والسمُّور - وهو: حيوان يشبه الفأرة؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن كل ذي ناب من السباع" والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، وهذا مخصص لعموم الآيات المبيحة لأكل ذلك، فإن قلتَ: لِمَ حرم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن كل حيوان له ناب ينهش به يكون من الحيوانات العادية - من الاعتداء فإذا أكل الإنسان لحمها: فإنه سيكون شبيهًا بها في الاعتداء على الآخرين.

(6)

مسألة: الضبع يُباح أكل لحمه؛ للسنة القولية حديث جابر: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع" والأمر هنا للإباحة؛ لأنه ورد، بعد الحظر؛ حيث نهى عليه السلام =

ص: 255

مخلب من الطير يصيد به كالعقاب والبازي، والصقر، والشاهين، والباشق والحِدَأَة) - بكسر الحاء وفتح الدال والهمزة (والبومة)؛ لقول ابن عبَّاس:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير" رواه أبو داود

(7)

(و) إلا (ما يأكل الجيف) من الطير (كالنسر، والرخم، واللقلق، والعقعق) وهو: القاق (والغراب الأبقع، والغداف وهو) طائر (أسود صغير أغبر، والغراب الأسود الكبير

(8)

و) إلا (ما يستخبثه العرب) ذوو اليسار (كالقنفذ، والنيص،

= عن كل ذي ناب، والضبع له ناب، فلما أمر عليه السلام بأكله دلّ على إباحة أكله، فإن قلتَ: لِمَ أبيح أكله؟ قلتُ: لأن الضبع ليس من السباع العادية - أي: لا يعتدي على أحد - لذلك جاز أكله، فإن قلتَ: لا يجوز أكل الضبع، وهو قول أبي حنيفة ومالك؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع والضبع له ناب فيدخل تحت ذلك العموم قلتُ: إن السنة القولية التي ذكرناها - حيث أمر عليه السلام بأكل لحمه - قد خصَّصت ذلك العموم الوارد في السنة القولية التي ذكروها، وهناك مخصِّص آخر وهو: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عمر، وأبا هريرة قد ثبت عنهما أنهما يُبيحان أكل لحم الضبع، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: تعارض السنتين".

(7)

مسألة: كل طير له مخلب - وهو: الظفر الطويل المحدَّد - يصيد به يحرم أكل لحمه كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين - وهو: يشبه الصقر إلا أنَّه طويل الجناحين - والباشق - وهو: طير من أصغر الجوارح - والحدأة، والبومة والهدهد؛ للسنة القولية: حيث "نهى عليه السلام عن أكل كل ذي مخلب من الطير" والنهي مطلق فيقتضي التحريم، فإن قلتَ: لِمَ حرّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن تلك الطيور تأكل الجيف والنجاسات من اللحوم الميتة، فأراد الشارع أن يمنع ذلك عن بني آدم؛ لئلا تفسده.

(8)

مسألة: كل حيوان، أو طير يأكل الجيف كالنسر، والرخم، واللقلق، والغداف - =

ص: 256

والفأرة، والحية، والحشرات كلها، والوطواط

(9)

، و) إلا (ما تولَّد من مأكول وغيره كالبغل) من الخيل، والحمر الأهلية، والسمع، وهو: ابن الذئب، والضبع

(10)

، وما تجهله العرب، ولم يذكر في الشرع: يرد إلى أقرب الأشياء شبهًا به، ولو أشبه مباحًا ومحرمًا: غُلِّب التحريم

(11)

، ودود جبن، وخل ونحوها يؤكل تبعًا

(12)

.

= وهو: طائر أغبر صغير - والغراب الأبقع، والأسود الكبير: يحرم أكل لحمه؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وكل ما يأكل الجيف الميتة والنجاسات فهو من الخبائث التي تؤثر في جسم الإنسان إذا أكلها، وتضره ضررًا بليغًا.

(9)

مسألة: كل حيوان، أو طير تستخبثه وتكرهه النفوس السليمة وتعافه: فإنه يحرم أكل لحمه: كالقنفذ الصغير، والنيص - وهو: القنفذ الكبير -، والفأرة، والحية، والعقرب، وجميع الحشرات كالصراصير، والجعلان، والخنافس، والخفَّاش ونحو ذلك؛ للكتاب؛ وقد سبق بيانه في مسألة (8).

(10)

مسألة: إذا تولَّد حيوان من حيوان مأكول اللحم، ومن حيوان محرم اللحم كالبغل يولد من خيل وحمار أهلي، أو سمع يولد من ذئب وضبع: فإنه يحرم أكله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه متولدًا من محرم، وحلال: أن يحرم؛ تغليبًا لجانب التحريم؛ احتياطًا لدين المسلم.

(11)

مسألة: إذا وجد حيوان تجهل العرب جنسه ونوعه، ولم يرد في الشرع حكمه: فإنه يرد إلى ما يشبهه: فإن كان يشبه حيوانًا حلالًا: ألحق به، وكان حلالًا، وإن كان يشبه حيوانًا حرامًا: ألحق به، وكان حرامًا، وإن كان يشبه حيوانًا حرامًا، ويشبه حيوانًا حلالًا بصورة متساوية: فإنه يكون حرامًا؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من قوة شبهه بالحيوان الحلال، أو الحرام: إلحاقه به، وأخذ حكمه، ويلزم من التساوي في ذلك: تحريم ذلك الحيوان؛ تغليبًا للحرام احتياطًا للدين.

(12)

مسألة: إذا وجد دود جبن، أو خل، أو تمر، وهو ما يسمى بـ "سرو التمرة" =

ص: 257

(فصل): (وما عدا ذلك) الذي ذكرنا أنَّه حرام (فحلال) على الأصل (كالخيل)؛ لما سبق من حديث جابر (وبهيمة الأنعام) وهي: الإبل، والبقر، والغنم؛ لقوله تعالى:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} (والدجاج، والوحشي من الحمر و) من (البقر) كالإيل، والتيتل، والوعل، والمها (و) كـ (الظباء، والنعامة، والأرنب، وسائر الوحش) كالزرافة، والوبر، واليربوع، وكذا: الطاووس، والببغاء، والزاغ، وغراب الزرع؛ لأن ذلك مستطاب فيدخل في عموم قوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}

(13)

(ويباح حيوان البحر كله)؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}

(14)

(إلا

= ونحو ذلك فإنه يؤكل مع أصله إذا لم يستقذره آكله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه متولِّدًا من طاهر غير مضر: جواز أكله.

(13)

مسألة: كل حيوان ليس له ناب، أو طائر ليس له مخلب، أو ليس بحمار أهلي، أو ما يأكل الجيف منهما، أو ما تستخبثه وتعافه النفوس السليمة، أو تولَّد من حلال وحرام - كما سبق في مسائل (4 إلى 10) - فهو حلال الأكل: كالخيل، وبهيمة الأنعام - الإبل، والبقر والغنم -، والدجاج، والحمار الوحشي، والبقر الوحشية على اختلاف أنواعها كالأيِّل، والتيتل، والوعل - وهو تيس الجبل - والمها وجميع أنواع الظباء والغزلان، والنعامة، والأرانب، وسائر الوحش كالزرافة، والوبر، واليربوع، والطاووس، والببغاء، والزاغ، وغراب الزرع، والحمام بأنواعه، والبط، والأوز، وجميع أنواع العصافير والجراد وغير ذلك؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وهو واضح الدلالة، وقال تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} وهذه الأشياء من الطيبات فتكون حلالًا الثانية: السنة القولية؛ حيث إنه "عليه السلام قد أذن في لحوم الخيل" الثالثة: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل إباحة جميع الأطعمة، والحيوانات من الأطعمة، فيحل أكلها؛ عملًا بذلك - كما سبق في مسألة (3) -.

(14)

مسألة: جميع حيوانات البحر حلال - إلا ما سيأتي ذكره -؛ لقاعدتين: الأولى: =

ص: 258

الضفدع)؛ لأنها مستخبثة (و) إلا (التمساح)؛ لأنه ذو ناب يفترس به (و) إلا (الحية)؛ لأنها من المستخبثات

(15)

، وتحرم الجلَّالة التي أكثر علفها النجاسة، ولبنها وبيضها نجس حتى تحبس ثلاثًا وتطعم الطاهر فقط

(16)

، ويكره أكل تراب، وفحم، وطين،

= الكتاب؛ حيث قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وهو عام وشامل لكل ما يُصاد منه طريًا مما لا يعيش إلّا في الماء في جميع الأحوال، وهو واضح الدلالة على ذلك الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام في ماء البحر -: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وقال عليه السلام: "أُحل لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان: فالجراد والسمك، وأما الدمان: فالطحال والكبد" وهو واضح الدلالة.

(15)

مسألة: الذي لا يحل أكله من حيوانات البحر: الضفدع، والتمساح، والحية؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وهذه الثلاثة من المستخبثات التي تعافها العقول السليمة، ويزيد التمساح عليها بأنه يأكل الإنسان، فحرمت دفعًا للضرر عن المسلم، وهو المقصد منه.

(16)

مسألة: كل حيوان، أو طائر يكثر من أكل النجاسات: فيحرم أكل لحمه وشرب لبنه، وأكل بيضه وهو ما يسمى بـ "الجلَّالة": سواء كان من بهيمة الأنعام، أو الدجاج، أو نحو ذلك، وإذا أراد شخص أكل لحمها فإنه يحبسها ثلاثة أيام فيطعمها الطاهر من المأكولات، ثم يأكل لحمها، ويشرب لبنها، ويأكل بيضها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث إنه عليه السلام "نهى عن أكل الجلالة وألبانها، وعن ركوبها" والنهي هنا مطلق فيقتضي التحريم؛ الثانية: فعل الصحابي؛ حيث إن ابن عمر كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثًا، وأطعمها الطاهرات" فإن قلت: لَمِ شُرع هذا؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن أكلها للنجاسات يؤدّي إلى أن يتكون لحمها، ولبنها، وبيضها من تلك النجاسات، فإذا تناولها الشخص فستكون هذه النجاسات داخل جوفه، وعروقه، فإن قلتَ: إنه لا يحرم أكل الجلالة وإن أكلت =

ص: 259

وغدة، وأذن قلب، وبصل، وثوم ونحوهما ما لم ينضج بطبخ، لا لحم منتن، أو نئ

(17)

(ومن اضطر إلى محرم): بأن خاف التلف إن لم يأكله (- غير السم - حلَّ له) إن لم يكن في سفر محرم (منه ما يسد رمقه) أي: يمسك قوته، ويحفظها؛ لقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}

(18)

، ..................................

= النجاسة، بل يكره، ويستحب أن تطعم بالطاهر ثلاثًا قبل أكلها، وهو قول الجمهور - أبي حنيفة، ومالك، والشافعي -؛ للتلازم؛ حيث إن الحيوان لا ينجس بأكله للنجاسات بدليل أن شارب الخمر تتنجس أعضاؤه، وإنما كُره أكل لحم الجلالة؛ للنهي الوارد في الحديث السابق قلتُ: إن النهي الوارد في الحديث مطلق، فيقتضي التحريم ولم أجد صارفًا قوي على صرفه من التحريم إلى الكراهة، أما قولهم:"إن الحيوان لا ينجس بأكل النجاسات": فهذا غير مسلَّم؛ لأن لحمها ينبت من تلك المأكولات النجسة؛ لأنها أكثر غذاء الجلَّالة، بخلاف الخمر فليس أكثر غذاء شاربه، بل هو شراب قليل لا يؤثر في إنبات اللحم، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في النهى هل هو مطلق، أو قد صرف من التحريم إلى الكراهة؟ ".

(17)

مسألة: يكره أن يأكل الشخص التراب، والفحم، والطين، والغُدَد - وهي التي كالشحم تتكوّن داخل اللحم-، وأذن القلب والبصل، والثوم - ما لم ينضج بطبخ - والكراث، والفجل، واللحم المنتن، واللحم النيء؛ للمصلحة: حيث إن ضرر تلك الأشياء على الآكل أكثر من نفعها، ولكونه يؤذي برائحتها الآخرين، فإن قلتَ: لا كراهة في أكل اللحم المنتن، أو النيء، وهو ما ذكره المصنف هنا، قلتُ: لم أجد دليلًا على ذلك، بل إن كراهة أكلهما أشدّ من كراهة أكل البصل والكراث.

(18)

مسألة: يجب أكل وشرب كل محرَّم من البهائم والطيور والسوائل - غير السم - بشروط ثلاثة: أولها: أن يضطر إلى ذلك بأن خاف التلف أو الهلاك إذا لم يأكل منه، ثانيها: أن يكون في سفر مباح، ثالثها: أن يأكل من المحرم ما يسد رمقه، =

ص: 260

وله التزود إن خاف

(19)

، ويجب تقديم السؤال على أكله

(20)

، ويتحرى في مذكاة

= ويحفظ عليه قوته، فإن لم يضطر إلى ذلك، أو كان في سفر معصية، أو شبع من المحرم: فلا يجوز له ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} حيث دل على إباحة أكل المحرمات حال الاضطرار، وتضمَّنت هذه الآية الشرطين: الأول والثالث؛ حيث بين الجواز للمضطر، وأن لا يزيد على الضرورة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن أكل المضطر للمحرم فيه إبقاء المهجة، وهي الحياة، والإكثار من أكل المحرم مضر بالأكل، وإذا أكل منه المسافر سفر معصية كقاطع الطريق: ففي ذلك تعاون على الإثم والعدوان، والله تعالى نهى عن ذلك بقوله:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، والنهي مطلق فيقتضي التحريم، وأكل السم يؤدي إلى الموت مباشرة فلم يجز، فإن قلت: إن هذه رخصة مباحة، وليست واجبة، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون هذا ورد بعد حظر: أن يكون للإباحة قلتُ: إن الحكم يختلف باختلاف حال الآكل: فإن خشي الهلاك - كما في هذه المسألة - فيجب عليه الأكل من المحرم، وإن لم يخش ذلك فيباح، وقد بيّنتُ ذلك بالتفصيل في كتابي:"الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس".

(19)

مسألة: يجوز للمضطر المسافر سفر طاعة أن يتزوَّد ويأخذ من اللحوم المحرمة: سواء خاف الهلاك، أو لا، لكن لا يأكل منها إلا إذا لم يجد الحلال؛ للمصلحة: حيث إن في تزوّده وأخذه من ذلك لا ضرر فيه وفيه احتياط لنفسه فقد لا يجد شيئًا من الحرام أو الحلال، فدفعًا لذلك يتزود ويأخذ منها، فإن قلت: لا يتزود منها إلّا عند خوف التلف، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.

(20)

مسألة: إذا كان المضطر الذي شارف على الهلاك يستطيع أن يأكل مما يسأل الناس ويعطونه إياه: فيجب عليه أن يفعل ذلك، وهو مقدَّم على أكل المحرَّم؛ =

ص: 261

اشتبهت بميتة

(21)

، فإن لم يجد إلا طعام غيره، فإن كان ربه مضطرًا أو خائفًا أن يضطر: فهو أحق به وليس له إيثاره، وإلا: لزمه بذل ما يسدّ رمقه فقط بقيمته، فإن أبى رب الطعام: أخذه المضطر منه بالأسهل فالأسهل، ويعطيه عِوَضه

(22)

(ومن

= للقياس؛ بيانه: كما أنَّه يُقدَّم السؤال على أكل الميتة فكذلك المحرم مثلها والجامع: دفع ضرر الميتة، والمحرَّم وهو المقصد منه.

(21)

مسألة: إذا اشتبهت على شخص شاة مذكاة - وهي المذبوحة ذبحًا شرعيًا - مع شاة ميتة: فيجب عليه أن يتأكَّد وأن يتحرَّى: فإن غلب على ظنه أن أحدهما وهي المذكاة أكل منها وترك الأخرى، وإن لم يتبيّن له: جاز أن يأكل منهما معًا؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وهذا الاجتهاد والتحري هو آخر ما يستطيعه ذلك الشخص، فيفعله، فيكون ما زاد عليه يسقط عنه، ويلزم: جواز الأكل منهما عند العجز عن معرفة المذكاة، وهذا من لطف الله تعالى لعباده، وهو المقصد منه.

(22)

مسألة: إذا كان زيد مضطرًا ولم يجد إلا طعام عمرو الذي هو مضطر إليه أيضًا، أو هو خائف أن يضطر إليه: فإن عمرًا أحق بذلك الطعام من زيد، ولا يجوز له - أي: لعمرو - أن يُعطيه زيدًا، ويبقى هو بلا طعام، أما إن كان عمرو ليس مضطرًا إلى ذلك الطعام: فيجب عليه أن يُعطي زيدًا منه ما يسدُّ رمقه، بقيمته، فإن أبي عمرو أن يعطي زيدًا ذلك -مع عدم اضطراره إليه-: فمن حق زيد أن يأخذ منه ما يسد رمقه وإن لم يرض عمرو ولكن بأسلوب سهل لا عنف فيه، ويعطيه عوض ما أخذه، فإن امتنع عمرو: فمن حق زيد أن يأخذه منه قهرًا ويعطيه عوضه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إعطاء عمرو طعامه المضطر إليه لزيد: أن يُهلك نفسه وعياله، وهذا يكون من باب قتل النفس، فلم يجز، ويلزم من عدم إعطاء عمرو من طعامه لزيد -مع عدم اضطراره إليه- =

ص: 262

اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه) كثياب (لدفع برد أو) حبل، أو دلو لـ (استقاء ماء ونحوه: وجب بذله له) أي: لمن اضطر إليه (مجانًا) مع عدم حاجته إليه؛ لأن الله تعالى ذمّ على منعه بقوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}

(23)

، وإن لم يجد المضطر إلا آدميًا معصومًا فليس له أكله، ولا أكل عضو من أعضاء نفسه

(24)

(ومن مرَّ بثمر بستان في

= أن يهلك زيد، وهذا من باب قتل النفس أيضًا بغير حق: فجاز لزيد أن يأخذ ما يسدّ رمقه منه قهرًا؛ حفاظًا على المهجة، ويلزم من أخذ زيد بعض الطعام من عمرو أن يُعطيه عِوَضه؛ لأنه لا يحق مال امرئ إلّا بطيب نفس منه - كما ورد عنه عليه السلام.

[فرع]: لو لم يعط عمرو بعض الطعام زيدًا إلا بأكثر من ثمن مثله: فلا يجب على زيد إلّا دفع مثل ثمنه فقط، للمصلحة: حيث إن ذلك فيه دفع استغلال بعض الناس الآخرين.

(23)

مسألة: إذا اضطر زيد إلى نفع مال عمرو مع بقاء عين ذلك المال: كأن يطلب زيد من عمرو أن يُعطيه ثوبًا ليلبسه لدفع برد، أو يطلب منه حبلًا، ودلوًا ليجلب ماء من البئر: فيجب على عمرو أن يعطيه لزيد مجانًا بشرط: أن يكون عمرو غير مضطر إلى ذلك الثوب، أو الحبل، أو الدلو، للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} حيث ذمَّهم على منع إعطاء الماعون للانتفاع به وردِّه، والذم عقاب، ولا يُعاقب إلا على ترك واجب، وهذا فيه حثّ على التعاون بين المجتمع، وهو المقصد منه.

(24)

مسألة: إذا وجد المضطر آدميًا حيًا معصومًا ولم يجد غيره: فلا يجوز له أن يقتله ويأكله، ولا يأكل أي عضو من أعضائه: سواء كان مسلمًا، أو ذميًا، أو مستأمنًا، أما إن كان هذا المعصوم ميتًا ولم يجد غيره: فيجوز له أكله، وإن كان هذا الآدمي الحي غير معصوم الدم: كالكافر، والمرتدّ، والزاني واللائط المحصن - وهو الثيب - والقاتل غيره بغير حق: فيجوز له قتله وأكله؛ للتلازم؛ حيث يلزم =

ص: 263

شجر، أو تساقط عنه، ولا حائط عليه) أي: على البستان (ولا ناظر) أي: حافظ له: (فله الأكل منه مجانًا من غير حمل) ولو بلا حاجة؛ روي عن عمر، وابن عبَّاس، وأنس بن مالك، وغيرهم، وليس له صعود شجرة، ولا رميه بشيء، ولا الأكل من مجموع إلا لضرورة، وكذا: زرع قائم، وشرب لبن ماشية

(25)

(وتجب) على المسلم

= من كون المعصوم مثله: عدم جواز قتله وأكله؛ لأنه بهذا يُبقي نفسه، بإتلاف غيره، ويلزم من كونه غير معصوم: جواز قتله وأكله؛ لعدم حرمته؛ حيث إن قتله مباح ويلزم من كون المعصوم ميتًا: جواز أكله للمضطر؛ لأن حرمة الحي أعظم، وكل ذلك لأجل الحفاظ على حقوق الآخرين.

(25)

مسألة: إذا مرَّ شخص بثمر بستان في شجر، أو تساقط عنه، أو وجد زرعًا أو ضرع ماشية فيه لبن: فيجوز له أن يأكل منه، ويشرب من اللبن ولو بلا حاجة ولا يحمل، بشرط: عدم وجود صاحبه، أو وكيله، وعدم وجود حائط عليه، وعدم كونه مجموعًا، لكن لا يجوز له أن يصعد الشجرة ليأكل، أو يرمي الثمر بحجر أو بشيء آخر ليتساقط أو يأكل من ثمر مجموع إلّا إذا اضطرّ وخشي الهلاك أو التلف؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، وإن لم يجد أحدًا فليحتلب وليشرب ولا يحمل" وحمل هذا على ما إذا لم يوجد ناظر أو وكيل، والشجر والزرع مثله الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن عمر، وابن عبَّاس، وأنس، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن المضطر يأكل مطلقًا - كما سبق بيانه -؛ لإبقاء نفسه، فإن قلت: لا يُباح الأكل والشرب إلّا عند الضرورة هنا وهو لأكثر العلماء؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" وقال: "لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه" وهذا عام: فيشمل: ما وجد صاحبه عنده وناظره، وما عليه حائط، وما هو مجموع أو لا، قلتُ: إن حديثنا قد خصَّص عموم الحديثين اللذين قد ذكرهما المخالف، ثم إن عدم =

ص: 264

(ضيافة المسلم المجتاز به في القرى) دون الأمصار (يومًا وليلة) قدر كفايته مع أُدم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته" قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يومه وليلته" متفق عليه، ويجب إنزاله بيته مع عدم مسجد ونحوه، فإن أبى من نزل به الضيف: فللضيف طلبه به عند حاكم، فإن أبى: فله الأخذ من ماله بقدره

(26)

،

= وجود أحد عند البستان، والزرع، والماشية، وعدم وجود حائط، ولم يجمع أمارات دالّة على أن صاحبها قد أباحها للأكل منها فقط، وهي أيضًا مخصصة لعموم الحديثين، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض السنتين".

(26)

مسألة: يجب على زيد المسلم الساكن في القرى والأرياف - البعيدة عن المدن والبلدان - أن يكرم الضيف المسلم إذا نزل به يومًا وليلة، ويطعمه طعامه المعروف قدر كفايته، وأن ينزله بيته هذه المدة إذا لم يُوجد مسجد، أو مكان لإيواء المسافرين، فإن امتنع زيد عن إكرام مَنْ نزل به: فمن حق الضيف أن يطلب حقه منه عند الحاكم، أو نائبه، فإن امتنع زيد الذهاب إلى المحاكمة: فللضيف أن يأخذ من مال زيد قدر حاجته فقط؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته" قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يومه وليلته" حيث أوجب الشارع إكرام الضيف المسلم؛ لأن الأمر في قوله: "فليكرم" مطلق، وهو يقتضي الوجوب، وقد حدد للإكرام يومًا وليلة، ودلَّ بمفهوم العدد على أن الضيف إذا جلس عند المضيف أكثر من يوم وليلة، فلا يجب على المسلم إكرامه وضيافته ثانيهما: قوله عليه السلام: "إن نزلتم بقوم، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقَّ الضيف الذي ينبغي له" وهذا يدل على أن من حق الضيف أن يأخذ طعام وشراب يوم وليلة وإن امتنع المضيف، وله حق طلب هذا الحق منه عند الحاكم، وليس للضيف أخذ أكثر من =

ص: 265

. . . . . . . . . . . . . . . . .

(27)

.

* * *

= طعام وشراب يوم وليلة؛ لتخصيص الحديث الأول لذلك، الثانية: المصلحة؛ حيث إن إكرام الضيف واجب إذا كان المضيف في القرى؛ لعدم وجود أسواق، وخانات وفنادق لإيواء المسافرين وهذا على حسب العادة والعرف، فيحتاج هذا المسافر إلى استضافة؛ لوجوب حفظ نفسه، وهذه بخلاف البلدان والحضر، والمدن فلا يجب إكرام الضيف فيها؛ لوجود الأسواق والفنادق والخانات، فلا يحتاج الضيف حاجة ماسة إلى أحد عادة ولا يلزم المضيف بإنزال ضيفه بمنزله إذا وجد مسجد في القرية؛ لدفع الحرج والمشقة، أما إن لم يوجد شيء من أماكن الإيواء فيجب على المضيف إنزاله في بيته إذا أمنه للضرورة إلى ذلك، وهذه هي التي خصصت عموم الحديثين السابقين.

(27)

مسألة: تستحب الضيافة ثلاثة أيام وما زاد صدقة، ويجب على الضيف أن يتأدَّب مع المضيف، فلا يدخل البيت إلا مع صاحب البيت، ويخرج إذا خرج، ويغض بصره قدر ما يستطيع، وأن لا يرفع صوته على صاحبه، وأن لا يجرح شعوره بكلام غير موزون، وأن لا يثوي عنده ويطيل الجلوس حتى يُحرجه، بل يخرج هنا وهناك، وإذا أمكنه أن لا يأتي إلى بيت صاحبه إلّا وقت الأكل والنوم فهو أفضل، وأن يحاول أن يأتي بمزايا وصفات المضيف الحسنة ويُشيد، بها؛ تفريحًا له؛ للمصلحة: حيث إن ذلك كله مما يُرغِّب في الضيف ويؤنس به، ويدفع الضيق والحرج والمشقة التي يجدها المضيف.

هذه آخر مسائل: "تعريف الأطعمة، وبيان الأصل فيها، وما يحل منها، وما لا يحل عند الاضطرار، وعند عدمه وحكم الضيافة ويليه باب "الذكاة والذبح الشرعي".

ص: 266

‌باب الذكاة

يُقال: ذكى الشاة ونحوها تذكية، أي: ذبحها، فهي ذبح، أو نحر الحيوان المأكول البري بقطع حلقومه ومريئه، أو عقر ممتنع

(1)

و (لا يُباح شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة)؛ لأن غير المذكى ميتة، وقال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (إلا الجراد والسمك، وكل ما لا يعيش إلّا في الماء) فيحل بدون ذكاة لحل ميتته؛ لحديث ابن عمر يرفعه: "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: الحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" رواه أحمد وغيره

(2)

، وما يعيش في البر والبحر

‌باب الذكاة والذبح الشرعي

وفيه ثلاث وثلاثون مسألة:

(1)

مسألة: الذكاة لغة: تمام الشيء، وإدراكه، ومنه قوله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي: إلا ما أدركتم ذكاته، وهي في الاصطلاح قطع الحلقوم والمريء من الحيوان، أو عقر ما يمتنع منه بما يجرحه: سهم أو غيره، فإن قلت: لم سمي ذكاة مع أنَّه ذبح؟ قلتُ: لأن اسم "الذكاة" أعم من الذبح؛ لأن "الذكاة": ذبح وزيادة إتمامه، فإن قلت: لِمَ جُعل هذا الباب هنا؟ قلت: لمناسبته لما قبله؛ حيث سبق بيان أن الأصل في الحيوانات الحل، وهذا لا يتم إلا بذبح شرعي - ستأتي شروطه -.

(2)

مسألة: لا يجوز أكل أي شيء من الحيوانات مقدور على القبض عليه إلا بذكاته وذبحه ذبحًا شرعيًا - كما سيأتي بيانه - إلّا الجراد وكل ما لا يعيش إلا بالماء كالسمك ونحوه: فإن ذلك يجوز أكله بدون ذبح؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وإذا تلف الحيوان من غير تذكية وذبح شرعي فإنها ميتة فتكون حرامًا إلًا على المضطر - كما سبق بيانه - أما ما ذكي فيحل، عملًا بالتخصيص بالاستثناء، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام في ماء البحر -: "هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته" وقال: =

ص: 267

كالسلحفاة، وكلب الماء لا يحل إلا بالذكاة

(3)

، وحرم بلع سمك حيًا

(4)

، وكُره شيه حيًا

(5)

، لا جراد؛ لأنه لا دم له

(6)

(ويُشترط للذكاة أربعة شروط) أحدها: (أهلية المذكي: بأن يكون عاقلًا) فلا يباح ما نكاه مجنون، أو سكران، أو طفل لم يميز؛ لأنه لا يصح منه قصد التذكية (مسلمًا) كان (أو كتابيًا) أبواه كتابيان؛ لقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال البخاري: قال ابن عبَّاس: طعامهم ذبائحهم (ولو) كان المذكى (مميزًا) أو (مراهقًا، أو امرأة، أو أقلف) لم يختن، ولو

= " أُحلَّ لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان فالحوت والجراد. ." وهذان صريحان في الدلالة على حل ميتات البحر بدون ذبح، فإن قلت: لم لا يحل أكل الميتة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن احتباس الدم في بدن البهيمة بسبب موتها حتف أنفها يجعلها مُتسمِّمة، فيتضرر آكلها، فإن قلت: لم حل أكل ميتة البحر والجراد؟ قلت: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مشقة ذبحه، ولعدم وجود دم في داخلها أصلًا.

(3)

مسألة: الحيوان الذي يعيش في البحر فترة وفي البر فترة كالسلحفاة، وكلب الماء، وبعض السرطانات: لا يحل إلا إذا ذبح ذبحًا شرعيًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه يعيش في البر والبحر: عدم جواز أكله إلا بذبحه؛ إلحاقًا له بحيوان البر؛ احتياطًا للدِّين، والدنيا.

(4)

مسألة: يحرم أكل السمك وهو حي؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تعذيب للسمك وإلحاق الضرر بالآكل؛ حيث إنه سيفسد عليه حلقه، ومعدته، فدفعًا لذلك: حُرِّم.

(5)

مسألة: يكره أن يُشوى السمك بالنار وهو حي؛ للمصلحة: حيث إن ذلك تعذيب له مع عدم الحاجة إلى ذلك؛ لإمكان تركه حتى يموت، وهو عادة يموت سريعًا.

(6)

مسألة: يجوز أن يُشوى الجراد، بالنار وهو حي؛ للمصلحة: حيث إن الجراد لا يموت في الحال، بل يبقى مدة طويلة، فقد يتضرر المريد أكله، فاقتضت المصحلة: جواز ذلك.

ص: 268

بلا عذر (أو أعمى) أو حائضًا، أو جنبًا (ولا تباح ذكاة سكران ومجنون)؛ لما تقدم (و) لا ذكاة (وثني، ومجوسي، ومرتد لمفهوم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}

(7)

الشرط الثاني: الآلة، فتباح الذكاة بكل محدَّد) ينهر الدم بحده

(7)

مسألة: في الأول - من شروط الذكاة والذبح الشرعي - وهو: أن يكون المذكّي والذابح عاقلًا سواء كان مسلمًا عدلًا، أو فاسقًا، أو كافرًا كتابيًا حربيًا أو ذميًا - من اليهود أو النصارى -، وسواء كان بالغًا أو مراهقًا - وهو قريب البلوغ - أو صغيرًا مميزًا - وهو ما له سبع سنوات فما فوق - وسواء كان ذكرًا، أو أنثى، أو خنثى، وسواء كان مختونًا، أو أقلفًا، وسواء كان بصيرًا أو أعمى، وسواء كان طاهرًا، أو جنبًا، وسواء كانت المرأة طاهرة، أوحائضًا، فكل هؤلاء يصح منهم الذبح والتذكية، وعلى ذلك فلا يحلُّ أكل ذبيحة مجنون، أو سكران، أو صغير لم يميز: وهو ما لم يبلغ سبع سنوات - ولا ذبيحة كافر - غير الكتابي كالوثني والمجوسي والمرتد؛ لقواعد الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وهو صريح في حل ذبائح أهل الكتاب من حيث إن المقصود، بالطعام هنا: الذبائح كما قال ابن عبَّاس، وروي عن ابن مسعود، مثله ودلّ بمفهوم الصفة على تحريم ذبائح غير أهل الكتاب من الكفار، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" وزائل العقل - كغير المميز والمجنون والسكران - لا قصد ولا نية له صحيحة، فلا يصح منهم عمل الذبح فلا يصح إلا بنية وقصد، الثالثة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على حل ذبائح المسلم والكتابي العاقل وتحريم ذبائح غير الكتابي، فإن قلت: لِمَ حلَّت ذبائح أهل الكتاب؟ قلت: لأنهم يؤمنون بالله، ويحرمون الذبح لغير الله.

[فرع]: إذا كان الكافر يتديَّن بدين أهل الكتاب - اليهود والنصارى: فإن ذبيحته تحلّ: سواء كان أبواه كتابيان أو كان أحدهما كتابيًا؛ وهو قول كثير =

ص: 269

(ولو) كان (مغصوبًا من حديد، وحجر، وقصب وغيره) كخشب له حد، وذهب، وفضة وعظم (إلا السن والظفر)؛ لقوله عليه السلام:"ما أنهر الدم فكل ليس السن والظفر" متفق عليه

(8)

الشرط (الثالث: قطع الحلقوم) وهو: مجرى النفس (و) قطع

= من الحنابلة والحنفية؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الذي يدين بدين أهل الكتاب يدفع الجزية بصرف النظر عن أبويه فكذلك الحال هنا، والجامع: أن الاعتبار بدين الشخص لا بدين أبويه، يؤيده: عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، فإن قلت: لا تحلّ ذبيحة الكتابي إلا إذا كان أبواه كتابيين، أما إن كان أبواه أو أحدهما غير كتابي: فلا تحلُّ ذبيحته، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن وجود ما يقتضي الإباحة وهو كونه يدين بدين أهل الكتاب، وما يقتضي التحريم وهو كون أبويه، أو أحدهما غير كتابي: يلزم منه: تحريم ذبيحته؛ تغليبًا لجانب الحظر والتحريم على جانب الحل قلتُ: إن الأحكام تخص الفاعل لها فلا اعتبار لغيره؛ فإن قلت ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المقصود بالكتابي هل هو ما كان أصله من أهل الكتاب، أو من هو يدين بدينهم؟ " فعندنا: الثاني، وعندهم الأول.

(8)

مسألة: في الثاني - من شروط الذكاة والذبح الشرعي - وهو: أن يذبح الذابح بآلة محددة تنهر الدم بحدِّها: قاطعة، أو خارقة: سواء كانت من حديد، أو خشب، أو حجر، أو قصب، أو ذهب أو فضة - سوى السن والظفر-، للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "ما أنهر الدم فكل، ليس السن والظفر" فأباح الذبح بكل آلة تنهر الدم، وهو عام الجميع ما سبق ذكره وغيره؛ لأن "ما" الموصولة من صيغ العموم، واستثنى السن والظفر المتصلين، أو المنفصلين فلا يجوز الذبح بهما، وهذا دل بمفهوم الموافقة على أن كل عظم لا يجوز الذبح به، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: جاز الذبح بكل آلة؛ للتوسعة على المسلمين، ومنع الذبح بالسن؛ لأنه سكين الحبشة والظفر؛ لأنه عظم، والعظام طعام إخواننا الجن =

ص: 270

(المريء) بالمد، وهو: مجرى الطعام والشراب

(9)

، ولا يشترط إبانتهما، ولا قطع الوَدجين

(10)

، ولا يضر رفع يد الذابح إن أتم الذكاة على الفور

(11)

، والسنة: نحر إبل بطعن بمحدد في لبَّتها، وذبح غيرها

(12)

(فإن أبان الرأس بالذبح: لم يحرم

= من المسلمين فلا تنجَّس بالذبح بها - كما قال ابن القيم - فإن قلتَ: يصح الذبح بالعظم، وهو ما ذكره المصنف هنا؟ قلت: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.

(9)

مسألة: في الثالث - من شروط الذكاة والذبح الشرعي - وهو: أن يقطع الذابح الحلقوم - وهو مجرى النفس - ويقطع المريء - وهو: مجرى الطعام والشراب - ويسمَّى بـ "البلعوم"؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "الذكاة في الحلق واللُّبة" أي: محل الذبح الحلق واللُّبة - وهي: الوهدة التي بين أصل العنق والصدر - ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إنه مجمع العروق فينفسخ الدم بالذبح فيه، ويسرع بزهوق النفس، فيكون أطيب اللحم، وأخف على الحيوان.

(10)

مسألة: يصح الذبح بقطع الحلقوم والمريء، ولو لم يفصلهما تمام الفصل، ولو لم يقطع الودجين - وهما الوريدان - أو أحدهما، فإن فصل وأبان الحلقوم والمريء وقطع الودجين: فهو أكمل وأبلغ في الذبح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قطع الحلقوم والمريء: تمام الذبح فلا داعي للزيادات التي لا دليل قوي عليها.

(11)

مسألة: إذا أتَّم الشخص الذكاة والذبح: فلا يضر أن يرفع يده فور الانتهاء، ولا يُشترط إبقاء يده عليها كما يفعل البعض للتلازم؛ حيث يلزم من الإتمام: وجود الذبح الشرعي فيكون ما زاد على ذلك لا داعي له.

(12)

مسألة: يُستحب أن تُنحر الإبل بأن يطعن لبتها - وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر - وذلك بشيء محدَّد كالسيف ونحوه، ويُستحب أن تذبح غير الإبل - من البقر والغنم ونحوهما - بقطع الحلقوم والمريء وإذا عكس جاز؛ للسنة الفعلية؛ حيث نحر عليه السلام الإبل، وذبح الكبشين بيده، وقد، سبق بيانه.

ص: 271

المذبوح

(13)

، وذكاة ما عجز عنه: من الصيد والنعم المتوحشة و) النعم (الواقعة في بئر ونحوها بجرحه في أي موضع كان من بدنه) روي عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبَّاس، وعائشة رضي الله عنهم

(14)

(إلا أن يكون رأسه في الماء ونحوه) مما يقتله لو انفرد (فلا يباح) أكله؛ لحصول قتله بمبيح وحاضر، فغُلِّب جانب الحظر

(15)

، وما ذُبح من قفاه ولو عمدًا إن أتت الآلة على محل ذبحه، وفيه حياة

(13)

مسألة: إذا قطع الذابح رأس البهيمة أثناء ذبحها: فلا تحرم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من قطع الرأس وقوع الذبح الشرعي.

(14)

مسألة: إذا عجز شخص عن إمساك البهيمة التي يريد ذبحها من الصيد والنعم الهاربة، أو المتوحشة، أو الساقطة في بئر، أو نهر، فيجوز له أن يجرحها بآلة بأي مكان من بدنها: بأن يطعنها في سنامها، أو بتلك الآلة، فتنتقل ذكاتها من الذبح والنحر إلى العقر؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية والتقريرية؛ حيث ندّ بغير فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه فقال عليه السلام: "ما ندَّ عليكم فاصنعوا به هكذا" الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وشرع هذا للتيسير، فإن قلتَ: لا يجوز ذلك إلا أن يذَّكي، وهو قول مالك؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وهو عام لكل بهيمة أريد أكلها من الحيوان الإنسي قلتُ: إن هذا العموم قد خُصِّص بالسنة القولية والتقريرية، وقول الصحابي كما سبق بيانه، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض الكتاب مع السنة وقول الصحابي".

(15)

مسألة: إذا كان الحيوان المراد ذبحه قد تردَّى رأسه في الماء: فإنه لوقتله بأي آلة من بعيد: فإنه لا يحل أكله؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لوجرح مسلم ومجوسي بهيمة فماتت: فلا يجوز أكلها فكذلك لوجرح مسلم بهيمة رأسها داخل ماء فماتت: فلا يحل أكلها والجامع: أنه اشترك في قتل الحيوان مبيح ومحرم في كل، فجرح المسلم مبيح، وجرح المجوسي محرم فغُلِّب جانب التحريم هنا؛ احتياطًا للدِّين، =

ص: 272

مستقرة حلَّ، وإلا: فلا

(16)

، ولو أبان رأسه: حلَّ مطلقًا

(17)

.

والنطيحة ونحوها إن ذكَّاها، وحياتها تمكن زيادتها على حركة مذبوح: حلَّت، والاحتياط: مع تحرك ولو بيد، أو رجل

(18)

، وما قُطع حلقومه، أو أبينت حشوته:

= فكذلك اشترك في قتل الحيوان هنا جرح المسلم المبيح وغرقه بالماء المحرم، فغلِّب جانب المحرم؛ احتياطًا للدين.

(16)

مسألة: إذا ذبح شخص بهيمة من قفاه: سهوًا، أو عمدًا: فإنه يحل أكل لحمها بشرطين: أولهما: أن تأتي آلة الذبح على محل الذبح -: وهو: قطع الحلقوم والمريء - ثانيهما: أن تكون في البهيمة حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء، فإن لم تأت الآلة على محل الذبح، أو لم يكن في البهيمة حياة مستقرة قبل القطع: فلا يحل أكل لحمها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون هذا الذبح قد أتى على ما فيه حياة مستقرة: حلُّ الأكل، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على المسلمين.

(17)

مسألة: إذا قطع رأس البهيمة بالسيف وأطاره بعيدًا عنها: فإنه يحل أكل لحمها: سواء كان هذا القطع من جهة وجهها، أو قفاها، أو غيرها، وهو مريد لذبحها؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من قطع ما لا يعيش معه الحيوان في محل الذبح حل لحمه، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن ذلك ثبت عن علي، وعمران بن الحصين، فإن قلت: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة على المسلمين.

(18)

مسألة: إذا وُجدت بهيمة قد شارفت على الموت بسبب نطح وضرب غيرها بها، أو ضربت جدار، أو سقطت من شاهق، أو وُجدت منخنقة، أو موقوذة، أو متردِّية، أو أكل بعضها سبع، أو مريضة، أو صيدت بشبكة، أو شرك، أو أنقذت من غرق أو نحو ذلك: فتمكّن شخص من ذبحها ذبحًا شرعيًا بعد أن تأكد أن فيها حياة بأمارة حركتها حركة تزيد عن حركة المذبوح، ولو كانت هذه =

ص: 273

فوجود حياته كعدمها

(19)

الشرط (الرابع: أن يقول) الذابح (عند) حركة يده بـ (الذبح: بسم الله)؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} و (لا يجزئه غيرها) كقوله: باسم الخالق، ونحوه؛ لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى "بسم الله"

(20)

........................................................

= الحركة حصلت بواسطة تحريك هذا الشخص لها فتحرّكت: فإنه يحل أكل لحمها؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وهو عام لكل ما ثبتت تذكيته من أي حيوان فيه حركة الثانية: السنة القولية والتقريرية؛ حيث إن جارية كانت ترعي غنمًا بسلع، فأصيبت شاة من غنمها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"كلوها" الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن ابن عبَّاس قد سئل عن ذئب قد عدا على شاة فعقرها فأدركها صاحبها فذبحها بحجر فقال: "يُلقي ما أصاب الأرض، ويأكل سائرها" فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهو التوسعة على المسلمين والمحافظة على حقوقهم.

(19)

مسألة: إذا وُجدت بهيمة قد قطع حلقومها قبل ذبحها ذبحًا شرعيًا، أو أُزيلت حشوتها وأمعاؤها وذُبحت: فلا يحل أكل لحمها، ولو كانت تتحرك؛ للقياس؛ بيانه: كما يحرم أكل لحم الميتة فكذلك يحرم أكل هذه البهيمة، وما بان من حركة فهي حركة المذبوح، فوجود تلك الحركة وعدمها واحد.

(20)

مسألة: في الرابع - من شروط الذكاة والذبح الشرعي - وهو: أن يقول الذابح عند حركة يده بالذبح: "بسم الله" ولا يجزئ غيرها كأن يقول: "باسم الخالق" أو "باسم الرزّاق"؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ويلزم من إطلاق "اسم الله": أن ينصرف إلى لفظ: " بسم الله" الثانية: السنة القولية والفعلية؛ حيث قال عليه السلام: "يا غلام سمّ الله" وكان عليه السلام إذا ذبح سمّى، فإن قلتَ: لَمِ شرعت التسمية هنا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن التسمية على ذلك يجعل الذابح والمذبوح مباركين، ويطيب المذبوح، =

ص: 274

وتجزيء بغير عربية، ولو أحسنها

(21)

(فإن تركها) أي: التسمية (سهوًا: أُبيحت) الذبيحة؛ لقوله عليه السلام: "ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمَّد" رواه سعيد (لا) إن ترك التسمية (عمدًا) ولو جهلًا: فلا تحل الذبيحة؛ لما تقدَّم

(22)

؛ ومن

= ويطرد الشيطان عنهما، وتركها يؤثر خبثًا في الحيوان.

(21)

مسألة: إذا سمى شخص عند ذبحه بغير اللغة العربية: فإن ذلك يُجزئ: سواء كان ذلك الشخص يحسن العربية، أولا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حصول ذكر الله عند ذبح: أجزاؤه؛ لحصول المقصود، فإن قلتَ: لَمِ لَمْ يجزئ التكبير والسلام بغير اللغة العربية؟ قلتُ: لأن المقصود في الصلاة اللفظ؛ لكونه متعبَّدًا به.

[فرع]: يصح ذبح الأخرس، ويشير بالتسمية برأسه أو طرفه إلى السماء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ذلك صحة ذبحه؛ لحصول المقصود وهو قصد ذكر الله.

(22)

مسألة: إذا ترك شخص التسمية عند الذبح سهوًا ونسيانًا وجهلًا وخطأ: فإنه يجوز أكل ذبيحته، أما إن ترك التسمية عمدًا فلا تحل الذبيحة؛ للسنة القولية: وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمَّد" فيلزم أنه إذا تعمَّد تركها: فلا تحل ذبيحته، ثانيهما: قوله عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" وهو عام لكل شيء، فيشمل ما نحن فيه، والجاهل بالحكم مثل الناسي والمخطئ؛ لعدم الفارق من باب "مفهوم الموافقة"، فإن قلتَ: إن الجاهل بوجوب التسمية ولم يسم: فلا تحل ذبيحته، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ قياسًا على المتعمد قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن العالم بوجوب التسمية ومع ذلك تعمَّد تركها: فإنه أراد مخالفة الشارع، بخلاف الجاهل بذلك فلم يرد مخالفة الشارع، فتحل ذبيحته؛ نظرًا لعدم قصده فهو كالناسي، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين" فقسناه على الناسي والمخطئ، وهم قاسوه على العامد.

ص: 275

بدا له ذبح غير ما سمَّى عليه: أعاد التسمية

(23)

، ويُسنُّ مع التسمية التكبير، لا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

(24)

، ومن ذكر مع اسم الله اسم غيره: حرم، ولم يحل المذبوح

(25)

(ويكره أن يذبح بآلة كالَّة)؛ لحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" رواه الشافعي، وغيره

(26)

(و) يكره أيضًا (أن يحدّها والحيوان يُبصره)؛

(23)

مسألة: إذا أراد شخص ذبح شاة فسمَّى، ثم أراد ذبح غيرها: فيجب عليه أن يُعيد التسمية عند ذبح الثانية: سواء ذبح الأولى، أو تركها؛ للتلازم؛ حيث يجب أن تقصد كل ذبيحة بعينها بالتسمية فيلزم ما ذكرناه من الحكم، والتسمية على غيرها لا تغني عن التسمية عليها.

[فرع]: إذا أراد ذبح قطيع من البهائم، فسمَّى عليها جميعًا تسمية واحدة، ثم ذبحها جميعًا: فلا يحل أكل لحمها؛ للتلازم، وقد، سبق بيانه في مسألة (23).

(24)

مسألة: يُستحب أن يقرن الذابح مع التسمية التكبير فيقول: "بسم الله والله أكبر"، دون الصلاة على النبي عليه السلام؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث كان عليه السلام إذا ذبح قال: "بسم الله والله أكبر" الثانية: الاستصحاب؛ حيث إن الأصل عدم الصلاة على النبي عليه السلام هنا؛ لعدم ورود ذلك في الشرع، وعدم الشيء دليل على عدم مشروعيته.

(25)

مسألة: إذا ذكر الذابح اسم الله، وذكر معه اسم غيره: فإن ذلك يحرم، ولا تحل الذبيحة: سواء كان الذابح مسلمًا، أو من أهل الكتاب؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وهذا يدل على تفرّد ذكره هنا، ويلزم من ذكر غيره معه: إشراكه بذلك، وهذا قد أشرك به وهذا محرم.

(26)

مسألة: يكره أن يذبح الشخص البهيمة بآلة كالَّة - وهي: التي لا تقطع سريعًا -؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، =

ص: 276

لقول ابن عمر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تحدّ الشفار، وأن توارى عن البهائم" رواه أحمد وغيره

(27)

(و) يكره أيضًا (أن يوجهه) أي: الحيوان (إلى غير القبلة)؛ لأن السنة: توجيهه إلى القبلة

(28)

على شقه الأيسر

(29)

، والرفق به، والحمل على الآلة بقوة

(30)

(و) يكره أيضًا (أن يكسر عنقه) أي: عنق ما ذُبح (أو يسلخه قبل أن يبرد) أي: قبل زهوق نفسه؛ لحديث أبي هريرة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى بكلمات منها: "لا تعجلوا الأنفس قبل

= وليرح ذبيحته" حيث أمر الشارع بإراحة الذبيحة من العذاب الذي تعانيه عند ذبحها بأن تكون الآلة حادَّة سريعة القطع، وهذا من الإحسان إليها، وهو مقصد من مقاصد الشريعة، وهذا الأمر للاستحباب؛ والذي صرفه إليه: التلازم؛ حيث يلزم من توفر شروط الذبح وهي: السابقة الذكر: صحة الذبح، وكون الآلة حادَّة من حظ البهيمة، فلا يجب، وترك المستحب مكروه.

(27)

مسألة: يكره أن يقوم الذابح بحدِّ آلة الذبح أمام بصر البهيمة، أو أن يذبح بهيمة أمام بهيمة أخرى؛ للسنة القولية: حيث إنه عليه السلام "أمر أن تُحدُّ الشفار على غير مرأى من البهائم" وهو للاستحباب، وصرفه إليه: ما ذكرناه في مسألة (26)، وترك المستحب مكروه.

(28)

مسألة: يكره أن يوجه الذابح الذبيحة أثناء ذبحها إلى غير القبلة؛ للسنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد وجّه أضحيته إلى القبلة، وغير الأضحية مثلها في ذلك؛ لعدم الفارق، وتكره مخالفة فعله عليه السلام.

(29)

مسألة: يُستحب أن يجعل الذبيحة على شقها الأيسر؛ للمصلحة: حيث إن ذلك يُمكّن الذابح من الذبح بيمناه، ويمسك رأسه بيسراه.

(30)

مسألة: يستحب أن يترفَّق الذابح بذبيحته عند ذبحها، وأن يحمل على الآلة بقوة وعزم؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه إحسان إلى الذبيحة، وإسراع القطع؛ لإسراع زهوق نفسه.

ص: 277

أن تزهق" رواه الدارقطني

(31)

، وإن ذبح كتابي ما يحرم عليه: حلَّ لنا إن ذكر اسم الله عليه

(32)

، وذكاة جنين مباح بذكاة أمه إن خرج ميتًا، أو متحركًا كمذبوح

(33)

.

* * *

(31)

مسألة: يكره أن يكسر الذابح عنق ذبيحته، أو يسلخها قبل أن تزهق روحها تمامًا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق" وكسر العنق، والسلخ قبل زهوق روح الذبيحة فيه استعجال، يؤدي إلى تعذيب الذبيحة، وهذا النهي للكراهة، والذي صرفه إليه التلازم، كما ذكرناه في مسألة (26).

(32)

مسألة: إذا ذبح كتابي ذبيحة تحرم عليه: كذي ظفر، ومنفرج الأصابع، والبط والنعام، وما ليس بمشقوق الأصابع: فإنه يحل للمسلمين بشرط: أن يذكر ذلك الكتابي عند ذبحها اسم الله تعالى؛ للقياس؛ بيانه: كما تحل لنا الشحوم التي حرمت عليهم، فكذلك الحال هنا.

(33)

مسألة: ذكاة وذبح الأم هو ذكاة وذبح للجنين الذي في بطنها إن خرج ميتًا، أو خرج وهو يتحرك حركة مذبوح، أما إن خرج حيًا: فلا يُباح إلا بالذبح الشرعي، لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" الثانية التلازم؛ حيث إن كون الجنين جزءًا من أجزاء أمه، والذكاة قد أتت على جميع أجزائها يلزم منه: أن ذكاته هو ذكاة أمه، ويلزم من خروجه حيًا: أن لا يحل إلّا بالذبح الشرعي.

هذه آخر مسائل باب: "الذكاة والذبح الشرعي" ويليه باب "الصيد".

ص: 278

‌باب الصَّيد

وهو: اقتناص حيوان حلال متوحش طبعًا، غير مقدور عليه، ويطلق على "المصيد" (1) و (لا يحل المصيد المقتول في الاصطياد إلا بأربعة شروط: أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة)، فلا يحل صيد مجوسي، أو وثني، ونحوه، وكذا: ما شارك به (2)، الشرط (الثاني: الآلة، وهي نوعان): أحدهما: (محدَّد، يُشترط فيه ما يُشترط في آلة الذبح و) يُشترط فيه أيضًا: (أن يجرح) الصيد (فإن قتله بثقله: لم يبح)؛

‌باب الصَّيد

وفيه سبع عشرة مسألة:

(1)

مسألة: المراد بالصيد هو: "اقتناص حيوان حلال متوحِّش طبعًا كالغزلان والطيور غير مملوك ولا مقدور عليه بلا صيد" فخرج بلفظ: "حلال" الحيوان الحرام كالذئب، وخرج بلفظ "متوحش" الحيوان الإنسي كالإبل والبقر والغنم وإن توحَّشت، وخرج بلفظ:"غير مقدور عليه" الحيوان المقدور عليه بدون اقتناص كالأهلي، ويطلق على الصيد:"المصيد".

(2)

مسألة: في الأول - من شروط حل الصيد المقتول في الاصطياد - وهو: أن يكون الصائد ممّن تحل ذبيحته، وهو: العاقل سواء كان مسلمًا، أو كتابيًا، بالغًا، أو لا، ذكرًا أو لا، مختونًا أو لا، طاهرًا أو لا، فلا يحل صيد غير الكتابي، ولا المجنون، ولا السكران، ولا الوثني، ولا المجوسي، ولا صيد قد اشترك فيه من يحل صيده، ومن لا يحل - وقد، سبق بيان ذلك بالتفصيل في مسألة (7) من باب:"الذكاة والذبح الشرعي"، وقلنا: إن الصيد، بمنزلة الذكاة؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "فإن أخذ الكلب ذكاة" فسمَّى عليه السلام صيد الكلب ذكاة شرعية.

ص: 279

لمفهوم قوله عليه السلام: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل"

(3)

(وما ليس بمحدد كالبندق، والعصا، والشبكة، والفخ لا يحلّ ما قتل به) ولو مع قطع حلقوم ومريء؛ لما تقدَّم، وإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكَّاه: حلَّ

(4)

، وإن رمى صيدًا بالهواء، أو على شجرة فسقط فمات: حلَّ

(5)

، وإن وقع في ماء ونحوه: لم

(3)

مسألة: في الثاني - من شروط حل الصيد المقتول في الاصطياد - وهو: أن يقتل الصائد الصيد بآلة وهي: إما أن تكون حادَّة فيها صفات آلة الذبح السابق ذكرها في مسألة (8) من باب "الذكاة والذبح الشرعي" - ويُشترط فيها: أن يجرح الصيد، فإن قتله بثقله كفخ، وعصى، وحجر لا حدَّ له: فلا يُباح أكله؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل" حيث دلَّ على أن ما ليس بمحدَّد ينهر الدم: فلا يحل أكل ما صاده. تنبيه: آلة الصيد نوعان: أولهما: الآلة الحادَّة وقد سبق، ثانيهما: الجارحة وسيأتي بيانه.

(4)

مسألة: إذا رمى شخص صيدًا بشيء غير محدَّد كالبندق - وهي: صغار الأحجار -، والرصاص، أو العصا، أو صاده بشبكة، أو فخ: فيحل أكله بشرط: أن يدركه وفيه حياة مستقرة فيذكِّيه ويذبحه، أو أدركه بعد موته بلا تفريط منه، أما إن لم يدركه فمات قبل ذلك بتفريط منه: فلا يحل أكله؛ وإن كان مقطوع الحلقوم والمريء؛ للتلازم؛ حيث إن حصول إزهاقه بالذبح بعد حياة مستقرة له، وموته بعد صيده بلا تفريط من الصائد: يلزم منه: حلُّ أكل لحمه، ويلزم من موته بتفريط من الصائد: عدم حل أكله؛ لأنه بمنزلة الميتة.

(5)

مسألة: إذا رمى شخص صيدًا طائرًا بالهواء، أو كان على شجرة فسقط فمات: فإنه يحل أكله؛ للتلازم؛ حيث غلب على الظن أن سقوطه بسبب الإصابة، وزهوق روحه بالرمي فيلزم: حل أكله.

[فرع]: إذا رماه، فسقط، ولم يجده إلّا بعد يوم: فإنه يحلُّ أكله بشرط: أن يغلب على ظنه أن هذا هوالصيد الذي رماه بالأمس ولم يجد إلّا سهمه فيه، =

ص: 280

يحل

(6)

(والنوع الثاني: الجارحة فيباح ما قتلته) الجارحة (إن كانت معلَّمة): سواء كانت مما يصيد بمخلبه من الطير، أو بنابه من الفهود والكلاب؛ لقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} إلا الكلب الأسود البهيم، فيحرم صيده، واقتناؤه، ويُباح قتله، وتعليم نحو كلب وفهد: أن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل، وتعليم نحو صقر: أن يسترسل إذا أرسل، ويرجع إذا دُعي، لا بترك أكله

(7)

، الشرط (الثالث: إرسال الآلة قاصدًا) للصيد

= للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "وإن تغيب عنك ما لم تجد فيه غير سهمك" أي: كل منه وإن تغيب عنك فترة بذلك الشرط.

(6)

مسألة: إذا رمى صيدًا وهو في الهواء أو على شجرة فوقع في ماء، أو تردَّى من جبل وضرب بالأحجار: فلا يحل أكله؛ للتلازم؛ حيث اشترك في قتله ما يحل صيده - وهو الرمي وما لا يحل قتله - وهو وجوده في ماء، أو تدحرج في جبل -: فيلزم عدم حلِّه؛ تغليبًا لجانب الحظر والتحريم.

(7)

مسألة: قتل الصيد بالجارحة، وهي: المفترسة من السباع والطير مبيح لأكل ذلك المصيد بشرط: إذا قُتل الصيد بالجارحة وهي: ما يصيد، بمخلبه من الطير كالصقر، والبازي، والعقاب، أو ما يصيد بنابه كالكلب والفهد: فإنه يُباح أكل ما قتل بسبب ذلك بشرط: أن يكون هذا الطير والحيوان معلَّمًا، وتعليم الكلب والفهد يكون بثلاثة أمور: 1 - أنه إذا أُرسل: ذهب، 2 - إذا زُجر انزجر. 3 - إذا أمسك الصيد لم يأكل منه، وتعليم الطير يكون بأمرين: 1 - أنه إذا أرسل: ذهب، 2 - وإذا دُعي: رجع، وهذا مطلق في الكلاب: أي: سواء كان الكلب أسود، بهيم، أو لا؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وتعليم الحيوان للصيد لا يكون إلّا بتلك الأمور، الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف إنما أمسك على نفسه" - رواه عدي بن =

ص: 281

(فإن استرسل الكلب، أو غيره بنفسه: لم يبح) ما صاده (إلا أن يزجره فيزيد في عدوه بطلبه فيحلّ) الصيد؛ لأن زجره أثَّر في عدوه، فصار كما لو أرسله

(8)

، ومن رمى

= حاتم - فنهى عن أكل مما أكل منه؛ لاحتمال أن يكون قد أمسك ذلك الصيد لنفسه الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من اشتراط تعليم الحيوان على الصيد تلك الأمور؛ حيث لا يكون الحيوان معلَّمًا إلّا بها، فإن قلتَ: إن الكلب الأسود البهيم يحرم صيده ويباح قتله، ولا يجوز اقتناؤه وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث "وصفه النبي عليه السلام بالشيطان، وأمر بقتله" ويلزم من ذلك: عدم جواز اقتنائه، ويلزم منه: عدم إباحة صيده قلتُ: إن الأمر بقتل الكلاب منسوخ، وهو عام للأسود وغيره، وقال كثير من العلماء: إنه يقتل كل عقور من الكلاب: سواء كان أسود أو لا، ولا يُقتل غير العقور: سواء كان أسود أو لا - كما ذكر ذلك النووي - فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في آخر الأمرين في الكلب الأسود هل يُقتل أو لا؟ " فإن قلتَ: لا يُشترط ترك الأكل من الكلب، وهو قول ربيعة، ومالك، فيجوز أكل ما صاده: سواء أكل منه أو لا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل" - كما رواه أبو ثعلبة - وهذا صريح في جواز الأكل مما صاد وإن أكل الكلب منه قلتُ: إن حديث عدي أقوى من حديث أبي ثعلبة؛ لأنه متفق عليه، ولأنه تضمَّن زيادة وهي: ذكر الحكم معللًا؛ حيث قال عليه السلام فيه: "فإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف إنما أمسك على نفسه"، وزيادة الثقة حجة عندنا. فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلت: سببه: "تعارض السنتين".

[فرع]: لا يجب غسل ما أصاب الصيد من فم الكلب؛ للسنة القولية: حيث أمر بأكله بدون غسل.

(8)

مسألة: في الثالث - من شروط حلِّ الصيد المقتول في الاصطياد - وهو: أن يقصد - =

ص: 282

صيدًا فأصاب غيره: حلَّ

(9)

الشرط (الرابع: التسمية عند إرسال السهم أو) إرسال (الجارحة، فإن تركها) أي: التسمية (عمدًا، أو سهوًا: لم يبح) الصيد؛ لمفهوم قوله

= الشخص إرسال الآلة - سواء كانت حادة، أو جارحة -، فلو لم يقصد: فلا يُباح ما قتل بسبب تلك الآلة، فمثلًا: لو سقط، حجر، أو خنجر، أو ذهب الكلب المعلَّم، أو الصقر بنفسه وحصل قتل حيوان بسبب ذلك: فلا يحل أكله إلّا إذا زجره فزاد في عدوه فيحل أكل ما صاده؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل" أي: إذا قصدت وأردت الإرسال كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أي: إذا أردتم الصلاة وقصدتموها، الثانية: القياس؛ وهو من وجهين: أولهما: كما يشترط القصد في الذبح فكذلك يشترط في الصيد والجامع: اشتراكهما في التسمية، والتسمية لا تكون إلّا بعد النية والقصد، ثانيهما: كما لو أرسله: فإنه يحل ما صاده، فكذلك إذا زجره فزاد في عدوه نحو الصيد وصاده: فإنه يحل أكل ما صاده والجامع: التأثير على عدو الحيوان في كل، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من عدم قصده إرساله: عدم إباحة أكله.

(9)

مسألة: إذا رمى شخص صيدًا بآلة حادَّة، أو أرسل كلبًا، أو صقرًا إلى صيد: فأصاب غير ذلك الصيد المرمي، أو المرسل إليه: فإن ذلك الغير: يحل أكله، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل" وهذان النصان عامان يشملان كل ما يصيده ذلك المرسَل الثالثة: القياس؛ بيانه: كما لو أرسل شخص آلة على صيد كبار فتفرّقت عن صغار فيحل له أخذ الصغار، فكذلك الحال هنا والجامع: أنه أرسل آلة الصيد على صيد فحلَّ ما صاده، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه توسعة وتيسير على المسلمين.

ص: 283

عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله عليه فكل" متفق عليه

(10)

، ولا يضرّ إن تقدَّمت التسمية بيسير، وكذا: إن تأخّرت بكثير في جارح إذا زجره فانزجر

(11)

،

(10)

مسألة في الرابع - من شروط حل الصيد المقتول في الاصطياد - وهو: أن يُسمِّي بالله عند إرسال الآلة الحادَّة - كالسهم، أو الحجر، أو الرصاص - وعند إرسال الجارحة كالكلب والطير المعلَّمين فإن ترك التسمية عمدًا: لم يبح الصيد؛ أما إن ترك التسمية سهوًا، أو نسيانًا، أو جهلًا: فيصح أكل صيده؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه فكل" حيث دلّ منطوقه على إباحة أكل ما سُمِّي عليه بالله، ودلّ مفهوم الشرط على عدم جواز أكل ما لم يُسمِّ عليه ثانيهما: قوله عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان .. " إلخ، وهو عام لكل شيء، فيشمل ما نحن فيه، والجهل كالنسيان، والسهو، والغفلة فإذا ترك التسمية جهلًا، أو نسيانًا: أُبيح صيده وهو مخصص لما سبق. الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه في الذبح والتذكية تشترط التسمية، ويجوز أكل ذبيحة لم يُسمَّ بالله عليها سهوًا أو نسيانًا أو غفلة، أو جهلًا فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منها المقصود منه الأكل، فإن قلت: إذا ترك الشخص التسمية نسيانًا، أو جهلًا: فلا يباح الصيد، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: وهو الحديث السابق الذكر - وهو: إذا أرسلت كلبك .. " - حيث إنه قد دلَّ بمفهوم الشرط على أن متروك التسمية لا يحل أكله، وهذا المفهوم عام لمتروك التسمية عمدًا وسهوًا وجهلًا قلتُ: إن هذا العموم قد خصَّصه حديث: "عفي عن أمتي الخطأ والنسيان" وقد سبق بيان المقصد من ذلك في مسألة (22) من باب: "الذكاة والذبح الشرعي".

(11)

مسألة: إذا تقدَّمت التسمية عن إرسال الآلة الحادَّة، أو الجارحة، أو تأخّرت عن ذلك بزمن يسير في العادة: فلا يضر ذلك ويجوز أكل ما صاده؛ للقياس؛ =

ص: 284

ولو سمَّى على صيد فأصاب غيره: حلَّ

(12)

، لا على سهم ألقاه، ورمى بغيره، بخلاف ما لو سمَّى على سكين، ثم ألقاها وذبح بغيرها

(13)

(ويسن أن يقول معها) أي: مع: "بسم الله"(الله أكبر كـ) ما في (الذكاة)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح يقول: "بسم الله والله أكبر"، وكان ابن عمر يقوله

(14)

، ويكره الصيد للهو

(15)

وهو أفضل مأكول

(16)

، والزراعة أفضل مكتسب

(17)

.

بيانه: كما أن الصيد يحل إذا سمَّى عند ابتداء إرساله فكذلك الحال إذا تقدَّم، أو تأخَّر فيها والجامع: عدم التأثير في كل.

(12)

مسألة: إذا سمَّى الصائد على صيد فأصاب غيره: فإنه يحلُّ أكله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حصول التسمية عند ابتداء الإرسال: حل صيده وإن صاد غيره.

(13)

مسألة: إذا أراد إرسال سهم إلى صيد وسمَّى عليه، ثم ألقاه، ثم رمى بسهم غيره: فلا يحلُّ ما صاده به؛ أما إذا أراد الذبح بسكين مثلًا، ثم سمَّى، ثم ألقاها وذبح بغيرها: فإن ذبيحته تحلُّ؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون التسمية في جانب الصيد واقعة على السهم: عدم إباحة ما صاد غير السهم المسمَّى عليه؛ وذلك لعدم حضور الصيد، بين يديه، ويلزم من كون التسمية واقعة على الذبيحة نفسها، لا على الآلة من سكين أو نحوها جواز أكل تلك الذبيحة.

(14)

مسألة: يُستحب أن يقول الصائد: "الله أكبر" بعد التسمية؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يُستحب أن يقول: "الله أكبر" مع التسمية عند الذبح والتذكية فكذلك يُستحب ذلك عند الصيد والجامع: تعظيم الله تعالى في كل.

(15)

مسألة: يكره أن يقوم الشخص بالصيد للّهو؛ للتلازم؛ حيث إن الصيد للّهو عبث وإضاعة للوقت بغير فائدة فيلزم كراهيته.

(16)

مسألة: الصيد أفضل مأكول؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه حلالًا لا شبهة فيه: أفضليته على المأكولات الأخرى.

(17)

مسألة: العمل بالزراعة أفضل أنواع الكسب؛ للسنة القولية: حيث قال عليه =

ص: 285

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

* * *

= السلام: "أفضل الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور" والزراعة من العمل باليد، وتقديمه على البيع - وهو التجارة - بالذكر يدل على أنَّه أفضل من التجارة، فإن قلت: لَمِ كان ذلك؟ قلتُ للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه نفع عام؛ حيث إنه يُعزّه، ويُغنيه، ويمكّنه إطعام الآخرين من أنواع الزراعة والبهائم: صدقة أو هدية ويأكل الطير منه ويقرئ الضيف، ونحو ذلك.

هذه آخر مسائل باب: "الصيد" الذي هو آخر أبواب كتاب "الأطعمة" ويليه كتاب "الأيمان".

ص: 286

‌كتاب الأيمان

جمع يمين، وهي: الحلف والقسم

(1)

(واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث) فيها (هي: اليمين) التي يحلف فيها (بـ) اسم (الله) الذي لا يُسمَّى به غيره كـ: "الله" و"القديم الأزلي" و"الأول الذي ليس قبله شيء" و"الآخر الذي ليس بعده شيء" و"خالق الخلق" و"رب العالمين" و"الرَّحمن"، أو الذي يُسمَّى به غيره ولم ينوِ الغير كـ "الرحيم" و"الخالق" و"الرازق" و"المولى"(أو) بـ (صفة من صفاته) تعالى كـ "وجه الله" و"عظمته" و"كبريائه" و"جلاله" و"عزّته" و"عهده" و"أمانته" و"إرادته"(أو بالقرآن، أو بالمصحف) أو بسورة، أو آية منه و"لعمر الله" يمين، وما لا يُعدُّ من أسمائه تعالى كـ "الشيء" و"الموجود"، وما لا ينصرف إطلاقه إليه ويحتمله كـ "الحي" و"الواحد" و"الكريم" إن نوى به الله: فهو يمين، وإلا: فلا

(2)

(والحلف بغير الله)

‌كتاب الأيمان والنذور

‌تعريف الأيمان، وشروط وجوب الكفارة، وحكم الحلف بغير الله، ولغو اليمين، وحكم تحريم الحلال، وبيان كفارة اليمين.

وفيه تسع عشرة مسألة:

(1)

مسألة: الأيمان: جمع يمين والمراد، به هنا: تأكيد الحكم المحلوف عليه بقَسَم وحَلِفٍ بمعظَّم بألفاظ مخصوصة، ووجه مخصوص - وسيأتي بيان ذلك -، فإن قلتَ: لَمِ سُمِّي الحلف باسم اليمين؟ قلتُ: لأن الحالف يُعطي يمينه ويضرب بها على يمين صاحبه، كما قلنا في سبب تسمية البيع بـ "الصفقة".

(2)

مسألة: اليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث فيها هي التي تكون في الصور الآتية: أولًا: أن يحلف باسم الله الذي لا يُسمَّى به غيره مثل: "الله" و"القديم الأزلي" و"الأول الذي ليس قبله شيء" و"الآخر الذي ليس بعده شيء" و"خالق الخلق" و"الحي الذي لا يموت" و"رب العالمين""وفاطر السموات والأرض" =

ص: 287

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= و"الرَّحمن" و"رازق العالمين" و"العالم بكل شيء" و"مالك يوم الدين" فإذا تلفَّظ الحالف بذلك وحلف به: فإنه يكون حالفًا بالله وحده، فإن حنث ولم يفِ بما حلف عليه: وجبت الكفارة بدون نية أو قرينة، للتلازم؛ حيث إن ذلك صريح في أن المقصود الحلف بالله لا يشاركه غيره فيه - ثبت هذا بواسطة النصوص الشرعية - فيلزم أن يقع اليمين بدون قرينة، ثانيها: أن يحلف بصفة من صفاته الخاصة به مثل: "أن يحلف بوجه الله" و"بعظمته" و"بكبريائه" و"بجلاله" و"بعزَّته" و"بعلوّه" و"بعهد الله" و"بيمين الله" و"بإرادته" و"بقدرته" و"بجبروته"، و"بالقرآن" و"بالمصحف" و"بسورة" و"بآية منه" و"بكلام "الله" و"بحق القرآن" و"بالتوراة" و"بالإنجيل" و"بالزبور" و"بصحف إبراهيم" و"بصحف موسى" وقوله:"لعمر الله"، فإذا تلفَّظ الشخص بذلك: فإنه ينعقد يمينه، وعليه الكفارة إن حنث دون نية أو قرينة؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك صريح في أن المقصود الحلف بالله المعظَّم دون مشاركة غيره فيه فيلزم أن يقع بذلك اليمين فور تلفُّظه به بدون نية، ثالثها: أن يحلف بشيء يُسمَّى به الله تعالى، ويُسمَّى به غيره مثل:"الرحيم" و"الخالق" و"الرازق" و"المولى" و"القادر" و"الشيء" و"الموجود" و"الحي" و"الواحد" و"الكريم" فهذه الصفات والأسماء إن أطلقه أو نوى به الحلف بالله تعالى: فهو يمين يُكفِّر إن حنث، أما إن نوى بذلك غيره: فلا يكون يمينًا، فلو حنث لا يكفّر؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون هذه الصفات والأسماء تحتمل أن تكون لله، وتحتمل أن تكون لغيره، اشتراط وجود النية والمقصود منها، ويلزم من كون الحلف بذلك لله وحده، وهو الأصل: أنَّه إذا أطلق التلفُّظ بها: فإنها تكون لله تعالى.

[فرع]: يحرم الحلف بجميع الأنبياء، ولو حلف لا تنعقد اليمين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم كون ذلك من الصور السابقة: عدم جواز الحلف بذلك.

ص: 288

سبحانه وصفاته (محرم)؛ لقوله عليه السلام: "من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت" متّفق عليه

(3)

، ويكره الحلف بالأمانة

(4)

(ولا تجب به) أي: بالحلف بغير الله (كفارة) إذا حنث

(5)

(ويُشترط لوجوب الكفارة) إذا حلف بالله تعالى (ثلاثة شروط: الأول: أن تكون اليمين منعقدة، وهي) اليمين (التي قصد عقدها على) أمر (مستقبل ممكن، فإن حلف على أمر ماض كاذبًا عالمًا: فهي) اليمين (الغموس)؛ لأنها تغمسه في الإثم، ثم في النار (ولغو اليمين) هو (الذي يجري على لسانه بغير قصد كقوله) في أثناء كلامه (لا والله، وبلى والله)؛ لحديث عائشة مرفوعًا: "اللغو في اليمين: كلام الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله) رواه أبو داود، وروي موقوفًا

(3)

مسألة: يحرم الحلف بغير اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت" فأوجب الحلف بالله إن أراد يمينًا على شيء؛ لأن الأمر مطلق، وهذا يقتضي الوجوب، وترك الواجب حرام.

(4)

مسألة: يحرم الحلف بالأمانة؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "ليس منّا من حلف بالأمانة) وهذا وعيد شديد على من فعل ذلك، وهو عقاب، ولا يُعاقب على فعل محرم، فإن قلتَ: إن ذلك مكروه، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد صارفًا قوي على صرف ذلك من التحريم إلى الكراهة.

(5)

مسألة: من حلف بغير الله، أو بغير صفاته - كما سبق في مسألة (2) - فلا تجب الكفارة عليه إذا حنث؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" حيث يلزم من ذلك تحريم الحلف بغير الله مطلقًا، وعدم انعقاد اليمين به، وإذا لم تنعقد اليمين فلا كفارة عند الحنث، الثانية: التلازم؛ حيث إن الكفارة إنما وجبت في الحلف بالله؛ صيانة لأسمائه وصفاته من العبث واللهو، وتعظيمًا له سبحانه فيلزم عدم وجوب كفارة عليه إذا حنث في الحلف بغير الله؛ لأن غيره لا يساويه في ذلك التعظيم ولا يقاربه.

ص: 289

(وكذا: يمين عقدها يظن صدق نفسه، فبان بخلافه فلا كفارة في الجميع)؛ لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وهذا منه

(6)

، ولا تنعقد أيضًا من نائم،

(6)

مسألة: في الأول - من شروط وجوب الكفارة إذا حلف بالله تعالى -: وهو: أن تكون اليمين منعقدة وهي: أن يحلف بالله على أمر في المستقبل أن يفعله، وهو قاصد له، ويمكن فيه السير، ويمكن فيه الحنث، وهو لا يعلم بذلك حين الحلف، وأخرج ذلك ثلاثة أيمان: أولها: أن يحلف على أمر ماض، وهو كاذب فيه عالم بكذبه ذلك: فهذه اليمين الغموس وهي محرمة، ثانيها: أن يحلف وهو لم يقصد، بل جرى على لسانه، وهذا يُسمَّى لغو اليمين كأن يقول أثناء كلامه:"لا والله" أو "بلى والله" ثالثها: أن يحلف ظانًا صدق نفسه، فبان بخلاف ذلك كأن يحلف زيد على عمرو يظن أن عمرًا سيطيعه فلم يفعل عمرو، أو ظن عمرو خلاف قصد ونية زيد الحالف وهذا من اللغو في اليمين، فهذه الثلاثة: لا كفارة فيها؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فأوجب الكفارة في اليمين المنعقدة فقط، دون غيرها، ونفى الشارع الكفارة على اليمين اللغو، الثانية: السنة التقريرية؛ حيث قال ابن مسعود: "كنا نعد اليمين التي لا كفارة فيها: اليمين الغموس، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن عائشة قد، بيّنت اليمين اللغو في قولها: "اللغو في اليمين كلام الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله"، فإن قلت: لَمِ وجبت الكفارة في اليمين المنعقدة؟ قلتُ: للمصلحة؛ لكون المقصود بها الحث والمنع، ولأن اللغو في اليمين يتكرر بين ألسنة الناس فلو وجبت الكفارة على ذلك: لشقّ على الناس، ولأن اليمين الغموس أعظم من أن تُكفَّر، وهي من الكبائر لذلك سميت بهذا الاسم؛ لكونها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار، وهذا لأنه حلف علمه بأنه كاذب، وهذا أراد مخالفة الشارع، وأخذ حقوق الآخرين بقصد منه.

ص: 290

وصغير، ومجنون ونحوهم

(7)

، الشرط (الثاني: أن يحلف مختارًا، فإن حلف مكرهًا: لم تنعقد يمينه)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"

(8)

الشرط (الثالث: الحنث في يمينه: بأن يفعل ما حلف على تركه) كما لو حلف: "أن لا يُكلِّم زيدًا" فكلمه مختارًا (أو يترك ما حلف على فعله) كما لو حلف: "ليكلمنَّ زيدًا اليوم" فلم يُكلِّمه (مختارًا ذاكرًا) ليمينه (فإذا حنث مكرهًا، أو ناسيًا: فلا كفارة)؛ لأنه لا إثم عليه

(9)

(ومن قال في يمين مُكفَّرة) أي: تدخلها الكفارة كيمين بالله تعالى، ونذر، وظهار:(إن شاء الله: لم يحنث) في يمينه: فعل، أو ترك إن قصد المشيئة، واتّصلت يمينه لفظًا أو حكمًا؛ لقوله عليه السلام:"من حلف فقال: إن شاء الله: لم يحنث" رواه أحمد وغيره

(10)

(ويُسنُّ الحنث في اليمين إذا كان)

(7)

مسألة: يُشترط في الحالف: أن يكون مكلَّفًا، فلا تنعقد اليمين من زائل العقل، أو ناقصه: كالصبي، والمجنون والنائم، وأي شخص زائل العقل بأي سبب؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ" وهذا شرط لجميع التكاليف لذلك لم يذكره مع شروط وجوب الكفارة هنا الخاصة، وهو قد سبق مرارًا.

(8)

مسألة: في الثاني - من شروط وجوب الكفارة إذا حلف بالله تعالى - وهو: أن يحلف مختارًا لليمين، دون إكراه من أحد، فإن حلف مكرهًا: فلا كفارة عليه إذا حنث؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه" وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه.

(9)

مسألة: في الثالث - من شروط وجوب الكفارة إذا حلف بالله تعالى: - وهو: أن يحنث في يمينه مختارًا ذاكرًا يمينه: بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، أما إن حنث مكرهًا، أوناسيًا أو جاهلًا للحكم ليمينه: فلا كفارة عليه؛ للسنة القولية وهي ما ذكرناها في مسألة (8).

(10)

مسألة: إذا حلف شخص بالله، أو بإحدى صفاته أو نذر، أو ظاهر من زوجته =

ص: 291

الحنث (خيرًا) كمن حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب، وإن حلف على فعل مندوب، أو ترك مكروه: كره حنثه، وعلى فعل واجب أو ترك محرم: حرم حنثه، وعلى فعل محرم، أو ترك واجب: وجب حنثه، ويخير في مباح، وحفظها فيه أولى

(11)

، ولا

= وقرن ذلك بمشيئة الله لفظًا وحكمًا وترك ما حلف على فعله، أو فعل ما حلف على تركه فإنه لا يحنث، وحينئذٍ لا كفارة فمثلًا لو قال:"والله لا أدخل هذه الدار إن شاء الله" أو قال: "لله علي أن أحج إن شاء لله" أو قال: "أنتِ علي كظهر أمي إن دخلت الدار إن شاء الله" ولم يفصل عبارة: "إن شاء الله" عمّا حلف على فعله، أو على تركه إلا بشيء لا يُعدُّ فاصلًا: كسعال، أو عطاس، أو نَفَس أو نحو ذلك مما يغلبه: فإنه لا يحنث إن ترك ما حلف على فعله، أو فعل ما حلف على تركه؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من حلف فقال: إن شاء الله: لم يحنث" وهو واضح الدلالة، والنذر، والظهار مثل الحلف، فإن قلتَ: لَم شُرع هذا؟ قلتُ: لأن لفظ "إن شاء الله" تعليق على شيء لا يمكن أن نعلمه؛ إذ المشيئة مغيبة عنّا.

(11)

مسألة: يكون الحنث مستحبًا إذا كان الحنث خيرًا لمن حلف على ترك سنة من السنن، أو حلف على فعل مكروه، ويكون الحنث مكروهًا إذا حلف على فعل مندوب، أو ترك مكروه، ويكون الحنث حرامًا إذا حلف على فعل واجب - كصلة الوالدين - أو حلف على ترك محرم - ويكون الحنث واجبًا إذا حلف على فعل محرم، أو على ترك واجب، ويكون الحنث مباحًا إذا حلف على فعل مباح، أو على تركه، وحفظ اليمين في المباح أولى؛ فتكون في ذلك الأحكام التكليفية الخمسة؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خير، ويكفِّر عن يمينه" حيث دلّ على استحباب الحنث إذا كان خيرًا من المحلوف على فعله، أو تركه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن ترك ما حلف على فعله، أو فعل ما حلف على تركه ينظر فيه =

ص: 292

يلزم إبرار قسم كإجابة سؤال بالله تعالى، بل يُسن

(12)

(ومن حرَّم حلالًا سوي زوجته)؛ لأن تحريمها ظهار - كما تقدم -: سواء كان الذي حرمه (من أمة، أو طعام، أو لباس، أو غيره) كقوله: "ما أحل الله عليّ حرام" ولا زوجة له، أو قال:"طعامي علي كالميتة": (لم يحرم) عليه؛ لأن الله تعالى سمَّاه يمين بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ، واليمين على الشيء لا تحرمه (وتلزمه كفارة يمين إن فعله)؛ لقوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} : أي التكفير، وسبب نزولها: أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لن أعود إلى شرب العسل" متفق عليه

(13)

ومن قال: "هو يهودي، أو كافر أو يعبد غير الله، أو بريء من الله

= إلى المصلحة، ودفع المفسدة المترتبة على ذلك، وهذا يختلف باختلاف الحالات السابقة، فلذلك انقسم الحنث إلى أقسام الأحكام التكليفية الخمسة.

(12)

مسألة: إذا حلف زيد على عمرو بأن لا يخرج من هذه الدار: فيستحب لعمرو أن يبرّ بهذا القسم، ولا يلزمه ذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يلزم إجابة سؤال بالله تعالى، فكذلك الحال هنا، والجامع: أن الإيجاب والإلزام يكون بالتوقيف في كل.

(13)

مسألة: إذا حرَّم شخص على نفسه حلالًا - غير زوجته - من إماء، أو طعام، أو لباس، أو نحو ذلك كأن يقول:"طعامي عليّ كالميتة" أو يقول: "أحرم على نفسي كل حلال" أو نحو ذلك: فلا يحرم ذلك، فله أن يأكل من طعامه، ويتمتّع بكل حلال، ولكنه يُكفّر عن ذلك كفارة يمين؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فأنكر الشارع على نبيه تحريم الحلال حيث حرّم على نفسه العسل، وأوجب عليه كفارة يمين؛ لأنه سمَّى ذلك تحلَّة، ولم يسمها رافعة لإثم الحنث، والخطاب الموجَّه إلى النبي عليه السلام يعم أمّته كما أن الخطاب الموجّه إلى الأمة يدخل فيه النبي عليه السلام إلّا إذا ورد مخصِّص لذلك، وغير العسل مثله في الحكم؛ لعدم الفارق، من باب "مفهوم الموافقة"، الثانية: السنة القولية؛ حيث =

ص: 293

تعالى، أو من الإسلام، أو القرآن، أو النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ليفعلنّ كذا، أو إن لم يفعله، أو إن كان فعله": فقد فعل محرمًا، وعليه كفارة يمين بحنثه

(14)

.

(فصل): في كفارة اليمين (يخير من لزمته كفارة يمين بين إطعام عشرة مساكين) لكل مسكين مُدُّ بر، أو نصف صاع من غيره (أو كسوتهم) أي: العشرة مساكين، للرجل ثوب يجزئه في صلاته، وللمرأة درع وخمار كذلك (أو عتق رقبة، فمن لم يجد) شيئًا مما تقدَّم ذكره: (فصيام ثلاثة أيام)؛ لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (متتابعة) وجوبًا؛ لقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعة"

(15)

، وتجب كفارة نذر

= " إنه عليه السلام جعل تحريم الحلال يمينًا"، فإن قلت: لَمِ استثنيت الزوجة هنا؟ قلتُ: لأن تحريمها ظهار كما سبق تفصيله في مباحث "الظهار".

(14)

مسألة: إذا قال شخص: "إني يهودي إن دخلت هذه الدار" أو قال: "إني كافر إن دخلتها" أو قال: "أعبد غير الله إن دخلتها" أو قال: "إني بريء من الله إن دخلتها" أو قال: "إني بريء من الإسلام أو القرآن أو النبي عليه السلام إن دخلتها" أو قال: "إني أستحلّ الزنا، أو شرب الخمر أو ترك الصلاة إن دخلتها" أو قال نحو هذه العبارات: فإن هذا محرَّم، وتجب عليه كفارة اليمين إن حنث ودخل تلك الدار المحلوف عليها؛ للقياس؛ بيانه: كما أنَّه إذا حلف بالله عليه ذلك فكذلك إذا قال مثل تلك العبارات والجامع: أن ذلك قول يُوجب هتك الحرمة في كل، أي: أنَّه يكون يمينًا.

(15)

مسألة: إذا حلف شخص، وحنث في يمينه هذا كأن ترك ما كان قد حلف على فعله، أو فعل ما كان قد حلف على تركه: فإنه يُكفِّر كفارة يمين، وهو مخيَّر بين يفعل ما يلي: 1 - إما أن يطعم عشرة مساكين، يُعطي كل مسكين مُدَّ بر، أو أرز - أي: ربع صاع منه-، أو يعطيه نصف صاع من غير البر - كالتمر والزبيب، والأقط، والشعير - 2 - وإما أن يكسي عشرة مساكين، يُعطي كل =

ص: 294

فورًا بحنث

(16)

، ويجوز إخراجها قبله

(17)

(ومن لزمته أيمان قبل التكفير موجبها

= مسكين ثوبًا يجزئه في صلاته: فيعطي الرجل ما يستر عورته - وهي من الركبة إلى السرَّة - ويُعطي المرأة درعًا وخمارًا، سواء كانت هذه الكسوة جديدة، أو ملبوسة، 3 - وإما أن يعتق رقبة كاملة مؤمنة سليمة من العيوب، فإن لم يقدر على إحدى تلك الخصال الثلاث: فعليه صوم ثلاثة أيام متتابعة؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} وهذا واضح الدلالة، الثانية: السنة القولية؛ حيث قرأ ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وهذه قراءة شاذَّة، وهي لا تكون قرآنًا، ولكنها حجَّة، يُعمل بها في الأحكام؛ لكونها لا تخرج إما أن تكون قرآنًا، أو تكون خبر سمعه ابن مسعود من النبي عليه السلام، ولا يصح أن تكون قرآنًا؛ لأن المفروض على النبي عليه السلام أن يقرأ كل آية على طائفة تقوم الحجة بقولهم وخبرهم، فلم يبق إلّا أن تكون خبر واحد وخبر الواحد حجة، فإن قلتَ: لا يُشترط التتابع في ذلك الصيام وهو قول كثير من العلماء؛ للتلازم؛ حيث إن كون تلك القراءة ليست قرآنًا، وليست خبرًا رواه الرَّاوي عنه عليه السلام، ولا يمكن لأي صحابي أن يزيد في القرآن ما ليس منه يلزم منه: عدم الاحتجاج بذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في القراءة الشاذة هل هى حجة أولا؟ ".

(16)

مسألة: يجب إخراج كفارة النذر بعد حنثه مباشرة وفورًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الأمر المطلق يقتضي الفورية: أن يفعل ذلك.

(17)

مسألة: إذا رأى أنَّه سيحنث في يمينه السابق انعقاده: فيجوز أن يُخرج الكفارة قبل حنثه ذلك؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير" - كما ورد في رواية أبي داود -.

ص: 295

واحد) ولو على أفعال كقوله: "والله لا أكلتُ""والله لا شربت""والله لا أعطيت""والله لا أخذت": (فعليه كفارة واحدة)؛ لأنها كفارات من جنس واحد، فتداخلت كالحدود من جنس (وإن اختلف موجبها) أي: موجب الأيمان، وهو الكفارة (كظهار ويمين بالله) تعالى:(لزماه) أي: الكفارتان (ولم يتداخلا)؛ لعدم اتحاد الجنس

(18)

، ويُكفِّر قنّ بصوم، وليس لسيده منعه منه، ويكفر كافر بغير صوم

(19)

.

(18)

مسألة: إذا اجتمعت عدَّة أيمان على شخص، ولم يكفر عن أحدها: ففيه تفصيل: أولًا: إن كان موجبها واحدًا كأن تكون كلها يمين بالله كقوله: "والله لا آكل كذا" ويقول قبل أن يكفر عن ذلك: "والله لا أشرب كذا" فتجب كفارة واحدة عليها جميعًا: سواء كانت أفعال متَّحدة، أو متغايرة، ثانيًا: إن كان موجبها مختلف كأن تكون متكوّنة من ظهار، ويمين بالله: فتجب عليه كفارتان: كفارة للظهار، وكفارة لليمين، ولا تتداخلان؛ للقياس؛ بيانه: كما أنَّه لو زنى ثم زنى ولم يُحدُّ على الزنا الأول: فعليه حدّ واحد لهما معًا، ولو زنى، وسرق: فإنه يحدّ على الزنا، ثم يحد على السرقة فكذلك ما نحن فيه مثله والجامع: أن التي من جنس واحد يكفي فيها كفارة واحدة، والتي من جنسين لكل جنس كفارتها التي تخصُّها.

(19)

مسألة: إذا عجز الحالف الحانث عن أن يكفر بشيء: واحد من الخصال الثلاث السابقة الذكر: فإنه ينتقل لشيء يستطيعه فمثلًا: إذا حنث عبد: فإنه يكفر بصوم فقط، ولا يمنعه سيده من ذلك، والكافر إذا حنث: فإنه لا يكفر بصوم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم ملكية العبد لشيء: أن يكفِّر بما يملكه وهو الصوم، ويلزم من عدم صحة الصوم من الكافر: أن يكفِّر بغيره.

هذه آخر مسائل: "تعريف الأيمان، واليمين التي توجب الكفارة، وشروط وجوب الكفارة، وحكم الحلف بغير الله، واليمين الغموس، ولغو اليمين، وحكم تحريم الحلال، وبيان كفارة اليمين" ويليه باب: "جامع الأيمان المحلوف بها".

ص: 296

‌باب جامع الأيمان المحلوف بها

(يُرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "وإنما لكل امرئ ما نوى" فمن نوى بالسقط، أو البناء السماء، أو بالفراش، أو البساط الأرض: قُدِّمت على عموم لفظه

(1)

ويجوز التعريض في مخاطبة

‌باب جامع الأيمان المحلوف بها

وفيه خمس عشرة مسألة:

(1)

مسألة: الأيمان مبنية على نية الحالف بشرط: أن يكون اللفظ محتملًا لما نواه، فإذا نوى بيمينه ما يحتمله له: انصرفت يمينه إلى ما نواه دون ما تلفَّظ به، ويقبل منه حكمًا، فمثلًا: لو قال: "والله لا أرقى السقف، أو البناء" وقال: إني نويت بذلك السماء: قُبل منه، فلو رقى سقف بيته، أو بناءه: لم يحنث، وكذا: لو قال: "والله لا أنام على البساط" وقال: إني نويت بذلك الأرض: قُبل منه، فلو نام على بساطه المعتاد: فلا يحنث؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "وإنما لكل امرئ ما نوى" فيرجع في لفظ المتكلم إلى ما نواه إذا احتمل اللفظ ذلك: فيلزم منه: أن يُقبل قوله في ذلك ويُحمل على ما نواه، دون ظاهر لفظه وعمومه؛ ذلك لأن الله تعالى سمّى السماء بناء في قوله:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} وسمَّاه سقفًا في قوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} وسمَّى الأرض بساطًا في قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} .

[فرع]: إذا نوى ما لا يحتمله اللفظ كأن يحلف قائلًا: "والله لا آكل خبزًا" ونوى به لا يدخل بيتًا: فلا ينصرف إلى ما نواه، فلا يُقبل منه، فلو دخل بيتًا: لحنث ووجبت الكفارة؛ للقياس؛ بيانه: كما لو نوى ذلك بغير يمين: فلا يُقبل منه، فكذلك لو نواه بيمين فلا يُقبل منه، والجامع: أنَّها نية مجرَّدة لا يحتملها اللفظ في كل.

ص: 297

لغير ظالم

(2)

(فإن عُدِمَت النية: رجع إلى سبب اليمين، وما هيَّجها)؛ لدلالة ذلك على النية: فمن حلف "ليقضيَّن زيدًا حقه غدًا" فقضاه قبله: لم يحنث إذا اقتضى السبب أنَّه لا يتجاوز غدًا، وكذا:"ليأكلن شيئًا" أو "ليفعلنَّه غدًا" وإن حلف: "لا يبيعه إلا بمائة": لم يحنث إلا إن باعه بأقل منها، وإن حلف:"لا يشرب له الماء من عطش" ونيته أو السبب: قطع منَّته: حنث بأكل خبزه، واستعارة دابته، وكل ما فيه منَّة

(3)

(2)

مسألة: لا يجوز التعريض في الأيمان في المخاطبات مطلقًا: سواء كانت مخاطبة ظالم، أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما لا يجوز التدليس في المبيع، فكذلك لا يجوز التعريض في الأيمان والجامع: التدليس على الآخرين في كل، فإن قلتَ: لَمِ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه دفع مفاسد التدليس والمغالطة والتلبيس في المجتمع. فإن قلتَ: يجوز التعريض في مخاطبة لغير ظالم، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن ذلك قد تدعو إليه الحاجة قلتُ: إن مفاسد التعريض في ذلك أعظم من مصلحة التعريض لشخص معين؛ لأن مراعاة المصلحة العامة مقدمة على مراعاة مصالح الأفراد، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحتين: الخاصة والعامة".

(3)

مسألة: إذا حلف شخص، ولم توجد له نية ومقصد من حلفه ذلك: فإنه يُرجع إلى سبب صدور اليمين تلك منه، وهوما هيّجه على الحلف؛ لنعلم نيّته من ذلك، فمثلًا: لو حلف عمرو قائلًا: "والله لأقضينَّ زيدًا حقه غدًا" فقضاه قبل غد، أو حلف قائلًا:"والله لأفعلن شيئًا غدًا" ففعله قبل غد، أو حلف قائلًا:"والله لا أبيعنَّ هذا الثوب إلّا بمائة" فباعه بمائة أو أقلَّ منها، فإنه لا يحنث في جميع تلك الصور الثلاث، لكن لو حلف قائلًا:"والله لا أشرب لعمرو ماءً وإن اشتدَّ بي العطش" وكان سبب ذلك قطع منَّة عمرو على زيد: فإن زيدًا يحنث لو أكل خبزًا لعمرو، ويحنث إذا استعار دابته أو سيارته ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون سبب تهييج اليمين أدلَّ شيء على نية الحالف: عدم الحنث في الصور الثلاث =

ص: 298

(فإن عدم ذلك) أي: النية، وسبب اليمين الذي هيَّجها:(رجع إلى التعيين)؛ لأنه ابلغ من دلالة الاسم على المسمى؛ لأنه ينفي الإبهام بالكلية. (فإذا حلف "لا لبست هذا القميص" فجعله سراويل، أو رداء، أو عمامة، ولبسه: حنث، أو لا كلَّمت هذا الصبي" فصار شيخًا) وكلَّمه: حنث (أو) حلف: لا كلَّمتُ (زوجة فلان) هذه (أو صديقه فلانًا) هذا (أو مملوكه سعيدًا) هذا (فزالت الزوجية، والملك، والصداقة، ثم كلَّمهم): حنث (أو) حلف (لا أكلت لحم هذا الحمل، فصار كبشًا) وأكله حنث (أو) حلف: لا أكلتُ (هذا الرطب، فصار تمرًا، أو دبسًا، أو خلًا) وأكله: حنث (أو) حلف: لا أكلتُ (هذا اللَّبن، فصار جبنًا، أو كشكًا ونحوه، ثم أكله: حنث في الكل)؛ لأن عين المحلوف عليه باقية كحلفه: "لا لبست هذا الغزل" فصار ثوبًا، وكذا: حلفه: لا يدخل دار فلان هذه، فدخلها، وقد، باعها، أو هي فضاء، أو مسجد، أو حمام ونحوه (إلا أن ينوي) الحالف، أو يكون سبب اليمين يقتضي (ما دام) المحلوف عليه (على تلك الصفة) فتقدَّم النية، وسبب اليمين على التعيين - كما تقدَّم -

(4)

.

= الأولى، والحنث في الصورة الرابعة، ومعلوم: أن الألفاظ لا تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يُستدلُّ بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده بأي طريق: عمل بمقتضاه: سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو دلالة عقلية، أوقرينة حالية، أو عادة له مطَّردة كما صرَّح بذلك ابن القيم.

(4)

مسألة: إذا لم ينوِ الحالف شيئًا - كما سبق في مسألة (1) - ولم يوجد، سبب اليمين الذي هيَّجها - كما سبق في مسألة (3) -: فإنه يُرجع إلى التعيين، فمثلًا: لو حلف قائلًا: "والله لا ألبس هذا القميص" فجعله سراويل، أو رداء، أو عمامة ولبسه: فإنه يحنث أو قال: "والله لا أكلِّم هذا الصبي" أو قال: "والله لا أُكلِّم زوجة فلان" أو قال: "والله لا أُكلِّم صديقي فلان" أو قال: "والله لا أُكلِّم عبدي فلان" أو قال: "والله لا آكل هذا الحمل الصغير" أو قال: "والله لا آكل =

ص: 299

(فصل): (فإن عُدِم ذلك) أي: النية، والسبب، والتعيين:(رجع) في اليمين (إلى ما يتناوله الاسم، وهو) أي: الاسم (ثلاثة: شرعي، وحقيقي، وعرفي)

(5)

وقد لا يختلف المسمَّى كالأرض، والسماء، والإنسان، والحيوان، ونحوها

(6)

: (فالشرعي)

= هذا الرطب" أو قال: "والله لا آكل هذا اللبن" أو قال: "لا أدخل دار زيد" فزال الصبا، وأصبح شيخًا، وزالت الزوجية، وعتق العبد، وزالت الصداقة، ثم كلَّم هؤلاء بعد ذلك الزوال، أو أكل الحمل لما صار كبشًا، أو أكل الرطب لما صار تمرًا أو عسلًا، أو أكل اللبن لما صار جبنًا، أو داخل تلك الدار بعدما باعها زيد أو صارت مسجدًا، أو فضاء أو حمامًا: فإنه يحنث فيما سبق من الصور كلها بشرط: عدم نيته: كون المحلوف عليه مستمرًا على تلك الصفة؛ للتلازم؛ حيث إن عدم نية الحالف، وعدم وجوب سبب قد هيَّج ذلك اليمين: الرجوع إلى التعيين؛ لكونه أبلغ من دلالة الاسم على المسمى؛ لأن التعيين بالإشارة ينفي الإبهام والإلباس، فيقدَّم على الاسم والصفة والإضافة.

(5)

مسألة: إذا لم ينو الحالف شيئًا - كما سبق في مسألة (1) - ولم يوجد سبب اليمين الذي هيجها - كما سبق في مسألة (3) - وعُدم التعيين - كما سبق في مسألة (4) -: فإنه يُرجع إلى ما يتناوله الاسم الذي وقع الحلف عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الاسم يقتضي ذلك المسمَّى، ولا صارف عنه: أن يُرجع إلى ذلك المسمَّى.

(6)

مسألة: إذا كان مسمَّى ما وقع الحلف عليه لا يختلف مثل قوله: "والله لا أطأ الأرض" أو "لا أنظر إلى السماء" أو "لا أكلَّم الرَّجل": فإنه ينصرف اليمين إلى مسمَّاه دون تردد، فإن وطأ الأرض، أونظر إلى السماء، أو كلَّم الرَّجل: فإنه يحنث، وعليه كفارة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم اختلاف المسمَّى: ما ذكرناه.

تنبيه: إذا كان مسمَّى ما وقع الحلف عليه يختلف باختلاف كونه أحيانًا يأتي شرعيًا، ويأتي أحيانًا حقيقيًا، ويأتي أحيانًا عرفيًا: فله أحكام سيأتي بيانها فيما يلي من المسائل.

ص: 300

من الأسماء (ما له موضوع في الشرع، وموضوع في اللغة) كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، والبيع، والإجارة (فـ) الاسم (المطلق) في اليمين: سواء كانت على فعل، أو ترك (ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح)؛ لأن ذلك هو المتبادر أي: المفهوم عند الإطلاق إلا الحج، والعمرة، فيتناول الصحيح والفاسد؛ لوجوب المضي فيه كالصحيح (فإذا حلف: لا يبيع، أو لا ينكح، فعقد عقدًا فاسدًا) من بيع، أو نكاح:(لم يحنث)؛ لأن البيع والنكاح لا يتناول الفاسد

(7)

(وإن قيَّد) الحالف (يمينه بما يمنع الصحة) أي: بما لا تمكن الصحة معه (كأن حلف لا الخمر، أو الخنزير: حنث بصورة العقد)؛ لتعذّر حمل يمينه على عقد صحيح، وكذلك: إن قال: "إن طلّقت فلانة الأجنبية: فأنتِ طالق" طلقت بصورة طلاق الأجنبية

(8)

(و) الاسم

(7)

مسألة: إذا حلف شخص بأن لا يفعل شيئًا، أو ليفعلنَّه، وهذا الشيء له موضوع في الشرع، وموضوع في اللغة مثل: الوضوء، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، والعمرة، والبيع، والإجارة كأن يقول:"والله إني صليت" أو "والله إني قمتُ بالحج": فإنه يحمل على الموضوع الشرعي الصحيح، أي: نحمله على الصلاة والحج المعروفين في الشريعة إلّا الحج والعمرة فيُحمل على الصحيح والفاسد معًا، فلو حلف: لا يبيع" أو "لا ينكح": فعقد عقدًا فاسدًا من بيع، أو نكاح: فإنه لا يحنث؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الشرعي الصحيح هو المتبادر إلى الفهم عند إطلاق هذه الألفاظ: وجوب الحمل عليها، ويلزم من وجوب المضي في فاسد الحج والعمرة: حمل ذلك على صحيحهما وفاسدهما، ويلزم من كون البيع والنكاح لا يتناول الفاسد شرعًا: عدم الحنث فيما لو باع، أو نكح بعقد فاسد.

(8)

مسألة: إذا قيَّد الحالف يمينه بما لا تمكن الصحة معه كأن يحلف: "لا يبيع الخمر" أو "لا الخنزير" أو "لا يبيع الحر"، فإنه لو عقد، بيعًا في ذلك: فإنه يحنث بصورة ذلك العقد، وكذا لو قال لزوجته: "إن طلقت فلانة الأجنبية فأنتِ =

ص: 301

(الحقيقي هو: الذي لم يغلب مجازه على حقيقته كاللحم، فإذا حلف: "لا يأكل اللحم" فأكل شحمًا، أو مخًا، أو كبدًا، أو نحوه) ككلية، وكرش، وطحال، وقلب، ولحم رأس، ولسان (لم يحنث)؛ لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناول شيئًا من ذلك، إلا بنية اجتناب الدَّسم (ومن حلف لا يأكل أُدمًا: حنث بأكل البيض، والتمر، والملح، والخل، والزيتون ونحوه) كالجبن، واللبن (وكل ما يصطبغ به) عادة كالزيت، والعسل، والسمن، واللحم؛ لأن هذا معنى التأدم (و) إن حلف (لا يلبس شيئًا فلبس ثوبًا أو درعًا، أو جوشنًا) أو عمامة، أو قلنسوة (أو نعلًا: حنث)؛ لأنه ملبوس حقيقة وعرفًا (وإن حلف لا يُكلِّم إنسانًا: حنث بكلام كل إنسان)؛ لأنه نكرة في سياق النفي، فيعمّ، حتى ولو قال:"تنحَّ أو اسكت" أو "لا كلمت زيدًا" فكاتبه، أو راسله: حنث ما لم ينوِ مشافهته (و) إن حلف (لا يفعل شيئًا فوكَّل من فعله: حنث)؛ لأن الفعل يضاف إلى من فعل عنه قال تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} وإنما الحالق غيرهم (إلا أن ينوي مباشرته بنفسه) فتقدَّم نيته؛ لأن لفظه يحتمله

(9)

(و) الاسم

= طالق"، فطلقت الأجنبية: فإن زوجته تطلق بصورة طلاق الأجنبية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعذُّر يمينه على عقد صحيح، في الصورة الأولى وعلى طلاق واقع - في الصورة الثانية -: أن يتعيَّن كون صورة ذلك محلًا له.

(9)

مسألة: إذا حلف شخص بأن لا يفعل شيئًا، أو ليفعلنه، وهذا الشيء له اسم حقيقي، وله اسم مجازي ولم يغلب مجازه على حقيقته، ولم توجد قرينة تصرفه إلى المجاز: فإنه يُحمل على الاسم الحقيقي، ولهذا صور: أولها: "إذا حلف ليقطعن رأس أسد" فلا يحنث إذا ضرب شجاعًا، ويحنث إذا لم يضرب الأسد الحقيقي؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود بالأسد حقيقة إذا أطلق الحيوان المفترس، دون الرجل فيلزم: أن لا يتناول غيره، ثانيها: إذا حلف بأن لا يأكل اللحم" فإنه لا يحنث إذا أكل غيره كالشحم، والمخ، والكبد، والكلية، والكرش، والطحال، والقلب ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود، باللحم حقيقة إذا أطلق تلك الهبرة الحمراء =

ص: 302

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فيلزم من إطلاق ذلك: عدم تناول أي شيء غيره، ثالثها: إذا حلف: "لا يأكل دسمًا": فإنه يحنث إذا أكل جميع اللحوم، والشحوم ونحوها مما ذكر سابقًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تناول الدَّسم لتلك الأمور: حنثه إذا أكلها، رابعها: إذا حلف: "لا يأكل أدمًا": فإنه يحنث بأكل جميع ما يطلق عليه أُدم حقيقة كاللحم، والبيض، والتمر، والملح، والخل، والزيتون، والجبن، واللبن، والسمن، والعسل، والزيت، ونحو ذلك مما يصطبغ به ويغمس فيه الخبز؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون تلك الأشياء أُدم حقيقة: أن يحنث إذا أكل أحدها، خامسها: إذا حلف: "لا يلبس شيئًا": فإنه يحنث إذا لبس ثوبًا، أو درعًا، أو جوشنًا، أو عمامة، أو قلنسوة وطاقية، أو نعلًا، أو خفًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون تلك الأشياء ملبوسات حقيقة: أن يحنث إذا لبس أحدها، سادسها: إذا حلف بأن: "لا يكلم إنسانًا" فإنه يحنث إذا كلَّم كل إنسان حتى ولو بكلمة واحدة كقوله له: "اسكت"؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يعمّ الكلام لكل إنسان وهو حقيقة فيه؛ لأنه نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم، سابعها: إذا حلف بأن: "لا يُكلِّم زيدًا فكتب إليه كتابًا وأرسله إليه: فإنه يحنث بشرط عدم نيته ترك مشافهته، أما إن كان يقصد بيمينه ترك مشافهته: فإنه لا يحنث إذا كاتبه، أو راسله؛ للتلازم؛ حيث إن كلًّا من الكلام، والمكاتبة، والمراسلة يُطلق عليه كلامًا حقيقة، فيلزم أن يحنث إذا فعلها جميعًا، ويلزم عدم الحنث إذا كاتبه أو راسله إن نوى بيمينه ذلك ترك المشافهة فقط، فإن قلتَ: إن المراسلة والمكاتبة ليستا بتكليم فلا يحنث هنا بذلك وهوقول كثير من العلماء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون معنى الكلام هو: التكليم بالمشافهة عدم جعل الحنث بالمكاتبة والمراسلة قلتُ: هذا يخالف قوله عليه السلام: "ما بين دفتي المصحف كلام الله" فسماه كلامًا هنا مع أنَّه مكتوب، ثامنها: إذا حلف زيد: "لا يخيط ثوبًا" فوكَّل عمرًا يخيطه له فخاطه =

ص: 303

(العرفي: ما اشتهر مجازه فغلب) على (الحقيقة كالراوية) في العرف للمزادة، وفي الحقيقة: الجمل الذي يُستقى عليه (والغائط) في العرف للخارج المستقذر، وفي الحقيقة لفناء الدار وما اطمأنَّ من الأرض (ونحوهما) كالظعينة، والدابة، والعذرة (فتتعلَّق اليمين بالعرف) دون الحقيقة؛ لأن الحقيقة في نحو ما ذكر صارت كالمهجورة، ولا يعرفها أكثر الناس (فإذا حلف على وطء زوجته أو) حلف على (وطء دار: تعلَّقت يمينه بجماعها) أي: جماع من حلف على وطئها؛ لأن هذا هو المعنى الذي ينصرف إليه اللفظ في العرف (و) تعلَّقت يمينه (بدخول الدار) التي حلف لا يطؤها؛ لما ذكر

(10)

= له عمرو: فإن زيدًا يحنث بشرط: عدم نيته مباشرة الخياطة بنفسه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إضافة الفعل إلى من فعل عنه حقيقة: أن يحنث زيد هنا؛ لأنه هو الذي خاط حقيقة كمن حلف: "لا يحلق رأسه" فأمر من يحلقه له: فإن الحالق الحقيقي هو المحلوق رأسه، وقد ورد ذلك في الكتاب؛ حيث قال تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} فأضاف الحلق إليهم، مع أن غيرهم هم الذين حلقوا لهم، ويلزم من نيته مباشرة الخياطة بنفسه: أن يُحمل اليمين على ما نواه؛ لاحتماله.

(10)

مسألة: إذا حلف بأن لا يفعل شيئًا، أو ليفعلنَّه، وهذا الشيء له اسم حقيقي، وله اسم مجازي عرفي، أي: تعارف أكثر الناس عليه، وغلب هذا على الاسم الحقيقي مثل:"الراوية" هى في الحقيقة تطلق على الجمل الذي يستقى عليه الماء، ولكن أطلق في العرف المجازي على المزادة - التي هي شكل الراوية -، وكذا:"الغائط" هو في الحقيقة: المكان المطمئن والمنخفض من الأرض، وأطلق في العرف المجازي المشهور على تلك القاذورات التي تخرج من الإنسان، وكذا:"الظعينة" هي في الحقيقة: الناقة التي يُطعن عليها، وأطلق في العرف المجازي المشهور على المرأة ما دامت في هودجها وكذا:"الوطء" يطلق في الحقيقة على وطء الأرض بالأقدام، وأطلق في العرف المجازي المشهور على "جماع الزوجة": فهذا كله تتعلَّق اليمين بالاسم العرفي المشهور، دون الحقيقي، فمثلًا: لو قال: =

ص: 304

(وإن حلف لا يأكل شيئًا، فأكله مستهلكًا في غيره كمن حلف: لا يأكل سمنًا، فأكل خبيصًا فيه سمن لا يظهر فيه طعمه): لم يحنث (أو) حلف (لا يأكل بيضًا، فأكل ناطفًا: لم يحنث)؛ لأن ما أكله لا يُسمَّى سمنًا، ولا بيضًا (وإن ظهر طعم شيء من المحلوف عليه) فيما أكله:(حنث)؛ لأكله المحلوف عليه

(11)

.

(فصل): (وإن حلف: لا يفعل شيئًا ككلام زيد، ودخول دار ونحوه، ففعله مكرهًا: لم يحنث)؛ لأن فعل المكره غير منسوب إليه

(12)

(وإن حلف على نفسه، أو

"والله لا أطأ زوجتي": فإنه يحنث إذا جامعها، ولا يحنث إذا وطأها بقدمه، ولو قال:"والله لا أطأ بيتك" يحنث إذا وطأ ذلك البيت بقدمه، ولو قال:"والله لا أذهب إلى الغائط الآن": فإنه يحنث إذا ذهب إلى الحمام ليقضي حاجته بإخراج البراز، ولا يحنث إذا ذهب إلى أي مكان منخفض من الأرض، وهكذا؛ للتلازم؛ حيث إن اشتهار ذلك المجاز، ونسيان الحقيقة حتى أنها صارت كالمهجورة لا يعرفها أكثر الناس يلزم منه: العمل على ما تعارف عليه هؤلاء الناس؛ لأنه لا يقصد الحالف غيره في الظاهر، فصار كالمصرَّح به.

(11)

مسألة: إذا حلف زيد: "لا يأكل سمنًا" فأكل أكلًا قد خلط فيه بعض السمن، وظهر طعم ذلك السمن أثناء أكل زيد لهذا المخلوط مع السمن: فإنه يحنث، أما إن لم يظهر طعم السمن: فلا يحنث؛ للتلازم؛ حيث إنه إذا لم يظهر طعم الشيء المحلوف عليه يلزم منه: عدم الحنث؛ لأن وجود ما لم يظهر طعمه كعدمه، ويلزم من ظهور طعم الشيء المحلوف عليه: حنثه بأكله؛ نظرًا لأكله المحلوف عليه، كما لو أكله منفردًا.

(12)

مسألة: إذا حلف عمرو: "لا يُكلِّم زيدًا" و"لا يدخل داره" فأكره على تكليم زيد، ودخول داره: فإنه لا يحنث إذا كلَّمه، أو دخل الدار؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فعفى الشارع عن المكره مطلقًا؛ لكونه معذورًا في هذا الإكراه - وقد سبق هذا مرارًا -.

ص: 305

غيره ممّن) يمتنع بيمينه و (يقصد منعه كالزوجة، والولد: أن لا يفعل شيئًا ففعله ناسيًا، أو جاهلًا: حنث في الطلاق، والعتاق) - بفتح العين - (فقط) أي: دون اليمين بالله تعالى، والنذر، والظهار؛ لأن الطلاق، والعتاق حق لآدمي فلم يُعذر فيه بالنسيان والجهل كإتلاف المال، والجناية، بخلاف اليمين بالله تعالى، فإنها حق الله تعالى، وقد رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان

(13)

(و) إن حلف (على من لا يمتنع بيمينه من سلطان وغيره) كالأجنبي: لا يفعل شيئًا (ففعله: حنث) الحالف (مطلقًا): سواء فعله المحلوف عليه عامدًا، أو ناسيًا، عالمًا، أو جاهلًا

(14)

(وإن فعل هو) أي:

(13)

مسألة: إذا حلف زيد على نفسه، أو حلف على غيره - ممّن يمتنع بيمينه - قاصدًا منعه كزوجته وولده قائلًا:"والله لا أفعل شيئًا" أو قائلًا لولده: "والله لا تفعلنَّ كذا": ففعل زيد، أو ولده ناسيًا أنه المحلوف عليه، أو جاهلًا لذلك: فلا يحنث بذلك الفعل مطلقًا ويمينه باقية؛ سواء كان في اليمين، أو الطلاق، أو العتاق، أو النذر، أو الظهار؛ للسنة القولية: وهو الحديث المذكور في مسألة (12)، وهو عام لكل خطأ، ونسيان، وجهل؛ لأن "الخطأ" و"النسيان" مفرد محلَّى بأل، وهو من صيغ العموم، فإن قلت: إن كان ذلك في العتاق والطلاق: فإنه يحنث؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو أتلف مالًا نسيانًا، أو جهلًا: فتجب عليه قيمة المتلف، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما حق لآدمي فلا يسقط بالنسيان والجهل قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن وجوب قيمة المتلف ثبت عن طريق الحكم الوضعي من باب: "إذا وجد السبب فإنه يوجد الحكم" بخلاف ما نحن فيه فلا إتلاف فيه فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع السنة القولية".

(14)

مسألة: إذا حلف زيد على عمرو، وهو من لا يمتنع بيمينه: أو أي أجنبي عنه من سلطان وغيره قائلًا له: "والله لا تشتري هذه السيارة" فاشتراها عمرو: فإن زيدًا يحنث، وتجب عليه الكفارة، وهذا مطلق، أي: سواء اشترى عمرو تلك السيارة =

ص: 306

الحالف: "لا يفعل شيئًا" أو من لا يمتنع بيمينه: من سلطان، أو أجنبي (أو غيره) أي: غير من ذكر (ممّن قصد منعه) كزوجة، وولد (بعض ما حلف على كله) كما لو حلف:"لا يأكل هذا الرغيف" فأكل بعضه: (لم يحنث)؛ لعدم وجود المحلوف عليه (ما لم تكن له نية) أو قرينة، كما لو حلف:"لا يشرب ماء هذا النهر" فشرب منه: فإنه يحنث

(15)

.

المحلوف عليها عامدًا، أو ناسيًا، أو غافلًا، أو عالمًا، أو جاهلًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إمكان فعل المحلوف عليه: حنث الحالف العالم بذلك.

(15)

مسألة: إذا حلف زيد: "لا يأكل هذا الرغيف"، أو حلف على من لا يمتنع بيمينه - كزوجته وولده - بذلك، فأكل هو، أو من حلف عليه: بعض ذلك الرغيف: فإنه لا يحنث بشرط: عدم وجود قرينة تدل على عدم قدرته على فعل كل ما حلف عليه: فهذا يحنث إذا فعل البعض فمثلًا: لو حلف: "لا يشرب ماء هذا النهر" فشرب منه: فإنه يحنث؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود المحلوف عليه - وهو كل الرغيف -: عدم الحنث بأكل بعضه، ويلزم من وجود قرينة دالّة على عدم القدرة على فعل كل ما حلف عليه: حنثه إذا فعل بعضه.

هذه آخر مسائل باب: "الأيمان المحلوف بها" ويليه باب "النذر".

ص: 307

‌باب النذر

لغة الإيجاب، يقال:"نذر دم فلان" أي: أوجب قتله، وشرعًا: إلزام مكلَّف مختار نفسه لله تعالى شيئًا غير محال بكل قول يدل عليه

(1)

و (لا يصح) النذر (إلّا من بالغ عاقل) مختار؛ لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة .. "(ولو) كان (كافرًا) نذر عبادة؛ لحديث عمر: إني نذرت في الجاهلية: أن أعتكف ليلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"

(2)

(والصحيح منه) أي: من النذر (خمسة أقسام): أحدها: النذر (المطلق

‌باب النذر

وفيه سبع عشرة مسألة:

(1)

مسألة: النذر لغة: الإيجاب، ومنه قول الشخص:"نذرت دم فلان" يقصد: أوجبت قتله، وهو في الاصطلاح الشرعي: أن يُلزم المكلف المختار نفسه فعل شيء، أو تركه لله تعالى غير مستحيل بكل قول يدل عليه.

[فرع]: يُكره النذر؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل" فهذا يلزم منه: كراهته.

(2)

مسألة: يصح النذر إذا صدر قولًا من البالغ العاقل المختار: سواء كان مسلمًا، أو كافرًا، فلو صدر من صغير، أو مجنون، أو سفيه، أو مكره، أو صدر بغير قول: فلا يصح، ولا يُعتبر؛ للسنة القولية: وهي من وجوه: أولها: قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ" فلا اعتبار لنذر صبي، ولا مجنون، ولا سفيه؛ لرفع التكاليف الشرعية عنهم، فلا يلزمون بما نذروه ثانيها: قوله عليه السلام: "عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه" فالمُكره على نذر شيء لا يلزم به؛ لأنه معذور بالإكراه، ثالثها: قال عمر: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة فقال له النبي عليه السلام: "أوف بنذرك" فأوجب عليه أن يوفي بنذره مع أنه فعله في =

ص: 308

مثل: أن يقول: لله عليّ نذر، ولم يسم شيئًا، فيلزمه كفارة يمين)؛ لما روى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر إذا لم يسمَّ كفارة يمين" رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب

(3)

(الثاني: نذر اللجاج، والغضب، وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه) أي: من الشرط المعلَّق عليه (أو الحمل عليه، أو التصديق، أو التكذيب) كقوله: إن كلمتك، أو إن لم أضربك، أو إن لم يكن هذا الخبر صدقًا أو كذبًا: فعلي الحج، أو العتق ونحوه:(فيخيَّر بين فعله، وكفارة يمين)؛ لحديث عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين" رواه سعيد في سننه

(4)

، (الثالث: نذر المباح، كلبس ثوبه،

حالة كفره، فلزم صحة النذر في الكفر؛ فإن قلتَ: لِم اشترط القول هنا؟ قلتُ: لأن النذر التزام، فلم ينعقد بغير قول.

[فرع]: يصح النذر من الأخرس المكلف المختار بأي إشارة مفهومة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المتكلم يصح نذره بقوله، فكذلك الأخرس يصح نذره بإشارته المفهومة والجامع: فهم المراد في كل.

(3)

مسألة: في الأول - من أقسام النذر الصحيح - وهو: النذر المطلق، وهو: أن يقول: "علي لله نذر" ولا يسمي شيئًا منذورًا معينًا: فهذا تلزمه كفارة يمين - كما سبق بيانها -؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "كفارة النذر إذا لم يُسمَّ كفارة يمين" وهو واضح الدلالة.

(4)

مسألة: في الثاني - من أقسام النذر الصحيح - وهو: نذر اللجاج، والغضب، وهو: أن يُعلِّق نذره بشرط يقصد المنع منه، أو يقصد الحمل عليه، أو التصديق به، أو التكذيب به كأن يقول:"إن كلَّمتك فعلي حجّة" أو يقول: "إن لم يكن هذا الخبر صدقًا، فعبدي حر": فإنه يخيّر بين فعل ذلك المعلق عليه بأن يكلمه وبين أن يُكفِّر بكفارة يمين؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين" فبيَّن أنه يجوز التكفير إذا وجد الشرط.

ص: 309

وركوب دابته) فإن نذر ذلك: (فحكمه كـ) القسم (الثاني) يُخيَّر بين فعله، وكفارة يمين

(5)

(وإن نذر مكروهًا: من طلاق، أو غيره: استحبّ له أن يكفر) كفارة يمين (ولا يفعله)؛ لأن ترك المكروه أولى من فعله، وإن فعله: فلا كفارة

(6)

(الرابع: نذر المعصية كـ) نذر (شرب الخمر و) نذر (صوم يوم الحيض و) يوم (النحر) وأيام التشريق (فلا يجوز الوفاء به)؛ لقوله عليه السلام: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه"(ويكفر) من لم يفعله، روي هذا عن ابن مسعود، وابن عباس، وعمران بن حصين، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم

(7)

، ويقضي من نذر صومًا من ذلك غير يوم

(5)

مسألة: في الثالث - من أقسام النذر الصحيح - وهو: نذر المباح، وهو: أن يقول - مثلًا -: "نذرتُ أن ألبس ثوبًا" أو "أركب دابة": فهذا يخيّر بين فعله، وأن يُكفِّر كفارة يمين إذا لم يلبس ثوبًا، أو لم يركب دابة؛ قياسًا على القسم الثاني؛ لعدم الفارق، وقد سبق.

(6)

مسألة: إذا نذر شخص شيئًا مكروهًا كأن يقول: "إن دخلتُ هذه الدار فعلي لله أن أطلق زوجتي": فيستحب له أن يكفر عن ذلك بكفارة يمين، ولا يفعل ذلك وإن فعله: فلا كفارة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ترك المكروه أولى من فعله: أن يكفر، ويترك فعله.

(7)

مسألة: في الرابع - من أقسام النذر الصحيح - وهو: نذر المعصية كأن يقول: "عليّ لله شرب الخمر" أو "علي لله صوم يوم النحر" أو تقول "علي لله صوم يوم الحيض": فهذا لا ينعقد نذره، ولا يلزمه كفارة وهو قول الجمهور؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" فنهي عن الوفاء بنذر المعصية، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، والفساد، أي: لا يترتب عليه آثاره، فإن قلتَ: إن عليه كفارة إذا لم يفعله وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقول الصحابي؛ حيث روي ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، وعمران بن الحصين، وسمرة بن جندب قلتُ: هذا لا يحتج به؛ لمعارضته السنة القولية؛ فإن قلتَ: ما =

ص: 310

الحيض (الخامس: نذر التبرُّر مطلقًا) أي: غير معلَّق (أو معلَّقًا كفعل الصلاة، والصيام، والحج، ونحوه) كالعمرة، والصدقة، وعيادة المريض، فمثال المطلق: لله عليَّ أن أصوم، أو أصلي، ومثال المعلَّق (كقوله: إن شفى الله مريضي، أو سلم مالي الغائب: فلله عليّ كذا) من صلاة، أو صوم ونحوه (فوجد الشرط: لزمه الوفاء به) أي: بنذره؛ لحديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" رواه البخاري

(8)

(إلّا إذا نذر الصدقة بماله كله) من يسنُّ له، فيجزئه قدر ثلثه، ولا كفارة؛ لقوله عليه السلام لأبي لبابة - لمّا نذر أن ينخلع من ماله صدقة لله تعالى:"يُجزئ عنك الثلث" رواه أحمد

(9)

سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض قول الصحابي مع السنة" تنبيه: بيَّن المصنف أنه إذا نذر صوم يوم محرم عليه صومه: فلا يصومه، ولكن يقضي صومًا مكانه، إلا إذا نذرت المرأة صوم يوم حيضها: فلا تقضيه، وهذا بناء على مذهبه أن النذر منعقد، وبيَّنا: أنه لا ينعقد نذره، تنبيه آخر: قوله: "وأيام التشريق" هذا ورد بناء على مذهبه من أنه يحرم صيام أيام التشريق، وهذا مرجوح كما سبق بيان ذلك في كتاب الصيام.

(8)

مسألة: في الخامس - من أقسام النذر الصحيح - وهو: نذر التبرُّر والتقرب إلى الله تعالى: سواء كان مطلقًا كقوله: "لله عليّ أن أصلي" أو كان معلَّقًا بشيء كقوله: "إن شفي مريضي فلله علي أن أتصدق" فهذا يجب عليه أن يفي بما نذره إذا كان مطلقًا بما يصدق عليه اسم الصلاة - وهو ركعتان -، وإن وجد الشرط في المعلَّق: فعليه أن يفي بما نذره فيتصدَّق بما يُسمَّى صدقة، وهكذا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" فأوجب الله الوفاء بالنذر إذا كان في طاعة الله تعالى؛ لأن الأمر هنا مطلق، فيقتضي الوجوب.

(9)

مسألة: إذا نذر شخص أن يتصدَّق بماله كله: فيجزئه أن يتصدَّق بثلث ماله، ولا كفارة عليه؛ للسنة القولية: حيث إن أبا لبابة قد نذر أن يتصدَّق بماله كله لله =

ص: 311

(أو) نذر الصدقة (بمسمى منه) أي: ماله كألف (يزيد) ما سمَّاه (على ثلث الكل: فإنه يجزئه) أن يتصدَّق (بقدر الثلث) ولا كفارة عليه، جزم به في "الوجيز" وغيره، والمذهب: أنه يلزمه الصدقة بما سمَّاه، ولو زاد على الثلث كما في "الإنصاف" وقطع به في "المنتهى" وغيره

(10)

(وفيما عداها) أي: عدا المسألة المذكورة بأن نذر الثلث فما دونه: (يلزمه) الصدقة بـ (المسمَّى)؛ لعموم ما سبق من حديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"(ومن نذر صوم شهر) معيَّن كرجب، أو مطلق:(لزمه التتابع)؛ لأن إطلاق الشهر يقتضي التتابع: سواء صام شهرًا بالهلال، أو ثلاثين يومًا بالعدد (وإن نذر أيامًا معدودة) كعشرة أيام، أو ثلاثين يومًا:(لم يلزمه التتابع)؛ لأن الأيام لا دلالة لها على التتابع (إلا بشرط): بأن يقول: "متتابعة"(أو نية) التتابع

(11)

، ومن نذر

تعالى فبيَّن له النبي عليه السلام: أنه يجزئه أن يتصدَّق بثلثه، ولم يذكر كفارة، فيلزم منه: عدم مشروعية الكفارة هنا.

(10)

مسألة: إذا نذر شخص أن يتصدَّق بألف دينار: فيجب عليه أن يتصدَّق به، ولو زاد على ثلث ماله بشرط: أن لا يكون ذلك الألف كل ماله؛ للتلازم؛ حيث يلزم من التزامه بهذا المبلغ بعينه: أن يوفي به، فإن قلت: إذا كان هذا الألف أكثر من ثلث ماله كله فلا يتصدَّق إلا بما يُعادل ذلك الثلث، أما إن كان الألف ثلث فأقل: فيوفي به، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو نذر أن يتصدَّق بكل ماله: فيجزئه الثلث - كما سبق في مسألة (9) - فكذلك الحال هنا، والجامع: عدم الزيادة على الثلث، قلتُ: إن هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه في مسألة (9) قد نذر كل ماله، وهذا نذر بما سماه منه، ومع الفرق: فلا قياس، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياس مع التلازم" تنبيه: قوله: "وفيما عداها .. " هذا هو المقصود في مسألة (8) وقد سبقت.

(11)

مسألة: إذا نذر شخص صوم شهر معين كأن يقول: "علي صوم شهر رجب"، =

ص: 312

صوم الدهر: لزمه، فإن أفطر: كفَّر فقط بغير صوم، ولا يدخل فيه رمضان، ولا يوم نهي، ويقضي فطره برمضان، ويصام لظهار ونحوه منه، ويُكفِّر مع صوم ظهار، ونحوه

(12)

، ومن نذر صوم يوم الخميس ونحوه، فوافق عيدًا، أو أيام تشريق: أفطر،

أو شهر غير معين كأن يقول: "علي صوم شهر"، أو نذر صوم أيام معدودة كأن يقول:"عليّ صوم عشرة أيام": فيجب عليه أن يوفي بنذره، ويصوم عدد أيام الشهر، أو عدد الأيام المعدودة، ولا يجب عليه التتابع في تلك الصور الثلاث، بل يصوم عدد ما نذره: سواء صام شهرًا بالهلال، أو صام ثلاثين يومًا بالعدد، فإن أفطر في يوم من أيام الشهر: قضاه في يوم آخر من غير ذلك الشهر بشرط: أن لا يقول عند نذره: "متتابعة" أو ينوي التتابع، فإن قال أو نوى ذلك: وجب عليه التتابع؛ للتلازم؛ حيث إن صحة إطلاق الشهر على ما بين الهلالين، وإطلاقه على ثلاثين يومًا، وأنه يجزئه لو صام ثلاثين يومًا بالاتفاق: يلزم منه: عدم وجوب التتابع فيما لو نذر أن يصوم شهرًا معينًا، أو شهرًا مطلقًا ويلزم من نذره صوم أيام فقط: عدم وجوب التتابع؛ لأنه لا دلالة للأيام على التتابع، ويلزم من اشتراطه للتتابع في ذلك، أو نيته لذلك: وجوب التتابع عليه؛ عملًا بذلك الشرط والنية، فإن قلت: صوم شهر معين أو شهرًا مطلقًا: يجب عليه التتابع، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إن إطلاق الشهر يلزم منه التتابع قلتُ: لا يُسلَّم أنه يقتضيه؛ لأن الشهر يُطلق على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يومًا، وإذا نذر ثلاثين يومًا فلا يلزمه التتابع فكذلك إذا نذر صوم شهر فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".

(12)

مسألة: إذا نذر أن يصوم عامًا كاملًا: فيجب عليه أن يصومه، فإن أفطر يومًا: فإنه يُكفِّر كفارة يمين، ولا يقضيه بصوم، ولا يحسب من العام شهر رمضان بل يصومه فرضًا، ولا يوم من الأيام المنهي عن الصيام فيها كيوم العيدين، أو يوم حيض، ولا كفارة ولا قضاء، وإن ظاهر من زوجته، أو جامع زوجته في نهار =

ص: 313

وقضى، وكفَّر

(13)

وإن نذر صلاة، وأطلق: فأقله ركعتان قائمًا لقادر

(14)

، وإن نذر صومًا وأطلق، أو صوم بعض يوم: لزمه يوم بنية من الليل

(15)

، ولمن نذر صلاة جالسًا: أن يصليها قائمًا

(16)

، .........................

رمضان أو قتل في ذلك العام المنذور صومه: فإنه يصوم لذلك من ذلك العام المنذور صومه، ويكفِّر كفارة يمين عمّا فاته من ذلك العام، ولا يقضيه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نذره ذلك: تلك الأحكام السابقة الذكر؛ لأنه ألزم نفسه بشيء قادر على فعله، ويلزم من إفطاره يومًا من العام المنذور صومه: أن يكفر، دون أن يقضيه، ويلزم من وجوب صوم رمضان، وصوم كفارة الظهار، والمجامعة في نهار رمضان بأصل الشرع: أن يقدم على صوم النذر؛ لأنه أوجبه هو على نفسه، ويلزم من كون أيام النهي لا تقبل صوم النذر: عدم الكفارة وفطرها والقضاء؛ لأن نذر صومها لا ينعقد فيها أصلًا.

(13)

مسألة: إذا نذر شخص أن يصوم يوم الخميس: فوافق أن كان يوم الخميس يوم عيد: فإنه يفطر، ويقضي نذره في يوم آخر، ويُكفِّر بكفارة يمين؛ للتلازم؛ حيث إن تحريم صوم يوم العيد، وانعقاد نذره، وعدم فعل ما نذره: أن يفطر في ذلك اليوم، ويقضي يومًا مكانه، ويكفِّر كفارة يمين؛ لفوات محلِّه.

(14)

مسألة: إذا نذر صلاة وأطلق: فيجب عليه أن يصلي ركعتين وهو قائم إن كان قادرًا عليه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الركعتين أقل صلاة: وجوب ذلك؛ لأنه أقل ما يطلق عليه الاسم.

(15)

مسألة: إذا نذر شخص أن يصوم، وأطلق، أو نذر أن يصوم بعض يوم: فيجب عليه أن يصوم يومًا كاملًا، وينوي لذلك من الليل؛ للتلازم؛ حيث إن أقل ما يطلق عليه صوم هو صوم يوم كامل فيلزم وجوبه.

(16)

مسألة: إذا نذر شخص أن يصلي جالسًا: يستحب أن يصلي ركعتين قائمًا؛ للتلازم؛ حيث إن الصلاة قائمًا أفضل: فلزم استحبابه.

ص: 314

وإن نذر رقبة: فأقل مجزئ في كفارة

(17)

.

(17)

مسألة: إذا نذر شخص أن يعتق رقبة - عبدًا أو أمة -: فإنه يجزئه أن يُعتق أقل ما يجزي في كفارة ظهار، أو قتل ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يجزئ فيما ثبت بأصل الشرع فيلزم إجزاؤه.

هذه آخر مسائل باب: "النذر" وهو آخر كتاب: "الأيمان والنذور" ويليه كتاب: "القضاء".

ص: 315

‌كتاب القضاء

لغة: إحكام الشيء، والفراغ منه، ومنه:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} ، واصطلاحًا: تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الحكومات

(1)

(وهو فرض كفاية)؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه

(2)

(ويلزم الإمام أن ينصب في كل إقليم)

‌كتاب القضاء، والفتيا

‌بيان حقيقتهما، وحكمهما، وواجب الإمام في اختيار القاضي، ووصيته له، وألفاظ توليته، وعمل القاضي، وحكم طلبه للرزق، وشروط وصفات القاضي

وفيه خمس وعشرون مسألة:

(1)

مسألة: القضاء لغة: الحكم، والفصل، ويطلق على الأحكام، والفراغ، ومنه قوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي: أحكمها، وفرغ منها، وهو في الاصطلاح: إظهار الحكم الشرعي للخصمين وإلزامهما به، والفتيا اصطلاحًا: إظهار الحكم الشرعي للسائل عنه، دون الإلزام به ومن يتولى القضاء يُسمَّى قاضيًا، وحاكمًا، فإن قلت: لِمَ سُمِّي بذلك؟ قلتُ: لأن القاضي يمضي الأحكام ويوجب العمل بها على كل من الخصمين.

(2)

مسألة: القضاء والفتيا فرض كفاية، فلا بدّ للناس من قاض وحاكم ليحكم بينهم بالعدل؛ لئلا تؤكل حقوق الناس بالباطل؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} الثانية: السنة القولية والفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد تولى القضاء، وكذلك الأنبياء الذين قبله، وبعث عليه السلام عليًا، ومعاذًا قاضيين إلى اليمن، وقال عقبة بن عامر: جاء النبي عليه السلام خصمان يختصمان إليه فقال: "اقضِ بينهما" قلت: =

ص: 316

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أنت أولى بذلك قال: "وإن كان" قلتُ: علام أقضي؟ قال: "اقض فإن أصبت فلك عشرة أجور، وإن أخطأت فلك أجر واحد" وهذا إشارة إلى أهمية القضاء بين الخصوم و"أمر عليه السلام بأن لا يسافر اثنان إلا ويجعلان أحدهما أميرًا" وهذا تنبيه على أنه لا بد للأمر من رأس يقضي ويفصل؛ لئلا تحصل فتنة؛ الثالثة: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن الخلفاء الراشدين قد تولّوا القضاء، وبعثوا القضاة في الأطراف ليقضوا بين الناس الرابعة: الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على وجوب نصب القضاة الذين يحكمون بين الناس، فإن قلتَ: لِمَ وجب نصب القضاة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن أمر الناس، وحياتهم لا يمكن أن تستقيم بدونهم، إذ في القضاء أمر بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وإيصال الحق إلى مستحقه، ورد الظالم عن ظلمه، وإصلاح بين الناس، وتخليص بعضهم من بعض، وإثبات شرع الله في أرضه وعلى خلقه، وتأمين الناس في دورهم، وأسواقهم، وهذا من أعظم القرب إلى الله تعالى ولذلك وجب على من بلغ درجة الاجتهاد في الشريعة، وقوي عليه أن يتولاه، وله أجران في كل قضية أصاب فيها، وله أجر واحد إذا أخطأ فيها؛ حيث قال عليه السلام:"إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر" أما إذا لم يبلغ درجة الاجتهاد في الشريعة، أو كان بالغًا لدرجة الاجتهاد ولكن غلب على ظنه أنه لا يؤدي الحق في القضاء: فيحرّم عليه أن يتولَّاه؛ للمصلحة: حيث يلزم من عدم بلوغه درجة الاجتهاد أو عدم أدائه للحق فيه: أن لا يؤدي الحقوق إلى أهلها ويكون الحكم بالتشهي، والتلذذ ويكون الجهال هم الحكّام، ويُبعد العلماء المحققون فينتشر الفساد والظلم، ولا يأمن أحد على نفسه، ولا على أمواله، ولا على أي شيء كان، فيكسل الناس عن العمل: فلا يعملون بتجارة، ولا زراعة ولا غيرها وفي هذا هدم للإسلام والمسلمين، وقد وقع بعض من ذلك.

ص: 317

- بكسر الهمزة - (قاضيًا)؛ لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر الخصومات في جميع البلدان بنفسه، فوجب أن يرتّب في كل إقليم من يتولّى فصل الخصومات بينهم؛ لئلا تضيع الحقوق

(3)

(ويختار) لنصب القضاء (أفضل من يجد علمًا وورعًا)؛ لأن الإمام ناظر للمسلمين فيجب عليه اختيار الأصلح لهم

(4)

(ويأمره بتقوى الله)؛ لأن التقوى رأس الدِّين (و) يأمره بـ (أن يتحرَّى العدل) أي: إعطاء الحق لمستحقه من غير ميل

(5)

(3)

مسألة: يجب على الإمام الأعظم أن يُعيِّن في كل بلد قاضيًا؛ للمصلحة: حيث إن الإمام نفسه لا يمكنه أن يباشر الخصومات بين الناس في جميع البلدان؛ فجلبًا للمصلحة، ودفعًا للمفسدة من حفظ حقوق الناس: وجب أن يُعيِّن في كل بلد قاضيًا يقوم بذلك عنه.

(4)

مسألة: يجب على الإمام الأعظم أن يختار لمنصب القضاء أفضل شخصٍ: علمًا، وورعًا، وتقوى، وهذا يثبت بعدَّة اختبارات يقوم بها الإمام بنفسه لذلك الشخص: فيسأله عن عدَّة أمور في الدين والدنيا، فإذا ثبت عنده العلم والورع: فإنه يعينه للقضاء، وإن لم يتمكّن الإمام من فعل ذلك: فإنه يوكِّل من يثق به أن يعقد لذلك الشخص الذي يُراد للقضاء عدَّة جلسات؛ لاختباره لمعرفة علمه وورعه؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابة؛ حيث كان الخلفاء الراشدون لا يولُّون أحدًا القضاء أو أي عمل إلّا بعد عدة اختبارات وامتحانات لهم في الأمور الشرعية والدنيوية الثانية: المصلحة؛ حيث إن الإمام الأعظم ناظر للمسلمين عامة، فيجب عليه اختيار الأصلح علمًا وورعًا لهم، وإذا اختار غير الأصلح وهو يعلم ذلك: فقد غشَّ المسلمين فيه، فيقع عليه إثم عظيم ويدخل في عموم قوله عليه السلام:"من غشَّنا فليس منَّا".

(5)

مسألة: يجب على الإمام الأعظم إذا ولَّى شخصًا القضاء أن يوصيه بشيئين مهمين:

أولهما: أن يأمره بتقوى الله تعالى، فيفعل كل ما أمر الشارع به، ويترك كل ما نهى الشارع عنه، ثانيهما: أن يأمره بأن يتحرَّى ويجتهد لإقامة العدل بين المتخاصمين، =

ص: 318

(ويجتهد القاضي في إقامته) أي: إقامة العدل بين الأخصام

(6)

، ويجب على من يصلح، ولم يوجد غيره ممّن يوثق به أن يدخل فيه إن لم يشغله عمّا هو أهمّ منه

(7)

،

وإعطاء كل ذي حق حقه من غير ميل لأحد الخصمين؛ للمصلحة: حيث إن ذلك إعانة للقاضي في إقامة الحق، وتقوية لقلبه، وبيان من الإمام الأعظم على الاعتناء بأمر الشرع، والاهتمام بأهله.

(6)

مسألة: يجب على القاضي أن يبذل قصارى اجتهاده في إقامة العدل بين الخصوم، وعدم الميل إلى أحدهما، وهذا يحصل بالتفكير بأدلة الخصمين تفكيرًا دقيقًا، وعدم الاستعجال بإظهار الحكم؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" فحرَّم الشارع أن يقضي القاضي بين الخصمين وهو في حالة لا يمكنه التركيز بأدلة الخصمين بسبب الغضب، أو كل ما يشغله عن ذلك كشدة جوعه، أو عطشه، أو ألمه، أو شدة برد، أو حر، أو كونه حاقنًا أو نحو ذلك؛ لأن النهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، وترك الحرام واجب، ولأن العلَّة في الحديث:"انشغال الفكر المانع من التفكير السليم" وهي متعدية، وهذا فيه إيماء إلى وجوب بذل قصارى جهده في أدلة الخصمين الموصل إلى العدل، الثانية: المصلحة؛ حيث إن عدم اجتهاد القاضي لإقامة العدل فيه الحكم بغير حكم الله تعالى، وعدم الإنصاف، مما يؤدِّي إلى الفتنة، ونصر الظلم، وخذل الحق، فدفعًا لذلك: شرع ما قلناه.

(7)

مسألة: إذا كان زيد يصلح للقضاء: علمًا، وورعًا: فيجب عليه أن يتولَّاه بشرطين: أولهما: أن لا يوجد غيره ممّن هو أعلم منه وأورع ممّن يوثق به، ثانيهما: أن لا يُشغله تولِّي القضاء عمّا هو أهمّ منه كأن يشغله عن أمر دينه، فإن وجد من هو أعلم منه، وأورع، أو كان القضاء يشغله عمّا هو أهم منه في الدِّين: فلا يجوز لزيد أن يتولّاه، ولا يجوز طلبه؛ للمصلحة: حيث إن عدم وجود غيره يقوم بالقضاء: يجعله يتعيَّن عليه؛ حفظًا لحقوق الناس من أن يستولي عليها الظلمة، وإذا وجد غيره أفضل =

ص: 319

ويحرم بذل مال فيه، وأخذه

(8)

، وطلبه وفيه مباشر أهل

(9)

(فيقول) المولى لمن يولِّيه: (ولَّيتك الحكم، أو قلَّدتك الحكم ونحوه) كفوّضت، أو رددت، أو جعلت إليك الحكم، أو استنبتك، أو استخلفتك في الحكم، والكناية نحو: اعتمدتُ أو عوَّلتُ عليك، لا ينعقد بها إلا بقرينة نحو: فاحكم (ويكاتبه) بالولاية (في البعد) أي: إذا كان غائبًا، فيكتب له الإمام عهدًا بما ولّاه

(10)

، ......................

منه، أو إذا تولّاه زيد سيشغله عمّا هو أهمّ منه يلزم منه ترك الفاضل، وفعل المفضول، وهذا لا يجوز؛ لما فيه من إلحاق الضرر إلى الناس.

(8)

مسألة: يحرم على الشخص: أن يبذل مالًا للإمام الأعظم، أو يجعل أحدًا يُكلِّم الإمام الأعظم لأجل أن يوليه القضاء: ولو كان ذلك الشخص عالمًا ويحرم على الإمام أن يأخذ ذلك المال؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك من أكل المال بالباطل فيلزم عدم جوازه.

(9)

مسألة: يحرم على الشخص أن يطلب من الإمام الأعظم أن يولِّيه القضاء، في حين وجود قاضٍ صالح له، ولو كان ذلك الطالب للقضاء أهلًا للقضاء: علمًا، وورعًا، ويُكره للإمام أن يولِّي ذلك الطالب للقضاء؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه نزع حق من صاحبه، وهذا ظلم ظاهر، وهو محرم، فيجب تركه.

(10)

مسألة: الألفاظ لتولية القضاء قسمان: أولهما: الألفاظ الصريحة، كأن يقول الإمام:"ولَّيتك الحكم" أو "قلَّدتك الحكم" أو "فوَّضت إليك الحكم" أو "رددت إليك الحكم" أو "جعلت إليك الحكم" أو "استنبتك في الحكم" أو "استخلفتك في الحكم"، فإذا وُجد المولَّى في مجلس الإمام، وقبل، أو كان غائبًا فكاتبه بهذه الألفاظ ووضع خاتمه على الكتابة وقبل: فإن ولاية القضاء تنعقد له شرعًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون تلك الألفاظ لا تحتمل عدم التولية: أن تكون صريحة لا تحتاج إلى قرينة، ثانيهما: الألفاظ غير الصريحة - وهي: الكناية - كأن يقول الإمام: "اعتمدت عليك" أو "عوَّلتُ عليك" أو "وكَّلت إليك الأمر" أو: =

ص: 320

ويُشهد عدلين عليها

(11)

(وتفيد ولاية الحكم العامة: الفصل بين الخصوم، وأخذ الحق لبعضهم من بعض) أي: أخذه لربه ممّن هو عليه (والنظر في أموال غير الراشدين) كالصغير، والمجنون، والسفيه، وكذا: مال غائب (والحجر على من يستوجبه لسفه، أو فلس، والنظر في وقوف عمله؛ ليعمل بشرطها، وتنفيذ الوصايا، وتزويج من لا ولي لها) من النساء (وإقامة الحدود، وإمامة الجمعة والعيد) ما لم يخصَّا بإمام (والنظر في مصالح عمله بكفّ الأذى عن الطرقات وأفنيتها، ونحوه) كجباية خراج، وزكاة ما لم يخصا بعامل، وتصفّح شهوده، وأمنائه؛ ليستبدل بمن يثبت جرحه، والاحتساب على الباعة، والمشترين، وإلزامهم بالشرع

(12)

(ويجوز أن يولِّي

"أسندت إليك الحكم" ونحو ذلك من الألفاظ، فهذه لا ينعقد بها إلّا بقرينة؛ للتلازم؛ حيث إن هذه الألفاظ تحتمل الولاية وغيرها فيلزم عدم صحة الولاية بها إلّا بقرينة تنفي الاحتمال.

(11)

مسألة: لا يُشترط: أن يُشهد الإمام الأعظم شاهدين عدلين إذا ولَّى غائبًا القضاء؛ للاستقراء؛ حيث ثبت بعد الاستقراء والتتبّع أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك الخلفاء الراشدون لم يكونوا يشهدون أحدًا على تلك التولية، وإنما كانوا يكتبون ويختمون بما يدل على أنه كتاب منهم بالتولية، فإن قلتَ: يُشترط هنا الإشهاد، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه استيثاق وتأكيد أن التولية صادرة من الإمام الأعظم قلتُ: لا حاجة لهذا، إذ إن كتابات الإمام الأعظم وأختامه لا يجرؤ أحد أن يُقلِّدها، وهيبة الإمام تمنع من ذلك، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض المصلحة مع الاستقراء".

(12)

مسألة: إذا وُلِّي شخص القضاء في بلدٍ ولاية عامة: فإن واجبه أن ينظر في عشرة أشياء وهي: فصل الخصومات، واستيفاء الحق ممّن هو عليه، وإعطاؤه لمن يستحقه، والنظر في أموال الغائبين، واليتامى، والصبيان، والمجانين، والسفهاء، والحجر على من يرى الحجر عليه؛ لسفه، أو فَلَس، والنظر في وقوف بلدته؛ =

ص: 321

القاضي عموم النظر في عموم العمل): بأن يولّيه سائر الأحكام في سائر البلدان

(13)

(و) يجوز أن (يولِّي خاصًا فيهما): بأن يولِّيه الأنكحة بمصر مثلًا (أو) يولِّيه خاصًا (في أحدهما): بأن يولِّيه سائر الأحكام ببلد معيَّن، أو يولِّيه الأنكحة بسائر البلدان

(14)

،

ليعمل بشرط موقفها، والنظر في الوصايا؛ ليعمل بنص الموصي، وتزويج من لا ولي لها من النساء، والنظر في كل ما يجلب المصالح لبلده، ويدفع عنه المفاسد: بأن يقيم الطرقات، والأفنية، وترسيم الحدود بين الجيران، والنظر في تأدية زكاة المسلمين، وجباية وخراج غيرهم، والنظر في الشهود، والأمناء ليبقي المزكَّى، والمعدَّل، ويُبعد المجروح، والفاسق، والنظر في البائعين، وأماكنهم، والمشترين والتأكّد من أنهم يبيعون، ويشترون على حسب القواعد والأنظمة الشرعية، ونحو ذلك مما يحتاج فيه إلى تدخل شرعي؛ للعادة والعرف والمصلحة؛ حيث إن العادة من القضاة تولِّي هذه الأشياء عند إطلاق ولايتهم للقضاء فكان على ما جرت العادة فيه؛ جلبًا للمصالح، ودفعًا للمفاسد.

(13)

مسألة: يجوز للإمام الأعظم أن يولِّي شخصًا القضاء والنظر في عموم الأحكام الشرعية، في سائر بلدان الدولة، فيكون عامًا في النظر، وعامًا في العمل؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الإمام الأعظم يتولَّى كل شيء من الأحكام الشرعية في جميع البلدان فكذلك القاضي يتولّى مثله في ذلك، والجامع: النظر في مصالح الناس.

(14)

مسألة: يجوز للإمام الأعظم أن يولِّي شخصًا القضاء في الأنكحة أو الأحوال الشخصية فقط، في جميع بلدان الدولة، ويجوز أن يولِّيه سائر الأحكام الشرعية في بلد واحد معيَّن، ويجوز أن يولّيه القضاء في المواريث في بلد معيَّن فقط، ونحو ذلك من الأعمال التي يُحسنها ذلك الشخص؛ للمصلحة: حيث إن الواجب أن يُعيَّن كلُّ شخص على رأس العمل الذي يحسنه، وهو له أهل، وفي ذلك جلب مصالح للعباد والبلاد ودفع مفاسد عنهم.

ص: 322

وإذا ولَّاه ببلد معيَّن: نفَّذ حكمه في مقيم به، وطارئ إليه فقط، وإن ولَّاه بمحل معيَّن، لم ينفذ حكمه في غيره، ولا يسمع بيِّنة إلّا فيه كتعديلها

(15)

، وللقاضي طلب رزق من بيت المال؛ لنفسه، وخلفائه، فإن لم يجعل له فيه شيء، وليس له ما يكفيه، وقال للخصمين: لا أقضي بينكما إلّا بجعل: جاز، ومن يأخذ من بيت المال: لم يأخذ أجرة لفتياه، ولا لحكمه

(16)

، (ويشترط في القاضي عشر صفات: كونه بالغًا

(15)

مسألة: إذا ولَّى الإمام الأعظم شخصًا قاضيًا في بلد معيَّن: فإن حكم ذلك القاضي ينفذ في جميع المقيمين في ذلك البلد، والوافدين عليه، وهم المقيمون فيه إقامة طارئة ومؤقتة، أما غير المقيم في ذلك البلد، وليس بطاري ووافد إليه: فلا يدخل تحت ولايته، وكذلك إذا سافر القاضي إلى بلد آخر لم يولَّ عليه فلا ينفذ حكمه في المقيمين الساكنين في ذلك البلد الآخر، وكذا: لو وُلِّي القضاء في مجلس، أو محل معين: فلا ينفذ حكمه في مجلس، أو محل آخر، ولا يسمع بيِّنة إلا في محل وبلد ولايته فقط، وهو محل حكمه، ولو سمع ذلك، أو حكم في غير مجلس، أو محل، أو بلد ولايته فيجب أن يعيد ذلك في مجلس، أو محل، أو بلد ولايته؛ للمصلحة: حيث إن كل قاض قد أذن له الإمام الأعظم بأن يقضي في بلد، أو محل، أو مجلس قد عيّنه له، فلا يتعدَّاه القاضي إلى غيره؛ لأن الإمام الأعظم قد علم بواسطة عيونه وجواسيسه أن هذا لا يصلح إلّا للبلد الفلاني فقط فتكون المصلحة في عدم تركه إلى بلد، أو محل، أو مجلس آخر، إذ قد تحصل مفسدة إن ذهب إلى غيره.

(16)

مسألة: إذا كان للقاضي رزق يصرف له من بيت المال: فلا يجوز له أن يأخذ أجرة من الخصمين، ولا لفتياه للناس، أما إن لم يكن له رزق: فله طلب الرزق هذا له، ولنوابه، ومعاونيه، فإن لم يُصرف له: فله الحق بأن يطلب من الخصمين ما يكفيه من الرزق، وله حق الامتناع من القضاء والفتيا إلا بجعل؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إنه إذا لم يجز صرف الرزق له: فإن هذا سيؤدي إلى تعطيل =

ص: 323

عاقلًا)؛ لأن غير المكلف تحت ولاية غيره، فلا يكون واليًا على غيره (ذكرًا)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"ما أفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة"(حرًا)؛ لأن الرقيق مشغول بحقوق سيده (مسلمًا)؛ لأن الإسلام شرط للعدالة (عدلًا) ولو تائبًا من قذف، فلا يجوز تولية الفاسق؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية (سميعًا)؛ لأن الأصم لا يسمع كلام الخصمين (بصيرًا)؛ لأن الأعمى لا يعرف المدعي من المدّعى عليه (متكلمًا)؛ لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته (مجتهدًا) إجماعًا ذكره ابن حزم، قاله في "الفروع"(ولو) كان مجتهدًا (في مذهبه) المقلِّد فيه لإمام من الأئمة، فيراعي ألفاظ إمامه، ومتأخرها، ويُقلِّد كبار مذهبه في ذلك، ويحكم به، ولو اعتقد خلافه

(17)

.

مصالح الناس، وضياع حقوقهم، فدفعًا لذلك وجب صرف الرزق له؛ لئلا يشتغل بمؤنته ومؤنة أولاده عن التفرّغ للقضاء والفتوى الثانية: قول وفعل الصحابي؛ حيث إن الصحابة فرضوا لأبي بكر كل يوم درهمين، وكان عمر يصرف لشريح مائة درهم كل شهر، وأمر عمر بالفرض لمن ولي القضاء، وقال:"ارزقوهم واكفوهم من مال الله تعالى".

(17)

مسألة: يُشترط أن تتوفر عشر صفات في القاضي أولها: أن يكون بالغًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه صبيًا: أن يحتاج إلى من يتولّى عليه؛ لقلَّة عقله، والقاضي نُصِّب ليتولَّى على غيره فلا يصلح للقضاء؛ لما بينهما من المنافاة، ثانيها: أن يكون عاقلًا؛ للتلازم؛ وقد سبق، ثالثها: أن يكون ذكرًا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "ما أفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة" والقضاء من أعلى الولايات، وسبب عدم صلاحيتها لذلك: أنها ناقصة عقل ودين فقد تخدع في أسلوب أحد الخصمين أو صورته وهيئته، أو إظهار ضعفه فتعطيه حق غيره، رابعها: أن يكون حرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتغال الرقيق بخدمة سيده: عدم صلاحيته للقضاء؛ وإذا تولَّاه: تضرر سيده؛ لذلك سقطت عنه صلاة الجمعة، والحج، =

ص: 324

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والعمرة، والجهاد ونحو ذلك من الواجبات، خامسها: أن يكون عدلًا؛ للتلازم؛ حيث إن القضاء يلزم منه: أن يكون القاضي يُقبل قوله في الأحكام، والفاسق لا يُوثق بقوله لذلك رُدَّت شهادته، وروايته للأحاديث؛ لعموم قوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} فأمر الشارع بعدم الاستيثاق بقوله والتأكد مما يورده من أقوال، فيلزم من ذلك عدم صلاحيته للقضاء من باب أولى؛ لأن الحكم أولى بالتأكد منه، سادسها: أن يكون مسلمًا؛ للقياس الأولى، بيانه: كما أن الفاسق لا يصلح للقضاء فمن باب أولى عدم صلاحية الكافر له؛ لأن الكفر: فسق وزيادة، سابعها: أن يكون سميعًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم سماع الأصم لكلام الخصمين: عدم صلاحيته للقضاء، واشتراط توفّر السمع، ثامنها: أن يكون بصيرًا، للتلازم؛ حيث إن تشابه المدَّعي، والمدَّعى عليه على الأعمى، وتشابه الأصوات، وخفاء الحركات التي قد تكون أمارة على بطلان كلام أحد الخصمين: يلزم منه: عدم صلاحيته - أي: الأعمى - للقضاء، تاسعها: أن يكون مُتكلِّمًا؛ للتلازم؛ حيث إن عدم إمكان الأخرس من النطق بالحكم، وعدم فهم جميع الناس أو أكثرهم إشارته يلزم منه: عدم صلاحيته للقضاء، عاشرها: أن يكون مجتهدًا، أي أن يكون بالغًا درجة الاجتهاد في الشريعة، ولا يبلغ الشخص درجة الاجتهاد إلا إذا توفرت فيه شروط المجتهد، وقد فصَّلتُ ذلك في كتابي:"الإتحاف" و"المهذَّب"، ولا يجوز للقاضي أو المفتي أن يتقيَّد بمذهب معيَّن، بل يقضي ويفتي بالحكم الأقوى دلالةً من الكتاب، أو السُنّة، أو الإجماع، أو القياس، أو أي دليل آخر معتبر عنده من الأدلة المختلف فيها كقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستحسان، والاستصحاب، والعرف، والمصلحة، والاستقراء، والتلازم وغير ذلك مما فصَّلته في الكتابين السابقين؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، =

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإن أخطأ فله أجر" فيلزم من ذلك اشتراط بلوغ درجة الاجتهاد، فإن قلت: إنه إذا اشتُرط الشرط الأخير فإنه يؤدي إلى تعطيل حقوق الناس؛ للتلازم؛ حيث إن قلَّة وندرة البالغين لدرجة الاجتهاد يلزم منه ذلك قلتُ: هذا لا يُسلَّم؛ لأنه قد يعين الإمام الأعظم قضاةً ينظرون في الأمور، ويسمعون من الخصوم، ويكتبون ذلك، ثم يرسلون ما كتبوه إلى هيئة علماء قد بلغوا درجة الاجتهاد فينظر هؤلاء في القضية مرة أخرى، فيرسلوا إلى الأولين بالموافقة، أو المخالفة، أو الاستفسار عن بعض الأمور، أو استدعاء الخصوم إلى مقرّ تلك الهيئة، ويُعمل ببعض ذلك الآن في "مجلس القضاء الأعلى" أو "هيئة التمييز"، فإن قلت: لا يشترط الرابع، فيصلح الرقيق أن يكون قاضيًا، وهو لكثير من العلماء؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يصلح لإمارة سرية، ويصلح لقسم الصدقات، والفيء، وإمامة الصلاة: فكذلك يصلح للقضاء والجامع: الولاية في كل، قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن هذه الأشياء لا تأخذ منه وقتًا طويلًا، بخلاف القضاء، ثم لا نسلِّم أن تلك الأمور تصح منه بدون إذن سيده، فإن قلت: لا يُشترط الثامن، فيصلح أن يكون الأعمى قاضيًا؛ للتلازم؛ حيث إن معرفته لأوصاف الخصمين تكفي عن مشاهدتهما فيلزم صلاحيته له، قلتُ: إن الوصف لا يكفي عن المعاينة والمشاهدة؛ إذ في المشاهدة دلائل على ظهور الحق لا توجد في الوصف، وهذا معلوم بالضرورة، وكم من شخص اكتشف كذب شخص من ظاهره ونظرته، وبعض حركاته.

[فرع]: لا يجوز لأي شخص أن يقضي بمذهب إمامه، أو ما ذهب إليه كبار علماء مذهبه بدون أن يعتقد صحّته ولا يمكنه أن يدرك الصحيح من الباطل من الأحكام إلّا إذا كان صحيح النظر في الأدلة المتّفق عليها، والمختلف فيها، ولا يمكنه أن يكون كذلك إلّا إذا بلغ درجة الاجتهاد.

ص: 326

قال الشيخ تقي الدين: وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، وتجب ولاية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولَّى لعدم الأنفع من الفاسقين، وأقلّهما شرًا، وأعدل المقلِّدين، وأعرفهما بالتقليد، قال في "الفروع":"وهو كما قال"

(18)

، ولا يُشترط أن يكون القاضي كاتبًا

(19)

، أو ورعًا

(20)

، ............

(18)

مسألة: تُطبَّق تلك الشروط على الشخص الذي يختار قاضيًا على حسب الإمكان والقدرة فمن توفّرت فيه خمسة شروط مقدم على من توفّرت فيه أربعة، ومن توفّرت فيه ثمانية مقدّم على من توفّرت فيه سبعة فقط وهكذا، فإذا انعدمت تلك الشروط ولم يوجد شخص لذلك: ووجد فاسقان: فإنه يُقدَّم أنفعهما للناس وأقلهما شرًا، وإذا لم يوجد إلا مقلِّدان: قُدِّم أعدلهما، وأعرفهما بالتقليد لغيره، وهكذا، لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وتولية القضاة مأمور بها، وتولية أحسن الفاسقين، وأحسن المقلِّدين هو نهاية القدرة والاستطاعة في تنفيذ ذلك الأمر فوجب، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن ترك الناس بلا قاض فيه مفاسد أعظم من مفسدة تولية أحسن الفاسقين، أو أحسن المقلِّدين، فيُقدَّم في ذلك أخفّ المفسدتين وهي: تولية أحسن الفاسقين، أو أحسن المقلِّدين.

(19)

مسألة: لا يُشترط في القاضي: أن يكون كاتبًا؛ للتلازم؛ حيث إن الحكم يصح بدون كتابة فيلزم عدم اشتراطها، فإن قلت: تُشترط معرفته للكتابة؛ للمصلحة: حيث إن معرفته للكتابة تجعله يعرف ما يكتبه كاتبه، ولا يتمكّن من إخفائه عليه قلتُ: إن حكم القاضي ينفّذ ولو لم يُكتب، وفي العادة: أن لا يضع القاضي كاتبًا له إلّا إذا وثق به كما أنه يعتمد على من يقيس له المساحة، ويُقيِّم المتلفات ولا يُشترط علمه بها.

(20)

مسألة: يُشترط في القاضي: أن يكون ورعًا يخشى الله ويخافه في الصغائر قبل =

ص: 327

أو زاهدًا

(21)

، أو يقظًا

(22)

، أو مثبتًا للقياس

(23)

، أو حسن الخلق، والأولى كونه

الكبائر؛ للمصلحة: حيث إن اتّصافه بالورع يجعل الناس يثقون بما يحكم به، ومن لا ورع له: لا يمكن أن يوثق به، وأكثر الفقهاء قالوا: إن كل ولاية لها ركنان: أولهما: القوة في الحكم، وهذا ترجع إلى قوته العلمية وتنفيذ الحكم الذي يصدره، - ثانيهما: الأمانة، وهي التي يُعبِّر عنها بعضهم بالورع وخشية الله تعالى في السر والعلن، فإن قلت: لا يشترط الورع فيه بل يستحب، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.

(21)

مسألة: لا يُشترط في القاضي أن يكون زاهدًا: بأن يتقشَّف في مأكولاته ومشروباته، وسكنه، بل له أن يلبس الوسط من الثياب، ويأكل ويشرب الوسط من الأطعمة والأشربة، ويسكن في الوسط من المساكن، بل يستحب؛ للتلازم؛ حيث إن عدم الزهد لا ينافي تولِّي منصب القضاء فيلزم عدم اشتراطه.

(22)

مسألة: يُشترط في القاضي: أن يكون يقظًا متنبهًا لحيل الخصوم التي قد تتبين من حركاتهم، وهيئاتهم، وإشاراتهم؛ للتلازم؛ حيث إن المغفَّل لا يمكنه إدراك الحق من بعض بيِّنات الخصوم فلزم اشتراط اليقظة في القاضي، فإن قلتَ: لا يُشترط ذلك، بل يُستحب أن يكون كذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا، قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك.

(23)

مسألة: يُشترط في القاضي: أن يكون مثبتًا للقياس، ويحتج به لإثبات الأحكام الشرعية، وأن يعرف حقيقته، وأركانه، وشروط كل ركن، للتلازم؛ حيث إن اشتراط كونه مجتهدًا - كما سبق في مسألة (17) - يلزم منه: اشتراط كونه عالمًا مثبتًا للقياس الشرعي؛ لأن القياس أهم أنواع الأدلة المجتهد فيها؛ إذ ثبتت به ثلاثة أرباع الأحكام الفقهية، فالذي لا يُتقنه ولا يثبته فقد انهدم عنده أكثر الأحكام الشرعية، ومثل هذا لا يصلح لأن يتولى القضاء، فإن قلتَ: لا يُشترط ذلك، بل يُستحب أن يكون كذلك، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: هذا مخالف =

ص: 328

كذلك

(24)

(وإذا حكَّم) - بتشديد الكاف - (اثنان) فأكثر (بينهما رجلًا يصلح للقضاء) فحكم بينهما: (نفذ حكمه في المال، والحدود، واللعان، وغيرها) من كل ما ينفذ فيه حكم من ولَّاه إمام أو نائبه؛ لأن عمر وأُبيًا تحاكما إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكن أحد ممَّن ذكرنا قاضيًا

(25)

.

لاشتراطه الاجتهاد في الشرط العاشر من شروط القاضي - كما سبق في مسألة (17) -.

(24)

مسألة: لا يُشترط في القاضي: أن يكون حسن الخلق بأن يختار الفضائل، ويترك الرذائل، ولكن يُستحب أن يكون كذلك؛ للتلازم؛ حيث إن عدم حسن الخلق لا ينافي منصب القضاء فيلزم عدم اشتراطه.

(25)

مسألة: إذا طلب اثنان فأكثر من شخص أن يحكم بينهما: فحكم بينهما: فإن حكمه ينفذ ويطبَّق بشرطين: أولهما: أن يكون ذلك الشخص قد توفّرت فيه شروط القاضي السابق ذكرها، ثانيهما: أن يحكم بينهما في الأمور المالية فقط، أما غير ذلك كالحدود، والقصاص، والأنكحة، واللعان: فلا يجوز أن يحكم بها إلّا القاضي المعيَّن من قبل الإمام الأعظم؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابي؛ حيث إن عمر وأُبي قد تحاكما إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم الثانية: التلازم؛ حيث إن كون الحكم في الحقوق المالية لا تحتاج إلى قوة، وأنه لا سراية، ولا آثار لها، وإن حصل شيء من ذلك أمكن إدراكه يلزم منه: جواز حكمه فيها، وجواز تنفيذ حكمه، ويلزم من حاجة الحكم في غير الأموال إلى قوة، واحتمال السراية في التنفيذ، والمخاصمات الشديدة في كثير من الخصومات: عدم جواز الحكم في ذلك إلّا للقاضي المعيّن من قبل الإمام الأعظم؛ لأنه هو الذي يقدر على الإلزام بذلك الحكم، وهذا هو الذي قيد الإطلاق السابق فإن قلتَ: إن من اختير حاكمًا بين اثنين ينفذ حكمه في الأموال، واللعان، والحدود وغيرها، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن =

ص: 329

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بعض الصحابة قد تحاكموا إلى البعض الآخر - كما سبق ذكره - وهذا مطلق قلتُ: إن كان ذلك مطلقًا فقد قيَّده ما ذكرناه من التلازم، وعلى فرض إطلاقه: فإنه اجتهاد صحابي، ولا يلزمنا إذا وجد دليل أقوى منه، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض فعل الصحابي مع التلازم".

هذه آخر مسائل: "حقيقة القضاء والفتيا، وحكمهما، وواجب الإمام في اختيار القاضي، ووصيته له، وألفاظ توليته، وعمل القاضي، وحكم طلبه للرزق، وشروط وصفات القاضي" ويليه باب "آداب القاضي".

ص: 330

‌باب آداب القاضي

أي: أخلاقه التي ينبغي له التخلّق بها (ينبغي) أي: يسن (أن يكون قويًا من غير عنف)؛ لئلا يطمع فيه الظالم، والعنف ضد الرفق

(1)

(ليِّنًا من غير ضعف)؛ لئلا يهابه صاحب الحق

(2)

(حليمًا)؛ لئلا يغضب من كلام الخصم (ذا أناءة) أي: تؤدة، وتأنٍ، لئلا تؤدي عجلته إلى ما لا ينبغي

(3)

(و) ذا (فطنة)؛ لئلا يخدعه بعض

‌باب آداب القاضي

وفيه إحدى وثلاثون مسألة:

(1)

مسألة: يُستحب أن يكون القاضي قويًا في علمه، متمكنًا منه، مستظهرًا به، ذا شخصية مهابة في ذلك، ولكن تكون هذه القوة مع رفق ولطف، ويستبعد العنف والشدَّة قدر استطاعته؛ للمصلحة: حيث إن تلك القوة وسيلة إلى إعطاء الحق لمستحقه من أي شخص، والرفق وسيلة إلى إقناع الآخرين بحكمه.

(2)

مسألة: يُستحب أن يكون القاضي ليِّنًا لطيفًا، لبقًا من غير ضعف في العلم؛ للمصلحة: حيث إنه إذا كان قاسيًا، جافًا: فإن صاحب الحق من الخصوم سوف يهابه، ويتجنَّبه ويصعب إبلاغه بالبيِّنة بصورة واضحة، لشدّة تنكره للخصوم، وإذا كان فيه ضعف في جانب من جوانب العلم: فلا يقدر - أي: هذا القاضي - أن يُقنع الخصم بحكمه الذي أصدره فدفعًا لذلك استحب ما ذكر.

(3)

مسألة: يُستحب أن يكون القاضي حليمًا متأنيًا متريثًا ذا تؤدة؛ نابذًا وتاركًا للعجلة، والطيش، والحدَّة، والتسرُّع، وعدم التثبت والغضب والشهوة، فيُثمر ذلك وقارًا وسكينة عليه؛ للمصلحة: حيث إن ذلك الخلق يجعل حكمه مقبولًا عند الناس، ويكون موثوقًا به؛ لأن الحلم زينة العلم، وبهاؤه، وجماله؛ لأنه لباس العلم كما ذكر ذلك ابن القيم، وقديمًا قيل: في التأنِّي السلامة، وفي العجلة الندامة، ومن منّا لا يُريد السلامة في أقواله وأفعاله، وتصرفاته؟!

ص: 331

الأخصام

(4)

، ويسن: أن يكون عفيفًا

(5)

، بصيرًا بأحكام من قبله

(6)

، ويدخل يوم اثنين، أو خميس، أو سبت

(7)

، لابسًا هو وأصحابه أجمل الثياب

(8)

ولا يتطيَّر، وإن

(4)

مسألة: يُستحب أن يكون القاضي شديد الفطنة والتنبّه، يعرف الحيل والخدع، والمكر التي يستعملها بعض الخصوم لأخذ حقوق غيرهم، أي: يستحب أن يكون شديد المعرفة للأمارات والدلائل الحالية والمقالية؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه تيسير الوصول إلى إحقاق الحق، وإبطال الباطل؛ لكثرة ما يظهر المحق بصورة المبطل، والمبطل بصورة المحق، ويظهر الزنديق المنافق بصورة الصديق، المتدين الورع، فإذا لم يكن شديد الفطنة والتنبّه لذلك اختلطت عليه حقائق الأمور، وكثر غلطه، فدفعًا لذلك استحب أن يكون كما ذكرنا، تنبيه: شدَّة الفطنة والتنبّه هذا هو المستحب، أما الفطنة واليقظة والتنبّه فهو شرط كما سبق ذكره.

(5)

مسألة: يُستحب أن يكون القاضي عفيف النفس عمّا في أيدي الناس؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه قطع أمل بعض الظلمة من أن يستميلوه بإعطائه بعض العطاءات ليحكم في صالحهم.

(6)

مسألة: يُستحب أن يكون القاضي مطَّلعًا على الأحكام التي سبق أن حكم فيها من سبقه من القضاة؛ للمصلحة: حيث إن ذلك يجعله بصيرًا بالقضايا السابقة التي قُضي فيها؛ ليستفيد من خبراتهم؛ لتعينه على ما سيأتي من أحكام.

(7)

مسألة: يُستحب أن يدخل القاضي مجلس القضاء في ضُحى يوم الاثنين، أو الخميس، أو السبت؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "بورك لأمتي في سبتها وخميسها" الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد دخل المدينة، ضحى يوم الاثنين، والمقصود: التفاؤل في ذلك.

(8)

مسألة: يُستحب أن يدخل القاضي مجلس القضاء وهو لابس أحسن ما عنده من الثياب، وكذلك يفعل معاونوه: من كتَّاب، وحُجَّاب، وشُرَط ونحو ذلك؛ للمصلحة: حيث إن ذلك أعظم له ولهم في النفوس فيرهبه ويخافه الظلمة، فلا =

ص: 332

تفاءل فحسن

(9)

(وليكن مجلسه في وسط البلد) إذا أمكن؛ ليستوي أهل البلد في المضي إليه

(10)

، وليكن مجلسه فسيحًا، لا يتأذى فيه بشيء

(11)

، ولا يكره القضاء في الجامع

(12)

، ولا يتّخذ حاجبًا ولا بوابًا بلا عذر

(13)

إلّا في غير مجلس

يتجرؤوا على التملُّق والنفاق في مجلسه؛ لكونه نائبًا عن الإمام الأعظم، وقائمًا بشرع الله.

(9)

مسألة: يحرم أن يتطيَّر ويتشاءم القاضي، ويستحب له أن يتفاءل بالخير؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث "نهى عليه السلام عن الطيرة، ويحب الفأل" والنهي عن الطيرة مطلق، فيقتضي التحريم الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من كونه قدوة للآخرين: العمل على ذلك الحكم - وهو تحريم التطيّر، واستحباب التفاؤل -.

(10)

مسألة: يُستحب أن يكون مجلس القاضي في وسط البلد بقدر الإمكان؛ للمصلحة: حيث إن ذلك يُسهِّل على الساكنين في شمال، وجنوب، وغرب، وشرق البلد الوصول إليه بيسر، دون مشقَّة، أو عناء؛ لأن الناس كلهم بحاجة إليه بمرتبة واحدة، وكذا: إن كان قاضيًا لعدة قرى فإنه يكون في قرية تتوسطها؛ لما ذكرناه.

(11)

مسألة: يُستحب أن يكون مجلس القاضي فسيحًا واسعًا ليس بالبارد الشديد البرودة، ولا بالحار الشديد الحرارة؛ للمصلحة: حيث إن ذلك يُبعد التأذي بذلك، وتكون نفسيته مفتوحة لسماع بيّنات الخصوم، ولفهمها فهمًا دقيقًا؛ لأن ذلك يساعده على الوصول إلى الحكم بدقة.

(12)

مسألة: لا يكره القضاء في مسجد جامع إذا اقتضت المصلحة لذلك؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عمر، وعثمان، وعلي كانوا يقضون في المسجد.

(13)

مسألة: يجوز للقاضي أن يتّخذ حاجبًا أو بوابًا ثقة إن وجدت حاجة له عند انعقاد جلسة الحكم وحاجتهم إلى ترتيب وتنظيم، وإن لم توجد حاجة: فلا يجوز اتخاذ ذلك؛ للمصلحة: حيث إن الناس عند تزاحمهم قد يظلم بعضهم البعض =

ص: 333

الحكم

(14)

(و) يجب (أن يعدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه ودخولهما عليه)

(15)

إلا مسلمًا مع كافر، فيقدم دخولًا، ويرفع جلوسًا

(16)

، وإن سلَّم أحدهما:

الآخر في سبق المتأخر للمتقدم فيُحتاج إلى الحاجب أو البوَّاب لترتيب الناس، وإدخالهم الأول فالأول على حسب سبقهم بالحضور، أما إن لم يحتج لذلك فلا ينبغي أن يتّخذ القاضي بوابًا أو حاجبًا؛ لأنه قد يقدم المتأخر ويدخله على القاضي، ويؤخّر المتقدم.

(14)

مسألة: يجوز للقاضي أن يتّخذ حاجبًا أو بوابًا إذا لم يكن في مجلس القضاء كما شاء؛ للتلازم؛ حيث من كونه لم يكن في مجلس الحكومة: أن يفعل ما شاء؛ لأنه من حقه.

(15)

مسألة: يجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين المسلمين في كلامه، وإشاراته، وألفاظه، ويساويهما في المجلس فلا يقدم أحدهما على الآخر، وكذلك في الدخول عليه: ولا يقدم لأحدهما دون الآخر، ولا يظهر السرور لأحدهما دون الآخر وهكذا؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم" وهذا تنبيه على وجوب التسوية بين الخصمين في كل شيء، الثانية: المصلحة؛ حيث إن تقديم وتفضيل أحد الخصمين يؤدِّي إلى انكسار قلب الخصم الآخر، وضعفه عن القيام بحجّته - كما قال ابن القيم - وتردده في أن يتكلَّم بصراحة في قضيته، وهذا ظلم ظاهر، فرفعًا لذلك: وجبت العدالة بينهما.

(16)

مسألة: إذا تخاصم مسلم مع كافر: فإن القاضي يقدم المسلم على الكافر في الدخول، والجلوس، ويجعله أرفع من الكافر أثناء الجلوس؛ للتلازم؛ حيث يلزم من حرمة الإسلام وأنه يعلو ولا يُعلى عليه: أن يقدَّم المسلم على الكافر في ذلك كما في البناء - كما سبق بيانه -.

ص: 334

ردَّ ولم ينتظر سلام الآخر

(17)

، ويحرم أن يسار أحدهما، أو يُلقِّنه حجّته، أو يضيفه، أو يُعلِّمه كيف يدَّعي

(18)

إلا أن يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى

(19)

(وينبغي) أي: يسن (أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب، وأن يشاورهم فيما يشكل عليه) إذا أمكن، فإن اتّضح له الحكم: حكم، وإلّا أخَّره؛ لقوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}

(20)

(17)

مسألة: إذا دخل أحد الخصمين على القاضي وسلَّم عليه: فيجب على القاضي أن يرد السلام عليه دون أن ينتظر سلام الخصم الآخر؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون رد السلام واجبًا على الفور: أن يردّ القاضي السلام على من سلَّم فورًا الثانية: المصلحة؛ حيث إن عدم رد السلام على من تقدَّم بالسلام، وأُخِّر حتى سلَّم الآخر فيه كسر قلب ذلك المتقدِّم بإلقاء التحية، وهذا مخالف للعدالة الواجبة على القاضي.

(18)

مسألة: يحرم على القاضي أن يظهر السرور لأحد الخصمين، أو يُلقِّنه حجّته، أو يُعلِّمه كيفية الدعوى على خصمه، أو يضيفه بأن يقدم له بعض الأكل أو الشراب، ولا يفعل ذلك مع الخصم الآخر؛ لقاعدتين: الأولى: فعل الصحابي؛ حيث إنه نزل رجل على علي: فقال له: إنك خصم، قال: نعم، قال: تحوَّل عنا ومراده: لا تجلس بجانبي، بل اجلس مع خصمك، وهذا تنبيه على عدم جواز التفريق بين الخصوم في كل شيء، الثانية: المصلحة؛ حيث إن إظهار السرور لأحد الخصمين، أو تلقينه الحجة دون خصمه فيه كسر لقلب خصمه، وهذا ظلم له، فدفعًا لذلك: شرع هذا.

(19)

مسألة: يجوز للقاضي أن يُعلم أحد الخصمين كيف يدَّعي، وكيفية تحرير دعواه؟ بشرط: عدم استطاعته وقدرته على تحريرها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجوب صحة الدعوى المرفوعة إلى القاضي: أن يُعلِّم القاضي الخصمين معًا، أو أحدهما كيفية تحريرها، وتقديمها لا سيما وأنه لا ضرر على خصمه في ذلك.

(20)

مسألة: يُستحب أن يحضر فقهاء المذاهب مجلس القاضي إن أمكن ذلك، =

ص: 335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويُستحب أن يشاورهم فيما يشكل عليه، فإن ظهر له حكم في قضية: حكم بها، وإن لم يظهر له الحكم فيها: فإنه يؤخر الحكم ويؤجل النظر في القضية إلى وقت آخر؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} حيث دلت هذه الآية بعمومها على وجوب مشاورة الإمام، أو القاضي للعلماء؛ لأن الأمر هنا مطلق فيقتضي الوجوب، الثانية: السنة الفعلية؛ حيث "كان النبي عليه السلام يشاور أصحابه في كثير من القضايا منها: أسارى بدر، ومصالحة الكفار يوم الخندق" قال الحسن البصري: إن النبي عليه السلام غني عن تلك المشاورة، وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده، الثالثة: فعل الصحابي؛ حيث استشار أبو بكر الناس في ميراث الجدة، واستشار عمر الناس في شارب الخمر، وفي دية الجنين، الرابعة: المصلحة؛ حيث إن جلوس الفقهاء مع القاضي فيه تذكير للقاضي لما نسيه من الأدلة؛ لأن الإحاطة بجميع الأدلة يكاد يكون متعذِّر، وقد يتنبّه لإصابة الحق، ومعرفة حكم الحادثة من هو دون القاضي فكيف بمن يساويه؟ فقد جاءت أبا بكر جدتان - أم أم، وأم أب - فورَّث أم الأم، وأسقط أم الأب فقال له عبد الرحمن بن سهل: يا خليفة رسول الله لقد أسقطت التي لو ماتت ورثها، وورَّثت التي لو ماتت لم يرثها، فرجع أبو بكر عن رأيه، وشرَّك بينهما، وكان هذا هو المسلك الذي سلكه كثير من المحققين المتقين من القضاة والحكّام.

[فرع]: إذا حكم القاضي في قضية فليس لأحد من الجالسين معه من الفقهاء الاعتراض عليه، وإن خالف اجتهاده، إلا أن يخالف ذلك الحكم الذي أصدره القاضي نصًا، أو إجماعًا؛ للمصلحة: حيث إن الاعتراض على حكم القاضي المعيَّن فيه إزالة الثقة به عند العامة، وهذا مضرّ به، أما إن كان ذلك الحكم مخالفًا لنص، أو إجماع: فلمن حضر من الفقهاء مخالفته؛ لأنه لا طاعة =

ص: 336

(ويحرم القضاء وهو غضبان كثيرًا)؛ لخبر أبي بكرة مرفوعًا: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" متفق عليه (أو) وهو (حاقن أو في شدة جوع أو) في شدة (عطش أو) في شدة (همٍّ، أو ملل، أو كسل، أو نعاس، أو برد مؤلم، أو حر مزعج)؛ لأن ذلك كله يشغل الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهو في معنى "الغضب" (وإن خالف) وحكم في حال من هذه الأحوال (فأصاب الحق: نفذ) حكمه؛ لموافقته الصواب

(21)

(ويحرم) على الحاكم (قبول رشوة)؛ لحديث ابن عمر

لمخلوق في معصية الخالق.

(21)

مسألة: يحرم على القاضي أن يحكم في قضية وهو مشوَّش الفكر، قليل التركيز في بيِّنات الخصمين: سواء كان سبب هذا التشويش غضب، أو جوع، أو عطش، أو هم أو غم قد لحقه، أو ملل من العمل، أو تضايق من أحد، أو خوف، أو ألم، أو برد، أو حر، أو رطوبة، أو بول قد حصره، أو غائط، أو كسل وخمول، أو نعاس، أو فرح أو نحو ذلك مما يشغل الفكر ويساعد على عدم التركيز بأدلة الخصمين، وإن خالف ذلك وحكم بالقضية: فإن حكمه ينفذ بشرط: أن يكون قد أصاب الحق في حكمه؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" حيث حرم الشارع أن يقضي القاضي ويحكم بين خصمين وهو في حالة غضب، لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم، ولم يفرق الشارع بين الغضب الكثير والشديد وبين الغضب القليل واليسير؛ لأن لفظ "غضبان" مطلق فاستوى فيه ذلك، الثانية: القياس؛ بيانه: كما أنه يحرم القضاء في حالة الغضب فكذلك يحرم القضاء في حالة الجوع وغيره مما ذكرنا مما هو مشغل للفكر، ومشوّش عليه والجامع: إشغال الفكر، والتشويش عليه من أن يفكر بأدلة الخصمين تفكيرًا دقيقًا، حيث إن ذلك مانع من إصابة الحق في الغالب، الثالثة: التلازم؛ حيث يلزم من إصابة الحق إذا قضى وهو مشوش الفكر: أن ينفذ حكمه ويعمل به. تنبيه: اشترط المصنف أن يكون =

ص: 337

قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي" قال الترمذي: حديث حسن صحيح (وكذا) يحرم على القاضي قبول (هدية)؛ لقوله عليه السلام: "هدايا العمال غلول" رواه أحمد (إلا) إذا كانت الهدية (ممَّن كان يهاديه قبل ولايته إذا لم تكن له حكومة): فله أخذها كمفت، قال القاضي، ويسنُّ له التنزُّه عنها، فإن أحسَّ أنه يقدمها بين يدي خصومة، أو فعلها حال الحكومة: حرم أخذها في هذه الحالة؛ لأنها كالرشوة

(22)

،

الغضب والجوع المانع من القضاء: كثيرًا، والجوع والعطش وغيرهما مما ذكر أن تكون شديدة. قلتُ: هذا لم أجد دليلًا قويًا عليه، بل مجرد حصول الغضب، أو الجوع أو العطش يكفي في المنع من القضاء، وهو الذي دلّ عليه إطلاق الحديث السابق.

(22)

مسألة: يحرم على القاضي أن يأخذ رشوة أو هدية من الخصمين، أو أحدهما، حتى لو كان أحد الخصمين معتادًا أن يهدي القاضي قبل تولية القضاء إذا كانت له قضية تحتاج إلى حكم من ذلك القاضي، أما إذا لم تكن له قضية: فيكره للقاضي أن يقبل ذلك؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قول ابن عمر: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي، والمرتشي والرائش" فحرَّم الرشوة؛ لأنه توعد من فعلها باللعن، وهو عقاب، ولا يعاقب إلّا فعل محرم، ثانيهما: قوله عليه السلام: "هدايا العمّال غلول" حيث إن: هداياهم خيانة، والحكم بالخيانة عقاب، ولا يعاقب إلا على فعل حرام، فتكون الهدايا حرام، الثالثة: القياس؛ بيانه: كما يجوز للمفتي أن يأخذ الهدية مع الكراهة، فكذلك يجوز للقاضي أن يأخذ الهدية ممّن اعتاد أن يهديه قبل ولايته إذا لم يكن عنده حكومة له، فإن قلتَ: لِمَ حرّم ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن قبول الرشوة، والهدية يفضي إلى قضاء حاجته بسببها حيث إن من عادة النفس البشرية محبة الذي يهدي إليها شيئًا، أو يقضي لك حاجة، فإذا فعل ذلك بالقاضي: فإنه سينظر إلى الراشي، والمهدي بعين الرضا، وسينظر إلى من لم يرشه أو لم يهده بعين السخط، وهذا يؤثر على =

ص: 338

ويكره بيعه، أو شراؤه إلّا بوكيل لا يُعرف به

(23)

(ويُستحب: أن لا يحكم إلّا بحضرة شهود)؛ ليستوفي الحق

(24)

، ويحرم تعيينه قومًا بالقبول

(25)

(ولا ينفذ حكمه لنفسه، ولا لمن لا تقبل شهادته له) كوالده، وولده، وزوجته، ولا على عدوه كالشهادة

(26)

، ومتى عرضت له، أو لأحد ممّن ذكر حكومة: تحاكما إلى بعض

الحكم إيجابًا وسلبًا لذلك ورد: "أن الهدية تفقأ عين الحاكم" وورد: "أن حبك الشيء يعمي ويصم".

(23)

مسألة: يكره أن يقوم القاضي بنفسه بمزاولة البيع والشراء، وأنواع التجارات، لكن يوكِّل من يقوم بذلك عنه بشرط: أن لا يعرف الناس أن هذا وكيل عن القاضي، وإن زاول التجارة: من بيع وشراء بنفسه وتمّت أركان ذلك وشروطه: فإنه يصح؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إنه إذا زاول التجارة بنفسه: فإن الناس سيراعونه في خفض السعر ونحو ذلك؛ رهبة فيؤدِّي إلى إلحاق الضرر باقتصادهم وحقوقهم ويلزم من اشتغاله بالتجارة بنفسه: أن يشتغل عن النظر بدقة في أمور الناس وقضاياهم، وهذا مضرّ بهم، فدفعًا لذلك: كره له فعل ذلك بنفسه، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من توفّر أركان وشروط البيع والشراء: صحة ذلك.

(24)

مسألة: يُستحب أن يحكم القاضي بحضرة الشهود الذين قبل شهادتهم في القضية التي ينظر بها؛ للمصلحة: حيث إن هذا فيه استيفاء للحجج والبيِّنات مما يؤدي إلى استكمال القضاء بالقضية، وليكن كل شيء على مسمع ومرأى منهم حتى لو أراد أحدهم أن يرجع عن شهادته أمكنه ذلك.

(25)

مسألة: يحرم على القاضي أن يُعيِّن أفرادًا لا يقبل إلّا شهادتهم فقط، دون غيرهم؛ للتلازم: حيث إن كل من ثبتت عدالته تقبل شهادته فيلزم تحريم تعيين أفراد لا تقبل الشهادة إلّا منهم.

(26)

مسألة: يحرم على القاضي أن يحكم في قضية هو خصم فيها، ويحرم أن يحكم في =

ص: 339

خلفائه، أو رعيته كما حاكم عمر أُبيًا إلى زيد بن ثابت

(27)

، ويسنّ أن يبدأ بالمحبوسين، وينظر فيم حُبسوا، فمن استحق الإبقاء: أبقاه، ومن استحق الإطلاق: أطلقه، ثم في أمر أيتام، ومجانين، ووقوف، ووصايا لا ولي لهم، ولا ناظر، ولو نفذ الأول وصية موص إليه: أمضاها الثاني وجوبًا، ومن كان من أمناء الحاكم للأطفال، والوصايا التي لا وصي لها بحاله: أقره، ومن فسق: عزله

(28)

، ولا ينقض

قضية يوجد فيها فرد مما لا تقبل شهادته له كوالده وولده، وزوجته، ويحرم أن يحكم في قضية يوجد فيها عدوه، وإذا حكم في هذه الصور: فإن حكمه لا ينفذ؛ للقياس؛ بيانه: كما تحرم شهادته لنفسه، وشهادته لوالده، أو ولده، أو زوجته وتحريم شهادته على عدوه، ولا يُعمل بتلك الشهادة لو وقعت فكذلك القضاء مثلها، والجامع: وقوع الاتهام في كل، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للتأكيد على إبراء الذمة، والإخلاص في الدين.

(27)

مسألة: إذا خاصم القاضي أحدًا من الرعية؛ أو وُجدت خصومة بين أحد أقربائه الذي لا تقبل شهادته له، أو وجدت خصومة بينه وبين أحد أعدائه، أو أعداء أحد أقربائه - السابق ذكرهم -: فإنه يحكم بينهم الإمام الأعظم، أو قاض آخر؛ لفعل الصحابي؛ حيث إن عمر وأُبي قد تحاكما إلى زيد بن ثابت، وتحاكم علي، ورجل من العراق إلى القاضي شريح، وتحاكم علي ورجل من اليهود إلى القاضي شريح، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لإبراء الذمة، والإخلاص في الدين.

(28)

مسألة: أول ما يبدأ به القاضي عمله - حين تعيينه - أن يعيد النظر في جرائم الأشخاص الذين حبسهم القاضي الذي قبله: فإن كانوا قد فرغوا من العقوبة التي وجبت عليهم أطلقهم، وإن لم يحصل ذلك: أبقاهم على ما هم عليه، ثم بعد ذلك ينظر فيمن يستحق الولاية عليه من الصغار، والمجانين، والأوقاف، والوصايا: فإن كان عليهم ولي وناظر نظر فيه: فإن كان صالحًا أبقاه، وإن كان =

ص: 340

من حكم صالح للقضاء إلّا ما خالف نص كتاب الله، أو سُنة رسوله كقتل مسلم بكافر، وجعل من وجد عين ماله عند مفلس أسوة الغرماء، أو إجماعًا قطعيًا، أو ما يعتقده، فيلزم نقضه، والناقض له حاكمه إن كان

(29)

(ومن ادَّعى على غير برزة) أي: طلب من الحاكم أن يحضرها للدعوى عليها: (لم تحضر) أي: لم يأمر الحاكم بإحضارها (وأُمرت بالتوكيل)؛ للعذر، فإن كانت برزة - وهي التي تبرز لقضاء حوائجها - أُحضرت، ولا يُعتبر محرم تحضر معه (وإن لزمها) أي: غير البرزة إذا

غير ذلك: عزله، ووضع شخصًا آخر، وإن لم يكن عليهم ولي ولا ناظر عيَّن من يراه مناسبًا لذلك ثم ينظر فيما شابه ذلك من الأمور التي تحتاج إلى عجلة في النظر؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه إزالة ظلم عن المظلومين وفيه حفظ حقوق الضعاف الذين لا حول لهم ولا قوة، والحاكم ولي من لا ولي له فلزم تقديم النظر في تلك الأمور؛ جلبًا للمصالح، ودفعًا للمفسدة.

(29)

مسألة: إذا بدأ القاضي عمله، فوجد أن القاضي الذي سبقه قد قضى وحكم في قضايا: فلا يجوز للقاضي الجديد أن ينقض ما حكم به من سبقه إلا إذا كان ذلك الحكم قد خالف نصًا من كتاب أو سُنة، أو إجماعًا قطعيًا، أو خالف ما يعتقده ذلك القاضي الجديد: كأن يحكم القاضي القديم بأن يُقتل المسلم إذا قتل كافرًا، أو يحكم بأن من وجد عين متاعه عند مفلس: فإنه يساوى بالغرماء ونحو ذلك: فإن هذا يجب نقضه؛ للتلازم؛ حيث إن كون ذلك الحكم قد جاء مخالفًا لصريح نص، أو إجماع قطعي، أو اعتقاد خلافه يلزم منه: وجوب نقضه ومخالفته، وإعادة النظر في القضية فيحكم القاضي الجديد بما يراه في ذلك؛ فيُعمل قوله عليه السلام:"لا يُقتل مسلم بكافر" على عمومه، ويُعمل قوله عليه السلام:"من وجد متاعه عند رجل مفلس فهو أحقّ به". تنبيه: قوله: "والناقض له حاكمه إن كان" هذا لا يمكن؛ لأن الحاكم به يراه ولكن ينقضه من لا يراه، ونبّه على ذلك كثير من علماء الحنابلة وغيرهم المحققين.

ص: 341

وكَّلت (يمين أرسل) الحاكم (من يحلفها) فيبعث شاهدين؛ لتستحلف بحضرتهما (وكذا) لا يلزم إحضار (المريض)، ويؤمر أن يوكِّل، فإن وجبت عليه يمين: بعث إليه من يحلِّفه

(30)

، ويُقبل قول قاضي معزول عدل لا يتهم: كنتُ حكمت لفلان على فلان بكذا، ولو لم يذكر مستنده، أو لم يكن بسجلِّه

(31)

.

(30)

مسألة: إذا ادَّعى زيد بدعوى على امرأة غير برزة - وهي التي لا تبرز لقضاء حوائجها -، أو ادَّعى على مريض: فعلى القاضي أن يأمرهما بالتوكيل عنهما، وإن لزمهما يمين: فإن القاضي يرسل إليهما من يحلفهما، ويبعث إليهما بشاهدين يشهدان على ذلك اليمين، فإن كانت المرأة برزة - وهي التي تخرج في العادة لقضاء حوائجها -: فإن القاضي يحضرها مع محرم لها لتدافع عن نفسها؛ للمصلحة: حيث إن إحضار غير البرزة، والمريض فيه مشقة عظيمة عليهما فدفعًا لذلك: لا يلزما بالحضور، بخلاف البرزة إذا حضرت مع محرمها؛ حفظًا لها من الفتنة فإن قلتَ: لا يشترط وجود محرم عند حضور البرزة وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك، بل يُشترط؛ لأن غالب من يكون عند القاضي رجال، فلا بدّ من محرم لها يحفظها من فتنتها بهم، أو فتنتهم بها، سدًا للذرائع.

(31)

مسألة: إذا قال القاضي القديم العدل غير المتهم بشيء: إني كنتُ قد حكمت لزيد على عمرو بكذا: فإن القاضي الجديد يقبل قوله مطلقًا: سواء ذكر القاضي القديم مستند الحكم بأن كان بإقرار، أو بيِّنة، أو لا، وسواء كان قد سجّله في أوراق أو لا؛ للتلازم؛ حيث إن عزله لا يلزم منه منع قبول قوله فيما فعله سابقًا.

هذه آخر مسائل باب: "آداب القاضي" ويليه باب "طريق الحكم وصفته".

ص: 342

‌باب طريق الحكم وصفته

طريق كل شيء: ما يتوصل به إليه، والحكم: فصل الخصومات

(1)

(إذا حضر إليه الخصمان) يسنّ أن يجلسهما بين يديه و (قال: أيكما المدّعي)؛ لأن سؤاله عن المدعي منهما، لا تخصيص فيه لواحد منهما

(2)

(فإن سكت) القاضي (حتى يُبدأ) بالبناء للمفعول، أي حتى تكون البداءة بالكلام من جهتهما:(جاز) له ذلك

(3)

‌باب طريق الحكم وصفته

وفيه تسع وثلاثون مسألة:

(1)

مسألة: الحكم لغة: المنع، ومنه سُمِّي القاضي حاكمًا: لأنه يمنع الظالم من ظلمه، وهو في الاصطلاح: فصل الخصومات، والإلزام بذلك، والمراد بطريق الحكم: السبب الموصل إليه، والمراد بصفته: كيفية وطريقة الحكم.

(2)

مسألة: إذا حضر الخصمان عند القاضي: فإنه يسن أن يجلسهما بين يديه بدون تفضيل أحدهما على الآخر، ثم يقول - أي: القاضي -: أيُّكما المدَّعي، فيتكلَّم المدّعي بدعواه؛ لقواعد: الأولى: السنة القولية؛ وهي من وجهين: أولهما: قوله عليه السلام: "البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر" فيلزم من تقديم المدعي بالذكر هنا: السؤال عنه أولًا فيبدأ بالكلام في دعواه، ثم يتلوه المدَّعى عليه، ثانيهما: أنه "عليه السلام قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم" الثانية: التلازم؛ حيث إن السؤال عن المدّعي لا تخصيص ولا تقديم لأحدهما على الآخر فلزم صحته، الثالثة: المصلحة؛ حيث إن جلوسهما بين يديه أمكن للقاضي في العدل بينهما، وأسمع لحجتهما.

(3)

مسألة: إذا سكت القاضي، ولم يسأل عن المدَّعي، فبدأ كل واحد منهما بالكلام من جهتهما: فإن هذا يجوز، ولا يجوز أن يقول لأحدهما تكلَّم؛ للتلازم؛ حيث إن تساويهما في الخصومة يلزم منه: جواز الكلام من ناحيتهما معًا، ويلزم منه =

ص: 343

(فمن سبق بالدعوى: قدَّمه) الحاكم على خصمه

(4)

، وإن ادَّعيا معًا: أقرع بينهما، فإذا انتهت حكومته ادَّعى الآخر إن أراد

(5)

، ولا تُسمع دعوى مقلوبة

(6)

، ولا حسبة بحق الله تعالى: كعبادة، وحد، وكفارة، وتُسمع بينة بذلك، وبعتق وطلاق من غير دعوى

(7)

لا

عدم جواز طلب القاضي الكلام من أحدهما؛ لأنه تخصيص له وتفضيل، وهذا ظلم ظاهر للآخر يخشى أن يتسبَّب في كسر قلبه.

(4)

مسألة: إذا بدأ أحد الخصمين بدعواه قبل الآخر: فإنه يُقدِّمه القاضي، ويسمع كلامه قبل خصمه، فلو قال خصمه: أنا المدَّعي: لم يلتفت القاضي إليه، ويقول له: أجب خصمك عن دعواه، ثم ادَّع ما تراه فيما بعد؛ للتلازم؛ حيث إن سبقه لخصمه بالدعوى يلزم منه تقديمه؛ لأنه يُقدَّم بالسبق.

(5)

مسألة: إذا ادعيا معًا؛ بحيث إن كل واحد منهما يزعم أنه هو المدّعي على الآخر: فإن القاضي يُقرع بينهما، فمن أصابته القرعة جعله هو المدَّعي الأول، فإذا فرغ من دعواه، وحكم له أو عليه، سمع دعوى خصمه الآخر إن أراد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون القرعة يُلجأ إليها إذا تساوت الحقوق: أن تستعمل هي، لكون الخصمين قد تساويا عند القاضي.

(6)

مسألة: لا تُسمع دعوى مقلوبة: بأن يدَّعي من عليه الحق على من له الحق بأنه أخذ حقه كأن يقول زيد: "أنا أدّعي على عمرو: أنه يدَّعي عليّ بألف فأحلفني أنه لا حق له علي"؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "البيِّنة على المدعي، واليمين على من أنكر"، والدعوى المقلوبة بصورتها السابقة مخالفة لذلك.

(7)

مسألة: لا تسمع دعوى حسبة بحق الله تعالى كأن يدَّعي زيد على عمرو عند القاضي بأنه ترك عبادة من العبادات، أو اقترف زنا يستحق عليه حد، أو كفارة، ولكن تسمع بيّنة بحق الله، وحدّ، وكفارة بلا دعوى، وكذا: تسمع بيِّنة بعتق، وطلاق بلا دعوى؛ للتلازم؛ حيث يلزم من الدعوى: وجود مدَّعى عليه، وهنا لم يوجد ذلك فلزم أن تسمع البيِّنة بلا دعوى.

ص: 344

بيِّنة بحق معيَّن قبل دعواه

(8)

، فإذا حرَّر المدّعي دعواه: فللحاكم سؤال الخصم عنها، وإن لم يسأله سؤاله

(9)

(فإن أقرَّ له) بدعواه: (حكم له عليه) بسؤاله الحكم؛ لأن الحق للمدَّعي في الحكم، فلا يستوفيه إلا بسؤاله

(10)

(وإن أنكر) بأن قال - للمدعي قرضًا، أو ثمنًا -: ما أقرضني، أو ما باعني، أو لا يستحق عليّ ما ادَّعاه، ولا شيئًا منه، أو لا حقَّ له علي: صح الجواب، ما لم يعترف بسبب الحق

(11)

و (قال) الحاكم (للمدَّعي: إن

(8)

مسألة: لا تُسمع بيِّنة بحق شخص معيَّن قبل أن يدَّعي ذلك الشخص ذلك الحق بدعوى محررة؛ للتلازم؛ - كما سبق بيانه في مسألة (7) -.

(9)

مسألة: إذا قدَّم المدَّعي دعواه للقاضي وهي محرَّرة واضحة جلية: فللقاضي أن يسأل خصمه - وهو المدَّعى عليه -: سواء قال المدَّعي للقاضي اسأله عنها أو لم يقل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من شاهد الحال: أن يسأل القاضي المدَّعى عليه عن دعوى المدَّعي.

(10)

مسألة: إذا سأل القاضي المدَّعى عليه عن دعوى المدَّعي، وأقرَّ المدَّعى عليه بالدعوى: فإن القاضي يحكم للمدَّعي على المدَّعى عليه ويلزمه بحق المدَّعي؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقرار المدَّعى عليه: ثبوت الحكم عليه والحق للمدَّعي؛ لأن الإقرار لا احتمال فيه بشرط: أن يكون المقرّ جائز التصرُّف، فلا يتم ذلك إلا بسؤال المدَّعى عليه عنه.

(11)

مسألة: إذا سأل القاضي المدَّعى عليه عن دعوى المدَّعي كأن يقول المدَّعي: "إني أقرضته مائة درهم" أو "بعته ثوبًا بمائة" وما أعطانيها، وأنكر المدَّعى عليه الدَّعوى قائلًا:"ما أقرضني شيئًا، أو ما باعني شيئًا" أو قال: "لا يستحق علي ما ادَّعاه" أو "لا حقَّ له عندي" أو نحو ذلك من عبارات النفي المطلق: فإنه يصح الجواب - وهو: إنكاره، ويقبله القاضي بشرط: أن لا يعترف المدَّعى عليه بسبب الحق كأن يقول المدَّعى عليه: "أقرضتني مائة، أو بعتني ثوبًا ولكن ما لك عليّ شيء أو لا تستحق شيئًا عندي"، فإن اعترف بذلك: فإن جوابه - وهو: =

ص: 345

كان لك بيِّنة فأحضرها إن شئت، فإن أحضرها) أي: البيِّنة لم يسألها الحكم، ولم يُلقِّنها، فإذا شهدت:(سمعها) وحرم ترديدها، وانتهارها، وتعنتها (وحكم بها) أي: بالبيِّنة إذا اتضح له الحكم، وسأله المدَّعي

(12)

(ولا يحكم) القاضي (بعلمه) ولو في غير حد؛ لأن تجويز القضاء بعلم القاضي يفضي إلى تهمته، وحكمه بما يشتهي

(13)

(وإن قال

إنكاره لا يصح -؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نفي المدَّعى عليه نفيًا مطلقًا عين ما ادَّعاه عليه المدَّعي: صحة جوابه وإنكاره، ويلزم من اعتراف المدَّعى عليه بسبب الحق: عدم صحة جوابه وإنكاره.

(12)

مسألة: إذا أنكر المدَّعى عليه دعوى المدَّعي: فإن القاضي يطلب البيِّنة من المدَّعي على دعواه فيقول له: "إن كان لك بيِّنة فأحضرها إن شئت"، فإن أحضر البيِّنة: سمعها القاضي بلا ترديد أو تعنُّت، أو انتهار، أو زجر لهذه البيِّنة - إن كانت البيِّنة شهود - ولم يلقنها ثم يحكم القاضي بسبب تلك البيِّنة فورًا بشرطين: أولهما: أن يتّضح للقاضي الحكم بعد الاستفسار عن ذلك من المدَّعى عليه، ثانيهما: أن يطلب ويسأل المدَّعي القاضي أن يحكم بها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر" فتقديم ذكر البيِّنة يلزم تقديم سماعها من المدَّعي أولًا، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من تلقين الشهود الشهادة: ظلم المدَّعى عليه، ويلزم من ترديد أو تعنت، أو زجر، أو انتهار البيِّنة - وهم الشهود كتمان الشهادة؛ لأن الشهود يتأذون من ذلك الزجر، أو الانتهار.

(13)

مسألة: لا يجوز للقاضي أن يحكم على شخص بمجرد علمه فيما رآه أو سمعه في غير مجلسه: سواء كان ذلك في حد، أو في غير حد؛ للمصلحة: حيث إن ذلك ذريعة ووسيلة إلى حكمه بالباطل والحكم بالتشهي؛ إذ لو فتح هذا الباب لأدَّى ذلك إلى قتله وعقوبته لأناس لا ذنب لهم، وأدَّى إلى أخذ أموال الآخرين بغير حق، فإن قلتَ: يجوز أن يقضي بعلمه وهو قول للشافعي، ورواية عن أحمد؛ للسنة =

ص: 346

المدَّعي: ما لي بيِّنة: أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه)؛ لما روي أن رجلين اختصما إلى النبي عليه السلام: حضرمي وكندي، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي، وفي يدي، وليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي:"ألك بيِّنة؟ " قال: لا، قال:"فلك يمينه" وهو حديث حسن صحيح، قاله في "شرح المنتهى"، وتكون يمينه (على صفة جوابه) للمدَّعي (فإن سأل) المدَّعي من القاضي إحلافه:(أحلفه، وخلَّى سبيله) بعد تحليفه إياه؛ لأن الأصل براءة ذمّته (ولا يُعتد بيمينه) أي: يمين المدَّعى عليه (قبل) أمر الحاكم له و (مسألة المدَّعي) تحليفه؛ لأن الحق في اليمين للمدَّعي، فلا يُستوفى إلا بطلبه (وإن نكل) المدَّعى عليه عن اليمين:(قضى عليه) بالنكول رواه أحمد عن عثمان رضي الله عنه (فيقول) القاضي للمدَّعى عليه: (إن حلفت): خليت سبيلك (وإلّا) تحلف: (قضيت عليك) بالنكول (فإن لم يحلف: قضى عليه) بالنكول

(14)

...............

القولية: حيث إن هندًا لما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي قال لها النبي عليه السلام: "خذي ما يكفيكِ أنتِ وولدكِ بالمعروف" فحكم لها من غير بينة ولا إقرار؛ لعلمه بصدقها، وهذا يلزم منه أن يقضي القاضي بعلمه قلتُ: إن هذه فتيا وليست قضاء بدليل: أن النبي عليه السلام أفتى في حكم أبي سفيان من غير حضوره، ولو كان قضاء لم يحكم عليه في غيبته، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في حديث هند هل المقصود به القضاء، أو الفتيا؟ ".

(14)

مسألة: إذا طلب القاضي من المدَّعي أن يأتي ببيِّنة على دعواه ولم يأت بها: فإنَّ القاضي يطلب من المدَّعى عليه أن يحلف يمينًا أنه بريء ممّا ادّعاه المدَّعي جملة وتفصيلًا، ولا يطلب ذلك من المدَّعى عليه إلّا بعد أن يسأل المدَّعي ذلك، ويطلب من القاضي تحليف المدَّعى عليه، فإذا حلف المدَّعى عليه بأنه بريء مما ادَّعاه عليه المدَّعي: فإن القاضي يخلي سبيله ويطلقه، وإن نكل وامتنع المدَّعى عليه =

ص: 347

(فإن حلف المنكر) وخلّى الحاكم سبيله (ثم أحضر المدَّعي بيِّنة) عليه: (حكم) القاضي (بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق) هذا: إذا لم يكن قال: "لا بيِّنة لي" فإن قال ذلك، ثم أقامها: لم تسمع؛ لأنه مكذب لها

(15)

.

عن الحلف: فإن القاضي يقضي عليه بسبب ذلك النكول، ويلزمه بإعطاء الحق للمدَّعي؛ لقواعد؛ الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر" وهو عام، فيشمل ما نحن فيه، وهذا منكر فوجبت عليه اليمين فقط إذا لم يحضر المدَّعي بيّنة على دعواه، وأيضًا قوله عليه السلام للحضرمي لمّا لم يحضر بيّنة على خصمه - "فلك يمينه ما لك عليه إلّا يمينه" فإن حلف: أُخلي سبيله، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من امتناع المدَّعى عليه عن اليمين: ثبوت الحق عليه؛ لأنه لا يمتنع عنها عادة إلّا إذا كان الحق عليه ويلزم من كون الحق في اليمين للمدّعي: عدم جواز استيفاء ذلك اليمين إلّا بطلبه - أي: بطلب المدَّعي - الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن عثمان قد حكم على المدَّعى عليه بسبب النكول، فإن قلتَ: لِمَ كانت اليمين في جانب المدَّعى عليه، دون المدَّعي إذا لم يحضر المدَّعي بيِّنة على ما ادَّعاه؟ قلتُ: للاستصحاب؛ حيث إن الأصل براءة ذمة المدَّعى عليه؛ حيث لم يترجَّح جانب المدَّعي بشيء، فكان جانب المدَّعى عليه أولى باليمين؛ نظرًا لقوّته بأصل براءة الذمة كما صرّح بذلك ابن القيم.

(15)

مسألة: إذا طلب القاضي من المدَّعى عليه أن يحلف على إنكار ما ادَّعاه عليه المدَّعي - بعد أن لم يحضر المدّعي بيِّنة على دعواه - فحلف المدَّعى عليه على براءته ممّا ادعاه عليه المدَّعي، وخلى سبيله، ثم بعد ذلك: أحضر المدَّعي بيِّنة على دعواه: فإن القاضي يسمع البيِّنة ويحكم بتلك البيِّنة، وهذا مطلق، أي: سواء قال المدَّعي أولًا: "لا بينة لي" أو لم يقل تلك العبارة؛ للتلازم؛ حيث إن اليمين لا تُزيل الحق فيلزم من إثبات البيِّنة: الحكم بها على خصمه الذي حلف سابقًا، فإن قلتَ: إن قال المدَّعي أولًا: "لا بيِّنة لي"، ثم حلف المدَّعى عليه، ثم أحضر =

ص: 348

(فصل): (ولا تصح الدعوى إلا محرَّرة)؛ لأن الحكم مرتب عليها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وإنما أقضي على نحو ما أسمع" ولا تصح أيضًا إلّا (معلومة المدَّعى به) أي: تكون بشيء معلوم؛ ليتأتَّى الإلزام

(16)

(إلا) الدعوى بـ (ما نصححه مجهولًا كالوصية) بشيء من ماله (و) الدعوى (بعبد من عبيده) جعله (مهرًا ونحوه) كعوض خلع، أو أقرَّ به فيطالبه بما وجب له

(17)

، ويُعتبر أن يصرِّح بالدعوى، فلا يكفي:

المدَّعي البيِّنة: فلا تُسمع، ولا يحكم بها، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من إحضارها مع قوله:"لا بيِّنة لي": عدم سماعها وعدم قبولها؛ لأنه يكون بذلك مكذب لها قلتُ: لا يكون مكذبًا لها إذا أحضرها فيما بعد؛ لأن المدَّعي كان يقصد: أنه لا بيِّنة له الآن، ولم يقصد أنه لا بيِّنة له أبدًا، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين".

(16)

مسألة: إذا ادَّعى شخص على شخص آخر دعوى عند القاضي فلا تصح تلك الدعوى إلا محرَّرة موضَّحة بشيء معلوم: فإن كان المدَّعى عينًا حاضرة عينها بالإشارة، وإن كانت غائبة ذكر صفاتها وما يميزها عن غيرها فمثلًا: إذا كان المدعى دارًا فيجب أن يبين المدَّعي حدودها، وموضعها، فيدّعي المدَّعي قائلًا: إن تلك الدار بحدودها وحقوقها لي، وأنها في يد خصمه ظلمًا، وأنا أطالبه بردِّها؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "وإنما أقضي على نحو ما أسمع" بيَّن عليه السلام أنه يقضي على حسب ما يسمع من تفاصيل الدَّعوى الثانية: التلازم؛ حيث يلزم أن الدعوى يترتَّب عليها حكم القاضي، فيلزم من وضوح تفاصيلها: الحكم بها والإلزام بالحكم بسببها، ويلزم من عدم ذلك: عدم بيان الحكم؛ لأن القاضي سيسأل المدَّعى عليه عمّا ادَّعاه عليه المدَّعي، فإن اعترف بها: لزمه، ولا يمكن أن يلزمه مجهولًا.

(17)

مسألة: تصح الدعوى بالوصية والإقرار وإن كانت غير محرَّرة، أي: كانت مجهولة: كأن يدَّعي شخص على شخص آخر بأنه أوصى له بشيء من ماله كإحدى =

ص: 349

"لي عنده كذا" حتى يقول: "وأنا مطالبه به"

(18)

، ولا تسمع بمؤجَّل؛ لإثباته غير تدبير، واستيلاد، وكتابة

(19)

، ولا بد أن تنفكّ عمّا يُكذِّبها: فلا تصح على إنسان أنه قتل، أو سرق من عشرين سنة، وسنُّه دونها

(20)

، ولا يُعتبر فيها ذكر سبب

دوابه، أو أحد عبيده، أو أنه أقرّ له بمال مجهول، فيطالبه بما وجب له؛ للقياس؛ بيانه: كما يصح أن يقرّ، أو يوصي بمجهول: فكذلك يصح لخصمه أن يدَّعي عليه أنه أوصى أو أقرَّ له بمجهول والجامع: أن الجهل متسامح فيه في كل.

(18)

مسألة: يُشترط في الدعوى: أن يُصرِّح المدَّعي بها، ويطلب حقه من المدَّعى عليه فيقول:"لي عنده كذا، وأنا أطالبه به" فلا يكفي أن يقتصر على قوله: "لي عنده كذا" ويسكت؛ للتلازم؛ حيث إن المقصود من دعوى المدَّعي هو: المطالبة بإرجاع حقه فيلزم ذكر المطالبة به.

(19)

مسألة: يشترط في الدعوى: أن لا تكون الدعوى بشيء مؤجَّل لإثباته إلّا في حالتين: أولهما: إذا كانت الدعوى في دين وخاف سفر المدين - وهو المدَّعى عليه - أو سفر الشهود، ثانيهما: إذا كانت الدعوى في تدبير، أو استيلاد، أو كتابة، فإذا وُجدت هاتان الحالتان: فإن الدعوى تسمع، وفي غيرها لا تسمع؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من عدم جواز الطلب بالشيء قبل حلوله، وحبسه عليه: عدم جواز سماع الدعوى فيه، ويلزم من صحة الحكم في التدبير، والاستيلاد، والكتابة وإن تأخر أثرها: جواز سماع الدعوى وإن كانت مؤجَّلة، الثانية: المصلحة؛ حيث إن سفر المدين، أو الشهود يؤدي إلى ضياع حق المدَّعي، فجاز سماع دعواه وإن كان في شيء مؤجل، دفعًا للضَّرر عنه.

(20)

مسألة: يُشترط في الدعوى: أن تنفك عمّا يُكذِّبها، أو يشك فيها عرفًا وواقعًا كأن يدَّعي زيد البالغ من العمر عشرين سنة بأن عمرًا قد قتل منذ خمس وعشرين سنة وأنه شاهده يفعل ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ذلك: تكذيب دعواه قطعًا.

ص: 350

الاستحقاق

(21)

(وإن ادَّعى عقد نكاح أو) عقد (بيع، أو غيرهما) كإجارة: (فلا بدَّ من ذكر شروطه)؛ لأن الناس مختلفون في الشروط: فقد لا يكون العقد صحيحًا عند القاضي

(22)

، وإن ادَّعى استدامة الزوجية: لم يشترط ذكر شروط العقد

(23)

(وإن ادَّعت امرأة نكاح رجل؛ لطلب نفقة، أو مهر، أو نحوهما: سمعت دعواها)؛ لأنها تدّعي حقًا لها تضيفه إلى سببه (وإن لم تدَّع سوى النكاح) من نفقة، ومهر، وغيرهما:(لم تقبل) دعواها؛ لأن النكاح حق الزوج عليها، فلا تسمع دعواها بحق لغيرها

(24)

(21)

مسألة: لا يُشترط في الدعوى: أن يذكر المدَّعي سبب الاستحقاق، بل يكفي أن يقول:"لي عنده ألف درهم" دون ذكر سببها، وهل هي دين، أو ثمن مبيع، أو عوض خلع أو نحو ذلك؟؛ للمصلحة: حيث إن كثرة الأسباب في ذلك، وكثرة خفائها على المدَّعي يجعل ذلك شاقًا على تذكُّر ذلك، فدفعًا لذلك سقط عنه ذكر سبب الاستحقاق.

(22)

مسألة: إذا ادَّعى زيد: أنه عقد النكاح على مولية عمرو، أو باعه كذا، أو أجره كذا، ونحو ذلك من العقود: فيجب أن يذكر المدَّعي - وهو زيد - شروط ذلك العقد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اختلاف العلماء في شروط كل عقد: ذكر تلك الشروط التي بُني ذلك العقد عليها؛ لأن القاضي من العلماء فقد لا يكون ذلك العقد صحيحًا عند ذلك القاضي؛ لفقدان شرط من الشروط المعتبرة عنده.

(23)

مسألة: إذا ادَّعى زيد على امرأة أنه زوجها، وأن الزوجية مستمرة: فلا يُشترط ذكر شروط عقد الزواج؛ للتلازم؛ حيث إن زيدًا لم يدع عقدًا، وإنما ادَّعى خروجها عن طاعته فيلزم: عدم ذكر شروط العقد.

(24)

مسألة: إذا ادَّعت امرأة أنها زوجة فلان؛ لأجل أن تطلب نفقة لها، أو مهرًا لم يُؤدِّه إليها: فإن دعواها تسمع وتقبل أما إن ادَّعت أنها زوجته فقط، ولم تطلب شيئًا: فلا تقبل دعواها؛ للتلازم: حيث يلزم من ادِّعائها حقًا لها - وهو النفقة والمهر -: أن تسمع دعواها، وتقبل، ويلزم من ادِّعائها شيئًا ليس بحق لها، وهو =

ص: 351

(وإن ادَّعى) إنسان (الإرث: ذكر سببه)؛ لأن أسباب الإرث تختلف، فلا بد من تعيينه

(25)

، ويُعتبر تعيين مدَّعى به إن كان حاضرًا بالمجلس، وإحضار عين بالبلد لتعين، وإن كانت غائبة: وصفها كسَلَمَ، والأولى: ذكر قيمتها أيضًا

(26)

(وتُعتبر عدالة البيِّنة ظاهرًا وباطنًا)؛ لقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} إلا في عقد نكاح فتكفي العدالة ظاهرًا - كما تقدم -

(27)

(ومن جُهلت عدالته: سأل) القاضي

الزوجية واستمراره بدون أن تطلب شيئًا آخر: عدم سماع دعواها، وعدم القبول، لأن النكاح حق الزوج عليها.

(25)

مسألة: إذا ادَّعى زيد على عمرو: أنه يرث من أبيه: فيجب أن يذكر المدّعي - وهو زيد - سبب هذا الإرث؛ للتلازم؛ حيث إن أسباب الإرث تختلف باختلاف الوارث، والمورِّث، والقرب والبعد فيلزم منه: أن يُعيِّن سبب ذلك الإرث حتى يحكم القاضي على ضوء ذلك.

(26)

مسألة: يُشترط أن يُعيِّن المدَّعي مدَّعى به والإشارة إليه إن كان حاضرًا في مجلس القضاء، وإحضاره إن كان بنفس البلد، وإن كان غائبًا: يجب أن يصفه وصفًا يتميّز به عن غيره كوصف العين المسلم فيها، ويُستحب أن يذكر قيمته بالإضافة إلى ذكر صفته؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اختلاف الحكم باختلاف الشيء المدَّعى به، وصفته: أن يعين ذلك المدعى به، بالإشارة، والإحضار في مجلس القضاء، أو وصفه إن كان غائبًا وذلك لإزالة اللبس.

(27)

مسألة: يُشترط في الشهود الذين يشهدون مع المدَّعي أن يكونوا عدولًا ظاهرًا، ويحكم بها إن لم يعلم خلافها؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال عليه السلام: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فاشترط العدالة في الشاهدين الثانية: السنة الفعلية؛ حيث إنه عليه السلام قد قبل شهادة الأعرابي، وهو لا يعلم عنه إلا ما ظهر منه، وهو الإسلام، الثالثة: قول الصحابي؛ حيث إن عمر قال: "المسلمون عدول"، فإن قلتَ: لا تقبل إلّا شهادة عدلين ظاهرًا وباطنًا إلّا في عقد النكاح فتكفي =

ص: 352

(عنه) ممّن له به خبرة باطنة بصحبة، أو معاملة، ونحوهما

(28)

، وتقدَّم بيِّنة جرح على تعديل

(29)

، وتعديل الخصم وحده، أو تصديقه للشاهد تعديل له

(30)

(وإن علم)

العدالة ظاهرًا، وهو ما ذكره المصنف هنا قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك التفصيل، ثم إن العدالة باطنًا يصعب الاطّلاع عليها، فإن قلتَ: لم اشترطت العدالة في الشهود؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حقوق الآخرين من أن يأكلها الظلمة.

(28)

مسألة: إذا كان الشاهدان، أو أحدهما مجهول الحال في العدالة: فيجب على القاضي أن يسأل عن عدالتهما ممّن يعرفهما بسبب جوار، أو صحبة في سفر، أو مشاركة في مال، لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من اشتراط العدالة في الشاهدين: وجوب العلم بها بأي طريق يغلب على ظن القاضي وجودها بهما، الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن رجلًا قد زكَّى رجلًا آخر عند عمر فقال له عمر: أنت جاره تعرف ليله ونهاره؟ قال: لا، قال: صحبته في السفر الذي تظهر فيه جواهر الرجال؟ قال: لا، قال: عاملته بالدينار والدرهم؟ قال: لا، قال عمر: لست تعرفه، فهذا يدل على أن الشخص المسؤول عن عدالة شخص آخر يجب أن يكون عارفًا له بسبب جوار، أو صحبة في سفر، أو معاملة في تجارة.

(29)

مسألة: إذا اختلف زيد وعمرو على بكر فقال زيد: إن بكرًا ليس بعدل بسبب كذا وكذا، وقال عمرو: إن بكرًا عدل في مجلس القاضي: فإنه - أي: القاضي يقدم قول المجرِّح - وهو زيد - فلا يقبل بكرًا شاهدًا؛ للتلازم؛ حيث إن المجرِّح - وهو زيد - قد علم بزيادة علم خفي على المعدِّل، أما المعدِّل - وهو عمرو - فقد شهد بما ظهر على بكر، ومن معه زيادة علم مُقدَّم على من ليس معه ذلك.

(30)

مسألة: إذا شهد مجهول الحال في العدالة، وعدَّله الخصم - وهو المشهود عليه -، أو صدَّقه: فإن ذلك يعتبر تعديلًا لذلك الشاهد في تلك القضية التي شهد فيها، ويجب على القاضي الحكم بشهادته؛ للتلازم؛ حيث إن البحث عن عدالة الشاهد =

ص: 353

القاضي (عدالته) أي: عدالة الشاهد: (عمل بها) ولم يحتج إلى التزكية، وكذا: لو علم فسقه

(31)

(وإن جرَّح الخصم الشهود: كُلِّف البينة به) أي بالجرح، ولا بدَّ من بيان سببه عن رؤية، أو استفاضة

(32)

(وانظر) من ادَّعى الجرح (له ثلاثة أيام إن

كان لحفظ حق المشهود عليه، وقد اعترف بعدالته، أو صدقه، فيلزم ثبوت عدالته في تلك القضية، فيلزم القاضي الحكم بشهادته، وإن كان للمشهود عليه حق فقد أسقطه بذلك فإن قلتَ: لا يجوز للقاضي الحكم بشهادة ذلك الشاهد المجهول الحال وإن اعترف المشهود عليه بعدالته، أو صدَّقه، وهو رواية عن أحمد، وقول للشافعي؛ للتلازم؛ حيث إن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى فيلزم عدم الحكم بشهادة ذلك الشاهد، ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول فاسق: لم يجز للقاضي الحكم به؛ لعدم العدالة قلتُ: ما نحن فيه مجهول حال، وليس بفاسق وهما مختلفان، فمجهول الحال الأصل فيه العدالة، بخلاف الفاسق، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازمين" و"الخلاف في مجهول الحال ما المقصود فيه؟ ".

(31)

مسألة: إذا علم القاضي عدالة الشاهد من قبله: عمل بها، وحكم بناء على ذلك، وإن علم فسق الشاهد: عمل به، ولم يحكم بناء على ذلك، ولا يحتاج - أي: القاضي - إلى تزكية وتعديل أحد، أو تجريحه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون القاضي قد ثبتت عدالته - بسبب توليته للقضاء -: الاكتفاء بتعديله للشاهد أو تجريحه.

(32)

مسألة: إذا جرَّح الخصم - وهو المشهود عليه - الشهود الذين أتى بهم خصمه: فإن القاضي يطلب من ذلك الخصم أن يذكر دليلًا على هذا التجريح، وأن يذكر سببه: بأن يطلب القاضي سبب تجريح الشاهدين، أو أحدهما وهل كان ذلك بسبب رؤية على فعل فسق، أو اشتهر عنهما الفسق أو نحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن اختلاف الناس في أسباب الجرح يلزم منه: أن يطلب القاضي بيِّنة على ذلك =

ص: 354

طلبه، وللمدَّعي ملازمته) أي: ملازمة خصمه في مدَّة الإنظار؛ لئلا يهرب (فإن لم يأت) مدعي الجرح (ببينة: حكم عليه)؛ لأن عجزه عن إقامة البيِّنة على الجرح في المدة المذكورة دليل على عدم ما ادَّعاه

(33)

(وإن جهل) القاضي (حال البينة طلب من المدَّعي تزكيتهم)؛ لتثبت عدالتهم فيحكم له (ويكفي فيها) أي: في التزكية (عدلان يشهدان بعدالته) أي: بعدالة الشاهد

(34)

(ولا يُقبل في الترجمة و) في (التزكية و) في

التجريح؛ لأن بعض الناس يُجرِّح بشيء ليس بجرح عند الآخرين كمن سُئل عن شخص وقيل له: لماذا لا تأخذ الحديث من فلان؟ فقال: لأنه إذا ركب البرذون يجعله يركض به، فهذا يدل على سفاهة وخفَّة، فقالوا له: قد يكون له عمل عاجل، أو قد يكون البرذون قد استعجل به من غير إرادة من الراكب، وغير ذلك من الاحتمالات، وكذا: ترى اليوم بعض من لا يخاف الله يقلل من قيمة شخص آخر، ويقطع أرزاقه ويشوّه سمعته بين الخلق بسبب شيء قد لاحظه عليه قد عمله بسبب مرض، أو أي علَّة لا يريد أحدًا أن يطَّلع عليها، فلذلك أوجب المحققون من العلماء: بيان سبب التجريح، وسبب التزكية والتعديل حتى يحكم الآخرون فيهما.

(33)

مسألة: إذا جرَّح الخصم - وهو: المشهود عليه - الشهود، وطلب القاضي بيان سبب التجريح، فطلب المجرِّح مدَّةً ليأتي بذلك: فللقاضي أن يمهله ثلاثة أيام لذلك، ومن حق المدَّعي أن يلازم الخصم - وهو المجرِّح - مدة الثلاثة الأيام تلك وإذا لم يأت بذلك: فإن القاضي يحكم عليه؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن إلزامه ببيان سبب التجريح في الحال تضييق عليه، وإمهاله أكثر من ثلاثة أيام فيه مضرَّة على المدَّعي الذي أتى بالشهود، وملازمة المجرح من قبل المدَّعي فيه الحفاظ عليه من الهروب، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عدم إتيانه بسبب التجريح: عدم وجود التجريح أصلًا؛ لأن ذلك دليل على بطلان دعواه الجرح.

(34)

مسألة: إذا جهل القاضي حال الشاهدين: فإنه يطلب من المدَّعي أن يُحضر =

ص: 355

(الجرح، والتعريف) عند حاكم (والرسالة) إلى قاضي آخر بكتابه ونحوه (إلا قول عدلين) إن كان ذلك فيما يُعتبر فيه شهادة عدلين وإلا: فحكم ذلك حكم الشهادة، على ما يأتي تفصيله

(35)

، وإن قال المدَّعي: لي بينة، وأُريد يمينه: فإن كانت بالمجلس: فليس له إلّا إحداهما، وإلا: فله ذلك

(36)

، وإن سأل ملازمته حتى يقيمها: أجيب في

مُزكِّيين عدلين يشهدان أن الشاهدين عدلان؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهذا عام في نفس الشهود، وفيمن يشهد أنهما عدلان - وهما المزكيان - الثانية: قول الصحابي؛ حيث إن عمر لما جهل حال شاهدين طلب من المدَّعي إحضار من يشهد بأنهما عدلان.

(35)

مسألة: يُشترط قول عدلين في قبول الترجمة عمّن لا يفهم كلامه عند حاكم لا يعرف لسان الخصم، وقبول التزكية، وقبول التجريح، وقبول التعريف بالمدَّعي، والمدَّعى عليه، وتعريف الشهود، والمشهود به، والمحكوم عليه، والمحكوم به، والمحكوم له، وتعريف المثبت له، والمثبت عليه، ونفس المثبت في إرسال وكتاب قاض إلى قاضي آخر، وقبول قول نقل من امرأة أرسل إليها لتُستحلف؛ للمصلحة: حيث إن اشتراط العدلين في هذه الأمور أغلب على الظن في حصول ذلك، وآكد للقاضي، وأكثر احتياطًا للدِّين، فلزم ذلك الشرط.

(36)

مسألة: إذا قال المدَّعي: "لي بيِّنة، وأريد يمينه أيضًا": فليس له إلّا البيِّنة، أو يمين المدَّعى عليه إن كانت البيِّنة حاضرة في مجلس القضاء، أما إن كانت البيِّنة ليست حاضرة في المجلس: فللمدَّعي تحليف المدَّعى عليه في المجلس، وإقامة البيِّنة فيما بعد؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "شاهداك أو يمينه" وهذا واجب مخيَّر، فأيهما حصل: يكتفى فيه، ولا يجمع بينهما إذا كانا حاصلين في نفس المجلس؛ لعدم جواز الجمع بين المبدل، والبدل، وهذا بخلاف ما إذا كانت البيِّنة في غير مجلس القضاء فيمكن ذلك.

ص: 356

المجلس، فإن لم يحضرها فيه: صرفه؛ لأنه لم يثبت له قبله حق حتى يحبس به

(37)

(ويحكم على الغائب) مسافة القصر (إذا ثبت عليه الحق)؛ لحديث هند، قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال:"خذي ما يكفيكِ، وولدكِ بالمعروف" متفق عليه، فتسمع الدعوى والبيِّنة على الغائب مسافة قصر، وعلى غير مكلَّف، ويحكم بها، ثم إذا حضر الغائب: فهو على حجته

(38)

(وإن ادَّعى) إنسان (على حاضر في البلد غائب عن مجلس الحكم) أو على مسافر دون مسافة قصر، غير مستتر (وأتى) المدَّعي (ببيِّنة: لم تسمع الدعوى، ولا البيِّنة) عليه حتى يحضر مجلس الحكم؛ لأنه يمكن سؤاله، فلم يجز الحكم عليه قبله

(39)

.

(37)

مسألة: إذا طلب المدَّعي ملازمة المدَّعى عليه إلى أن يقيم بينة على دعواه: فإن طلبه يُجاب في المجلس، فإن لم يحضر المدَّعي تلك البيِّنة على دعواه في المجلس: فإنه يُصرف المدَّعى عليه، ولا يلازمه، ولا يقيم به كفيلًا؛ للتلازم؛ حيث إن ملازمته من ضرورة إقامة البيِّنة فيلزم إجابة طلبه، ويلزم من عدم إحضار المدَّعي للبينة: عدم ثبوت شيء على المدَّعى عليه، ولا يوجد شيء يستلزم الحبس به.

(38)

مسألة: يجوز للقاضي أن يحكم على الغائب في بلد يبعد عن بلد القاضي مسافة قصر - وهو 82 كم - بشرط: ثبوت الحق عليه بعد سماع الدعوى عليه، وكذا: تسمع الدعوى على غير مكلف: كالصبي والمجنون ويحكم بها، فإذا حضر الغائب، أو كُلِّف غير المكلَّف فهو على حجّته؛ للسنة القولية: حيث إن هندًا لما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي قال عليه السلام: "خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف" فقضى عليه السلام على الغائب - وهو: أبو سفيان -، ومثله غير المكلَّف؛ لعدم الفارق؛ حيث إن كلًّا منهما لا يعبر عن نفسه، وهذا من باب:"مفهوم الموافقة".

(39)

مسألة: إذا ادَّعى زيد على عمرو بدعوى، وعمرو - المدَّعى عليه - غائب عن =

ص: 357

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مجلس الحكم، وهو حاضر في نفس البلد، أو مسافر إلى بلد آخر مسافة أقل من مسافة قصر - وهي 82 كم - وعمرو غير مستتر: فلا يجوز للقاضي أن يسمع دعوى زيد، ولا بيِّنته حتى يحضر عمرو - المدَّعى عليه - مجلس الحكم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم المشقّة في حضور عمرو، وإمكان سؤاله عن الدعوى: عدم جواز الحكم في الدعوى بدون حضوره.

هذه آخر مسائل باب: "طريق الحكم وصفته" ويليه باب "كتاب القاضي إلى القاضي".

ص: 358

‌باب كتاب القاضي إلى القاضي

أجمعت الأمة على قبوله، أي: كتاب القاضي إلى القاضي؛ لدعاء الحاجة إليه

(1)

فـ (يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق) لآدمي كالقرض، والبيع، والإجارة (حتى القذف) والطلاق، والقود، والنكاح، والنسب؛ لأنها حقوق آدمي لا تُدرأ بالشبهات و (لا) يُقبل (في حدود الله) تعالى (كحد الزنا ونحوه) كشرب الخمر؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على الستر، والدرء بالشبهات

(2)

(ويقبل) كتاب القاضي (فيما

‌باب كتاب القاضي إلى القاضي

وفيه خمس مسائل:

(1)

مسألة: المراد من كتاب القاضي إلى القاضي هو: أن يكون زيد في بغداد، وله حق على عمرو الذي هو ساكن مكة، ولا يتمكن زيد من إثبات حقه وأخذه في مكة؛ لكونه يتعذَّر عليه - أي على زيد - السفر مع شهوده؛ إلى مكة لكونهم غير معروفين بمكة، فيقوم قاضي بغداد بإثبات الدعوى، وقبول شهادة الشهود، ويكتبها في خطاب ويرسلها إلى قاضي مكة، فيقوم قاضي مكة باستدعاء المدَّعى عليه - وهو عمرو - ويسأله عن الدعوى: فإن أقرَّ بها: حكم عليه وأخذ حق زيد، وأرسله إلى قاضي بغداد، وإن أنكر عمرو: بيَّن سبب هذا وأرسله إلى قاضي بغداد.

(2)

مسألة: كتاب القاضي إلى القاضي مقبول في كل حق لآدمي مثل: القرض، والبيع، والإجارة، والغصب، والصلح، والوصية بمال، والرهن، والجناية الموجبة للمال، والقذف، والطلاق، والقصاص، والنكاح، وإثبات النسب، والخلع، ونحو ذلك من الحقوق التي توجب مالًا، ولكن لا تقبل في حدود الله كأن يدَّعي زيد - الذي ببغداد على عمرو - الذي بمكة - بأنه قد زنى، أو شرب الخمر؛ للمصلحة: حيث إن كتاب القاضي إلى القاضي فيما فيه حقوق يقبل؛ لأن =

ص: 359

حكم به) الكاتب؛ (لينفذه) المكتوب إليه (وإن كان) كل منهما (في بلد واحد)؛ لأن حكم الحاكم يجب إمضاؤه على كل حال (ولا يقبل) كتابه (فيما ثبت عنده ليحكم) المكتوب إليه (به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر) فأكثر؛ لأنه نقل شهادة إلى المكتوب إليه، فلم يجز مع القرب كالشهادة على الشهادة

(3)

(ويجوز أن يكتب) كتابه (إلى قاضي

الحاجة داعية إليه؛ إذ في ذلك حفظ حقوق الناس في حين عدم المشقة والضيق عليهم ولا تقبل في حدود ليس فيها حق لآدمي؛ لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه في تلك الحدود، ولأنها تدرأ بالشبهات، والإسقاط بالرجوع عن الإقرار، وكتاب القاضي إلى القاضي شهادة وفيه شبهة؛ لكونه يتطرّق إليه احتمال السهو والخطأ وذلك في شهود الفرع.

(3)

مسألة: كتاب القاضي المقبول على قسمين: القسم الأول: أن يكتب القاضي بما حكم به كأن يحكم على رجل بحق فيتغيب قبل وفائه، أو يدَّعي عمرو حقًا على غائب، ويسأل القاضي أن يحكم عليه، فيحكم عليه، ويسأله أن يكتب له كتابًا بحكمه إلى قاضي البلد الذي فيه ذلك الغائب، فيكتب إليه: فيجب على القاضي المكتوب إليه قبوله وإمضاؤه: سواء كان القاضي الكاتب، والقاضي المكتوب في بلدين متباعدين، أو في بلد واحد، كل واحد في ناحية منه، للمصلحة: حيث إن حكم القاضي يجب إمضاؤه على كل حال فيلزم قبوله، وإلا تعطّلت الأحكام، وكثرت الخصومات، القسم الثاني: أن يكتب القاضي بعلمه شهادة شاهدين عنده، ويُثبت ذلك، ويرسله إلى القاضي الآخر - وهو المكتوب إليه - وذلك ليحكم بالقضية، فيجب على القاضي الآخر - المكتوب إليه، أن يقبل ذلك إذا كان بين القاضي الكاتب، والقاضي المكتوب إليه مسافة قصر فأكثر - وهي 82 كم -، أما إن كانت المسافة التي بينهما قصيرة - أقل من 82 كم -: فلا تقبل هذه الكتابة؛ للقياس؛ بيانه: كما لا تقبل الشهادة على الشهادة إلا إذا وجدت مسافة قصر بين شاهد الأصل وشاهد الفرع، ولا تقبل ما هو أقل من ذلك، فكذلك الحال هنا، =

ص: 360

معيَّن و) أن يكتبه (إلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين) من غير تعيين، ويلزم من وصل إليه قبوله؛ لأنه كتاب حاكم من ولايته، وصل إلى حاكم، فلزمه قبوله، كما لو كتب إلى معيَّن

(4)

(ولا يقبل) كتاب القاضي (إلّا أن يُشهد به القاضي الكاتب شاهدين) عدلين يضبطان معناه، وما يتعلَّق به الحكم (فيقرأه) القاضي الكاتب (عليهما) أي: على الشاهدين (ثم يقول: اشهدا: أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان) أو إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين، (ثم يدفعه إليهما) أي: إلى العدلين، اللذين شهدا بما في الكتاب، فإذا وصلا: دفعاه إلى المكتوب إليه، وقالا: نشهد: أن هذا كتاب فلان إليك، كتبه بقلمه، والاحتياط ختمه، بعد أن يقرأه عليهما، ولا يُشترط، وإن أشهدهما عليه مدرجًا مختومًا: لم يصح

(5)

.

والجامع: أن كلًّا منهما نقل شهادة.

(4)

مسألة: يجوز أن يكتب القاضي إلى قاضٍ معين في جهته، أو بلد آخر قائلًا:"إلى فلان قاض البلد أو الجهة الفلانية" فيلزمه قبوله - كما سبق بيانه - ويجوز أن يكتب إلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين وحكّامهم من غير تعيين، ويجب على من وصل إليه من القضاة قبوله والعمل به؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو كتب إلى معين فيجب على هذا المعين قبوله والعمل به فكذلك إذا كتب إلى غير معين من قضاة المسلمين، ووصل واحدًا منهم فيجب عليه أن يعمل به والجامع: أنه كتاب من ولايته وصل إلى حاكم آخر، فإن قلتَ: لا يجوز أن يكتب إلى غير معين، وهو قول أبي حنيفة قلتُ: لا فرق بين الخطاب الخاص، والخطاب العام بوجوب العمل إلا أن في الخصوصية زيادة تأكيد فقط.

(5)

مسألة: يُشترط في كتاب القاضي إلى القاضي: أن يُشهد القاضي الكاتب شاهدين عدلين على أن هذا كتابه إلى القاضي الفلاني - ويسميه - أو هذا كتابه إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين، ثم يدفعه إليهما، فإذا وصلا إلى القاضي المكتوب إليه قالا: نشهد: أن هذا كتاب فلان إليك، وأنه كتبه بقلمه، وحينئذ يلزم =

ص: 361

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القاضي المكتوب إليه قبوله: سواء قرأ القاضي الكاتب على الشاهدين محتوى ما في الكتاب، أو دفعه إليهما مدرجًا مختومًا إذا عرف خطه؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ وهو من وجهين: أولهما: كما أن العقود يشترط فيها شهود شاهدين عدلين فكذلك الحال هنا، والجامع: أنه لا يكفي الظاهر في كل، ثانيهما: كما أن وصية الرجل إذا وجدت عند رأسه، أو محفوظة بين أوراقه وعرف خطه نفذ ما فيها: سواء أشهد عليها أو لا، فكذلك كتابة القاضي إلى القاضي مثل ذلك لا يُحتاج إلى أن يشهد الشاهدان إلى ما تضمنه ذلك الكتاب، وإنما يشهدان بأنه كتاب القاضي، والجامع: أنه في كل منهما يغلب على الظن أنه صدر من صاحبه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن العمل بكتابته إذا عرف خطه: فيه منع من تعطيل الأحكام، وتيسير لها وإن لم يشهد الشاهدان بما تضمنه ذلك الكتاب، فإن قلتَ: إن أشهد الشاهدين على الكتاب، وهو مدرج مختوم: فإنه لا يصح، ولا يلزم القاضي المكتوب إليه قبوله، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث إنه لا يجوز لأي شخصٍ أن يشهد إلّا بما يعلم فيلزم من ذلك أن يقرأه عليهما، ويعلمهما بما تضمنه ذلك الكتاب قلتُ: هذا لا يلزم؛ لأن المطلوب من الشاهدين أن يشهدا أن هذا كتاب القاضي سلمنا إياه وذلك معلوم لهما، أما ما يتضمنه ذلك الكتاب فليست الشهادة عليه.

[فرع]: يستحب أن يختم القاضي الكاتب كتابه بختمه، ولا يجب الختم؛ لقاعدتين: الأولى: المصلحة؛ حيث إن ذلك فيه احتياط للكتاب من أن يطَّلع عليه؛ الثانية: التلازم؛ حيث إن الاعتماد على شهادة الشاهدين، لا على الختم فلم يجب الختم.

هذه آخر مسائل باب: "كتاب القاضي إلى القاضي" ويليه باب: "قسمة الأملاك".

ص: 362

‌باب القسمة

من قسمت الشيء: إذا جعلته أقسامًا، والقِسم - بكسر القاف -: النصيب، وهي نوعان

(1)

،

(2)

: قسمة تراضٍ، وأشار إليها بقوله:(لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر) ولو على بعض الشركاء (أو) لا تنقسم (إلا برد عوض) من أحدهما على الآخر (إلا برضاء الشركاء) كلهم؛ لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد وغيره، وذلك (كالدور الصغار، والحمام، والطاحون الصغيرين) والشجر المفرد (والأرض التي لا تتعدَّل بأجزاء، ولا قيمة كبناء أو بئر) أو معدن (في بعضها) أي: بعض الأرض (فهذه القسمة في حكم البيع) تجوز بتراضيهما، ويجوز فيها ما يجوز في البيع خاصة (ولا يجبر من امتنع) منهما (من قسمتها)؛ لأنها معاوضة، ولما فيها من الضرر

(3)

، ومن دعا شريكه

‌باب قسمة الأملاك وتدخُّل القاضي في ذلك

وفيه تسع عشرة مسألة:

(1)

مسألة: تقسيم الشيء: جعله أقسامًا، يقال:"قاسمه المال": إذا ميّز نصيبه من نصيب غيره وأفرده لخاصته.

(2)

مسألة: قسمة الأملاك جائزة بنوعيها - وهما: قسمة تراضي، وقسمة إجبار -؛ لقواعد: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} وقال: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "الشفعة فيما لم يقسم" الثالثة: السنة الفعلية؛ حيث قسَّم النبي عليه السلام خيبر وكان يقسم الغنائم، فإن قلتَ: لِمَ شُرعت القسمة؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن الناس بحاجة إلى قسمة ما اشتركوا فيه من أملاك؛ ليتمكَّن كل واحد من الشركاء من التصرف بماله تصرفًا مطلقًا، والتخلُّص من سوء الشراكة، وكثرة الأيدي على المال.

(3)

مسألة: في الأول - من نوعي قسمة الأملاك - وهي: قسمة تراضي، والمراد منه: =

ص: 363

فيها إلى بيع: أُجبر، فإن أبى: باعه الحاكم عليهما، وقسم الثمن بينهما على قدر حصصهما، وكذا: لو طلب الإجارة، ولو في وقف، والضرر المانع من قسمة الإجبار نقص القيمة بالقسمة

(4)

، ومن بينهما دار لها علو وسفل، وطلب أحدهما جعل السفل

أن يكون بين شريكين - فأكثر - دار، أو دكان، أو أرض صغيرة ضيقة، ونحو ذلك مما لا تمكن قسمته إلا بضرر يلحق أحد الشريكين، أو برد عوض من أحدهما على الآخر، فهذه لا تجوز قسمتها إلّا برضى الشريكين - أو الشركاء - ولا يجبر من امتنع، وتكون القسمة هنا في حكم البيع لا يصح إلّا برضاهما ونحو ذلك من شروط البيع؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" فحرم كل شيء يُلحق الضرر بأي مسلم؛ لأن النفي هنا نهي، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، وهو عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "ضرر وضرار" نكرة في سياق نفي، وهي من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حماية حقوق المسلمين من أن تؤكل بالحيل.

(4)

مسألة: إذا كان زيد شريكًا لعمرو في ملكية دار ضيقة لا تقبل التقسيم إلّا بضرر - وهو نقص القيمة - فطلب زيد بيع تلك الدار، أو تأجيرها، فأبى شريكه - وهو عمرو -: فإن القاضي يبيعها، أو يؤجرها ويقسّم ثمنها - إذا باعها - أو أجرتها - إذا أجرها - على الشريكين على قدر حصصهما في ملكها: سواء كانت الدار خالصة، أو وقفًا عليهما؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما يجوز بيع العين المرهونة إذا لم يفِ الراهن بدينه: سواء امتنع عن بيعها أو لا، فكذلك الحال هنا والجامع: أن كلًّا منهما حق عليه، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الطالب لبيعها، أو تأجيرها أراد بذلك التخلُّص من ضرر الشراكة، ومجرّد بيعها، أو تأجيرها لا يلحق ضررًا بالشريك الآخر بخلاف ما لو طلب تقسيمها؛ لأن قيمتها تنقص بالقسمة.

ص: 364

لواحد، والعلو لآخر: لم يجبر الممتنع

(5)

، النوع الثاني: قسمة إجبار وقد ذكرها بقوله: (وأما ما لا ضرر) في قسمته (ولا ردَّ عوض في قسمته كالقرية، والبستان، والدار الكبيرة، والأرض) الواسعة (والدكاكين الواسعة، والمكيل، والموزون من جنس واحد كالأدهان، والألبان، ونحوها إذا طلب الشريك قسمتها: أُجبر) شريكه (الآخر عليها) إن امتنع من القسمة مع شريكه، ويقسم عن غير مكلَّف وليه، فإن امتنع: أُجبر ويقسم حاكم على غائب من الشريكين بطلب شريكه أو وليه

(6)

، ومن دعا شريكه في بستان إلى قسم شجره فقط: لم يُجبر، وإلى قسم أرضه: أُجبر، ودخل الشجر تبعًا

(7)

(وهذه القسمة) وهي: قسمة

(5)

مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو بملكية دار لها دور علوي، ودور سفلي، وطلب زيد أن يكون هو في الدور العلوي، وعمرو يكون في الدور السفلي، أو بالعكس، وامتنع عمرو: فإنه لا يُجبر على ذلك؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه مفسدة ومضرَّة على الممتنع، فدفعًا لذلك: فإنه لا يُجبر.

(6)

مسألة: في الثاني - من نوعي قسمة الأملاك - وهو: قسمة إجبار، والمراد منه: أن يكون بين شريكين - فأكثر - دار، أو أرض، أو دكاكين واسعة، أو بستان كبير أو مكيلات وموزونات ونحو ذلك ممّا تمكن قسمته بدون إلحاق ضرر بأحد الشريكين، أو برد عوض من أحدهما إلى الآخر بسبب تلك القسمة: فهذه تجوز قسمتها إذا طلب أحد الشريكين ذلك، فإن أبى شريكه الآخر: فإن القاضي يجبره عليها: سواء كان هذا الشريك هو المالك بنفسه، أو هو ولي المالك، وسواء كان ذلك الشريك حاضرًا، أو غائبًا؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أنه من حق كل مالك في سائر الحقوق طلب ذلك فكذلك الحال هنا، والجامع: أن كلًّا منهما حق عليه الثانية: المصلحة؛ حيث إن الطالب لقسمتها يريد إزالة الضرر اللاحق إليه بسبب الشراكة، ويُريد التصرف بحقه ونصيبه بكامل حريته كيفما شاء.

(7)

مسألة: إذا اشترك زيد وعمرو في بستان، ودعا زيد عمرًا إلى تقسيم الشجر الذي =

ص: 365

الإجبار (إفراز) لحق أحد الشريكين من الآخر (لا بيع)؛ لأنها تخالفه في الأحكام: فيصح قسم لحم هدي، وأضاحي، وثمر يخرص خرصًا، وما يكال وزنًا، وعكسه، وموقوف ولو على جهة، ولا يحنث بها من حلف لا يبيع، ومتى ظهر فيها غبن فاحش: بطلت

(8)

(ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم و) أن يتقاسموا (بقاسم

فيه بينهما دون أرضه: فإن عمرًا لا يُجبر على تلك القسمة، أما إذا دعاه زيد إلى قسمة أرض البستان: فإنه يجبر على تلك القسمة، ويكون الشجر الذي عليها تبعًا للأرض المقسومة؛ للمصلحة: حيث إن قسمة الشجر يلحق الضرر بشريكه - وهو عمرو - فدفعًا لذلك: شرع عدم إجباره؛ لأن الشجر تابع للأرض غير مستقل بنفسه، أما إذا دعاه إلى قسمة الأرض: فيُجبر شريكه على قسمتها؛ لأن فيه منفعة للطالب - زيد -، وعدم تضرُّر شريكه فشرع إجباره على ذلك.

(8)

مسألة: قسمة الإجبار - السابق بيانها في مسألة (6) - هي: إفراز وعزل لحق ونصيب أحد الشريكين من حق ونصيب الآخر، وليست بيعًا، وبناء عليه ترتب على ذلك أحكام شرعية: منها: أنه يصح قسم لحم الهدي، والأضحية مع عدم جواز بيعها، ويصح أيضًا: قسم ثمر يخرص من تمر ورطب ونحوهما مع عدم صحة بيعهما، ويصح أيضًا قسم ما يكال من ربوي وغيره عن طريق الوزن، وقسم ما يوزن من ربوي وغيره عن طريق الكيل وإن لم يقبض في المجلس مع عدم صحة البيع في ذلك، ويصح أيضًا: قسم موقوف: سواء على جهة واحدة، أو على جهتين مع عدم صحة ذلك، وأيضًا: أنه إذا حلف بأنه لا يبيع ما يقسم قسمة إجبار، وإذا قسمه: لا يحنث، بخلاف قسمة التراضي فيحنث إذا حلف؛ لأنه بيع، وأيضًا: أنه إذا ظهر فيما قسمه - في قسمة الإجبار - غبن فاحش: فإن القسمة تبطل، بخلاف قسمة التراضي، فإذا حصل على أحد الشريكين المقتسمين برضا غبن: لم تبطل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون قسمة الإجبار تخالف البيع في أحكامه وأسبابه؛ إذ لا يُشترط التراضي ونحوه من شروط البيع: عدم جعله بيعًا.

ص: 366

ينصبونه، أو يسألوا الحاكم نصبه) وتجب عليه إجابتهم؛ لقطع النزاع

(9)

، ويشترط: إسلامه، وعدالته، ومعرفته بها

(10)

، ويكفي واحد إلا مع تقويم

(11)

(وأجرته) وتسمى القسامة - بضم القاف - على الشركاء (على قدر الأملاك) ولو شرط خلافه، ولا ينفرد بعضهم باستئجاره، وتعدل السهام بالأجزاء إن تساوت كالمكيلات، والموزونات غير المختلفة، وبالقيمة إن اختلفت، وبالرد إن اقتضته

(12)

(فإذا اقتسموا، أو اقترعوا:

(9)

مسألة: يجوز للشريكين - أو الشركاء - أن يتقاسما بنفسيهما ما بينهما من الشيء المشترك بينهما، أو يضعان شخصًا يتولى القسم بينهما يرضيان به، أو يطلبان من القاضي تعيين شخص يتولى ذلك، فيجب على القاضي أن يفعل ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الحق لا يتعداهما: جواز أن يتوليا القسمة، أو أن ينصبا من يتولى ذلك، أو أن يطلبا من القاضي نصب أحد يتولى ذلك، ويلزم من كون قطع النزاع من وظائف القاضي: وجوب تعيين شخص يتولى القسم بينهما.

(10)

مسألة: يُشترط فيمن يتولَّى القسمة بين الشريكين: أن يكون مسلمًا، عدلًا، عارفًا لتقسيم الأملاك وطريقتها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من توفر تلك الشروط الثلاثة فيمن يتولى القسمة: أن يقبل قوله، ويعمل به دون ميل، أو إجحاف، بخلاف الكافر، أو الفاسق، أو الجاهل: فلا يُقبل قوله؛ لاتهامه.

(11)

مسألة: يكفي شخص واحد قد توفّرت فيه تلك الشروط الثلاثة - التي في المسألة (10) - ليتولى القسمة بشرط: عدم قسمة التقويم، أما إن كانت فيه قسمة تقويم: فلا بد من قاسمين؛ للقياس وهو من وجهين: أولهما: كما يكتفى بقاض واحد يفصل بين الخصوم، فكذلك الحال هنا والجامع: الثقة بقوله في كل، ثانيهما: كما أن سائر الشهادات لا يكتفى إلّا بشاهدين فكذلك القسمة بالتقويم لا يكتفى إلّا بقاسمين والجامع: أن كلًّا منهما شهادة بالقيمة.

(12)

مسألة: أجرة الذي يتولى القسمة تكون على جميع الشركاء: سواء كان الطالب للقسمة واحدًا، أو كلهم، وسواء شُرط: أن يعطيه أحدهم أجرته من نصيبه أو =

ص: 367

لزمت القسمة)؛ لأن القاسم كالحاكم، وقرعته كحكمه

(13)

(وكيف اقترعوا: جاز) بالحصى أو غيره

(14)

، وإن خير أحدهم الآخر: لزمت برضاهم وتفرقهم

(15)

، ومن

لا، فتدفع له أجرته على حسب نصيب كل شريك فمثلًا: لو كان لزيد ربع الدار، ولعمرو نصفها، ولبكر ربعها: فإن زيدًا يدفع ربع أجرة من يتولى القسمة، وعمرو يدفع نصفها، وبكر يدفع ربعها، وهكذا، تدفع له بالأجزاء إن تساوت، وبالقيمة إن اختلفت على حسب ما يقتضيه كل شيء مقسوم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون القاسم قد عمل لجميعهم وخلَّص كل واحد من ضيق الشراكة: أن تكون أجرته عليهم جميعًا على حسب أملاكهم.

(13)

مسألة: إذا تمَّت القسمة بين الشركاء بواسطة من يتولى القسمة، أو تمّت القرعة بينهم في ذلك: فإن القسمة تلزم كل واحد منهم، فيلزم بالنصيب الذي وقع له: سواء رضي أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن القاضي إذا حكم بين الخصوم: فإن كل واحد يلزمه الحكم الذي صدر له، أو عليه: رضي أو لا، فكذلك القاسم، أو القرعة مثله، والجامع: أن كلًّا منهم حكم قد توفرت فيه شروط الحاكم.

(14)

مسألة: إذا اتفق الشركاء على أن يقتسموا ما بينهما من الشيء المشترك بينهم بالقرعة: فإن ذلك يجوز بأي طريقة من طرق القرعة كأن يكون بين زيد، وعمرو، وبكر أرض واسعة، فيقسمونها أثلاثًا مثلًا: فتكتب أوراق ثلاثة باسم جهات الأرض الثلاث، فتوضع في شيء خفي لا يراه أحد من الشركاء، فيقال لشخص رابع أجنبي عن الشركاء: أخرج الورقة الأولى، وتكون لزيد، فيدخل يده ويخرج ورقة فيكون ما فيها لزيد، وكذلك يفعل في عمرو، وفي بكر وهكذا؛ للتلازم؛ حيث إنه ليس أحدهم بأولى من الآخرين: فلزمت هذه الطريقة؛ تسوية بين الشركاء.

(15)

مسألة: إذا قسم الشركاء الأرض التي بينهم، ثم خيَّر أحدهم الآخر، فأخذ كل واحد جهة من جهات تلك الأرض، وتراضوا، وتفرّقوا على ذلك: فإن ذلك =

ص: 368

ادَّعى غلطًا فيما تقاسماه بأنفسهما، وأشهدا على رضاهما به: لم يلتفت إليه

(16)

، وفيما قسمه قاسم حاكم، أو قاسم نصباه يقبل ببيِّنة، وإلا: حلف منكر

(17)

، وإن ادَّعى كل شيئًا: أنه من نصيبه: تحالفا، ونُقضت

(18)

، ولمن خرج في نصيبه عيب جهله: إمساك أرش، أو فسخ

(19)

.

يلزم كل واحد منهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تراضيهم وتفرقهم على ذلك: لزوم كل واحد لما أخذه.

(16)

مسألة: إذا تقاسم شريكان ما بينهما من الشراكة بأنفسهما، ورضي كل واحد منهما بنصيبه، وأشهد على ذلك، ثم بعد مدَّة ادَّعى أحدهما بأنه وقع غلط في ذلك، وأنه يريد زيادة أو نحو ذلك: فإنه لا تسمع دعواه، ولا يطلب منه بيِّنة، ولا يحلف غريمه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونه قد رضي بالقسمة: عدم سماع دعواه، ولا طلبه، لأن رضاه ذلك عام وشامل لما أصابه، ولما أصاب شريكه.

(17)

مسألة: إذا قام بتقسيم الشركة قاض، أو قاسم قد رضياه: فقسم ذلك، ثم ادَّعى أحدهما: أنه وقع غلط في تلك القسمة: فإن دعواه تسمع، ويطلب منه البيِّنة، فإن لم يأت ببيِّنة حلف المنكر لذلك - وهو شريكه الذي لم يدع شيئًا -؛ للتلازم؛ حيث إنه لم يقع رضا على القسمة، وإنما ألزمه بها ذلك القاضي، أو القاسم بينهما فلزم قبول دعواه، ويعمل بقوله عليه السلام: "البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر لكونها دعوى كغيرها.

(18)

مسألة: إذا تقاسم شريكان ما بينهما من أرض، فصار نصيب زيد الجهة الشمالية منها، وصار نصيب عمرو الجهة الجنوبية، ثم ادَّعى زيد: أن نصيبه الجهة الجنوبية لا الشمالية، ونفى ذلك عمرو: فإنهما يتحالفان، أي يحلف كل واحد منهما للآخر على نفي ما ادّعاه، وتُنقض القسمة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون المدَّعى به لم يخرج عنهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر: أن يُشرع ذلك.

(19)

مسألة: إذا تمّت القسمة بين زيد وعمرو، ثم بان أن في نصيب زيد عيبًا، وثبت =

ص: 369

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ذلك: فإن زيدًا يُخيَّر بين أن يمسك نصيبه، ويعطيه عمرو أرش ذلك العيب، وبين أن يفسخ القسمة؛ للقياس؛ بيانه: كما أن المشتري السلعة إذا بان فيها عيب يخير بين هذين الأمرين فكذلك الحال فيما نحن فيه والجامع: أن ظهور العيب الثابت نقص في كل، فلا بد أن يعوض عن هذا النقص.

هذه آخر مسائل باب: "قسمة الأملاك" ويليه باب: "الدعاوي والبيِّنات".

ص: 370

‌باب الدَّعاوي والبيِّنات

الدعوى لغة: الطلب، قال تعالى:{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} أي يطلبون، واصطلاحًا: إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره، أو ذمته، والبيِّنة: العلامة الواضحة كالشاهد فأكثر، و (المدَّعي: من إذا سكت) عن الدعوى: (تُرك) فهو المطالِب (والمدَّعى عليه: من سكت لم يترك) فهو المطالَب

(1)

(ولا تصح الدعوى و) لا (الإنكار) لها (إلا من جائز التصرف) وهو: الحر، المكلَّف، الرشيد

(2)

، سوى

‌باب الدَّعاوي والبيِّنات

وفيه تسع مسائل:

(1)

مسألة: الدعاوي: جمع دعوى، والدَّعوى لغة: الطلب، ومنه قولهم:"دعوته لحضور وليمة" أي: طلبت منه الحضور، وهي اصطلاحًا:"إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو ذمته من دين ونحوه" ومعناه: أن يدَّعي زيد أن الدار التي تحت يد عمرو هي ملكه، أو يدّعي أنه يطالب عمرًا دينًا قدره ألف ريال مثلًا، فيطالبه بذلك، فيكون المدَّعي - وهو زيد هنا - من إذا سكت عن الدعوى: تُرك؛ لعدم وجود من يُطالب بالدعوى، ويكون المدعى عليه - وهو عمرو هنا -: من إذا سكت عن الدعوى: لم يُترك؛ لوجود من يُطالبه بالدعوى - وهو زيد -، والبيِّنات: جمع بيِّنة، وهي: لغة: العلامة الظاهرة وهي في الاصطلاح: كل شيء يُبين، ويُظهر الحق من شهود ونحوهم من علامات، وأمارات، وقرائن.

(2)

مسألة: يُشترط في صحة الدَّعوى: أن يكون المدَّعي، والمدَّعى عليه جائزي التصرُّف - وهو: الحر البالغ العاقل الرشيد -، وبناء على ذلك: لا يصح أن يدَّعي صبي، أو مجنون، أو سفيه استحقاق شيء بيد غيره، ولا يصح أن يكون المدَّعى عليه صبيًا، أو مجنونًا، أو سفيهًا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن غير جائز =

ص: 371

إنكار سفيه فيما يؤاخذ به لو أقرّ به كطلاق وحَدٍّ

(3)

(وإذا تداعيا عينًا) أي: ادَّعى كل منهما أنها له، وهي (بيد أحدهما: فهي له) أي: فالعين لمن هي بيده (مع يمينه إلا أن تكون له بيِّنة) ويقيمها (فلا يحلف) معها؛ اكتفاء بها

(4)

(وإن أقام كل واحد) منهما (بيِّنة أنها) أي: العين المدَّعى بها (له: قضى) بها (للخارج ببيِّنته، ولغت بينة الداخل)؛ لحديث ابن عباس مرفوعًا: "لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه" رواه أحمد ومسلم، ولحديث:"البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر" رواه الترمذي

(5)

، وإن لم تكن العين بيد أحد،

التصرف لا يصح إقراره في مال، فكذلك لا تصح دعواه، ولا إنكاره والجامع: عدم التحمُّل في كل.

(3)

مسألة: إذا أنكر سفيه شيئًا لو أقرّ به فإنه يؤاخذ به: كأن ينكر أنه طلَّق امرأته، أو ينكر أنه زنى: فإن هذا الإنكار يصح منه وإن كان المنكر سفيهًا، ويحلف إذا أنكر؛ للاستصحاب؛ حيث إن الأصل عدم الطلاق، وعدم المعصية، فيُعمل بذلك، وصار ذلك مؤيدًا لإنكاره فصح منه، ولولا ذلك الأصل: لما صح من السفيه الإنكار.

(4)

مسألة: إذا ادَّعى زيد أن الدار التي تحت يد عمرو له، فطالب عمرًا بها، ولم توجد بيِّنة لدى زيد على ذلك: فإن الدار تكون لعمرو، ويحلف على أنها ملكه إلا إن وُجدت بينة لدى عمرو: فلا يلزم بالحلف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كونها بيده: أن يكون شاهد الحال معه، ويؤيد باليمين، ويلزم من وجود بيِّنة بيد من كانت تحت يده: عدم إلزامه باليمين؛ لأن البيِّنة تكفي عن اليمين.

(5)

مسألة: إذا كانت الدار تحت يد عمرو، فادَّعى زيد أنها ملك له، وطالب زيد عمرًا بها، فأقام كل واحد - من زيد وعمرو - بيِّنة على أن تلك الدار ملك له، وتساوت البينتان بالقوة: فإنه يحكم بأن الدار للداخل - وهو عمرو هنا وهو من كانت الدار تحت يده - دون الخارج - وهو زيد هنا وهو من لم تكن الدار بيده -؛ =

ص: 372

ولا ثم ظاهر: تحالفا، وتناصفاها

(6)

، وإن وجد ظاهر لأحدهما: عُمل به: فلو تنازع الزوجان في قماش البيت، ونحوه: فما يصلح لرجل فله، ولها فلها، ولهما فلهما

(7)

،

للتلازم؛ حيث يلزم من تساوي بينة عمرو وزيد بالقوة وزيادة كون الدار تحت يد عمرو: أن يقضي بها لعمرو؛ لقوة جانبه في الدَّعوى، فإن قلتَ: إنه يحكم بالدار على أنها لزيد - وهو الخارج وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "ولكن اليمين على المدَّعى عليه" وقال: "البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر" حيث دلَّ هذان النصان على أن المدَّعي إذا أقام البيِّنة: فإنه يحكم بها له، بصرف النظر عن كون المدَّعى عليه أثبت بيِّنة أو لا، قلتُ: إن هذين الحديثين قد وردا فيما إذا لم يكن مع من هي بيده بيِّنة، أو لا بيِّنة لأحدهما، وادَّعى كل واحد منهما أنها كلها له، أما إذا أثبت كل واحد منهما بينة وتساوت البيِّنتان: فإن وجودها تحت يد أحدهما مرجح، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في المراد بالحديثين".

(6)

مسألة: إذا لم تكن الدار تحت يد أحد، فادَّعاها كل من زيد وعمرو: فإن كل واحد منهما يحلف: أنه لا حق للآخر فيها، ثم تُقسَّم بينهما، فيأخذ كل واحد منهما نصفها، وإن نكل زيد عن الحلف: فإن كل الدار تكون لعمرو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من استوائهما في الدعوى وعدم المرجِّح لأحدهما: وأن أحدهما ليس بأولى من الآخر: أن تُقسم بينهما بالسوية ويلزم من نكول أحدهما: أن تكون كلها لمن حلف.

(7)

مسألة: إذا ادَّعى كل واحد منهما ملك شيء، ووجدت أمارة أو قرينة، أو أمر ظاهر يدل على أنه ملك لأحدهما: فإنه يُعمل بتلك الأمارة، أو القرينة، أو الأمر الظاهر فمثلًا: لو اختلف الزوجان في ملكية أثاث منزل كالأواني، والفرش ونحوها فكل من الزوج والزوجة يدَّعي أنها ملكه: فإن ما يصلح للزوج يُعطى إياه، كالأسلحة، والعمامة، وما يصلح للزوجة: يُعطى إياها كقمصان =

ص: 373

وإن كانت بيديهما: تحالفا وتناصفاها

(8)

، فإن قويت يد أحدهما كحيوان واحد سائقه، وآخر راكبه: فهو للثاني؛ لقوة يده

(9)

.

نساء، وحلي، وقدور ونحوها، وما يصلح لهما معًا: يقسم بينهما على النصف كالكتب والفرش؛ للتلازم؛ حيث إن الأمارة والقرينة، والظواهر من الأمور والقرائن مُرجِّحات أنها لمن هي في جانبه، فيعمل بها كما يُعمل بها في الأدلة الشرعية.

(8)

مسألة: إذا ادَّعى كل واحد منهما ملك أرض، وكانت تحت يديهما معًا وتساويا في ذلك: فإن كل واحد منهما يحلف أنه لا حق للآخر فيها، ثم تُقسَّم بينهما، فيأخذ كل واحد منهما نصفها؛ للتلازم؛ وقد سبق بيانه في مسألة (6).

(9)

مسألة: إذا ادَّعى كل واحد منهما ملك شيء، وكان تحت يديهما معًا؛ وقويت يد أحدهما دون الآخر: فإن ذلك الشيء يكون لمن قويت يده كأن يركب زيد بعيرًا، وعمرو يقوده ويسوقه: فأن يحكم بأن البعير ملك لزيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من ركوب زيد قوة يده على البعير: فحكم له به.

هذه آخر مسائل باب: "الدعاوي والشهادات" وهو آخر أبواب كتاب: "القضاء والفتيا" ويليه كتاب: "الشهادات"

ص: 374

‌كتاب الشهادات

واحدها شهادة: مشتقة من المشاهدة؛ لأن الشاهد يخبر عمّا شاهده، وهي: الإخبار بما علمه بلفظ: "أشهد" أو "شهدت"

(1)

(تحمل الشهادة في غير حق الله) تعالى (فرض كفاية) فإذا قام به من يكفي: سقط عن بقية المسلمين (وإن لم يوجد إلّا من يكفي: تعيَّن عليه) وإن كان عبدًا: لم يجز لسيده منعه، لقوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال ابن عباس وغيره: المراد به التحمل للشهادة، وإثباتها عند الحاكم، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لإثبات الحقوق، فكان واجبًا كالأمر بالمعروف

‌كتاب الشهادات

‌- بيان تعريفها، وحكم تحملها وأدائها، وكتمانها، ووجوب العلم بما يُشهد فيه، وشروط من تُقبل شهادته

وفيه أربع وعشرون مسألة:

(1)

مسألة: الشهادات جمع: شهادة، وهي لغة مشتقة من المشاهدة؛ لكون الشاهد يخبر عمّا شاهده ورآه، وهي في الاصطلاح: أن يُخبر جائز التصرف بما علمه بأي لفظٍ أفاد ذلك كرأيتُ أو سمعتُ أو شهدتُ، أو أشهد ونحو ذلك، وتسمَّى الشهادة البيِّنة؛ لأنها تبين ما التبس، وتكشف الحق في المختلف فيه، فإن قلتَ: يُشترط: في صحة الشهادة أن تكون بلفظ: "أشهد" أو "شهدت"، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فيلزم من ورودها بهذا اللفظ: الالتزام به عند الأداء قلتُ: لم يرد في أي دليل من أدلة الشرع وجوب الالتزام بلفظ "أشهد" عند أداء الشهادة، وما لم يرد فيه شيء: يبقى على الإطلاق دون التقيد بلفظ معين.

ص: 375

والنهي عن المنكر

(2)

(وأداؤها) أي: أداء الشهادة (فرض عين على من تحملها متى دُعي إليه)؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

(3)

(2)

مسألة: تحمُّل الشهادة في حق الآدمي فرض كفاية على كل شخص - إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين - سواء كان المشهود عليه مالًا كبيع وشراء ونحوهما، أو قول كقذف ونحوه، هذا إذا وجد غير ذلك الشخص أما إن لم يوجد غيره: فإن تحمله للشهادة واجبًا وجوبًا عينيًا عليه: سواء كان حرًا، أو عبدًا، ولا يجوز لسيده منعه من تحملها؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} حيث حرم الامتناع عن تحمل الشهادة، لأن النهي في قوله:"لا يأب" مطلق فيقتضي التحريم، وترك الحرام واجب، فيلزم وجوب تحمل الشهادة، وإثباتها عند الحاكم إذا احتيج إليها؛ لكون ذلك هو الغرض والفائدة من تحملها، الثانية: المصلحة؛ حيث إن الحاجة تدعو إلى الشهادة؛ نظرًا لحصول التجاحد بين الناس؛ إذ بسببها تثبت الحقوق، فكانت من الواجبات كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن قلتَ: لِمَ كانت فرض كفاية إذا وُجد غير ذلك الشخص؟ قلتُ: لأنه يكتفي في الشهادة باثنين من الرجال، ولا داعي للزيادة، فإن قلتَ: لِمَ كانت الشهادة واجبة: تحمُّلًا، وأداءً؟ قلتُ: لأنه سبب من أسباب إرجاع الحقوق إلى أهلها، ومنع ظلم الناس بعضهم لبعض.

(3)

مسألة: أداء الشهادة فرض عين على من تحمَّلها إذا دُعي إلى أدائها ولا يحل كتمانها؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ، وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} حيث أوجب أداء الشهادة؛ حيث نهى عن كتمانها، والنهي هنا مطلق، فيقتضي التحريم، وترك الحرام واجب، وقد توعَّد من يكتم الشهادة بالوعيد، وهو تأثيم قلبه، والوعيد عقاب، ولا يعاقب إلّا على فعل محرم، أو ترك واجب، فيلزم وجوب أداء الشهادة على من تحملها، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: لما سبق أن ذُكر في مسألة (2).

ص: 376

(و) محل وجوبها إن (قدر) على أدائها (بلا ضرر) يلحقه (في بدنه، أو عرضه، أو ماله، أو أهله) وكذا: لو كان ممّن لا يقبل الحاكم شهادته؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (وكذا في التحمُّل) يُعتبر انتفاء الضرر (ولا يحل كتمانها) أي: كتمان الشهادة؛ لما تقدَّم، فلو أدَّى شاهد، وأبى الآخر، وقال:"احلف بدلي": أثم

(4)

، ومتى وجبت الشهادة: لزم كتابتها

(5)

، ويحرم أخذ الأجرة، وجُعْل عليها، ولو لم تتعيَّن عليه، لكن إن عجز عن المشي، أو تأذى به: فله أجرة مركوب

(6)

، ومن

(4)

مسألة: يُشترط لوجوب تحمل الشهادة وأدائها: أن يكون الشخص المتحمِّل والمؤدِّي لها قادرًا على ذلك - أي: على التحمل والأداء - بلا ضرر يلحق بدنه، أو عرضه، أو ماله، أو فردًا من أهله: سواء كان عاجلًا، أو آجلًا، وسواء كان هذا الضرر ضربًا، أو حبسًا، أو مشقة سير، أو سفرًا ونحو ذلك، فإن لحقه ضرر من ذلك: لم يلزمه التحمُّل، ولا الأداء، وكذا: لو كان الحاكم لا يقبل شهادته لم يلزمه التحمل، ولا الأداء؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} فحرَّم أن يُضار الشاهد بسبب الشهادة: تحمُّلًا وأداء؛ لأن النهي مطلق، فيقتضي التحريم، فيلزم اشتراط: عدم إلحاق الضرر به بسببها الثانية: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" حيث حرّم إلحاق الضرر بأيِّ مسلم؛ لأن النفي: نهي، والنهي مطلق، فيقتضي التحريم، وهو عام للشاهد وغيره؛ لأن "ضرر، وضرار" نكرة في سياق نفي، وهو من صيغ العموم. تنبيه: قوله: "ولا يحل كتمانها" قد سبق بيانه في مسألة (3).

(5)

مسألة: إذا تحمَّل شخص الشهادة فيجب عليه أن يكتبها ويدوِّنها بتفاصيلها؛ للمصلحة: حيث إن ذلك يحفظ للناس حقوقهم بكل دقَّة.

(6)

مسألة: لا يجوز للشاهد أن يأخذ أُجرة أو جُعْل على تحمل الشهادة، أو على أدائها: سواء تعيَّنت عليه أو لا إذا لم يتكلَّف على ذلك بشيء، أما إن تكلَّف: =

ص: 377

عنده شهادة بحد لله: فله إقامتها وتركها

(7)

(ولا) يحل (أن يشهد) أحد (إلا بما يعلمه)؛ لقول ابن عباس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: "ترى الشمس؟ " قال: نعم قال: "على مثلها فاشهد أو دع" رواه الخلال في "جامعه"

(8)

، والعلم إما (برؤية،

كأن يحتاج إلى مركوب، أو تأذَّى بالمشي، أو السفر أو نحو ذلك فيجب على المشهود له أن يدفع له تكلفة ذلك ويجوز له أخذ ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الشهادة تحمُّلًا وأداءً - واجبًا: عدم أخذ الأجرة والجعل عليه؛ لكونه يقوم بواجب، والواجبات لا تؤخذ الأجرة عليها، ويلزم من تكلُّفه على تحمل أو أداء الشهادة: وجوب دفع تلك التكلفة على المشهود له؛ لأنه في مصلحته، ويجوز للشاهد أن يأخذه؛ لانقطاعه عن مصالحه؛ لأجل تلك الشهادة.

(7)

مسألة: يجوز للشاهد إقامة الشهادة في حدود الله تعالى من غير تقدم دعوى، ويُستحب عدم إقامتها وتركها، كأن يرى زيد عمرًا يزني فلزيد أن يشهد عليه بالزنا عند الحاكم، ويُستحب أن يستر عليه؛ للسنة القولية: حيث قال عليه السلام: "من ستر عورة ستره الله في الدنيا والآخرة" حيث بيّن استحباب الستر هنا، وهذا عام، فيشمل ما نحن فيه؛ لأن "من" الشرطية من صيغ العموم، فإن قلتَ: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن حقوق الله مبنية على التسامح، ولا ضرر في تركها على أحد، وهذا يُرغِّب في ستر بعض الناس على بعض، وقد ظهر على وجه عمر الضيق والتأثر لما شهد أبو بكرة ومن معه على المغيرة بن شعبة بالزنا، ولكن تلك الشهادة لم تتم فظهر الفرح والسرور على وجه عمر، فجلد أبا بكرة ومن معه حد القذف.

(8)

مسألة: لا يجوز لأي شخص أن يشهد إلّا بما يعلمه سواء كان علمًا قطعيًا، أو غالبًا على الظن، فإن لم يعلم، أو شك: فلا يجوز له أن يشهد؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فاشترط في صحة الشهادة: أن يكون الشاهد عالمًا بما =

ص: 378

أو سماع) من مشهود عليه كعتق، وطلاق، وعقد، فيلزمه أن يشهد بما سمع، ولو كان مستخفيًا حين تحمُّل (أو) سماع (باستفاضة فيما يتعذَّر علمه) غالبًا (بدونها كنسب، وموت، وملك مطلق، ونكاح) عقده، ودوامه (ووقف ونحوها) كعتق، وخلع، وطلاق، ولا يشهد باستفاضة إلا عن عدد يقع بهم العلم

(9)

(ومن شهد بـ) عقد (نكاح، أو غيره من العقود: فلا بد) في صحة شهادته به (من ذكر شروطه)؛ لاختلاف الناس في بعض الشروط، وربما اعتقد الشاهد ما ليس بصحيح صحيحًا

(10)

(وإن شهد برضاع): ذكر عدد الرضعات، وأنه شرب من ثديها، أو لبن

يشهد عليه علمًا يقينًا، أو غالبًا على ظنه الثانية: المصلحة؛ حيث إنه بسبب الشهادة قد تؤخذ حقوق الآخرين بغير حق، فلذلك اشترط ذلك، لمنع ذلك. تنبيه: حديث ابن عباس الذي ذكره المصنف هنا ضعيف لذلك لم أضعه مع أدلة هذه المسألة.

(9)

مسألة: يحصل العلم بالمشهود فيه بطريقين: أولهما: الرؤية كأن يرى أن فلانًا قتل آخر، أو يزني بامرأة، أو يسرق، أو يشرب الخمر ونحو ذلك، ثانيهما: السماع: كأن يسمع بأن فلانًا باع على فلان تلك الدار، أو يعتق عبده، أو يطلِّق امرأته، أو يرث مع ذكر السبب، أو يوقف شيئًا ونحو ذلك وهذا يخص من سمع من عين شخص، وتسمع شهادة باستفاضة بشرط: أن يعتذر علمه بدونها، وذلك بأن يشتهر المشهود به بين الناس، فيتسامعون بذلك الخبر، فيشهد هو بما اشتهر عن عدد يقع العلم بهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون مدرك الشهادة الرؤية والسماع: أن يحصل العلم بهما.

(10)

مسألة: يشترط في صحة الشهادة في العقود كعقد نكاح، ونحوه: أن يذكر الشاهد شروط ذلك العقد، فلا يُكتفى بأن يقول:"أشهد أنه عقد بينهما عقد نكاح صحيح" بل لا بدَّ أن يقول: أشهد "أنه عقد بينهما عقد نكاح صحيح وذلك بولي، وشاهدي عدل"؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اختلاف العلماء في شروط =

ص: 379

حلب منه (أو) شهد بـ (سرقة)؛ ذكر المسروق منه والنصاب، والحرز، وصفتها (أو) شهد بـ (شرب) خمر: وصفه (أو) شهد بـ (قذف: فإنه يصفه) بأن يقول: أشهد أنه قال: "يا زاني" أو "يا لوطي" ونحوه (ويصف الزنا) إذا شهد به (بذكر الزمان والمكان) الذي وقع فيه الزنا (و) ذكر (المزني بها) وكيف كان، وأنه رأى ذكره في فرجها (ويذكر) الشاهد (ما يُعتبر للحكم ويختلف) الحكم (به في الكل) أي: في كل ما يشهد فيه

(11)

، ولو شهد اثنان في محفل على واحد منهم أنه طلَّق أو أعتق، أو على خطيب أنه قال، أو فعل على المنبر في الخطبة شيئًا لم يشهد به غيرهما مع المشاركة في سمع وبصر: قبلا

(12)

.

= كل عقد: كعقد النكاح، وغيره من العقود: أن يذكر كل شاهد شروط العقد الذي شهد عليه؛ لئلا يعتقد الشاهد ما ليس بصحيح من العقود بأنه صحيح.

(11)

مسألة: يجب على الشاهد أن يذكر في شهادته كل ما يتعلَّق بها من صفات المشهود فيه مما يؤثِّر في الحكم سلبًا أو إيجابًا فمثلًا: إذا شهد بأن فلانًا قد زنى بامرأة يجب عليه أن يذكر الوقت والمكان الذي وقع الزنا فيه، وطريقة الزنا، والمرأة المزني بها، وأنه رأى ذكره داخلًا في فرجها، وإذا شهد بأن فلانًا أخ لفلان من الرضاعة: أن يذكر عدد الرضعات، وأنها وقعت دون الحولين ونحو ذلك؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك يُزيل الاحتمال في عدم معرفة الشاهد بالمشهود فيه ويؤكد علم الشاهد بما يشهد فيه فيطمئن الحاكم فلزم وجوب ذكر ذلك.

(12)

مسألة: إذا اجتمع عدد كثير من الناس ومعهم زيد، وعمرو، وبكر، فشهد عمرو وبكر على زيد بأنه طلَّق امرأته، أو أعتق عبده، أو كان زيد خطيبًا فشهد عمرو وبكر عليه بأنه قال كذا، أو فعل كذا، ولم يشهد بقية الناس الذين معهما من المجتمعين: فإن شهادتهما - أي: شهادة عمرو، وبكر - تُقبل، ولا ينظر إلى رأي الآخرين الذين لم يشهدوا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اكتمال نصاب الشهادة - وهما اثنان -: قبول شهادتهما، ولا يكون عدم شهادة الباقين مانعًا من قبول شهادتهما.

ص: 380

(فصل): (وشروط من تقبل شهادتهم: ستة) أحدها: (البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبيان) مطلقًا

(13)

، ولو شهد بعضهم على بعض

(14)

(الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة مجنون، ولا معتوه وتقبل) الشهادة (ممن يُخنق أحيانًا) إذا تحمّل، وأدّى (في حال إفاقته)؛ لأنها شهادة من عاقل

(15)

(الثالث: الكلام، فلا تقبل شهادة

(13)

مسألة في الأول - من شروط من تُقبل شهادته - وهو: أن يكون بالغًا، فلا تقبل شهادة الصبي على بالغ في أي شيء من الحقوق؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن الصبي لا يقبل إقراره على نفسه، فكذلك لا تقبل شهادته على غيره، والجامع: عدم الثقة بما يقول الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من عدم خوفه من مأثم الكذب فيمنعه عنه: عدم قبول شهادته، فإن قلت: لِمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حقوق الآخرين، إذ لو قبلت شهادة الصبيان لأُكلت أموال الناس بالباطل.

(14)

مسألة: تقبل شهادة الصبيان فيما بينهم، أي: تقبل شهادة الصبي على آخر مثله فيما إذا جرى بينهم، سرقات أو جراحات بشرط: كونهم عقلاء، وقبل افتراقهم عن الموضع الذي وقع فيه الجراح ونحو ذلك؛ للمصلحة: حيث إنه لو لم يقبل قول بعضهم على بعض لأدَّى ذلك إلى إهدار دماء الصبيان، وضياع الحقوق، وتعطيلها مع غلبة الظن بصدقهم، فدفعًا لذلك شُرع قبول شهادتهم على بعضهم فإن قلت: لا تقبل شهادتهم فيما بينهم أيضًا، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ لقاعدتين: هما: القياس، والتلازم؛ وقد سبق ذكرهما في مسألة (13) وهما عامّان لشهادتهم على بالغين وعلى غير بالغين قلتُ: إن عموم. هذين الدليلين مخصَّص بالمصلحة التي ذكرناها في هذه المسألة - وهي مسألة (14) - فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الخلاف في عموم القياس والتلازم هل تصلح المصلحة مخصِّصة لهما أو لا؟ ".

(15)

مسألة: في الثاني - من شروط من تُقبل شهادته - وهو: أن يكون عاقلًا، فلا=

ص: 381

الأخرس، ولو فهمت إشارته)؛ لأن الشهادة يُعتبر فيها اليقين (إلّا إذا أداها) الأخرس (بخطه) فتقبل

(16)

(الرابع: الإسلام)؛ لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل

= تقبل شهادة المجنون: سواء كان لا يُفيق أبدًا أو كان يفيق أحيانًا، ولا تقبل شهادة المعتوه - وهو الذي يميز بعض الأشياء -؛ لقاعدتين: الأولى: القياس، والثانية: التلازم؛ وقد سبق بيانهما في مسألة (13)، فإن قلت: لِمَ اشترط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ وقد بيناها في مسألة (13)، فإن قلت: تُقبل شهادة المجنون الذي يفيق أحيانًا إذا تحملها وأداها في حال إفاقته، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن العاقل تقبل شهادته فكذلك تقبل شهادة المجنون في حال إفاقته والجامع: أن الشهادة وقعت من عاقل في كل قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الشخص المجنون الذي يفيق أحيانًا لا ندري متى أفاق بالتحديد؟ فقد يشهد وهو في حالة جنون ومع هذا الاحتمال وإن كان ضعيفًا إلا أنه لا يساوى بالعاقل الذي لم يُعهد منه جنون قط فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين".

(16)

مسألة: في الثالث - من شروط من تقبل شهادته - وهو: أن يكون متكلِّمًا بما يشهد فيه إذا كان من طبعه الكلام، أما الأخرس خلْقة فتقبل شهادته إذا فُهم المقصود منها فهمًا لا يحتمل الخطأ؛ وكذلك إذا خطها بخطه: فإنها تقبل؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما أن خطه وإشارته تقوم مقام نطقه في كل أحكامه من بيع وشراء، وهبة، وعتق ونكاح، ونحو ذلك فكذلك في شهادته، والجامع: فهم المقصود في كل الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من اعتبار اليقين أو غلبة الظن في الشهادة أن لا تُقبل من الناطق بالإشارة، بل لا بد من الكلام، فإن قلت: لا تُقبل الشهادة من الأخرس ولو فهمت إشارته، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اشتراط اليقين في الشهادة عدم الاكتفاء بالإشارة فيها؛ لعدم حصول اليقين بذلك قلتُ: لا يشترط اليقين في الشهادة، بل يُكتفى=

ص: 382

منكم}، فلا تقبل من كافر

(17)

، ولو على مثله

(18)

إلا في سفر على وصية مسلم أو كافر، فتُقبل من رجلين كتابيين عند عدم غيرهما

(19)

(الخامس: الحفظ) فلا تقبل من

= بغلبة الظن، وإذا أشار الأخرس إشارة تُفهم المقصود: فإنه يغلب على ظننا حصول المشهود فيه، والعمل بما يغلب على الظن واجب، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض التلازم مع القياس"، فإن قلت: لم اشترط كون الشاهد متكلمًا؟ قلت: للمصلحة؛ وهي الاحتياط في حقوق الآخرين.

(17)

مسألة: في الرابع - من شروط من تقبل شهادته - وهو: أن يكون مسلمًا، فلا تقبل الشهادة من الكافر على المسلم؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} فبين الشارع أن الشهادة تقبل من العدل، ودل مفهوم الصفة على عدم قبول الشهادة من الكافر؛ لكونه ليس بعدل، فإن قلتَ: لِمَ اشتُرط هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حقوق الآخرين.

(18)

مسألة: تقبل شهادة الكافر على مثله، أي: تقبل شهادة بعضهم على بعض إذا كانوا داخلين في ملَّة واحدة فتقبل شهادة اليهودي على اليهودي، وتقبل شهادة النصراني على النصراني؛ للقياس؛ بيانه: كما تقبل شهادة بعض المسلمين على بعض، فكذلك الحال هنا والجامع: أنه في كل منهما يلي بعضهم البعض الآخر؛ فإن قلت: لا تقبل شهادة الكافر على كافر مثله، وهو قول المصنف هنا؛ للقياس؛ بيانه: كما أن شهادته لا تقبل على غير أهل دينه، فكذلك لا تقبل على أهل دينه والجامع: عدم الثقة في كل قلتُ: هذا فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الكافر قد يخون من هم على غير دينه، بخلاف أهل دينه فيبعد أن يخونهم، ومع الفرق لا قياس، فإن قلتَ: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "تعارض القياسين".

(19)

مسألة: تصح شهادة الكافر على وصية مسلم مات في سفر عند عدم غيره؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ

ص: 383

مغفَّل، ومعروف بكثرة سهو، وغلط؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله

(20)

(السادس: العدالة) وهي: لغة الاستقامة، من العدل: ضد الجور، وشرعًا: استواء أحواله في دينه، واعتدال أقواله وأفعاله (ويُعتبر لها) أي: للعدالة (شيئان) أحدهما: (الصلاح في الدين، وهو) نوعان: أحدهما (أداء الفرائض) أي: الصلوات الخمس، والجمعة (بسننها الراتبة) فلا تقبل ممّن داوم على تركها؛ لأن تهاونه بالسنن يدل على عدم محافظته على أسباب دينه، وكذا: ما وجب من صوم وزكاة، وحج (و) الثاني (اجتناب المحارم: بأن يأتي كبيرة، ولا يُدمن على صغيرة) والكبيرة: ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة: كأكل (الربا، ومال اليتيم، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والصغيرة: ما دون ذلك من المحرمات: كسب الناس بما دون القذف، واستماع كلام النساء الأجانب على وجه التلذذ به، والنظر المحرم (فلا تقبل شهادة فاسق) بفعل كزان، وديوث، أو اعتقاد كالرافضة، والقدرية، والجهمية، ويكفر مجتهدهم الداعية، ومن أخذ بالرخص: فسق (الثاني) مما يُعتبر للعدالة: (استعمال المروءة) أي: الإنسانية (وهو) أي: استعمال المروءة: (فعل ما يجمله ويزينه) عادة كالسخاء، وحُسن الخلق، وحُسن المجاورة (واجتناب ما يُدنّسه ويُشينه) عادة من الأمور الدنيئة

= إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} حيث دَّل قوله: {أو آخران من غيركم} جواز شهادة الكافر في هذه الحالة وهذا عام في جميع الكفار: سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم، فإن قلت: لا تقبل تلك الشهادة إلا من كافرين كتابيين، وهو ما ذكره المصنف هنا قلت: لم أجد دليلًا قويًا على هذا التخصيص بأهل الكتاب.

(20)

مسألة: في الخامس - من شروط من تقبل شهادته - وهو: أن يكون حافظًا متقنًا، فلا تُقبل من كثير الغفلة، والنسيان، والخطأ، والغلط؛ للمصلحة: حيث إن ذلك فيه حفظ حقوق الناس؛ إذ كثير الغفلة والنسيان قد تلتبس عليه الأمور فيقلب الحق باطلًا، والباطل حقًّا.

ص: 384

المزرية به: فلا شهادة لمصافح، ومتمسخر، ورقَّاص، ومغن، وطفيلي، ومتزي بزي يسخر منه، ولا لمن يأكل بالسوق إلا شيئًا يسيرًا كلقمة، وتفاحة، ولا لمن يمد رجله بمجمع الناس، أو ينام بين جالسين ونحوه

(21)

(ومتى زالت الموانع) من الشهادة (فبلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق: قبلت شهادتهم) بمجرد ذلك، لعدم المانع لقبولها

(22)

، ولا تعتبر الحرية فتقبل شهادة عبد، وأمة في كل ما

(21)

مسألة: في السادس والأخير - من شروط من تقبل شهادته - وهو: أن يكون عدلًا، والعدالة لغة: من العدل، وهو الاستواء في الأحوال كلها: من الأقوال والأفعال، وهي: اصطلاحًا: "هيئة راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة" والمراد بملازمة التقوى: فعل جميع ما أمر به الشارع أمرًا جازمًا، واجتناب جميع ما نهى عنه الشارع نهيًا جازمًا، وترك كل كبيرة - وهي: ما فيه حدّ في الدنيا ووعيد في الآخرة كالزنا، والسرقة، والقتل ونحو ذلك - وترك المداومة على فعل صغيرة - وهي ما دون الكبائر كذم الناس بما دون القذف ونحو ذلك - وهذا هو الصلاح في الدين، والمراد بملازمة المروءة: فعل كل شيء يزينه ويحسنه ويجمله، وترك كل شيء يشينه ويُدنِّسه، وهذا معروف بين الناس، فلا تقبل شهادة الفاسق عملًا واعتقادًا وهو الذي لم يلزم التقوى والمروءة مطلقًا؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فاشتُرط في الشهادة: كون الشاهد عدلًا، والفاسق غير العدل، وقال تعالى:{إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا} فأمر بعدم قبول قول وخبر الفاسق إلّا بعد التبين والتأكد، وهذا يفيد بمفهوم الصفة: أن العدل إذا أخبر بشيء فإنه يُقبل دون التأكد، فإن قلت: لِمَ اشتُرط ذلك؟ قلتُ: للمصلحة؛ وهي: حفظ حقوق الآخرين.

(22)

مسألة: إذا توفرت الشروط الستة السابقة الذكر في شخص: فإن شهادته تُقبل، فلو بلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق: فإن شهادتهم تقبل بمجرد ذلك؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم المانع من قبول شهادتهم: توفر=

ص: 385

يقبل فيه وحرة

(23)

، وتقبل شهادة ذي صنعة دنيئة كحجام، وحداد، وزبال

(24)

.

= شرط قبولها.

(23)

مسألة: لا تُشترط الحرية في الشهادة: فتقبل شهادة العبيد والإماء؛ للقياس؛ بيانه: كما أن شهادة الأحرار والحرائر مقبولة فكذلك شهادة العبيد والإماء والجامع: توفر شروط قبول الشهادة في كل.

(24)

مسألة: لا يُشترط في الشهادة: كون الشاهد ذا صنعة شريفة، بل تقبل شهادة أصحاب المهن والصنائع الدنيئة كالحجام، والزبال، والحداد، والجزار ونحوهم؛ للقياس؛ بيانه: كما أن شهادة أصحاب المهن الشريفة تقبل فكذلك تقبل شهادة أصحاب المهن الدنيئة والجامع: توفر شروط قبول الشهادة في كل.

هذه آخر مسائل باب: "تعريف الشهادة، وحكم تحملها، وأدائها، ووجوب العلم بما يشهد فيه، وشروط من تقبل شهادتهم" ويليه باب: "موانع الشهادة، وعدد الشهود وغير ذلك"

ص: 386

‌باب موانع الشهادة، وعدد الشهود وغير ذلك

(لا تقبل شهادة عمودي النسب) وهم: الآباء وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا (بعضهم لبعض) كشهادة الأب لابنه، وعكسه؛ للتهمة بقوة القرابة، وتقبل شهادته لأخيه، وصديقه، وعتيقه (ولا) تقبل (شهادة أحد الزوجين لصاحبه) كشهادته لزوجته، ولو بعد الطلاق، وشهادتها له؛ لقوة الوصلة

(1)

(وتقبل) الشهادة (عليهم): فلو شهد على أبيه، أو ابنه، أو زوجته أو شهدت عليه: قبلت إلّا على زوجته بزنا

(2)

‌باب موانع الشهادة، وعدد الشهود والشهادة على الشهادة، ورجوع الشهود عن الشهادة

وفيه ست وثلاثون مسألة:

(1)

مسألة: لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض: فلا تقبل شهادة الأب والجد وإن علا لولده وإن سفل، ولا تقبل شهادة الولد وإن سفل لأبيه وجده وإن علا ولا تقبل شهادة الزوج لزوجته، ولا شهادة الزوجة لزوجها: سواء كان ذلك قبل الطلاق أو بعده؛ للتلازم؛ حيث إن وجود قوة القرابة بين عمودي النسب، ووجود قوة الوصلة بين الزوجين، وتبسط أحدهما في مال الآخر يلزم منه: عدم قبول شهادة هؤلاء لبعضهم؛ لوجود تهمة أن يحابي كل واحد الآخر في ذلك، فدفعًا لتلك التهمة: شرع عدم القبول.

[فرع]: تقبل شهادة الأخ لأخيه، والرجل لصديقه، والسيد العتيقه؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وهذا عام، فيشمل ما ذكرناه الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من انتفاء التهمة في المحاباة: قبولها هنا.

(2)

مسألة: تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم على بعض: فتقبل شهادة الأب، أو الجد وإن علا على ولده وإن سفل، وتقبل شهادة الولد وإن سفل على أبيه أو=

ص: 387

(ولا) تقبل شهادة (من يجر إلى نفسه نفعًا) كشهادة السيد لمكاتبه، وعكسه، والوارث بجرح مورِّثه قبل اندماله فلا تقبل

(3)

، وتقبل له في دينه في مرضه

(4)

(أو يدفع عنها) أي: عن نفسه بشهادته (ضررًا) كشهادة العاقلة بجرح شهود الخطأ، الخطأ، والغرماء بجرح شهود الدين على المفلس، والسيد بجرح من شهد على مكاتبه بدين ونحوه

(5)

، (ولا)

= جده وإن علا، وتقبل شهادة الزوج على زوجته - في غير الزنا - وتقبل شهادة الزوجة على زوجها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من انتفاء التهمة في ذلك: قبول شهادته عليه، ويلزم من إقراره على نفسه بعداوته لها بشهادته على زوجته بالزنا؛ لإفسادها فراشه: عدم قبول شهادة الزوج على زوجته بالزنا، وحكمه اللعان وقد سبق تفصيل الكلام فيه.

(3)

مسألة: لا تقبل شهادة شخص في شيء له فيه نفع بسبب تلك الشهادة أو سيتحصَّل منه على نفع مستقبلًا مثل: أن يشهد السيد لمكاتبه بمال، أو يشهد المكاتب لسيده بمال، وأن يشهد الوارث بأن وارثه قد جرحه فلان، وذلك قبل اندماله وشفائه فكل ذلك لا تقبل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود التهمة بانتفاع الشاهد بهذه الشهادة: عدم قبولها منه؛ لأن المكاتب، أو السيد سينتفع بهذا المال الذي شهد فيه، وربما سرى الجرح إلى النفس فتجب الدية بسبب تلك الشهادة فكأنه شهد لنفسه.

(4)

مسألة: تقبل شهادة وارث لمورثه في مرضه بدين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الشاهد لا حق له في ماله حين الشهادة: قبول شهادته.

(5)

مسألة: لا تقبل شهادة شخص في شيء يدفع به عن نفسه ضررًا بسبب تلك الشهادة كأن تشهد العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ، أو أن يشهد الغرماء بجرح شهود الدَّين على المفلس، أو أن يشهد السيد بجرح من شهد على مكاتبه بدين فهؤلاء لا تقبل شهادتهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود التهمة بدفع الشاهد الضرر عن نفسه: عدم قبولها منه؛ لأن العاقلة إذا شهدوا بما سبق فقد وقع=

ص: 388

تقبل شهادة (عدو على عدوه كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه) والمجروح على الجارح، ونحوه (ومن سرَّه مساءة شخص، أو غمّه فرحه فهو عدوه)

(6)

والعداوة في الدَّين غير مانعة، فتقبل شهادة مسلم على كافر، وسني على مبتدع

(7)

وتقبل شهادة العدو لعدوه

(8)

، وعليه في عقد نكاح

(9)

، ولا شهادة من عرف بعصبية، وإفراط في حمية كتعصب قبيلة على قبيلة، وإن لم تبلغ رتبة العداوة

(10)

.

= عليهم الاتهام في دفع الدية عن أنفسهم، ولأن الغرماء إذا شهدوا بما سبق: ففي ذلك اتهامهم بتوفير المال عليهم، ولأن السيد إذا شهد فيما سبق فإنه يدفع الضرر عن نفسه.

(6)

مسألة: لا تقبل شهادة عدو على عدوه عداوة دنيوية كأن يشهد على من قذفه، أو يشهد على من قطع الطريق عليه، أو أن يشهد المجروح على جارحه، فهؤلاء لا تقبل شهادتهم؛ للتلازم؛ حيث يلزم من وجود التهمة هنا: عدم قبول الشهادة فائدة: يعلم الشخص أنه عدو لشخص آخر: إذا سرَّه إذا أصابته مصيبة، وإذا غمّه إذا ناله سرور.

(7)

مسألة تقبل شهادة عدو على عدوه عداوة دينية: فتقبل شهادة المسلم على كافر، وتقبل شهادة العامل بالسنة على المبتدع؛ للتلازم؛ حيث إن تمسك المسلم والسني بدينه يمنعه من ارتكاب محظور في دينه فيلزم قبول شهادته على غيره.

(8)

مسألة تقبل شهادة العدو لعدوه: سواء كانت عداوة دنيوية، أو دينية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود تهمة محاباته: قبول شهادته.

(9)

مسألة: تقبل شهادة العدو على عدوه في عقد نكاح؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم وجود ذريعة إلى بلوغ غرضه، وتشفيه: قبول شهادته عليه في ذلك؛ إذ لا تهمة في ذلك.

(10)

مسألة: لا تُقبل شهادة شخصٍ عرف بعصبية، وإفراط في حمية لقبيلته، وإن لم تبلغ العداوة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تلك العصبية والحمية: عدم قبول شهادته، =

ص: 389

(فصل): في عدد الشهود (ولا يُقبل في الزنا) واللواط (والإقرار به إلا أربعة) رجال يشهدون، أو أنه أقرّ به أربعًا؛ لقوله تعالى:{لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} الآية

(11)

(ويكفي) في الشهادة (على من أتى بهيمة رجلان)؛ لأن موجبه التعزير

(12)

، ومن عرف بغنى وادَّعى أنه فقير؛ ليأخذ من زكاة: لم يُقبل إلا ثلاثة رجال

(13)

(ويُقبل في بقية الحدود) كالقذف والشرب والسرقة وقطع الطريق (و) في (القصاص) رجلان، ولا تقبل فيه شهادة النساء؛ لأنه يسقط بالشبهة

(14)

(وما ليس بعقوبة، ولا

= لكونه متهمًا في عدم قول الحق.

(11)

مسألة: الزنا واللواط يقبل فيهما أربعة شهود من الرجال فقط، أو يُقر أربع مرات على أنه زنا؛ أو لاط؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} الثانية: السنة القولية؛ حيث إن هلال بن أمية، أو عويمر العجلاني لما اتهم زوجته بالزنا أمره عليه السلام "بأن يأتي بأربعة شهداء وإلا حدٌّ في ظهرك" وهذا نص في المسألة، واللواط كالزنا في ذلك، وقد سبق بيان ذلك في باب الزنا.

(12)

مسألة: إتيان البهيمة يقبل فيه شهادة رجلين؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وهذا عام، ولا يُقاس على الزنا في عدد الشهود؛ لكون الزنا واللواط يحتاط فيه أكثر من غيره؛ لما فيه من اتهام الأفراد والأسرة بالفساد فاحترز فيه أكثر من غيره.

(13)

مسألة: إذا ادَّعى رجل بأنه فقير - وهو معروف بالغنى - لأجل أن يُعطى من الزكاة: فلا تقبل دعواه هذه إلّا بعد شهود ثلاثة رجال بأنه كذلك؛ للسنة القولية: حيث ادَّعى رجل بأنه فقير فقال عليه السلام: "حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة" وهو نص في المسألة.

(14)

مسألة: جميع الحدود - غير حد الزنا -، وكذا: القصاص تقبل فيها شهادة رجلين، ولا تقبل شهادة النساء؛ للتلازم؛ حيث إن سقوط الحدود بالشبهات،=

ص: 390

مال، ولا يقصد به المال، ويطّلع عليه الرجال غالبًا كنكاح، وطلاق، ورجعة، وخلع، ونسب، وولاء وإيصاء إليه) في غير مال (لا يقبل فيه إلا رجلان) دون النساء

(15)

(ويُقبل في المال، وما يقصد به) المال (كالبيع، والأجل، والخيار فيه) أي: في البيع (ونحوه) كالقرض، والرهن والغصب، والإجارة، والشركة، والشفعة، وضمان المال، وإتلافه، والعتق، والكتابة، والتدبير، والوصية بالمال، والجناية إذا لم توجب قودًا، ودعوى أسير تقدم إسلامه؛ لمنع رقه (رجلان، أو رجل وامرأتان)؛ لقوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} وسياق الآية يدل على اختصاص ذلك بالأموال (أو رجل ويمين المدعي)؛ لقول ابن عباس: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" رواه أحمد وغيره ويجب تقديم الشهادة عليه، لا بإمرأتين ويمين

(16)

، ويُقبل في داء دابة، وموضَّحة: طبيب، وبيطار واحد مع عدم غيره، فإن

= وأن هذا لا يطّلع عليه غالبًا إلا الرجال يلزم منه: قبول شهادة رجلين، ولا تقبل النساء فيه.

(15)

مسألة: إذا وُجد شيء ليس بعقوبة، ولا مال، ولا يُقصد فيه المال ويطلع عليه الرجال غالبًا مثل: النكاح، والطلاق، والرجعة، والخلع، والنسب، والولاء، ووصية في غير مال تقبل فيه شهادة رجلين دون النساء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك لا يطلع عليه إلا الرجال غالبًا، قبول: شهادة رجلين أدنى النصاب، وعدم قبول شهادة النساء.

(16)

مسألة في جميع الأموال، وما يُقصد فيه الأموال كالبيع، والأجل، والخيار في البيع، والشراء، واشتراط صفة في البيع، أو نقد غير نقد البلد، والقرض، والرهن، والعارية، والوديعة، والصلح، والإقرار بالمال، أو ما يوجب المال، والغصب، والإجارة، والشركة، والحوالة، والإبراء والشفعة، والمطالبة بها، أو إسقاطها، وضمان المال، وإتلافه، والمساقاة، والمزارعة، والمغارسة، والجعالة، والمضاربة، والهبة، والعتق، والكتابة، والتدبير، والوصية بمال، وكل=

ص: 391

لم يتعذر فائنان

(17)

(وما لا يطلع عليه الرجال) غالبًا (كعيوب النساء تحت الثياب،

= جناية لا توجب قصاصًا، ودعوى أسير تقدم إسلامه، كل ذلك يُقبل فيه إحدى أمور ثلاثة: أولها: إما شهادة رجلان، ثانيها: أو شهادة رجل وامرأتين، ثالثها: أو شهادة رجل، ويمين المدعي بشرط: تقدم شهادة الرجل على اليمين: بأن يشهد الشاهد، ثم يحلف صاحب اليمين، ولا يصح هنا شهادة امرأتين ويمين المدعي؛ لقاعدتين: الأولى: الكتاب؛ حيث قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} حيث بيّن الشارع أن هذا يكفي في الشهادة على الدَّين، وغير ذلك مما يخص الأموال مثل الدين؛ لعدم الفارق من باب:: مفهوم الموافقة" الثانية: السنة القولية؛ حيث "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد" وهذا يدل على الاكتفاء بذلك ولم يرد الاكتفاء بامرأتين ويمين لذلك لا يُشرع، فإن قلت: لَم جُعلت شهادة المرأتين عن شهادة رجل واحد؟ قلت: نظرًا لضعف عقل المرأة؛ حيث إن النساء ناقصات عقل ودين - كما ورد عنه عليه السلام فجعلتا كذلك لأجل إن ضلَّت إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فإن قلتَ: لِمَ اكتفي برجل وامرأتين فيما يخص الأموال؟ قلتُ: لأن المال يدخله البذل، والإباحة، وتكثر فيه المعاملة بين طبقات الناس، ويطلع عليه الرجال والنساء على السواء، فوسَّع الشارع في باب ثبوته، فأدخل في ذلك شهادة النساء؛ حفظًا لحقوق الناس، فإن قلت: لِمَ شُرعت اليمين من المدعي واكتفي بها عن الشاهد الآخر؟ قلتُ: لأن اليمين تشرع في جانب من ظهر صدقه، فإن قلتَ: لِمَ لا يكتفى بشهادة امرأتين ويمين المدعي؟ قلتُ: لعدم قبول شهادة النساء في ذلك منفردات.

(17)

مسألة: إذا وجد داء في إنسان، أو حيوان: فإنه يُقبل في معرفته والشهادة فيه قول طبيب واحد، أو بيطار واحد إذا لم يوجد غيره، وإن وجد غيره: فيقبل في ذلك اثنان؛ للقياس؛ بيانه: كما أن القاضي إذا أخبر بحكم: فإنه يُقبل قوله وإن=

ص: 392

والبكارة، والثيوبة، والحيض، والولادة، والرضاع، والاستهلال) أي: صراخ المولود عند الولادة (ونحوه) كالرتق، والقرن، والعفل، وكذا: جراحة وغيرها في حمام وعرس ونحوهما مما لا يحضره الرجال (يُقبل فيه شهادة امرأة عدل)؛ لحديث حذيفة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة وحدها" ذكره الفقهاء في كتبهم، وروى أبو الخطاب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة"(والرجل فيه كالمرأة) وأولى؛ لكماله

(18)

(ومن أتى برجل وامرأتين، أو أتى بشاهد ويمين) أي: حلفه (فيما يوجب القَوَد: لم يثبت به) أي بما ذكر (قود ولا مال)؛ لأن قتل العمد يوجب القصاص، والمال بدل منه، فإذا لم يثبت الأصل لم يجب بدله، وإن قلنا: الواجب أحدهما: لم يتعين إلا باختياره، فلو أوجبنا بذلك الدية: أوجبنا معينًا

= كان منفردًا فكذلك الطبيب هنا والبيطار، والجامع: أن كلا منهما يخبر عن اجتهاده.

(18)

مسألة: إذا وجد شيء لا يطَّلع عليه إلا النساء غالبًا كالأشياء الخاصة بالنساء كمعرفة الثيوبة، والبكارة، والحيض، والولادةو والرضاع، ومعرفة صراخ المولود عند الولادة، والرتق، والقرن، والعفل وعيوب في جسم المرأة الداخلي ونحو ذلك: فإنه يُقبل فيه شهادة امرأة عدل، أو رجل عدل إذا اطّلع على ذلك كطبيب، ونحوه، وذلك بدون يمين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون ذلك لا يطلع عليه غالبًا إلا امرأة، أو رجل يقوم مقام المرأة في ذلك: أن يكتفى بشهادتها، أو شهادة من يقوم مقامها، فإن قلت: لِمَ لا تشرع اليمين هنا؟ قلتُ: لأن ذلك إخبار عن أمور غائبة التي لا يطّلع عليها إلّا النساء، أو الرجل القائم مقام النساء في ذلك، بخلاف ما سبق من الأمور المالية فلا بد من شاهد ويمين؛ لكون ذلك في أمور ظاهرة يطّلع عليها الرجال غالبًا، فإذا انفرد بها الشاهد الواحد احتيج إلى تقويته باليمين. تنبيه لم أستدل بما ذكره المصنف هنا من الحديثين؛ نظرًا لضعفهما كما ذكر ذلك أئمة الحديث.

ص: 393

بدون اختياره

(19)

(وإن أتى بذلك) أي برجل وامرأتين، أو رجل ويمين (في سرقة: ثبت المال)؛ لكمال بينته (دون القطع)؛ لعدم كمال بينته

(20)

(وإن أتى بذلك) أي: برجل وامرأتين، أو رجل ويمين (في) دعوى (خلع) امرأته على عوض سمَّاه:(ثبت له العوض)؛ لأن بينته تامة فيه (وثبتت البينونة بمجرَّد دعواه) لإقراره على نفسه، وإن ادَّعته هي: لم يقبل فيه إلا رجلان

(21)

.

(19)

مسألة: إذا أتى شخص برجل وامرأتين فشهدوا بما يوجب القود والقصاص، أو أتى ذلك الشخص بشاهد وحلف يمينًا بما يوجب القود: فإنه لا يثبت بذلك القود والقصاص، ولا الدية؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك لا يثبت القود والقصاص لعدم كمال بينته فيلزم منه: عدم إثباته لبدله - وهو المال والدية - فإن قلتَ: إن ذلك يوجب أحدهما - إما القود أو الدية -؟ قلتُ: لا يتعين ذلك إلا باختياره، فلو أوجبنا الدية لكنا قد أوجبنا شيئًا معينًا بدون اختياره.

(20)

مسألة إذا أتى شخص برجل وامرأتين فشهدوا على آخر بأنه سرق، أو أتى بشاهد وحلف يمينًا على أنه سرق: فإن ذلك يثبت المال المسروق فقط، دون القطع؛ للتلازم؛ حيث إن تلك الشهادة أثبتت المال: فيلزم قبول الشهادة في ذلك؛ لكمال بينته في ذلك، ويلزم من قصور البيَّنة - وهو: عدم وجود شهادة رجلين -: عدم القطع.

(21)

مسألة: إذا أتى شخص برجل وامرأتين فشهدوا على أنه خالع زوجته على عوض سمَّاه، أو أتى بشاهد، وحلف يمينًا على أنه خالع زوجته على عوض سماه: فإن ذلك يثبت له العوض الذي سماه والطلاق البائن ثبت بمجرد تلك الدعوى التي أقام عليها أولئك الشهود أو الشاهد ويمينه، أما إن ادَّعت هي: أنها خالعته على عوض سمته: فلا تقبل دعواها إلا بشهادة رجلين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تمام البيِّنة بشهادة رجل وامرأتين، أو بشاهد ويمينه: ثبوت العوض له، ويلزم من إقراره على نفسه بالخلع: ثبوت البينونة بمجرَّد دعواه، ويلزم من كون مقصودها=

ص: 394

(فصل) في الشهادة على الشهادة (ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي) وهو حقوق الآدميين، دون حقوق الله تعالى؛ لأن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات

(22)

(ولا يحكم) الحاكم (بها) أي: بالشهادة على الشهادة (إلا أن تتعذَّر شهادة الأصل بموت أو مرض، أو غيبة مسافة قصر) أو خوف من سلطان، أو غيره؛ لأنه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل: استغنى عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع، وكان أحوط للشهادة

(23)

، ولا بد من

= الفسخ، وخلاصها من زوجها: عدم قبول دعواها الخلع إلا بشهادة رجلين عدلين كغيرها من الدعاوى.

(22)

مسألة: الشهادة على الشهادة مقبولة في كل حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وترد فيما يرد فيه وقد سبق بيانه وذلك في جميع حقوق الآدميين من مال، وقصاص، وحدّ قذف ونحو ذلك، دون حقوق الله تعالى؛ للمصلحة: حيث إن شهادة الفرع لو لم تقبل على شهادة الأصل - في حقوق الآدميين - لأدَّى ذلك إلى تعطيل حقوق الناس، وأكل أموالهم بالباطل ولأن الحدود التي لله تعالى كحدّ شرب الخمر، وحد الزنا ونحوهما مبنية على الستر، والدرء بالشبهات، واحتمال غلط، وخطأ، وسهو، وكذب شهود الفرع أو الأصل فيها يجعل الامتناع عن الشهادة فيها أولى من أدائها؛ لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه فيها.

(23)

مسألة: في الأول - من شروط صحة الشهادة على الشهادة والحكم بها - وهو: أن تتعذَّر شهادة الأصل بسبب موت الشهود الأصليين، أو مرضهم، أو غيبتهم في بلد يبعد مسافة قصر - وهو 82 كم - أو خوف من سلطان، وإذا أمكن الاستماع إلى شهود الأصل: فلا يجوز سماع شهود الفرع؛ لقاعدتين: الأولى: التلازم؛ حيث يلزم من كون شهادة الأصل تُثبت نفس الحق مباشرة، وشهادة الفرع تثبت الشهادة عليه: اشتراط ذلك الشرط؛ للاحتياط في الشهادة؛ نظرًا لضعف شهادة الفرع؛ لكون احتمال الخطأ والسهو والغفلة يتطرّق إلى شهود=

ص: 395

دوام عذر شهود الأصل إلى الحكم

(24)

ولا بد أيضًا من ثبوت عدالة الجميع، ودوام عدالتهم

(25)

وتعيين فرع الأصل

(26)

(ولا يجوز لشاهد الفرع: أن يشهد إلا أن

= الفرع أكثر من تطرّقه إلى شهود الأصل الثانية: المصلحة؛ حيث إنه إذا أمكن القاضي أن يسمع شهود الأصل: فإنه أيسر من سماعه شهود الفرع؛ لأنه إذا سمع شهود الأصل يكفيه أن يتأكد من عدالتهم فقط، ولكنه إذا سمع من شهود الفرع فلا بد أن يتأكد من عدالة شهود الأصل، والفرع معًا، وهذا فيه مشقّة عظيمة، فدفعًا لذلك اشتُرط ذلك الشرط.

(24)

مسألة في الثاني -من شروط صحة الشهادة على الشهادة والحكم بها - وهو: أن يستمر العذر المانع من حضور شهود الأصل إلى صدور الحكم في القضية المشهود فيها، فلو تمكّن شهود الأصل من الحضور قبيل صدور الحكم في القضية المشهود فيها: فإنه لا بدَّ من حضورهم؛ للقياس؛ بيانه: كما لو كان شهود الأصل حاضرين لما جاز أن يشهد على شهادتهم أحد، فكذلك في حال تمكّنهم من الحضور والجامع: زوال شرط الشهادة على الشهادة -وهو: عذر عدم تمكّنهم-.

(25)

مسألة في الثالث -من شروط صحة الشهادة على الشهادة والحكم بها- وهو: أن تثبت عدالة شهود الأصل، وعدالة شهود، الفرع، وأن تدوم تلك العدالة من الجميع إلى صدور الحكم في القضية المشهود فيها؛ للكتاب؛ حيث قال تعالى:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} فاشترط العدالة في الشهود، وهو عام، فيشمل شهود الأصل، وشهود الفرع.

(26)

مسألة: في الرابع -من شروط صحة الشهادة على الشهادة والحكم بها- وهو: أن يُعين شاهدي فرع لأصله فلو قال رجلان: "أشهدنا رجلان ساكنان هذا الحي": فإن تلك الشهادة لا تقبل؛ للتلازم؛ حيث إن اليقين، أو غلبة الظن مطلوب في الشهادة فيلزم منه تعيين الفرع للأصل؛ لإثبات ذلك؛ إذ الإجمال لا يفيد اليقين ولا غلبة ظن.

ص: 396

يسترعيه شاهد الأصل: فيقول) شاهد الأصل للفرع: (اشهد على شهادتي بكذا، أو) اشهد أني أشهد أن فلانًا أقرّ عندي بكذا أو نحوه، وإن لم يسترعه: لم يشهد؛ لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة، ولا ينوب عنه إلا بإذنه، إلا أن (يسمعه يقرّ بها): أي: يسمع الفرع الأصل يشهد (عند الحاكم أو) سمعه (يعزوها) أي: يعزو شهادته (إلى سبب: من قرض، أو بيع، أو نحوه) فيجوز للفرع أن يشهد؛ لأن هذا كالاسترعاء

(27)

، ويؤديها الفرع بصفة تحمُّله

(28)

، وتثبت شهادة شاهدي الأصل

(27)

مسألة في الخامس - من شروط صحة الشهادة على الشهادة والحكم بها - وهو: أن يطلب شاهد الأصل من شاهد الفرع: أن يحفظ شهادته ويؤديها في تلك القضية قائلًا: "اشهد على شهادتي بكذا" أو: "اشهد أني أشهد بكذا" أو "اشهد أني أشهد: أن فلانًا أقرّ عندي بكذا" ونحو ذلك - وهذا يسمَّى بالاسترعاء - من رعيت الشيء إذا حفظته - فإن لم يطلب منه ذلك: فلا يجوز له أن يشهد إلّا في حالة سماع شاهد الفرع لشاهد الأصل يشهد عند الحاكم ويقرّ بشهادة في قرض، أو بيع ونحوهما: فيجوز للفرع أن يشهد هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون شاهد الفرع نائبًا عن شاهد الأصل: عدم جواز شهادة الفرع إلا أن يسترعيه شاهد الأصل ويطلب منه الشهادة على شهادته، ويلزم من إثبات شاهد الأصل للشهادة عند الحاكم الإذن لغيره أن يشهد على شهادته كالاسترعاء.

(28)

مسألة: في السادس والأخير - من شروط صحة الشهادة على الشهادة والحكم بها - وهو: أن يؤدّي شاهد الفرع شهادة الأصل بالصفة ذاتها التي تحمَّلها دون زيادة أو نقصان بأن يقول - أي: شاهد الفرع -: "أشهد أن فلان ابن فلان أشهدني أنه يشهد أن لفلان ابن فلان على فلان كذا وكذا" أو "أشهدني أنه يشهد أن فلانًا أقرّ عندي بكذا، وإن سمعه يشهد عند الحاكم قال - أي: شاهد الفرع -: "أشهد أن فلان ابن فلان شهد على فلان عند الحاكم بكذا"، وإن لم يقل ذلك فلا يصح الحكم بها، فلا أن يقول: "سمعت فلانًا يقول: أقرض=

ص: 397

بفرعين، ولو على كل أصل فرع

(29)

، ويثبت الحق بفرع مع أصل آخر)

(30)

، ويُقبل تعديل فرع لأصله، وبموته ونحوه

(31)

، لا تعديل شاهد لرفيقه

(32)

(وإذا رجع شهود المال بعد الحكم: لم ينقض) الحكم؛ لأنه قد تم، ووجب المشهود به للمشهود له، ولو

= فلان فلانًا" أو يقول: "سمعتُ فلانًا يقول: لفلان على فلان كذا"؛ للتلازم؛ حيث إن الشهادة يُشترط فيها اليقين، أو ما يغلب على الظن فيلزم اشتراط ذلك؛ لكون ذلك يؤدي إليه.

(29)

مسألة: إذا شهد فرعان على أصلين اكتفي بذلك: سواء شهد كل فرع على أصل: أو شهد الفرعان معًا على الأصلين معًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون كل فرع بدل عن أصل: صحة ذلك، كما لو شهده الفرعان على نفس الحق، فإن قلت: لا تثبت حتى يشهد أربعة: يشهد فرعان على كل أصل، وهو قول الجمهور قلتُ: هذا فيه مشقة قد تمنع من الشهادة على الشهادة مما يؤدي إلى تعطيل حقوق الناس، فدفعًا لذلك، وتيسيرًا على المسلمين اكتفي بشهادة فرعين على كل أصل فرع، أو عليهما معًا؛ قياسًا على الشهادة بنفس الحق.

(30)

مسألة: إذا شهد شاهد واحد أصلي في القضية مع شاهد فرع عن شاهد الأصل الثاني: فإن الحق يثبت بذلك؛ للقياس؛ بيانه: كما تقبل شهادة الأصلين، أو الفرعين فكذلك تقبل شهادة الأصل مع الفرع والجامع: حصول اليقين وغلبة الظن في ذلك.

(31)

مسألة: إذا عدَّل الفرع الأصل الذي شهد على شهادته، أو أخبر بموته، أو مرضه، أو عدم قدرته على الحضور إلى المحكمة: فإن كل ذلك يُقبل؛ للتلازم؛ حيث إن شهادته على شهادة ذلك الأصل تعديل له فيلزم قبوله.

(32)

مسألة: إذا عدَّل شاهد في قضية الشاهد الآخر فيها وهو رفيقه: فلا يُقبل ذلك التعديل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إفضاء ذلك إلى انحصار الشهادة في أحدهما: عدم قبول ذلك.

ص: 398

كان قبل الاستيفاء (ويلزمهم الضمان) أي: يلزم الشهود الراجعين بذل المال الذي شهدوا به قائمًا كان أو تالفًا: لأنهم أخرجوه من يد مالكه بغير حق، وحالوا بينه وبينه (دون من زكَّاهم) فلا غرم على مزك إذا رجع المزكَّى؛ لأن الحكم تعلّق بشهادة الشهود، ولا تعلُّق له بالمزكِّين؛ لأنهم أخبروا بظاهر حال الشهود، وأما باطنه: فعلمه إلى الله تعالى

(33)

(وإن حكم) القاضي (بشاهد ويمين، ثم رجع الشاهد: غرم) الشاهد (المال كله)؛ لأن الشاهد حجّة الدعوى، ولأن اليمين قول الخصم، وقول الخصم ليس مقبولًا على خصمه، وإنما هو شرط الحكم، فهو كطلب الحكم

(34)

، وإن

(33)

مسألة: إذا شهد زيد وعمرو بأن محمدًا يطالب بكرًا بألف ريال، فحكم القاضي بذلك، ودفع بكر ذلك الألف لمحمد، ثم رجع زيد وعمرو بعد ذلك: فإن الحكم لا يُنقض ويلزم زيدًا أو عمرًا أن يضمنا ذلك المال، ويدفعاه إلى بكر، ولا شيء على من زكَّى وعدَّل زيدًا وعمرًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تمام المشهود به للمشهود له بسبب الحكم بشهادة زيد وعمرو: عدم نقض الحكم، ويلزم من إخراج المال من يد مالكه بغير حق: أن يضمنا ذلك المال، ويلزم من تعلُّق الحكم بشهادة الشهود، دون المزكين الذين حكموا بالظاهر: عدم ضمان المزكين للشاهدين الراجعين عن الشهادة - وهما زيد وعمرو -.

(34)

مسألة: إذا شهد شاهد واحد، وحلف المدّعي يمينًا على دعواه، وقضى القاضي وحكم بذلك المال ثم رجع الشاهد: فإن ذلك الشاهد يغرم جميع ذلك المال؛ للتلازم؛ حيث إن كون الشاهد حجة الدعوى، واشتراط تقدم شهادته على اليمين وكون اليمين قول الخصم، ولا يقبل قول خصم على خصمه يلزم منه: تفرّد ذلك الشاهد بضمان وغرم كل المال الذي شهد فيه، فإن قلت: لِمَ اشترطت اليمين إذن هنا؟ قلتُ: لأنها شرط للحكم، فجرى مجرى مطالبة المدّعي للحاكم بالحكم.

ص: 399

رجعوا قبل الحكم: لغت، ولا حكم ولا ضمان

(35)

، وإن رجع شهود قَوَد أو حد بعد حكم، وقبل استيفاء: لم يستوف، ووجب دية قَوَد

(36)

.

(35)

مسألة: إذا شهد شاهدان، أو شاهد واحد في قضية مال فرجعوا قبل أن يحكم القاضي بها: فإن الشهادة تلغى، وكأنها لم تكن، أي: لا حكم، ولا ضمان؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم تمام ووجوب المشهود به للمشهود له: إلغاء الشهادة، وعدم الحكم أصلًا.

(36)

مسألة: إذا شهد شهود في قَوَد، أو حد، فقضى القاضي بذلك بسبب تلك الشهادة، ثم رجع الشهود بعد الحكم وقبل استيفائه: فإن القود والقصاص أو الحد لا يُستوفى، وتجب دية قَوَد وقصاص، ويلزم الشهود الراجعين ضمان تلك الدية؛ للتلازم؛ حيث إن الواجب بالعمد أحد شيئين فيلزم من سقوط أحدهما - بسبب رجوع الشهود -؛ تعين الآخر - وهو الدية، ويلزم من رجوع الشهود بعد الحكم أن يضمنوا تلك الدية - كما سبق -.

[فرع]: إذا رجع الشهود في قود أو حد بعد الحكم وبعد الاستيفاء: فإن قالوا: تعمَّدنا قتله: فعليهم القصاص، وإن قالوا: غلطنا وأخطأنا: فتجب عليهم الدية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تعمدهم قتله: وجوب القصاص عليهم، ويلزم من غلطهم في ذلك: وجوب الدية عليهم.

هذه آخر مسائل باب: "موانع الشهادة، وعدد الشهود، والشهادة على الشهادة، ورجوع الشهود عن الشهادة"، ويليه باب:"اليمين في الدعاوي"

ص: 400

‌باب اليمين في الدَّعاوي

أي: بيان ما يُستحلف فيه، وما لا يستحلف فيه، وهي تقطع الخصومة حالًا، ولا تسقط حقًّا و (لا يُستحلف) منكر في العبادات) كدعوى دفع زكاة، وكفارة، ونذر (ولا في حدود الله) تعالى؛ لأنه يستحب سترها، والتعريض للمقرّ بها؛ ليرجع عن إقراره

(1)

ويستحلف المنكر) على صفة جوابه بطلب خصمه (في كل حق لآدمي)؛ لما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام: "ولكن اليمين على المدَّعى عليه"(إلا النكاح، والطلاق، والرجعة، والإيلاء، وأصل الرق) كدعوى رق لقيط (والولاء، والاستيلاء) للأمة (والنسب، والقود، والقذف) فلا يستحلف منكر شيء من ذلك؛

‌باب اليمين في الدعاوي

وفيه ست مسائل:

(1)

مسألة: لا يُستحلف منكر للعبادات، أو بعضها كأن يطلب جابي الزكاة من زيد دفع زكاة ماله فيقول زيد:"إني قد دفعتها" فلا يُطلب منه أن يحلف على ذلك، وكذلك الكفارة، والنذر، وكذلك: لا يُستحلف منكر الحد من حدود الله تعالى كحد الزنا، أو السرقة، أو شرب خمر، أو قطع طريق، بل يُستحب أن يُلقَّن طريقة الرجوع عن إقراره إن أقر بواحد من تلك الحدود؛ ليرجع عن إقراره؛ لئلا يقام عليه الحد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام لماعز - لما أقرّ بالزنا -: "لعلك قبَّلت، لعلك غمزت، لعلك نظرت"، الثانية: القياس، وهو من وجهين: أولهما: أن المرتكب لحد من حدود الله تعالى لو أقرّ به، ثم رجع عن ذلك لقُبل منه، وخُلِّي سبيله ولا يستحلف لاستحباب سترها، فمن باب أولى أنه لا يُستحلف مع عدم الإقرار به، ثانيهما: كما أنه لو أنكر ما يُوجب الحد فلا يستحلف فكذلك لو أنكر عبادة من العبادات لا يستحلف والجامع: أن كلًّا منها حق من حقوق الله تعالى.

ص: 401

لأنها ليست مالًا، ولا يقصد بها المال، ولا يقضى فيها بالنكول، ولا يستحلف شاهد أنكر تحمل الشهادة، ولا حاكم أنكر الحكم، ولا وصي على نفي دين على موصٍ

(2)

وإن ادَّعى وصي وصية للفقراء، فأنكر الورثة: حلفوا على نفي العلم، فإن نكلوا: قُضي عليهم

(3)

، ومن توجّه عليه حق لجماعة: حلف لكل واحد يمينًا إلا أن يرضوا بواحدة

(4)

(2)

مسألة: يستحلف كل منكر لحق آدمي من مال، أو يقصد فيه مال، وذلك إذا توجّهت عليه اليمين في دعوى صحيحة على صفة جواب المنكر بطلب خصمه، وذلك في مجلس الحكم، أما إذا لم يطلب خصمه اليمين: فلا يستحلف ذلك المنكر، ولا يستحلف من أنكر شيئًا لا مال فيه، ولم يقصد فيه المال كإنكاره للنكاح، أو الطلاق، أو الرجعة، أو الإيلاء، أو دعوى رق لقيط، أو الولاء، أو دعوى استيلاد أمة فتنكره أو نسب، أو قود، أو قذف، أو شاهد أنكر تحمل الشهادة، أو حاكم أنكر الحكم، أو وصي على نفي دين على موصٍ ونحو ذلك؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر" وفي رواية: "ولكن اليمين على المدَّعى عليه" وهذا عام في كل منكر حق آدمي، وذلك لأن جانب المدَّعى عليه قوي بأصل براءة الذمة، فكان أولى باليمين إذا لم يثبت المدَّعي بيَّنة على دعواه، الثانية: التلازم؛ حيث إن كون النكاح وما عطف عليه ليست بمال، ولا يقصد بها المال، ولا يقضى فيها بالنكول يلزم منه: عدم استحلاف المنكر لها.

(3)

مسألة: إذا ادَّعى زيد أن عمرًا قد أوصى للفقراء بشيء من ماله، فأنكر ورثة عمرو ذلك: فإن الحاكم يطلب من هؤلاء الورثة أن يحلفوا على نفي العلم بتلك الوصية، فإن حلفوا: قضي لهم ومنعت الوصية وإن نكلوا: قضي عليهم بها، وصُرفت الوصية للفقراء كما ادّعى زيد؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الوصية مالًا صحة الاستحلاف فيها.

(4)

مسألة: إذا أنكر زيد حقًّا ماليًا لجماعة من الناس: فإنه يحلف لكل واحد منهم=

ص: 402

(واليمين المشروعة) هي: (اليمين بالله) تعالى، فلو قال الحاكم لمنكر: قل: "والله لا حق له عندي" كفى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استحلف ركانة بن عبد يزيد في الطلاق، فقال:"والله ما أردت إلّا واحدة"(ولا تُغلَّظ) اليمين

(5)

(إلا فيما له خطر) كجناية لا توجب قودًا، وعتق، ونصاب زكاة فللحاكم تغليظها، وإن أبى الحالف التغليظ: لم يكن ناكلًا

(6)

.

= يمينًا خاصة به؛ إلا أن يرضوا بيمين واحدة فيحلفها وتكفي؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون كل واحد منهم حقه غير حق الآخر: أن يحلف لكل واحد يمينًا خاصة به، ويلزم من كون الحق لهم وقد رضوا بإسقاطه: أن يحلف يمينًا واحدة للجميع فتكفي.

(5)

مسألة: اليمين المشروعة هي: اليمين بالله تعالى كقوله: "والله لا حق له عندي" مثلًا دون تغليظ في اليمين، فلا حاجة لأن تغلظ اليمين في القول كقوله:"والله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة .. " ولا حاجة إلى أن يحلف عند الكعبة، أو بالقدس، أو عند الصخرة، أو بالمدينة، أو بالروضة، أو عند منبر الجامع، أو أن يحلف ما بين الأذان والإقامة، أو بعد العصر، ونحو ذلك؛ للسنة التقريرية: حيث إنه عليه السلام لما استحلف بعض الصحابة اكتفى بقوله: "والله إني لم أفعل ذلك"، فإن قلت: لِمَ شُرع هذا؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه تيسير على المسلمين.

(6)

مسألة: إذا كان الأمر المستحلف عليه فيه خطر كجناية لا توجب قودًا، أو عتق، أو نصاب زكاة أو نحو ذلك: فللحاكم أن يغلظها - كما ذكرنا ذلك في مسألة (5) -، والتغليظ ليس بشرط لصحة اليمين، فلو أبى المستحلف التغليظ: لم يكن ذلك نكولًا؛ للتلازم؛ حيث إن كون الاحتياط لازمًا في مثل هذه الأمور: أُذن للحاكم أن يغلظ اليمين، ويلزم من كون التغليظ ليس شرطًا في اليمين: عدم اعتبار امتناعه عنه نكولًا.

هذه آخر مسائل باب: "اليمين في الدعاوي" وهو آخر أبواب كتاب: "الشهادات" ويليه كتاب: "الإقرار"

ص: 403

‌كتاب الإقرار

وهو الاعتراف بالحق، مأخوذ من المقرّ، وهو: المكان: كأن المقر يجعل الحق في موضعه، وهو: إخبار عمّا في نفس الأمر، لا إنشاء

(1)

(ويصح) الإقرار (من مكلَّف) لا من صغير غير مأذون في تجارة، فيصح في قدر ما أذن له فيه (مختار غير محجور عليه) فلا يصح من سفيه إقرار بمال (ولا يصح) الإقرار (من مكره) هذا محترز قوله:"مختار" إلّا أن يقرّ بغير ما أكره عليه كأن يكره على الإقرار بدرهم، فيقرّ بدينار

(2)

،

‌كتاب الإقرار

وفيه ثلاث وستون مسألة

(1)

مسألة: الإقرار لغة: مأخوذ من قرَّ الشيء: إذا ثبت، فهو: إقرار واعتراف بما هو ثابت، وهو اصطلاحًا: إخبار وإظهار عمّا هو ثابت حقيقة في نفس الأمر، وليس بإنشاء.

(2)

مسألة: يُشترط في صحة الإقرار شروط ثلاثة: الشرط الأول: أن يكون المقر مكلَّفًا - أي: بالغ عاقل - فلا يصح إقرار الصبي، والمجنون، والنائم، والمعتوه، والمغمى عليه إلّا إذا أُذن لصبي بأن يتصرَّف ببعض تجارة فيصح إقراره فيما أُذن له له فيه فقط، دون ما زاد؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية؛ حيث قال عليه السلام: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ" حيث بيَّن الشارع: أن هؤلاء غير مكلفين حال الصبا، والجنون، والنوم، والإغماء، والعته مثل النوم والجنون؛ لعدم الفارق من باب:"مفهوم الموافقة" بجامع: عدم الإدراك في كل، ودل بمفهوم الغاية: على اشتراط التكليف، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من الإذن للصبي بالتجارة في بعض الجوانب: صحة إقراره فيما أذن له فيه، الشرط الثاني: أن يكون المقرّ رشيدًا، فلا=

ص: 404

ويصحّ من سكران

(3)

، ومن أخرس بإشارة معلومة

(4)

، ولا يصح بشيء في يد غيره، أو تحت ولاية غيره كما لو أقرّ أجنبي على صغير، أو وقف في ولاية غيره، أو اختصاصه

(5)

، وتُقبل من مقرّ دعوى إكراه بقرينة كترسيم عليه، وتقدم بينة إكراه على

= يصح إقرار سفيه محجور عليه؛ لأجل ذلك السفه؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لا يصح إقرار صغير بمال فكذلك لا يصح إقرار سفيه والجامع: ضعف العقل في كل عن إدراك حقائق الأمور، الشرط الثالث: أن يكون المقرّ مختارًا، فلا يصح إقرار المكره؛ إلا إذا أقرّ بشيء لم يكره على الإقرار به: كأن يكره على الإقرار بدرهم، فيقرّ بدينار: فإن ذلك الإقرار يصح؛ لقاعدتين: الأولى: السنة القولية: حيث قال عليه السلام: "عفي لأمتي الخطأ، والنسيان وما استُكرهوا عليه" حيث يدل مفهوم الصفة على اشتراط الاختيار في صحة الإقرار، الثانية: التلازم؛ حيث يلزم من إقراره بشيء لم يكره عليه: صحة إقراره به؛ لعدم العذر فإن قلت: لِمَ اشترطت تلك الشروط؟ قلتُ: للمصلحة؛ حيث إن ذلك فيه حفظ حقوق المقرّ نفسه.

(3)

مسألة: يصح إقرار كل من زال عقله بمعصية كمن شرب الخمر عمدًا بلا حاجة إليه، ثم أقرّ بشيء لآخر: فإن إقراره هذا يصح، للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره بشيء بسبب معصية: أن يصح إقراره؛ جزاء له على ما فعل كإيقاع طلاقه وهو في حالة سكره - كما سبق بيانه -.

(4)

مسألة: يصح إقرار الأخرس خِلْقة بالإشارة إذا فهم المقصود من تلك الإشارة؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه يصح إقرار الأخرس بالكتابة فكذلك يصح إقراره بالإشارة، والجامع: فهم المقصود من ذلك.

(5)

مسألة: لا يصح أن يقرّ زيد بشيء تحت يد عمرو، أو تحت ولايته - أي: ولاية عمرو -؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو وقف زيد في ولاية عمرو، أو اختصاص عمرو فلا يصح ذلك الوقف، فكذلك إذا أقرّ بشيء تحت يد أو ولاية غيره،=

ص: 405

طواعية

(6)

(وإن أكره على وزن مال فباع ملكه لذلك) أي: لوزن ما أكره عليه: (صح) البيع؛ لأنه لم يكره على البيع

(7)

، ويصح إقرار صبي أنه بلغ باحتلام إذا بلغ عشرًا

(8)

، ولا يُقبل بسن إلا ببيئة كدعوى جنون

(9)

(ومن أقرّ في مرضه) ولو مخوفًا،

= والجامع: عدم القدرة على الانتفاع بما أقرّ به، أو وقفه.

(6)

مسألة: إذا أقرّ زيد بمال لعمرو، وادَّعى زيد أن عمرًا قد أكرهه على ذلك الإقرار: فإن تلك الدعوى تقبل بشرطين: أولهما: أن يكون عمرو قادرًا على إكراهه، ثانيهما: أن يثبت زيد بيِّنة على ما ادَّعاه، وإذا تعارضت بيِّنة إكراهه مع بيِّنة عدم إكراهه: قدِّمت بيِّنة إكراهه؛ لقاعدتين: الأولى: القياس؛ بيانه: كما تقبل الدعاوي في غير ذلك فكذلك تقبل الدعوى في الإكراه بمثل ذلك، الثانية: التلازم؛ حيث إن احتمال إكراهه على الإقرار أقوى من احتمال اختياره وطواعيته على الإقرار فيلزم الأقوى في الوقوع.

(7)

مسألة: إذا أكره زيد على دفع مال لعمرو، فباع زيد ملكه كله؛ لأجل دفع ما أكره عليه: فإن ذلك البيع يصح؛ للتلازم؛ حيث إن عدم إكراهه على البيع يلزم منه: صحة بيعه لملكه.

(8)

مسألة: إذا أقرّ صبي بأنه بلغ بالاحتلام - أي: أنه بلغ بإنزال المني منه - وعمره عشر سنين، أو أقرّت صبية بأنها بلغت بالاحتلام، وعمرها تسع سنين: فإنه يصح إقرارهما بلا بيَّنة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الاحتلام من علامات البلوغ، وأنه لا يعلم إلّا من جهتهما فقط أن يصح إقرارهما في ذلك، ويُعاملان بناء على ذلك.

(9)

مسألة: إذا أقرّ صبي، أو صبية بأنهما قد بلغا بالسن - أي: ببلوغهما خمسة عشر عامًا -: فلا يقبل هذا الإقرار منهما إلّا ببيِّنة ودليل؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الشخص لو ادَّعى أنه يُجن فلا يقبل منه إلا ببيِّنة فكذلك إذا أقرّ بأنه بلغ خمسة عشر عامًا لا يقبل إلا ببيِّنة والجامع: أنه في كل منهما الأصل عدمه: أي: عدم=

ص: 406

ومات فيه بشيء: فكإقراره في صحته)؛ لعدم تهمته فيه

(10)

(إلا في إقراره) أي: إقرار المريض (بالمال لوارثه) حال إقراره بأن يقول: "له علي كذا"، أو يكون للمريض عليه دين فيقرّ بقبضه منه:(فلا يقبل) هذا الإقرار من المريض؛ لأنه متّهم فيه إلّا ببينة أو إجازة

(11)

(وإن أقرّ) المريض (لامرأته بالصداق: فلها مهر المثل بالزوجية، لا بإقراره)؛ لأن الزوجية دلّت على المهر ووجوبه، فإقراره إخبار بأنه لم يوفه

(12)

(ولو أقرّ المريض (أنه كان أبانها) أي: زوجته (في صحته: لم يسقط إرثها) بذلك إن لم

= البلوغ، وعدم الجنون.

(10)

مسألة: إذا أقرّ شخص في مرضه بشيء أنه لفلان: فإن هذا الإقرار يصح إذا لم يكن ذلك المقرّ له من الورثة: سواء كان هذا المرض مخوفًا، أو لا، وسواء مات فيه أو لا؛ للقياس؛ بيانه: كما لو أقرّ هذا الشخص في صحته بذلك: فإن الإقرار صحيح فكذلك الإقرار في مرضه، والجامع: عدم التهمة في كل.

(11)

مسألة: إذا أقرّ زيد في مرضه بمال أنه لعمرو، وعمرو من ورثة زيد حال إقراره بذلك، أو كان زيد يطالب عمرًا بدين - وهو من ورثة زيد - فيقرّ زيد أنه قبض ذلك الدين منه - أي: من عمرو -: فإن هذا الإقرار في الصورتين لا يقبل إلّا بشرط أن يُقيم زيد بيَّنة على ذلك الإقرار، أو يُجيز ذلك الإقرار ورثة زيد؛ للتلازم؛ حيث إن كون ذلك فيه إيصال المال إلى وارثه في مرضه وهو متّهم فيه، وهو محجور عليه في حقه، وهو من الحيل الباطلة؛ إذ العطية في مرضه لا تجوز؛ لكونها وصية ولا وصية لوارث فيلزم من ذلك كله: عدم صحة ذلك الإقرار إلا بذلك الشرط؛ لمنع أكل أموال الناس بالباطل، وهو المقصد منه.

(12)

مسألة: إذا أقرّ مريض لامرأته بالصداق والمهر ومات بعد ذلك: فيجب لها مهر مثيلاتها بسبب الزوجية، لا بسبب إقراره بذلك، للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره: الإخبار بأنه لم يسلِّمها حقها من المهر، ويلزم من الزوجية: وجوب مهر مثيلاتها.

ص: 407

تصدقه؛ لأن قوله غير مقبول عليها بمجرده

(13)

(وإن أقرّ) المريض بمال (لوارث، فصار عند الموت أجنبيًا) أي: غير وارث: بأن أقرّ لابن ابنه، ولا ابن له، ثم حدث له ابن:(لم يلزم إقراره)؛ اعتبارًا بحالته؛ لأنه كان متهمًا (لا أنه) أي: الإقرار (باطل) بل هو صحيح موقوف على الإجازة كالوصية لوارث

(14)

، (وإن أقرّ) المريض (لغير وارث) كابن ابنه مع وجود ابنه (أو أعطاه) شيئًا:(صح) الإقرار، والإعطاء (وإن صار عند الموت وارثًا)؛ لعدم التهمة إذ ذاك، ومسألة العطية ذكرها في "الترغيب"، والصحيح: أن العبرة فيها بحال الموت كالوصية، عكس الإقرار

(15)

،

(13)

مسألة: إذا أقرّ مريض: أنه كان قد طلق زوجته طلاقًا بائنًا أثناء صحته: فإنه لا يسقط إرثها بسبب ذلك الإقرار بشرط: عدم موافقتها وتصديقها له على ما أقرّ به؛ للقياس؛ بيانه: كما لو أبانها في مرضه: فإنها ترث، فكذلك إذا أقرّ في مرضه أنه أبانها في صحته والجامع: وجود اتهامه، ونظرًا لذلك لا يقبل أيُّ قول ضدها إذا لم توجد بيِّنة.

(14)

مسألة: إذا أقرّ مريض بمال لواحد من ورثته، فصار عند الموت غير وارث كأن أقرّ لولد ولده بألف درهم في حين عدم وجود ولد له، ثم بان عند موته وجود ولد له: فإن هذا الإقرار لا يصح إلّا أن يقيم بيِّنة على ذلك، أو يجيز الورثة ذلك كما سبق في مسألة (11) -؛ للتلازم؛ وقد سبق بيانه في مسألة (11).

(15)

مسألة: إذا أقرّ مريض بمال لغير وارث: كأن يقرّ لابن ابنه بألف مع وجود ابنه، فصار ابن الابن عند الموت وارثًا، أو أعطاه ألفًا: فإن هذا الإقرار صحيح فيأخذ ابن الابن ذلك الألف مع أنه سيرث؛ للتلازم؛ حيث إن عدم اتهامه حين الإقرار، وحين الإعطاء، وعدم وجود ما يُسقط ذلك: صحة ذلك الإقرار، والإعطاء، فإن قلت: إذا صار المعطى حال الموت وارثًا: لم تصح العطية، وهو قول بعض الحنابلة؛ للقياس على الوصية قلت: إن الإقرار والإعطاء سواء في هذا الجانب إذا بعد احتمال التهمة عن المقرّ، والمعطي.

ص: 408

وإن أقرّ قن بمال، أو بما يوجبه كالجناية: لم يؤخذ به إلّا بعد عتقه

(16)

، إلا مأذونًا له فيما يتعلَّق بتجارة

(17)

، وإن أقرّ بجد، أو طلاق، أو قود طرف أخذ به في الحال

(18)

(وإن أقرّت امرأة) ولو سفيهة (على نفسها بنكاح ولم يدعه) أي: النكاح (اثنان: قبل) إقرارها؛ لأنه حق عليها، ولا تهمة فيه، وإن كان المدعي اثنين: فمفهوم كلامه لا يقبل، وهو رواية، والأصح: يصح إقرارها، جزم به في "المنتهى" وغيره وإن أقاما بينتين: قدم أسبق النكاحين، فإن جهل فقول ولي، فإن جهل الولي: فسخا، ولا ترجيح بيد

(19)

(وإن أقر وليها) المجبر (بالنكاح): صحّ إقراره؛

(16)

مسألة: إذا أقرّ رقيق بمال لشخص آخر، أو أقرّ بما يوجب مالًا كالجناية: فإن هذا الإقرار صحيح، ولا يؤخذ به إلّا بعد عتقه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الرقيق لا يملك شيئًا: عدم أخذه بما أقرّ به إلا بعد عتقه؛ لأن الرقيق وماله ملك لسيده.

(17)

مسألة إذا أقرّ رقيق بمال يخص مال تجارة قد أذن له سيده بمزاولتها: فإن هذا الإقرار صحيح ومقبول، ويؤخذ به حالًا،؛ للتلازم؛ حيث يلزم من الإذن له بالتجارة: صحة إقراره به، ومؤاخذته به.

(18)

مسألة: إذا أقرّ رقيق بأنه ارتكب معصية توجب حدًا، أو أقرّ بطلاق، أو أنه قطع طرف فلان: فيصح إقراره، ويؤخذ به حالًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إمكان استيفاء ذلك من بدنه دون ماله: صحة إقراره ومؤاخذته به حالًا.

(19)

مسألة: إذا أقرّت امرأة على نفسها بنكاح واحد: فإنه يقبل إقرارها ذلك بشرط: عدم ادعاء اثنين لنكاحها، أما لو ادَّعى اثنان وقال كل واحد منهما: إنه زوجها: فلا يقبل إقرارها لواحد، فإن أقام كل واحد من الزوجين المدعين بيِّنة على أنه هو زوجها: فإنه يُقدَّم أسبق النكاحين تاريخًا، فإن جُهل التاريخ: فإنه يُقدَّم من صدَّقه وليها على ما قاله من تاريخ نكاحه لها، فإن جهل الولي ذلك: يجب فسخ النكاح كله، ولا يُرجَّح هنا بمن كانت تحت يده؛ للتلازم؛ حيث يلزم=

ص: 409

لأن من ملك إنشاء شيء: ملك الإقرار به كالوكيل يملك عقد البيع الموكَّل فيه فيصح إقراره به (أو) أقرّ به الولي (الذي أذنت له) أن يزوجها: (صح) إقراره به؛ لأنه يملك عقد النكاح عليها فملك الإقرار به كالوكيل

(20)

، ومن ادعى نكاح صغيرة بيده: فرَّق الحاكم بينهما، ثم إن صدقته إذا بلغت: قبل

(21)

(وإن أقرّ) إنسان (بنسب صغير، أو مجنون مجهول النسب أنه ابنه: ثبت نسبه) ولو أسقط به وارثًا معروفًا: لأنه غير متهم في إقراره؛ لأنه لا حق للوارث في الحال فإن كان المقرّ به (ميتًا: ورثه) المقر

(22)

،

= من كون النكاح حقًّا لها، ولا توجد تهمة فيه: صحة إقرارها، ويلزم من ادِّعاء اثنين أنهما زوجان لها: عدم صحة إقرارها؛ لعدم جواز تزويج المرأة باثنين معًا، ويلزم من تقدم أحدهما بالنكاح في التاريخ: بطلان النكاح الثاني بالأول، ويلزم من جهل التاريخ: الرجوع إلى قول الولي، ويلزم من جهل الولي: فسخ النكاح كله، ويلزم من عدم ثبوت الحر تحت يد أحد: عدم ترجيح بيد.

(20)

مسألة: إذا أقرّ ولي امرأة المجبر بالنكاح، أو أقرّ بنكاحها وليها الذي أذنت له أن يزوجها: فإن الإقرار في الصورتين يصح؛ للقياس؛ بيانه: كما أن الوكيل يملك عقد البيع الموكَّل فيه يصح إقراره به، فكذلك الحال في هاتين الصورتين والجامع: أن كلا منهما يملك العقد.

(21)

مسألة: إذا ادَّعى شخص أنه نكح صغيرة تحت يده: فللحاكم أن يفرق بينهما، فإن صدَّقته إذا بلغت: فإن ذلك الادعاء يُقبل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم قبول المدَّعي بمجرَّده: أن يُفرِّق الحاكم بينهما عند عدم البيِّنة، ويلزم من تصديقها له عند بلوغها وعدم المانع من ذلك النكاح: قبول ما ادعاه، وأقرّ به.

(22)

مسألة: إذا أقرّ شخص بأن ذلك الصغير، أو المجنون أنه ابنه: فإنه يثبت نسبه إلى ذلك الشخص بشرط أن يكون ذلك الصغير، أو المجنون مجهول النسب، وهذا يصح وإن كان ذلك المقرّ به مسقطًا لوارث: كأن يحجب وارثًا كان سيرث لولاه ويرثه المقرّ إن كان المقرّ به ميتًا؛ للتلازم؛ حيث إن المقرّ غير متهم في إقراره؛ لعدم=

ص: 410

وشرط الإقرار بالنسب: إمكان صدق المقر

(23)

، وأن لا وأن لا ينفي به نسبًا معروفًا

(24)

، وإن كان المقر به مكلفًا: فلا بد أيضًا من تصديقه

(25)

(وإن ادَّعى) إنسان (على شخص) مكلَّف (بشيء فصدَّقه: صح) تصديقه، وأخذ به؛ لحديث:"لا عذر لمن أقر"

(26)

والإقرار: يصح بكل ما أدَّى معناه كصدقت، أو نعم، أو: أنا مقرّ بدعواك، أو: أنا مقرّ فقط، أو خذها، أو اتزنها، أو اقبضها، أو احرزها ونحوه، لا إن قال: أنا أقرّ، أو لا أنكر، أو يجوز أن تكون محقًا، ونحوه

(27)

.

= استحقاق الوارث الاعتراض على ذلك في حالة حياة المقرّ فيلزم من ذلك: صحة الإقرار، ويلزم من صحة ذلك: أن يرث المقرُّ به المقرَّ، وأن يرث المقرُّ المقرَّ به.

(23)

مسألة: يُشترط في صحة الإقرار بالنسب: إمكان صدق المقرّ بأن لا يكذبه الحس والواقع، فلو أقرَّ شخص بأن زيدًا ابنه مع أن زيدًا أكبر سنًا من المقرّ: لما قُبل ذلك الإقرار؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تكذيب الحس والواقع: عدم صحة الإقرار؛ لوجود ما يكذبه.

(24)

مسألة: يُشترط في صحة الإقرار بالنسب: أن لا ينفي بذلك الإقرار نسبًا معروفًا: كأن يكون المقرّ به معروف أنه ابن فلان؛ للتلازم؛ حيث يلزم من معرفة نسبه: عدم صدق الإقرار به إلّا ببيِّنة تقوى على إزالة النسب المعروف به.

(25)

مسألة: يُشترط في صحة الإقرار بنسب المكلَّف: أن يُصدَّق ذلك المكلَّف المقرّ على ذلك الإقرار؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تكليفه وإدراكه: أن يعتبر تصديقه للمقر، أو عدم ذلك.

(26)

مسألة: إذا ادَّعى زيد على عمرو بشيء فصدَّقه عمرو: فإن ذلك التصديق يصح، ويؤخذ به؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تصديقه بعد الدعوى عليه: صحة ذلك؛ لبعد احتمال عدم التصديق.

(27)

مسألة: الإقرار يصح بكل عبارة تؤدي إلى معناه والمقصود منه. مثل: "صدقت" أو "نعم" أو "أنا مقر" فقط، أو "أنا مقرّ بدعواك" أو "خذها" أو "اتزنها" أو=

ص: 411

(فصل): (وإذا وصل بإقراره ما يسقطه مثل: أن يقول: له علي ألف لا تلزمني ونحوه) كله عليّ ألف من ثمن خمر، أو له علي ألف مضاربة، أو وديعة تلفت:(لزمه الألف)؛ لأنه أقرّ به، وادّعى منافيًا ولم يثبت فلم يقبل منه (وإن قال): له عليّ ألف وقضيته، أو برئت منه أو قال:(كان له علي) كذا (وقضيته) أو برئت منه: (فقوله) أي: قول المقر (بيمينه) ولا يكون مقرًا، فإذا حلف: خُلِّي سبيله؛ لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلًا فكان القول قوله (ما لم تكن) عليه (بينة) فيعمل بها

(28)

(أو يعترف بسبب الحق) من عقد، أو غصب أو غيرهما، فلا يقبل قوله في الدفع، أو البراءة إلا ببينة؛ لاعترافه بما يوجب الحق عليه

(29)

، ويصح استثناء النصف فأقل في

= " اقبضها" أو "احرزها" ونحو ذلك من العبارات المفهمة للإقرار، أما العبارة التي فيها تشكيك أو تردد أو عدم قطع كقوله:"أنا أقرّ" أو "لا أنكر" أو "يجوز أن تكون محقًا" أو "لعلّك محقًا" أو "عسى أن تكون محقًا" أو "أظنك صادقًا" أو "أحسب" فلا يصح الإقرار بها؛ للتلازم؛ حيث إن العبارة التي لا احتمال فيها يلزم صحة الإقرار بها، ويلزم من العبارة المتردَّد فيها: الشك في الإقرار، والشك لا تُبنى عليه أحكام.

(28)

مسألة: إذا وصل المقرّ بإقراره كلامًا - يظن أنه يسقط ما أقرّ به كأن يقول - زيد لعمرو: "عليّ ألف درهم لا تلزمني؛ لكونها قد تلفت" أو قال: "له عليّ ألف، وقضيته إياها، أو برئت منه": فيجب على زيد أن يدفع لعمرو ألفًا في الصورة الأولى، ويُقبل قوله في الصورة الثانية مع يمينه أنه قضاه حقه فإذا حلف: خلِّي سبيله، وإن نكل: وجب عليه أن يدفع ألفًا لعمرو إذا لم تكن بيِّنة عليه؛ للتلازم؛ حيث إنه في الصورة الأولى أقرّ بالألف وادّعى منافيًا لم يثبت فلزم منه: عدم قبول قوله، فوجب دفعه إلى عمرو، ويلزم من رفعه ما أثبته في الصورة الثانية بدعواه القضاء متصلًا: أن يقبل قوله مع التأكيد باليمين؛ لاحتمال كذبه.

(29)

مسألة: إذا اعترف شخص بأن عليه ألفًا بسبب: كعقد، أو غصب، أو وديعة=

ص: 412

الإقرار: فله على عشرة إلا خمسة: يلزمه خمسة، وله هذه الدار، ولي هذا البيت يصح، ويقبل ولو كان أكثرها

(30)

(وإن قال: له عليّ مائة، ثم سكت سكوتًا يمكنه الكلام فيه، ثم قال: زيوفًا) أي: معيبة (أو مؤجلة: لزمه مائة جيدة حالة)؛ لأن الإقرار حصل منه بالمائة مطلقًا، فينصرف إلى الجيد الحال، وما أتى به بعد سكوته لا يُلتفت إليه؛ لأنه يرفع به حقًّا لزمه

(31)

(وإن أقرّ بدين مؤجَّل): بأن قال - بكلام

= أو نحو ذلك، وادَّعى بأنه قد دفع ذلك الألف أو أبرأه صاحبه منه: فلا تقبل دعواه تلك إلّا ببيِّنة يثبتها على أنه دفعه، أو أبرأه منها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اعترافه بذلك: وجوب الحق عليه، ويلزم من وجوب ذلك الحق: عدم زواله ورفعه إلّا ببيِّنة تثبت ذلك.

(30)

مسألة إذا أقرّ زيد بأن عليه لعمرو مالًا فلا يجوز له أن يستثني منه الأكثر ولا النصف، فلو قال:"له على عشرة إلّا ستة أو إلّا خمسة": فإن المقرّ تلزمه العشرة كاملة أما لو استثنى الأقل فقال: "له عليّ عشرة إلّا أربعة" فإن المقرّ يلزمه أن يدفع ستة؛ للاستقراء؛ وهو من وجهين: أولهما: حيث إنه ثبت بعد تتبّع واستقراء أهل اللغة أن استثناء الأكثر، أو النصف يُعتبر عيًا ولكنة، قال ابن جني: ولو قال قائل: "علي مائة إلّا تسعين": ما كان متكلمًا بالعربية، وقال مثل ذلك القتبي، وابن درستويه، والزجاج، ثانيهما: أنه بعد استقراء وتتبّع كلام العرب وجد أن الاستثناء قد جرى في كلامهم على خلاف الأصل؛ لأنه إنكار بعد إقرار، والأصل: عدم الإنكار، لكن لما كان الإنسان قد يغفل عن بعض ما أقرّ به: أجيز استثناء القليل؛ لدفع الضرر، وأما الأكثر، أو النصف فلا يعقل أن يغفل عنه الإنسان، وقد أطلت الكلام في ذلك في كتابي: "المهذب في علم أصول الفقه (4/ 1684 إلى 1692)، وأجبتُ فيه عن أدلة القائلين بجواز ذلك، ومنهم المصنف هنا، وسبب الخلاف هو: ما ذكرته من اختلافهم في الأصل.

(31)

مسألة: إذا قال زيد مقرًّا: "لعمرو عليّ مائة درهم" فسكت سكوتًا يمكنه الكلام=

ص: 413

متصل -: "له علي مائة مؤجَّلة إلى كذا"(فأنكر المقر له الأجل) وقال: هي: حالَّة: (فقول المقر مع يمينه) في تأجيله؛ لأنه مقرّ بالمال بصفة التأجيل، فلم يلزمه إلّا كذلك، وكذا: لو قال: ثمن مبيع، ونحوه، ولو قال له علي ألف مغشوشة، أو سود: لزمه كما أقر

(32)

(وإن أقرّ أنه وهب) وأقبض (أو) أقرّ أنه (رهن وأقبض) ما عقد عليه (أو أقر) إنسان (بقبض ثمن أو غيره) من صداق، أو أجرة، أو جعالة ونحوها (ثم أنكر) المقر الإقباض، أو (القبض، ولم يجحد الإقرار) الصادر منه (وسأل إحلاف خصمه) على ذلك: (فله ذلك) أي: تحليفه، فإن نكل: حلف هو، وحكم له؛ لأن العادة جارية بالإقرار بالقبض قبله

(33)

(وإن باع شيئًا، أو وهبه، أو أعتقه، ثم أقرّ)

= فيه، ثم قال بعد ذلك:"معيبة، أو رديئة، أو مؤجَّلة": فيجب على المقرّ أن يدفع لعمرو مائة درهم جيدة حالَّة؛ للتلازم؛ حيث إن الصفة يجب أن تكون واقعة بعد الموصوف مباشرة دون فصل، فيلزم من تأخيره للصفة وهي كونها معيبة مؤجلة بدون عذر: أن يقع الموصوف على المعهود، وهو: كون المائة جيدة حالَّة فوجبت على زيد دفعها، ولا يُلتفت إلى ما قاله بعد ذلك من الصفة - وهي معيبة مؤجَّلة - لكونه ادعاء يرفع حقًّا قد قد لزمه سابقًا.

(32)

مسألة: إذا أقرّ زيد بدين مؤجل قائلًا: "لعمرو عليّ مائة مؤجَّلة إلى سنة" فأنكر المقرّ له - وهو عمرو - قائلًا: "هي حالَّة":، أو قال المقرّ - وهو زيد -:"لعمرو عليّ مائة ثمن مبيع، أو ضمان، أو صداق، أو نحو ذلك، أو قال المقرّ - وهو زيد -: "لعمرو علي مائة مغشوشة، أو سود" ونحو ذلك: فإنه يُقبل قول المقرّ هنا في تلك الصور الثلاث مع يمينه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره بتلك الصفة - وهي: التأجيل، وكونها ثمن مبيع، وكونها مغشوشة - وهو غارم: أن يقبل قوله مع يمينه.

(33)

مسألة: إذا أقرّ زيد أنه وهب عمرًا دارًا وأقبضها إياه، أو أقرّ هو بأنه رهن شيئًا وأقبض ما عقد عليه، أو أقرّ بقبض ثمن، أو صداق، أو أجرة، أو جعالة، ثم=

ص: 414

البائع، أو الواهب، أو المعتق (أن ذلك) الشيء المبيع، أو الموهوب، أو المعتق (كان لغيره: لم يقبل قوله)؛ لأنه إقرار على غيره (ولم ينفسخ البيع ولا غيره من الهبة والعتق (ولزمته غرامته) للمقرّ له؛ لأنه فوَّته عليه

(34)

(وإن قال: لم يكن) ما بعته، أو وهبته ونحوه (ملكي، ثم ملكته بعد) البيع ونحوه (وأقام بينة) بما قاله: (قُبلت) بينته

(35)

(إلا أن يكون قد أقرّ أنه ملكه أو) قال (إنه قبض ثمن ملكه) فإن قال ذلك:

= أنكر ذلك المقرّ - وهو زيد - القبض، ولكنه لم يجحد الإقرار الصادر منه، ولا توجد بيِّنة على ذلك، وطلب إحلاف خصمه - وهو المقرّ له وهو عمرو - على ذلك: فله تحليفه، فإن نكل ذلك الخصم - وهو عمرو - فإن زيدًا يحلف هو، ثم يحكم له على ما قال؛ للتلازم؛ حيث يلزم من نكول خصمه عن اليمين: أن يحلف هو، ويحكم له، وقد جرت العادة بذلك.

(34)

مسألة: إذا باع زيد عبدًا على عمرو، أو وهبه له، أو أعتقه، ثم أقرّ زيد - البائع، والواهب، والمعتق -: أن ذلك العبد كان لغيره: فلا يقبل قوله - أي: لا يقبل قول زيد -، والبيع والهبة، والعتق لا ينفسخ بسبب قوله هذا، وإن أخذه ذلك الغير: فيجب على زيد أن يغرمه ويدفع ثمنه لعمرو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره على غيره: عدم قبول ذلك إلّا ببيِّنة، ويلزم من صحة البيع، والهبة، والعتق: عدم انفساخها بقوله، ويلزم من ذلك: تغريم زيد بثمن العبد للمشتري، والموهوب له، والمعتق؛ لأنه فوّته عليه من غير وجه حق.

(35)

مسألة إذا باع زيد عبدًا على عمرو، أو وهبه له، أو أعتقه، ثم قال - أي: زيد -: لم يكن ما بعته أو وهبته، أو أعتقته ملكي حين البيع، أو الهبة أو العتق، لكني ملكته بعد البيع، أو الهبة أو العتق: فإن ذلك القول يُقبل منه بشرط: أن يثبت على قوله هذا بيِّنة؛ للتلازم؛ حيث إن ذلك دعوى فيلزم عدم قبولها إلّا ببيِّنة.

ص: 415

(لم يُقبل) منه بيِّنة؛ لأنها تشهد بخلاف ما أقرّ به، وإن لم يقم بيِّنة: لم يقبل مطلقًا

(36)

، ومن قال: (غصبتُ هذا العبد من زيد، لا بل من عمرو "أو" غصبته من زيد، وغصبه هو من عمرو" أو قال:"هو لزيد، بل لعمرو": فهو لزيد، ويغرم قيمته لعمرو

(37)

.

(فصل): في الإقرار بالمجمل، وهو ما احتمل أمرين فأكثر على السواء، ضد المفسَّر (إذا قال) إنسان:(له): أي: لزيد مثلًا (عليّ شيء أو) قال له عليّ (كذا) أو كذا كذا، أو كذا وكذا، أو: له عليّ شيء وشيء: (قيل له) أي: للمقرّ: (فسِّره) أي: فسِّر ما أقررت به؛ ليتأتّى إلزامه به (فإن أبى) تفسيره (حُبس حتى يُفسره)؛

(36)

مسألة: إذا أقرّ زيد أن ما باعه، أو وهبه، أو أعتقه أنه ملكه، أو أنه قبض ثمن ملكه: فلا يقبل منه ذلك إلا ببيِّنة، وإن لم يقم بيِّنة على ذلك: لا يقبل كلامه مطلقًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من دعواه تلك: أن لا تثبت إلّا ببيِّنة.

(37)

مسألة: إذا قال بكر: "غصبت هذا الجمل من زيد لا بل من عمرو" أو قال: "هو لزيد، بل لعمرو": فإن الجمل يكون ملكًا لزيد في الصورتين؛ ويغرم قيمته لعمرو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره لهما في ذلك: أن يكون الجمل لزيد، وإعطاء عمرو قيمته؛ لكونه حقًّا لآدمي، ولا يُقبل رجوعه عنه.

[فرع]: إذا قال: "غصبتُ ذلك الجمل من زيد، وغصبه هو من عمرو": فإن الجمل يكون لزيد، ولا يغرم قيمته لعمرو؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره بالغصب من زيد: تضمّنه كونه ملكًا له، ويلزم من قوله:"وغصبه زيد من عمرو": عدم تغريمه ثمنه ودفعه لعمرو؛ لأنه إنما كان شاهدًا له به فإن قلت: إنه يغرم قيمته لعمرو في هذه الصورة، وهو ما ذكره المصنف هنا، قلتُ: لم أجد دليلًا قويًا على ذلك؛ لأن بكرًا مجرد شاهد على أن زيدًا قد غصب الجمل من عمرو فقط، والشاهد لا يغرم شيئًا.

ص: 416

لوجوب تفسيره عليه

(38)

(فإن فسَّره بحق شفعة أو) فسَّره (بأقل مال: قبل) تفسيره، إلا أن يكذبه المقرّ له، ويدعي جنسًا آخر، أو لا يدعي شيئًا، فيبطل إقراره

(39)

(وإن فسَّره) أي: فسَّر ما أقرّ به مجملًا (بميته أو خمر) أو كلب لا يُقتنى (أو) بمال لا يتموَّل (كقشر جوزة) أو حبة بر، أو رد سلام، أو تشميت عاطس ونحوه:(لم يقبل) منه ذلك؛ لمخالفته لمقتضى الظاهر

(40)

(ويُقبل) منه تفسيره (بكلب مباح نفعه)؛ لوجوب ردِّه (أو حدّ قذف)؛ لأنه حق آدمي كما مرّ

(41)

، وإن قال المقرّ: لا علم لي بما

(38)

مسألة: إذا أقرّ زيد بشيء مجمل - وهو: ما احتمل شيئين لا مزية لأحدهما على الآخر - قائلًا: "لعمرو عليّ شيء" أو "له عليّ كذا وكذا" ونحو ذلك: فإنه يُقال لزيد - وهو المقرّ -: فسِّر ووضِّح ما أقررت به؛ لأجل أن تلزم به، فإن أبى أن يُفسِّره: فإنه يُحبس حتى يُفسِّره؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم صحة الحكم بالمجهول: وجوب تفسير المقرّ به؛ ليقصد بعينه، ويطالب به.

(39)

مسألة: إذا أقرّ شخص بشيء مجمل لغيره، وفسَّره بأنه حق شفعة، أو فسَّره بأقل مال: فإن هذا التفسير يُقبل؛ إلا إذا كذَّبه المقرّ له، وادَّعى بشيء آخر، أو لم يدع شيئًا على زيد: فإن إقرار زيد يكون باطلًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون حق الشفعة حق واجب يؤول إلى المال، وأن الشيء يصدق عليه أقلّ مال: أن يقبل تفسيره هذا به، ويلزم من تكذيب المقرّ له: بطلان الإقرار؛ لكونه حقًّا له فأسقطه، أو ادّعى غيره.

(40)

مسألة: إذا أقرّ شخص بشيء مجمل لغيره، وفسَّر ما أقرّ به بما لا يُتموَّل كخمر، أو ميتة، أو آلة طرب، أو كلب لا يُقتنى، أو نحو ذلك مما لا مال له في الإسلام: فإن ذلك التفسير لا يُقبل منه؛ للتلازم؛ حيث إن تفسيره مخالف لمقتضى الظاهر مما أقرّ به فيلزم عدم قبوله؛ لوجود التناقض.

(41)

مسألة: إذا أقرّ شخص بشيء مجمل لغيره، وفسَّره بكلب مباح نفعه، ويُقتنى مثل: كلب صيد، أو ماشية، أو زرع، أو فسِّره بحد قذف: فإن تفسيره ذلك=

ص: 417

أقررت به: حلف إن لم يصدقه المقرّ له، وغرّم له أقل ما يقع عليه الاسم

(42)

، وإن مات قبل تفسيره: لم يؤاخذ وارثه بشيء، ولو خلَّف تركة؛ لاحتمال أن يكون المقرّ به حدّ قذف

(43)

، وإن قال:"له علي مال" أو "مال عظيم، أو خطير، أو جليل" ونحوه: قبل تفسيره بأقل متموّل حتى بأم ولد

(44)

(وإن قال) إنسان على إنسان: (له عليّ

= يُقبل منه؛ للتلازم؛ حيث إن الكلب المنتفع به، وحد القذف حق لآدمي فيلزم قبول تفسيره به.

(42)

مسألة: إذا أقرّ شخص بشيء مجمل لغيره، وطولب بتفسيره، فقال ذلك المقرّ:"لا علم لي بما أقررتُ به": فيجب عليه أن يحلف يمينًا على أنه فعلًا لا يعلمه إذا لم يصدقه المقرّ له، وبعد حلفه يجب أن يدفع للمقر له أقل ما يُطلق عليه الاسم من المال، أما إن صدَّقه المقرّ له: فلا يجب على المقرّ دفع شيء؛ للقياس؛ بيانه: كما أنه لو أوصى بشيء لفقير فإنه يُعطى الفقير أقل ما يُطلق عليه الاسم من المال فكذلك الحال هنا.

(43)

مسألة إذا أقرّ شخص بشيء مجمل لغيره، ومات ذلك الشخص قبل تفسير ذلك: فلا يجب أن يؤخذ من تركته شيء من المال ولا يطالب ورثته بشيء؛ للتلازم؛ حيث يلزم من احتمال أن يكون المقرّ به حد قذف: عدم مطالبة ورثته بشيء، أو الأخذ من تركته.

(44)

مسألة: إذا أقرّ شخص بشيء مجمل لغيره، ووصفه بأنه مال عظيم، أو خطير، أو جليل، أو نفيس، أو عزيز: فإنه يُرجع إلى عرف المتكلم، فيُفسَّر بما جرت عادته وعرفه عليه، فيحمل مطلق كلامه على محتملاته، للعرف والعادة؛ حيث إن ذلك يُرجع في العادة إلى عادة وعُرف المتكلِّم في شؤونه الخاصة، فإن قلتَ: إنه هنا يُقبل تفسيره بأقل متموّل، وهو ما ذكره المصنف هنا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من اختلاف الناس في العظيم، والخطير ونحوهما من الأوصاف: أن يُفسَّر بأقل متموَّل؛ لأن الحقير عند بعض الناس قد يكون عظيمًا عند آخرين قلتُ: هذا غير=

ص: 418

ألف: رجع في تفسير جنسه إليه) أي: إلى المقرّ؛ لأنه أعلم بما أراده

(45)

: (فإن فسَّره بجنس) واحد من ذهب، أو فضة، أو غيرهما (أو) فسَّره (بأجناس: قبل منه) ذلك؛ لأن لفظه يحتمله

(46)

، وإن فسَّره بنحو كلاب: لم يُقبل

(47)

، وله عليّ ألف ودرهم، أو ثوب ونحوه، أو دينار وألف، أو ألف وخمسون درهمًا، أو خمسون وألف درهم، أو ألف إلّا درهم: فالمجمل من جنس المفسَّر معه

(48)

، وله في هذا العبد شرك، أو

= مسلَّم؛ لأن صفة العظيم، أو الخطير ونحوهما تدلّان على الكثرة؛ إذ لا يُقبل من الملك والخليفة ونحوه تفسيره بأدنى متموَّل، فإن قلت: ما سبب الخلاف هنا؟ قلتُ: سببه: "الاختلاف في صفة العظيم والخطير ونحوهما هل يختلفان باختلاف الناس أو لا؟ ".

(45)

مسألة: إذا أقرّ شخص قائلًا: "له عليّ ألف" فإنه يُرجع في تفسير جنسه إلى المقرّ نفسه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من علمه بما أراده من الألف: أن يُرجع في تفسيره إليه، دون غيره؛ لاحتمال أن المراد بالألف: ألف درهم، أو ألف دينار.

(46)

مسألة: إذا أقرّ شخص قائلًا: "له عليّ ألف" وفسَّره بجنس واحد كقوله: "ألف ذهب" أو "ألف فضة" أو "ألف درهم" ونحو ذلك، أو فسَّره بأجناس كقوله:"خمسمائة ذهب، وخمسمائة فضة": فإن هذا التفسير يُقبل منه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون لفظه يحتمل ما فسَّره به: أن يقبل تفسيره به.

(47)

مسألة: إذا أقرّ شخص قائلًا: "له عليّ ألف" وفسَّره بقوله: "له عليّ ألف كلب": فإن تفسيره هذا لا يقبل: سواء كانت مباحة الاقتناء أو لا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من بعد هذا التفسير عن الظاهر: عدم قبول هذا التفسير.

(48)

مسألة: إذا أقرّ شخص فقال: "له على ألف ودرهم" أو: "له عليّ ألف وثوب" ونحوه، أو:"له عليّ دينار، وألف" أو "له عليّ ألف وخمسون درهمًا" أو "له عليّ خمسون وألف درهم" أو "له عليّ ألف إلّا درهم": فإن المجمل من الأعداد =

ص: 419

شركة، أو هو لي وله، أو هو شركة بيننا، أو له فيه: سهم رجع في تفسير حصة الشريك إلى المقرّ

(49)

، وله عليّ ألف إلّا قليلًا يحمل على ما دون النصف

(50)

(وإن قال) المقرّ عن إنسان: (له عليّ ما بين درهم وعشرة: لزمه ثمانية)؛ لأن ذلك هو مقتضى لفظه

(51)

(وإن قال) له عليّ (ما بين درهم إلى عشرة أو) قال: له عليّ (من

= السابقة يُفسَّر بجنس من جنس المفسَّر معه، ولو فسَّره بغير ذلك: فإنه لا يقبل منه ذلك، فيكون عليه: ألف درهم ودرهم، وعليه: ألف ثوب، وثوب، وعليه: ألف دينار ودينار، وعليه: ألف درهم وخمسون درهمًا، وعليه: خمسون درهمًا وألف درهم، وعليه: تسعمائة وتسع وتسعون درهمًا، وهكذا؛ للتلازم؛ حيث إنه يلزم من ذكر مبهم مع مفسَّر: أن يُفسَّر المبهم بجنس من جنس المفسَّر.

(49)

مسألة إذا أقرّ زيد فقال: "لعمرو في هذا العبد شرك أو شراكة" أو قال: "هذا العبد لي ولعمرو" أو قال: "هذا العبد شركة بيني وبين عمرو" أو قال: "لعمرو في هذا العبد سهم": فإنه يُرجع في تفسير حصة عمرو إلى المقرّ نفسه؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره بشيء مجمل، وعدم علم ذلك من غيره: أن يرجع في علم ذلك إلى تفسير المقرّ، دون غيره.

(50)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو عليّ ألف إلّا قليلًا" أو "لعمرو عليّ ألف إلا شيئًا": فإنه يُرجع في تفسير ذلك القليل، أو الشيء إلى المقرّ نفسه، فإن لم يُفسِّره: فإن القليل، والشيء يحملان على ما دون نصف الألف كأربعمائة وما دونها، فيلزمه أكثر من النصف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تلفّظه بالقليل، أو الشيء: أن يُفسَّر بأقل من النصف؛ لاقتضاء لفظه ذلك.

(51)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو عليّ ما بين درهم وعشرة": فيجب عليه أن يدفع لعمرو ثمانية؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تلفظه بذلك: إيجاب الثمانية عليه؛ لكونها هي التي بين العشرة والدرهم.

ص: 420

درهم إلى عشرة: لزمه تسعة)؛ لعدم دخول الغاية

(52)

، وإن قال: أردت بقولي: "من درهم إلى عشرة" مجموع الأعداد، أي الواحد، والاثنين، والثلاثة، والأربعة، والخمسة، والستة، والسبعة، والثمانية، والتسعة والعشرة: لزمه خمسة وخمسون

(53)

، وله ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط: لا يدخل الحائطان

(54)

وله علي درهم فوق درهم، أو تحت درهم، أو مع درهم، أو فوقه، أو تحته، أو معه درهم، أو قبله، أو بعده درهم، أو درهم بل درهمان: لزمه درهمان

(55)

(وإن قال إنسان) عن آخر: (له

(52)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو عليّ ما بين درهم إلى عشرة" أو قال: "له عليّ من درهم إلى عشرة": فيجب على زيد أن يدفع لعمرو تسعة؛ للتلازم؛ حيث يلزم من عدم دخول الغاية في المغيا: وجوب التسعة على المقرّ.

(53)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "له عليّ من درهم إلى عشرة"، ثم طُولب بتفسير ذلك فقال - أي: المقرّ وهو زيد -: أردت مجموع الأعداد، أي: مجموع الواحد مع الاثنين مع الثلاثة مع الأربعة مع الخمسة مع الستة مع السبعة مع الثمانية، مع التسعة، مع العشرة: فيجب على زيد أن يدفع لعمرو خمسة وخمسين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من تفسيره بذلك: وجوب دفع هذا العدد.

(54)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط": فإن عمرًا من حقه ما بين الحائطين فقط، دون الحائطين؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره بما بينهما: أن يكون لعمرو ما بينهما فقط دون الحائطين نفسيهما.

(55)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو عليّ درهم فوق درهم" أو "له عليّ درهم تحت درهم" أو "له عليّ درهم مع درهم" أو "له عليّ درهم فوقه درهم" أو "له عليّ درهم تحته درهم" أو "له عليّ درهم معه درهم" أو "له عليّ درهم قبله درهم" أو "له عليّ درهم بعده درهم" أو "له عليّ درهم بل درهمان" فيجب على زيد أن يدفع لعمرو درهمين؛ للتلازم؛ حيث إن تلك الألفاظ تقتضي ضم درهم إلى درهم آخر فلزمه درهمان يدفعهما إلى المقرّ له، وهو عمرو.

ص: 421

عليّ درهم، أو دينار: لزمه أحدهما) ويرجع في تعيينه إليه؛ لأن "أو" لأحد الشيئين

(56)

، وإن قال:"له درهم، بل دينار": لزماه

(57)

(وإن قال) المقرّ (له عليّ تمر في جراب أو) قال: له عليّ (سكين في قِراب أو) قال له (فصٌّ في خاتم ونحوه) كثوب في منديل، أو عبد عليه عمامة، أو دابة عليها سرج، أو زيت في زق:(فهو مقرّ بالأول) دون الثاني، وكذا: لو قال: له عمامة على عبد، أو فرس مسرجة، أو سيف في قرابه ونحوه

(58)

، وإن قال له خاتم فيه فص، أو سيف بقراب: كان إقرارًا

(56)

مسألة إذا أقرّ زيد قائلا: "لعمرو عليّ درهم أو دينار": فإنه يطلب منه تعيين أحدهما، فإن لم يُعيِّن: فإنه يلزمه أحدهما - أما الدرهم أو الدينار -؛ للتلازم؛ حيث إن "أو" تفيد أحد الشيئين بدون تعيين: فيلزم بدفع أحدهما للمقرّ له - وهو عمرو -.

(57)

مسألة: إذا أقر زيد قائلًا: "لعمرو عليَّ درهم بل دينار": فإنه يجب عليه أن يدفع لعمرو درهمًا ودينارًا معًا؛ للتلازم؛ حيث إن الأول لا يمكن أن يكون الثاني ولا بعضه: فلزم منه أن يدفع درهمًا ودينارًا معًا.

(58)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو عليّ تمر في إناء" أو "لعمرو عليّ سيف في غمد" أو "له علي فصُّ في خاتم" أو "له علي ثوب في منديل" أو "له عليّ عبد عليه عمامة" أو "له علي دابة عليها سرج" أو نحو ذلك، أو قال:"لعمرو عليّ عمامة على رأس عبد" أو "له عليّ فرس عليه سرج" أو "له عليّ غمد مدخل فيه سيف" ونحو ذلك: فإن زيدًا يكون مقرًا بالمذكور أولًا فقط، دون الثاني، ففي الأمثلة الأولى، يكون مقرًا بالتمر دون الإناء، وبالسيف دون الغمد، وبالفص دون الخاتم، وبالثوب دون المنديل، وبالعبد دون العمامة، وبالدابة دون السرج، وفي الأمثلة الأخرى يكون مقرًا بالعمامة دون العبد، وبالفرس دون السرج، وبالغمد دون السيف؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره بالأول: عدم تناوله للثاني، ولا يلزم أن يكون الظرف والمظروف واحدًا.

ص: 422

بهما

(59)

، وإن أقرّ له بخاتم، وأطلق، ثم جاءه بخاتم فيه فص وقال: ما أردت الفص: لم يُقبل قوله

(60)

، وإقراره بشجر، أو شجرة: ليس إقرارًا بأرضها، فلا يملك غرس مكانها، ولو ذهبت، ولا يملك رب الأرض قلعها

(61)

، وإقراره بأمة ليس إقرارًا بحملها

(62)

، ولو أقرّ ببستان: شمل الأشجار، وبشجرة: شمل الأغصان

(63)

، وهذا

(59)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو عليّ خاتم فيه فصٌّ" أو "له عليّ سيف بغمده": فإنه يُعتبر أنه مقرّ بالخاتم والفصّ معًا، وبالسيف وبغمده معًا؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الفص جزءًا من الخاتم، وكون الباء للمصاحبة في المثال الثاني: أن يعتبر أنه مقرّ بهما معًا.

(60)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو عليّ خاتم" وأطلق، فلم يبين هل فيه فصٌّ أو لا؟ فجاءه بخاتم فيه فص، وقال: لم أُرد الفص: فإن قوله هذا لا يُقبل، وإن جاءه بخاتم لا فصَّ فيه وقال: هذا ما أردت: فإن قوله هذا يقبل؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون الخاتم اسم للخاتم والفص: عدم قبول قوله: "لم أرد الفص معه"، ويلزم من مجيئه بالخاتم بلا فص أصلًا: قبول قوله: "هذا ما أردت"؛ نظرًا لاحتمال لفظه لذلك.

(61)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو علي هذه الشجرة": فإن عمرًا لا يملك إلّا تلك الشجرة، دون أرضها، فلو تلفت تلك الشجرة: فلا يملك عمرو أن يغرس مكانها غيرها، وأيضًا لا يملك المقر - وهو صاحب الأرض -: أن يملك قطع تلك الشجرة المقرّ بها؛ للتلازم؛ حيث يلزم من إقراره بها فقط: عدم ملكية عمرو لأرضها وعدم غرس غيرها، وعدم استحقاق المقرّ - وهو زيد - قلعها؛ لكونها أصبحت ملكًا لعمرو.

(62)

مسألة إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو عليّ هذه الأمة": فهذا إقرار بها فقط، دون حملها إن كانت حاملًا؛ للتلازم؛ حيث إن الحمل منفصل عن نفس الحاملة فيلزم عدم تبعيته لها.

(63)

مسألة: إذا أقرّ زيد قائلًا: "لعمرو عليّ هذا البستان": فإن هذا الإقرار عام وشامل=

ص: 423

آخر ما تيسّر جمعه، والله أسأل أن يعمّ نفعه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز لديه بجنات النعيم، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه على مدى الأوقات، قال: فرغت منه يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الثاني من شهور سنة ثلاث وأربعين وألف، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلّم.

= لجميع أشجار ذلك البستان المقرّ به والبناء وما يخدمه، وإذا قال:"لعمرو عليّ هذه الشجرة": فإن هذا الإقرار عام وشامل لجميع أغصان تلك الشجرة المقرّ بها، وجميع العروق، والورق؛ للتلازم؛ حيث يلزم من كون لفظ البستان اسم لجميع ما يتّصل به، ولفظ "الشجرة" اسم الجميع ما يتّصل بها من المنافع: أن يعم ذلك لجميع شجر البستان، ولجميع أغصان الشجرة وعروقها ونحو ذلك مما يتصل به.

هذه آخر مسائل كتاب: "الإقرار"، وهو آخر المجلد الخامس من كتاب:"تيسير مسائل الفقه شرح الروض المربع، وتنزيل الأحكام على قواعدها الأصولية، وبيان مقاصدها ومصالحها، وأسرارها، وأسباب الاختلاف فيها".

وهذا آخر هذا الكتاب، وكان الفراغ منه في اليوم الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة من عام ألف وأربعمائة وست وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة، وأسأل الله العليّ القدير الذي ألهم بإنشائه، وأعان على الفراغ منه أن يجعله في ميزان حسناتي وأن يُيسِّر ويُسهِّل بسببه حسابي يوم القيامة، ويجعله نافعًا لكل مطلع عليه مزيلًا للإلباس عنه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

أ د/ عبد الكريم بن علي بن محمد النملة

الأستاذ بكلية الشريعة بالرياض

ص: 424