المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم   تأليف زين الدين أبي - جامع العلوم والحكم - ت أبي النور - جـ ١

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

جامع العلوم والحكم

في

شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم

تأليف

زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين بن أحمد بن رجب

الحنبلي البغدادي

من علماء القرن الثامن الهجري

المتوفى سنة 795 هـ

(1 - 3)

المحقق

الدكتور محمد الأحمدي أبو النور

مدير الأوقاف وشئون الأزهر سابقا

دار السلام

للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة

ص: 1

بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحِيمِ

‌مُقَدِمَة الطَبعَتَين: الأولى والثَانية

(1)

ابنْ رَجَب المُحَدث

وكتَابُ "جَامِع العُلُوم وَالحِكَمِ"

هو زين الدين: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن بن محمد بن مسعود السلامي البغدادي، الحنبلي، المشهور بابن رجب.

ولد ابن رجب عام ست وثلاثين وسبعمائة -ببغداد- وتفتحت براعمه في كنف دوحة علمية باسقة؛ فقد توارثت أسرته العلم، وتصدَّر آباؤه لحمله وأدائه، وتأثَّروا به في أنفسهم، ثم ترجموه عقيدة وسلوكا، وأثَّرُوا به في مجتمعهم، وتفاعلوا به مع الحياة.

* * *

كان جده: أحمد بن الحسن فقيهًا عالما له حلقة علمية ببغداد، يفد إليها طلاب العلم، ورُوَّاد المعرفة.

وابن رجب نفسه يشهد بذلك فيقول:

"قرئ على جدي: أبي أحمد: رجب بن الحسن -غير مرة، ببغداد- وأنا حاضر في الثالثة والرابعة والخامسة".

أما أبوه: أحمد بن رجب فقد نشأ في هذه البيئة العلمية، قرأ بالروايات، وسمع من مشايخها، ورحل إلى دمشق -بأولاده- فأسمعهم بها وبالقدس، وجلس للإقراء بدمشق، وانتُفع به، وكان ذا خير ودين وعفاف، كما ذكر ذلك ابن حجر.

وقد تلمذ لأبيه، وانتفع به، وكان أبوه حريصا على تزويده من مناهل العلم والمعرفة منذ نعومة أظفاره، فكان يصطحبه معه في السماع من الأشياخ، وممن سمع معه منهم: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الخباز، وإبراهيم بن داود العطار.

(1)

تتكامل الدراسة الخاصة عن المؤلف وكتابه -عدا ما هو مذكور بين يدي هذه الطبعة- ونرجو من الله عونه وسداده؛ لتكون في جزء مستقل بمشيئته سبحانه.

ص: 5

ثم رحل معه إلى مصر، فسمع بها من صدر الدين: أبي الفتح الميدومي، وأبي الحرم: محمد بن القلانسي وغيرهما.

ورحل معه كذلك إلى مكة فسمع من الفخر: عثمان بن يوسف.

وكما رافق أباه في حلقات العلم: رافق زين الدين العراقي -شيخ ابن حجر- أستاذ مدرسة تخريج الحديث في عصره. ثم لازم ابن القيم إلى أن مات عام 795 هـ.

ووسط هذا الحقل العلمي الخصيب استحصد ابن رجب، واستوى على سوقه، وما لبث أن خرج إلى الحياة يؤدي دوره، ويسدد دَيْنَه، وينهض بمسئوليته نحو الدين والعلم والمجتمع، فكانت حلقاته العلمية، ووعظه السديد، وكانت مؤلفاته العديدة، وآثاره الخالدة، وكانت آراؤه الصائبة، وخلقه القويم!!.

وابن رجب هو علم أسرته الذي رفع في محيط العلم ذكرها، وفرعها الباسق الذي خلَّد على مر العصور أثرها!!.

ولقد استطاع مع هذه الطائفة الجليلة من العلماء الذين تخرج بهم، وتفقه عليهم أن يستوعب مكتبة علمية حفيلة في علوم القرآن، والسنة، والتاريخ، والتصوف، والعقيدة، والفلسفة، والفقه، والأصول، والأدب.

وظهر أثر ذلك كلِّه بيِّنا قويا في مؤلفاته.

فهو عندما يؤلف كتابا يعمِد إلى ما قرأه من مؤلفات، ويأخذ ما يريد، أخذ العليم البصير. ولا تختفي شخصيته وراء ما يأخذ من نقول، وإنما تبرز قوية في التنسيق، والنقد، والمقارنة، والتحليل، والاستنباط، والرأي الشجاع، يجهر به دون مواربة.

وكتابه: "جامع العلوم والحكم" خير مثال لما نقول؛ فهو يشرح فيه خمسين حديثًا من جوامع الكلم، ولكنه يحشِدُ في شرحه لكل حديث: ما يراه واجبَ الذكر من كل ما طوَّف به خلال رحلاته العلمية، أو قراءاته في المصادر المختلفة.

وإذا شئنا أن نتحدث عن المصادر العلمية التي أخرج عنها كتابه هذا ورجع إليها في تأليفه لاستفاض بنا الحديث. وحسبنا أن نشير إلى طرف منها يبين لنا مدى اطلاع الرجل؛ سيما في الناحية الحديثية. محيلين إلى فهرس الكتب آخر الكتاب إن شاء الله.

فمما سيرى القارئ نقولًا منه، أو اختصارا له، أو رجوعًا إليه بين ثنايا الكتاب:

1 -

الكتب الستة.

ص: 6

2 -

مسانيد أحمد والطيالسي والبزار.

3 -

المستدرك للحاكم.

4 -

معاجم الطبراني الثلاثة.

5 -

الزهد لابن المبارك.

6 -

الورع للمروزي، والصلاة له.

7 -

الحجة للمقدسي.

8 -

غريب الحديث للخطابي، ومعالم السنن له.

9 -

المواعظ لأبي عبيد، والطلاق له.

10 -

الشهاب في الحكم والآداب للقضاعي.

11 -

الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة لأبي بكر بن السني.

12 -

الورع لأسد بن موسي.

13 -

الأدب لحميد بن زنجويه.

14 -

المصنف لابن أبي شيبة.

15 -

مصنف عبد الرزاق.

16 -

القدر لأبي داود.

17 -

سنن الدارقطني.

18 -

السنن الكبرى للبيهقي والقدر له.

19 -

تفسير الطبري.

20 -

الجامع للخلال.

21 -

المراسيل لأبي داود.

22 -

المراسيل للقاسم بن مخيمرة.

23 -

المراسيل لأبي المتوكل الناجي.

24 -

"الإخلاص والنية" و"الصمت" لابن أبي الدنيا.

25 -

الكامل لابن عدي.

26 -

صحيح ابن حبان.

ص: 7

27 -

التوحيد لابن منده.

28 -

البعث لهشام بن عمار.

إلى غير ذلك.

* * *

‌مؤلفات ابن رجب:

ولابن رجب مؤلفات أخرى عدا "جامع العلوم والحكم" منها ما طبع، ومنها مالا يزال مخطوطًا.

فمن المطبوع:

1 -

ذيل طبقات الحنابلة طبع الجزء الأول منه بدمشق سنة 1370 = 1951. وطبع الأول والثاني بالقاهرة بعد ذلك.

2 -

الاستخراج لأحكام الخراج طبع بمصر بالمطبعة الإسلامية بالأزهر سنة 1352 = 1934. وطبع دار الكتب العلمية بيروت 1405 - 1985 وطبع مكتبة الرشد بالرياض بتحقيق الأستاذ جندي محمود الهيتي - الطبعة الأولى 1409 = 1989.

3 -

تحقيق كلمة الإخلاص طبع بمصر سنة 1369 وبدمشق 1390 هـ = 1961 م.

4 -

نور الاقتباس في مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس، طبع بمصر سنة 1365 = 1946.

5 -

كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة طبع بمصر عام 1402 هـ 1982 م بتحقيق السيد / محمد أحمد عبد العزيز - المكتبة القيمة بالقاهرة، وعام 1404 بتحقيق الدكتور أسامة محمد عبد العظيم حمزة - دار الفتح - بالقاهرة - وكان قد طبع بمصر بمطبعة المنار 1340 هـ وبالمنيرية 1351 هـ.

6 -

القواعد الفقهية طبع بمصر 1352 هـ.

7 -

مكفرات الذنوب ودرجات الثواب ودعوات الخير - نشر مكتبة التراث الإسلامي بجوار الأزهر وطبع مطبعة التقدم بالمنيرة - القاهرة - الطبعة الأولى سنة 1402 هـ.

8 -

التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار - تحقيق الدكتور / محمد جميل غازي طبع مطبعة المدني بالعباسية - القاهرة 1401 هـ وبتحقيق الدكتور الجميلي - بيروت.

9 -

الخشوع في الصلاة تحقيق السيد / حسين إسماعيل حسين / الطبعة الخامسة نشر المكتبة القيمة للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 1407 هـ، 1987 م.

ص: 8

10 -

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف طبع ونشر دار الجيل بيروت لبنان سنة 1341 هـ وطبع دار ابن كثير بدمشق 1413 هـ - 1992 م بتحقيق الأستاذ ياسين محمد السواس.

11 -

تفسير سورة النصر تحقيق الدكتور / حسن ضياء الدين عتر طبع: دار البشائر الإسلامية - بيروت لبنان - الطبعة الثانية سنة 1407 هـ، سنة 1986 م وكان قد طبع بلاهور 1339 هـ.

12 -

بغية الإنسان في وظائف رمضان تحقيق الأستاذ / زهير الشاويش نشر المكتب الإسلامي. دمشق وبيروت الطبعة الثانية 1398 هـ.

13 -

اختيار الأولى. شرح حديث اختصام الملأ الأعلى تحقيق وتخريج الأستاذ / حسين الجمل - نشر مؤسسة الكتب الثقافية بيروت - لبنان - الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م.

14 -

الفرق بين النصيحة والتعبير. تحقيق السيد / نجم عبد الرحمن خلف - نشر المكتبة القيمة بالقاهرة سنة 1399 هـ.

15 -

شرح علل الترمذي:

أ - تحقيق السيد / صبحي جاسم الحميدي - مطبعة العاني ببغداد - عام 1396 هـ نشر وزارة الأوقاف بالجمهورية العراقية.

ب - بتحقيق ودراسة الأستاذ / الدكتور همام عبد الرحيم سعيد - نشر مكتبة المنار - الأردن - الزرقاء.

16 -

شرح حديث: "ما ذئبان جائعان". تحقيق وتعليق الدكتور / أسامة محمد عبد العظيم حمزة - دار الفتح بالقاهرة - سنة 1404 هـ، سنة 1984 م - وقد طبع في لاهور سنة 1320 هـ. وفي مصر مع جامع بيان العلم وفضله بالمطبعة المنيرية.

17 -

"أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور" طبع في أم القرى بمكة المكرمة 1357 هـ.

18 -

مورد الظمآن إلى معرفة فضائل القرآن بتحقيق الأستاذ يسري عبد الغني البشري، نشر مكتبة القرآن بالقاهرة 1990 م.

ومن المخطوط:

1 -

فتح الباري بشرح صحيح البخاري وصل فيه إلى كتاب الجنائز، مخطوط بدار

ص: 9

الكتب المصرية 389 حديث تيمور

(1)

، وقطعة منه في المكتبة الظاهرية بدمشق 377 من 50 - 250.

(2)

.

2 -

شرح جامع الترمذي

(3)

وتوجد منه قطعة تقع في عشر ورقات بالظاهرية.

3 -

تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال

(4)

.

4 -

شرح حديث: "إن أغبط أوليائي عندي

".

5 -

شرح حديث: "يتبع الميت ثلاث".

6 -

صدقة السر وفضلها.

7 -

مختصر فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم والسارق.

8 -

ذم الخمر وشاربها وهي كلها في مكتبة الفاتح باستنبول رقم 5318.

9 -

نزهة الأسماع في مسألة السماع مخطوط بدار الكتب المصرية

(5)

.

10 -

"ذم قسوة القلب" - شهيد علي باستنبول رقم 543.

(6)

.

11 -

"وقعة بدر".

12 -

"الكشف والبيان عن حقيقة النذور والأيمان".

13 -

شرح حديث: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما".

والظاهرة الواضحة في آثاره هي العناية بالجانب الحديثي وما يتصل به من علوم والناظر في كتبه يلمس صدق ما قاله فيه ابن حجر:

"وقد مهر في فنون الحديث: أسماء ورجالًا، وعللًا وطرقًا، واطلاعًا على معانيه".

فهو في كتبه التاريخية كذيل طبقات الحنابلة لا ينسى أن يعطي القارئ صورة عن مدى صلة المترجم بالحديث وعلومه؛ فتارة يروي ما وقع له عاليًا من طريق المترجم.

(1)

كما ذكر الدكتور همام عبد الرحيم سعيد في دراسته لآثار ابن رجب راجع تحقيقه لشرح علل الترمذي 1/ 266. وقد طبع أخيرًا طبعتين محققتين.

(2)

كما ذكر السيد صبحي جاسم الحميد في مقدمة تحقيقه ودراسته لشرح العلل الترمذي ص 7.

(3)

كما ذكر ابن رجب في شرحه لحديث "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" ص 5،6 فقد خرج الحديث وذكر طرقه، ورواته من الصحابة ثم قال: وقد ذكرتها كلها والكلام عليها في كتاب شرح الترمذي

إلخ، وأورد ذلك عنه المباركفوري في مقدمته لتحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ص 186.

(4)

كما ذكر ذلك الدكتور همام في الموضع الآنف.

(5)

وقد طبع أخيرًا بالرياض بتحقيق أم عبد الله بنت محروس العسيلي.

(6)

راجع شرح علل الترمذي بتحقيق الأستاذ الدكتور همام عبد الرحيم سعيد في هذا وفيما قبله.

ص: 10

كما روى حديث أبي هريرة: "الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمن وجَنَّةُ الكَافِرِ"

(1)

في ترجمة أبي علي البناء 1/ 45.

وتارة ينقل آراء المترجَم في تفضيل بعض كتب السنة على بعض كما ذكر في ترجمة عبد الله الأنصاري رأيه في تفضيل الترمذي على الصحيحين حيث قال:

"إن كتاب البخاري ومسلم لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة، وهذا كتاب قد شرح أحاديثه وبينها وفصلها، فيصل إلى فائدته كل أحد من الناس: الفقهاء، والمحدثين، وغيرهم".

* * *

(1)

رواه مسلم في صحيحه 53 - كتاب الزهد والرقاق 4/ 2272 ح 1 - (2956).

وأحمد في المسند 2/ 323، 389، 485.

والترمذي في جامعه: 37 - كتاب الزهد: 16 - باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر 4/ 562 ح 2324 وعقب عليه بقوله: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وهذا حديث حسن صحيح.

وابن ماجه في السنن: 37 - كتاب الزهد: 3 - باب مثل الدنيا 2/ 1378 ح 4113.

والبغوي في شرح السنة 14/ 297 ح 4105.

وابن حبان في صحيحه 2/ 38 ح 686، 687 وعنون للأول بقوله: ذكر البيان بأن الله جل وعلا جعل الدنيا سجنًا لمن أطاعه، ومخرقًا لمن عصاه.

وعنون للثاني بقوله: ذكر البيان بأن الدنيا إنما جعلت سجنًا للمسلمين ليستوفوا بترك ما يشتهون في الدنيا من الجنان في العقبى.

كلهم من حديث أبي هريرة.

وانظر المجمع 10/ 288 - 289.

ص: 11

‌منْهج ابْن رَجَبْ في "جَامِع العُلوُمِ وَالحِكَمِ"

قدم ابن رجب لكتابه فتحدث عن معنى جوامع الكلم، والعنوان الذي وضعه لكتابه، ومن ألف في جوامع الكلم، ثم تحدث عن تدرج عدة الأحاديث الجامعة في كتابه هذا منذ الخطابي .. إلى النووي .. إلى أن أتمها ابن رجب خمسين حديثًا. ثم تحدث عن منهجه في الكتاب، فقال:

"قد أعلمتك أنه ليس غرضي في غير شرح معاني كلمات النبي صلى الله عليه وسلم الجوامع، وما تتضمنه من الآداب والحكم والمعارف والأحكام والشرائع، وأشير إشارة لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده، ليُعلَمَ بذلك صحته وقوته وضعفه، وأذكر بعض ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ (النووي) وإن لم يكن في الباب غيره، أو لم يكن يصح فيه غيره - نبهت على ذلك كله".

وقد وفى "ابن رجب" بما التزم به في المنهج إلى مدى بعيد، وفي ضوء ما سنحدث عنه، ولعل هذا يلقي لنا مزيدًا من الضوء على الجانب الحديثي عند الرجل.

وسيرى القارئ مع كل حديث من الشرح والتوضيح، ومن النصوص والآثار، ما يدل على سعة اطلاعه، وغزارة مادته.

هذا فضلا عما سيقف عليه من مصادر الأحاديث ودرجتها من الصحة أو الضعف، ودرجة رواتها من العدالة والضبط؛ حتي يكون على بينة من أمر دينه، ويسير في حياته على هدى وعلى بصيرة.

* * *

‌ملحوظات على ابن رجب:

ومع هذا وذاك فإن القارئ للكتاب سوف يلحظ ملاحظ شتى، منها:

1 -

أنه سوف يحس أنه أمام ناصح أمين؛ يرى أن إبلاغ الحقيقة، ونشر العلم: أمانة دينية، ومسئولية كبرى؛ فهو يورد في شرح حديث النصيحة أن من النصيحة لله الإيمانَ بكتابه، وتدُّبرَ آياته، والدعاءَ إليه، وذبَّ تحريفِ الغالين، وطعنِ الملحدين عنه. ومن النصيحة لرسوله: إحياءَ سنته، واستنشارَ علومها ونشرها. ومن النصيحة لأئمة المسلمين: معاونَتَهُم على الحق، وطاعتَهُم فيه، وتذكيرَهم به، وتنبيهَهُم في رفق

ص: 12

ولطف.

ومن النصيحة لعامة المسلمين: إرشادَهُم إلى مصالحهم، وتعليمَهُم أمورَ دينهم ودنياهم، وستْرَ عوراتهم، وسدَّ خلَّاتِهم، ونُصْرَتهم على أعدائهم، والذبَّ عنهم

إلخ.

وما أحسَب إلا أن كتابه هذا تعبير عملي عن قيامه بواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

* * *

2 -

ومن هذه الملاحظ أن غرض المؤلف من شرحه ليس مجرد إظهار العلم أو التعالم، إنما هو ابتغاء إصلاح العقيدة، وتقويم السلوك؛ فلا يلجأ في الوعظ إلى زخرف القول، ولا إلى أسلوب القُصَّاص، وإنما يعتمد على الحقائق الموضوعية، والنصوص الصحيحة، ويكامل بين جوانب الموضوع وعناصره، ويزيل ضبابَ الوهم والخرافة، ويسفِرُ عن وجه الحقيقة، ويربِطُ بين الدين والحياة.

3 -

وابن رجب يورد في أواخر شروح الحديث طائفة مناسبة من أقوال عقلاء الصوفية، وحكماء الزهاد؛ تناسب مضمون الحديث. وتصل بصدقها وبلاغتها إلى أعماق النفوس.

4 -

ويوفي موضوع الحديث، فإن كان في اللغة أفاض فيه، وإن كان في الفقه عقد مقارنة بين المذاهب، وإن كان متعلقًا بالطب أورد من أقوال أطباء عصره ما يوضح المعنى، ويكشف عن كنه الحديث.

5 -

قد يقول: روى مسلم في صحيحه كذا .. ويسوق الحديث - فليس معنى هذا دائما أنه يلتزم إيراد الحديث بلفظه؛ بل قد يريد إيراده بمعناه، وسيتبين ذلك للقارئ من تعليقاتي على الأحاديث، ويكون معنى ذلك أن أصل الحديث عند مسلم.

6 -

قد يقول كذلك: قال الخطابي: ثم يسوق قوله .. وليس معنى هذا أيضًا أنه يسوق قوله كما هو، بل قد يختصره، كما سيتبين ذلك في شرح حديث النصيحة.

* * *

ص: 13

‌مَع ابْن رَجَبٍ في تخريج الحَدِيثِ

استطاع ابن رجب أن يعطينا بين دفتي هذا الكتاب تراثا علميا ضخمًا، وثروة حديثية طائلة.

ولقد رأيناه في تخريج الحديث وما يتعلق ببيان درجته، وضبط رواته وعدالة نقلته، كالملاح الماهر يغوص في محيط المصنفات الحديثية، ويمخر عباب فن الجرح والتعديل، فيستخرج ما يتعلق بالحديث وإسناده من لآلئ ودرر حتى يقف بالقارئ عند مرفأ الحقيقة؛ حيث يستروح الوجدان برد الطمأنينة، ويستمتع العقل بثلج اليقين.

* * *

وابن رجب بما منحه الله من موهبة نادرة، وبما اكتسب من ثقافة حديثية واسعة يرتاد هذا المجال عن تمكن واقتدار.

لكن هل أبرز ابن رجب في كتابه هذا كل ما لديه من خبرة ومن معرفة؟ ثم ما هو الطابع العام له في تخريج هذه الأحاديث الخمسين وما حشد معها من أحاديث وآثار؟

والجواب المنصف عن هذا لا يستبين إلا بالتحليل الدقيق لهذه الأمور التالية، وموقف ابن رجب منها:

‌1 - تتبع مصادر الحديث

لدى من أخرجه في مصنفه.

2 -

عزو الحديث إلى هذه المصادر، ونسبته إلى راويه.

3 -

النص عند كل حديث على درجته، ووقف القارئ على ضعفه أو قوته.

1 -

تتبع مصادر الحديث:

في هذه الناحية لم يعن ابن رجب بالنص على مصادر الحديث كلها، فهو عندما يورد حديثًا ما، ويقول مثلا: خرجه "البخاري ومسلم" أو أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، يكون مراده الإشارة إلى مصادر للحديث قد تكون هي المصادر الوحيدة، وقد لا تكون، حيث يُروَى الحديث في مصادر أخرى سواها.

ونستطيع أن نقول، إن ابن رجب لا يجهد نفسه في تخريج الحديث، وتتبع مصادره، أو لا يهتم بالنص على هذه المواضع، وحسبه أن يذكر بعض هذه المصادر، بالقدر الذي يطمئن القارئ إلى أن للحديث أصلا صحيحًا.

ونذكر على سبيل المثال: الحديثَ الذي أورده من رواية أبي موسى الأشعري رضي

ص: 14

الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "مَنْ قَاتَلَ لتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيل الله".

وهو حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم. وقد أورده ابن رجب في شرحه للحديث الأول.

ومع هذا فقد اقتصر ابن رجب على ذكر الصحيحين كمصدرين للحديث.

وعامة تخريج ابن رجب -هنا- على هذا النسق .. !

ولم أشأ أن أزيد في تخريج الحديث مصدرًا عما ذكر ابن رجب. ولقد كان ذلك ميسورًا في كثير من الأحاديث. غير أنني اكتفيت -فيما عدا ما دعت إليه الضرورة- بتحقيق وجود الحديث في المصدر الذي عزا إليه، وذلك بتتبع نطاق الحديث فيه حينا، واستقراء المرجع كله أحيانًا.!

ذلك أن ابن رجب لا يريح من يعمل معه، ولا يكفيه مؤنة البحث، فهو يكتفي بعزو الحديث إلى كتاب أو كتب من مصنفات الحديث، فيقول مثلا:"في صحيح البخاري" أو في "مسند أحمد" أو في "معجم الطبراني" حديث كذا.

وتمام الفائدة من هذه الإشارة لا يكون إلا بتحديد الكتاب، والباب والجزء والصحيفة التي يوجد بها الحديث، وهل هو في المصدر الذي يشير إليه أو أنه ليس بهذا المصدر؟ وإذا كان بالمصدر المشار إليه فهل هو من رواية الصحابي الذي عزا إليه المؤلف أو من رواية غيره؟ وإذا كانت النسبة إلى المصدر والراوي صحيحة فهل ما نقله المؤلف بلفظه ومعناه أو بمعناه فقط؟

وتحديد وجود الحديث في المصدر المشار إليه -بالمقارنة والملاحظة- هو ما يقفنا على وجه الحق في ذلك كله.

ومن هنا كان ذلك أمرا واجبا وجوب النص على درجة الحديث ذاتها! فقد يصحح هذا التحقيق خطأ وقع فيه مؤلف الكتاب أو ناسخه أو مؤلفه أو أولئك جميعًا كما حدث في هذا الكتاب:

أخطأ ابن رجب في عزو حديث لصحيح مسلم بينما الحديث في صحيح ابن حبان! وقد تبين هذا من مراجعة صحيح ابن حبان وصحيح مسلم من جهة، ومن كلام ابن رجب نفسه عن الحديث في موطن آخر من جهة أخرى.

وانظر في هذا ما أورده ابن رجب في الحديث الثاني وما علقنا به على هذه المسألة.

ص: 15

وأخطأ ابن رجب في نسبة حديث لمسند أحمد من رواية العرباض بن سارية.

والحديث ليس في مسند أحمد من رواية العرباض، وإنما هو فيه من رواية النواس بن سمعان، وتأكد هذا برواية الترمذي، والنسائي وغيرهما للحديث وبمراجعة مسند أحمد في مسندي النواس والعرباض كليهما، كما بينا ذلك في موضعه.

وأخطأ ابن رجب حين أدمج حديثين في حديث، ووصل بينهما بكلمة من عنده، واعتبرهما بهذه الإضافة حديثًا واحدًا مرويًّا عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحاكم!؟ والحاكم لم يروه حديثًا واحدًا، ولا روى هذه اللفظة المقحمة، وإنما رواهما حديثين بإسنادين مختلفين. راجع شرح الحديث الثاني من هذا الجزء، وما علقنا به على هذه المسألة.

ولقد توارد على هذه الأخطاء جميعها ناسخو الكتاب وناشروه من النسخة التي عرضت على المؤلف، وأقرها، وكتب بخطه عليها حتى الطبعة التي صدرت بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.

وقد اكتفيت بتحقيق المصادر التي نص عليها ابن رجب؛ لهذا، ولئلا أخرج بالكتاب عن الإطار الذي أراده له مؤلفه، ولا عن الحجم الذي أريد له في إخراجه.

‌2 - نسبة الحديث إلى راويه وإلى مصدره:

لم يكن لابن رجب في هذا منهج ملتزم، ولا سَنَن متبع؛ فهو تارة ينسب الحديث إلى راويه من الصحابة، وإلى من خرجه من المحدثين، وتارة يقتصر على ذكر الراوي فتط كقوله في هذا الجزء ص:(174 - 175).

"وفي حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوَّل مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ، قَالَ لَهُ: اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

وهو حديث مذكور في كثير من المصادر كجامع الترمذي، وسنن أبي داود، ومسند الطيالسي.

بيد أن ابن رجب لم يذكر من مصادر الحديث شيئًا.

وقد لا يذكر الراوي ولا المرجع كقوله ص (189) من هذا الجزء:

وأما المعاملات كالعقود .. فما كان منها تغييرًا للأوضاع الشرعية كجعل عقوبة الزنا عقوبة مالية وما أشبه ذلك فإنه مردود؛ ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفًا على فلان فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم فقال النبي صلى الله عليه وسلم-

ص: 16

"الْمائَة شَاةٍ وَالخْادِم رَدٌّ علَيكَ، وَعلَى ابْنِكَ مَائةُ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ".

وهو حديث متفق عليه من رواية أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني كما ذكرنا في موضعه، ولكن هكذا ساقه ابن رجب!!

وإذا كان الحديث في الصورة التي يذكر فيها الراوي والمرجع محتاجا في تحقيقه إلى الجهد الكبير الذي أشرنا إليه، فكيف به في مثل هاتين الصورتين؟!

وما أعتقد أن هذا أمر يمكن قبوله أو تحمله من محدث كابن رجب؛ مقتدر على البيان في موضع حاجتنا إليه، مستبحر في علم الحديث بنوعيه: الرواية والدراية!

* * *

‌3 - النص على درجة الحديث:

في هذه المسألة نجد لابن رجب موقفين:

الأول: خاص بالأحاديث الرئيسة في الكتاب، وهي الخمسون.

والثاني: خاص بالأحاديث الفرعية، وهي ما عدا ذلك.

فنحن نراه في النوع الأول لا يألو فيه جهدًا، ولا يخبأ فيه علما، ولا يستطرد إلى قول لا حاجة بالحديث إليه.

* * *

وإذا كان النووي يكتفي عقب كل حديث أورده بمثل قوله: "أخرجه البخاري ومسلم" أو "أخرجه الترمذي" فابن رجب لا يكتفي بما ذكره النووي، وإنما يتتبع طرق الحديث في المصنفات الحديثية الأخرى، ويورد صيغه عن هذه المصنفات برواية الصحابي الذي ذكره النووي، ثم براوية غيره من الصحابة إن كان للحديث روايات أخرى؛ لما في ذلك من الفوائد الجليلة.

ومثال ذلك ما صنع في الحديث الثاني الذي قال فيه النووي: "رواه مسلم" فقد ذكر ابن رجب عقب هذا أن مسلمًا تفرد به عن البخاري من طريق كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن عمر .. ثم تتبع طرقه، ووجوهه الأخرى في صحيح مسلم، والبخاري وابن حبان، ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم، ومسندى البزار، وابن مردويه، وسنن الترمذي .. وهو في هذا كله يقارن، ويحلل، ويستنبط، ويذكر أوجه الخلاف والاتفاق بين هذه الروايات، وما يمكن أن

ص: 17

يستفاد منها، مبينا الصحيح منها وغير الصحيح، ونحو ذلك.

وقد استغرق ذلك من صحيفة 97 إلى 104.

* * *

وابن رجب مولع بتفصيل ما أجمله النووي:

ففي الحديث التاسع: ص 251 "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوه

"

قال النووي: "رواه البخاري ومسلم".

وقال ابن رجب: هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة.

وخرجاه من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ إِنَّمَا أَهْلَكَ منْ كَانَ قَبْلكُمْ سُؤَالُهُمْ واخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهمْ فإِذَا نَهيْتُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعتُم".

وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن أبي هريرة بمعناه.

وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث .. إلخ ..

وساق الرواية، ثم سار في التتبع كما سار في الأحاديث الأخرى.

* * *

وهو حريص على بيان أصح الروايات في الطرق التي يوردها، كما يفعل الترمذي في كثير من أحاديث جامعه:

ففي الحديث السادس: يذكر حديث النعمان بن بشير: "الْحَلالُ بَيِّنٌ والْحَرَامُ بَيِّن .. " ويعقب على قول النووي: "رواه البخاري ومسلم" بقوله: "هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي، عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص. والمعنى واحد أو متقارب.

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس. وحديث النعمان أصح أحاديث الباب".

وهو -وإن كان ينحو منحى الترمذي في هذا: إلا أنه ينقل منه، ولا يعتمد عليه ولئن كان هذا هو ما اشتهر عن منهج الترمذي في جامعه فإنه لم يزد في التعقيب على

ص: 18

هذا الحديث أن قال:

هذا حديث حسن صحيح، وقد رواه غير واحد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير".

* * *

وقد كشف ابن رجب في مواطن كثيرة عن السرِّ في انفراد البخاري بهذا الحديث أو ذاك، أو انفراد مسلم برواية حديث آخر دون البخاري.

ففي الحديث السادس عشر المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أَوْصِني. قَالَ: "لا تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ:"لا تَغْضَبْ".

قال النووي: رواه البخاري.

وقال ابن رجب: هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي الحصين الأسدي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة .. ثم قال:

ولم يخرجه مسلم؛ لأن الأعمش رواه عن أبي صالح. واختلف عليه في إسناده .. إلخ وفي الحديث السابع عشر، المروي عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كلِّ شيء؛ فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ".

قال النووي: "رواه مسلم".

وقال ابن رجب: "هذا الحديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شداد بن أوس".

وتركه البخاري؛ لأنه لم يخرج في صحيحه لأبي الأشعث شيئًا.

* * *

وقد أبان ابن رجب عن علة ضعف بعض الروايات التي يتابع بها الحديث الأصلي كالرواية التي ذكرها عن سفيان بن عيينة: أن حديث "أمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إلَهَ إلَّا الله

" كان في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة.

فقد قال ابن رجب: هذا ضعيف جدًّا، وفي صحته عن سفيان نظر؛ فإن رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وبعضهم تأخر إسلامه.

ثم قوله: "عَصَمُوا مِنِّي دمَاءَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ" يدل على أنه كان عند هذا القول مأمورًا

ص: 19

بالقتال، وبقتل من أبى الإسلام.

وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة .. إلى آخر ما ذكر ابن رجب في هذا التعليل.

أما في الأحاديث الفرعية فإن "ابن رجب" لم يكن معها بهذه القوة، ولا أبان لنا في بعض الأحاديث ما يجب أن يبينه، ولم يكن له في تخريجها منهج ملتزم، فتارة كان يخرج الحديث ويبين درجته، وتارة أخرى كان يهمل البيان مع شدة الحاجة إلى هذا البيان!!.

والحديث الذي يساق إلى القراء والباحثين دون أن تذكر معه درجته ومرجعه: حديث لا يجمل الاعتماد عليه، ولا الاطمئنان إليه، وقد ينظمه المؤلف في سياق يوهم أنه صحيح، فيؤسس عليه قاعدة كلية، أو يستدل به لقضية جزئية، وهو لا يصلح لهذا ولا لذاك؛ لأنه في ذاته غير صحيح.

وحين لا تتوفر للمؤلف براهين الصحة أو الضعف في حديث ما، أو حين تتعارض هذه الأدلة أمامه، فيؤثر التوقف يكون له مندوحة في عدم البيان.

أما حين تتوفر الأدلة، وينتفي التعارض، أو حين ينص المصنف لمرجع ينقل عنه على درجة الحديث سيما في حالة الضعف والوهاء فما أعتقد أن عدم النص في مثل هذه الحال مما يتفق مع واجب الأمانة في النقل، أو بذل النصيحة في العلم.

وابن رجب حين يتصدى لبيان درجة الحديث والحكم عليه يبين بما عهد عنده من طول الباع، وغزارة المادة!.

وما أكثر ما تراه يقول فيما أورد من أحاديث:

"خرج الإمام أحمد بإسناد صحيح" أو "أخرج الطبراني بإسناد فيه نظر" أو "بإسناد ضعيف" أو "بإسناد جيد" أو "خرج ابن عبد البر في التمهيد بإسناد فيه نظر".

إلى غير ذلك من التعبيرات الاصطلاحية، وقد يستطرد فيعلل القول الذي يحكم به على الحديث.

لهذا وذاك طال عجبي من أنه لم يبين درجة بعض الأحاديث التي أوردها مع وجوب بيان تلك الدرجة، سيما عندما يُنَصُّ عليها في المصنَّف الذي ينقل عنه الحديث، أو عندما يكون الحديث في ذاته ضعيفًا!!.

في ص 78 يقول ابن رجب:

ص: 20

خرج الترمذي من حديث كعب بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"مَنْ طَلَبَ الْعلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهاءَ، أو يُجَارِي بِه الْعُلَمَاءَ" .. الحديث.

وإذا رجعنا إلى الترمذي الذي خرج منه الحديث ألفيناه يعقب عليه بما يدل على أنه ضعيف وذلك قوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وإسحاق بن يحيى -أحد رواة الحديث- ليس بذلك القوي عندهم، تكلم فيه من قبل حفظه.

ولم يشر ابن رجب إلى ضعف الحديث ولا نقل عبارة الترمذي.

وفي ص 115 نقل عن ابن ماجه حديثا من رواية عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَدِيُّ! أَسْلِم تَسْلَمْ".

قُلْتُ: وَمَا الإسْلَامُ؟ قَالَ: "أن تَشْهدَ أنْ لا إلَه إلَّا الله، وَتُؤْمِنَ بِالأَقدَار كُلّهَا" الحديث.

ورتب ابن رجب عليه قضية عامة حين قال عقبه: فهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام.

مع أن الحديث ضعيف كما ذكر صاحب الزوائد.

وفي ص 146 أورد عن ابن ماجه حديث ابن عباس مرفوعًا: "أراكم ستشرِّفون مساجدَكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها، وكما شرفت النصارى بِيَعَها".

ولم يبين درجته. وقد ذكر صاحب الزوائد أن إسناده ضعيف؛ لضعف أحد رواته واتهامه بالكذب.

إلى غير هذا وذاك من الأحاديث التي سوف نستدرك في تعليقاتنا عليها ما فات ابن رجب من وقف القارئ على مدى صحتها أو ضعفها.

* * *

ص: 21

‌طَبَعَاتُ الكِتَابِ

وقد طبع الكتاب في الهند في بلدة "أمر تسر" دون أن تذكر النسخة التي طبع عنها ولا السنة التي طبع فيها. لكن مصححيه: عبد الغني وعبد الواحد الغزنويين قالا في آخر الكتاب:

"ولما لم يتيسر لنا نسخة صحيحة، فالمرجو من الناظرين أن يعذرونا في العثرات ويرحم الله من عفا عن الخطأ والخطل، وسدَّ ما رأى من الخلل، ولنعم ما قيل:

إن تحد عيبًا فسُدَّ الخللا

جلَّ من لا عيب فيه وعلا

ثم طبع -عن هذه الطبعة- في مصر عام 1346 هـ بمطبعة مصطفى البابي الحلبي، وهي طبعة تجارية ليس فيها تحقيق لأية لفظة، ولا تصويب لأي خطأ وقع في الطبعة الهندية، وهي في حقيقة أمرها صورة كاملة منها بأوهامها وتحريفاتها، ومن أمثلة ما وقع فيها من التصحيف والتحريف وصوبناه في هذه الطبعة ما يلي:

1 -

ص 48 قال النووي، والصواب: قال الزهري.

2 -

ص 50 عن أبىِ سالم الحبشي، والصواب: عن أبي سلام.

3 -

ص 60 طاهر بن مفون، والصواب: ابن مفوز.

4 -

ص 68 زيد الشامي، والصواب: زبيد اليامي.

5 -

ص 79 مرئيات المخلوقين، والصواب: مرآة المخلوقين.

6 -

ص 92 سميط الدوسي، والصواب: سميط السدوسي.

7 -

ص 102 فهو متهم من الإسلام يتركه، والصواب: فهو سهم من الإسلام يدعه.

8 -

ص 123 عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .

والصواب: عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا الْمؤمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ حَيثُمَا قِيدَ انْقَادَ". وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .

9 -

ص 136 مالك بن مغفل، والصواب: مالك بن مغول.

10 -

ص 143 بل همته في حياة المال، والصواب: في جباية المال.

11 -

ص 163 ولم يوجد في إسقاط ذكر، ثم قيل ثلاثين ولا لأنثى، والصواب: ولم يوجد في الإسقاط ذَكَرٌ تم قبل ثلاثين يوما ولا أنثى

ص: 22

12 -

ص 176 رواه مسلم بن كهيل، والصواب: سلمة بن كهيل.

13 -

ص 193 عبيد الله بن الحسن البصري، والصواب العنبري.

14 -

ص 211 الذي تباح معه الزوجة بدون زوج بعقد جديد وإصابة وبينِ تحريم الطلاق الثلات الذي لا تباح معه وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله، والصواب: الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد بين تحريم الطلاق الثلاث الذي لا تباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله.

15 -

ص 212 فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة؛ لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس واتبع حكم الله أحدهما.

والصواب: واتبع علمه في ذلك وأما من لم يعلم حكم الله فيها فهم قسمان أحدهما ..

16 -

ص 219 المشابهة: والصواب، المثابة.

17 -

ص 284 "يبنونه"، والصواب: ينسبونه.

18 -

ص 285 "والزمان" والصواب: والضمان.

ثم حقق المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر إلى الحديث الثامن من الكتاب في أربع رسائل انصرفت العناية فيها إلى تحقيق النص مع بعض المباحث الحديثية واللغوية بين الحين والحين. ولم يعط فيها عناية كافية لتخريج الأحاديث.

وكان هذا وذاك دافعًا لي إلى وجوب إخراج الكتاب في ثوب جديد بنهج يوازي أصالته، وجهد يساوق أثره وقيمته، سيما بعد وقوفي على نسخه الخطية.

ص: 23

‌نَسْخ الكِتَابِ

1 -

نسخة في مجلد مخطوطة سنة 835 هـ بخط أحمد بن عبد اللطيف المكي بها تقطيع وتلويث، وأكل أرضة، وخروم بعد الورقة الأولى إلى أثناء الحديث الثاني، وبعد الورقة الحادية عشرة في الحديث الرابع إلى الحديث السادس عشر، وبعد الورقة الحادية والستين من أثناء الحديث التاسع والعشرين إلى أثناء الحديث الرابع والثلاثين، وبأولها فهرس ناقص وتقع في 116 ورقة ومسطرتها 27 سطرًا، في حجم الربع.

وهي مخطوطة بدار الكتب المصرية. قائمة مكتبة طلعت رقم 763 حديث وأشرت إليها بالرمز "ط".

2 -

نسخة في مجلد مخطوطة سنة 1006 هـ بقلم محب الدين بن صلاح الدين بن عبد الناصر الغرياني

كاملة وليس بها ما بالأولى ومراجعة، وتقع في 360 ورقة ومسطرتها 21 سطرًا.

وهي محفوظة بدار الكتب رقم 42 حديث.

وأشرت إليها بالرمز "ب".

3 -

نسخة في مجلد مخطوطة سنة 1324 هـ بقلم محمد بن عبد القادر كاملة وجيدة الخط لكنها غير مراجعة، وتقع في 292 ورقة، مسطرتها 27 سطرًا، في حجم الثمن.

وهي محفوظة بدار الكتب رقم 1824 حديث وقف السيد الحسيني وأشرت إليها بالرمز "س".

4 -

نسخة في مجلد مضبوطة بالشكل في 357 ورقة مسطرتها 21 سطرًا في حجم الثمن ولم يكتب عليها سنة الكتابة ولا اسم الكاتب ولعلها مستنسخة من إحدى النسخ الأصلية.

وهي محفوظة بدار الكتب رقم 188 حديث من وقف خزانة جامع شيخون.

وأشرت إلها بالرمز "و".

وهذه النسخ وإن كان بعضها مراجعًا إلا أن ببعضها كثيرًا من النقص، وبالبعض الآخر بعضَ الأخطاء، وقد أمكن تلافي النقص بمقابلتها جميعًا، واستكمال الجزء الناقص في نسخة بما يقابله تاما في نسخة أخرى، كما أمكن تلافي كثير من الأخطاء بمقابلة المخطوط بالمصادر الحديثية الأصلية التي نقل عنها ابن رجب وأشار إليها.

ص: 24

وقد اعتمدت عند طبع الجزء الأول على هذه النسخ من مراعاة النسخ الأخرى المطبوعة وهي:

1 -

النسخة الهندية وأشرت إليها بالرمز "هـ".

2 -

النسخة المطبوعة بمطبعة الحلبي بمصر وأشرت إليها بالرمز "م" وهي التي أقول عنها أحيانًا: "في المطبوعة".

3 -

الرسائل التي حققها المرحوم الشيخ أحمد شاكر وأشرت إليها بالرمز "ن" وقد طبعت بمطبعة النهضة المصرية.

* * *

وبعد تمام طبع الجزء الأول أخبرني الأستاذ المرحوم: رشاد عبد المطلب مشكورًا أن بمعهد المخطوطات العربية نسخة مصورة من الهند لم تدرج في الفهارس. وهي مكتوبة في حياة المؤلف وعليها خطه فصورتها. وهي تقع في 387 ررقة مسطرتها 17 سطرا، كتبت من نسخة المؤلف بخط عبد القادر بن محمد بن علي الحجار الحنبلي مذهبًا، المدني مولدًا. وقد فرغ عن كتابتها في خامس جمادى الأولى سنة 790 هـ فعرضها على المؤلف، وقرأها عليه في عدة مجالس استغرقت أسبوعًا، وبعد تمام المقابلة كتب ابن رجب بخطه عليها مقرًا لها، مشيدًا بصحتها، منوها بقدر كاتبها، مجيزًا له روايتها، ذاكرًا أن ذلك كان في ثاني عشر جمادى الأولى من السنة المذكورة، بدار الحديث السكرية بالقصاعين بدمشق المحروسة ا هـ.

وتوجد هذه النسخة الآن بمكتبة "خدا بخش بتنة" بالهند.

وسوف تكون بمشيئة الله الأصل الأول لتحقيق بقية الكتاب ويشار إليها بالرمز "أ" وما كان فيها من فروق في الجزء الأول فسوف أستدركها وأثبتها في آخر الكتاب، إن شاء الله.

وبعد:

فيقتضينا الإنصاف، وتوجب علينا الآداب الإسلامية، وحقوق التربية الروحية، أن نعترف بالفضل لذويه، وأن نقول: إن هذا الكتاب هو الثمرة الأولى لمدرسة حديثة للتخريج والتحقيق يرجع الفضل الأكبر في إنشائها إلى الأستاذ السيد "أحمد صقر" الذىِ انتدب لتدريس علوم الحديث لنا في قسم الدراسات العليا في كلية أصول الدين

ص: 25

بجامعة الأزهر آنذاك.

فلقد فتح أبصارنا على المصادر الأصلية للثقافة، وأوجب علينا الرجوع إليها، وأبان لنا عن المنهج الأمثل في التخريج والتحقيق، والعناية بتاريخ الرجال، وعلل الحديث، ونبذ كتب القرون المتأخرة، والرجوع إلى المصادر الأولى التي ألفها العلماء الأعلام في عصور العلم الزاهرة، والتي صرفتنا عنها الكتب المتأخرة فلم نكد نعرف عنها شيئًا.

ولفت أنظارنا إلى وجوب قيام شباب العلماء بإحياء كتب التراث الإسلامي النافعة.

وأن نشر التراث الإسلامي إن كان فرض كفاية فيما مضى، فهو الآن فرض عين على القادرين في عصرنا هذا الذي فتحت فيه نوافذ الفكر الغربي على مصاريعها حتى تستبين أصالتنا، ونسهم بقيمنا في صنع التقدم، وبناء الحضارة الإنسانية.

إنه واجب على العلماء أن يُعْنَوْا به، وأن يبذلوا فيه أقصى ما يستطيعون من جهد ووقت ومال، وإن عليهم أن يذكروا أن ميدان النشر من أهم ميادين الجهاد في سبيل الإسلام.

وأنه واجب مفترض؛ قيامًا بحق النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين.

ولقد حدثنا ذات يوم عن "ابن رجب" وكشف لنا عن جانبه الحديثي الممتاز وأحضر لنا الجزء الأخير من "شرح ابن رجب لعلل الترمذي" وقرأ لنا الكثير من نصوصه فبهر عقولنا ما فيه من المعلومات النادرة، والفوائد الغريبة والعجيبة التي تدل على تمكن من علوم الحديث، وبصر بمصادره العديدة.

ولقد كان لتلك القراءة أثرها البالغ في نفسي، والذي حفزني إلى الاطلاع على مؤلفاته وقراءتها بعين التحقيق والتدقيق.

ثم حبب إليَّ أن أتخصص في دراسة "ابن رجب" من الناحية الحديثية، وأن أعنى بنشر كتبه، وتحقيقها، وتخريج أحاديثها؛ لقيمتها العلمية، وأثرها في الحياة؛ فجاء هذا الكتاب أول استجابة عملية لهذا التوجيه.

وإني لأشكر له هذه اليد الطولى التي تبدأ -اليوم معنا- جولة جديدة في مجال خدمة السنة، وتحقيق التراث بوزارة الأوقاف.

لقد تقرر إنشاء المركز الدولي للسيرة والسنة النبوية بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

وقد وافق سيادته على أن يشرف على قسم السنة النبوية، كما وافق فضيلة الأستاذ الدكتور "محمد الطيب النجار" رئيس جامعة الأزهر السابق، وعضو مجمعي اللغة

ص: 26

العربية والبحوث الإسلامية على أن يتولى الإشراف على قسم السيرة النبوية بالمركز، وعلى أن يرأس مجلس إدارة المركز.

وكلا الأستاذين عَلَمٌ في تخصصه ودراسته، باقعة في علمه وثقافته، على الصعيدين: المحلي والدولي. الأمر الذي يغمرنا بالتفاؤل والثقة والطموح، أن يؤدي هذا المركز دوره بجهودهما، وجهود من سيعمل معهما من العلماء والخبراء، محليًّا، ودوليًّا في خدمة السيرة والسنة بما يسهم في تجلية حقائق الإسلام: عقيدة وشريعة، وخلقًا وسلوكًا، وبما يثري حقل التنمية في المجتمعات الإسلامية بِرِئَتَيْها: الروحية والمادية، وبما يهدي إلى النهج الأقوم في صياغة الإنسان السوي الذي يحسن استثمار مواهبه وطاقاته في الإفادة بما سخر الله له في السماوات وفي الأرض.

* * *

إن السنة هي المفسرة لأعظم كتاب يهدي للتي هي أقوم في العقيدة والتشريع والأخلاق والسلوك.

وإن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الكتاب الوحيد الذي نقرأ فيه التطبيق العملي، والذي نرى فيه الصورة المثلى للأسوة الحسنة لأكمل إنسان صاغه توجيه القرآن، وصنعه الله على عينه، وجمع فيه كمال الأنبياء من قبله، ثم أمرنا بالائتمار بأمره، والائتساء بهديه بمد أن أمره -هو- أن يقتدي بنوح وإبراهيم وداود وسليمان وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم حتى يكون هو خلاصة المخلَصِين، وصفوة المصطَفْين، وحتى يستبين لنا لِمَ أمرنا أن يكون لنا فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، ولِمَ أخذ العهد على كل نبي ورسول لئن بعث في زمن أيٍّ منهم ليؤمنن به ولينصرنه، ولِمَ ينبغي أن نهتم -دومًا- بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، أو بالمنهج الإسلامي وتطبيقه كأساس لتربية الفرد، وتنمية المجتمع، وتكوين خير أمة أخرجت للناس.

* * *

وعسى أن يوفق الله مركز السيرة والسنة في مصر -في أن يستوعب ما أمكنه الاستيعاب مصادر السيرة والسنة، القديم منها والحديث، المخطوط منها والمطبوع، المحقَّق منها وغير المحقَّق، ليبدأ -بفريقي العمل في المحيطين- جهادًا لا يعرف الكلل، ونشاطا لا يدركه الملل، وتعاونا مع مراكز السيرة والسنة في العالم الإسلامي مشرقه، ومغربه، ثم لعل الله أن يوفق الجميع في عمل موسوعي للسيرة والسنة، ينفي عنهما

ص: 27

الزائف والدخيل، ويقدم للناس الرائق والأصيل، بما يوائم كل مستوى، وبما يواجه كل اتجاه، ويما ينفي عن الإسلام تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين.

وعمل كهذا سيكون له أبعد الآثار، في بعث الصحوة الكبرى في حياة المسلمين إيمانيًّا وحضاريًّا، علميًّا وثقافيًا، عسكريًّا واقتصاديًّا، سياسيًّا واجتماعيًّا.

* * *

وإذًا فلم يَكُ محض مصادفة أن يدعو سيادة الرئيس محمد حسني مبارك المؤتمر الرابع للسيرة والسنة الذي انعقد بمباركة الدولة وعونها في رحاب الأزهر وجامعته -إلى أن يتعاون علماء العالم الإسلامي في إخراج عمل موسوعي للسيرة والسنة يكون هو الأساس العلمي لما يؤمن المسلمون بوجوب أخذ أنفسهم بنهجه في العقيدة والتشريع وفي الأخلاق والسلوك.

* * *

إن إنجاز هذا العمل سوف يكون له -بإذن الله- أعمق الأثر وأطيبه في نفواس المسلمين وحياتهم: حكامًا ومحكومين، رؤساء ومرءوسين، سيما من آمنوا به، ودَعَوْا له، ونَدَبُوا إليه.

* * *

إن إنجاز هذا العمل واستحثاث الخطى له، واستنهاض الهمم نحوه، سوف يكون دافعًا أيَّ دافع للتقدم والنهوض، وسوف يكون مانعًا أي مانع من التخلف والجمود، وهو حين يواجه الحياة بروح الوحي الذي ينبغي أن يسري في كيانها، وحين يجابه الفكر المادي المعاصر باستقامة المنهج، وقوة الحجة، وكمال المثل؛ فسوف يكون نعم التعبير عما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم:

"الدين النصيحة" قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله والأئمة المسلمين وعامتهم"

(1)

.

ولما يوحى به قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}

(2)

.

(1)

هو الحديث السابع في هذا الكتاب.

(2)

سورة الأنعام: 162 - 163.

ص: 28

وقوله سبحانه:

{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}

(1)

.

* * *

فليكن إخراج هذا الكتاب الجامع للعلم والحكمة، من نبع الوحي، ومَعين السنة تحية القدوم للمركز الدولىِ للسيرة والسنة بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، بالقاهرة.

* * *

وليكن هذا المركز -بدوره تحية مباركة للعالم الإسلامي، وخطوة طيبة تصافح بها مصر كلَّ يد تبني في صرح الإسلام ركنًا، وتوحد صفا، وتُعلي بناء، وترفع منارًا، وتحقق للمسلمين أملا، وتُنجز لهم عملا، وتضاعف لهم قوة، وتُثْري لهم حضارة، وتطوِّر لهم أداء، وتُسمِع لهم كلمة، وتفرض لهم مكانة!!.

ثم أما بعد:

فلقد طبع أول جزء من هذا الكتاب محققًا لأول مرة حيث أصدرته لجنة إحياء التراث الإسلامي بالأهرام الغراء مع ذكرى غزوة بدر من عام 1389 هـ الموافق السابع والعشرين من نوفمبر عام 1969 م ثم طبع الجزء الثاني بمطابع الأهرام كذلك في العام نفسه تم طبع الجزء الثالث بدار إحياء الكتب العربية بالقاهرة في غرة المحرم 1401 هـ - 1981 م ثم توقف عملنا في التحقيق لمهام علمية خارج مصر بجامعات أم درمان الإسلامية، والكويت، ثم لأعمال إدارية وعلمية داخل مصر عقب الأوبة من تلك الإعارات، كانت تسمح -فقط- ببعض الجهود مع الكتاب بين الحين والحين، حيث كانت تأخذ خطاها نحو التكامل رويدًا رويدًا.

وها نحن أولاء نبدأ بعون الله جولة أخرى مع هذا الكتاب، حيث نقدم جزأه الأول

(2)

في طبعته الثانية منقحة ومزيدة آملين أن يتوالى نشر أجزاء الكتاب لتتكامل في خمسة أجزاء إن شاء الله؛ حيث يكون مع الجزء الأخير منها: الفهارس التفصيلية، مع الاستدراكات والتصويبات، والتعقيبات التي قد تمس الحاجة إليها.

* * *

(1)

سورة العصر: آية 1 - 3.

(2)

حيث كان الجزء يصدر بشرح عشرة أحاديث.

ص: 29

‌وَفَاءُ وَاجُب

وبين يدي القارئ العزيز صورة من صور التقدير الكريم، والغبطة الباهرة، والأخوة الكبيرة. كان المقدم للكتاب في طبعته الأولى وزيرًا للأوقاف وشئون الأزهر بينما كان المحقق للكتاب معيدًا بقسم الحديث وعلومه بكلية أصول الدين جامعة الأزهر حصل يومها وقبل عام من تحقيق الكتاب على درجة التخصص (الماجستير) في الحديث وعلومه، وأخذ يعد العدة للعالمية (الدكتوراه).

واقترح الأستاذ "السيد أحمد صقر" بغبطة الأب وثقة الأستاذ على الأستاذ الدكتور (عبد العزيز كامل) أن يقدم الكتاب إن رأى فيه ما يستأهل تقديمه.

وتهلل الدكتور الوزير لتقديم العمل وهو الأستاذ الجامعي، واحتفى بالكتاب ومؤلفه ومحققه احتفاءًا برز فيه تخصصه الجامعي بقدر ما برز فيه حسه العلمي، وروحه الديني، بيد أنه كان تقديمًا فريدًا؟!.

لم يكن تقديمًا تقليديًّا، لا! ولم يكن تقديم مجاملة يعبر به عن واجب عُلْقة وطيدة لصديقه الحميم الأستاذ "السيد صقر" ومدرسته في التخريج والتحقيق، وإنما كان التقديم أسوة حسنه في التقديم وفي التقدير، وفي التعبير عن العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الأجيال خاصة بين أستاذ وزير لوزارتين وبين معيد يدرج بين مرحلتيه قبل أن يأخذ طريقه بين هيئة التدريس بالجامعة.

لقد كان تقديم الأستاذ الدكتور عبد العزيز كامل وزير الأوقاف وشئون الأزهر -حينئذ- دراسة، كما كان درسًا، كما كان قيمة أدبية وعلمية استأهل منا اليوم أن يكون هذا التقديم له بعض ما يجب نحوه من وفاء، فما كان أحد يتوقع أن يأخذ هذا الكتاب طريقه من وزارة الأوقاف مرتين: مرة مقدمًا، والأخرى محققًا في طبعته الثانية.

وها نحن أولاء نزجي هذه الدراسة العلمية للكتاب، وهذا التقديم التقديري للتحقيق، تقديرًا للروح العلمية التي سطرته، والمشاعر الكريمة التي صاغته، ثم نهديه للقارئ الكريم تقديمًا لمثل، واعتزازا بعمل.

والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.

القاهرة في:

غرة رجب 1406 هـ -12 مارس 1986 م

الدكتور محمَّد الأحْمدي أبُو النُّور

وَزِير الأوقافِ سَابقًا

ص: 30

‌تقديم الكتاب والتَحقِيق

بقلم

الدكتور/ عَبْد العَزيز كامِلْ

وَزير الأوقافُ وَشئون الأزهر

سَابقًا

‌1 - نموذج للتواصل الحضاري:

" جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 هـ نموذج معبر عن روح الحضارة الإسلامية، بما تحمل من قيم، نحن أحوج ما نكون إليها في تطورنا المعاصر.

يبدأ الكتاب من بذور كريمة تلقى في أرض الإسلام، وتتعهدها الأيدي المؤمنة حفظًا ورعاية، فتصبح شجرات طيبة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} . هذه البذور باقة مختارة من "جوامع الكلم" من أحاديث الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، تجمع بينها ميزة مشتركة: أنها تضم المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، وهي مما اختص الله به رسوله.

ويقص ابن رجب قصة التعاون العلمي المبذول في هذا المجال: ما جاء به الخطابي في أول كتابه: "غريب الحديث"، وما أملاه أبو عمرو بن الصلاح، وكانت ستا وعشرين حديثًا، ويأتي أبو زكريا النووي فيزيد عليها تمام الاثنين والأربعين، ويصل بها ابن رجب إلى تمام الخمسين. وهي التي يتناولها هذا الكتاب شرحًا مستفيضًا.

هذه هي القيمة الأولى للكتاب .. قيمة التواصل الحضارى بين الأجيال المتتابعة من علمائنا، وإشادة الخلف بجهد السلف الصالح، دون غمط لحق، أو إهدار لإضافة ولا تقتصر هذه الظاهرة على المكتبة الإسلامية، وإنما نستطيع أن نتتبعها في كثير من مظاهر حضارتنا: ولنأخذ العمارة مثلًا، مكتفين بالأزهر الشريف.

ونحن نحتفل الآن بمرور ألف عام على بدء التدريس به.

المسجد بناه جوهر الصقلي في عهد المعز لدين الله الفاطمي.

وجوهر قائد مهاجر، جاء من المغرب، يرجع بأصله إلى جزيرة صقلية. وتمر أيام الدولة الفاطمية، وتتعاقب الدول، ويقيض الله للأزهر من يوقف عليه الأموال؛ رعاية

ص: 31

لأبنائه من طلاب العلم الذين يفدون إليه من أرجاء العالم الإسلامي، تجمع بينهم أخوة الإسلام على اختلاف ألسنتهم وألوانهم. ولكل منهم فيه رواق، ولهم جميعًا قبلة واحدة، وهدف واحد. وتأتي الأيدي المؤمنة لتضيف إلى الأزهر مباني جديدة: وأنت إذا زرته رأيت فيه مدارس ترجع إلى القرنين: الثامن والتاسع الهجري .. وقبابا ومنائر، وأروقة وتجديدات لاحقة، وإضافات معاصرة لكليات جديدة ومدنا جامعية .. ولا زالت العناية به مستمرة والحمد لله.

* * *

ولنا أن نتساءل عن سر هذا التواصل الحضاري، الذي جمع القلوب حول بيوت أذن الله أن ترفع، وَيُذْكَرَ فيها اسمه، وحول كتب علمية ظلت العناية بها مستمرة عبر الأجيال، وأعطى الحضارة الإسلامية هذا الطابع الكريم الذي تراه في المسجد، كما تراه في حلقات العلم؟

إن القرآن الكريم يعطينا الإجابة. وأخلاق الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه نموذج تطبيقي للقرآن الكريم.

يقص علينا ربنا، تبارك وتعالى، أخبار النبوات السابقة. ويختار لنا أحسن القصص ويعقب على هذا بقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}

(1)

ولا تقتصر الأسوة على الأنبياء وحدهما، وإنما تمتد إلى الصالحين من أتباعهم، فيقول ربنا مخاطبًا المؤمنين:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}

(2)

.

* * *

فالنماذج القرآنية لها عمقها الزماني الذي يبدأ بقصة آدم، ولها امتدادها المكاني الذي يصل إلى مطلع الشمس ومغربها، وتنوعها الموضوعي الذي يشمل أبعاد الحياة. وكل أولئك يؤمن به المسلم، وهو يقرأ كتاب الله:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}

(3)

.

وتأتي حياة الرسول استمرارًا لجهاد من سبقه من الأنبياء والمرسلين. ويروي البخاري

(1)

سورة الأنعام: 90.

(2)

سورة الصف: 14.

(3)

سورة البقرة: 285.

ص: 32

عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إنّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِياء منْ قَبْلي كَمَثَل رَجُلٍ بَنَى بيتًا فَأَحْسَنْهُ وَأجْمَلَهُ، إلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلِ النَّاسِ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيُعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنا خَاتَم النَّبِيينَ"

(1)

.

* * *

وجاء علماؤنا على هذا الهدي القرآني والنبوي الشريف: يقدرون العمل الطيب المبذول، ويضيفون إليه، ويدعون الله بالخير لمن قام به .. ولننظر إلى ما يقوله ابن رجب الحنبلي عندما ذكر إضافة النووي إلى ما أملاه ابن الصلاح (ص 51):"ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا زكريا: يحيى النووي، رحمة الله عليه، أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثًا، وسمى كتابه بالأربعين. واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها، وكثر حفظها، ونفع الله بها ببركة نية جامعها، وحسن قصده، رحمه الله تعالى".

* * *

هذه هي الروح التي تعاون بها حَمَلة هذا التراث العظيم. ليست مجرد إضافة علمية تزيد بها الصفحات، وإنما هي تراث أخلاقي يحدد مستويات العلاقة بين الأجيال المتعاصرة والمتتابعة، على أساس من الحب والإخاء والتقدير .. فالإضافة إلى كتاب، والشرح على متن، والرواق الجديد في مسجد قديم. والتجديد في سبيل أو مدرسة: كل أولئك ينبع من معين واحد، ويصدر عن عقيدة واحدة، هو التواصل الحضاري الذي استطاع أن يحفظ لنا الكثير من تراثنا، وتراث الإنسانية!!

والكتاب الذي بين أيدينا صورة تطبيقية لهذا التواصل، يشترك في صياغتها ما بذله السيد المحقق من جهد، وما بذل أساتذته له في الأزهر الشريف من عون وتوجيه، وما قامت به مؤسسة الأهرام من أعباء نشر هذا التراث. وفي هذا استمرار لجهد ابن رجب، ومن قبله النووي، وابن الصلاح، والخطابي تعاونا على حفظ الحديث الشريف.

* * *

(1)

متفق عليه بخارى ح 3535 ومسلم ح 2286.

ص: 33

‌2 - حضارة متكاملة:

وابن رجب حنبلي المذهب، والنووي شافعي، وشروح الأحاديث لا يعتمد ابن رجب فيها على منهج النووي في تراجم الرواة، وتفسير ألفاظها .. بل لا يفيد نفسه بنطاق السنة النبوية وحدها .. وإنما يتأسى بروح القرآن والسنة من طلب المعرفة والتحليق في آفاقها، بقدر ما أتاحته له ثقافته وثقافة عصره.

وتقرأ الصحيفة من هذا الكتاب، فينقلك ابن رجب من آية كريمة، إلى حديث شريف، إلى أقوال أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، وتلاميذهم، ثم يأخذ بيدك إلى رقائق الصوفية، فتلقى ذا النون المصري، وسهلا التسترى، وابن المبارك .. ويقدم إليك نماذج من الشعر يُسندها تارة إلى أصحابها. وإذا ما تحدث في موضوع علمي؛ استند إلى أقوال الخبراء فيه. ففي حديث عن معنى "أمشاج" يقول:"وفسر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها .. وقد ذكر علماء الطب ما يوافق ذلك".

* * *

وابن رجب يجمع في هذا بين علوم الرواية والدراية .. ويعطينا صورة عن الآفاق الرحبة، وتكوين رجل الدين: فهو متفاعل مع عصره، جامع لثقافته، يضع بيت الشعر -إلى جانب الرأي الطبي، ويستطيع أن يَنْسِج من مصادر دينه، والثقافة المعاصرة رداء يجمع بين الأصالة والتجديد، قوي الروابط بمصادر دينه. وهي الأساس العريض القوي الذي يقوم عليه الكتاب، متصلا بتيارات الحياة المتدفقة من حوله على هدى وبصيرة.

‌3 - بناء الكتاب:

هناك إذن تواصل حضاري، وتفتح على آفاق المعرفة، ولكن ما الأساس الذي اختيرت عليه هذه المجموعة من الأحاديث؟ وما دلالة "جوامع الكلم" التي جاءت به، على صورة المجتمع الإسلامي؟

وهل للاختيار، ثم الإضافة من قاعدة؟

الذي يستوقف النظر لأول وهلة، ما ساقه ابن رجب من مبررات لإضافته إلى ما رواه النووي في الأربعين: فهو يذكر في مقدمته (ص 51 - 52): "وقد كان بعض من

ص: 34

شرح هذه الأربعين قد تعقب على جامعها، رحمه الله، تركه لحديث:"أَلْحِقُوا الفِرَائِضَ بأهْلِهَا، فما أبْقَتِ الْفَرائِض فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَر" لأنه الجامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم، فكان ينبغي ذكره في هذه الأحاديث الجامعة .. فرأيت أنا أن أضم هذا الحديث إلى أحاديث الأربعين التي جمعها الشيخ رحمه الله، وأن أضم إلى ذلك أحاديث أخر من جوامع الكلم، الجامعة لأنواع العلوم والحكم، حتى تكمل عدة الأحاديث كلها خمسين حديثًا".

وهذه الأحاديث المضافة شطران: منها ما يتعلق بالأحكام، وهي التي أوردها بعد حديثِ الفرائض مباشرة، ثم أربعة ختم بها إضافته، تتعلق بالآداب والأخلاق، ختامها حديث "لا يَزَالُ لِسَانُك رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ الله" .. بينما كان ختام الأربعين النووية: الحديث الذي يرويه التِّرمذي عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدَمَ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتَني وَرَجَوْتَنِي، غَفَرتُ لَكَ علَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالي. يا ابْن آدَمَ! لَوْ بلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفرْتَني غَفَرْتُ لَكَ. يا ابن آدمَ! إِنِّك لَوْ أَتيتني بِقُرابِ الأَرضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقيتَني لَا تُشْرِك بِي، لأَتيْتُك بِقُرابِهَا مَغْفِرَةً".

هذا، والحديث الفاتح للكتاب كله، هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الأَعَمْالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّما لِكُل امْرئ ما نَوَى .. " وبه صدر الإمام البخاري كتابه الصحيح، وأقامه مقام الخطبة.

ففي الحديث الفاتح، يتابع النووي وابن رجب اختيار البخاري، ويعقب ابن رجب على هذا بأقوال سلفنا الصالحين، في مكانة هذا الحديث، وأنه من أصول الدين، فهو عندهم أحد حديثين، أو ثلاثة أو أربعة، بها نجاة المسلم في دنياه وأخراه.

وإذا ما كان هناك اتفاق على اختيار هذا الحديث فاتحًا لأكثر من كتاب من كتب الحديث -ولهذا ما يبرره- فإن اختيار حديث يختم المجموعة المختارة جاء متسقًا معها، ثم جاءت الإضافة الجديدة، ولها -هي الأخرى- خاتمتها المرتبطة بها.

وكتاب ابن رجب في هذا أقرب ما يكون إلى هندسة معمارية، لمسجد كبير، محرابه قديم، وإليه تتجه الأنظار والقلوب، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات .. " ثم تتعدد بعد هذا أروقته وأبوابه عند كل إضافة جديدة.

ما اختاره النووي يصلح أن يكون ختامًا .. إنه طلب الاستغفار بعد العمل الصالح ..

ص: 35

فيه التوجه إلى الله، وإلى رحمته التي وسعت كل شيء .. فيه أنفاس قول الله تعالى في ندائه الأقدس:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}

(1)

وذنوب العبد -مهما عظمت- فإن مغفرة الله وعفوه أوسع.

ويعلمنا رسولنا كيف ندعو ربنا: "اللَّهُمَّ مَغْفرَتُكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبي، وَرَحْمَتُكَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلي". وفي شرح ابن رجب لهذا الحديث يسوق الآيات والأحاديث والرقائق والشعر، في ابتهال كأنك معه في جوف الليل في استغفار عميق، وصدق توجه إلى قَيوُّم السماوات والأرض:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}

(2)

.

ما اختاره النووي هو "واحة" الاستغفار، بعد رحلة الحياة الطويلة، بكل ما فيها من معاناة يرجو بعدها من ربه الجزاء الأوفى: درجات منه ومغفرة.

ويأتي ابن رجب فيختار ختامًا جديدًا، مع احتفاظه بالختام القديم .. كأنه رواق يضيفه إلى المبني، يتكامل معه، ويثريه موضوعيًّا، مع المحافظة على هندسة الكتاب الأولى.

والحديث الذي اختاره، كأنما هو جامع لجوامع الكلم، حتى في صياغته، ولنقرأه معًا:

عن عبد الله بن بشر قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله! إنَّ شَرَائِعِ الإِسْلام، قَدْ كثُرَتْ عَلَيَّ، فَبَابٌ نَتَمَسَّك بِهِ جَامعٌ؟ قال:"لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ الله".

وفي شرح الحديث تحس أن ابن رجب يختم الكتاب كله .. وأن الشرح هو كلمة الوداع بعد معايشة مؤمنة لعمل جليل، يسلمه إلى تراثنا الكبير، وأنه اللمسات الأخيرة في هيكل ضخم شادته اليد والعقل والقلب، والنشيد الختامي في هذا الديوان المنير، وفيه يبذل ابن رجب طاقته، وذوب قلبه، في إبراز مكانة الذكر والذاكرين، ونماذج من إقبالهم على الله. ويذكر من الشعر في شرح هذا الحديث ما لم يذكره في الكتاب كله، وينتقل بعد هذا إلى بيان وظائف اليوم والليلة، كأنما يضع للمسلم برنامجًا لحياته اليومية ودورتها السنوية، على هدى من مأثور ذكر الله في كل أحواله. ويكاد هذا الفصل أن يكون خلاصة لكتاب كامل ألفه ابن رجب في هذا الموضوع هو "لطائف المعارف فيما

(1)

سورة غافر آية: 60.

(2)

سورة غافر: 7.

ص: 36

لمواسم العام من الوظائف"

(1)

.

ويعود ابن رجب ليربط ختام الكتاب بصدره، ذاكرًا ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم في التسبيح، ومكانته، وثوابه عند الله، وأدعية نبوية من جوامع الكلم تأسيًا بحديث الرسول الذي يرويه أبو داود، عن عائشة رضي الله عنها:"كَان النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام يُعْجِبُهُ الْجَوَامِعُ مِنَ الدُّعَاءِ وَيَدَعُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ" ثم يختم الكتاب بحديث التحيات بما فيه من توجه إلى الله، وسلامٍ على الرسول، وعلى عباد الله، الصالحين.

* * *

‌4 - الترابط العضوي

الكتاب بذلك هندسة كاملة: له فاتحته وخاتمته. ولكن ماذا عن نظام الكتاب وترابطه العضوي بين الحديثين: الفاتح والخاتم؟

قد يكون من اليسير أن نختار الحديث الثاني في مكانه هذا. إنه البهو الرئيسي في البناء بعد المدخل. وهو الذي يرويه عمر بن الخطاب عن مجيء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا ديننا: يسأل الرسول ويصدقه في أمر الإسلام والإيمان و الإحسان والساعة وأماراتها. ولقد وفاه ابن رجب من الشرح، أكثر مما أعطى غيره من أحاديث الكتاب. وتأتي إحالات ابن رجب عليه، بدءًا من الحديث الثالث عن قواعد الإسلام.

ومن المنتظر أن نجد تداخلا بين هذه الأحاديث، وكلها من جوامع الكلم، وأن تتباين وتتكامل -في نفس الوقت- عناية المؤلف بها، ولا ينتظر -وهذا أمرها- أن نتلمس فيها نموًّا عضويًّا منهجيًّا، بحيث لا نستطيع أن نقدم في ترتيبها أو نؤخر، فمطلب مثل هذا، فيه من التطلع أكثر مما تسمح به طبيعة جوامع الكلم، وهي موضوع الكتاب.

ولكننا نستطيع أن ننظر إلى نمو الكتاب من زاوية أخرى، وهي التكامل الموضوعي. هل ابن رجب، حين أضاف حديث الفرائض وما بعده، كان ينظر بهذا المنظار، وهو المبرر الذي استند إليه في الإضافة؟

الكتاب -بهذا يعبر تعبيرًا صادقًا عن أبعاد الإسلام، كما توضحها الأحاديث الشريفة. ونظرة إلى فهرست الكتاب يمكن أن تؤكد هذا التكامل:

(1)

ط. عيسى الحلبي 1342 هـ - 1924 م. مصر وانظر ما مضى عنه ص 9.

ص: 37

فهي تعرض لأصول الإسلام والإيمان والإحسان، ومنشأ الإنسان وعلاقته بربه، وبالإنسانية في آفاقها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والسياسية، التي نلقاها في حديث "الدِّينُ النَّصيِحَةُ" وتوضح أدق جوانب التحري في عمل الخير مع الناس كما جاءت في حديث "كُل سُلامى

(1)

مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُع فيه الشَّمسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَين صَدَقَة، وتُعينُ الرَّجُلَ في دَابَّتهِ فَتَحْمِلُه عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ: صَدَقَةٌ".

وتعرض الأحاديث لكدح الإنسان إلى ربه في السلم والحرب من أجل حياة أفضل، وحسابه عند ربه في يوم لا تضيع فيه الودائع!!

ولا تكتفي الأحاديث بالتأصيل النظري، وإنما تعطينا النماذج التطبيقية التي نستطيع القيام بها، والنسج على منوالها.

إلى جانب ذلك من الممكن أن نتتبع وحدات فكرية مترابطة داخليًّا، وسط الترابط الكبير للكتاب.

ولنأخذ لذلك نماذج:

حديث: "أَلْحِقُوا الْفَرائِضَ بأَهْلِهَا"(رقم 43) يأتي بعده حديث الرضاعة (رقم 44) والموضوعان مرتبطان. وبين الأحاديث الثلاثة التالية ترابط موضوعي: فمنها حديثان (45، 46) يعرضان لما حرم الله من طعام وشراب وكسب، ويمهدان لحديث عن الزهد:"مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعاءً شَرًّا مِنْ بَطنِه"(47).

وينقلنا هذا الحديث إلى مستوى يوضح ما حذرنا منه ربنا من أخلاق النفاق (48) وبهذا يجمع ابن رجب التحريم المادي والمعنوي في نسق ينقلنا إلى حديث التوكل على الله تعالى، وما يرتبط به من سعى في طلب الرزق (49). ثم يأتي حديث ذكر الله وهو ختام الكتاب كله (50).

فإضافة ابن رجب تبدأ من دائرة الأسرة ونظامها في الميراث والرضاعة، حلالها وحرامها، ثم ما حرم الله من طعام وشراب وكسب، وما حذرنا منه ربنا من أخلاق النفاق، فإذا تطهرت حياة الفرد، توكل على ربه، وسلك صراطًا مستقيمًا، يكسب حلالًا، ويعمل في طلب الخير، ولسانه رطب دائمًا بذكر الله في كل أمره.

(1)

عظام الأصابع في اليد والقدم.

ص: 38

وإذا ما كانت إضافة ابن رجب تمثل نموًّا عضويًّا في الكتاب، فإنه كان مقيدًا في الأحاديث الأولى باختيار وترتيب أبي زكريا النووي، وقد لمسنا فيه جوانب من هذا النمو، مع ملاحظة التكامل الموضوعي للكتاب كله، بحيث يستطيع الإنسان، في كل أحواله، أن يجد في الكتاب مددًا لسعيه الدائب في الحياة: في عباداته ومعاملاته وأخلاقياته، في محراب الصلاة وميدان القتال، بين أهله وبين الناس. منطلقًا إلى ربه، يقصده بعمل الخير في كل أمره .. ويكفي هنا أن نعود إلى ما ذكره ابن رجب في الحديث السابع:"الدِّينُ النَّصيِحَةُ".

‌5 - الكتاب والمؤلف

ونستطيع أن نقول: إن هذا الكتاب بعامة، وفصول الأخلاقيات بخاصة، تمثل الكثير من حياة ابن رجب، وإن هناك ترابطًا قويا بين ما ذكره هو في كتابه، وما ذكره عنه من ترجموا له

(1)

.

كان ابن رجب "صاحب عبادة وتهجد، إمامًا ورعا زاهدا، مالت القلوب بالمحبة إليه، وأجمعت الفرق عليه، وكانت مجالسه تذكرةً للقلوب صادعة، وللناس عامة مباركة نافعة، وزهده وورعه فائق الحد. وكان لا يخاف الموت، ولا يهرب من لقائه، وإنما كان ينتظره ويواجهه في صبر وجلد".

ولقد أعانته على بلوغ مكانته العلمية رحلات أبيه، وسماعه معه في الشام والعراق ومكة ومصر، حتى أن العليمي يصفه فيقول:"هو الشيخ الإمام، والحبر البحر الهمام، العالم العامل، البدر الكامل، القدوة الورع، الحافظ الحجة الثقة".

وإذا ما رجعنا إلى حديثه الخاتم عن "ذكر الله" رأيناه مجلس علم وذكر، في افتتاحه وتدفقه وخاتمته، وتُلْقِي اختياراته للنقول التي أوردها ضوءًا قويًّا على المنهج الذي ارتضاه .. وتجد هذا مفصلا في كتابه "لطائف المعارف" فهو يدور مع الشمس والقمر وفصول السنة ومواسم العبادة. وهو في هذا كله خبير بالنفس الإنسانية في إشراقها وأفولها، وإقبالها وإدبارها، بحيث يظل محتفظًا برباط قوي بينه وبين القارئ.

ولنستمع معًا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختاره ليصدر به الفصل الخاص

(1)

يراجع التمهيد الذي كتبه هنري لاووست وسامي الدهان لكتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب ص (18 و 19)، والنقول التي أورداها عن محمد بن فهد المكي، والعليمي، ومحمد بن حميد المكي. ط دمشق 1370 هـ - 1951 م، ومقدمة محقق هذا الكتاب.

ص: 39

بفضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ:

عن أبي هريرة، رضي الله عنه:"قُلْنَا: يَا رَسولَ الله! إذَا كُنَّا عِنْدَكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا، وزَهِدْنَا فِي الدنْيَا، وكُنَّا مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ، فَإِذَا مَا خَرجْنَا مِنْ عنِدِكَ، آنسْنَا أهْلَنَا، وشَمَمْنَا أَوْدلَادَنَا، وأَنْكَرْنَا أَنْفُسَنَا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّكُمْ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي كُنْتُمْ علَى حَالِكُم ذَلِكُمْ لزَارَتْكُمْ الَملَائِكَةُ في بُيُوتِكُمْ. وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لجَاءُ اللهُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ حَتَّى يُذْنبِوا فَيَغْفِرَ لَهُمْ"

(1)

..

وهو في حديثه يربط بين الجهاد وذكر الله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}

(2)

وفي الترمذي مرفوعًا: يقول الله: "إنَّ عَبْدِي كلَّ عَبْدِي: الَّذِي يَذْكُرُنى وَهُوَ مُلاقٍ قِرْنَه"

(3)

كما يربط بين الذِّكر وبين الحج والصلاة وإبتغاءِ فضل الله. ويعقب على هذا بقوله: "ولهذا ورد فضل ذكر الله في الأسواق وفي مواطن الغفلة .. " ثم يذكر نماذج رائعة لذلك.

* * *

‌6 - الكتاب فى ثوب جديد

وأعود إلى الكتاب الذي بين يديَّ، فأرى فيه خُطْوةً على طريق العناية بالحديث الشريف.

فهذا طريق قل سالكوه، وأصبح العاملون في ميدانه قلة نادرة يتخطف الموت منهم أكثر مما تفرضه المسئولية على الأجيال اللاحقة لملء الفراغ، وهو فراغ موحش!

أكثر من كِتاب من كتب الأحاديث مات محققوها دون أن يكملوها، فبقيت في تراثنا المعاصر شواهد تدعو الأجيال إلى العمل، ولم تجد بعد من يستجيب لهذا النداء! وفي بقائها دون إكمال، مؤشر يحدد المستوى الذي نرجو جميعًا أن نرتفع فوقه، إلى مسئوليتنا نحو الحديث الشريف. هذا إلى كتب كثيرة من أمهات مصادر الحديث، لا زالت بحاجة إلى تحقيق ونشر علمي.

ولقد بدأت الأجيال الجديدة من شباب الأزهر تستجيب، وأعطاها أساتذة الأزهر، في كلياته وخارجها، ما يستطيعون من عون وتوجيه، وأخذت كلية أصول الدين، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وجهود علمائنا، تخطط لزيادة العناية

(1)

لطائف المعارف ص 9.

(2)

سورة الأنفال: 45.

(3)

جامع العلوم والحكم: في شرح الحديث الخمسين.

ص: 40

بعلوم الحديث، وأخذت الجامعات الإسلامية، ما بين المحيطين الهادي والأطلسي، تنشئ لذلك معاهد متخصصة، وتعلن ذلك في توصياتها وبياناتها في مؤتمراتها العلمية. وتعاونت دور النشر على تمويل هذه المشروعات، ودخلت الأهرام مشكورة في هذا المجال الإسلامي، وفي لقاءاتي مع المعنيين بالحديث الشريف من أساتذة الأزهر الشريف، ومع الأساتذه الزائرين والمنتدبين، وإخواننا من أبناء العالم الإسلامي، لمست طوالع عصر نهضة جديدة، وعناية بالحديث الشريف، نرجو أن تؤتي ثمارها، وتقوم بملء الفجوة التي تشير إليها مجموعة من أمهات كتب الحديث، بقيت دون إكمال، بعد أن سبق إلى الله من قاموا بتحقيق أجزاء منها.

ما يقوم به السيد الدكتور "محمد الأحمدي أبو النور" محقق هذا الكتاب من تحقيق علمي منهجى يستند إلى المصادر الأصلية، إنما هو خطوة على هذا الطريق الطويل، الذي يحتاج منا إلى أحسن تعاون بين أبناء الجيل الواحد، وبين أجيال الأساتذة والطلاب، على أساس من الإخاء العلمي، الذي يرتفع بنا إلى مستوى تتحدد فيه أبعاد المسئولية نحو المصدر الثاني من مصادر ديننا، بعد كتاب الله تعالى.

واللهَ أدعو أن يبارك في هذه الجهود الشابة، التي يسهم فيها أبناء الأزهر الشريف، وأن يجعل التعاون البناء، والإخاء العلمي، والدقة العلمية؛ شعار هذه النهضة في علوم الحديث.

وأن يجزي الأهرام وكل عامل في حقل الحديث الشريف عن الإسلام خير الجزاء، وأن يجعل هذا الجهاد العلمي متواكبًا مع جهادنا، من أجل أسترداد مقدساتنا وأرضنا السليبة.

ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيِّئ لنا من أمرنا رشدا.

القاهرة في:

2 من ذي الحجة 1389 هـ 8 من فبراير 1970 م

الدكتور/ عبد العزيز كامل

وزير الأوقاف وشئون الأزهر

سَابقًا

ص: 41

صورة غلاف النسخة "أ"

ص: 42

صورة اللوحة رقم (1) من النسخة "أ"

ص: 43

صورة اللوحة رقم (2) من النسخة "أ"

ص: 44

صورة اللوحة رقم (3) من النسخة (أ)

ص: 45

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة "أ" وبها خط المؤلف وإجازته

ص: 46

بسم الله الرحمن الرحيم

(1)

وصلواته وسلامه الأتمَّان الأكْملان على سيدنا محمد وآله وصحبه.

قال الشيخ الإمام العالم الأوحد، شرف الإسلام، مفتي االأنام، بقية السلف الكرام: الشيخ زين الدين: عبد الرحمن بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين: أحمد ابن الشيخ الإمام: رجب البغدأدي، فسح اللَّه في مدته، ونفع به، وأمتع المسلمين بطول بقائه، بمنّه وكرمه.

الحمد الله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعل أمتنا -ولله الحمد- خير أمة، وبعث فينا رسولا منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة.

أحمده

(2)

على نعمد الجمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة تكون لمن اعتصم بها خيرَ عصمة.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله للعالمين رحمة، وفوَّض

(3)

إليه بيانَ ما أُنزل إلينا، فأوضح لنا كلَّ الأمور المهمة، وخصَّه بجوامع الكلم، فربما جمع أشتاتَ الحِكَم والعلوم في كلمة أو في شَطْر كلمة!!

صلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه

(4)

الأئمة: صلاة تكون لنا نورًا من كل ظُلمة، وسلَّمَ تسليمًا

(5)

كثيرًا.

* * *

أما بعد؛ فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وخصه ببدائع الحِكَم؛ كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

من هنا إلى قوله: وصحبه ليس في أ. وإلى قوله: "البغدادي" ليس في هـ، ولا في م، ولا في ن. وفي ب، س: رحمه الله ورضي عنه، وأثابه الجنة بمنه وكرمه. وفي (و)"ببقائه".

(2)

في و: "أشكره".

(3)

في صلب م، هـ:"وفرض عليه" وبالهامش إشارة إلى أن في نسخة: "وفرض".

(4)

فى و: "صلى الله عليه وسلم". وعلى آله وصحبه.

(5)

سقط من "ب" وفي أ: "وسلم تسليمًا" وليس فيه لفظ "كثيرا".

ص: 47

"بُعِثْتُ بِجَوَامعِ الْكَلِمِ"

(1)

.

* * *

[معنى جوامع الكلم]:

قال الزهري

(2)

[رحمه الله]:

جوامع الكلم -فيما بلغنا: أن الله تعالى يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله: في الأمر الواحد والأمرين، ونحو ذلك.

* * *

[أدلة أخرى على أنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم]:

وخرَّج الإمام أحمد، رحمه الله، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

(3)

رضي الله عنه قال:

"خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا كالمَوَدِّع فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الأُمِّي -قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- ولا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتيتُ فَوَاتَحِ الْكَلِم، وَخَواتِمَهُ وَجَوامِعَه .. وذَكرَ الْحَدِيثَ"

(4)

.

وخرج أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر 6/ 128. ومسلم أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/ 370 - 371.

قال الهروي: بعثت بجوامع الكلم يعني: القرآن جمع الله تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة. وكلامه صلى الله عليه وسلم كان بالجوامع، قليل اللفظ، كثير المعاني.

(2)

في صلب م، هـ:"النووي" وبالهامش إشارة إلى أن في نسخة: "الزهري" وهذا يشعر أن النووي هو الصواب وليس كذلك؛ فالزهري هو قائل هذا فيما ثبت بالأصول الخطية، وفيما نقله عنه البخاري في كتاب التعبير: باب المفاتيح في اليد 12/ 253، وفيما ذكره ابن حجر في هذا الموضع، وفي كتاب الاعتصام: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم 13/ 309 من الفتح، والبيهقي في الدلائل 5/ 471.

(3)

في هـ، م:"وخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عمرو بن العاص" وهذا خطأ: فالإمام أحمد لم يخرج الحديث في مسنده من حديث عمرو بن العاص وإنما خرجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص 10/ 107 - 108 (معارف) من طريقين: أحدهما حسن، والآخر صحيح كما ذكر محققه: العلامة المرحوم الشيخ أحمد شاكر وانظر رده على الهيثمي في تضعيفه الحديث.

(4)

تتمة الحديث بعد هذا: "وعلمت كم خزنة النار، وحملة العرش، وتجوز لي، وعوفيت، وعوفيت أمتي، فاسمعوا وأطيعوا مادت فيكم، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله، أحلوا حلاله وحرموا حرامه".

ص: 48

"إِنِّي أُوتيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وخَوَاتِمَه، واختُصِرَ ليَ الحديثُ اختِصَارًا"

(1)

.

* * *

وخرج الداراقطني

(2)

رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"أُعْطِيتُ جَوامِعَ الْكَلِمِ، واخْتُصِرَ ليَ الْحِدِيثُ اختِصَارًا ".

* * *

ورُوِّينا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق القرشي عن أبي بُرْدَة عن أبي موسى (الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أُعْطيتُ فَوَاتحَ الكَلِمِ وَخَواتِمَهُ وَجَوامِعَة؛ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله! علِّمنَا مِمَّا عَلَّمكَ الله عز وجل. قَالَ فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ"

(3)

.

* * *

وفي صحيح مسلم عن سعيد بن أبي بردة بن

(4)

أبي موسى عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البِتْع والمِزْرِ قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُعْطِىَ جوامِع الكَلِم بخواتِمه فقال:

"أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكرٍ أسكر عَنِ الصَّلاةِ"

(5)

.

(1)

ليس هذا الحديث في المطبوع من مسند أبي يعلى المختصر، لكن أورده ابن حجر في المطالب العالية 4/ 28 - 29 عن أبي يعلى من مسنده الكبير أو روايته المطولة، وفيه "يا أيها الناس: إني قد أوتيت

الحديث" وقد أورده السيوطي في الجامع الصغير عن أبي يعلى وذكر المناوي في التيسير 1/ 171 أن إسناده حسن.

(2)

في السنن 4/ 144 - 145، وفي إسناده زكريا بن عطية، منكر الحديث كما في الجرح والتعديل 3/ 599 وبلفظ الدارقطني أورده السيوطي عن أبي يعلى من حديث عمر، والذي أورده ابن رجب قبل هذا مباشرة.

(3)

رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد ضعيف كما ذكر الشيخ ناصر الألباني في الأحاديث الصحيحة 1483 لكن له شاهدًا من الصحيح عند أحمد في المسند من طريقين 5/ 336 و 6/ 97 (المعارف) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم فواتح الخير وجوامعه، أو جوامع الخير وفواتحه .. الحديث.

(4)

في م، هـ:"عن أبي موسى" ولا يلتئم مع لاحقه (3/ 1586)

(5)

في صحيح مسلم من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله! إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له: المزر، من الشعير، وشراب يقال له: البتع، من العسل. فقال:"كل مسكر حرام".

وفي رواية تالية:

فقلت: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع وهو من العسل، والمزر وهو من الذرة =

ص: 49

وروى هشام بن عمار

(1)

في كتاب المبعث

(2)

بإسناده عن أبي سلام

(3)

الحبشي قال: حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "فُضّلْتُ عَلَى مَنْ قَبلي بِستٍّ وَلا فَخْرَ، فَذَكَرَ مِنْها جَوَامِعَ الْكَلِمَ، فقال: قال: وَأُعْطَيتُ جَوَامِعَ الْكَلم، وَكَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَجْعَلونَها جُزءًا بِالَّليل إلى الصَّباح فَجَمَعَهَا لِي رَبِّي في آية وَاحِدَةٍ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

(4)

.

* * *

[جوامع الكلم نوعان]:

فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:

أحدهما: ما هو في القرآن كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}

(5)

.

قال الحسن: لم تترك هذه الآية خيرًا إلا أمرت به، ولا شرًّا إلا نهت عنه.

والثاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم وهو منتشر موجود في السن المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم.

* * *

[المصنفات في جوامع الكلم]:

وقد جمع العلماء رضي الله عنهم جموعا من كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة، فصنف الحافظ أبو بكر بن السني كتابا سماه:"الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة".

وجمع القاضي أبو عبد الله القُضاعي من جوامع الكلم الوجيزة

(6)

كتابا سماه: "الشهاب في الحكم والآداب".

= والشعير ينبذ حتى يشتد قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى جوامع الكلم .. الحديث قال النووي 13/ 170: جوامع الكلم إشارة إلى إيجاز اللفظ مع تناوله المعاني الكثيرة جدا وقوله "بخواتمه أي كأنه يختم على المعاني الكثيرة التي تضمنها اللفظ اليسير فلا يخرج منها شيء عن طالبه ومستنبطه؛ لعذوبة لفظه وجزالته.

(1)

هو أبو الوليد السلمي الدمشقي، روى عن مالك، وروى عنه البخاري، وألف كتبًا منها: مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. ولد سنة 153 هـ وتوفي سنة 245 وله ترجمة في العبر 1/ 351، وميزان الاعتدال 4/ 302 - 304، وتهذيب التهذيب 11/ 51 - 54.

(2)

في ن، هـ، م:"البعث" وهو تحريف.

(3)

في هـ، م:"سالم" وهو خطأ.

(4)

سورة الحديد: 1.

(5)

سورة النحل: 95.

(6)

في هـ، م:"المجيزة" وأشير بالهامش إلى أن في نسخة أخري "الوجيزة".

ص: 50

وصنف على منواله قوم آخرون. فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة، وأشار الخطابي في أول كتابه:"غريب الحديث" إلى يسير من الأحاديث الجامعة

(1)

.

* * *

[خطوة واسعة لابن الصلاح]

وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسا سماه الأحاديث الكلية، جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال إن مدار الدين عليها، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة؛ فاشتمل مجلسه -هذا- على ستة وعشرين حديثًا.

* * *

[النووي يتمها اثنين وأربعين]

ثم إن الفقيه الزاهد القدوة أبا زكريا: يحيى النووي -رحمة الله عليه- أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثًا، وسمي كتابه بالأربعين.

واشْتُهرت هذه الأربعون التي جمعها، وكثر حفظها، ونفع الله بها؛ ببركة نية جامعها وحُسْنِ قَصْده، رحمه الله تعالى.

* * *

[ابن رجب يوفي بها خمسين]

وقد تكرر سؤال جماعة من طلبة العلم والدين لتعليق شرح لهذه الأحاديث المشار إليها، فاستخرت الله تعالى في جمع كتاب يتضمن شرح ما يسره الله تعالى من معانيها، وتقييد ما يفتح به سبحانه من تبيين قواعدها ومبانيها.

وإياه أسأل العون على ما قصدت، والتوفيقَ لصلاح النية والقصدِ فيما أردت

(2)

.

وأعوِّل في أمري كلِّه عليه، وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه.

* * *

وقد

(3)

كان بعض من شرح هذه الأربعين تعقب على جامعها رحمه الله:

(1)

1/ 64 وما بعدها.

(2)

في (ب): "فيما أردت".

(3)

ب: "وقيل".

ص: 51

تَرْكَه لحديث:

"ألْحِقُوا الْفرائِضَ بِأهْلِها فَمَا أبقْتِ الْفرائضُ فلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَر".

قال: لأنه الجامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم، فكان ينبغي ذكره في هذه الأحاديث الجامعة، كما ذكر حديث:"البَيِّنَةُ على المدعي، واليمين على من أنكر" لجمعة لأحكام القضاء؛ فرأيت أنا أن أضم هذا الحديث إلى أحاديث الأربعين التي جمعها الشيخ، رحمه الله، وأن أضم إلى ذلك كله أحاديث أخر من جوامع الكلم الجامعة لأنواع العلوم والحكم؛ حتى تكمل عدة الأحاديث كُلِّها خمسين حديثًا.

* * *

[الأحاديث المزيدة].

وهذه

(1)

تسمية الأحاديث المزيدة على ما ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه:

[1]

- حديث: "أَلْحقُوا الْفَرائِضَ بِأهْلِهَا".

[2]

- حديث: "يَحْرُم مِنَ الرِّضَاع مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ".

[3]

- حديث: "إنَّ الله إِذا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنهُ".

[4]

- حديث: "كُلُّ مُسْكرٍ حَرَامٌ".

[5]

- حديث: "مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعاءً شَرًّا مِن بَطْنِهِ".

[6]

- حديث: "أرْبعٌ مَنْ كُنَّ فيه كانَ مُنَافقًا".

* * *

[7]

- وحديث: "لَوْ أَنكُمْ تَوكَّلْتُمْ عَلَى الله حَقَّ تَوكُّلِهِ لَرزَقَكُمْ كَمَا يَرْزق الطيْرَ".

* * *

[8]

- وحديث: "لا يَزَالُ لِسَانُك رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ الله عز وجل".

* * *

وسَميته: (جامع العلوم والحكم، في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم).

* * *

(1)

هـ، م:"فهذه".

ص: 52

[ابن رجب يوجز القول عن منهجه]:

واعلم أنه ليس غرضي (إلا شرح الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث الكلية فلذلك لا أتقيد بألفاظ

(1)

الشيخ رحمه الله

(2)

في تراجم رواة هذه الأحاديث من الصحابة رضي الله عنهم، ولا بألفاظه في العزو إلى الكتب التي يعزو إليها، وإنما آتي بالمعنى الذي يدل على ذلك؛ لأني قد أعلمتك أنه ليس لي غرض في غير شرح معاني كلمات النبي صلى الله عليه وسلم الجوامع وما تَتَضمَّنُه

(3)

من الآداب، والحكم، والمعارف، والأحكام، والشرائع.

وأشير إشارة لطيفة -قبل الكلام في شرح الحديث- إلى إسناده؛ ليُعْلَم بذلك صحتُهُ وقوتُهُ وضعفُهُ.

وأذكر بعض ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيءٌ غيرُ الحديث الذي ذكره الشيخ.

وإن لم يكن في الباب غيره، أو لم يكن يصح فيه غيره - نَبَّهْتُ على ذلك كلِّه

(4)

.

وبالله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهو حسبي ونعم الوكيل

(5)

.

* * *

(1)

في هـ، م: بكلام، وأشير بالهامش إلي ما أثبتناه تبعًا للأصول.

(2)

ما بين القوسين سقط من ب.

(3)

في س، م، هـ:"يتضمنه" وفي ن "تضمنته" وقد أشير إليها في هامش م، هـ، ا:"تضمنه".

(4)

ب: "ونبهت على ذلك كله".

(5)

م: "وبالله التوفيق والمستعان وعليه التكلان ب - بعد هذا: "وهو حسبي" إلخ.

ص: 53

بسم الله الرحمن الرحيم

‌الحديث الأول

" عَنْ أَمير الْمؤمنين: أَبي حَفْصٍ: عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ

(1)

رضي الله عنه قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّما الأعْمَالُ بِالنّيات، وِإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوىَ، فَمنْ كَانتْ هِجرتُهُ إِلى الله وَرَسُولِه فَهِجْرتُه إِلى الله وَرَسُولِه، ومَنْ كانتْ هِجْرتُهُ لِدُنيا يُصِيبُهَا، أو امرأةٍ يَنكِحُهَا فَهِجْرتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إليْه". رواه البخارىِ ومسلم:

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وليس له طريق يصح غير هذا الطريق.

كذا قال على بن المديني وغيره.

وقال الخطابي: "لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في ذلك"

(2)

.

مع أنه قد روى من حديث أبي سعيد وغيره.

وقد قيل: إنه قد روى من طرق كثيرة لكن لا يصح من ذلك شيء عند الحفاظ.

ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير، والجم الغفير؛ فقيل: رواه عنه أكثر من مائتي

(3)

(1)

هو الخليفة العادل الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه، ونعم المجتمع في عهده بالعدالة والمساواة والحرية، ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، ودامت خلافته بعد أبي بكر عشر سنوات، وستة أشهر واستشهد لأربع بقين من ذي الحجة سنة 23 هـ.

وترجمته في الاستيعاب 2/ 1144 - 1159، وأسد الغابة، والرياض النضرة 1/ 245 - 2/ 109، والبداية والنهاية 7/ 133 - 141، والإصابة 4/ 279 - 280، وحلية الأولياء 1/ 38 - 55، ومناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي ط دار الكتاب العربي تحقيق د. السيد الجميلي والطقبات الكبرى لابن سعد (العشرة المبشرون بالجنة) 57 - 153 ط. الزهراء للإعلام العربي.

(2)

وأورده عنه المنذري في الترغيب 1/ 64 وانظر الفتح 1/ 11 فقد وضح عبارة الخطابي.

(3)

ذكر ذلك النووي في شرحه للبخاري 1/ 27 ثم أضاف: فهو حديث مشهور بالنسبة إلى آخره، غريب =

ص: 55

راوٍ وقيل: رواه عنه سبعمائة راوٍ

(1)

.

ومن أعيانهم: [الإمام] مالك، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، وشعبة، وابن عيينة، وغيرهم.

* * *

[صحة الحديث وتلقي الأمة له]:

واتفق العلماء على صحته وتلقِّيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابه الصحيح

(2)

وأقامه مقام الخطة له؛ إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا، ولا في الآخرة؛ ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي: "لو صنفت الأبواب

(3)

لجعلت حديث عمر [بن الخطاب] في الأعمال بالنية في كل باب".

وعنه أنه قال: "من أراد أن يصنِّفَ كتابًا فليبدأ بحديث الأعمال بالنيات"

(4)

.

* * *

[القيمة العلمية للحديث]:

وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها.

* * *

[عند الشافعي]:

فروي عن الشافعي أنه قال: "هذا الحديث ثُلُث العلم، ويدخل في سبعين بابًا من

= بالنسبة إلى أوله، وليس متواترًا؛ لفقد شرط التواتر في أوله، ولكنه مجمع على صحته. إلخ.

(1)

القائل بهذا هو الحافظ أبو إسماعيل الأنصاري الهروي كما ذكره ابن حجر في فتح الباري 1/ 9 وقد عقب عليه بقوله: وأنا أستبعد صحة هذا؛ فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة.

وانظر عمدة القاري 1/ 20.

(2)

لم يقتصر البخاري على إخراج هذا الحديث في صدر الصحيح، وإنما أخرجه كذلك في مواطن عديدة من صحيحه، منها كتاب الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى 1/ 126، وكتاب الفضائل: باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم 7/ 177 من الفتح.

وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة: باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية 3/ 1515 - 1516.

(3)

ب: "لو صنفت كتابا في الأبواب".

(4)

أورده النووي عنه في شرحه للأربعين ص 42، وشرحه لمسلم 13/ 53، وابن حجر في الفتح 1/ 11 بلفظ: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب. وانظر عمدة القاري 1/ 22.

ص: 56

الفقه"

(1)

.

[عند أحمد]:

وعن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: "أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث:

حديث عمر: "إنما الأَعْمَالُ بِالنِّيات".

وحديث عائشة: "مَنْ أَحْدَثَ فيِ أَمْرِنَا [هَذَا] مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".

وحديث النعمان بن بشير: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ والْحَرَامُ بَيِّنٌ"

(2)

.

* * *

[عند الحاكم]:

وقال الحاكم: "حدثونا عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه: أنه ذكر قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات"

وقوله: إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُم يجمَعُ فيِ بَطْن أُمِّه أَرْبَعيِنَ يَوْمًا"

(3)

.

وقوله: "مَن أحْدَثَ فيِ ديننا مَا لَيْسَ مِنْهُ

(4)

فَهُوَ رَدٌّ"

(5)

فقال: ينبغي أن يبدأ

(6)

بهذه الأحاديث في كل تصنيف. فإنها أصول الأحاديث".

* * *

[عند إسحاق بن راهويه]:

وعن إسحاق بن راهويه قال: "أربعة أحاديث هي من أصول الدين: حديث عمر: "إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ".

وحديث: "الْحَلَالُ بيِّنٌ والْحَرامُ بَيِّنٌ"

(7)

.

وحديث: "إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ في بَطْن أُمِّهِ أَرْبَعين يَوْمًا".

(1)

أورده النووي عنه في شرحه للأربعين في الموضع السابق، وفي شرحه لمسلم كذلك.

وأورده ابن حجر في الفتح 1/ 11 هو والأثر السابق، وابن دقيق العيد في شرحه للأربعين ص 10.

ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 14 شطره الأول.

(2)

ب: "حلال بَيِّنٌ وحرام بَيِّنٌ"، وانظر الفتح في الموضع السابق، والفتوحات الربانية 1/ 65.

(3)

هو الحديث الرابع في هذا الكتاب.

(4)

في هـ، م:"فيه".

(5)

هو الحديث الخامس.

(6)

في هـ، م:"يبتدأ".

(7)

هو الحديث السادس. والحديثان التاليان هما الرابع والخامس.

ص: 57

وحديث: "مَنْ صَنَعَ في أمْرنَا

(1)

مَا لَيْسَ مِنْهُ

(2)

فَهُوَ رَدٌّ".

* * *

[عند أبي عبيد]:

وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد قال: "جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة: "مَنْ أَحْدَثَ فيِ أَمْرنا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".

وجمع أمر الدنيا كلَّه في كلمة:

"إنما الأعْمَال بالنِّيات":

ويدخلان في كل باب

(3)

.

* * *

[عند أبي داود]:

وعن أبي داود قال: "نظرت في الحديث المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة

(4)

آلاف حديث على أربعة أحاديث:

حديث النعمان بن بشير: "الْحَلَالُ بيِّنٌ والْحَرَامُ بَيِّنٌ".

وحديث عمر: "إِنَّما الأعْمالُ بِالنِّيات".

وحديث أبي هريرة: إِنَّ الله طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وإنَّ الله أَمَرَ الْمؤمنين بِما أَمَرَ بِه المرْسَلينَ. . الحديث"

(5)

.

وحديث: "مِنْ حسنِ إِسْلامِ المرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنيِهِ".

قال: "فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم".

* * *

وعن أبي داود، أيضًا قال: "كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمَّنْتُهُ هذا الكتاب، يعني كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث

(6)

.

(1)

في هـ، م:"من صنع في أمرنا شيئًا ما". د: "شيئا ما ليس. . .".

(2)

في هـ، م:"فيه".

(3)

ظ: "يدخلان في كل باب".

(4)

في هـ، م:"أربعة".

(5)

هو الحديث العاشر من هذا الكتاب.

(6)

رسالة أبي داود إلى أهل مكة عن كتابه: "السنن".

ص: 58

ويكفىِ الإنسانَ من ذلك لدينه أربعةُ أحاديث:

أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: "الأَعْمَالُ بِالنِّياتِ"

(1)

.

والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسْن إِسْلام الْمرءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنيه".

والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَكُونُ المؤمن مُؤْمنًا حَتَّى لا يَرْضَى لأخِيه إِلَّا مَا يرَضَى لِنَفْسِهِ".

والرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرامُ بيِّنٌ"

(2)

.

* * *

وفي رواية أخرى عنه أنه قال:

الفقه

(3)

يدور على خمسة أحاديث: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ والْحَرَامُ بَيِّنٌ".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَار"

(4)

.

وقوله "الأَعَمالُ بِالنِّيات".

وقوله: "الدِّينُ النَّصيِحَةُ"

(5)

.

وقوله: "مَا نَهْيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمرْتُكُمْ بِه فَائْتُوا منه مَا اسْتَطَعْتُمْ"

(6)

.

* * *

وفي رواية عنه، قال: "أصول السُّنن في كل فن أربعة أحاديث: حديث عمر

(7)

: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات".

وحديث: الْحَلالُ بَيِّنٌ، والْحَرامُ بَيِّنٌ".

وحديث: "مِنْ حُسْنِ إِسْلام الْمرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنيه".

وحديث: "ازْهَدْ في الدُّنْيا يُحِبَّكَ الله وازْهَدْ فيِمَا في أَيْدى النَّاسِ يُحِبَّك النَّاسُ"

(8)

.

* * *

(1)

في ب، ن:"الأعمال بالنيات".

(2)

انظر عمدة القارى 1/ 22 والتمهيد 9/ 201 وشرح السيوطي على النسائي 7/ 241 - 242. والفتوحات 1/ 64.

(3)

في و: "الفقيه".

(4)

ما بين القوسين سقط من و. وهو الحديث الثاني والثلاثون من الكتاب.

(5)

وهو الحديث السابع من الكتاب.

(6)

وهو الحديث التاسع من الكتاب.

(7)

ليست في أ.

(8)

في م "يحبك الله" وهو خلاف ما في الأصول.

ص: 59

[عند الحافظ طاهر بن مفوِّز]:

وللحافظ أَبي الحس: طاهر بن مُفَوِّز

(1)

المعافري الأندلسي:

عمدة

(2)

الدين عندنا كلمات

أربعٌ من كَلام خَيْرِ البَريّهْ

"اتق الشبهات"

(3)

"وازهد" ودع ما

ليس يعنيك" "واعْمَلنَّ بنيّهْ"

* * *

[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات]:

• فقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيات".

وفي رواية: "الأعْمَالُ بِالنِّيات":

وكلاهما يقتضي الحصر على الصحيح، وليس غرضنا ها هنا توجيهَ ذلك ولا بسطَ القول فيه.

* * *

[عند كثير من المتأخرين]:

وقد اختلف في تقدير قوله: "الأعمال بالنيات": (فكثير من المتأخرين يزعم أنا تقديره: الأعمال صحيحة، أو معتبرة ومقبولة، بالنيات)

(4)

وعلى هذا: فالأعمال إنما أريد بها: الأعمالُ الشرعيةُ المفتقرةُ إلى النية.

[الأعمال ليست على عمومها]:

فأما ما لا يفتقر إلى النية كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها، أو مثل رد الأمانات والمضمونات كالودائع والغصوب

(5)

، فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية.

(1)

في م "مفون" وهو خطأ، وطاهر بن مفوز من أهل شاطبة. روي عن ابن عبد البر وكان أثبت الناس فيه، وسمع من الباجي وغيره، وعنى بالحديث حفظا وإتقانا.

والبيتان المذكوران قد أوردهما ابن بشكوال عند ترجمته له في الصلة 1/ 235 - 236) ولد سنة 427 وتوفى سنة 484. والأبيات في العمدة 1/ 22 وشرح السيوطي للنسائي 7/ 242.

(2)

في الصلة ون: "عدة".

(3)

في الصلة: "المشبهات".

(4)

ما بين القوسين ليس في ب. وفي أ أو مقبولة، وقد ضرب على الألف هكذا:(×).

(5)

في ن، و:"المغضوب" وهو تحريف

ص: 60

فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة ها هنا.

[وهى على عمومها عند جمهور المتقدمين]:

وقال آخرون: بل الأعمال هنا على عمومها لا يخص منها شيء.

وحكاه بعضهم عن الجمهور، كأنه يريد به جمهور المتقدمين.

وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبري، وأبي طالب المكي، وغيرهما من المتقدمين.

وهو ظاهر كلام الإمام أحمد؛ قال في رواية حنبل

(1)

: أُحب لكل من عمل عملا من صلاة أو صيام أو صدقة أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الأعْمَال بِالنِّيَّات".

فهذا يأتي على كل أمر من الأمور.

* * *

• وقال الفضل بن زياد: "سألت أبا عبد الله يعني أحمد عن النية في العمل، قلت: كيف النية؟ قال: يعالج نفسه؛ إذا أراد عملا: لا يريد به الناس".

* * *

• وقال أحمد بن داود الحربي: "حدث يزيد بن هارون بحديث عمر: "الأَعْمالُ بالنيَّاتِ" - وأحمد جالس فقال أحمد ليزيد: يا أبا خالد! هذا الخناق؟! ".

* * *

[تقدير الكلام]:

وعلى هذا القول فقيل تقدير الكلام: الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات، فيكون إخبارًا عن الأعمال الاختيارية: أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل، وهو سبب عملها ووجودها، ويكون قوله بعد ذلك "وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئ مَا نَوَى" إخبارا عن حكم الشرع وهو أن حظ العامل من عمله نيته؛ فإن كانت صالحة؛ فعمله صالح؛ فله أجره، وإن كانت فاسدة؛ [فعمله فاسد]

(2)

؛ فعليه وزره؟.

* * *

(1)

في م: "حنبل" وهو تصحيف.

(2)

ما بين الرقمين سقط من أ.

ص: 61

[احتمال آخر]:

ويُحتَمل أن يكون التقدير في قوله: "الأعْمال بِالنِّيَّات" الأعمال صالحة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة أو مثاب عليها، أو غير مثاب عليها: بالنيات، فيكون خبرًا عن حكم شرعي وهو: أن صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح النيات وفسادها، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَواتيمِ"

(1)

أي أن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة.

* * *

[معنى قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى"]:

وقوله بعد ذلك: "وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئ مَا نَوى" إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به: فإن نوى خيرًا حصل له خير، وإن نوى شرًّا حصل له شر.

وليس هذا تكريرًا محضًا للجملة الأولى؛ فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة.

وقد تكون نيته مباحة؛ فيكون العمل مباحًا؛ فلا يحصل له به ثواب ولا عقاب.

فالعمل في نفسه: صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية (الحاملة

(2)

عليه المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب نيتة

(3)

) التي بها صار العمل صالحًا أو فاسدًا أو مباحًا.

* * *

[النية في اللغة]:

واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة، وإن كان قد فرق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضعَ ذكره.

* * *

(1)

هذا جزء حديث أخرجه البخاري في كتاب الرقاق: باب الأعمال بالخواتيم 11/ 330 من الفتح بلفظ: وإنما الأعمال بخواتيمها وفي كتاب القدر: باب العمل بالخواتيم 11/ 499 من الفتح للفظ: وإنما الأعمال بالخواتيم، وكلاهما من حديث سهل بن سعد الساعدي.

(2)

في ن: "الحاصلة" وهو تصحيف.

(3)

ما بين القوسين سقط من ب.

ص: 62

[وعند علماء الشرع]:

والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

أحدهما: بمعنى

(1)

تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام

(2)

رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من

(3)

العادات كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف ونحو ذلك.

وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.

* * *

والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له أم الله وغيره؟

وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم، في كلامهم على الإخلاص وتوابعه. وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين.

* * *

[كتاب الإخلاص والنية]:

وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفًا سماه "كتاب الإخلاص والنية" وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم: تارة بلفظ النية، وتارة بلفظ الإرادة، وتارة بلفظ مقارب لذلك. وقد جاء ذكرها كثيرًا في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضًا من الألفاظ المقاربة لها.

* * *

[لماذا فرقوا بين النية والإرادة؟]:

وإنما فرق من فرق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوهما

(4)

لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء.

فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي، والإرادة لا تختص بذلك؛ كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له، ولا ينوي ذلك.

* * *

(1)

،

(2)

سقط من م.

(3)

ب: "عن".

(4)

في ن، ط:"ونحوها".

ص: 63

[النية في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن].

وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة إنما يراد بها هذا المعني الثاني غالبًا؛ فهي حينئذ بمعنى الإرادة؛ ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرًا كما في قوله تعالى:

{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}

(1)

.

وقوله عز وجل: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}

(2)

.

وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}

(3)

وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}

(4)

.

وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(5)

.

وقوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}

(6)

.

وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

(7)

.

وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

(8)

.

وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}

(9)

.

* * *

(1)

سورة آل عمران: 152.

(2)

سورة الأنفال: 67.

(3)

سورة الشورى: 20.

(4)

سورة الإسراء: 18 - 19.

(5)

سورة هود: 15، 16.

(6)

سورة الأنعام: 52.

(7)

سورة الكهف: 28.

(8)

سورة الروم: 38.

(9)

سورة الروم: 39.

ص: 64

[النية قد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء]:

وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء كما في قوله تعالى {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}

(1)

.

وقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

(2)

.

وقوله تعالى {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}

(3)

.

وقوله: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}

(4)

.

* * *

[مع الآية الأخيرة]:

فنفي الخير عن كثير مما يتناجى الناس به؛ إلا في الأمر بالمعروف، وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس؛ لعموم نفعهما؛ فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير، وأما الثواب عليه من الله فخصه بمن فعله ابتغاء مرضاة الله.

وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرًا وإن لما يُبْتَغَ به وَجْهُ الله؛ لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي؛ فيحصل به للناس إحسان وخير.

وأما بالنسبة إلى الآمر فإن قَصدَ به وجه الله وابتغاءَ مرضاته؛ كان خيرًا له وأُثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرًا له، ولا ثواب له عليه.

وهذا بخلاف من صام وصلى وذكر الله يقصد بذلك عَرَضَ الدنيا؛ فإنه لا خير له فيه بالكلية؛ لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه؛ لما يترتب عليه من الإثم فيه، ولا لغيره

(5)

لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحدٍ، اللهم! إلا أن يحصل لأحد به اقتداء في ذلك.

* * *

(1)

سورة الليل: 20.

(2)

سورة البقرة: 265.

(3)

سورة البقرة: 272.

(4)

سورة النساء: 114.

(5)

في ن: "لا لغيره".

ص: 65

[ما ورد في السنة عن هذا المعنى]:

وأما ما ورد في السنة وكلام السلف من تسمية هذا المعنى بالنية فكثير جدًّا، ونحن نذكر بعضه كما خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَنْ غَزَا فيِ سَبِيل الله وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى"

(1)

.

* * *

• وخرج الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي لأَصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ، بَيْن الصَّفَّين: الله أعْلَمُ بنيته"

(2)

.

* * *

• وخرج ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى نِيّاتِهِمْ"

(3)

.

* * *

• ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا يُبعَثُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ"

(4)

.

• وخرج ابن أبي الدنيا من حديث عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا يُبْعَثُ المقُتَتِلُونَ عَلَى النِّيَّات

(5)

".

* * *

• وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَعُوذُ عَائذٌ

(1)

سنن النسائي. كتاب الجهاد: باب من غزا في سبيل الله ولم ينو من غزاته إلا عقالا 6/ 24 - 25 ح 3138 و 3139 ومسند أحمد 5/ 315، 320، 329 بإسناد صحيح والسنن الكبرى 6/ 331 وانظر صحيح الجامع الصغير 6401 وصحيح ابن حبان 7/ 74.

(2)

مسند أحمد 5/ 290 - 291 (المعارف) مرسلا.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب الجهاد: باب رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته 5/ 302 وقال: رواه أحمد هكذا ولم أره ذكر ابن مسعود، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف، والظاهر أنه مرسل ورجاله ثقات.

(3)

في السنن: كتاب الزهد: باب النية 2/ 1414. بإسناد صحيح. وانظر صحيح الجامع 2/ 1335.

(4)

في الموضع نفسه وذكر صاحب الزوائد أن في إسناده ليث بن سليم وهو ضعيف ثم قال: ويشهد له حديث جابر وقد رواه مسلم، وانظر مصباح الزجاجة 2/ 344.

(5)

أورده الزبيدي في الإتحاف 10/ 9 عن ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص والنية بإسناد ضعيف.

ص: 66

بِالبَيْتِ فيُبْعَثُ إِلَيْه بَعْثٌ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْداءَ مِنَ الأَرْض خُسِفَ بِهمْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! فَكَيْفَ بِمنْ كَان كَارهًا؟ قَالً: يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ، وَلكِنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلَى نِيَّتِه"

(1)

.

* * *

وفيه أيضًا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا الحديث وقال فيه: "يَهِلكُونَ مَهْلِكًا واحدًا، وَيصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى؛ يَبْعَثُهُمُ

(2)

الله عَلَى نِيَّاتِهم"

(3)

.

* * *

وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث زيد بنِ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ الله عليه أمرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَينْ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأتِهِ مَنَ الدُّنْيَا إلا مَا كَتَبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ نِيَّتَهَ جَمَعَ اللهُ لَهُ أمَره، وَجَعَل غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَأتَتْهُ الدُّنَيا وَهِي رَاغمَةٌ"

(4)

.

• هذا لفظ ابن ماجه

(5)

.

• ولفظ أحمد: "مَنْ كَان

(6)

هَمُّهُ الآخِرَة

ومَنْ كِانت نِيَّتُهُ الدُّنْيا".

وخرجه ابن أبي الدنيا وعنده "مَنَ كَانَتْ نيتُهُ الآخرةَ

ومَنْ كانت نيتُه الدّنيا"

(7)

.

* * *

وفي الصحيحين عن سعد

(8)

بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً

(1)

صحيح مسلم. كتاب الفتن وأشراط الساعة: باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت 4/ 2208 - 2209.

(2)

في هـ، م:"ويبعثهم"، وما أثبتناه موافق لما في مسلم، ولما فى الأصول.

(3)

مسلم فىِ الباب المذكور 4/ 2210 - 2211 ومعنى الحديث: أن الهلاك يقع في الدنيا على جميعهم، ولكنهم يبعثون مختلفين باختلاف نياتهم.

(4)

مسند أحمد 5/ 183 (الحلبي) بسياقه كاملا وأوله: "نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره

الحديث".

وفي م: "فرق الله شمله - في لفظ: "أمره" وما أثبتناه عن ب هو الموافق لما في السنن.

(5)

في السنن: كتاب الزهد. باب العلم بالدنيا 2/ 1375 وذكر صاحب الزوائد أن إسناده صحيح ورجاله ثقات؛ وانظر مصباح الزجاجة 2/ 321 والإتحاف 10/ 8 وفيه أن إسناده جيد.

(6)

في هـ،:"كانت". وما أثبتناه هو الموافق لما في المسند، وفي الزهد لابن أبي عاصم النبيل ص 79: "من كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره. ولم يأخذ منها إلا ما كتب له، ومن كانث نيته الآخرة جمع الله شمله

" الحديث وانظر باقي تخريجه في هامشه.

(7)

ب: "نيته للآخرة

للدنيا".

(8)

في، هـ، م:"سعيد" وهو تحريف.

ص: 67

تَبتَغِي بَها وَجْهَ الله إِلا أُثِبْتَ عَلَيْها؛ حَتَّى اللُّقْمةَ تَجْعلُها في في امْرَأتِكَ"

(1)

.

* * *

[النية في أقوال السلف]:

وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع عن عمر رضي الله عنه قال: "لا عَمَلَ لِمِنْ لَا نِيَّةَ لَهُ، وَلا أجْرَ لِمَنْ لَا حِسْبَة لَهُ"

(2)

.

يعني لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل.

وبإسناد ضعيف عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا ينفع قول؛ إلا بعمل، ولا ينفع قول وعمل؛ إلا بنية، ولا ينفع قول وعمل ونية

(3)

؛ إلا بما وافق السنة.

* * *

• وعن يحيى بن أبي كثير قال: "تعلموا النية؛ فإنها أبلغ من العمل"

(4)

.

* * *

• وعن زُبَيد اليامي

(5)

قال: "إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب".

• وعنه أنه قال: "انْوِ في كل شيء تريد الخير، حتى خروجِك إلى الكُنَاسة".

* * *

• وعن داود الطائي، قال:"رأيت الخير كله إنما يجمعه حُسْنُ النية؛ وكفاك به خيرا وإن لم تَنْصَب".

* * *

(1)

البخاري في كتاب الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة 1/ 127 من الفتح، ومسلم في كتاب الوصية: باب الوصية بالثلث 3/ 1250 - 1251.

(2)

أورده البيهقي في السنن الكبرى 1/ 41 من حديث أنس مرفوعًا: جزء حديث رواه بسياقه كاملا.

(3)

في هـ، م: ولا ينفع قول ولا عمل إلا بنية، ولا ينفع قول ولا عمل ولا نية".

(4)

أورده أبو نعيم في الحلية 3/ 70.

(5)

في هـ، م:"زيد الشامي" وهو تحريف، فهو زبيد بن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب اليامي نسبة إلى يام: بطن من همدان. روى عن إبراهيم النخعي وروى عنه مالك بن مغول والأعمش. وثقه البخاري وابن حبان، وتوفي سنة 122 وقيل: 124 وله ترجمة في التاريخ الكبير للبخاري 2/ 1/ 411 والثقات لابن حبان لوحة 22 ب اتباع التابعين، وتهذيب التهذيب 3/ 310 - 311. وانظر لب اللباب ص 282.

ص: 68

• قال داود: والبِرُّ هِمَّةُ التَّقِيِّ. ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردَّته يومًا نيته إلى أصله".

* * *

• وعن سفيان الثوري قال: "ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ عن نيتي؛ لأنها تتقلب عليّ"

(1)

.

* * *

• وعن يوسف بن أسباط قال: "تخليص النية من فسادها أَشَدُّ على العاملين من طول الاجتهاد".

* * *

• وقيل لنافع بن جُبَيْر

(2)

ألا تشهد الجِنازة؟ قال: كما أنت حتى أنوي قال: ففكر هنيهة

(3)

ثم قال: امض.

• وعن مطرف بن عبد الله قال: "صلاحُ القلب بصلاح العمل، وصلاحُ العمل بصلاح النية

(4)

".

• وعن بعض السلف قال: "من سَرَّه أنْ يكمل له عمله فليُحْسِن نيَّته؛ فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا حَسُنَتْ نيته حتى باللقمة".

* * *

• وعن ابن المبارك قال: "رُبَّ عملٍ صغير تُعَظِّمه النية، ورب عمل كبير تُصَغِّره النية".

* * *

• وقال ابن عجلان: "لا يَصْلُح العمل إلا بثلاث: التقوى لله؛ والنية الحسنة؛ والإصابة".

* * *

(1)

انظر الحلية 7/ 5، 62.

(2)

في هـ: "خبيب"، وفي م:"حبيب" وهو تحريف.

(3)

في د، ن، هـ:"هنيئة" وفي ط، ب "هنية".

(4)

الحلية 2/ 199 وفيه: "بصحة النية".

ص: 69

• وقال الفضيل بن عياض: "إنما يريدُ الله عز وجل منك نِيَّتَكَ وإرادتَك".

* * *

• وعن يوسف بن أسباط قال: "إيثار الله عز وجل أفضلُ من القتل في سبيله"

(1)

.

* * *

• خرج ذلك كلَّه ابنُ أبي الدنيا في "كتاب: الإخلاص والنية".

* * *

وروي فيه بإسناد منقطع عن عمر قال: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله عز وجل، والورَعُ عما حرم الله عز وجل، وصدْقُ النيَّة فيما عند الله عز وجل".

* * *

[قيمة الحديث بين الأحاديث]:

وبهذا يُعلم معنى ما روي عن الإمام أحمد

(2)

أن أصول الإسلام ثلاثة أحاديث:

حديث: "الأَعَمالُ بِالنيَّاتِ".

وحديث: مَنْ أَحْدَثَ فيِ أَمْرنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".

وحديث: "الْحَلالُ بَيِّنٌ والْحَرَامُ بَيِّنٌ".

فإن الدين كلَّه يرجع إلى فعل المأمْورَاتِ، وتَرْكِ المحظوراتِ، والتوقُّف عن الشبهات.

وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير.

[وتمام ذلك]:

وِإنما يتم ذلك بأمرين: أحدهما أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة وهذا هو الذي تضمنه حديث عائشة رضي الله عنها: "مَنْ أَحْدَثَ فيِ أمْرنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".

والثاني أن يكون العمل في باطنه يُقْصَدُ به وجهُ الله عز وجل كما تضمنه حديث عمر: "الأَعْمَالُ بِالنِّياتِ".

(1)

م: "سبيل الله".

(2)

سقطت من م، هـ.

ص: 70

[أخلص العمل وأصوبه]:

وقال الفضيل

(1)

في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

(2)

.

قال: "أخلصُهُ وأصوبُهُ، وقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابا لم يُقْبَل.

وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل.

حتى يكون خالصًا وصوابًا".

قال: "والخالص: إذا كان لله عز وجل.

والصواب: إذا كان على السنة!؟ ".

* * *

[دليل ذلك]:

• وقد دل على هذا الذي قاله الفضيل

(3)

قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

(4)

.

• وقال بعض العارفين: "إنما تفاضلوا

(5)

بالإرادات ولم يتفاضلوا بالصوم والصلاة".

* * *

[عود إلى شرح الحديث]

• وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيا يُصِيبُها أو امْرأةٍ يَنْكحُها فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِليْه".

* * *

(1)

والفضيل المذكور هو الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي أبو على الزاهد الخراساني.

روى عن الأعمش ويحيى بن سعيد الأنصاري وحميد الطويل وغيرهم وعنه السفيانان وابن المبارك وثقه النسائي والدارقطني وابن حبان. ولد بخراسان ثم قدم الكوفة وهو كبير، وأحسن التوبة والعبادة واستماع الحديث وروايته وعرف بالزهد والتصوف وجاور بمكة إلى أن مات عام 187 وقيل عام 186 هـ كما ذكر ذلك ابن حجر في التهذيب 8/ 294 - 296 وانظر الخبر في ترجمته في الحلية 8/ 84 - 139.

(2)

سورة الملك: 2.

(3)

في م، هـ: "وقد دل هذا

علي قوله عز وجل" وفيه خطأ بتقديم وتأخير.

(4)

سورة الكهف: 110.

(5)

في م، هـ:"تفاضلون" وهو تحريف.

ص: 71

[حكمة ترتيب الجمل في الحديث]:

• لما ذكر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بحسب النيات، وأن حَظَّ العامل من عمله نيتُه منْ خير أو شر. وهاتان كلمتان جامعتان، وقاعدتان كليتان، لا يخرج عنهما شيء -ذكر بعد ذلك مثالا من أمثال الأعمال التي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال.

* * *

[أصل معنى الهجرة]:

• وأصل الهجرة: هجران بلد الشرك والانتقال منه إلى دار الإسلام كما كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات والمقاصد بها.

* * *

[من هاجر حبًّا في الله ورسوله]:

• فمن هاجر إلى دار الإسلام؛ حُبًّا لله ورسوله؛ ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه -حيث كان يعجز عنه في دار الشرك- فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقًا. وكفاه شرفًا وفخرًا أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله.

* * *

[إعادة الشرط بلفظه]:

• ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة.

* * *

[من هاجر للدنيا]:

ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا

(1)

يصيبها أو امرأة

(1)

أ: "الدنيا".

ص: 72

ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك.

* * *

• فالأول تاجر.

• والثاني خاطب.

وليس واحد منهما بمهاجر

(1)

.

* * *

[التعبير بقوله إلى ما هاجر إليه]:

وفي قوله "إلى ما هاجر إليه" تحقير لما طلبه من أمر الدنيا، واستهانة به؛ حيث لما يذكره بلفظه.

[حكمة أخرى لإعادة الجواب بلفظ الشرط]:

• وأيضا فالهجرة إلى الله ورسوله واحدة لا

(2)

تعدد فيها؛ فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط.

[وثالثة]:

والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر؛ فقد يُهَاجر الإنسان لطلب الدنيا: مباحة تارة؛ ومحرمة تارة أخرى.

وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر؛ فلذلك قال: "فهجرته إلى ما هاجر إليه".

يعني كائنا ما كان.

* * *

[كانت المهاجِرة تُحلَّف]:

• وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}

(3)

.

(1)

في م، هـ:"وليس بواحد منهما مهاجر" وفي ن: "وليس في أحد".

(2)

م، أ "أن الهجرة

فلا".

(3)

سورة الممتحنة: 10.

ص: 73

قال: "كانت المرأة إذا أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَّفها بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبةً بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت التماسَ دُنْيا، وبالله ما خرجت إلا حبًّا لله ورسوله! ".

أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير والبزَّار في مسنده

(1)

.

وخرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه مختصرًا

(2)

.

[قصة مهاجر أم قيس]:

• وقد روى وكيع في كتابه عن الأعمش عن شقيق، هو أبو وائل، قال:"خطب أعرابي من الحي امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تَزَوَّجه حتى يهاجر، فهاجر؛ فتزوجته؛ فكنا نُسَمِّيه مهاجر أم قيس قال: فقال عبد الله -يعني ابن مسعود- "من هاجر يبتغي شيئًا فهو له"

(3)

.

وهذا السياق يقتضي أن هذا لما يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان في عهد ابن مسعود. ولكن روى من طريق سفيان الثوري عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر؛ فتزوجها وكنا نسميه مهاجر أم قيس.

• قال ابن مسعود رضي الله عنه: من هاجر لشيء فهو له.

* * *

[لا أصل لها]:

• وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هى كانت سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن كانت هِجْرَتُه إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أو امرَأةٍ يَنْكِحُهَا"، وذكر ذلك كثير من المتأخرين في

(1)

راجع تفسير ابن كثير 4/ 350، وكشف الأستار 3/ 75 - 76 ح 2272.

(2)

الترمذي فى كتاب تفسير القرآن: سورة الممتحنة 5/ 412 وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب. وأورده ابن كثير في التفسير 4/ 350 عن ابن جرير والبزار أيضًا، وأورد عن قتادة قوله في قوله تعالى:{فَامْتَحِنُوهُنَّ} .

قال: كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن النشوز، ما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحرص عليه، فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن. وقد أورد الهيثمي هذه الرواية عن البزار في المجمع 7/ 123 وفيها أن الذي كان يحلف هو عمر ثم قال الهيثمي: رواه البزار وفيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري، وضعفه غيرهما وبقية رجاله ثقات.

(3)

أورده ابن حجر في الفتح 1/ 10 عن سعيد بن منصور في السنن ورواه الطبراني من هذا الطريق في الموضع الذي سنشير إليه في التعليق رقم 2 من الصحيفة التالية.

ص: 74

كتبهم

(1)

ولم نر لذلك أصلا بإسناد يصح والله أعلم

(2)

.

[قياس الأعمال على الهجرة]:

وسائر الأعمال كالهجرة في هذا المعنى؛ فصلاحها وفسادها بحسب النية الباعثة عليها كالجهاد وغيرهما.

وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاف نيات الناس في الجهاد وما يقصد به من الرياء وإظهار الشجاعة والعصبية وغير ذلك: أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قَاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُلْيا فهو في سبيل الله".

فخرج بهذا كلُّ ما سألوه عنه من المقاصد الدنيوية.

[ومن ذلك الجهاد]:

• فَفِي الصَّحيحَيْنِ عَنْ أبِي مُوسَىَ الأَشْعَريِّ رضي الله عنه: أنَّ أعْرابيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله! الرَّجُلُ يُقاتِلُ للَمَغْنَم، وَالرَّجلُ يُقَاتِل للذّكْرِ، والرَّجُلُ يُقَاتلُ ليُرى مَكانُهُ؛ فمن في سَبيل الله؟

(3)

فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَاتَلِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِي الْعُلْيَا فَهُو في سَبيِل الله".

• وفي رواية لمسلم سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن الرَّجُلِ يُقَايلُ شَجَاعةً، وَيُقَاتِلُ حَميَّةً، ويُقَاتلُ رِيَاءً فأيُّ ذَلِكَ فيِ سَبِيلِ الله؟ فَذكَرَ الْحَدِيثَ.

• وفي رواية له أيضًا: الرَّجُلُ يُقُاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً

(4)

.

* * *

(1)

كابن دقيق العيد في شرحه للأربعين ص 12 ومن قبله النووي في شرحه للأربعين ص 44، 45 ومن بعدهما العيني في عمدة القاري 1/ 28.

(2)

القصة عند الطبراني في الكبير 9/ 103 بإسناد رجاله ثقات كما ذكر العيني وبإسناد صحيح على شرط الشيخين كما ذكر ابن حجر، لكن يخالف ابن حجر النووي وابن دقيق العيد والعيني فيما ذهبوا إليه ليلتقى مع ابن رجب في أن القصة شيء وكونها سببًا لإيراد الحديث شيء آخر، فليس لهذه السببية إسناد يصح كما ذكر ابن رجب وكما قال ابن حجر، عن حديث ابن مسعود "ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك" انظر الفتح 1/ 10 وعمدة القاري 1/ 28 ومجمع الزوائد 3/ 101. وفى ب: "من كانت".

(3)

في م، هـ "فمن قاتل في سبيل الله".

(4)

البخاري في كتاب الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 6/ 27 - 28 ح 2810 ومسلم في كتاب الإمارة: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله 3/ 1512 - 1513، وأطرافه عند البخاري -عدا الموضع المذكور- 123، 3126، 7458.

ص: 75

• وخرَّج النّسائيُّ من حديث أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غَزَا يلتمس الأجر والذكر! ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شَيء له" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ

(1)

إِلا مَا كَانَ خَالِصًا وابْتُغِيَ بِه وَجْهُهُ"

(2)

.

* * *

• وخرَّجَ أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يَا رَسُولَ الله! رَجُلٌ يُرِيدُ الجهَادَ وَهُوَ يَبْتَغي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيا؟ فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا أَجْرَ لَهُ" فأعَأدَ عَلْيهِ ثَلاثًا والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لا أَجْرَ لَهُ"

(3)

.

* * *

• وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْغَزْوُ غَزْوَانِ: فَأمَّا مَنَ ابتَغَى وَجْهَ الله: وَأطَاعَ الإمامَ، وأَنْفَقَ الكَرَيمةَ، وَيَاسَر الشَّريكَ

(4)

وَاجتَنَبَ الْفَسَادَ -فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنبْهَهُ أَجْرٌ كُلُّه، وأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا وَرِيَاءً وسُمْعةً، وَعَصىَ الإِمَامَ، وأفْسَدَ فيِ الأَرْضِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالكَفَافَ"

(5)

.

* * *

• وخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "قُلْتُ يَا رَسُولَ الله! أَخْبِرْنِي عَنِ الجهِاد والْغَزْو؟ فَقَالَ: إنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ الله صَابِرًا مُحْتَسبًا، وإن قَاتَلْتَ مُرائيًا مُكاثِرًا بَعَثَك الله مُرائِيًا مُكاثِرًا: عَلَى أيِّ حَالٍ قَاتلْتَ أوْ قُتِلْتَ بَعَثكَ الله

(6)

عَلَى تيك الحَال".

* * *

(1)

سقطت من هـ، م.

(2)

سنن النسائي، كتاب الجهاد: باب من غزا يلتمس الأجر والذكر 6/ 25 ح 3140.

(3)

سنن أبي داود، كتاب الجهاد: باب فيمن يغزو ويلتمس الدنيا 3/ 30 - 31 وسكت عنه المنذري وأبو داود.

(4)

ياسر الشريك: ساهله.

(5)

مسند أحمد: 5/ 234 (حلبي).

وسنن أبي داود في الموضع المذكور. وذكر المنذري أن في سنده بقية بن الوليد وفيه مقال، عون المعبود 3/ 321 ورواه الحاكم 2/ 85 من طريق بقية لكن صححه على شرط مسلم وأقره الذهبي، ولا غرابة فبقية صدوق يدلس لكنه صرح هنا بالسماع.

(6)

في م، هـ "بتلك الحال" وفي ن، س:"على تيك" وما أثبتناه؛ موافق لما في السنن. راجع كتاب الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 3/ 32.

ص: 76

[وتعليم العلم والإنفاق]:

• وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حديث أبي هُرَيرَة

(1)

رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "إِنَّ أوّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشهد فَأُتِيَ به فَغَرّفَهُ نعمه فَعرَفَها فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيها؟ قَالَ: قَاتَلتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدتُ؟ قَالَ: كَذَبْتَ وَلكنَّكَ قَاتَلتَ لأنْ يُقَالَ جَريءٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرِ به فَسُحِبَ عَلَى وَجْهه حتَّى أُلْقِيَ في النَّار".

"وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعلْمَ وعلَّمَهُ وقَرَأ القُرآنَ فأُتِيَ بِه فَعَرّفه نِعَمَهُ فَعَرفَهَا قَال: فما عَمِلَتَ فِيها؟ قَالَ: تَعلّمْتُ العلْمَ وَعلَّمْتُهُ، وقَرأْتُ فِيكَ القُرآنَ؟ قَالَ: كَذَبْتَ ولكِنَّك تَعلّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عالِمٌ، وقَرأتَ القرآن لِيُقَال قَارئ

(2)

فَقَدْ قيل ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ على وَجْهه؛ حتى أُلْقِي في النَّار".

" وَرَجلٌ وسُّعَ الله عليه وأَعْطَاهُ مِنْ أصناف الْمَال كُلِّه

(3)

فأُتِيَ به فَعَرَّفهُ نِعَمَهُ فَعَرفَها، قَال

(4)

فَما عَمِلْتَ فِيها؟ قَال

(5)

مَا تَركْتُ مِنْ سَبيلٍ تحبُّ

(6)

أنْ يُنفْقَ فِيها إلّا أنْفَقْتُ فِيها لك؟ قَالَ: كَذَبْتَ ولكنكَ فَعلْت لِيقَالَ هوُ جَوَادٌ؟ فَقَدْ قِيلَ، ثمّ أُمِرَ به فَسُحِبَ عَلىَ وَجْهه ثم

(7)

أُلْقِيَ فيِ النَّار".

* * *

[معاوية يبكي عند سماعه هذا الحديث]:

• وفي الحديث أن معاوية لما بلغه هذا الحديث بكى حتى غُشِيَ عليه فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله، قال الله عز وجل:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّار}

(8)

.

* * *

(1)

في كتاب الإمارة: باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار 1513 - 1514.

(2)

سقطت من هـ، م.

(3)

ليست في هـ، م.

(4)

في هـ، م:"فقال" وما أثبتناه موافق لما في الصحيح.

(5)

في هـ، م:"فقال".

(6)

في هـ، م:"تحبه أن ينفق فيه" وما أثبتناه كما في مسلم.

(7)

في هـ، م، ب:"حتى"، وما آثرناه هو الموافق لما في مسلم.

(8)

سورة هود: 15، 16.

ص: 77

[الوعيد على تعلم العلم لغير وجه الله]:

• وقد ورد الوعيد على تعلم العلم لغير وجه الله كما خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"مَنْ تَعلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتغَى به وَجْهُ الله لا يَتَعلَّمهُ إلا ليُصِيبَ له عَرضًا من الدّنيا لَم يَجِدْ عَرْفَ الجنة يَوْمَ القِيامَة"

(1)

.

يعني رِيحهَا.

* * *

• وخرَّج الترمذي: من حديث كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ طَلَبَ العِلْمَ ليُمارِيَ به السُّفَهَاءَ، أو يُجَارِيَ بِه العُلَمَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وْجُوهَ النَّاس إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللهَ النَّار

(2)

".

* * *

• وخرجه ابن ماجه بمعناه

(3)

من حديث ابن عمر وحذيفة وجابر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ حديث جابر: "لا تَعَلَّمُوا العِلْمَ لِتُبَاهُوا به العُلَمَاءَ، وَلا لتِمارُوا به السُّفَهَاءَ وَلا تخيَّروا به

(4)

الْمَجَالِسَ؛ فَمَنْ فَعَل ذَلَك فالنّارَ النّارَ".

* * *

• وقال

(5)

ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تَعلَّموا لثلاث: لتُمَارُوا به السفهاء، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصْرِفوا به وجُوهَ الناس إليكم، وابتغوا بقولكم

(1)

سنن أبي داود: كتاب العلم: باب في طلب العلم لغير الله تعالى 4/ 71.

وسنن ابن ماجه: المقدمة: باب الانتفاع بالعلم والعمل به 1/ 92 - 93. ومسند أحمد 2/ 338 (الحلبي) والمستدرك 1/ 85 وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

(2)

سنن الترمذي: كتاب العلم: باب ما جاء فيمن يطلب بعلمه الدنيا 5/ 32 وقد عقب أبو عيسى على الحديث بقوله: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسحاق بن يحيى بن طلحة (أحد رواة الحديث) ليس بذلك القوى عندهم، تكلم فيه من قبل حفظه.

(3)

ابن ماجه في مقدمة السنن 1/ 93، 96 وقد أفاد صاحب الزوائد:"أن حديثي ابن عمر وحذيفة ضعيفان لضعف بعض رواتهما وأن حديث جابر صحيح؛ فرجال إسناده ثقات على شرط مسلم، وقد رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم مرفوعًا ومرسلًا" ا هـ وانظر مصباح الزجاجة 1/ 82.

(4)

سقطت من هـ، م.

(5)

في هـ، م:"فقال" وفي أ: "ولتجادلوا

أو تصرفوا".

ص: 78

وفعلكم ما عند الله. فإنه يبقى، ويذهب ما سواه".

[الوعيد على العمل لغير الله عمومًا]:

• وقد ورد الوعيد على العمل لغير الله عمومًا.

كما خرج الإمام أحمد من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بَشِّرْ هذهِ الأُمَّةَ بالسَّناءِ

(1)

وَالرِّفْعَةِ وَالدِّين والتَّمكين في الأرض؛ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُم عَمَلَ الآخرة للِدّنْيَا لَئم يكُنْ لَهُ فيِ الآخِرِة نصيب"

(2)

.

* * *

[أقسام العمل لغير الله]:

• واعلم أن العمل لغير الله أقسام:

[رياء محض]:

• فتارة يكون رياء محضا؛ بحيث لا يراد به سوى مراآة

(3)

المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم؛ كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}

(4)

.

وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}

(5)

.

كذلك وصف الله تعالى الكفار بالرياء المحْضِ

(6)

في قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}

(7)

.

وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام.

وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي

(1)

في هـ، م: بالثناء وهو تصحيف.

(2)

مسند أحمد 5/ 134 (حلبي) من طرق بنحوه وفيها: بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض وفيها: بالسناء والرفعة والنصر ..

وفيها بالسناء والتمكين في البلاد والنصر والرفعة في الدين.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب الزهد: باب ما جاء في الرياء 10/ 220 وقال: رواه أحمد وابنه من طرق ورجال أحمد رجال الصحيح.

(3)

في هـ، م:"مرئيات"، وهو تحريف.

(4)

سورة النساء: 142.

(5)

سورة الماعون: 4 - 6.

(6)

ليست في أ.

(7)

سورة الأنفال: 47.

ص: 79

يتعدى نفعها؛ فإن الإخلاص فيها عزيز.

وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقتَ من الله والعقوبة.

* * *

[عمل لله مع رياء]:

• وتارة يكون العمل لله، ويشاركه الرياء.

• فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضًا.

وفي صحيح مسلمِ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُولُ الله تبارك وتعالى: "أَنَا أغنىَ الشُّرَكَاءِ عَنِ الشُّرْكِ مَنْ عَملَ عملًا أشْرك فيه مَعِى غَيْرِي تَرَكْتُهُ وشَريكَهُ"

(1)

.

* * *

• وخرجه ابن ماجه ولفظه: "فأنا منه بريءٌ وهو للذي أشرك"

(2)

.

* * *

وخرج الإمام أحمد عن شدَّاد بن أَوْسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ صَلَّى يُرائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ يُرائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، ومَنْ تَصَدَّق يُرائي فَقَدْ أشْرَكَ؛ فَإِنّ الله عز وجل يقوُلُ: أنا خَيْرُ قَسِيمٍ لمنَ أشْرَكَ بي شيئًا؛ فإنَّ حَشْدَهُ عَمَلَه قَليلَهُ وكثيرَه لِشَريكه الذي أشْركَ بهِ، وَأنا عنْهُ غَنِيٌّ"

(3)

.

• وخرّج

(4)

الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعد

(5)

بن أبي فضالة

(1)

صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق: باب من أشرك في عمله غير الله 4/ 2289، وفي م:"وشركه" وهو الموافق لبعض نسخ مسلم.

(2)

في السنن. كتاب الزهد: باب الرياء والسمعة 2/ 1405 وذكر صاحب الزوائد أن إسناده صحيح ورجاله ثقات.

(3)

مسند أحمد 4/ 126 (حلبي)، بسياقه مطولا، وفي ب فإن جده عمله وقليله وفي م وعامة النسخ: جدة عمله: قليلة

" وما أثبتناه هو الموافق لما في المسند وفيهما: "أنا عنه غني" وفي ب: وإن الله عز وجل يقول: "إنما أنا خير قسيم" وفي الفتح الرباني 19/ 222 فسرها بقوله: أي جميع عمله خيره وشره، قليله وكثيره. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب الزهد: باب ما جاء في الرياء 10/ 221 وقال: "رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وثقه أحمد وغيره وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات" وإذًا فالحديث حسن.

(4)

ب: "وأخرج".

(5)

في س، هـ، م:"سعيد" وفي التهذيب 12/ 105: أبو سعد ويقال أبو سعيد.

ص: 80

وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرينَ لِيوم لا رَيْبَ فِيه نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أشْرَكَ في عَمَل عَمِلَهُ لله عز وجل فَلْيَطْلُبْ ثَوابَهُ مِنْ عِنْد غَيْر الله عز وجل؛ فإنَّ الله أغْنَى الشُّركاءِ عَنِ الشَّركِ"

(1)

.

* * *

وخرَّج البزَّار في مسنده من حديث الضحاك بن قيس عن النبىِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الله عز وجل يُقول: أنا خَيْرُ شَريكٍ، فَمَنْ أشْرَكَ مَعِي شَريكًا فهو لشريكي. يَا أيُّها النَّاسُ! أخلصوا أعْمالكُمْ لله عز وجل فَإِنَّ الله [تبارك وتعالى] لا يقْبَلُ مِنَ الأَعْمَالِ إلا مَا أُخْلِصَ لَهُ، وَلا تَقُولُوا هَذَا لله والرَّحم، فإنَّها للرَّحم وَلَيس لله منِها شَيءٌ، وَلا تَقُولوا هَذا لله ولِوُجوهِكُمْ؛ فإنَّها لوِجُوهِكُمْ، ولَيْسَ لله فيها شَيْءٌ

(2)

".

* * *

وخرج النّسَائىِ بإسنادٍ جَيِّد عَنْ أبي أُمامةَ الَباهِليِّ رضِىَ الله عَنْه أنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا رَسُول الله! أرأيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرِّ والذِّكْرَ؟ [ماله]؟

(3)

فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا شَيء لَهْ" فأعَادَها عَلَيْه ثَلاثَ مَرّاتِ يقُولُ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شَيْء لَهُ" ثمّ قَالَ:"إِنّ الله لا يَقْبل مِنَ الْعَملِ إلا ما كَان لَه خَالِصًا وابْتُغِيَ بهِ وَجْهُهُ"

(4)

.

* * *

وَخَرَّجَ الحاكِمُ مِنْ حَدِيث ابن عَباس رضي الله عنهما قَالَ: قال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله! إِنِّى أقف الموْقِفَ أريدُ به وَجْهَ الله، وأريدُ أنْ يُرَى مَوْطِني؟ فَلَمْ يرُدَّ عَلَيْه رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شَيْئًا حتَى نَزلت:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

(5)

.

(1)

ابن ماجه في كتاب الزهد: باب الرياء والسمعة 2/ 1406 والترمذي في كتاب التفسير: باب سورة الكهف 5/ 314 وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن بكر، ورواه أحمد في المسند 3/ 466، 4/ 215 (الحلبي).

(2)

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب الزهد: باب ما جاء في الرياء 10/ 221 وقال: "رواه البزار عن شيخه إبراهيم بن مجُشِّر وثقه ابن حبان وغيره وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح".

وإذًا فالحديث حسن.

(3)

ما بين القوسين من النسائي.

(4)

سنن النسائي، كتاب الجهاد: باب من غزا يلتمس الأجر والذكر 6/ 25. وقوله: "له" ليست في أ.

(5)

الآية 110 من سورة الكهف. والحديث في المستدرك 2/ 111 وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

ص: 81

وممَّن رُوي

(1)

عنه هذا المعنى -وأن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلا- طائفةٌ من السلف منهم: عُبَادةُ بنُ الصامت، وأبو الدّرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب وغيرهم.

* * *

• وفي مراسيل القاسم بن مُخَيْمَرةَ

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله عَمَلا فيه مثقالُ حَبّةٍ من خَرْدَلٍ من رياء".

ولا نعرف عن السلف في هذا خلافا، وإن كان فيه خلاف، عن بعض المتأخرين.

* * *

[العمل يخالطه غير الرياء]:

فإن خالط نيَّةَ الجهاد مَثَلا

(3)

نيةٌ غير الرياء مثل أخذ أجرة للخدمة؛ أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهادهم

(4)

ولم يبطل بالكلية.

* * *

• وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْغُزَاةَ إذَا غَنِمُوا غَنِيَمةً تَعَجَّلُوا تلثي أَجْرِهِمْ، فَإن لَمْ يَغْنَموُا شَيْئًا تَمّ لَهُمْ أَجْرُهُمُ"

(5)

.

[التوفيق بين هذا وبين ما مضى]:

• وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عَرَضًا من الدنيا أنه

(1)

في هـ، م:"ومن يروي".

(2)

فى هـ، م:"مخيمر" وأشير بالهامش إلى "مخيمرة" ولم يبين ما هو الصواب، وقد أثبتناه، وهو القاسم ابن مخيمرة بضم الميم الأولى وفتح الثانية كوفي سكن دمشق وروى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن عبد الله بن عمرو، وأبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري إن كان سمع منه وعنه أبو إسحاق السبيعي، وعلقمة، وسماك بن حرب، وغيرهم.

وثقه ابن معين وأبو حاتم وابن حبان وتوفى سنة 100، وقيل 101 وهو مترجم في التهذيب 8/ 337، والثقات لابن حبان 5/ 307 وذكر أنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز.

(3)

في هـ، م: فإن خالط نيته

مثل .. ".

(4)

م: "جهاده".

(5)

صحيح مسلم كتاب الإمارة باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم 3/ 1514 - 1515 من طريقين عن عبد الله بن عمرو، وبلفظ مخالف لما أورده ابن رجب، فهذا أحد المواضع التي أورد فيها الحديث عن مخرجه بالمعنى.

ص: 82

لا أجر له.

وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا.

• وقال الإمام أحمد: التاجر والمستأجر والمكَاري

(1)

أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غَزاتهم، ولا يكونوا مثلَ مَنْ جاهد بنفسه وماله ولا يخلط به غَيْرَهُ.

• وقال أيضًا فيمن يأخذ جُعْلًا على الجهاد: "إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس [أن يأخذ]

(2)

كأنه خرج لدينه، فإن أعطي شيئًا أخذه".

* * *

• وكذا روي عن عبد الله بن عمرو قال: "إذا أجمع

(3)

أَحَدُكم على الغزو فعوَّضَهُ الله رزقًا فلا بأس بذلك، وأما أن أحدكم إن أعطي درهمًا غزا، وإن منع درهمًا مكث فلا خير في ذلك".

* * *

• وكذا قال الأوزاعي: إذا كانت نية الغازي على الغزو فلا أرى بأسًا.

* * *

• وهكذا يقال فيمن أخذ شيئًا في الحج ليحج به إما عن نفسه أو عن غيره.

• وقد روي عن مجاهد [أنه قال]

(4)

في حج الجمَّال، وحج الأجير، وحج التاجر: هو تمام لا ينقص من أجورهم شيء.

وهو

(5)

محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب.

* * *

[العمل لله ثم تطرأ عليه نية الرياء]:

وأما إن كات أصل العمل لله ثم طرأت عليه نيَّةُ الرياء: فإن كان خاطرا ودَفَعهُ فلا

(1)

المكاري: المؤجر، يقال: كاراه مُكاراة وكراء آجره فهو مُكار.

والكراء: أجر المستأجر.

المعجم الوسيط 2/ 791.

(2)

ليست في ب.

(3)

في هـ، م، س:"جمع" وأجمع: عقد عزمه دون تردد، أو عزم عزمًا قويًّا مؤكدًا ومنه قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:{فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} وفي ب "فعرضه" وهو تحريف.

(4)

ليست في ب.

(5)

م: "وهذا".

ص: 83

يضرُّه بغير خلاف؛ فإن استرسل معه فهل يَحْبَطُ عَمَلُه أم لا يضره ذلك ويُجَازَى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف؛ قد حكاه الإمام أحمد، وابن جرير الطبري، ورجَّحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازَى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره.

• ويُستْدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في مراسيله

(1)

عن عطاء الخراساني:

أَنَّ رجُلًا قَالَ: يَا رَسُول الله! إنَّ بنى سَلمةَ كُلَّهُمْ يُقَاتِلُ؛ فَمِنْهم مَنْ يُقَاتِل للدنْيا، وَمِنْهُمْ مَن يُقَاتلُ نَجْدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتلُ ابْتَغَاءَ وَجْه الله؛ فأيُّهُمْ الشَّهِيدُ؟ قَال:"كُلّهُمْ إِذا كَانَ أصْلُ أمْرِهِ: أَنْ تَكُونَ كَلَمةُ الله هِيَ الْعُلْيَا".

* * *

[فيم يختلف العلماء في هذا؟]:

• وذكر ابن جرير: أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج.

فأما مالا ارتباط فيه كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم؛ فإنه ينقطع بنيّة الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية.

* * *

وكذلك روى عن سليمان بن داود الهاشمي أنه قال: ربما أُحَدِّث بحديث ولي فيه نية، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي؛ فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات.

* * *

• ولا يَرِدُ على هذا: الجهادُ، كما في مرسل عطاء الخُرَساني؛ فإن الجهاد يلزم بحضور الصف، ولا يجوز تركه حينئذ فيصير كالحج.

* * *

[العمل لله ثم يُلقِي الله له الثناء الحسن]:

فأما إذا عمل لله خالصًا ثم ألقى الله له الثناءَ الحسنَ في قلوب المؤمنين بذلك ففرح

(1)

في فضل الجهاد ص 179.

ص: 84

بفضل الله ورحمته

(1)

واستبشر بذلك - لم يضرَّه ذلك.

[دليل ذلك]:

• وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ فقال:"تِلْكَ عَاجِل بُشْرَى المُؤْمِنِ" خرجه مسلم.

وخرجه ابن ماجه وعنده: "الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لله فُيُحِبُّهُ النَّاسُ عَلَيْه"

(2)

.

وبهذا

(3)

المعنى فسره الإِمام أحمد وإِسحاقُ بن رَاهَوَيهِ وابن جرير الطبري وغيرهم.

وكذلك الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله! الرجل يعمل العمل فَيُسِرُّه؛ فإذا اطُّلعَ عليه أعْجَبهُ؟ فقال: "لَهُ أجْرانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وأجْرْ الْعَلانِيَةِ

(4)

".

ولنقتصر على هذا المقدار من الكلام على الإخلاص والرياء فإن فيه كفاية.

* * *

[وجملة القول]:

• وبالجملة فما أحسن قولَ سهل بن عبد الله التُّسْتَرِى

(5)

ليس على النفس شيء أشقَّ من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب!؟

• وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا: الإخلاص. وكم أجتهدُ في إسْقَاطِ الرِّياء عن قلبي وكأنه ينبت فيه على لونٍ آخرَ!؟

• وقال ابن عيينة: كان من دعاء مُطرِّف بن عبد الله:

"اللهم إني أَسْتغفِرُكَ مما تُبْتُ إليك منه ثم عُدْتُ فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أوفِ لك به، وأستغفرك مما زعمتُ أني أردتُ به وَجْهَكَ فخالطَ قلبي منه

(1)

في هـ، م:"بذلك بفضل ورحمة" وفي ب: "فاستبشر".

(2)

مسلم في كتاب البر والصلة والآداب: باب إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره 4/ 2034 وابن ماجه في السنن: كتاب الزهد: باب الثناء الحسن 2/ 1412 وعنده عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم-قال: قلت له: الرجل يعمل العمل لله، فيحبه الناس عليه؟ قال:"ذلك عاجل بشرى المؤمن".

(3)

في م: "ولهذا".

(4)

الترمذي في كتاب الزهد: باب عمل السر 4/ 594 وقال: هذا حديث حسن غريب وابن ماجه في الموضع السابق 2/ 1412 - 1413 وعنده: قال رجل يا رسول الله! إني أعمل العمل فيُطَّلَع عليه، فيعجبني؟ قال: لك أجران

الحديث".

(5)

ليست في أ.

ص: 85

ما قد عَلِمْتَ"

(1)

* * *

‌فصل: [في بعض الأحكام الفقهية للنية]

وأما النية بالمعنى الذي يذكره الفقهاء وهو تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات

(2)

بعضها من بعض فإن الإمساك عن الأكل والشرب يقع تارةً حِمْيَةً، وتارة لعدم القدرة على الأكل، وتارة تركًا للشهوات لله عز وجل؛ فيُحتَاج في الصيام إلى نية ليتميز بذلك عن ترك الطعام على غير هذا الوجه.

• وكذلك العبادات كالصلاة والصيام منها فرضٌ ومنها نَفْلٌ.

والفرضُ يتنوع أنواعًا؛ فإن الصلوات المفروضاتِ خَمسُ صلوات

(3)

كلَّ يوم وليلة والصوم

(4)

الواجب تارةً يكون صيامَ رمضان. وتارةً

(5)

صيامَ كفارة أو عن نَذْرٍ.

ولا يتميز هذا كله؛ إلا بالنية.

* * *

• وكذلك الصدقة تكون نفلا، وتكون فرضًا.

والفرض منه زكاة، ومنه كفارة.

ولا يتميز ذلك إلا بالنية.

فيدخل ذلك في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وَإنَمّا لِكُلِّ امْرِيٍ ما نَوَى"

(6)

.

• وفي بعض ذلك اختلاف مشهور بين العلماء؛ فإن منهم من لا يوجب تعيينَ النية للصلاة المفروضة بل يكفي عنده أن ينوي فرض الوقت وإن لم يستحضر تسميتَه في الحال، وهو رواية عن الإمام أحمد.

* * *

(1)

في هـ، م:"عملت" وهو تحريف.

(2)

ب: "وهو أن تميز العبادات من العادات، وتميز العبادات

" وفي عامة النسخ "تمييز ".

(3)

في هـ، م:"في كل".

(4)

م: الصيام.

(5)

م: "وتارة يكون".

(6)

هذا على ما في ب وهو نص رواية ابن رجب صدر الحديث وفي عامة النسخ "وإنما لامرئ

".

ص: 86

[من فاتته صلاة من يوم وليلة]:

• وينبني

(1)

على هذا القول: أن من فاتته صلاة من يوم وليلة ونسي عَيْنَهَا: أن عليه أن يقضي ثلاث صلوات: الفجر والمغرب ورباعية واحدة.

* * *

[النية في صيام رمضان]:

• وكذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية تعيينه

(2)

بل يجزئ بنيّة

(3)

الصيام مطلقًا؛ لأن وقته غير قابل لصيام آخر.

وهو أيضًا رواية عن الإمام أحمد.

وربما حُكى عن بعضهم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية بالكلية؛ لتعيُّنه

(4)

بنفسه، فهو كرد الودائع.

* * *

[النية في الزكاة]:

وحكي عن الأوزاعي أن الزكاة كذلك.

وتأوّل بعضهم قوله على أنه أراد أنها تجزئ بنية الصدقة المطلقة كالحج.

وكذلك قال أبو حنيفة: لو تصدق بالنصاب كله من غير نية أجزأه عن زكاته.

* * *

[النية في الحج]:

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم

(5)

: أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي بِالحَجِّ عَنْ رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ:

(1)

في ب و ن: "ويُبْتَنَى".

(2)

م: "تعينه أيضًا".

(3)

ليست في أ.

(4)

في هـ، م:"لتعيينه".

(5)

في سنن ابن ماجه: باب الحج عن الميت 2/ 969 عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شبرمة"؟ قال: قريب لي. قال: "هل حججت قط؟ " قال: لا. قال: "فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة".

وأخرجه أبو داود في السنن: كتاب المناسك: باب الرجل يحج مع غيره 2/ 403 والبيهقي فى السنن 4/ 436 كلهم من طريق عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عَروبة، عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح ليس في الباب أصح منه.

ص: 87

"أحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِك"؟ قَالَ: لا، قَالَ:"هَذِهِ عَنْ نَفْسِك، ثُمَّ حُجَّ عَنِ الرَّجُلِ".

• وقد تُكُلِّمَ في صحة هذا الحديث.

ولكنه صحيح عن ابن عباس وغيره.

وأخذ بذلك الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما في أن حجة الإسلام تسقط بنية الحج مطلقًا، سواء نوى التطوع أو غيره، ولا يشترط للحج تعيين النية، فمن حج عن غيره ولم يحج عن نفسه وقع عن نفسه، وكذا لو حج عن نَذْرِهِ

(1)

أو نفلا ولم يكن حج حجة الإسلام فإنه يَنْقَلِبُ عنها.

* * *

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم-أنه أمَر أَصْحَابَهُ فيِ حجَّةِ الودَاع بَعْدَ مَا دَخلُوا مَعَه وَطَافُوا وَسَعَوْا أنْ يَفسَخُوا حَجَّهُمْ وَيَجْعَلُوها عُمْرَةً، وَكَان مِنْهُم القَارِنُ والمفْرِدُ وإنَّمَا كَانَ طَوافُهُمْ عِنْدَ قُدُومهمْ طَوَافَ القُدُوم، وَلَيْسَ بِفَرْض، وَقَدْ أمرَهْم أن يَجْعَلُوهُ طَوَافَ عُمْرةٍ وَهُو فَرْضٌ

(2)

.

• وقد أخذ بذلك الإمام أحمد في فَسْخ الحج، وعَمِل به، وهو مُشكلٌ على أصله؛ فإنه يوجب تعيين الطواف الواجب للحج والعمرة بالنية، وخالفه في ذلك أكثر الفقهاء كمالك والشافعى وأبي حنيفة.

• وقد يفرق الإمام أحمد بين أن يكون طوافه في إحرام انقلب كالإحرام الذي يفسخه ويجعله عمرة؛ فينقلب الطواف فيه؛ تبعا لانقلاب الإحرام، كما ينقلب الطواف في الإحرام الذي نوى به التطوع إذا كان عليه حجة الإسلام؛ تبعا لانقلاب إحرامه

(3)

من أصله ووقوعه عِن فرضه. بخلاف ما إذا طاف للزيارة بنية الوداع أو التطوع فإن هذا لا يُجْزئه؛ لأنه لم يَنْو

(4)

به الفرض ولم ينقلب فرضا تبعا لانقلاب إحرامه والله أعلم.

* * *

(1)

م: "نذر".

(2)

راجع ما رواه البخاري في كتاب المغازي: باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع 7/ 70 من الفتح، ومسلم في كتاب الحج: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 886، 892 والهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 233 - 234.

(3)

م: "الإحرام".

(4)

هـ، م:"إلا أن ينوي".

ص: 88

[مما يدخل في هذا]:

ومما يدخل في هذا الباب أن رجلا

(1)

في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد وضع صدقته عند رجل

(2)

فجاء ابن صاحب الصدقة

(3)

فأخذها ممن هي عنده فعلم لذلك أبوه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما إياك أردتُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لِلْمتَصدِّقِ: "لَكَ مَا نويْتَ" وَقَالَ لِلآخِذِ: "لَكَ مَا أخَدْتَ".

خرَّجه البخاري

(4)

.

* * *

• وقد أخذ الإمام أحمد بهذا الحديث وعمل به في المنصوص عنه، وإن كان أكثر أصحابه على خلافه؛ فإن الرجل إنما يُمنع من دفع الصدقة إلى ولده خشية أن يكون

(5)

محاباة فإذا وصلت إلى ولده من حيث لا يشعر كانتا المحاباة منتفية، وهو من أهل استحقاق الصدقة في نفس الأمر.

ولهذا لو دفع صدقته إلى من يظنه فقيرًا -وكان غنيًّا في نفس الأمر أجزأته- على الصحيح؛ لأنه إنما دفع إلى من يعتقد استحقاقه والفقر أمر خفي لا يكاد يُطَّلَعُ على حقيقته.

* * *

[النية في الطهارة]:

• وأما الطهارة: فالخلاف في اشتراط النية لها مشهور، وهو يرجع إلى أن الطهارة

(1)

هو يزيد بن الأخنس بن حبيب السلمي.

(2)

لم يقف الحافظ ابن حجر على اسمه.

(3)

هو معن بن يزيد. وفي م: "عند رجل فجاء ولد صاحب الصدقة".

(4)

في كتاب الزكاة: باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر 3/ 232 من الفتح، وراجع ما ذكره ابن حجر في هذا الموضع وفي تهذيب التهذيب 10/ 253 - 254.

والحديث في البخاري من رواية معن بن يزيد رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي رجدي، وخطب علي فأنكحني (أي الرسول صلى الله عليه وسلم)، وخاصمت إليه، وكان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد (أي وأذن له أن يتصدق بها على محتاج إليها إذنا مطلقًا) فجئت فأخذتها، فأتيته بها (أي أتيت أبي بالدنانير) فقال: (الأب) والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-فقال: لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن".

ومن هذا يبين إلى أي مدى يكون مراد ابن رجب وغيره من قولهم في مثل هذا الحديث خرجه البخاري.

كما يبين إلى أي مدى يكون الالتزام باللفظ في مثل هذا التعبير.

(5)

م: "تكون".

ص: 89

للصلاة هل هي عبادة مستقلة أم هي شرط من شروط الصلاة كإزالة النجاسة، وستر العورة؟.

فمن لم يشترط لها النية جعلها كسائر شروط الصلاة.

ومن اشترط لها النية جعلها عبادة مستقلة.

فإذا كانت عبادة في نفسها لم تَصِحَّ بدون نية.

وهذا قول جمهور العلماء.

ويدل على صحة ذلك: تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بِأَنَّ الوضوءَ يُكَفِّرُ الذنوبَ والخطايا، وأن مَنْ توضأ كما أمِرَ كان كفارةً لذنوبه"

(1)

.

* * *

[الوضوء عبادة مستقلة]:

• وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادةٌ مستقلة بنفسها؛ حيث رُتِّبَ عليه تكفيرُ الذنوب.

والوضوء الخالى عن

(2)

النية لا يكفر شيئًا من الذنوب بالاتفاق؛ فلا يكون مأمورًا به، ولا تصح به الصلاة، ولهذا لم يرد في شيء من بقية شرائط الصلاة -كإزالة النجاسة، وستر العورة- ما ورد في الوضوء من الثواب.

* * *

[الجمع بين نية الوضوء وقصد آخر]:

• ولو شَرِكَ

(3)

بين نية الوضوء وبين قصد التبرد وإزالة النجاسة أو الوسخ؛ أجزأه في المنصوص عن الشافعي.

وهو

(4)

قول أكثر أصحاب أحمد؛ لأن هذا القصد ليس بمحرم ولا مكروه.

ولهذا لو قصد مع رفع الحدث تعليمَ الوضوء لم يَضُرَّه ذلك.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أحيانًا بالصلاة تعليمها للناس، وكذلك الحج كما قال:

(1)

البخاري في كتاب الوضوء: باب الوضوء ثلاثًا ثلاثا 1/ 259، 261 من الفتح، ومسلم في كتاب الطهارة: باب فضل الوضوء والصلاة عقبه 1/ 205 - 208.

(2)

ب: "من".

(3)

شَرِكته في البيع والشراء أشركه من باب علم على ما في الصحاح للجوهري 4/ 1593.

(4)

في م "هذا".

ص: 90

"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"

(1)

.

* * *

[النية والأيمان]:

• ومما تدخل النية فيه من أبواب العلم مسائل الأيْمَانِ؛ فَلغو اليمين لا كفارة فيه، وهو ما جرى على

(2)

اللسان من غير قصد بالقلب إليه؛ كقوله: لا والله، وبلى والله، في أثناء الكلام، قال تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}

(3)

.

وكذلك يُرجَعُ في الأَيْمانِ إلى نية الحالف، وما قَصدَ بيمينه؛ فإن حلف بطلاق أو عتاق ثم ادعى أنه نوى ما يخالف ظاهِرَ لفظه فإنه يُديَّن فيما بينه وبين الله عز وجل.

وهل يقبل منه في ظاهر الحكم؟

فيه قولان للعلماء مشهوران.

وهما روايتان عن أحمد.

• وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه رُفِعَ إليه رجل قالت له امرأته: شَبِّهني قال: كأنك ظبية، كأنك حمامة!؟ فقالت: لا أرْضى حتى تقول أنت خلية طالق، فقال ذلك، فقال عمر: رضي الله عنه "خذ بيدها فهي امرأتك".

خرجه أبو عبيد، وقال: "أراد الناقة تكون معقولة ثم تُطْلَق من عقالها، وَيُخَلَّى عنها؛ فهي خليَّة من العقال، وهي طالق؛ لأنها قد طَلَقَتْ

(4)

منه؛ فأراد الرجل ذلك؛ فأسقط عنه عمر الطلاق لنيّته.

قال: وهذا أصل لكل من تكلَّم بشيء يشبه لفظَ الطلاق والعتاق وهو ينوي غيره أن القول فيه قوله فيما بينه وبين الله عز وجل -في الحكم- على تأويل مذهب عمر رضي الله عنه".

* * *

(1)

أخرجه أحمد في المسند 3/ 318، 366 (الحلبي) والبيهقي في السن الكبرى كتاب الحج: باب الإيضاع في بطن محسر 5/ 125 كلاهما من حديث سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر. وكذا أخرجه مسلم 2/ 943 - 944، بنحوه.

(2)

في أ: "عليه".

(3)

سورة البقرة 225 وفي م: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} سورة المائدة 89.

(4)

راجع الأثر وتعليق الخطابي ثم الزمخشري عليه في الغريب 2/ 99 والفائق 1/ 399،

ص: 91

• ويروى عن السُّمَيط السَّدُوسي

(1)

قال: خَطَبْتُ امرأةً فقالوا: لا نزوّجك حتى تُطَلِّق امرأتك؛ فقلت: إني قد طلقتها ثلاثًا؛ فزوَّجُوني، ثم نظروا فإذا امرأتي عندي؟ فقالوا: أليس قد طَلَّقتَها ثلاثًا؟. فقلت: كان عندي فلانة فَطَلَّقْتُها، وفلانة فطلَّقْتُهَا، فأما هذه فلم أطلّقها؟ فأتيت شقيق بن ثور وهو يريد الخروج إلى عثمان وافدًا فقلت: سل أميرَ المؤمنين عن هذه، فخرج فسأله

(2)

.

فقال: نيته.

خرجه أبو عبيد في كتاب الطلاق.

وحكى إجماع العلماء على مثل ذلك.

• وقال إسحق بن منصور: قلت لأحمد: حديث السُّمَيطْ: أتعرفه؟ قال: نعم! السدوسي إنما جعل نيته بذلك، فذكر ذلك شقيق لعثمان فجعلها نيته.

* * *

• قال إسحق فإن كان الحالف ظالمًا ونوى خلاف ما حَلَّفه عليه غريمُهُ لم تنفعه نيته.

* * *

[اليمين على نية المستحلِفِ]:

• وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَمِينُك عَلَى ما يُصدِّقكَ عَلَيه صَاحِبُكَ".

وفي رواية له: "الْيَمِينُ عَلىَ نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ"

(3)

.

(1)

في هـ، م:"الدوسي" وهو خطأ: فهو سُمَيط بن عمير السدوسي أبو عبد الله البصري، روى عن أبي موسى الأشعري وأنس وعمران بن حصين، وعنه سليمان التيمي وعاصم الأحول، وثقه ابن حبان، وترجمته في التهذيب 4/ 240. والثقات لابن حبان 4/ 346.

وفيها: "ويقال: سميط بن سمير" والتاريخ الكبير للبخاري 2/ 2 / 203 - 204 والظاهر من ترجمته عنده أيضًا أنهما واحد: سُميط بن عمير، وسُمَيط بن سمير ..

(2)

في م بعد هذا: فذكر ذلك لعثمان فجعلها له.

(3)

كلا الروايتين في كتاب الإيمان: باب يمين الحالف على نية المستحلف 3/ 1274 من صحيح مسلم.

قال النووي: هذا الحديث محمول على الحلف باستحلاف القاضي فإذا ادعى رجل على رجل حقا، فحلفه القاضي فحلف وورَّى ونوى غير ما نوى القاضي انعقدت يمينه على ما نواه القاضي، ولا تنفعه التورية وهذا مجمع عليه.

ودليله هذا الحديث والإجماع.

ص: 92

وهذا محمول على الظالم، فأما المظلوم فينفعه ذلك.

* * *

[واقعة تطبيقية]:

• وقد خرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حُجْر فأخذه عَدُوٌّ له، فتحرَّج الناس أن يحلفوا؛ فحلفت أنا أنه أخي؛ فخُلِّى سبيله فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن القوم تحرَّجوا أن يحلفوا وحلفت

(1)

أنا أنه أخي فقال: "صدَقْتَ؛ الْمسلِمُ أخُو المسْلِمِ"

(2)

.

[النية في الطلاق والعتاق]:

• وكذلك تدخل النية في الطلاق والعتاق فإذا أتى بلفظ من ألفاظ الكنايات المحتملة

= فأما إذا حلف بغير استحلاف القاضي وورّى تنفعه التورية ولا يحنث: سواءً حلف ابتداء من غير تحليف أو حلّفَه غيرُ القاضي وغير نائبه في ذلك ولا اعتبار بنية المستحلف غير القاضي. وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون عليه نية المستحلف، وهو مراد الحديث. أما إذا حلف عند القاضي من غير استحلاف القاضي في دعوى فالاعتبار بنية الحالف وسواء في هذا كله اليمين بالله تعالى أو بالطلاق والعتاق إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق تنفعه التورية ويكون الاعتبار بنية الحالف؛ لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق وإنما يستحلف بالله تعالى. واعلم أن التورية وإن كان لا يحنث بها فلا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق مستحق وهذا مجمع عليه هذا تفصيل مذهب الشافعي وأصحابه. ونقل القاضي عياض عن مالك وأصحابه في ذلك اختلافًا وتفصيلا فقال: لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته ويقبل قوله، وأما إذا حلف لغيره في حق أو وثيقة متبرعًا أو بقضاء عليه فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه سواء حلف متبرعًا باليمين أو باستحلاف، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فقيل اليمين على نية المحلوف له وقيل على نية الحالف وقيل إن كان مستحلفًا فعلى نية المحلوف له وإن كان متبرعًا باليمين فعلى نية الحالف وهذا قول عبد الملك وسحنون وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم، وقيل عكسه وهي رواية يحيى عن ابن القاسم وقيل: تنفعه نيته فيما لا يقضى به عليه ويفترق التبرع وغيره فيما يقضى به عليه وهذا مروي عن ابن القاسم أيضًا، وحكى عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه آثم حانث وما كان على وجه العذر فلا بأس به.

وقال ابن حبيب عن مالك: ما كان على وجه المكر والخديعة فله نيته وما كان في حق فهو على نية المحلوف له. قال القاضي: ولا خلاف في إثم الحالف بما يقع به حق غيره وإن ورّى والله أعلم.

(1)

في هـ، م:"فحلفت".

(2)

سنن ابن ماجه في كتاب الكفارات 10 "باب من ورَّى في يمينه 1/ 685، وهذا لفظه ومسند أحمد 4/ 79 بإسناد رجاله ثقات وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أنت كنت أبرهم وأصدقهم صدقت .. ".

وانظر الفتح الرباني 14/ 172.

ص: 93

للطلاق أو العتاق فلا بد له من النية.

وهل يقوم مقام النية دلالة الحال من غضب أو سؤال الطلاق ونحوه أم لا؟ فيه خلاف مشهور بين العلماء.

وهل يقع بذلك الطلاقُ في الباطن كما لو نراه؟ أم يُلَزم به في ظاهر الحكم فقط؟ فيه خلاف مشهور أيضًا.

* * *

[الطلاق بالكناية الظاهرة]:

ولو أوقع الطلاق بكناية ظاهرة كأَلبتَّة ونحوها فهل يقع به الثلاث أو واحدة؟

فيه قولان مشهوران.

وظاهر مذهب أحمد: أنه يقع به الثلاث مع إطلاق النية، فإن نوى به ما دُون الثلاث وقع به ما نواه، وحُكِى عنه رواية أخرى أنه يلزمه الثلاث أيضًا.

* * *

[ماذا لو طلق امرأة يظنها امرأته؟]:

ولو رأى امرأة فظنها امرأته فطلقها ثم بانت أجنبية طُلِّقت امرأته؛ لأنه إنما قصد طلاق امرأته.

نص على ذلك أحمد، وحُكي عنه رواية أخرى: أنها لا تُطَلُّق وهو قول الشافعي.

* * *

[وماذا لو كان بالعكس؟]:

ولو كان بالعكس بأن رأى امرأة ظنها أجنبية فطَّلقها فبانت امرأتَه فهل تُطَلَّق؟

[فيه قولان، وهما روايتان عن أحمد، والمشهور من مذهب الشافعي وغيره: أنها تطلق]

(1)

.

* * *

(1)

ما بين القوسين سقط من ب.

ص: 94

[وماذا لو حَلف على إحدى امرأتيه؟]:

ولو كان له امرأتان فنهى إحداهما عن الخروج ثم رأى امرأةً قد خرجت فظنها المنهية فقال لها: فلانة: خرجْتِ؟ أنتِ طالِق؟! فقد اختلف العلماء فيها فقال الحسن: تُطلَّقُ المنهية؛ لأنها هي التي نواها.

وقال إبراهيم: تُطَلَّقان.

وقال عطاء: لا تطلق واحدة منهما.

ومذهب أحمد: أنه

(1)

تطلق المنهية رواية واحدة؛ لأنه نوى طلاقها.

وهل تُطَلَّقُ المواجَهَةُ؟ على روايتين عنه فاختلف الأصحاب على القول بأنها تطلق هل تُطَلَّقُ في الحكم فقط؟ أم في الباطن أيضًا؟ على طريقتين

(2)

لهم.

* * *

[النية في العقود]:

• وقد استُدلِ بقوله صلى الله عليه وسلم: "الأَعْمَال بِالنِّيات وَإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نوى" على أن العقود التي يُقْصَدُ بها في الباطن التوصل إلى ما هو محرم: غير صحيحة كعقود البيوع التي يقصد بها معنى الربا ونحوها؛ كما هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما؛ فإن هذا العقد إنما نُوِيَ به الربا لا البيع، وإنما لكل امرئ

(3)

ما نوى.

• ومسائل النية المتعلقة بالفقه كثيرة جدًّا وفيما ذكرنا كفاية.

* * *

وقد تقدم عن الشافعي أنه قال في هذا الحديث: إنه يدخل في سبعين بابًا من الفقه والله أعلم

(4)

.

[النية والتلفظ بها في العبادات]:

والنية: هي قصد القلب، ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات.

• وخرج بعض أصحاب الشافعي له قولا باشتراط التلفظ بالنية للصلاة.

وغلَّطه المحققون منهم.

(1)

م: "وقال أحمد: إِنها

".

(2)

ن، ب:"طريقين".

(3)

أ، ب:"وإنما لامرئ".

(4)

ص: 56.

ص: 95

واختلف المتأخرون من الفقهاء في التلفظ بالنية في الصلاة وغيرها.

فمنهم من استحبه ومنهم من كرهه.

* * *

• ولا يعلم في هذه المسائل نقل خاصٌّ عن السلف ولا عن الأئمة؛ إلا في الحج وحده؛ فإن مجاهدا قال: "إذا أراد الحجَّ يسمِّي ما يُهِلُّ به".

وروي عنه أنه قال: "يسميه في التلبية". وهذا ليس مما نحن فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر نسكه في تلبيته فيقول: "لبيك عمرة وحجة

(1)

". وإنما كلامنا في أنه يقول عند إرادة عقد الإحرام: "اللهم إني أريد الحج والعمرة" كما استحب ذلك كثير من الفقهاء.

وكلام مجاهد ليس صريحًا في ذلك.

* * *

• وقال أكثر السلف منهم عطاء وطاووس والقاسم بن محمد والنَّخَعِي: "تُجْزيه النية عند الإهلال".

• وصح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلا عند إحرامه يقول: "اللهم إني أريد الحج والعمرة" فقال له: "أتُعْلِمُ النَّاسَ!؟ أوَليس الله يعلم ما في نفسك؟! ".

* * *

• ونص مالك على مثل هذا، وأنه لا يستحب له أن يسمي ما أحرم به، حكاه صاحب كتاب "تهذيب المدونة" من أصحابه.

وقال أبو داود: قلت لأحمد: أتقول قبل التَّكبِير (يعنى في الصلاة) شيئًا؟ قال: لا.

• وهذا قد يدخل فيه أنه لا يتلفظ بالنية والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *

* *

*

(1)

راجع في هذا ما رواه البخاري في المغازى 8/ 70 ج 4353، 4354 ومسلم في كتاب الحج باب الإفراد والقران بالحج والعمرة 2/ 905 ح 185 و 186.

والترمذي في الحج: باب ما جاء في الجمع بين الحج والعمرة 3/ 184 ح 821 كلهم من حديث أنس.

ص: 96

‌الحديث الثاني

عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه

(1)

قال:

بينما نحنُ

(2)

عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم إِذْ طَلَع علينا رجُلٌ شديدُ بَيَاضِ الثِّيَاب شَديدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عليه أثرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حتَّى جَلسَ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَأسندَ رُكْبَتَيْه، إلى رُكْبتَيهِ، وَوَضَعَ كفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! أخبْرنِي عن الإِسْلَام؟ فَقَال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الإسْلامُ أَنْ تَشهدَ أنْ لا إله إلا الله، وأن مُحَمدًا رسُول الله، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رمضَانَ، وَتَحُجَّ الْبيتَ إن استَطَعتَ إليهِ سَبيلًا". قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعجبْنَا لَهُ يَسْألُه ويُصَدِّقهُ. قَالَ: فَأخْبرنِي عَن الإِيمَانِ؟ قَالَ: "أنْ تُؤمنَ بالله، ومَلائِكتِه، وَكُتُبِه، وَرُسُلِه، واليومِ الآخر، وَتؤْمِنَ بالقدَر: خَيْرِه وَشَرِّهِ". قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأخْبِرْنِي عن الإِحْسانِ؟ قَالَ: "أنْ تَعْبُد الله كأنّكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ؛ فإنّه يَرَاكَ".

قال: فأخْبِرني عَنِ السَّاعة؟ قَالَ: "ما المسئول عنها بِأَعْلَمَ من السَّائِل" قال: فأخبرني عن أَمَارَاتها؟ قَالَ: "أنْ تَلدَ الأمةُ رَبّتَها، وأنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العالَةَ رِعَاءَ الشّاءِ يتَطاولُونَ في البنْيان".

ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلُبثْتُ مَليًّا، ثُمَّ قَال لي:"يا عمرُ! أتدْرِي مَنِ السَائِلُ؟ " قُلْتُ: الله وَرَسُولُه أعْلَمُ، قَالَ:"فإنه جِبْرِيلُ أَتَاكم يُعلّمُكُم دِينكُم" رواه مسلم

(3)

.

* * *

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث تفرد به مسلم عن البخاري بإخراجه، فخرّجه من طريق كهمس

(4)

عن عبد الله بن بُريدة عن يحيى بن يَعْمَرَ قال:

(1)

في بعض النسخ: "أيضا قال

".

(2)

في هـ، م: وشرح الأربعين للنووي، ولابن دقيق العيد:"نحن جلوس عند" وكلمة "جلوس" ليست في الأصول ولا في صحيح مسلم.

(3)

أول كتاب الإيمان 1/ 36 - 38.

(4)

ب: "كشميهني"، وهو تحريف.

ص: 97

كان أولَ من قال في القدر بالبصرة معبدٌ الجهني فانطلقت أنا وحُمَيْدُ بنُ عبد الرحمن الحِمْيرى حاجَّيْنِ أو معتمِرَيْن فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّقَ

(1)

لنا عبد الله بنُ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي: أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظَننْتُ أن صَاحِبي سَيَكِلُ الكلامَ إليَّ فقلتُ: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قِبَلَنَا ناسٌ يقرءون القرآن، ويتقَفَّرُونَ العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدَرَ وأن الأمْرَ أُنُفٌ؟ قال: فإذا

(2)

لقيتَ أولئك فأخْبرهُم أني بريءٌ منهم، وأنهم بُرَآءُ مني، والذي يحلف به عبدُ الله ابنُ عُمَرَ لو أن لأحدهم مِثلَ

(3)

أُحدٍ ذَهَبًا فأنفقه، ما قَبِلَ اللهُ منه حتى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ.

ثم قال: حَدَّثَنِي أبي: عُمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم .. فَذَكَرَ الحَديِثَ بِطُولِه.

ثُمَ خَرَّجَهُ مِنْ طُرقٍ أُخْرَى بَعْضُهَا يَرْجعُ إلى عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَة، وَبَعْضُهَا يَرْجع إلى يَحيَى بنِ يَعْمَرَ. وذَكَر أنَّ في بَعْضِ ألفَاظِها زيادةً ونقْصَانًا

(4)

.

* * *

• وقد خرّجَهُ ابنُ حبَّان في صَحِيحِه من طَريقِ سُلَيمان التّيمي عنْ يَحْيَىَ بن يَعْمَر

(5)

.

* * *

• وقَدْ خَرِّجَهُ مُسْلِم من هذا الطَّريقِ إلا أنَّه لَمْ يَذْكُر لَفْظَهُ

(6)

وفيه

(7)

زِيَاداتٌ منها في الإسْلَامِ، قَالَ: "وتَحُجَّ

(8)

، وتعْتَمِرَ،، وتَغْتَسِلَ من الجَنَابَةِ، وأنْ تُتِمَّ الوضوءَ"، وقال

(1)

في هـ، م:"فوافق" وهو تحريف.

(2)

في أ هـ، م:"إذا" وهو مخالف لما في مسلم.

(3)

ب: "ملء" وما آثرناه هو الموافق لما في صحيح مسلم.

(4)

عقب الرواية السابقة وفي ب: نقصا.

(5)

في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 1/ 198 - 199 وعنده

وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر وتغتسل وتتم الوضوء.

هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم؛ خذوا عنه.

(6)

عقب الرواية السابقة 1/ 381.

(7)

في هـ، م:"فيه" والمتبادر أن هذه الزيادات في مسلم وليست فيه وابن رجب يصرح بذلك فيقول: ولم يذكر لفظه. وهذه الزيادات في صحيح ابن حبان في الموضع الذي أشرنا إليه، وعبارة ابن رجب هكذا موهمة وقد اتفقت الأصول كلها على هذا النص، ولم يفطن المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر إلى إلى هذا عند تحقيقه لجامع العلوم والحكم الرسالة الثانية ص 48 فلم ينبه إلى ما يرفع اللبس، ويزيل الإبهام. وسوف يأتي من عبارة ابن رجب ما يصرح بأن هذه الزيادات في صحيح ابن حبان لا في صحيح مسلم ولعل قوله:"وخرجه مسلم" أخر من تقديم.

(8)

في س: "والحج".

ص: 98

فإذا فعلتُ ذَلك فَأنَا مسْلم؟ [قال: "نعم". وقال فيِ الإيمان. "وتؤمِن بِالجنة والنَّار والميزَانِ" وقالَ فيه فإذا فَعَلتُ ذلك فَأنا مؤْمِنٌ؟ قال: "نعم"]

(1)

وقالَ في آخِرِه: "هذَا جْبريلُ أتاكُم ليُعَلِّمَكُم أَمْرَ دِينكمِ؛ خُذُوا عنه والذي نَفْسي بيدِه مَا شُبّه عليّ منذُ أَتَانِي قبلَ مرَّتي هذه، وما عَرفْتُه حتَّى ولَّى! ".

* * *

[رواية الصحيحين]:

• وخرجاه في الصحيحين

(2)

من حَديثِ أبي هُرَيرَة

(3)

رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يوْما بارزًا للناس فأتَاهُ رجُلٌ فَقَال: ما الإيمانُ؟ قالَ: "الإيمانُ أنْ تُؤمِنَ بالله وملائكته وكتابه وبِلقَائِه ورُسُلِه وتُؤمِنَ بالبعث الآخِر".

قالَ: يَا رسُولَ الله! ما الإسْلامَ؟ قال: "الإسلامُ أن تعبدَ الله لا تُشْركَ به شيئًا وتُقِيمَ الصلاةَ المكْتوبةَ، وتُؤَدِّيَ الزّكَاةَ المفْروضَة، وتَصُومَ رَمَضَانَ".

قَالَ: يَا رسُولَ الله! ما الإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أن تَعْبدَ الله كأنّكَ تَراهُ فإن لم تَكُن تراهُ فإنَّه يَراكَ

(4)

".

قَالَ: يَا رسولَ الله! متى الساعةُ؟ قَالَ: "ما المسئولُ عنها بأعلمَ من السّائِل، ولكن سأحدثُكَ عن أشراطها: إذا ولَدَت الأَمَةُ رَبَّها فذاك من أشراطِهَا، وِإذَا رأيتَ الحُفَاةَ العُراةَ رُءُوس النّاسِ فذاك من أشْراطِهَا، وإذا تَطَاولَ رِعاءُ البَهْمِ في البُنْيانِ؛ فذاك من أَشراطِها: في خَمْسٍ لا يَعْلَمهُنَّ إلا الله" ثم تلا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}

(5)

.

قال: ثُمَّ أدْبر الرجلُ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ردُّوا

(6)

عَلىَّ الرَّجُلَ" فأخذوا ليردّوهُ فلم يَرْوا شيئًا؛ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبِريلُ جاءَ ليعلَّمَ الناسَ دينَهم".

• وخرَّجه مُسلم بسياقٍ أتمَّ من هَذَا، وفيه -في خِصَالِ الإيمانِ-: "وتؤْمِنَ بالقَدر

(1)

ما بين الرقمين ليس في ب.

(2)

البخاري في كتاب الإيمان: باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام .. إلخ 1/ 141.

ومسلم في كتاب الاٍ يمان: باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان 1/ 39.

(3)

أ: "بريدة" وهو خطأ.

(4)

ب: "فإنك إن لا تراه فإنه يراك".

(5)

سورة لقمان: 34.

(6)

ليست في ب.

ص: 99

كلِّه" وقَالَ في الإحسَانِ: "أن تَخْشىَ الله كأنّكَ تَراهُ"

(1)

.

• وخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث شهر بن حوشب عن ابن عباس

(2)

رضي الله عنهما، ومن حديث شهر بن حوشب أيضًا

(3)

. عن ابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم وَفي حدِيثهِ قال: ونَسْمَعُ رَجْعَ النَبِي صلى الله عليه وسلم ولا نَرىَ الَّذِي يُكَلّمهُ ولا نَسْمَعُ كَلَامَهُ.

وهذا يَرُدُّه حَديث عُمَر الذي خَرَّجَه مُسْلِمٌ وهَو أصَحُّ.

* * *

وقد رُوي الحَدِيثُ

(4)

عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم من حَديثِ أنس بْن مَالك، وجَرير بْن عَبِد الله البَجَلي، وغيرهما.

* * *

وهو حَديثٌ عظيم جدًّا يَشْتَمِلُ علَى شَرْح الدِّين كُلّه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره: "هَذَا جِبْريلُ أتَاكُم يُعلِّمكُم دِينكُم". بعدَ أن شَرَح دَرَجةَ الإسْلام، ودَرَجَةَ الإيمان، ودَرَجَةَ الإحْسَانِ، فَجَعَلَ ذَلكَ كُلَّه دينًا.

[المقارنة بين الروايات]:

واختلَفت الروايةُ في تَقْديمِ الإسْلامِ عَلَى الإيمَانِ وعَكسِه.

• فَفِي حَدِيثِ عُمَرَ الذي خَرَّجَهُ مسلم: أَنَّهُ بَدأ بالسؤالِ عَنِ الإسلام.

• وَفي التِّرمذي وغَيرهِ أنَّهُ بَدأ بالسؤال عَنِ الإيمان كما في حَديثِ أبي هرَيرةَ رضي الله عنه، وَجَاءَ في بَعْضِ روَاياتِ حدَيث عمرَ أَنَّهُ سألَهُ عن الإحْسانِ بَينَ الإسْلامِ والإيمانِ.

* * *

(1)

عقب الرواية السابقة 1/ 40.

(2)

المسند 4/ 333 - 334 (المعارف).

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 38، 40 وقال: رواه أحمد والبزار إلا أن في البزار أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم في هيئة رجل شاحب مسافر. وفي إسناد أحمد شهر بن حوشب أي وهو ضعيف.

(3)

المسند 4/ 129، 164، (حلبي) وفيه الشك الذكور فيمن روى عنه شهر بن حوشب.

(4)

في م، هـ "وقد روى حديث عمر عن النبي"

ص: 100

[معنى الإسلام]:

فَأَمَّا الإِسْلامُ فَقَد فَسَّره النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بأعْمالِ الجَوَارح الظَاهرةِ من القَولِ والعَمَلِ، وأوَّلُ ذَلك شَهادةُ أن لا إله إلَّا الله وأنَّ مَحمَّدًا رسُولُ الله، وهو عَمَل اللّسَانِ، ثُم إقامُ الصَّلاةِ وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وصَومُ رمضَانَ، وحَجُّ البَيتِ من اسْتَطاعَ إلَيهِ سَبِيلًا.

وهي مُنقسمةٌ إلى عَمَلٍ بِدَنيٍّ كالصلاةِ والصومِ، وإلى عمل مالي وهو إيتاء الزكاة، وإلى ما هو مركب منهما كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة.

وفي رواية ابن حبان أضاف إلى ذلك: الاعتِمَارَ والغسلَ من الجنابة وإتمامَ الوضوء

(1)

.

وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام.

وإنما ذكر ههنا أصول أعمال الإسلام التي يبني

(2)

الإسلام عليها كما سيأتي شرح ذلك في حديث ابن عمرَ رضي الله عنهما: "بُني الإسْلامُ على خمسٍ" في موضعِه إن شاءَ الله تعَالَى.

• وقوله في بعض الروايات: فإذَا فَعلْتُ فَأنَا مُسلم؟ قَالَ: "نَعَم" - يدل على أن مَنْ أكمَلَ

(3)

الإتيان بمباني الإِسلام الخمس صار مسلمًا حقًّا، مع أن من أقر بالشهادتين صار مسلمًا حكمًا، فإذا دخل في الإسلام بذلك ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام، ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام.

وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء.

وكذلك في ترك بقية مباني الإسلام الخمس كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.

* * *

[أدلة شمول الإسلام للأعمال الظاهرة]:

• ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"

(4)

.

(1)

هذا هو تصريح ابن رجب بأن هذه الزيادات في صحيح ابن حبان لا في صحيح مسلم. وهو ما أشرنا إليه ص 98 - 99.

(2)

في النسخ الأخرى ما عدا "ا""يَنْبَني".

(3)

في بعض النسخ عدا (أ): "كمل".

(4)

البخاري في كتاب الإيمان: باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 1/ 53.

ومسلم في كتاب الإيمان: باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل 1/ 65.

ص: 101

• وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرَ رضي الله عنهما أن رجلا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسْلامِ خير؟ قال: "أنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ، وتقْرأ السّلامَ عَلَى مَنْ عَرفْتَ ومَن لَمْ تَعرف"

(1)

.

* * *

• وفي صحيح الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لِلإسلامِ

(2)

ضَوْءًا ومنارًا كَمَنارِ الطَّرِيقِ، مِنْ

(3)

ذلك: أنْ تَعْبُدَ الله وَلا تُشْرِكَ به شَيْئًا، وتُقيِمَ الصَلاة، وتؤتِيَ الزكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضانَ، والأَمْرُ بالمعُروفِ والنَّهْيُ عَن المنكَرِ وتَسْلِيمُكَ عَلَى بَنِي آدَم إذا لَقيتَهُم، وتَسْلِيُمكَ عَلَى أَهْل بيْتك إذا دَخَلْتَ عَليْهم؛ فَمَن انتقَصَ مِنهُنَّ شيئًا فَهُوَ سَهْمٌ

(4)

من الإسْلامِ يدعه

(5)

وَمَنْ تَركَهُنَّ

(6)

فَقَدْ نَبذَ الإسْلامَ وَراءَ ظَهْرِه

(7)

.

(1)

البخاري في كتاب الإيمان باب إطعام الطعام من الإسلام 1/ 55 وباب إفشاء السلام من الإسلام 1/ 82 وفي كتاب الاستئذان: باب السلام للمعرفة وغير المعرفة 11/ 21.

ومسلم في الموضع السابق.

(2)

ب: "الإسلام" وهو تحريف.

(3)

في: هـ، م:"بين" وهو مخالف لما في الأصول.

(4)

في هـ، م:"منهم" وهو تحريف".

(5)

في هـ، م:"يتركه" وهو تحريف. وفي الأصول: تركه وما أثبتناه: من المستدرك.

(6)

ب: "يتركهن".

(7)

هذا الذي ساقه ابن رجب عن الحاكم ليس حديثًا واحدًا كما يتبادر، وإنما هما حديثان اتفقا في الإسناد فركب منهما ابن رجب حديثًا واحدًا، وزاد بينهما لفظ:"من ذلك" وليست في المستدرك وليس فيه أنهما حديث واحد، وإنما روى الحاكم الحديث الأول: إن للإسلام ضوءًا ومنارًا كمنار الطريق، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري وبعد أن ساق ما يؤيد قوله هذا قال: حديث آخر بهذا الإسناد: حدثنا أبو بكر بن إسحاق، حدثنا عبيد بن عبد الواحد، حدثنا محمد بن أبي السري، حدثنا الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا .. الحديث ثم قال عقبه: هذا الحديث مثل الأول في الاستقامة.

هما حديثان إذا كما ترى من كلام الحاكم وسياقه ولست أدري كيف ساغ لابن رجب أن يؤلف من حديثين مستقلين حديثًا واحدًا وأن يضيف لذلك لفظة لم يروها أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبتها الحاكم الذي نقل عنه ابن رجب؟!.

ولم ينبه المرحوم الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه للجامع إلى هذه المسألة! راجع المستدرك 1/ 21 والرسالة الثانية من جامع العلوم والحكم ص 8.

بقيت كلمة "ضوءا" الواردة في الحديث الأول: "إن للإسلام ضوءا" هكذا جاءت في الأصول وفي المستدرك. أما في النهاية فقد أتت بلفظ آخر: "صوى" وعبارة ابن الأثير: في حديث أبي هريرة: "إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق" الصوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المغارة المجهولة، يُستَدَلُّ بها على الطريق. واحدتها صوة كقوة: أراد أن للإسلام طرائق وأعلاما يهتدي بها.

راجع النهاية 3/ 62.

ص: 102

• وخَرّجَه ابن مَرْدَوَيهِ من حَديثِ أبي الدردَاءِ رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال: "للإسْلام ضَيَاءٌ

(1)

وعَلامَاتٌ كَمنَار الطَّريق؛ فَرأْسُها وجِمَاعُها شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ مَحَمَدًا عبده ورسوله، وإقامُ الصَلاةِ، وَإيتَاءُ الزكَاةَ، وإتَمَامُ

(2)

الوضوء، والحكم بكتاب الله وسنةِ نبيهِ، وطاعةُ ولاة الأمر، وتسليمكُم عَلى أنفُسِكم، وتسليمكُم على أهليكم إذَا دَخَلتْم بيوتَكم، وتَسْلِيمكُم عَلَى بني آدَمَ إذَا لقِيتُمُوهُم".

وفي إسناده ضعف ولعله موقوف.

• وصح من حَديثِ أبي إِسْحَاقِ، عن صِلَة بن زُفَر، عن حُذَيفةَ رضي الله عنه قَالَ: "الإِسْلامُ ثَمَانية أَسْهُم: الإِسْلامُ سَهْمٌ، والصَّلاةُ سَهْمٌ، والزَّكَاةُ سَهْمٌ، والجِهادُ سَهْمٌ، وصَومُ رمضان سَهْمٌ، و (لعل السَّهَم الثَامِنَ الحَجُّ)

(3)

والأمرُ بالمعرُوفِ سَهمٌ، والنَّهْي عن المنْكرِ سَهْمٌ، وخاب مَنْ لا سَهمَ له".

وخرجه البزار مرفوعًا. والموقوف أصح

(4)

.

* * *

[معنى أن الإسلام سهم]:

• ورواه بعضهم عن أبي إسحق، عن الحارثِ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

خَرَّجَه أبُو يَعْلَى الَموْصِلى

(5)

وغيره.

والموقُوف عَلَى حُذَيفةَ أصح، قَالَهُ الدَّارَقُطْنيُّ وغيره.

وقوله: "الإسلام سهم" يعني الشهَادتَين؛ لأنَّهمُا عَلَمُ الإسلامِ وبهما يصيرُ الإنسان مسلمًا.

(1)

في م: "ضياء ونور".

(2)

ب: وتمام.

(3)

ما بين القوسين ليس في ب ولا في أ.

(4)

أورد الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 38 عن البزار بنحوه وبتغيير في الترتيب وقال: "فيه يزيد بن عطاء وثقه أحمد وغيره وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات".

أي فالحديث حسن وقد صرح الهيثمي بحسن حديث حذيفة في المجمع 1/ 292.

(5)

أورده أبو يعلى الموصلي في مسنده 1/ 400 وأورده الهيثمي في المجمع 1/ 38 عنه وقال: "رواه أبو يعلى وفي إسناده الحارث وهو كذاب". هذا وقد كذبه غير واحد وضعفه الدارقطني وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ راجع ترجمته بالضعفاء للعقيلي 1/ 208، والميزان 1/ 435، والتهذيب 2/ 145 - 147.

ص: 103

وكذلك تَرك المحرمات داخلٌ في مسمَّى الإسلام أيضًا.

* * *

كمَا رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قَال: "مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تَرْكهُ مَا لا يَعْنِيه".

وسيأتي في موضعه إن شاءَ الله تعالى

(1)

.

وَيَدُل على ذلك أيضًا ما خرَّجه الإمَامُ أحمد والتِّرمذِي والنَّسَائي من حَديثِ (النَّواس بن سَمعَان)

(2)

رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ضَرَبَ الله مَثَلًا صِراطًا مَسْتَقِيمًا وعلى جنبتي الصِّراطِ سُورَانِ فيهما أبْوابٌ مُفتَّحَةٌ، وعَلَىَ الأبْواب ستُورٌ مُرْخاةٌ، وعلى بَابِ الصراط داعٍ يَقُولُ: يا أيُّها الناس! ادْخُلُوا الصِّراطَ جَميعًا ولا تعُوجُوا

(3)

ودَاع يَدْعُو من جوفِ الصراطِ فإذا أراد [أحدٌ]

(4)

أن يَفَتَحَ شَيئًا من تلك الأبواب قالَ: ويْحَكَ! لا تَفْتَحْه

(5)

فإنّكَ إنْ تفتَحْهُ تَلِجْهُ - والصراطُ: الإسْلَامُ، والسُّورَانِ: حُدُود الله عز وجل، والأبواب المفتحة: مَحَارمُ الله وذلك الدَّاعي علَى رَأسِ الصراطِ: كتابُ الله، والدَّاعي مِنْ فَوْقٍ وَاعِظُ الله في قَلْبِ كُلِّ مُسْلمِ".

زاد الترمذي: [قوله تعالى]{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

(6)

.

* * *

[الإسلام هو الصراط المستقيم]:

ففي هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه، وَنَهى عن مجاوزة حدوده، وأن من ارتكب شيئًا من المحرمات فقد تعدى حدوده.

(1)

في الحديث الثاني عشر من أحاديث الكتاب.

(2)

في الأصول الخطية والمطبوعة حتى في الرسالة الثانية ص 9 من تحقيق الشيخ أحمد شاكر: "العرباض بن سارية" وهذا خطأ بيِّن. فالحديث مروى عند أحمد في المسند 4/ 182 - 183 (الحلبي) وعند الترمذي في السنن أول كتاب الأمثال 5/ 144 وقال: حسن غريب وعند النسائي كذلك في الكبرى في التفسير على ما في تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف 9/ 61: كلهم من حديث النواس بن سمعان ونقل ذلك عنهم ابن كثير في التفسير 1/ 27.

(3)

أي تميلوا عنه وفي ب تعرجوا، وانظر النهاية 3/ 315 - 316.

(4)

من م فقط.

(5)

في المطبوعة: "فإنك إن فتحته تلجه" وهو مخالف لما في المسند.

(6)

سورة يونس: 25.

ص: 104

[معنى الإيمان في القرآن والسنة]:

وأما الإيمان فقد فسره النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال: أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَملائِكَتِه وكُتُبِه وَرُسُلِهِ والْبعثِ بَعْدَ الموْتِ، وتُؤْمِنَ بِالقَدرِ: خَيْرِهِ وشْرِّه".

* * *

وقد ذكر الله في كتابه: الإيمانَ بهذه الأصول الخمسة في مواضع كقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}

(1)

وَقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}

(2)

.

* * *

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}

(3)

.

* * *

[لازم الإيمان بالرسل]:

والإيمان بالرسل يلزم منه الإيمان بجميع ما أخبروا به من الملائكة، والأنبياء، والكتاب، والبعث، والقدر، وغير ذلك [من تفاصيل ما أخبروا وغير ذلك]

(4)

من صفات الله، وصفات اليوم الآخر كالميزان والصراط

(5)

والجنة والنار.

وقد أدخل في الإيمان

(6)

: الإيمان بالقدر: خيره وشره.

ولأجل هذه الكلمة روى ابن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث محتجًّا به على من أنكر القدر، وزعم أن الأمر أُنُفٌ يعني أنه مُسْتَأنَفٌ لم يسبق به سابق قدر من الله عز وجل، وقد غلَّظ [عبد الله] بن عمر عليهم وتبرأ منهم، وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر.

* * *

(1)

سورة البقرة: 285.

(2)

سورة البقرة: 177.

(3)

سورة البقرة: 3، 4.

(4)

ما بين الرقمين ليس في م.

(5)

م: كالصراط والميزان.

(6)

في هـ، م: في هذه الآيات الإيمان بالقدر.

ص: 105

[درجتا الإيمان بالقدر]:

والإيمان بالقدر على درجتين:

• إحداهما: الإِيمان بأن

(1)

الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية. قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، وأعدَّ لهما الثوابَ والعقابَ جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنه كتب ذلك عنده، وأحصاه، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.

* * *

• والدرجة الثانية: أن الله خلق أفعال عباده

(2)

كلَّها من الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وشاءها منهم.

فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة ويُنكرها القدرية.

والدرجة الأولى أثبتها كثير من القدرية، ونفاها غُلاتُهم، كمعبد الجهني الذي سُئِلَ ابنُ عمر عن مقالته، وكعمرو بن عبيد وغيره.

* * *

وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظِروا القدرية بالعلم، فإن أقرُّوا به خُصِمُوا، وإن جَحَدُوه فقد كفروا - يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن الله تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ؛ فقد كذَّب بالقرآن، فيكفر بذلك.

وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد

(3)

وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خُصِمُوا؛ لأن ما أقروا به حُجَّةٌ عليهم فيما أنكروه.

وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء.

* * *

[من أنكر العلم]:

وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد على تكفيره، وكذلك غيرهما من

(1)

في هـ، م:"الإيمان بالله تعالى سبق في عمله" وفيها تحريف ظاهر.

(2)

م "العباد".

(3)

ب: "عباده".

ص: 106

أئمة الإسلام.

* * *

[بين الإيمان والإسلام]:

فإن قيل: فقد فرّق النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان وجعل الأعمال

(1)

كلها من الإسلام لا من الإيمان؛ والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان: قول وعمل ونية، وأن الأعمال كُلَّهَا داخلةٌ في مُسَمَّى الإيمان.

• وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ممن

(2)

أدركهم.

• وأنكر السلف على مَنْ أخرج الأعمالَ عن الإيمان إنكارًا شديدًا.

وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولا مُحْدَثًا: سعيدُ بنُ جُبَيْر، وميمون بن مِهْرَان، وقتادة، وأيوب السَّخْتِيَاني، والنَّخَعِي، والزهري، ويحيى بنُ أبي

(3)

كثير، وغيرُهم.

• وقال الثوري: هو رأي محدث أدركنا الناسَ على غيره.

• وقال الأوزاعي: وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل.

• وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار: أما بعد، فإن الإيمان: فرائض وشرائعُ، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.

ذكره البخاري في صحيحه

(4)

.

• قيل الأمر على ما ذكره

(5)

.

(1)

ب: "الأيمان": وهو تحريف.

(2)

ب: "عمن ".

(3)

سقطت من ب.

(4)

في أول كتاب الإيمان 1/ 45.

(5)

في س، هـ، م:"قبل" أ: "ذكر"، ب "ذكرت" وفي الرسالة الثانية ص 13 من جامع العلوم والحكم تحقيق المرحوم الشيخ أحمد شاكر جاء بالصلب:"قبل الأمر على ما ذكرت" وقال في التعليق: كذا في النسخة الهندية وفي المخطوطة: قبل، وكلاهما غير مفهوم. ا هـ.

والذي استبان لي أن ابن رجب إنما أورد هذه الجملة: "قيل الأمر على ما ذكره" تعقيبًا على ما حكاه الأوزاعي أن الأقدمين لم يكونوا يفرقون بين الإيمان والعمل، والإيمان عندهم يشمل التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح.

وقد استشهد لهذا بما كتب عمر: الإيمان فرائض وشرائع.

وإنما يسلم هذا للأوزاعي لو أن الرواية عن عمر بن عبد العزيز جاءت نصًّا واحدًا، وليس كذلك. فالرواية عنه في ذلك روايتان: هذه التي حكاها الأوزاعي واستند عليها. وهي رواية الأقل: والرواية الأخرى هي: "فإن للإيمان فرائض وشرائع" وهي تفيد أن الإيمان غير العمل، ثم هي الرواية المشهورة، وهي ما في "ا". فابن رجب حين يقول:"قيل الأمر على ما ذكره" يقصد أن ما ذكره الأوزاعي إنما يستقيم على الرواية الأولى، لا على الرواية الثانية المشهورة، ولهذا قال:"قيل" راجع فتح الباري 1/ 45 والقسطلاني 1/ 113.

ص: 107

[دخول الأعمال في الإيمان]:

وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}

(1)

.

• وفي الصحيحين

(2)

: عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال لوفد عبد القيس: "آمُركُمْ بأرْبعٍ: الإيمانِ بِالله وَحْدَهُ

(3)

. وَهَلْ تَدْرُون مَا الإِيمانُ بِالله؟ شَهَادَةُ أن لا إِلَه إِلا الله، وَإِقامُ الصَّلاةِ، وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وأنَّ تُعْطُوا مِنَ المغْنَمِ

(4)

الخُمُسَ".

• وفي الصحيحين

(5)

: عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الإيمانُ بِضْعٌ وَسْبعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، شُعْبةً، فأفْضَلُها: قَوْل: لا إله إلا الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأذَى عَنِ الطَّريق، وَالحيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ".

ولفظه لمسلم.

• وفي الصحيحين

(6)

: عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَزني الزَّاني حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السارق حِينَ يَسْرِقُ وَهُو مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخمْرَ حِين يَشْرَبُهَا وَهُوَ مِؤْمِنٌ".

فلولا أن تَرْك هذه الكبائر من مُسَمَّى الإيمان لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها؛ لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته.

[وجه الجمع بين النصوص]:

• وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال

(7)

جبريل، عليه السلام،

(1)

سورة الأنفال: 2 - 4.

(2)

البخاري في مواطن عدة منها كتاب فرض الخمس: باب أداء الخمس من الدين 6/ 208 - 209.

ومسلم في كتاب الإيمان: باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله وشرائع الدين 1/ 47 - 48.

(3)

ليست في ب.

(4)

ب: "من المغانم".

(5)

البخاري في كتاب الإيمان: باب أمور الإيمان 1/ 51.

ومسلم في كتاب الإيمان: باب بيان عدد شعب الإيمان 1/ 63.

(6)

البخاري في مواضع: منها كتاب المظالم: باب النهبى بغير إذن صاحبه 5/ 119 ومسلم في كتاب الإيمان: باب بيان نقصان الإِيمان بالمعاصي 1/ 76 - 77.

(7)

ليست في ب.

ص: 108

عن الإسلام والإيمان، وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وإدخاله الأعمالَ في مسمى الإسلام دون مسمى

(1)

الإيمان فإنه يتضح بتقرير أصل، وهو أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه. فإذا قُرِن ذلك الاسمُ بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات. والاسم المقرون به دالًّا، على باقيها؛ وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها.

فهكذا اسم الإسلام والإيمان، إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر

(2)

، فإذا قرن

(3)

بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي.

* * *

وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة:

• قال أبو بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل: قال كثير من أهل السنة والجماعة: "إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض الله على الإنسان أن يفعله. إذا ذكر كل اسم - على حدته - مضمومًا إلى الآخر، فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعًا مفردين

(4)

أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر

(5)

وإذا ذكر أحد الاسمين على حدته

(6)

شمل الكل وعمهم".

* * *

• وقد ذكر هذا المعنى - أيضًا - الخطابي في كتابه: "معالم السنن"

(7)

وتبعه عليه جماعة من العلماء من بعده. ويدل على صحة ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان عند ذكره مفردًا في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام القرون بالإيمان في حديث جبريل، وفسر في حديث آخر: الإسلامَ بما فسر به الإيمان، كما في مسند الإمام

(1)

سقط من هـ، م.

(2)

في هـ، م:"عليه الآخر بانفراده" وفي ب: دل بإفراده، فإذا قرن بينهما

".

(3)

في هـ، م:"قورن" وهو خطأ.

(4)

هكذا في الأصول ولعلها تحريف عن: "مقرونين".

(5)

في ب: "لم يرد بالآخر".

(6)

سقط من، هـ، م، ب.

(7)

5/ 70 - 71 بهامش السُّنَن.

ص: 109

أحمد: عن عمرو بن عَبَسَة

(1)

، قال:

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسُولَ الله! مَا الإسلام. قَالَ: "أنْ يُسْلِمَ قَلبُكَ [لله]، وَأنْ يَسْلَمَ المسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ".

قَالَ: فَأيُّ الإسْلامِ أفضلْ، قَالَ:"الإيمانُ". قَالَ: وَمَا الإيمان؟ قَالَ: "أنْ تؤْمِنَ بِالله وملائِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِهِ والبَعْثِ بعْدَ الموْتِ". قَالَ: فَأيُّ الإيمان أفْضلُ؟ قَالَ: "الهِجْرةُ" قَالَ: فما الهِجْرَةُ؟ قالَ: "أنْ تَهْجُرَ السُّوءَ" قَالَ: فأيُّ الهِجرةِ أفْضَلُ قَالَ: "الجِهَادُ".

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمانَ أفضلَ الإسلام وأدخل فيه الأعمال.

* * *

[بين الإيمان والإسلام]:

وبهذا التفصيل يظهر تحقيق القول في مسألة الإسلام والإيمان هل هما واحد أو مختلفان؛ فإن أهل السنة والحديث مختلفون في ذلك، وصنفوا في ذلك تصانيف متعددة؛ فمنهم من يدّعي أن جمهور أهل السنة على أنهما شَيْءٌ واحد منهم محمد بن نصر المروزي، وابنُ عبد البر.

وقد روي هذا القول عن سفيان الثوري من رواية أيوب بن سويد الرملي عنه.

وأيوب فيه ضعف

(2)

.

(1)

في هـ، م:"عنبسة" وهو تحريف. فهو عمرو بن عبسة بن عامر السلمي، كان أحد السابقين إلى الإسلام، روى عنه ابن مسعود، وسهل بن سعد توفي في أواخر خلافة عثمان على ما في تهذيب التهذيب 8/ 69 راجع أيضًا ترجمته في الحلية 3/ 15 والحديث في مسند أحمد 4/ 114 (حلبي) وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 59 عن أحمد والطبراني وقال: رجاله ثقات.

وتتمة الحديث في مسند أحمد:

قال: وما الجهاد؟ قال: "أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم" قال: فأي الجهاد أفضل، قال:"من عقر جواده، وأهريق دمه" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما: حجة مبرورة أو عمرة".

(2)

ضعفه أحمد والبخاري والنسائي وابن معين والعقيلي وغيرهم توفي سنة 193، وقيل 202 راجع ترجمته في تهذيب التهذيب 1/ 405 - 406. والضعفاء والمتروكين للنسائي ص 150 وقد ذكر أنه ليس بثقة، والضعفاء الكبير للعقيلي، 1/ 113 - 114 وفيه قول ابن المبارك عن ابن سويد: ارم به، وقول البخاري: أيوب

يتكلمون فيه، والتاريخ الكبير للبخاري 1/ 1/ 117 وفيه قول البخاري إضافة - إلى ذلك، عن محمد بن إسحاق: غرق أيوب بن سويد في البحر سنة ثلاث وتسعين.

ص: 110

ومنهم من يحكي عن أهل السنة التفريق بينهما كأبي بكر بن السمعاني وغيره.

وقد نُقِل التفريقُ بينهما عن كثير من السلف: منهم قتادة، وداود بن أبي هند، وأبو جعفر الباقر، والزهري، وحماد بن زيد، وابن مهدي، وشريك، وابن أبي ذئب

(1)

وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة ويحيى بن معين، وغيرهم على اختلاف بينهم في صفة التفريق بينهما.

• وكان الحسن وابن سيرين يقولان: مسلم، ويهابان: مؤمن.

• وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف؛ فيقال إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قُرِن بين الاسمين كان بينهما فرق.

* * *

[التحقيق في الفرق بين الإيمان والإسلام]:

والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته.

والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، وهو الدين كما سمى الله تعالى في كتابه: الإسلام دينا وفي حديث جبريل سمى

(2)

النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان دينا.

وهذا أيضًا مما يدل على أن أخذ الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر، وإنما يفرَّق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر، فيكون - حينئذ - المراد بالإيمان جنسَ تصديق القلب، وبالإسلام جنسَ العمل.

• وفي المسند للإمام أحمد

(3)

عن أنس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الإِسْلامُ عَلانية، والإِيمانُ في الْقَلْبِ"

(4)

.

وهذا لأن الأعمال تظهر علانية، والتصديق في القلب لا يظهر.

(1)

ب: "ذؤيب".

(2)

في هـ، م:"وسمى" وهو خطأ.

(3)

ب: "وفي مسند الإمام أحمد".

(4)

المسند 3/ 134 - 135 وتمام الحديث: قال: ثم يشيرُ بيده إلى صدره ثلاث مرات قال: ثم يقول: التقوى ههنا. التقوى ههنا. وإسناده حسن فرجاله ثقات ما خلا علي بن مسعدة مختلف فيه على ما أفاده الهيثمي في المجمع 1/ 52 وأن ممن وثقه ابن حبان وابن معين وأبا حاتم والطيالسي.

لكن أورده ابن عدي عنه في الكامل 5/ 207 عند ترجمته له وقال: ولعلي بن مسعدة غير ما ذكرت عن قتادة وكلها غير محفوظة.

ص: 111

• وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه - إذا صلى على الميت: "اللَّهُمَّ! مَنْ أحْيَيْتَه مِنَّا فَأَحْيِه عَلَى الإسْلامِ، ومَنْ تَوَفَّيْتهُ مِنَّا فَتَوَفّه عَلَى الإِيمانِ"

(1)

.

لأن العمل بالجوارح إنما يُتمكن منه في الحياة، فأما عند الموت فلا يبقى غير التصديق بالقلب.

* * *

[لماذا قيل: كل مؤمن مسلم]:

• ومن هنا قال المحققون من العلماء: "كل مؤمن مسلم" فإن من حقق الإيمان، ورسَخ في قلبه: قام بأعمال الإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنَّ في الجَسدِ مُضْغةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كلّه؛ ألا وَهِيَ الْقَلْبُ"

(2)

.

فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام.

[ولم لا يقال: كل مسلم مؤمن؟]

وليس كل مسلم مؤمنًا، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفًا فلا يتحقق القلب به تحققًا تاما مع عمل جوارحه بأعمال

(3)

الإسلام؛ فيكون مسلمًا وليس بمؤمن بالإيمان التام، كما قال تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}

(4)

.

ولم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين، وهو قول ابن عباس وغيره، بل كان إيمانهم ضعيفًا، ويدل عليه قوله تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

(5)

.

يعنى لا ينقصكم من أجورها؛ فَدَلَّ على أن معهم من الإيمان ما تُقْبَل به أعمالُهم.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لا قال له: "لَمْ تُعْطِ

(6)

فلانا وهو

(1)

أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز: باب ما يقول في الصلاة على الميت 3/ 343 - 344 وأبو داود في كتاب الجنائز: باب الدعاء 2/ 188. كلاهما من حديث أبي هريرة وانظره في صحيح الترمذي 817.

(2)

سيأتي الكلام عليه في الحديث السادس من أحاديث الجامع.

(3)

في س، ن:"بأعمال".

(4)

سورة الحجرات: 14.

(5)

بقية الآية السابقة.

(6)

في هـ، ن:"تعطى""وفي س: "لم لم تعط" وعند البخاري ومسلم: "مالك عن فلان.

فوالله إني لأراه مؤمنًا" وعند مسلم أيضًا: يا رسول الله! أعط فلانًا؛ فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أو=

ص: 112

مؤمن؟ " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو مسلم؟ ".

يشير إلى أنه لم يُحَقِّقْ مقام الإيمان وإنما هو في مقام الإسلام الظاهر.

[متى ضَعُفَ الإيمانُ ضَعُفَ العَمَلُ]:

ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضًا.

لكن اسم الإيمان يُنفى عمن ترك شيئًا من واجباته كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَزْني الزَّاني حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ"

(1)

.

[بم يوصف المؤمن حينئذ]:

• وقد اختلف أهل السنة هل يسمى مؤمنًا ناقص الإيمان، أو يقال ليس بمؤمن لكنه مسلم؟ على قولين. وهما روايتان عن أحمد.

وأما اسم الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته وإنما ينتفى

(2)

بالإتيان بما ينافيه بالكلية.

ولا يعرف في شيء من السنة الصحيحة نفي الإسلام عمن ترك شيئًا من واجباته كما ينفى الإيمان عمن ترك شيئًا من واجباته، وإن كان قد ورد إطلاق الكفر على فعل بعض المحرمات، وإطلاق النفاق أيضًا.

• واختلف العلماء

(3)

: هل يُسمَّى مرتكبُ الكبائر كافرا كفرًا أَصْغَرَ أو منافقًا النفاق الأصغر؟ ولا أعلم أن أحدًا منهم أجاز إطلاق نفي اسم الإسلام عنه؛ إلا أنه روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ما تارك الزكاة بمسلم".

ويحتمل أنه كان يراه كافرا بذلك خارجًا عن

(4)

الإسلام.

وكذلك روى عن عمر رضي الله عنه فيمن تمكن من الحج ولم يحج أنهم ليسوا بمسلمين.

والظاهر أنه كان يعتقد كفرهم، ولهذا أراد أن يضرب عليهما الجزية. يقول: لم

= مسلم" الحديث.

راجع صحيح البخاري - كتاب الإيمان: باب إذا لم لكن الإملام على الحقيقة إلخ 1/ 79 وصحيح مسلم.

كتاب الإيمان: باب تألف قلب من يخاف عليه إيمانه لضعفه 1/ 132 - 133 وفي سنن النسائي 267/ 2: "أعطيت فلانًا وفلانًا ولم تعط فلانًا شيئًا وهو مؤمن".

(1)

تقدم تخريجه ص 108.

(2)

ا: "ينفى".

(3)

م: "وقد اختلف".

(4)

ب: "من".

ص: 113

يدخلوا في الإسلام بعد، فهم مستمرون على كِتَابيَّتِهمْ

(1)

.

* * *

[متى يجوز نفي وصف الإسلام؟]:

وإذا تبين أن اسم الإسلام لا ينتفي إلا بوجود ما ينافيه ويخرج عن الملة بالكلية، فاسم الإسلام إذا أطلق أو اقترن به المدح دخل فيه الإيمان كله من التصديق وغيره كما سبق في حديث عمرو بن عَبَسة

(2)

.

[الإسلام المطلق ومتى يصير المسلم مؤمنًا؟]:

وخَرَّجَ النسائي من حديث عقبة بن مالك

(3)

أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأغَارَتْ

(4)

على قوم فقال رجل منهم: إني مُسْلِمٌ؟ فقتله رجل من السَّرِيَّة فَنُمِىَ الحديثُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شَديدًا فقال الرجل: إنما قالها تَعَوُّذًا من القتل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله أبَى عَلَيَّ مَنَ قَتَل

(5)

مُؤمِنًا". ثلاث مرات

(6)

.

(1)

في س، ن:"كتابتهم".

(2)

مضى ص: 110.

(3)

في هامش هـ، م إشارة إلى أن نسخة أخرى:"عبيد" وهذا تحريف، فهو عقبة بن مالك الليثي البصري وترجمته في التهذيب 7/ 249.

(4)

في عامة النسخ: "فغارت" وهو تحريف والتصويب من الكبرى وانظر - لزاما: الصحاح 2/ 774 - 775 والوسيط 671 - 672.

(5)

عامة النسخ: "أن أقتل" وهو تحريف فليس المعنى على ما يتبادر وإنما المعنى: أن الله أبى عليّ أن يقبل توبة من قتل مؤمنا حين سألته ذلك؛ بدليل رواية النسائي في الكبرى 5/ 175 - 176: "إن الله أبى عليّ الذي قتل مؤمنا" وهى الفاصلة؛ حيث هي التي صدر عنها ابن رجب فلتصحّح النسخ إذًا، وفي التحفة 7/ 383 عن الكبرى:"إن الله أبى عليّ فيمن قتل مؤمنًا".

(6)

راجع أيضًا ما رواه أحمد في المسند 4/ 110 من حديث عقبة بن مالك الليثي قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ قال القائل: يا رسول الله! والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل، فذكر قصته، وفيها: فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف المساءة في وجهه، ثم قال:"إن الله عز وجل أبى عليّ من قتل مؤمنا" قالها ثلاث مرات.

وقد رواه أحمد بأتم من هذا في المسند 5/ 289 قال عقبة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قال: فأغارت على قوم، قال: فشذ من القوم رجل فاتبعه رجل من السرية شاهرًا سيفه، قال: فقال الشاذ من القوم: إني مسلم؟! قال: فلم ينظر فيما قال فضربه فقتله، قال فنمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقال فيه قولًا شديدًا، فبلغ القاتل، قال: فبينا رسول الله يخطب إذ قال القاتل: يا رسول الله! والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل؟ فأعرض عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته قال: ثم قال أيضًا: يا رسول الله! ما قال الذي قال إلا تعوذًا من القتل؟ فأعرض عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته ثم لم يصبر فقال الثالثة: يا رسول الله! والله ما قال إلا تعوذًا من القتل؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف المساءة في وجهه قال له: إن الله عز وجل أبى عليّ من قتل مؤمنا! ثلاث مرات.

قال المناوي في التيسير، 1/ 242: إسناده صحيح وهذا في المستحل أو خرج مخرج الزجر والتنفير. وانظر =

ص: 114

فلولا أن الإسلام المطلق يدخل فيه الإيمان والتصديق بالأصول الخمسة لم يَصِرْ مَنْ قال أنا مسلم مؤمنا بمجرد هذا القول.

وقد أخبر الله تعالى عن ملكة سبأ أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة وقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

(1)

وأخبر عن يوسف عليه السلام: أنه دعا بأن يموت

(2)

على الإسلام

(3)

.

وهذا كله يدل على أن الإسلام المطلق يدخل فيه ما يدخل في الإيمان من التصديق.

* * *

[من الأدلة الأخرى على هذا]:

• وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عَدِيُّ! أسْلِمْ تَسْلَمْ!؟ " قُلْتُ: ومَا الإِسْلامُ؟ قَالَ: "تَشْهَدُ أن لا إِلهَ إلا اللهُ، وتَشْهَدُ أنِّي رَسُولُ الله، وتُوْمِنُ بالأقْدَارِ كُلِها: خَيرِهَا وَشَرِّهَا، حُلْوِها ومُرِّها"

(4)

.

وهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام.

ثم إن الشهادتين من خصال الإسلام بغير نزاع.

وليس المراد الإتيانَ بلفظهما

(5)

دون التصديق بِهِمَا.

فعُلِمَ أن التصديق بهما داخلٌ في الإسلام.

وقد فَسَّرَ الإسلامَ المذكورَ في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}

(6)

بالتوحيد والتصديق - طائفةٌ من السلف منهم محمد بن جعفر بن الزبير.

* * *

= الصحيحة ح 689 - "أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة".

وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 18 - 19 بروايتين مختصرًا ومطولا وصحح المطولة على شرط مسلم وأقره الذهبي وفيها: "إن الله عز وجل أبى عليّ من قتل مؤمنا وفي الثانية: مسلما".

(1)

سورة النمل: 44.

(2)

في ا، ب "بالموت".

(3)

في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . سورة يوسف: 101.

(4)

في مقدمة السنن 1/ 34 وذكر صاحب الزوائد أن إسناده ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف عبد الأعلى بن أبي المساور [أحد رواة الحديث] ثم قال: وله شاهد من حديث جابر رواه الترمذي في جامعه. مصباح الزجاجة 1/ 53 - 54 وليس في السنن: "وتشهد".

(5)

في هـ، م:"بلفظها".

(6)

سورة آل عمران: 19 والأثر في سيرة ابن هشام 2/ 227 وتفسير الطبري 6/ 282.

ص: 115

[إيمان الصديقين]:

[وماذا إذا نفي الإيمان وأثبت الإسلام؟]:

وأما إذا نفي الإيمان عن أحد وأثبت له الإسلام كالأعراب الذين أخبر الله عنهم، فإنه ينتفي عنهم رسوخ الإيمان في القلب، وتثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل؛ إذ لولا هذا القدر من الإيمان لم يكونوا مسلمين.

وإنما نفي عنهم الإيمان لانتفاء ذوق حقائقه، ونقص بعض واجباته.

وهذا مبني على أن التصديق القائم بالقلوب يتفاضل.

وهذا هو الصحيح، وهو أصح الروايتين عن أبي عبد الله: أحمد بن حنبل

(1)

، فإن إيمان الصِّدِّيقِينَ الذين يتجَلَّى الغيبُ لقلوبهم حتى يصيرَ كأنه شهادةٌ بحيث لا يقبل التشكيك ولا الارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لم

(2)

يبلغ هذه الدرجة، [بحيث] لو شُكِّك لدخله الشك؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم مرتبة الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين!

• ومن هنا قال بعضهم: ما سبقكم أبو بكر رضي الله عنه بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وَقَر في صدره

(3)

.

• وسئل ابن عمر رضي الله عنهما: هل كانت الصحابة رضي الله عنهم يضحكون؟ فقال: "نَعَم! وإن الإيمان

(4)

في قلوبهم أمثَالُ الجبال!؟ ".

* * *

فأين هذا ممن الإيمان في قلبه يزن ذرة أو شعيرة كالذين يخرجون من أهل التوحيد من النار

(5)

فهؤلاء يصح أن يقال في حقهم

(6)

لم يدخل الإيمان في قلوبهم لضعفه عندهم.

* * *

[خطورة قضايا الإيمان والكفر]:

• وهذه المسائل - أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق - مسائل عظيمة

(1)

في ب "عن أحمد". ا: "عند أحمد".

(2)

م: "لا".

(3)

قال العراقي: لم أجده مرفوعا وهو عبد الحكيم الترمذي من كلام بكر بن عبد الله المزني، وانظر الضعيفة ح 962، الأحاديث المشكلة في الرتبة ص 225.

(4)

ا: "والإيمان".

(5)

ا: "من النار من أهل التوحيد".

(6)

ليس في ا، ولا في ب.

ص: 116

جدًّا؛ فإن الله عز وجل علَّق بهذه الأسماء: السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار.

* * *

[الخلاف فيها كان أول خلاف]:

• والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماءَ السلمين وأموالَهم، ثم حدث بعدهم خلافُ المعتزلة، وقولُهم بالمنزلة بين المنزلتين، ثم حدث خلافُ المرجئة وقولهم إن الفاسقَ مؤمنٌ كاملُ الإِيمان.

* * *

• وقد صنَّف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسائل تصانيف متعددة.

وممن صنف في الإيمان من أئمة السلف: الإمام أحمد، وأبو عبيد: القاسم بن سلام، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن أسلم الطوسي. وكثرت فيه التصانيف بعدهم من جميع الطوائف.

وقد ذكرنا ها هنا نكتا جامعة لأصول كثيرة من هذه السائل والاختلاف فيها.

وفيه إن شاء الله كفاية.

(فصل)[فيما يدخل في مسمى الإسلام والإيمان]

قد تقدم أن الأعمال تدخل في مسمى الإسلام ومسمى الإيمان أيضًا، وذكرنا ما يدخل في ذلك من أعمال الجوارح الظاهرة، ويدخل في مسماها أيضًا أعمال الجوارح الباطنة، فيدخل في أعمال الإسلام إخلاص الدين لله تعالى، والنصحُ له ولعباده، وسلامة القلب لهم من الغش والحسد والحقد، وتوابع ذلك من أنواع الأذى.

* * *

ويدخل في مُسَمَّى الإيمانِ: وَجَلُ القلوب من ذكر الله، وخشوعها عند سماع ذكره وكتابه، وزيّادة الإيمان بذلك، وتحقيق التوكل على الله عز وجل، وخوف الله سرًّا

ص: 117

وعلانية. والرضا بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، واختيارُ تلف النفوس - بأعظم أنواع الآلام - على الكفر، واستشعارُ قرب الله من العبد، ودوامُ استحضاره، وإيثارُ محبة الله ورسوله على محبة ما سواهما، والحبُّ في الله

(1)

والبُغْضُ فيه، والعطاءُ له، والمنعُ له، وأن يكون جميع الحركات والسكنات له، وسماحة النفوس بالطاعة المالية والبدنية، والاستبشارُ بعمل الحسنات، والفرحُ بها، والْمسَاءة بعمل السيئات، والحُزْنُ عليها، وإيثارُ المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم، وكثرةُ الحياء، وحسنُ الخلق، ومحبة ما يحبه لنفسه - لإخوانه المؤمنين، ومواساةُ المؤمنين - خصوصًا الجيران، ومعاضدةُ المؤمنين ومناصرتُهم، والْحزن بما يَحْزُنُهم.

[أدلة ما تقدم]:

ولنذكر بعض النصوص الواردة بذلك.

[دخول العمل في مسمى الإسلام]:

• فأما ما ورد في دخوله في اسم الإسلام. ففي مسند الإمام أحمد والنسائي عن معاوية بن حيدة قال قلت: يَا رَسُولَ الله! بالَّذي بَعَثَكَ بالحق ما الذي بعَثَك به؟ قَالَ: "الإِسْلامُ". قُلْتُ: ومَا الإسْلام؟ قَالَ: "أنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لله تَعَالَى، وأنْ تُوَجِّه وجهَكَ إلى الله تعالى، وتُصَلِّيَ الصَّلاةَ المكتُوبَة، وتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المفْروضَةَ"

(2)

.

وفي رواية [له]

(3)

قلت: وَمَا آيَةُ الإِسْلامِ؟ قَالَ: "أنْ تقُولَ أسْلَمْتُ وجْهِىَ لله، وتَخَلَّيْتُ

(4)

، وَتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتِيَ الزَّكَاةَ وكلُّ مسلم عَلَى مسلم حَرَامٌ".

وفي السنن عَنْ جُبَيرِ بن مُطْعِم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ في خُطْبته بالخَيْفِ من مِنى: "ثَلاثٌ لا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِم: إخْلاصُ العَمَل لله، ومنَاصَحة ولاةِ الأمور، ولزوم

(1)

1: والمحبة ب: "والحب لله".

(2)

أخرجه أحمد في المسند 5/ 3، 4، 5 (حلبي). من طرق بسياقه محلولًا وانظر الفتح الرباني 1/ 58 - 69 وفيه: أن الحاكم صححه وأقره الذهبي وسنن النسائي 5/ 4 - 5.

(3)

في الموضع الثاني من مسند أحمد وفيه وفي الموضع الثالث: "كل مسلم على حرام" وليست هذه الجملة مذكورة في الموضع الأول وليست عند النسائي وفي ا: "وفي رواية قلت".

(4)

قال السندي في حاشيته على النسائي: التخلي التفرغ أراد التبعد من الشرك وعقد القلب على الإيمان أي تركت جميع ما يعبد من دون الله وصرت عن الميل إليه فارغا ثم قال: ولعل هذا كان بعد أن نطق بالشهادتين، لزيادة رسوخ الإيمان في قلبه، ويحتمل أن يكون هذا إنشاء الإسلام لأنه في معنى الشهادة بالتوحيد والشهادة بالرسالة قد سبقت منه بقوله إلا ما علمني الله ورسوله .. إلخ

ص: 118

جمَاعة المُسْلمينَ؛ فإن دَعوتَهُمْ تُحيِطُ مِن وَرَائِهم"

(1)

.

فأخبر أن هذه الثَّلاث الخِصَال تَنْفي الغِلَّ عنَ قَلْبِ المسْلِمِ.

وفي الصَّحيحين عَنْ أبي مُوسَى عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ سُئلَ أيُّ المسلمين أفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"

(2)

.

وفي صحيح مسلم عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُسْلِمُ أخُو الْمسلِمِ؛ فَلا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ، بِحَسْب امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يحْقِرَ أخَاهُ الْمسلِمَ. كُلُّ الْمسْلِمِ عَلَى الْمُسلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وعِرْضُهُ"

(3)

.

* * *

[دخول العمل في اسم الإيمان]:

• وأما مما ورد في دخوله في اسم الإيمان فمثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} إلى قوله تعالى {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}

(4)

.

وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}

(5)

.

وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}

(6)

.

وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

(7)

.

وقوله تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

(8)

.

• وفي صَحِيحِ مُسْلمٍ عَنِ العَبَّاس بن عَبد المُطَّلب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذَاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وبالإسْلامِ دينًا، وبمحمدٍ رَسولًا

(9)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند 4/ 80 (الحلبي). وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 139 وقال: رواه ابن ماجه باختصار، ورواه الطبراني في الكبير وأحمد، وفي إسناده ابن إسحاق عن الزهري وهو مدلس وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري ورجالها موثقون.

(2)

تقدم تخريج الحديث ص: 101.

(3)

هذا جزء حديث أخرجه مسلم في البر: باب تحريم ظلم المسلم 4/ 1986 باختلاف يسير.

(4)

سورة الأنفال: 2 - 4.

(5)

سورة الحديد: 16.

(6)

سورة إبراهيم: 11.

(7)

سورة المائدة: 23.

(8)

سورة آل عمران: 175.

(9)

مسلم: كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا فهو مؤمن 1/ 62.

ص: 119

[معنى الرضا بالله ربا]:

والرضا بربوبية الله يتضمن الرضا بعبادته وحده لا شريك له، والرضا

(1)

بتدبيره للعبد واختياره له.

والرضا بالإسلام دينًا يتضمن

(2)

اختياره على سائر الأديان، والرضا بمحمد رسولا يتضمن الرضا بجميع ما جاء به من عند الله، وقبول ذلك بالتسليم والانشراح كما قال سبحانه {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

(3)

.

وفي الصحيحين عن أنس عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلاثٌ من كُنَّ فيهِ وَجَدَ بِهنَّ حَلاوَةَ الإيمَانِ: مَن كَانَ الله وَرَسُولُهُ أحَبَّ إِلَيه مِمَّا سواهُمَا، وأنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لله، وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعود إِلَى الكفر - بَعد إذْ أنقَذَهُ الله منهُ - كَمَا يَكْرهُ أَنْ يُلْقَى في النَّارِ"

(4)

.

وفي رواية: "وَجد بهنَّ طَعْمَ الإيمان".

وفي بعض الروايات: "طَعْمَ الإيمانِ وَحَلاوَتَهُ"

(5)

.

(1)

أ، ب:"بالرضا لتدبيره".

(2)

في س، ن، ب:"يقتضي" وكذلك في الآتية.

(3)

سورة النساء: 65.

(4)

صحيح البخاري: كتاب الإيمان: باب بيان حلاوة الإيمان 1/ 60 ومسلم في كتاب الإيمان: باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان 1/ 66 باختلاف يسير.

(5)

روى البخاري هذا الحديث في مواطن ثلاثة من صحيحه عدا الموضع الذي سقناه، ونصه فيه: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

".

وقد رواه كذلك في باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان 1/ 72 بالنص المذكور.

وفي كتاب الأدب: باب الحب في الله 10/ 463 ونصه فيه: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحبها المرء لا يحبه إلا الله

".

وفي كتاب الإكراه: باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر 12/ 315 بالنص الأول والثاني أما مسلم فرواه في الموضع المذكور بروايتين ونص الأولى: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان".

ونص الرواية الثانية: "ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان".

فالرواية التي يشير إليها ابن رجب هنا: "وجد بهن طعم الإيمان" ليست بهذا النص في أي من الصحيحين وإنما جزؤها في رواية مسلم الأولى وجزؤها الآخر في روايته الثانية.

إلا أن يكون مريدًا بقوله وفي رواية: غير الصحيحين بيد أن هذا احتمال بعيد لتعقيبه رواية الصحيحين بقوله وفي رواية؛ فالظاهر والأرجح أنه يريد: وفي رواية الصحيحين. أما قوله بعدئذ وفي بعض الروايات فالأظهر أنه يقصد غير الصحيحين أي وفي بعض الروايات الأخرى عدا الصحيحين وهي في النسائي 8/ 94 - 95 وبلفظ: "وجد بهن حلاوة الإيمان وطمعه".

ص: 120

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُؤُمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكُونَ أحبَّ إليه مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِه والناس أجْمَعِينَ".

وفي رواية: "مِنْ أَهْلَهَ ومَالِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ"

(1)

.

وفي مسند الإمام أحمد عَن أبي رَزِين العُقَيْلِي، قال: قلت يَا رَسولَ الله! ما الإِيمانُ؟ قال: "أن تَشْهَدَ أنْ لا إله إلا الله وَحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، وأن محمدًا عبدُه ورسُولُه، وأن يَكون الله وَرَسُولُهُ أحبَّ إليك مما سواهما، وَأنْ تُحْرَق في النَّارِ أحَبُّ إِليْكَ مِنْ أن تُشْرِكَ بالله، وأن تُحِبَّ غَير ذي نَسَب لا تُحبُّه إلَّا لله [عز وجل] فإذَا كنْتَ كَذلَكَ فَقَدْ دَخَل حُبُّ الإِيمانِ في قَلبكَ كما دَخَل حُبُّ المَاء للظمْآنِ في اليوم القَائِظ". قُلتُ: يا رسول الله! كَيْفَ لي بأنْ أعْلَمَ أنِّي مُؤْمِنٌ؟ قَالَ: "مَا مِنْ أمتي أو هَذه الأمَّة عَبْدٌ يَعْمَلُ حَسَنَةً فَيعلمُ أنَّها حَسَنةٌ وأنَّ الله عز وجل جازيه بها خيرًا، ولا يَعْمَلُ سَيِّئَةً فَيَعلم أنَّها سَيِّئَةٌ وَيسْتغْفِرُ الله منها ويَعْلم أنه لا يغْفِرُها إلا هو؛ إلا وَهو مُؤمِنٌ"

(2)

.

[من الإيمان أن تسرك حسناتك]:

• وفي المسند وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سَرَّتْهُ حَسنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئتُه فَهُوَ مُؤمِنٌ"

(3)

.

• وفي مسند بَقِيِّ بن مَخْلِدٍ عن رجل سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "صَرِيحُ الإِيمان إِذا أسَأتَ أو ظَلَمْتَ أحدًا: عَبْدكَ أو أمَتَكَ أوْ أحَدًا من النَّاسِ صُمْتَ أو تَصَدَّقْتَ، وإذا أحَسَنْتَ اسْتَبشْرتَ".

[من صور الإيمان]:

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمُنوا بالله وَرَسُولِهِ ثم لَمْ يَرتابوا وجَاهَدوا بأَمْوَالِهم وَأَنْفُسِهِم في سَبيل

(1)

البخاري: إيمان: باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان 1/ 58.

ومسلم في الإيمان: باب وجوب محبة الرسول أكثر من الأهل والولد 1/ 67 وفيه الروايتان المذكورتان بنصيهما.

(2)

مسند أحمد 4/ 11 - 12 (حلبي) باختلافات يسيرة؛ سيما في بدايته وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 53 - 54 وقال: رواه أحمد وفي إسناده: سليمان بن موسى وثقه ابن معين وأبو حاتم وضعفه آخرون.

أقول فالحديث حسن وفي ا: "وأن تحرق بالنار

وإذا كنت

في اليوم القابض لا يغفر

".

(3)

في هـ، م:"حسناته وسيئاته" وما أثبتناه موافق لما في المسند 1/ 204 - 205 "المعارف" وهو جزء حديث أخرجه أحمد بإسناد صحيح على ما ذكر محققه العلامة الشيخ شاكر.

ص: 121

الله، والَّذي يَأْمنُه الناسُ عَلىَ أموالهم وأَنْفُسِهِم

(1)

، ثم الذَّي إِذا أشْرَفَ عَلىَ طَمَع تَرَكَهُ لله عز وجل"

(2)

.

[من تعريفات الرسول للإيمان والإسلام وأفضل التطبيقات لهما]:

• وفيه أيضًا عن عمرو بن عَبَسَةَ قال: قلت: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: "طيبُ الكلامُ، وإطعامُ الطعام" فقلت: ما الإِيمانُ؟ قال: "الصبر والسماحةُ" قلت: أيُّ الإسلام أفْضلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِم المسلمون مِن لسانه ويدِهِ". قلت: أيّ الإيمان أفضل؟ قال: خُلُقٌ حَسنٌ"

(3)

.

* * *

• وقد فسر الحسن البصري الصبر والسماحة فقال: "هو الصبر عن محارم الله، والسماحة بأداء فرائض الله"

(4)

.

[أكمل المؤمنين إيمانًا]:

• وفي الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكْمَل المؤْمِنينَ إيمانًا أحْسَنُهُم خُلقًا"

(5)

.

وخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة

(6)

رضي الله عنه.

* * *

(1)

والجزء الثاني في الحديث ليس في ب وفي ا: "وأنفسهم والذي يأمنه

والذي أشرف

".

(2)

مسند أحمد 3/ 8 (حلبي).

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 63، 64 وقال:"رواه أحمد وفيه دراج وثقه ابن معين وضعفه آخرون".

ولم يشر إلى أن الحديث عند أحمد من طريق رشدين عن عمرو بن الحارث عن أبي السمح: [دراج] ورشدين ضعيف؛ راجع الفتح الرباني 1/ 108.

(3)

مسند أحمد 4/ 385 (حلبي) من حديث طويل.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 53، 54 وقال: رواه أحمد وفي إسناده شهر بن حوشب وقد وثق على ضعف فيه.

(4)

أصل ذلك أنه رضي الله عنه سأله رجل: ما الإيمان؟ قال الحسن: الصبر والسماحة؛ فقال الرجل: يا أبا سعيد! فما الصبر والسماحة؟ قال: الصبر عن معصية الله .. الحديث" وهو وترجمته في الحلية 2/ 131 - 161 والأثر ص 156.

(5)

الترمذي كتاب الإيمان: باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصه 5/ 9. وفي المصرية: وقال حديث صحيح. وفي الهندية 3/ 356 كما في تحفة الأشراف 11/ 440 وقال: حسن. ولعل هذا هو الأصوب.

(6)

أبو داود في كتاب السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه 5/ 60 والترمذي 1162.

ص: 122

[من الإيمان التوحيد وإيتاء الزكاة والعلم بمعية الله]:

• وخرج البزار في مسنده من حديث عبد الله بن معاوية الغاضِري

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلاثٌ من فَعَلهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ الإِيمان: مَنْ عَبَدَ الله وَحْدَهُ وأنَّهُ

(2)

لا إِلَهَ إِلّا الله. وَأعْطَى زكاةَ مَالهِ طيبةً بها نَفْسُه، رافدةً عليه

(3)

في

(4)

كلِّ عامٍ. وذكر الحديثَ

(5)

. وفي آخره: فقال رجلٌ: فما تزكية المرءِ نَفْسَهُ يا رسول الله؟ قال: "أن يعَلَمَ أن الله معه حيث كان".

وخَرَّج أبو داود أولَّ الحديثِ دونَ آخِرِه.

وخرج الطَّبَرَاني مِنْ حَديثِ عُبَادةَ بن الصَّامِتِ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: "إن أفضل الإيمانِ أن تَعْلَمَ أن الله مَعَكَ حيث كُنتَ"

(6)

.

[ومن الإيمان الحياء من الله عز وجل]:

• وفي الصَّحيِحَينِ عَن عَبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الحَياءُ شُعْبَةٌ مِن الإِيمانِ"

(7)

.

* * *

[سهولة انقياد المؤمن لأمر الله ورسوله]:

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ وابنُ ماجَهْ من حديثِ العِرْباضِ بن سَارِيةَ رضي الله عنه عَن

(1)

في هـ، م: العامري وهو تحريف، فهو منسوب إلى غاضرة بن مالك بن ثعلبة، وغاضرة بطن من خزاعة.

راجع تهذيب التهذيب 6/ 39، ولب اللباب ص 184.

(2)

في هـ، ا "بإنه لا إله إلا هو" وما أثبتناه موافق لما في سنن أبي داود.

(3)

من سنن أبي داود والرافدة فاعلة من الرفد وهو الإعانة أي تعينه نفسه على أدائها.

(4)

ليست في السنن.

(5)

تمام الحديث في أبي داود:

"ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة (الجرباء) ولا المريضة ولا الشَّرَطَ (صغار المال وشراره) ولا اللئيمة (البخيلة باللبن) ولكن من وسط أموالكم. فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره".

وما ذكر ابن رجب أنه آخر الحديث فهو عند البزار كما سيشير ابن رجب، وهذا هو الحديث الوحيد الذي رواه عبد الله بن معاوية الغاضري عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن حجر في التهذيب في الموضع السابق. وقد أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة: باب زكاة السائمة 2/ 239 - 240.

(6)

م: "حيثما" وهو الموافق لما في المجمع وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 60 عن الطبراني في الأوسط والكبير ثم قال: تفرد به عثمان بن كثير ولم أر من ذكره بثقة ولا جرح.

(7)

البخاري: إيمان: باب أمور الإيمان 1/ 51 وباب الحياء من الإيمان 1/ 74.

ومسلم في الإيمان: باب شعب الإيمان 1/ 63. وفي ا: "الحياء من الإيمان".

ص: 123

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا المؤْمنُ كالجَمَلِ الأَنِفِ حَيثُما قِيدَ انْقَادَ".

وَقَالَ الله عز وجل

(1)

: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

(2)

.

[الإيمان وترابط أفراد المجتمع]:

• وفى الصَّحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثلُ المؤمِنينِ في تَوادّهِم وتَعَاطُفِهِمْ وتَراحُمِهمْ كمثَل الجَسدِ إذا اشْتَكَى منهُ عضوٌ تَدَاعَى له سَائرُ الجَسدِ بالحُمَّى والسَّهر".

وفي رواية لمسلم: "المؤمنُونَ كرجُلٍ وَاحِدٍ".

وفي رواية له أيضًا: "المسلمُونَ كرجُلٍ واحدٍ إذا اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وإن اشْتَكَى رأسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ".

• وفي الصَّحيِحَين عَنْ أبي مُوسَى رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن للمؤْمنِ كَالْبُنْيَانِ يشُدُّ بَعضُهُ بَعْضًا".

وشَبَّكَ بَينَ أصَابِعِه

(3)

.

* * *

وفي مُسْندِ الإمامِ أحْمد عن سهْلِ بن سَعْدٍ رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَال: "المؤمِنُ من أهل الإيمان بِمنزِلةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، يَألَمُ المُؤْمنُ لأَهلِ الإيمانِ كمَا يألم الجسدُ لما في الرأس"

(4)

.

(1)

م، هـ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما المؤمنون أخوة .... ) ولم يذكر الحديث.

(2)

سورة الحجرات: آية 10 والحديث أخرجه أحمد في المسند 4/ 126 (الحلبي) وابن ماجه في مقدمة السنن 1/ 16 كلاهما بسياقه مطولًا، والآية ليست في أي منهما. والجمل الأنف هو المأنوف الذي عقر الخشاش أنفه فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذي به، وقيل: الأنف الذَّلول راجع النهاية 1/ 75 والمراد أن المؤمن سهل الانقياد لأمر الله ورسوله وإسناد الحديث صحيح.

وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 936 للألباني وصحيح الجامع الصغير له 2/ 805.

(3)

راجع في هذه الروايات ما أخرجه البخاري في الصلاة: باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.1/ 565 ح 481 وطرفاه في 2446، 6026.

ومسلم في البر والصلة: باب تراحم المؤمنين وتعاضدهم 4/ 1999 ح 65 - (2585).

(4)

مسند أحمد 5/ 340 (الحلبي).

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 87 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير سوار بن عمارة الرملي وهو ثقة.

ص: 124

[الأخوة بين المؤمنين]:

وفي سُننِ أبِي داودَ عَن أَبي هُرَيرةَ رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: "المؤمنُ مرآةُ المؤمِنِ، المُؤْمِن أخُو المؤمِنِ يَكُفُّ عليه ضَيْعتَه، ويَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِه"

(1)

.

[من الإيمان أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه]:

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يُؤمنُ أحدُكم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفْسِه"

(2)

.

* * *

[نفي الإيمان عمن لا يُؤْمَنُ أذاه]:

• وفي صحيح البُخَارِي عَنْ أبِي شُرَيحٍ الكَعْبي رضي الله عنه عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَال: "والله لا يؤمِنُ! والله لا يؤمنُ! والله لا يؤمنُ! " قَالُوا: من ذاك؟ يا رسولَ الله! قال: "من لا يَأمَنُ جارُهُ بوائِقَهُ"

(3)

.

[نفي الإيمان عمن يشبع وجاره جائع]

• وخَرَّجَ الحَاكِمُ من حَدِيث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قَال: "لَيْسَ المؤمنُ الذي يَشْبَعُ وجَارهُ جَائعٌ"

(4)

.

[من شعب الإيمان أن تعطي لله وتمنع لله وتحب لله وتبغض لله]:

• وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث سهل بن معاذ الجهني عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أعْطَى لله، وَمَنَعَ لله، وأحبَّ لله، وأبغض لله - زاد الإمام أحمد - وَأَنْكَحَ لله فقد اسْتَكملَ إيمَانَهُ"

(5)

.

(1)

الحديث في سنن أبي داود كتاب الأدب: باب النصيحة والحياطة 5/ 218 وفي هـ، م، ب، ا.

"يكف عنه" والتصويب من أبي داود. وقد ذكر المناوى في التيسير 2/ 451 أن إسناده حسن.

(2)

البخاري: إيمان: باب من الإيمان أن أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه 1/ 56 - 57 ومسلم: إيمان: باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل 1/ 67.

(3)

صحيح البخاري في كتاب الأدب: باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه 10/ 443 باختلاف يسير.

(4)

المستدرك 4/ 167 وصححه الحاكم وأقره الذهبي.

(5)

الترمذي في كتاب صفة القيامة 4/ 670 وقال حديث حسن وفى الهندية 3/ 322 - 323 من تحفة الأحوذي: هذا حديث منكر قال المباركفوري: وفي بعض النسخ: هذا حديث حسن ثم قال: ولم يظهر لى وجه كون هذا الحديث منكرًا، وأحمد في المسند 3/ 438، 440 (حلبي).

ص: 125

[وتُعْملَ لسانَك في ذكر الله وتحب للناس ما تحب لنفسك]:

• وفي رواية للإمامِ أحمد أنَّهُ سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفْضَلِ الإيمانِ فقال: "أن تُحِبُّ لله وتُبْغِضَ لله، وتُعْمِلَ لسانَكَ في ذكر الله" فقالَ: وماذَا؟ يا رسول الله! قال: "وأنْ تُحِبَّ للنَّاس مَا تُحِت لِنَفْسِكَ، وتكرَهَ لَهُمْ مَا تكْرهُ لِنفسِكَ".

* * *

[وأن تقول خيرًا أو تصمت]:

• وفي روَايةٍ له: "وأن تَقُولَ خَيرًا أوْ تَصْمُتَ"

(1)

.

* * *

• وفي هذا الحديث: أن كثرةَ ذِكْرِ الله منْ أفضل الإيمان.

[الحب في الله سفير الولاية مع الله]:

• وخرَّج أيضًا: من حديث عَمْرو بن الجَمُوحِ: أنَّه سَمِعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لا يُحِقُّ العَبْدُ صَريحَ الإيمانِ حتَّى يُحبَّ لله ويُبْغِضَ للهِ، فإذا أحَبَّ لله وأبَغَضَ لله فقد استَحَقَّ الولاية من الله تَعَالَى"

(2)

.

• وخرج أيضًا من حديث البَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنَّ أوْثَقَ عُرَى الإِيمانِ أنْ تُحِبَّ في الله، وتُبْغِضَ في الله"

(3)

.

(1)

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 89 وقال: في الرواية الأولى: رشدين بن سعد وفي الثانية: ابن لهيعة وكلاهما ضعيف.

وقد رواهما أحمد في المسند 5/ 247 (الحلبي) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(2)

مسند أحمد 3/ 430 (حلبي) بلفظ:

"لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله تعالى .. فقد استحق الولاء" الحديث .. وفيه أخطاء واضحة وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 89 عن أحمد بلفظ: "لا يحق العبد صريح الإيمان حتى يحب لله" الحديث بنصه رواية ابن رجب وربما أكد هذا التطابق زيادة بعض الكلمات وتحريف البعض الآخر.

ومعنى الحديث قريب من معنى الحديث الآخر: "لا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتى لا يعيب مسلما" أي لا يحصل يقينه وخالصه ومحضه وكنهه، وحقه يحقه وأحقه يُحقه أثبته وصار عنده حقا لا شك فيه وصريح الإيمان هو أيضًا خالصه ويقينه ولا يثبت للمرء هذا، ولا يثبته المرء ولا يحصله إلا إذا أحب لله وأبغض لله .. إلخ.

وقد أورد الهيثمي ذلك النص ثم قال: فيه رشدين بن سعد وهو منقطع ضعيف. وانظر اللسان: حَقَقَ. وفي "ا" وعامة النسخ عدا ب: "لا يستحق العبد

".

(3)

مسند أحمد 4/ 282 (حلبي) من حديث طويل بلفظ: "إن أوسط عرى الإيمان

" الحديث. =

ص: 126

• وقال ابنُ عَباسٍ رضي الله عنهما: "أحِبَّ في الله، وأَبْغِضْ في الله، وَوَالِ في الله وعَادِ في الله فإِنَّمَا تُنَالُ ولايةُ الله بِذَلكَ، ولنْ يَجدَ عبدٌ طَعْمَ الإيمان وإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ وصوْمُه؛ حتَّى يَكُونَ كَذلك وقدْ صَارَتْ عَامَّةُ مؤاخاةِ الناسِ عَلى أمر الدُّنيا، وذلك لا يُجْدِى على أهْله شَيْئًا".

• خَرَّجه ابن جَرِير الطَّبَري ومحمدُ بن نصر المروزي

(1)

.

(فصل)[عن الإحسان وكيف ورد في القرآن والسنة؟]

• وأما الإِحسان فقد جاء ذكره في القرآن في مواضع: تارة مقرونا بالإيمان، وتارة مقرونا بالإِسلام، وتارة مقرونًا بالتقوى، أو بالعمل.

[الإحسان مقرونًا بالإيمان]:

• فالمقرون بالإِيمان كقوله تعالى:

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

(2)

.

وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}

(3)

.

[وبالإسلام]:

• والمقرون بالإِسلام كقوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

(4)

.

وكقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}

(5)

.

= ولعله تحريف فقد نقله عنه الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 89 - 90: "إن أوثق" كما هنا وقد عقب عليه بقوله: رواه أحمد وفيه ليث بن أبي سليم وضعفه الأكثر.

(1)

في: "تعظيم قدر الصلاة" له 1/ 406 من نصح ابن عباس لتلميذه مجاهد.

(2)

سورة المائدة: 93.

(3)

سورة الكهف: 30.

(4)

سورة البقرة: 112.

(5)

سورة لقمان: 22.

ص: 127

[وبالتقوى]:

• والمقرون بالتقوى كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}

(1)

.

• وقد يذكر مفردًا.

• كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}

(2)

.

• وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى في الجنة

(3)

.

وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإِحسان، لأن الإِحسان هو أن يَعْبُدَ المؤمن ربّهُ في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته؛ فكان جزاء ذلك: النَّظَرَ إلى وجه الله عَيَانًا

(4)

في الآخرة.

وعكس هذا ما أخبر الله تعالى به عن جزاء الكفار في الآخرة: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}

(5)

.

وجعل ذلك جزاءً لحالهم في الدنيا، وهو تراكم الرّانِ على قلوبهم حتى حُجِبَتْ عن معرفته، ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حُجِبُوا عن رؤيته في الآخرة.

* * *

[تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للإحسان]:

• فقوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: "أنْ تعْبُدَ الله كَأنَّك تَرَاهُ" مشيرًا إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة، وهي استحضار قربه وأنه بن يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوفَ، والهيبةَ والتعظيم؛ كما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه:"أن تَخْشَى الله كأنَّكَ تَرَاهُ"

(6)

.

ويوجب أيضًا: النُّصْحَ في العبادة، وبذلَ الجَهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.

* * *

(1)

سورة النحل: 128.

(2)

سورة يونس: 26.

(3)

صحيح مسلم في كتاب الإيمان: باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى 1/ 163. ح 297 - (181) و 298 - (

).

(4)

ب: "إلى الله

".

(5)

سورة المطففين: 15.

(6)

هي رواية مسلم تقدمت ص 99.

ص: 128

[كيف وصى النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان؟]:

[وصيته لأبي ذر]:

• وقد وصّى النبي صلى الله عليه وسلم جماعةً من أصحابه بهذه الوصية كما روى إبراهيمُ الهَجَريُّ، عن أَبي الأحْوَصِ، عن أبي ذر، رضي الله عنه قال:"أوصَانِي خَلِيلي صلى الله عليه وسلم أنْ أخْشَى الله كَأنِّي أرَاهُ، فإنْ لمْ أكنُ أرَاه فَإنَّهُ يَرانِي".

[ولابن عمر]:

• وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أخذَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ جَسَدي

فَقَالَ: اعْبُدِ الله كَأنَّكَ تَرَاهُ"

(1)

. خرجه النسائي.

[ولزيد بن أرقم]:

ويروى من حديث زيد بن أرْقَمَ مَرفوعًا وموقوفًا: "كُنْ كَأنَّكَ تَرى الله فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ"

(2)

.

* * *

[ولأنس]:

• وخرج الطبراني من حديث - أنس رضي الله عنه: "أن رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله! حَدِّثْنِي بحدَيثٍ وَاجْعَلْهُ مُوجَزًا؟ فَقَالَ: "صَلِّ صَلاةَ مْوَدِّعٍ؛ فَإنَّكَ إِنْ كنْتَ لا تَرَاه فَإنَّه يَرَاكَ"

(3)

.

[ولحارثة]:

• وفي حديث حارثة المشهور وقد روي من وجوه مرسلة، وروي متصلا، والمرسل أصح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "كَيْفَ أصْبَحتَ! يَا حَارِثَة؟ قالَ: أصْبَحْتُ مُؤمِنًا حَقًّا! قَالَ: انظُرْ مَا تَقُولُ؛ فَإِنْ لِكُلِّ قَولٍ حَقيِقَةً؟ قَالَ: يَا رَسُولَ الله! عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأسْهَرْتُ لَيْلي وَأظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ ربِّي بَارِزًا! "وكأني

(1)

مسند أحمد 9/ 17 - 18 (معارف) وتتمة الحديث: وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. وإسناده صحيح كما ذكر محققة العلامة الشيح أحمد شاكر، ولم أجده في المطبوع من الكبرى حيث أشار المزى في التحفة 5/ 481 إلى رواية النسائي له في الرقائق منها.

(2)

أورده أبو نعيم في الحلية 8/ 202 - 203 بنحوه وبتمامه.

(3)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 229 عن الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر وليس من حديث أنس كما ذكر هنا، وقال: وفيه من لم أعرفهم.

ص: 129

أنظر أهل الجنة في الجنة كيف يتزاورون فيها! وَكَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ

(1)

فِيهَا قَالَ: "أبْصرْتَ فَالْزَمْ؛ عَبْدٌ نَوَّرَ الله الإِيمَانَ في قَلْبهِ"

(2)

.

[ولأبي أمامة]:

وروى من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى رجلا فقال له: "اسْتَحْي مِنَ الله اسْتحْياءَكَ مِنْ رَجُلَينِ مِنْ صَالحِي عَشِيرتك لا يفارقانك"

(3)

.

ويروى من وجه آخر مرسلًا. "استحي من ربك".

[ولمعاذ]:

ويروى عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال: "اسْتَحْي منَ الله كَمَا تَسْتَحييِ منْ رَجُلٍ ذِي هَيْبَةٍ مِنْ أهْلِك

(4)

".

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن كشف العورة خاليا فقال "الله أحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْه"

(5)

.

(1)

يتصايحون وفي الطبراني والمجمع 1/ 57 يتضاغَون وكلاهما بمعنى.

(2)

أورده الغزالي في الإحياء 4/ 190 وعلق عليه العراقي بقوله: أخرجه البزار من حديث أنس، والطبراني من حديث الحارث بن مالك وكلا الحديثين ضعيف. وهو عند الطبراني في الكبير 3/ 266 - 267 رواية عن محمد بن عبد الله الحضرمي، عن أبي كريب، عن زيد بن الحباب، عن ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السكسكي، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن أبي الجهم عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارثة؟

الحديث وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 57 عن الطبراني في هذا الموضع بنحوه، وقال: وفيه ابن لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه.

وهو عند البزار في مسنده 1/ 6 (من الكشف) ح 32 من طريق أحمد بن محمد الليثي، عن يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى رجلا يقال له حارثة

الحديث بمعناه وعقب عليه بقوله: تفرد به يوسف وهو لين الحديث.

(3)

أخرجه ابن عدي في الكامل بإسناد. ضعيف كما في فيض القدير على الجامع الصغير، 1/ 487 وما بين الرقمين سقط من ب.

(4)

الحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 23 عن البزار وقال: فيه ابن لهيعة وفيه لين وبقية رجاله ثقات.

(5)

هذا جزء حديث رواه الحاكم في المستدرك 4/ 180 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

والترمذي وحسنه في سننه كتاب الأدب: باب ما جاء في حفظ العورة 5/ 97 - 98.

وابن ماجه في كتاب النكاح: باب التستر عند الجماع 1/ 618.

والبخاري تعليقًا في كتاب الغسل: باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل 1/ 385 من الفتح.

كلهم من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو مما ملكت يمينك. فقال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال: "إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل: قلت: والرجل يكون خاليًا؟ قال: "فالله أحق أن يستحيا منه".

وقد اقتصر البخاري على تعليق شطره الأخير.

ص: 130

[من وصايا السلف في الإحسان][وآثارهم فيه]

ووصى أبو الدرداء رضي الله عنه رجلا فقال له: "اعبد الله كأنك تراه".

وخطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف، فلم يجبه؛ ثم لقيه بعد ذلك فاعتذر إليه وقال:"كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا".

أخرجه أبو نعيم وغيره

(1)

.

* * *

[تفسير الجملة الثانية في الوصية بالإحسان]:

• وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ لَمْ تَكُن تَراهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ": قيل إنه تعليل للأول، فإن العبد إذا أمر بمراقبة الله تعالى في العبادة واستحضار قربه من عبده حتى كأن العبد يراه فإنه قد يَشُقُّ ذلك عليه؛ فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله عز وجل يراه ويَطَّلع على سره وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أمره.

فإذا تحقق هذا المقام سَهُل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحديق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده، ومعيته

(2)

حتى كأنه يراه.

* * *

وقيل بل هو إشارة إلى أن من شقَّ عليه أن يعبد الله تعالى كأنه يراه؛ فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه؛ فليستحي من نظره إليه كما قال بعض العارفين: "اتق الله أن يكون أهونَ الناظرين إليك".

(1)

هو عند أبي نعيم في الحلية 1/ 309 من حديث محمد بن أحمد بن الحسن، عن بشر بن موسى عن أبي عبد الرحمن المقرئ، عن حرملة، عن أبي الأسود قال: سمعت عروة بن الزبير يقول: خطبت إلى عبد الله بن عمر ابنته ونحن في الطواف فسكت ولم يجبني بكلمة، فقلت: لو رضي لأجابني، والله لا أراجعه فيها بكلمة أبدًا، فقدر له أن صدر إلى المدينة قبلي، ثم قدمت فدخلت مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، وأديت إليه من حقه ما هو أهله، فأتيته ورحب بي وقال: متى قدمت؟ فقلت: هذا حين قدومي، فقال: أكنت ذكرت لي سودة بنت عبد الله ونحن في الطواف نتخايل الله عز وجل بين أعيننا؟ وكنت قادرًا أن تلقاني في غير الموطن؟ فقلت: كان أمرًا قدر؟ قال: فما رأيك اليوم؟ قلت: أحرص ما كنت عليه قط. فدعا ابنيه: سالما وعبد الله فزوجني.

(2)

ليست في أ.

ص: 131

وقال بعضهم: "خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك".

[مقاما الإخلاص والمشاهدة]:

وقال بعض العارفات

(1)

من السلف: "من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص".

فأشارت

(2)

إلى المقامين اللذين تقدم ذكرهما:

أحدهما: مقام الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه عليه، وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله، وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله، وإرادتِه بالعمل.

والثاني: مقام المشاهدة وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنوَّرَ القلبُ بالإيمان، وتَنْفُذَ البصيرة في العرفان، حتى يصير الغيبُ كالعيان.

وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام.

ويتفاوت أهل هذه المقامات فيه بحسب قوة نفوذ البصائر.

وقد فسر طائفَة من العلماء المثلَ الأعلى المذكور في قوله عز وجل: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

(3)

. بهذا المعنى.

ومثله قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}

(4)

.

والمراد: مَثَلُ نوره في قلب المؤمن.

كذا قاله أبي بن كعب وغيره كما السلف.

* * *

[الإحسان أفضل الإيمان]

وقد سبق حديث: "أفضلُ الإيمان: أن تَعْلَمَ أن الله مَعَكَ حيثُ كنتَ"

(5)

وحديث: "ما تزكيةُ المرء نَفْسَه؟ " قال: "أن يعلم أن الله معه حيث كان"

(6)

.

(1)

م: "العارفين".

(2)

م: "وفيه إشارة".

(3)

سورة الروم: 27.

(4)

سورة النور: 35.

(5)

،

(6)

ص 123.

ص: 132

[من ثمرات الإحسان]:

• وخرج الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلاثَةٌ في ظِلِّ الله تَعَالى يَوْم الْقِيامَة يَوْمَ لا ظِلّ إِلا ظِلُّهُ: رَجُلٌ حَيْثُ تَوجَّهَ عَلِمَ أن الله مَعَهُ. . وذكر الحديث

(1)

".

* * *

[أدلة قرب الله من العبد ومعيته له وشهوده عليه]:

وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة، كقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}

(2)

.

وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}

(3)

.

وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

(4)

.

وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}

(5)

.

• وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}

(6)

.

وقوله: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ}

(7)

.

* * *

[دعوة السنة إلى استحضار قرب الله عز وجل]

• وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب إلى استحضار هذا القرب في حال العبادات كقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أحدَكُمْ إِذَا قامَ يُصَلِّي فإِنَّما يُنَاجِي رَبَّهُ أو ربَّه بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلة".

(1)

تمام الحديث: "ورجل دعته امرأة إلى نفسها فتركها من خشية الله، ورجل أحب بجلال الله عز وجل". وقد رواه الطبراني في الكبير 8/ 240.

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 279 عن الطبراني في هذا الموضع وقال: فيه بشر بن نمير وهو متروك.

(2)

سورة البقرة: 186.

(3)

سورة الحديد: 4.

(4)

سورة المجادلة: 7.

(5)

سورة يونس: 61.

(6)

سورة ق: 16.

(7)

سورة النساء: 108.

ص: 133

وقوله: "إِنَّ الله قِبَل وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى".

وقوله: "إنَّ الله عز وجل يَنصُبُ وَجْهَهُ لِوجْهِ عَبْدِهِ في صَلاتِه مَا لَمْ يَلْتَفِتْ"

(1)

.

• وقوله للذين رفعوا أصواتهم بالذكر: "إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أصَمَّ ولَا غَائِبًا؛ إِنَّكُمُ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَريبًا"

(2)

.

• وفي رواية: "وهو أقْرَبُ إِلَى أَحدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِه

(3)

".

وفي رواية: "هُوَ أَقْرَبُ إلى أحْدِكُمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ".

وقوله: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا [هو] ذَكَرَني وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ"

(4)

.

وقوله: "يَقُولُ الله عز وجل: أنَا مَعَ ظَنِّ عِبْدِي بِي وأنَا مَعَهُ حيث ذكرني، فإنْ ذَكَرني في نفْسِهِ ذَكَرْتُه في نَفْسي، وَإنْ ذَكَرني في مَلأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ منهم، وإن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَربْتُ مِنْه ذِراعًا، وَإنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ منْه بَاعًا، وإن أتانِي يَمْشى أتَيْتُهُ هَرْولةً"

(5)

.

[معنى قرب الله عز وجل]

ومن فهم من شيء من هذه النصوص تشبيهًا أو حلولًا أو اتحادًا فإنما أُتي من جهله وسوء فهمه عن الله عز وجل وعن رسوله، والله ورسوله بريئان من ذلك كله - فسُبحان مَنْ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

* * *

(1)

راجع في هذا كله ما أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 236، بأسانيد صحيحة، وابن ماجه في السنن 1/ 251. من أحاديث أبي هريرة وأبي ذر والحارث الأشعري وابن عمر.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب القدر: باب لا حول ولا قوة إلا بالله 11/ 500 ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والاستغفار: باب استحباب خفض الصوت بالذكر 4/ 2076 - 2077. كلاهما من حديث أبي موسى الأشعري بنحوه.

(3)

راجع ما أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء: باب استحباب خفض الصوت بالذكر 4/ 2076 - 2077.

(4)

أخرجه أحمد في المسند 2/ 540 من حديث أبي هريرة وما بين القوسين منه.

وأخرجه البخاري تعليقًا في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحى 13/ 499 من الفتح وليس فيه لفظ [هو].

(5)

متفق عليه من حديث أبي هريرة؛ فقد أخرجه البخاري في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} 13/ 384، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب الحث على ذكر الله تعالى 4/ 2061، وباب فضل الذكر والدعاء 4/ 2067 - 2068.

ص: 134

[تفسير بكر المزني]

قال بكر المزني: "من مِثْلُكَ يا ابن آدم؟ خُلِّيَ بينك وبين المحراب والماء؟! كلما شِئْتَ دَخَلْتَ على الله عز وجل؟! وليس بينك وبينه تَرْجُمَانٌ"

(1)

.

[متى يستأنس العبد بالله]

ومن وصل إلى استحضار هذا في حال ذكر الله وعبادته استأنس بالله واستوحش من خلقه ضرورة.

[من الآثار في ذلك]

قال ثور بن يزيد: "قرأت في بعض الكتب أن عيسى عليه السلام قال: "يا معشر الحواريين: كَلِّمُوا الله عز وجل كثيرًا وكلموا الناسَ قليلًا" قالوا: كيف نكلم الله كثيرًا؟ قال: "اخْلوا بمناجاته!؟ اخْلُوا بدعائه؟! ".

خرجه أبو نعيم

(2)

.

* * *

وخرج أيضًا بإسناده عن رِيَاحٍ، قال:"كان عندنا رجلٌ يُصَلِّى كلَّ يوم وليلة ألفَ ركعة حتى أُقِعدَ من رجليه فكان يصلي جالسًا كل ليلة ألف ركعة، فإذا صلَّى العصْرَ احتبَى واستقبل القبلة ويقول: عجبت للخليقة كيف أنِسَتْ بسواك؟ بل عجبْتُ للخليقة كيف استنارت قُلُوبُها بذكر سواك؟! "

(3)

.

* * *

وقال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النضر الحارثي فرأيته كأنه ينقبض فقلت: "كأنك تكره أن تُؤتَى؟ ".

قال: أجل!

فقلت: أو ما تستوحش؟

قال: كيف أستوحِشُ وهو يقول أنا جليس من ذكرني؟!

(1)

الحلية 2، 229 باختلاف يسير.

(2)

في الحلية 6/ 194، 195.

(3)

راجع هذا في ترجمة أبي نعيم لرياح في الحلية 6/ 192 - 197 وهو رياح بين عمرو القيسي، المتخشع البكَّاء المتضرع الدَّعَّاء، أبو المهاجر، كان حكيمًا زاهدًا كثير الإنابة إلى الله عز وجل.

ص: 135

وقيل مالك بن مِغْوَل

(1)

- وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟ قال: أو يستوحش مع الله أحد؟

وكان حبيب: أبو محمد يخلو في بيته ويقول: "من لم تَقَرَّ عينُه بكَ فلا قرَّتْ عينه، ومن لم يأنْس بكِ فلا أَنِسَ".

* * *

• وقال غَزْوان: "إني أصبت راحة قلبي في مجالسة مَنْ لديه حاجتي".

* * *

• وقال مسلم بن يسار: "ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل"

(2)

.

• وقال مسلم بن عابد

(3)

: "لولا الجماعة ما خرجْتُ من بابي أبدًا حتى أموت".

• وقال: "ما يَجِدُ المطيعون لله لذةً في الدنيا أَحْلَى من الخَلْوة بمناجاة سَيِّدِهِمْ ولا أحْسَبُ لهم في الآخرة من عَظِيم الثّواب أكْبَرَ في صدورهم وألذَّ في قلوبهم من النظر إليه".

ثم غُشِيَ عليه.

* * *

وعن إبراهيم بن أدهم قال: "أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك، وتستأنِسَ إليه بقلبك وعقلك وجميع جوارحك، حتى لا تَرْجُوَ إِلا رَبَّك، ولا تخافَ إلا ذَنْبَك، وتَرْسَخَ محبتُه في قلبك، حتى لا تؤثِرَ عليها شيئًا؛ فإذا كنتَ كذلك لم تبالِ

(4)

في بَرٍّ كُنْتَ أو في بَحْرٍ أو في سهل أو في جَبَلٍ، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوق الظمآن إلى الماء البارد، وشوق الجائع إلى الطعام الطيّب، ويكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأحلى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف".

* * *

• وقال الفضيل: "طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه"

(5)

.

(1)

في هـ، م:"معفل" وهو تحريف.

(2)

أخرجه أبو نعيم في الحلية 2/ 294.

(3)

ب: "مبارك العابد".

(4)

م: "لم نُنَلْ".

(5)

أخرجه أبو نعيم في الحلية 8/ 108 وترجم له ترجمة مطولة 8/ 84 - 139 برقم 397 بدأها بقوله: ومنهم الراحل =

ص: 136

وقال أبو سليمان: "لا آنسنى الله إلا به أبدا".

* * *

وقال معروف

(1)

لرجل: "توكَّل على الله؛ حتى يكون جليسَك وأنيسَك وموضعَ شكواك".

* * *

• وقال ذو النون

(2)

: "من علامات المحبين لله أن لا يأْنَسُوا بسواه ولا يستوحشوا معه. ثم قال: إذا سكن القلب حُبُّ الله تعالى أنِسَ بالله؛ لأن الله أجلُّ في صدور العارفين أن يحبوا سواه".

[تعقيب]:

وكلام القوم في هذا الباب يطول ذكره جدًّا، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى.

* * *

[بيان أن علوم الفقه والأخلاق والعقيدة والتصوف لا تخرج عن هذا الحديث]:

فَمنْ تأمل ما أشرنا إليه مما دل عليه هذا الحديث العظيم علم

(3)

أن جميع العلوم والمعارف ترجع إلى هذا الحديث، وتدخل تحته، وأن جميع العلماءِ مَنْ فِرَقِ

(4)

هذه

= من المفاوز والقفار، إلى الحصون والحياض، والناقل من المهالك والسباخ إلى الغصون والرياض، أبو علي: الفضيل بن عياض.

كان من الخوف نحيفًا، وللطواف أليفًا.

وكان إبراهيم بن الأشعث يقول: ما رأيت أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل.

(1)

معروف هو معروف الكرخي ترجم له أبو نعيم في الحلية 8/ 360 - 368 بدأها بقوله: ومنهم الملهوف إلى المعروف، عن الفاني معروف، وبالباقي مشغوف، وبالتحف محفوف، وللطف مألوف، الكرخي أبو محفوظ معروف.

والأثر المذكور هنا هو أول ما ذكره في ترجمته عقيب هذا، من حديث محمد بن مسلمة اليامي قال: قال معروف الكرخي لرجل: توكل على الله حتى يكون هو معلمك وأنيسك وموضع شكواك، وليكن ذكر الموت جليسك لا يفارقنك، واعلم أن الشفاء من كل بلاء نزل بك كتمانه، فإن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك، ولا يمنعونك ولا يعطونك".

(2)

هو ذو النون بن إبراهيم المصري ترجم له أبو نعيم في الحلية 9/ 331 - 395 برقم 456 ترجمة ضافية ذكر فيها حكمه وآثاره وذكر في 10/ 3 أنه أسند غير حديث عن الأئمة: مالك والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، والفضل بن عياض، وابن لهيعة.

(3)

في هـ، م:"على" وهو تحريف.

(4)

في هـ، م:"فوق" وهو تصحيف

ص: 137

الأمة لا تخرج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا الحديث وما دلَّ عليه مجملا ومفصلا؛ فإن الفقهاء إنما يتكلمون في العبادات التي هي من جملة خصال الإسلام ويضيفون إلى ذلك: الكلامَ في أحكام الأموال والأَبْضَاعِ والدماء وَكُلُّ ذلك من علم الإِسلام كما سبق التنبيه عليه.

ويبقى كثير

(1)

من علم الإسلام من الآداب والأخلاق وغير ذلك لا يتكلم عليه إلا القليل منهم ولا يتكلمون على معنى الشهادتين، وهما أصل الإسلام كله.

والذين يتكلمون في أصول الديانات يتكلمون على الشهادتين وعلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر.

والذين يتكلمون على علم المعارف والمعاملات يتكلمون على مقام الإِحسان وعلى الأعمال الباطنة التي تدخل في الإيمان أيضًا، كالخشية والمحبة والتوكل والرضا والصبر ونحو ذلك.

فانحصرت العلوم الشرعية التي تتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث، ورجعت كلها إليه.

ففي هذا الحديث وحده كفاية ولله الحمد والمنة

* * *

[الساعة وأمارتها واستئثار الله بعلمها]:

وبقى الكلام على ذكر الساعة من الحديث.

فقول جبريل عليه السلام: أَخْبِرْني عَن السَّاعةِ؛ فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا السئول عنْها بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ".

يعني أن علم الخلق كلّهم في وقت الساعة سواء.

وهذا

(2)

إشارة إلى أن الله تعالى استأثر بعلمها.

ولهذا [جاء أن العالِم. إذا سُئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: لا أعلمه، وأن ذا لا ينقصه شيئا بل هو من ورعه ودينه؛ لأن فوق كل ذي علم عليم]

(3)

.

(1)

ليست في ا.

(2)

في ا، هـ، م:"وهذه".

(3)

ما بين الرقمين ليس في أ.

ص: 138

[أدلة استئثار الله بعلم الساعة]:

‌1 - [من القرآن]:

[و] في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في خمس لا يعلمهن إِلا الله تعالى ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}

(1)

.

وقال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}

(2)

.

‌2 - [ومن السنة]:

وفي صحيح البخاري

(3)

عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلمهُنّ إِلا الله" ثُمَّ قرأ هَذِه الآية: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} .

* * *

وخرجه الإمام أحمد، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُوتِيتُ مَفَاتيحَ كُلِّ شَيءٍ إلا الْخَمْسَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. . . الآية}

(4)

.

• وخرج أيضًا بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أُوتي نبيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيءٍ غيرَ خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. . . الآية}

(5)

.

* * *

[أمارات الساعة]:

وقوله

(6)

: (فأخبرني عن أماراتها) يعني عن علاماتها التي تدل على اقترابها.

(1)

سورة لقمان: 34.

(2)

سورة الأعراف: 187.

(3)

في مواضع منها في أبواب الاستسقاء: باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله 2/ 524 من الفتح وهو الحديث رقم 1039 وأطرافه في الأحاديث أرقام 4627، 4697، 4778، 7379 من صحيح البخاري.

(4)

مسند أحمد 7/ 317 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه.

(5)

مسند أحمد 6/ 100، 127 - 128 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر.

(6)

"أ": "قوله".

ص: 139

• وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(1)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سأُحَدِّثكَ عَنْ أشْرَاطِهَا".

وهي عَلَامَاتُها أيضًا.

[أمارتان]:

• وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للساعة علامتين:

[الأولى: أن تلد الأمة ربَّتها]:

الأولى "أنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَها" والمراد بربتها سيدتها ومالكتها، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ربَّها".

وهذه إشارة إلى فتح البلاد، وكثرة جَلْب الرقيق؛ حتى تكْثُرَ السراري وتَكْثُرَ أولادُهُنَّ فتكون الأمة رقيقةً لسيدها وأولاده منها بمنزلته؛ فإن ولد السيدة بمنزلة السيد فيصير ولدُ الأمة بمنزلة رَبِّهَا وَسَيِّدهَا.

* * *

[استنتاجات الفقهاء من ذلك]:

وذكر "الخطابي"

(2)

أنه استدل بذلك من يقول إن أم الولد؛ إنما تعتق على ولدها من نصيبه من ميراث والده، وأنها تنتقل إلى أولادها بالميراث فتعتق عليهم، وأنها قبل موت سيدها تُبَاعُ.

قال: وفي هذا الاستدلال نظر.

قلت: قد استدل به بعضهم على عكسِ ذلك، وأن أم الولد لا تباع، وأنها تعتق بموت سيدها بكل حال؛ لأنه جعل ولد اللأمة ربَّها فكأن ولدها هو الذي عتقها، فصار عتقا منسوبًا إليه؛ لأنه سبب عتقها؛ فصار كأنه مولاها.

• وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم ولده مارية - لما ولدت إبراهيم عليه السلام "أعْتَقَهَا وَلَدُهَا"

(3)

.

(1)

مضى ص 99.

(2)

في معالم السنن 5/ 71 - 72.

(3)

رواه البيهقي في الكبرى 10/ 346 من طرق بعضها صحيح وبعضها الآخر ضعيف يرتقي إلى الحسن لغيره.

وأخرجه ابن ماجه 2/ 841 والحاكم في المستدرك 2/ 19 والدارقطني في السنن 4/ 131 - 132 كلهم بوجوه عامتها ضعيفة وقد صحيح صاحب التعليق المغني أنه من كلام ابن عمر.

ص: 140

وقد استدل بهذا الإِمام أحمد رضي الله عنه، فإِنه قال في رواية محمد بن الحكمِ عنه:"تلد الأَمَةُ رَبّتَهَا": تكثر أمهات الأولاد، يقول إذا ولدت. فقد عتقت لولدها وقال: فيه حجة أن أمهات الأولاد لا يُبَعْنَ.

وقد فسر قوله: "تلد الأمةُ ربّتها" بأنه يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنت فتعتق ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها وهي جاهلة بأنها أمها. وقد وقع هذا في الإسلام.

وقيل: معناه أن الإماء يَلدْنَ الملوك.

وقال وكيع: "تلد المعجم العرب

(1)

"والعرب ملوك المعجم وأرباب لهم.

[الأمارة الثانية]:

والعلامة الثانية: "أَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُراةَ العَالَةَ" والمراد بالعالة: الفقراء كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}

(2)

.

• وقوله: "رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاولُونَ فِي البُنْيانِ" هكذا في حديث عمر رضي الله عنه.

والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباهَوْن

(3)

بطول البنيان، وزخرفته، وإتقانه.

[أمارات أخرى]:

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ذكر ثلاث علامات منها: "أن يكُون الحُفَاةُ العراةُ رءوس الناس".

ومنها أن يتطاول رُعاة البَهْمِ في البنيان".

• وروى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عطاء عن عبد الله بن بُرَيْدَةَ فقال فيه: "وَأَنْ تَرَى الصُّمَّ البُكْمَ العُمْيَ الحُفَاةَ رِعَاء الشَّاء يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيانِ مُلَوكَ النَّاس" قال: فَقَامَ رَجُلٌ

(4)

فَانْطَلَقَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله! مَنْ هَؤُلَاءِ الذَينَ نَعَتَّ؟ قال: "هُمْ العُرَيْبُ".

وكذا رَوى هذا الحديثَ بهذه اللفظة الأخيرة

(5)

عليُّ بن زيد، عن يحيى بن يعمَر،

(1)

انظر حديث ابن عمر عن عمر في سنن ابن ماجه 1/ 24 - 25.

(2)

سورة الضحى: 8.

(3)

في بعض النسخ: "يتباهوا" وكلاهما جائز عربية.

(4)

في بعض النسخ: "الرجل".

(5)

في ن: "روى هذه اللفظة الأخيرة علي

" والحديث عند المروزي في الصلاة 367، 371.

ص: 141

عن ابن عمر.

وأما الألفاظ الأول فهي في الصحيح من حديث أبي هريرة بمعناها.

* * *

وقوله: "الصّم البُكْمُ العُمْيُ" إشارة إلى جهلهم، وعدم علمهم وفهمهم.

وفي هذا المضى أحاديثُ متعدِّدة.

• فَخَرَّجَ الإمامُ أَحْمدُ والتِّرْمِذِيُّ من حديث حُذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تكُونَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعَ بنَ لُكَعٍ"

(1)

.

• وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"لا تَنْقَضِي الدُّنْيَا حَتَّى تَكونَ عِنْدَ لُكَعِ بن لُكَعٍ"

(2)

.

• وخرج الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْيبَ عَلَى الدُّنْيا لُكَعُ بنُ لُكَعٍ"

(3)

.

• وخرج الإِمام أحمد والطبراني من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"بَينَ يَدَى السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ يُتَّهمُ فِيهَا الأمينُ، وَيؤَتمَنُ فِيهَا المُتَّهَمُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ" قَالوا: وَما الرُّوَيْبِضَة؟ قال: "السَّفِيهُ يَنْطِقُ في أَمْر العَامَّةِ".

وفي رواية: "الفَاسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ"

(4)

.

وفي رواية الإمام أحمدَ: "إنّ بَينْ يَدَي الدَّجال سِنُونَ خَدَّاعَةٌ يُصَدَّق فِيهَا الكَاذبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُخوَّنُ فِيها الأمِينُ، ويُؤتَمنُ فيها الخائنُ، وذَكَرَ باقيه"

(5)

.

(1)

الترمذي في كتاب الفتن 4/ 439 - 494 وقال: هذا حديث حسن غريب. وأحمد في المسند 5/ 389.

(2)

قال في النهاية: 4/ 268 اللكع عند العرب: العبد، ثم استعمل في الحمق والذم، يقال للرجل: لكع وللمرأة لكاع، وأكثر ما يقع في النداء، وهو اللئيم وقيل: الوسخ، وقيل: الصغير. اهـ. وهذا كناية عما سيشير إليه من إسناد الأمر إلى غير أهله.

والحديث في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 8/ 255.

(3)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 326 عن الطبراني في الأوسط وقال: رجاله وثقوا وفي بعضهم ضعف.

(4)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 284 عن أحمد والطبراني في الأوسط وأبي يعلى وقال: فيه ابن إسحاق وهو مدلس، وفي إسناد الطبراني ابن لهيعة وهو لين. لكن أورده ابن حجر في الفتح 13/ 84 عن أحمد وأبي يعلى والبزار، وقال وسنده جيد.

(5)

بقيته عند أحمد: "ويتكلم فيها الرويبضة".

قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الفويسق يتكلم في أمر العامة" وقد رواه من وجهين في المسند 3/ 220.

ص: 142

[مضمون ما ذكر]:

ومضمون ما ذُكِرَ من أشراط الساعة في هذا الحديث يرجع إلى أن الأمورَ تُوَسَّدُ إِلى غير أهلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الساعة:

"إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانتظِر السَّاعَةَ"

(1)

.

[وأدلة ذلك]:

فإنه إذا صار الحفاة العراةُ رِعاءُ الشاءِ، وهم أهل الجهل والجفاء رءوسَ الناس وأصحابَ الثروة والأموال حتى يتطاولوا في البنيان فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا؛ فإنه إذا رأس الناسَ من كان فقيرًا عائلا فصار ملكًا على الناسِ سواء كان ملكه عامًّا أو خاصًّا في بعض الأشياء، فإنه لا يكاد يعطي الناس حقوقهم بل يستأثر عليهم بما استولى عليه من المال؛ فقد قال بعض السلف:"لأن تمد يدَك إلى التِّنِّين فَيَقْضِمَهَا خَيْرٌ لك من أن تَمُدَّها إِلى يد غَنيٍّ قد عالج الفقر"

(2)

.

وإذا كان مع هذا جاهلًا جافيًا فسد بذلك الدين؛ لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، بل همته في جباية المال واكتنازه ولا يبالي بما فسد من دين الناس، ولا بمن ضاع من أهل حاجاتهم.

وفي حديث آخر:

"لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَسُودَ كُلَّ قَبِيلةٍ مُنَافقُوها"

(3)

.

وإذا صار ملوك الناس ورءوسهم على هذه الحال انعكست سائر الأحوال فَصُدِّقَ الكاذب، وكُذِّبَ الصادق، واؤُتمِنَ الخائن، وخُوِّنَ الأَمين، وتَكَلَّم الجاهل، وسَكَتَ العَالِمُ، أو عُدِمَ بالكلية.

كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم: باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل 1/ 141 - 142 بسياقه وقصته وطرفه: 6496.

(2)

هذا قول سفيان الثوري أورده أبو نعيم في الحلية 7/ 22 في ثنايا ترجمته الضافية له؛ لكن باختلاف يسير ونصه عنده: "لأن تدخل يدك في فم التنّين خير لك من أن ترفعها إلى ذي نعمة قد عالج الفقر".

(3)

أورده الهيثمي في المجمع 7/ 327 عن البزار والطبراني من طريقين ضعيفين عن عبد الله بن مسعود وعن أبي بكرة مرفوعا.

ص: 143

"إن مِن أشْراط السَّاعةِ أن يُرفعَ العِلْمُ، وَيَظْهرَ الجهلُ"

(1)

.

وأخبر أنه "يُقْبَضُ العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جُهالا فَسئِلُوا فأفتوا بِغيْر عِلْم؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"

(2)

.

وقال الشعبي: "لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلًا والجهل علما".

وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور.

• وفي صحيح الحاكم عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "إنَّ مِن أَشرَاط السَّاعَةِ أنْ يُوضَعَ الأخيَارُ، ويُرفَعَ الأشْرَارُ

(3)

.

* * *

[التطاول في البنيان وعلام يدل؟]:

وفي قوله: "يتطاولون في البنيان" دليل على ذم التباهي والتفاخر خصوصًا بالتطاول في البنيان.

ولم يكن إطالة البناء معروفًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بل كان بنيانهم قصيرًا بقدر الحاجة.

• وروى أبو الزناد عن الأَعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"لا تقوم السَّاعة، حتى يَتَطَاوَل الناسُ في البُنْيَانِ".

خرجه البخاري

(4)

.

[النهي عن التطاول في البنيان وذمه]:

• وخرج أبو داود من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قُبَّةً مُشْرِفةً عالية فقال: "ما هذه؟ " قالوا: هذه لفلان: رجل من الأنصار فجاء صاحبها

(1)

راجع في هذا ما أخرجه الترمذي في كتاب الفتن: باب ما جاء في أشراط الساعة 4/ 491 من حديث أنس، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث متفق عليه.

(2)

راجع ما أخرجه الترمذي في كتاب العلم: باب ما جاء في ذهاب العلم 5/ 31 من حديث عبد الله بن عمرو وقال هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث متفق عليه.

(3)

في المستدرك 4/ 554 بلفظ: "أن ترفع الأشرار، وتوضع الأخيار" وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي.

(4)

في كتاب الفتن: باب حدثنا مسدد 13/ 81 - 82 من الفتح بسياقه مطولا.

ص: 144

فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَعْرَضَ عنه، فعل ذلك مِرَارًا؛ فهدمها الرجل

(1)

.

• وخرجه الطبراني من وجه آخر عن أنس أيضًا وعنده: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بنَاءٍ - وأشارَ بيده هكذا عَلَى رأسه - أَكْثَرُ مِنْ هذَا فَهَوُ وبالٌ"

(2)

.

• وقال حريث بن السائب عن الحسن: "كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان رضي الله عنه، فأتناول سقفَهَا بيدي".

* * *

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب: "لا تُطيلوا بِنَاءَكم؛ فإنه شَرُّ أَيامِكُمْ".

• وقال يزيد ابن أبي زياد: قال حذيفة لسلمان

(3)

: "ألا نبني لك مسكنًا يا أبا عبد الله؟ قال: لِم؟ لتجعلَني مَلَكًا؟ قال: لا! ولكن نبني لك بيتًا من قصب ونسقفه بالبواري

(4)

إذا قمت كاد أن يصيب

(5)

رأسَك وإذا نمت كاد أن يمسَّ طرفيْك

(6)

قال: كأنك كنتَ في نفسى!؟ ".

* * *

• وعن عمار بن أبي عمار قال: "إذا رَفَعَ الرجل بناءه فوق سبعة أذرع نودي: يا أفسق الفاسقين إلى أين؟ ".

خرّجهُ كُلَّه ابنُ أبي الدنيا.

(1)

سنن أبي داود في كتاب الأدب: باب ما جاء في البناء 5/ 402 - 403 ح 5237.

(2)

الذي في معجم الطبراني في هذا المعنى: عن واثلة وليس عن أنس، فقد روى الطبراني في الكبير من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بنيان وبال على صاحبه إلا ما كان هكذا - وأشار بكفه - وكل علم وبال على صاحبه يوم القيامة إلا من عمل به".

قال الهيثمي: وفيه هانئ بن المتوكل.

قال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به بحال.

أما ما جاء عن أنس في هذا المعنى فهو ما رواه البيهقي في الشعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بناء وبال على صحابه يوم القيامة إلا مسجدًا" وإسناده حسن.

راجع الجامع الصغير وزيادته وجامع الأحاديث 5/ 78 والتيسير بشرح الجامع 2/ 211 - 212.

وحديث أنس عند أبي داود في السنن 5/ 402 - 403 بسياقه كاملا وفي آخره: "أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا إلا مالا" قال أنس: يعني ما لابد منه.

(3)

أورده أبو نعيم في الحلية 1/ 202 في ثنايا ترجمته لسلمان (185 - 208) بنحوه مع اختلاف يسير.

(4)

البواري: جمع باري وبارياء وهو الحصير المنسوج.

(5)

م: "يمسَّ".

(6)

ب: "طرفك".

ص: 145

• وقال يعقوب بن أبي شيبة في مسنده: "بلغني عن ابن عائشة حدثنا ابن أبي شُميلة

(1)

قال: "نزل المسلمون حول المسجد يعني بالبصرة في أخبية الشعرَ ففشا فيهم السرَق؛ فكتبوا إلى عمر؛ فأذن لهما في اليراع؛ فَبَنَوْا بالقصبِ فَفَشَا فيهم الحريق، فكتبوا إلى عمر رضي الله عنه، فأذن لهم في المدر ونهى أن يرفع الرجل سَمْكهُ

(2)

أكثر من سبعة أذرع وقال: إذا بنيتم منه بيوتكم فابنوا منه المسجد".

* * *

[وفي المساجد]:

• قال ابن أبي عائشة

(3)

: وكان عتبة بن غَزْوان بَنَى مسجدَ البصرة بالقصب، قال [وكان يقال] "من صلى فيه وهو من قصب أفضل ممن صلى فيه وهو من لَبنٍ، ومن صلى فيه وهو من لَبِن أفضل

(4)

ممن صلى فيه وهو من آجُرٍّ".

• وخَرج ابن ماجه من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ في المسَاجِدِ"

(5)

.

ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أراكمُ سَتُشَرِّفُون

(6)

مَساجدَكم بعدي كما شَرَّفَت اليهودُ كَنَائِسَها وكما شَرَّفَت النَّصارَى بِيعَهَا"

(7)

.

* * *

• وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن رضي الله عنه قال:"لما بنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مسجدَه قال: "ابنُوهُ عريشا كعريش موسى عليه السلام".

قيل للحَسَن: وما عريشُ موسى؟ قال: إذا رَفع يدَه بلغ العريشَ، يعنى السقف

(8)

.

(1)

م: "شميل" أ "سميلة".

(2)

ب "سقفه" وفي أ: "اسقفه" وهو تحريف.

(3)

م "ابن عائشة" وهو خطأ.

(4)

ب "خير".

(5)

سنن ابن ماجه كتاب المساجد والجماعات: باب تشييد المساجد 1/ 244 وصحيح الجامع 7421.

(6)

في هـ، م: تشرفون أي ستعلونها ولفظ "أراكم" ليس في أ، وهو في السنن.

(7)

سنن ابن ماجه في الموضع المذكور وذكر صاحب الزوائد في هذا أن إسناده ضعيف لضعيف أحد رواته وهو جبارة بن المغلس، متهم بالكذب ثم قال أخرجه أبو داود بسنده عن ابن عباس مرفوعًا بغير هذا السياق.

(8)

أورده ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 215 باختلاف يسير عن البيهقي، من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا عن الحسن بن حماد الضبي، عن عبد الرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: ابنوه عريشا

الحديث. ثم قال ابن كثير: وهذا مرسل.

ص: 146

‌الحديث الثالث

عن أبي عبد الرحمن: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"بُنِىَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادِةِ أن لَا إِلَهَ إِلا الله، وأَنَّ مُحَمدًا عَبْدُهُ وَرسُولُه، وإقَامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزكَاة، وَحَجّ البيتِ

(1)

، وَصَوْمِ رَمَضَانَ". رواه البخاري ومسلم

(2)

.

* * *

[تخريج الحديث]:

• هذا الحديث خرجاه، في الصحيحين من رواية عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن ابن عمر.

وله طرق أخرى عنه.

• وقد رُوي هذا الحديث من رواية جرير بن عبد الله البَجَلي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وخرج حديثَه الإمامُ أحمد

(3)

.

وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكر الإسلام.

[معنى الحديث]:

والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبنيٌّ على هذه الخمس؛ فهي كالأركان والدعائم لبنيانه.

• وقد خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة ولفظه: "بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْس دَعَائِم" فذكره

(4)

.

(1)

ليست في ب.

(2)

البخاري كتاب الإيمان: باب دعاؤكم إيمانكم 1/ 49: ومسلم في كتاب الإيمان. باب بيان أركان الإسلام 1/ 45 من ثلاثة طرق عَن ابن عمر، عدا طريق عكرمة بن خالد.

(3)

في المسند 4/ 363 (حلبي).

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 47 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والصغير وإسناد أحمد صحيح.

(4)

في تعظيم قدر الصلاة 1/ 419 عن حديث ابن عمر مرفوعًا وفي آخره: كذلك سمعناه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 147

[مقصود الحديث]:

• والمقصود تمثيل الإسلام بالبنيان، ودعائم البنيان هذه الخمس، فلا يثبت البنيان بدونها، وبقية خصال الإسلام كَتَتِمَّة البُنْيَان.

فإذا فُقِدَ منها شيء نقص البنيان وهو قائم لا يُنْتقَضُ بنقص ذلك، بخلاف نقص هذه الدعائم الخمس، فإن الإِسلامَ يزول بفقدها جميعها بغير إشكال.

وكذلك يزول بفقد الشهادتين.

[المراد بالشهادتين]:

والمراد بالشهادتين: الإيمانُ بالله ورسوله.

وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقا: "بُني الإسلام على خَمْسٍ: الإِيمان بالله ورسوله" وذكر بقية الحديث.

• وفي روايةٍ لمسلم: "على خمس: على أن يُوحَّد اللهُ عز وجل".

وفي رواية له: "على أن يُعبد الله ويُكْفَر بما دُونه"

(1)

.

[الإيمان داخل ضمن الإسلام]:

وبهذا يعلم أن الإِيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام؛ كما سبق تقريره

(2)

في الحديث الماضي.

[إقام الصلاة وتركها]:

• وأما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فعد خرج من الإِسلام.

ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"بَين الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشرك والكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ"

(3)

.

ورُوي مِثْلُه من حديث بُرَيْدَة وثوبان وأنس وغيرهم.

* * *

(1)

في هـ، م:"توحيد .. تعبد .. تكفر .. " والتصويب عن صحيح مسلم.

(2)

ليست في هـ، ولا في م.

(3)

مسلم في كتاب الإيمان: باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة 1/ 88 من طريقين عن جابر.

ص: 148

• وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"لا تَتْرُكِ الصَّلاةَ مُتَعَمَّدًا؛ فَمَنْ تَركَها مُتَعَمِّدًا فقدْ خَرجَ مِنَ المِلَّةِ"

(1)

.

وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأْسُ الأمْرِ الإسلَامُ، وَعَمُودُه الصَّلَاةُ"

(2)

.

فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط، ولا يثبت إلا به، ولو سقط العمود لسقط الفسطاط، ولم يثبت بدونه.

* * *

• وقال عمر رضي الله عنه: "لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة".

• وقال سعد رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من تركها فقد كفر".

• وقال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئا تركهُ كُفْرٌ إلا الصلاة".

• وقال أيوب السَّخْتياني

(3)

: "ترك الصلاة كفر لا يُختلَفُ فيه".

• وذهب إلى هذا القول جماعةٌ من السلف والخلف.

وحكى قول ابن المبارك وأحمد وإسحق.

وحكى إسحق إجماع أهل العلم عليه.

• وقال محمد بن نصر المروزي: هو قول جمهور أهل الحديث

(4)

.

[من ترك شيئًا من أركان الإسلام]:

وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدًا أنه كافر بذلك.

(1)

في الصلاة 2/ 889 بإسناد ضعيف لكن له شواهد يصح بها على ما ذكره محققه.

(2)

رواه الترمذي في جامعه كتاب الإيمان: باب ما جاء في حرمة الصلاة 5/ 11 - 12 بسياقه مطولا وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن صحيح وسيأتي الكلام عليه في موضعه من الكتاب إن شاء الله.

(3)

في هـ، م:"أبو أيوب" وهو خطأ.

(4)

ب: "أهل العلم من المحدثين".

ص: 149

وروي دلك عن سعيد بن جبير ونافع والحكَم، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، وهو قول ابن حبيب من المالكية.

[ترك الحج]:

• وخرج الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:

قيل: يا رسول الله! الحجُّ كُلّ عام؟ قَالَ: "لو قُلتُ: نَعَم لَوَجَبَ عَلَيكُمْ، وَلَو وَجَبَ عَلَيكُم ما أَطَقْتُموه، ولو تَركْتُموهُ لكفرتُم"

(1)

.

• وخرج اللَّالَكَائي

(2)

من طريق مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيد، عن

(3)

عمرو بن مالك النُّكْرِى، عن أبى الجوزاء

(4)

عن ابن عباس ولا أحسَبُه إلا رفعه قالَ: "عُرَى الإسلَام وقَواعدُ الدين ثلاثةٌ: عَلَيْهن أُسِّسَ الإسْلامُ: شَهادةُ أن لا إله إلا الله والصَّلاةُ [المكتوبة]

(5)

وَصَومُ رَمَضان، مَنْ تَرك مِنْهنَّ وَاحدةً فَهو بِهَا كَافرٌ حَلَالُ الدَّم" وَتَجده

(6)

كَثير المال لَمْ يَحُجَّ فَلَا يَزالُ بِذلك كافرًا وَلَا يَحلُّ دمُهُ وَتَجدُه كَثير المال وَلا

(1)

يشير ابن رجب إلى إحدى روايتي الدارقطني لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس! كتب عليكم الحج. فقام رجل فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه ثم عاد فقال: في كل عام يا رسول الله؟ قال: ومن القائل؟ قالوا: فلان. قال: والذي نفسي بيده! لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما أطقتموها، ولو لم تطيقوها لكفرتم" فأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .

[سورة المائدة] / 101.

راجع سنن الدارقطني 2/ 281 - 282.

وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم في الحج: باب فرض الحج مرة في العمر 2/ 975 بسياقة أخرى عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".

فما ساقه ابن رجب من حديث أبي هريرة عن الدارقطني وغيره لم لكن بنص الدارقطني ولا مسلم ورواه النسائي في السنن أول كتاب الحج 5/ 110 - 111 بنحو ما عند مسلم وكذلك رواه أحمد في المسند 2/ 509 (حلبي) والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 326 والسائل لعله هو الأقرع بن حابس كما جاء في رواية ابن عباس عند البيهقي والنسائي في الموضعين المذكورين.

(2)

في هـ، م: الالكائي وهو تحريف.

(3)

في هـ، م:"ابن عمرو "وهو خطأ.

(4)

في هـ، م:"الجوزي" وهو تحريف.

(5)

عن أبي يعلى.

(6)

من هنا كلام ابن عباس.

ص: 150

يُزكِّى فَلا يَزَالُ بِذَاك كَافِرًا وَلَا يَحِلُّ دَمُه

(1)

.

ورواه قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد موقوفا مختصرًا.

ورواه سعيد بن زيد أخو حماد عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعًا، وقال:

"مَنْ تَركَ مِنْهُنَّ وَاحدِةً فَهُو بالله كَافرٌ، وَلَا يُقْبل مِنْهُ صَرفٌ ولا عَدْلٌ، وَقَدْ حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ".

ولم يَذْكر ما بَعْدَه.

وقد روي عن عمر رضي الله عنه ضَرْبُ الجزية على من لم يحج وقال: "ليسوا بمسلمين".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن تارك الزكاة ليس بمسلم

(2)

.

وعن أحمد - رواية - أن ترك الصلاة والزكاة خاصَّةً كُفْرٌ دون الصيام والحج.

[المرجئة وترك الفرائض]:

• وقال ابن عيينة: المرجئة سَمَّوْا ترك الفرائض ذنبًا بمنزلة ركوب المحارم. وليس سواءً؛ لأن ركوب المحارم متعمدًا من غير استحلالٍ معصيةٌ، وترك الفرائض من غير جهل ولا

(1)

هكذا توهم سياقه ابن رجب للحديث أنه حديث واحد يرويه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والأمر ليس كذلك؛ فهما حديثان أولهما مرفوع والآخر موقوف من كلام ابن عباس من أول قوله: وتجدد كثير المال

الحديث. وقد أورده ابن رجب عن اللالكائي في أصول الاعتقاد 4/ 845 رواية عن مؤمل، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال ولا أحسبه إلا رفعه قال: عرى الإسلام.

وقد تابع اللالكائي أبو يوسف الجيزي ورواه عنه أبو يعلى في مسنده من طريق مؤمل به عن ابن عباس قال حماد: ولا أحسبه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام: من ترك منهن واحدة فهو بها كافر حلال الدم: "شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان" ثم قال ابن عباس: تجده كثير المال لا يزكي فلا يزال بذلك كافرًا ولا يحل دمه، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذكك كافرا ولا يحل دمه".

وهكذا يبين إنهما حديثان وليسا حديثًا واحدًا كما أوهم صنيع ابن رجب.

كما يبين مدى الاختلاف في بعض الكلمات وفي التقديم والتأخير وهو في مسند أبي يعلى 4/ 236. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 47 - 48 عن أبي يعلى بنص الرواية التي أوردها عنه وفيها التحييز بين المرفوع والموقوف وذكر أن إسناده حسن وأن الطبراني روى منهما المرفوع رلما يذكر كلام ابن عباس الموقوف. وعند أبى يعلى: "تجده كثير المال لا يزكي فلا يزال بذلك كافرًا يحل دمه". وربما كانت هذه الرواية هي الأصوب؛ إذ أن الحج واجب على التراخي بخلاف غيره.

(2)

مضى هذا وأثر عمر ص 113.

ص: 151

عذر - هو كفر -.

وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه.

[كفر تارك الصلاة]:

وقد استدل أحمد وإسحق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود لآدم؛ وتركُ السجود لله أعظمْ.

• وفي صحيح مسلم

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قرأ ابنُ آدَمَ السجْدة وسجَدَ اعْتَزل إبليسُ يَبْكى وَيَقولُ: يا ويْلي أمرَ ابنُ آدم بالسُّجود فَسجَدَ فله الجنَّةُ، وأُمرتُ بالسَّجودِ فَأبيتُ فليَ النار".

[هذه الدعائم الخمس مترابطة]:

• واعلم أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض، وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض كما في مسند الإمام أحمد عن زياد بن نعيم الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أربعٌ فَرضَهُنَّ الله في الإسْلَام فَمن أَتى بِثَلاثٍ لَمْ يُغنينَ عنه شَيئًا حَتَّى يَأتي بِهنَّ جَميعًا: الصَّلاةُ والزَّكاةُ وَصَومُ رمضانَ وَحَجُّ البيت"

(2)

.

وهذا مرسل.

وقد روي عن زياد عن عُمارة بن حزم

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم.

• وروي عن عثمان بن عطاء الخرساني عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدينُ خمسٌ لا يقبل الله مِنهن شيئًا دون شيء: شهادة أن لا

(1)

في كتاب الإيمان: باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة 1/ 87.

(2)

رواه أحمد في المسند 4/ 200 - 201، وفيه: فمن جاء بثلاث

وصيام رمضان.

وقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 47 الصحابي الذي أرسل عنه وهو عمارة بن حزم كما سيشير ابن رجب، وقد أورده الهيثمي عن أحمد والطبراني في الكبير وقال: في إسناده ابن لهيعة.

والعجب كيف يورده عن أحمد من حديث عمارة وهو فيه من حديث زياد؟

(3)

في م، هـ:"عمار بن حزم" وهو خطأ فهو عمارة بن حزم بن زيد الأنصارى الخزرجي كان من السبعين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وشهد الشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم وخرج مع خالد لقتال أهل الردَّة فقُتل باليمامة شهيدًا وله ترجمة في الاستيعاب 3/ 1411 والإصابة 4/ 275.

وفي "ا": "

عن عمارة بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين خمس

" وفيه سقط بيّن.

ص: 152

إلهَ إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله

(1)

وإيمانٌ بالله وملائكته كتبهِ ورسله والجنة النار والحياة بعدَ الموت. هذه واحدة والصلوات

(2)

الخَمْسُ عَمُودُ الدين لا يَقبلُ الله الإيمان إلا بالصلاة والزكاةُ طَهُورٌ من الذنوب ولا يَقبلُ الله الإيمان والصَّلاةَ إلا بالزكاة [فَمنَ فَعَل هَؤلاءِ الثَّلاث ثُم جَاءَ رَمَضَانُ فتركَ صيَامَه مُتَعمدًا لَمْ يَقبل الله مِنْه الإِيمانَ وَلا الصَّلاةَ، وَلا الزَّكاة]

(3)

فَمنْ فَعَل هُؤلَاء الأَرْبَع ثمَّ تَيسَّرَ لَهُ الحَجُّ فَلَمُ يَحُجَّ، ولمْ يُوص بِحجَّتِه

(4)

ولمْ يَحجَّ عَنْه بعضُ أهله - لمْ يَقبل الله منه الأربعَ الَّتي قَبلَها".

ذكره ابن أبي حاتم

(5)

وقال: سألت أبي عنه فقال: هذا حديث منكر؛ يحتمل أن هذا من كلام عطاء الخراساني.

قلت: الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر، وَعَطَاءٌ عن أجلاء

(6)

علماء الشام.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من لم يُزَكِّ فلا صلاة له".

ونَفي القبول هنا لا يراد به نفيُ الصحة، ولا وجوبُ الإعادة بتركه وإنما يراد بذلك انتفاءُ الرضا به، ومدح عامله، والثناءِ بذلك عليه في الملأ الأعلى والمباهاةِ به للملائكة.

فمن قام بهذه الأركان على وجهها حصل له القبول بهذا المعنى.

ومن قام ببعضها دون بعض لم يحصل له ذاك، وإن كان لا يعاقَب على ما أتى به منها عقوبة تاركه بل تبرأ به ذمته، وقد يثاب عليه أيضًا.

[ارتكاب محرم قد يمنع قبول طاعة]:

ومن هنا يعلم أن ارتكاب بعض المحرمات التي ينتقص بها الإيمان تكون مانعة عن قبول بعض الطاعات ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

"من شَرِب الخمر لم تُقبلْ له صَلاةٌ أَرْبَعين يومًا"

(7)

.

(1)

م "رسول الله".

(2)

"ا": "والصلاة الخمس" وفيها خطأ بين.

(3)

ما بين الرقمين سقط من ب.

(4)

،

(5)

في العلل 1/ 293 - 294 فيه: "ولم يوص لحجه" وفي ب "بحجه" وأورده ابن أبي حاتم مرة أخرى في العلل 2/ 156 وفيه: "بحجه، ولم يحجج .. ".

(6)

"ب": عن "حلة" وكلاهما صحيح كما في المعجم الوسيط 1/ 131.

(7)

راجع في هذا ما أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 146 من رواية عبد الله بن عمرو وصححه وأقره الذهبي. وانظر ما أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 188. =

ص: 153

وقال: "مَنْ أَتَى عَرافًا فَصَدَّقَهُ بمَا يَقُولُ لم تُقْبَل له صَلاةٌ أَرَبَعِينَ يومًا"

(1)

.

وقال: "أَيُّما عَبدٍ أبَقَ من مَواليِه لَمْ تُقْبلُ له صَلَاةٌ"

(2)

.

* * *

[بطلان القول بزوال الإيمان لزوال بعض أعماله]:

وحديث ابن عمر يستدل به على أن الاسم إذا شمل أشياء متعددة لم يلزم

(3)

زوال الاسم بزوال بعضها؛ فيبطل بذلك قول من قال: إن الإيمان لو دخلت فيه الأعمال للزم أن يزول بزوال عمل مما دخل في مسماه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه الخمس: دعائم الإسلام ومبانيه، وفسر بها الإسلام في حديث جبريل، وفي حديث طلحة بن عبيد الله الذي فيه أن أعرابيًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ففسره له بهذه الخمس.

[والمخالفون لهم يقولون]:

ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون: لو زال من الإسلام خصلة واحدة أو أربع خصال سوى الشهادتين - لم يخرج بذلك من الإسلام.

وقد روى بعضهم أن جبرئيل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام لا عن الإسلام. وهذه اللفظة لم تصح عند أئمة الحديث ونقاده، منهم: أبو زرعة الرازي، ومسلم بن الحجاج، وأبو جعفر العُقَيْلِى وغيرهم.

[ودليل آخر]:

وقد ضرب العلماء مَثَل الإيمان بمثل شجرة لها أصل وفروع وشُعَبٌ، فاسم الشجرة يشتمل على ذلك كله، ولو زال شيء من شعبها وفروعها لم يزل عنها اسم الشجرة، وإنما يقال هي شجرة ناقصة، أو غيرها أتم منها!؟.

وقد ضرب الله مثل الإيمان بذلك في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}

(4)

= وما رواه الترمذي بإسناد حسن 4/ 290 وما رواه النسائي 8/ 316 - 317 من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو في ذلك وأحمد في المسند من حديثيهما كذلك 2/ 176، 189 (حلبي).

(1)

راجع في هذا ما أخرجه مسلم في كتاب السلام: باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان 4/ 1751.

(2)

أخرج مسلم في كتاب إلإيمان: باب تسمية العبد الآبق كافرًا 1/ 83 من حديث جرير بن عبد الله مرفوعًا: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة".

(3)

في م، هـ:"لم يزل" وحمر تحريف.

(4)

سورة إبراهيم: 24.

ص: 154

والمراد بالكلمة: كلمة التوحيد، وبأصلها: التوحيدُ الثابت في القلوب، وأُكُلُها: هو الأعمال الصالحة الناشئة منه.

وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمسلم بالنخلة، ولو زال شيء من فروع النخلة ومن ثمرها لم يَزُل بذلك عنها اسم النخلة بالكلية، وإن كانت ناقصة الفروع أو الثمر

(1)

.

ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا مع أن الجهاد أفضل الأعمال.

[لماذا لم يذكر الجهاد]:

وفي رواية أن ابن عمر رضي الله عنهما قيلَ له: فالجهادُ؟ قال: الجهادُ حسنٌ ولكن هَكَذا حدثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

خرجه الإمام أحمد

(2)

.

* * *

• وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رأْسَ الأمرِ الإِسْلامُ، وعَمُودَهُ الصلاةُ، وذِرْوةَ سَنامه الجهادُ

(3)

.

وذروة سَنامه: أعلى شيء فيه، ولكنه ليس من دعائمه وأركانه التي بني عليها وذلك لوجهين:

أحدهما: أن الجهاد فرض كفاية عند جمهور العلماء، ليس بفرض عين بخلاف هذه الأركان.

والثاني: أن الجهاد لا يستمر فعله إلى آخر الدهر بل إذا نزل عيسى عليه السلام، ولم يبق حينئذ مِلَّةٌ غير

(4)

مِلَّة الإسلام - فحينئذ تضع الحرب أوزارها ويُسْتَغْنى عن الجهاد. بخلاف هذه الأركان فإنها واجبة على المؤمنين إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *

(1)

راجع في هذا ما أخرجه البخاري في كتاب العلم: باب قول المحدث: "حدثنا" أو "أخبرنا" أو "أنبأنا" 1/ 445 ح 61 وأطرافه في 62، 72، 121، 2209. 4698، 5444، 6172، 6144 ومسلم في كتاب صفات المنافقين: باب مثل المؤمن مثل النخلة 4/ 2164 - 2166 من وجوه عديدة، كلاهما من حديث ابن عمر.

وانظر الأمثال للرامهرمزى 99 - 110 وتخريج أحاديث هذا المثل بهامشه.

(2)

راجع ما أخرجه أحمد في المسند 9/ 133 (معارف) وانظر هامشه.

(3)

راجع ما مضى ص: 149.

(4)

م: "إلا".

ص: 155

‌الحديث الرابع

عن أبي عبد الرحمن: عبد الله بن مسعود رضي الله (تعالى) عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال:

"إن أَحدكم يُجْمَعُ خَلقُه في بَطْن أُمِّهِ أربعينَ يومًا نُطْفَةً، ثَم يَكُونُ علَقةً مِثْلَ ذلك، ثم يكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلك، ثم يُرسِلُ الله إليه الملَكَ

(1)

، فَيَنْفُخُ فيه الرّوح وَيؤمر بِأرْبعِ كَلِمَات: بكتْب رِزقِه وعمَله وأجَلِه وشَقيٌّ أو سعيدٌ؛ فوالله الذي لا إله غيْره

(2)

: إِن أحَدَكم ليعملُ بِعمل أَهل الجنة حتى ما يكون بينَه وَبَينَها إلا ذرَاعٌ، فَيسْبقُ عليهِ الكتابُ فيعملُ بِعَمَل أَهل النار فيدْخُلُها؛ وإن أَحَدَكمْ لَيَعْمَلُ بَعَمل أهل النَّار، حتَّى ما يكُون بَينَهُ وَبَينَها إلا ذِراعٌ؛ فَيَسْبقُ عليهِ الكتابُ، فَيَعْملُ بِعملِ أهلِ الجنةِ فيدخلُها". رواه البخاري ومسلم

(3)

.

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث متفق على صحته، وتلقته الأمة بالقبول.

رواه الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود، ومن طريقه خرجه الشيخان في صحيحيهما، وقد روي عن محمد بن يزيد الأَسْفاطي

(4)

قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم فقلت: يا رسول الله! حديث ابن مسعود الذي حدث عنك، فقال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والذي لا إله إلا هو حَدَّثْته به أنا" يقولهُ ثلاثًا ثم قال: غَفَرَ الله للأعمش كَما حدَّثَ بِهِ وَغَفَرَ الله لِمنْ حَدَّثَ بِه قَبْلَ الأَعمشِ وَلِمنْ حدَّثَ بِهِ بَعْدَهُ".

وقد رُوِيَ عن ابن مسعود من وجوه أخر.

[شرح الجملة الأولى في الحديث]:

فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أَحَدكُم يُجمَع خَلْقُه في بطن أمِّه أربعينَ يومًا نطفة".

(1)

م: "ثم يرسل إليه الملك".

(2)

"ا": "فوالذي".

(3)

أخرجه البخاري في أول كتاب القدر 11/ 477 ح 6594 وأطرافه: 3208، 3332، 7454 ومسلم في أول كتاب القدر أيضًا 4/ 2036.

(4)

في م، ص:"محمد بن زيد": وفي م "الأسقاطي" وهذا خطأ فهو محمد بن يزيد بن عبد الملك الأسفاطي روى عن أبي داود الطيالسي ويزيد بن هارون، وروى عنه أبو داود، وابن ماجه قال أبو حاتم، صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات وهو مترجم في التهذيب 9/ 525.

ص: 157

قد روي تفسيره عن ابن مسعود، روى الأعمش عن خيثمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شَعَرِهِ وَظُفُرهِ فتمكث أربعين يومًا ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة قال: فذلك جمعها".

خرجه ابن أبي حاتم وغيره.

* * *

وروي تفسير الجمع مرفوعًا بمعنى آخر، فخرج الطبراني وابن منده في كتاب التوحيد من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إن الله تَعَالَى إذا أَرَادَ خلق عَبدٍ فَجَامَعَ الرَّجلُ المرْأةَ طَارَ ماؤه في كُلِّ عرق وَعُضْو منْهَا، فَإذَا كَانَ يَوَمُ السَّابِع جَمعَهُ الله تَعَالَى ثُمَّ أُحضَرَه في كلِّ عرق لَهُ دَونَ آدم {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} "

(1)

.

فقال ابن منده: إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما

(2)

.

* * *

وخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني من رواية مطهر بن الهيثم عن موسى بن علي بن رياح عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجدِّه يَا فُلان! ما وُلد لك؟ قال يا رسُول الله! ومَا عسى أن يُولَدَ لي إِما غُلامٌ وإِمَّا جاريةٌ؟ قال فَمَنَ يُشْبه؟ قال مَنْ عَسَى أَن يُشْبِهِ؟ يُشْبه أُمَّه أوْ أَبَاهُ؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

"لا تَقُولَنَّ كَذَا

(3)

إن النُّطفةَ إذا استْقَرَّتْ في الرَّحم أَحْضَرَهَا الله كلّ نَسَبِ بَيْنَها وَبَيْنَ آدَمَ، أمَا قَرَأْت هذه الآية:

{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}

(4)

قال: "شَكَّلَكَ"

(5)

.

(1)

سورة الانفطار: 8.

(2)

في و: "رأي" والحديث عند الطبراني في الكبير 19/ 290 ح 644 بنحوه، وفي الصغير، 1/ 70 - 71 ح 100 وأورده الهيثمي في المجمع 7/ 134 عن الطبراني في الثلاثة وقال: رجاله ثقات.

(3)

م: "لا يقولن أحدكم كذا".

(4)

سورة الانفطار: 8.

(5)

في م، هـ، ن، ب:"سلكك". والحديث أخرجه ابن كثير في التفسير 4/ 481 عن أبي حاتم والطبراني وعقب عليه بقوله: وهذا الحديث لو صح لكان فيصلا في هذه الآية ولكن إسناده ليس بالثالث؛ لأن مطهر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس: كان متروك الحديث .. إلخ. وعند ابن كثير في آخر الحديث: "شكلك".

ص: 158

وهذا إسنادٌ ضعيف؛ ومطهر بن الهيثم ضعيف جدًّا

(1)

، وقال البخاري: وهو حديث لم يصح وذكر بإسناده عن موسى بن علي عن أبيه أن أباه لم يسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

يعني أنه لا صحبة له

(2)

.

ويشهد لهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له: ولدت امرأتي غلاما أسود قال: "لعلَّه نَزَعَهُ عِرْقٌ"

(3)

* * *

[شرح الجمل التالية]:

• وقوله: "ثم يكون عَلقة مثل ذلك" يعني أربعين يومًا.

والعلقة قطعة من دم.

"ثم يكون مُضْغَةً مِثْلَ ذلك" يعني أربعين يومًا والمضغة قطعة من لحم.

"ثم يُرْسِلُ الله إليه الملَك فينفُخ فيه الرُّوحَ ويُؤمَر بأربع كلمات بكَتْب رزْقِه وعَمَلِهِ وأَجَلِه وشَقيٌّ أو سعيد".

* * *

[دلالة الحديث]

فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مائة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار، في كل

(1)

ترجم له ابن حبان في المجروحين لوحة 448، 449، وذكر أنه منكر الحديث، يأتي عن موسى بن علي بما لا يتابعَ عليه، وعن غيره من الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، راجع أيضًا ما أورده الذهبي عنه في ميزان الاعتدال 4/ 129، وابن حجر في تهذيب التهذيب 10/ 180.

(2)

راجع ما أورده ابن حجر عن هذا في الإصابة 2/ 192 - 193.

(3)

تبع ابن رجب في هذا ما ذكره ابن كثير في التفسير 4/ 482 تعقيبا على رواية مطهر بن الهيثم فقد قال: لكن في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاما أسود؟ قال: "هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: فهل فيها من أورق؟ قال: نعم قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" فهذا شاهد من الصحيح لرواية مطهر بن الهيثم.

والحديث عند البخاري في كتاب الطلاق: باب إذا عرض بنفي الولد 9/ 442 ح 5305 وطرفاه في: 6847، 7314. وعند مسلم في: كتاب اللعان: 2/ 1137 - 1138، ح 150 من طرق ووجوه عديدة.

ص: 159

أربعين

(1)

يومًا منها يكون في طَورٍ، فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المائة والعشرين يوما ينفخ الملك فيه الروح، ويكتب له هذه الأربع كلمات

(2)

.

[القرآن وأطوار الخلق]:

• وقد ذكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تَقَلُّبَ الجنين في هذه الأطوار، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}

(3)

.

وذكر هذه الأطوار الثلاثة: النطفة والعلقة والمضغة في مواضع متعددة في القرآن.

• وفي موضع آخَرَ ذَكر زيادة عليها فقال في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}

(4)

فهذه سبع تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الروح فيه.

[الآثار فذلك]:

• وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: خلق ابن آدم من سبع ثم يتلو هذه الآية.

وسئل عن العزل فقرأ هذه الآية ثم قال: "فهل يُخلَّق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة"؟.

وفي رواية عنه قال: "فهل تموت نفس حتى تَمُرَّ على هذا الخلق؟ ".

* * *

• وروي عن رفاعة بن رافع قال: جلس إلى عمر علي والزبير وسعد ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكروا العزل فقالوا: لا بأس به. فقال رجل: "إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى"؟ فقال علي رضي الله عنه: "لا تكون مَوْءُودَةً حتى

(1)

ليست في ب: ولا في "ا".

(2)

هكذا في الأصول. ولعله يقصد: "الأربع الكلمات" وفي ا: الأربعة كلمات.

(3)

سورة الحج: 5.

(4)

سورة المؤمنون: 12 - 14 وراجع فيما روي عن ابن عباس مصنف عبد الرزاق 7/ 145.

ص: 160

تَمرَّ على التَّاراتِ السَّبع: تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مُضْغَةً، ثم تكون عظامًا، ثم تكون لحما، ثم تكون خلقًا آخر؟ فقال عمر رضي الله عنه:"صدقت أطال الله بقاءك"

(1)

. رواه الدارقطني في المؤتلف والمختلف

(2)

.

[إسقاط الجنين]:

• وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها ما لم ينفخ فيه الروح وجعلوه كالعزل. وهو قول ضعيف؛ لأن الجنين وَلَدٌ انعقد، وربما تصور، وفي العزل لم يوجد ولد بالكلية، وإنما تسبب إلى منع انعقاده، وقد لا يمتنع انعقاده بالعزل إذا أراد الله انعقاده وخلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن العزل: "لا عَلَيْكُمْ أَن لا تَعْزِلُوا إنه ليس مِنْ نَفْس مَنْفُوسةٍ إِلا الله خالِقُها

(3)

".

* * *

وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علَقَةً لم يَجُزْ للمرأة إسقاطُه؛ لأنه ولد انعقد بخلاف النطفة فإنها لم تنعقد بعد، وقد لا تنعقد ولدًا.

[ذكر العظام في بعض الروايات]:

• وقد ورد في بعض الروايات في

(4)

حديث ابن مسعود رضي الله عنه ذكر العظام وأنه يكون عظما أربعين يومًا، فخرَّج الإمام أحمد رواية علي بن زيد "سمعت أبا عبيدة يُحدِّث قال: قال عبد اللّه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن النُّطفة تكونُ في الرَّحمِ أَربَعينَ يَوْمًا علَى حالها لا تُغيَّرُ فَإِذا مَضَت الأرْبعونَ صَارتْ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغةً كَذَلك ثُمَّ عِظَامًا كَذَلِكَ فإِذَا أراد الله تَعَالَى أن يُسَوِّي خَلْقَهُ بَعَثَ الله إليها مَلَكًا".

وذكر بقية الحديث

(5)

.

* * *

(1)

السنن الكبرى للبيهقي 7/ 230، والإحياء للغزالى 2/ 54، وزاد المعاد 5/ 145.

(2)

2/ 788.

(3)

متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري.

(4)

سقطت من "ا".

(5)

الحديث في مسند أحمد 5/ 187 (المعارف) بإسناد ضعيف على ما ذكر الشيخ أحمد شاكر.

يضاف إلى هذا أن هذه الرواية منقطعة فأبو عبيدة - أحد الرواة فيها - هو ابن عبد الله بن مسعود ولم يسمع من أبيه شيئًا كما في التهذيب 5/ 75. ولكن أحمد لم يقتصر على هذه الرواية في المسند وإنما روى من طريق صحيح الرواية التي أوردها ابن رجب هنا عن الصحيحين رواها في موضعين 6/ 16 - 17 و 6/ 71 - 72 وصنيع ابن رجب يوهم أن أحمد لم يرو إلا تلك الرواية الضعيفة.

ص: 161

• ويروى من حديث عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إِن النُّطفةَ إذا اسْتَقرتْ في الرَّحم تَكُون أَربعينَ ليلةً نُطْفَةً، ثُمَّ تَكُون عَلقةً أَرْبعينَ ليلة، ثُم تكُونُ عِظَامًا أَرْبَعينَ لَيْلةً، ثمَّ يَكْسُو الله الْعِظَامَ لحمًا".

* * *

• ورواية الإمام أحمد تدل على أن الجنين لا يُكْسَى اللَّحْمَ إلا بعد مائة وستين يومًا.

وهذا غلط بلا ريب فيه؛ فإنه بعد مائة وعشرين يومًا ينفخ فيه الروح بلا ريب كما سيأتي ذكره.

وعلي بن زيد هو ابن جُدْعَان؛ لا يُحْتَجُّ به

(1)

.

وقد ورد في حديث حذيفة بن أَسِيد ما يدل على خلق اللحم والعظام في أول الأربعين الثانية، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا مَرَّ بالنُّطَفة اثْنَتَان

(2)

وأربَعُونَ لَيلةً بَعَث الله إليها مَلَكًا فَصَوَّرَها وَخَلقَ سَمْعَها وبَصَرها وجِلْدَهَا ولحمَها وَعِظَامَها، ثمَّ قَالَ: يَا رب! أَذكرٌ أم أنثى؟ فيَقضي رَبُّك ما شاءَ وَيكْتُبُ الملَكُ ثم يَقُولُ: يَارب! أجَلهُ؟ فيقول رَبُّك مَا شاءَ، وَيكْتبُ الملكَ ثُمَّ يَقُول: يا ربّ! رِزْقُه فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاء وَيكتبُ الملَكُ ثُمْ يَخْرجُ الْملَكُ بالصَّحيفَةِ في يده فلا يزيدُ عَلى ما أُمر ولا ينقُصُ

(3)

.

فظاهر هذا الحديث يدل على أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه - يكون في أول الأربعين الثانية فيلزم من ذلك أن يكون في الأربعين الثانية لحما وَعظامًا"

(4)

.

* * *

وقد تأول بعضهم ذلك على أن الملَكَ يُقَسِّمُ النطفة إذا صارت علَقة إلى أجزاء

(1)

ورواه الطبراني في المعجم الصغير رقم 434 بسياقه كاملًا من حديث الهيثم بن الجهم، عن عاصم - به.

ثم قال: لم يروه عن عاصم إلا الهيثم بن الجهم ولا عنه إلا أبو حذيفة تفرد به الحسن بن عرفة، وانظر مجمع الزوائد 7/ 192 - 193. وتعليق الهيثمي على ما أورده عن أحمد والطبراني.

(2)

في مسلم: "ثنتان".

(3)

صحيح مسلم. كتاب القدر: باب كيفية الخلق الآدمي 4/ 2037. من حديث حذيفة لا من حديث ابن مسعود كما قد يتوهم.

(4)

ب: "وعظما".

ص: 162

فيجعل بعضها للجلد، وبعضها للحم، وبعضها للعظام، فيقدر ذلك كله قبل وجوده.

وهذا خلاف ظاهر الحديث، بل الظاهر أنه يصورها، ويخلق هذه الأجزاء كلها.

وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام، وقد يكون هذا في بعض الأجنة دون بعض.

وحديث مالك بن الحويرث المتقدم يدل على أن التصوير يكون للنطفة أيضًا في اليوم السابع؛ وقد قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ}

(1)

وفسر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها.

قال ابن مسعود رضي الله عنه أمشاجها: عروقها

(2)

.

[التفسير الطبي لتكوُّن الجنين]:

• وقد ذكر علماء أهل الطب ما يوافق ذلك وقالوا: إن المنيَّ إذا وقع في الرحم حصل له زَبدِيّة أو رغوة ستة أيام أو سبعة وفي هذه الأيام تصور النطفة من غير استمداد من الرحم ثم بعد ذلك تستمد منه، وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام، وقد يتقدم يوما، ويتأخر يوما، ثم بعد ستة أيام وهو الخامس عشر من وقت العلوق يَنْفُذُ الدم إلى الجميع فيصير عَلَقَةً ثم تتميز الأعضاء تميزًا ظاهرًا، ويتنحى بَعْضُهَا عن مُمَاسَّةِ بَعض وَتمْتدُ لرُطوبَة النُّخاع، ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطرافُ عن الأصابع، تميزًا يستَبين

(3)

في بعض ويخفى في بعض.

قالوا: وأقلُّ مدَّة يتصور الذكر فيها ثلاثون يومًا. والزمان المعتدل في تصور الجنين خمسة وثلاثون يومًا وقد يتصور في خمسة وأربعين يوما.

قالوا: ولم يوجد في الأسقاط ذكر تم قبل ثلاثين يومًا ولا أنثى قبل أربعين

(4)

يوما.

فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفَةَ بْنُ أَسِيدِ في التخليق في الأربعين الثانية ومصيره لحما فيها أيضًا.

[الروايات المختلفة في التخليق والتصوير]:

• وقد حمل

(5)

بعضهم حديث ابن مسعود على أن الجنين يغلب عليه في الأربعين

(1)

سورة الإنسان: 2.

(2)

الدر المنثور 8/ 367.

(3)

ب: "يتبين".

(4)

في م، هـ:"ولم يوجد في الإسقاط ذكر، ثم قيل ثلاثين يوما ولا لأنثى .. " وفيهما تحريف يحيل المعنى.

(5)

في هـ، م:"جعل".

ص: 163

الأولى وصف المني، وفي الأربعين الثانية وصف العلقة، وفي الأربعين الثالثة، وصف المضغة وإن كانت خِلْقتُهُ قد تمت وتم تصويره.

وليس في حديث ابن مسعود ذكر وقت تصوير الجنين.

وقد روي عن ابن مسعود نفسه ما يدل على أن تصويره قد يقع قبل الأربعين الثالثة أيضًا.

فروى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنهم قال: النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملَكٌ فأخذها بكفه فقال: أي رب مُخَلّقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل غير مخلقة لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام دمًا، وإن قيل مخلقة قال: أي رب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما الأجل وما الأثر وبأي أرض تموت؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله فيقال: اذهب إلى الكتاب، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة: قال فتخلّق، فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ في أثرها حتى إذا جاء أجلها ماتت؛ فدفنت في ذلك، ثم تلا الشعبي هذه الآية {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}

(1)

الآية فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نَسَمَة، فإن كانت غير مخلّقة قذفتها الأرحام دما، وإن كانت مُخَلَّقَة نُكِسَتْ نَسَمَةً.

خرجه ابن أبي حاتم وغيره

(2)

.

* * *

• وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه أن لا تصوير قبل ثمانين يومًا. فروى السُّدِّي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}

(3)

قال: "إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوما، ثم تكون عَلَقةً أربعين يومًا، ثم تكون مُضْغَةً أربعين يَوْمًا فإذا بلغ أن تُخَلَّق بعث الله تعالى مَلَكا يُصوِّرُهَا فيأتي الملَكُ بُتَرابٍ بين

(1)

سورة الحج: 5.

(2)

أورده ابن كثير في التفسير 3/ 207 عن أبي حاتم والطبري.

(3)

سورة آل عمران: 6.

ص: 164

أصبعيه فيخلطه في المضغَة ثم يعجنه بها ثم يُصَوِّرها كما يؤمر، فيقول: أذكر أم أنثى؟ أشقي أو سعيد؟ وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره وما مصائبه؟ فيقول الله تبارك وتعالى ويكتب الملك، فإذا مات ذلك الجسد دُفن حيث أُخذ ذلك الترابُ".

خرجه ابن جرير الطبري في تفسيره

(1)

ولكن السُّدِّي مُختلَف في أمره، وكان الإمام أحمد ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد، كما كان هو وغيره ينكرون على الواقدي جمعه الأسانيد المتعددة للحديث الواحد

(2)

.

[من أخذ بظاهر هذا هن الفقهاء]:

• وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية وتأولوا حديث ابن مسعود المرفوع عليها وقالوا: أقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يومًا؛ لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة، ولا يتخلق

(3)

قبل أن يكون مضغة.

• وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي - بناء على هذا الأصل -: إنه لا تنقضي العدة ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلَّقة، وأقل ما يمكن أن تتخلق أو تتصور في أحد وثمانين يومًا.

• وقال أحمد رحمه الله في العلقة: هي دم؛ لا يستبين فيها الخلق.

[تفريعات وتطبيقات في العدة]:

فإن كانت المضغة غيرَ مُخلَّقة فهل تنقضي بها العدة، وتصير أم الولد بها مستولدة؟

على قولين هما روايتان عن أحمد.

وإن لم يظهر فيها التخطيط

(4)

ولكن كان خفيًّا لا يعرفه إلا أهل الخبرة من النساء فشهدن

(5)

بذلك قبلت شهادتهن.

ولا فرق بين أن يكون بعد تمام أربعة أشهر، أو قبلها عند أكثر العلماء.

ونص على ذلك الإمام أحمد في رواية خلق من أصحابه.

ونقل عنه ابنه صالح في الطفل يتبين خلقه في الأربعة.

(1)

تفسير الطبري 6/ 167 - 168 (المعارف) وتفسير ابن كثير 3/ 241 والدر المنثور 3/ 4.

(2)

راجع ما أورده الأستاذان أحمد شاكر ومحمود شاكر بشأن المسألة في تعليقهما على تفسير الطبري 1/ 156 - 160 فقد بحثا الموضوع بحثًا دقيقا مستفيضا.

(3)

م: "يتخلق ويتصور".

(4)

ب: "التخليط".

(5)

في م: "فتشهدن" وهو تحريف.

ص: 165

قال الشعبي: إذا نكس في الخلق الرابع [و] كان مخلقًا انقضت به العدة

(1)

وعتقت به الأمة إذا كان لأربعة أشهر وكذا نقل عنه حنبل: إذا أسقطت أم الولد فإن كان خِلْقَةً تامة عتقت وانقضت به العدة، وإذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح. وهذا يخالف رواية الجماعة عنه.

[وفي العتق]:

وقد قال أحمد في رواية عنه: إذا تبين خلقه ليس فيه اختلاف؛ أنها تعتق بذلك إذا كانت أمة.

ونقل عنه جماعة أيضًا في العلقة إذا تبين أنها ولد: أن الأمة

(2)

تعتق بها وهو قول النخَعي، وحُكِي قولا للشافعي.

ومن أصحابنا من طرَّد هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدة به أيضًا.

[متى يتم التخليق؟]:

وهذا كله مبنيّ على أنه يمكن التخليق في العلقة كما قد يستدل على ذلك بحديث حذيفة بن أَسِيد المتقدم

(3)

إلا أن يُقال: إن حديث حذيفة إنما يدل على أنه يتخلق إذا صار لحما وعظمًا وأن ذلك قد يقع في الأربعين الثانية لا في حال كونه علقة. وفي ذلك نظر

(4)

والله أعلم.

وما ذكره الأطباء يدل على أن العلقة تتخلق وتتخطط وكذلك القوابل من النسوة يشهدن بذلك.

وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال كون الجنين نطفة أيضًا والله أعلم.

* * *

[حديث ابن مسعود ورواياته والتوفيق بينها]:

وبقي

(5)

في حديث ابن مسعود أن بعد مصيره مضغة أنه يبعث إليه الملك فيكتب الكلمات الأربع، وينفخ

(6)

فيه الروح، وذلك كله بعد مائة وعشرين يوما.

(1)

ب: "الرابع كان مخلقا

خلقة تامة العدة إذا".

(2)

ليست في ب.

(3)

سقطت من م. وحديث حذيفة بن أسيد تقدم ص 162.

(4)

هذه الجملة ليست في ب.

(5)

في م: "وما بقى".

(6)

ب: "وتنفخ".

ص: 166

[بين الكتابة ونفخ الروح]:

• واختلفت ألفاظ روايات هذا الحديث في ترتيب

(1)

الكتابة والنفخ؛ ففي رواية البخاري في صحيحه: ويُبعَثُ إليه الملَكُ فَيُؤمَرُ بأربع كلماتٍ ثم يُنفَخ فيه الروح

(2)

. ففي هذه الرواية تصريح بتأخير نفخ الروح عن الكتابة.

* * *

• وفي رواية خرجها البيهقي في كتاب القدر: ثُم يُبْعثُ الملَكُ فينفخ فيه الروح ثم يؤمر بأربع كلمات

(3)

.

وهذه الرواية تصرح بتقديم النفخ على الكتابة: فإما أن يكون هذا من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه، وإما أن يكون المراد ترتيب الأخبار فقط لا ترتيب ما أخبر به.

* * *

[متى تنفخ الروح؟]:

وبكل حال فحديث ابن مسعود رضي الله عنه يدل على تَأَخُّر نفخ الروح في الجنين، وكتابة الملَك لأمره إلى بعد أربعة أشهر حتى تتم الأربعون الثالثة.

* * *

[ما روي عن الصحابة في نفخ الروح وكتابة الملَك]:

• فأما نفخ الروح فقد روُي صريحا عن الصحابة رضي الله عنهم أنه إنما يُنْفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود.

* * *

[ما روي في ذلك عن علي]:

• فروى زيد بن علي عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال: إذا تمت النطفة أربعة أشهر بُعِثَ إليها ملَكٌ فينفُخ فيها الروح في الظلمات، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ

(1)

ليست في ب.

(2)

كما في صحيح البخاري أول كتاب القدر 11/ 477.

(3)

كما في السنن الكبرى للبيهقي 7/ 421 و 10/ 266.

ص: 167

خَلْقًا آخَرَ}

(1)

.

خرجه ابن أبي حاتم، وإسناده

(2)

منقطع.

* * *

[ما روي عن ابن عباس]:

• وخرج اللالكائي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرا، ثم نفخ

(3)

فيها الروح، ثم مكثت أربعين ليلة، ثم بُعِثَ إليها مَلَكٌ فَنقَفَها

(4)

في نُقْرة القفا وكتب شقيا أو سعيدًا.

وفى إسناده نظر. وفيه أن نفخ الروح يتأخر عن الأربعة أشهر بعشرة أيام.

[ما روي عن ابن مسعود]

[وتأسيس مذهب أحمد عليه]:

• وبنى الإمام أحمد مذهبه

(5)

المشهور عنه على ظاهر حديث ابن مسعود، وأن الطفل يُنْفَخُ فيه الروح بعد الأربعة أشهر، وأنه إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر صُلِّي عليه حيث كان قد نفخ فيه الروح ثم مات.

* * *

[ما روي عن سعيد بن المسيب]:

وحكي ذلك أيضًا عن سعيد بن المسيب، وهو أحد قولي الشافعي وإسحاق.

[روايات أخرى عن الإمام أحمد]:

ونقل غير واحد عن أحمد أنه قال: "إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا ففي تلك العشر يُنَفَخُ فيه الروح، ويُصَلَّى عليه".

• وقال في رواية أبي الحارث عنه

(6)

"تكون النَّسَمة نُطْفَةً أربعين ليلة، وعلَقَةً أربعين

(1)

سورة المؤمنون: 14، والأثر أورده ابن كثير في التفسير 3/ 241 عن ابن أبي حاتم.

(2)

"ا"، ب:"وهو إسناد منقطع".

(3)

م: "تنفخ".

(4)

نقفها: ضربها. والخبر أخرجه اللالكائى في أصول الاعتقاد 4/ 597 - 598 بسند ضعيف؛ كما سيشير ابن رجب.

(5)

في هـ، م:"مذهب الشهور".

(6)

سقطت من "ا" وفي م: "لأبي".

ص: 168

ليلة، ومُضغَةً أربعين ليلة، ثم تكون عظمًا ولحمًا، فإذا تم أربعة أشهر وعشرًا نفخ فيه الروح.

[مقارنة بين الروايات]:

فظاهر هذه الرواية أنه لا ينفخ فيه الروح إلا بعد تمام أربعة أشهر وعشر كما روي عن ابن عباس.

والروايات التي قبل هذه عن أحمد إنما تدل على أنه ينفخ فيه الروح في مدة العشر بعد تمام الأربعة وهذا هو المعروف عنه.

• وكذا قال ابن المسيب لما سئل عن عدة الوفاة؛ حيث جعلت أربعة أشهر وعشرا: ما بال العشر؟ قال: "ينفخ فيها الروح"

(1)

.

* * *

[الطب وتصور الجنين]:

• وأما أهل الطب فذكروا أن الجنين إن تصور في خمسة وثلاثين يوما تحرك في سبعين يوما، وولد في مائتين وعشرة أيام. وذلك سبعةُ أشهر وربما تقدم أياما وتأخر في التصوير والولادة.

وإذا كان التصوير في خمسة وأربعين يوما تحرك في تسعين يوما، وولد في مائتين وسبعين يوما، وذلك تسعةُ أشهر والله أعلم.

* * *

[كتابة الملَك ومتى تكون؟]:

وأما كتابة الملك فحديث ابن مسعود يدل على أنها تكون بعد الأربعة أشهر أيضًا على ما سبق.

* * *

• وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَكَّل الله بالرَّحمِ ملكًا يَقُولُ: أي ربِّ! نُطْفةٌ! أي رب عَلَقَةٌ؟ أي رب! مُضغَةٌ؟ فَإِذَا أراد الله أَنْ يَقْضيَ خَلقًا قال:

(1)

أورده ابن حجر في الفتح 11/ 494 من رواية الطبري عنه.

ص: 169

يا رب! أذكرٌ أم أُنثى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيد؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فما الأَجلُ. فَيُكْتَبُ كَذَلكَ في بَطنِ أُمِّهِ"

(1)

.

وظاهر هذا يوافق حديث ابن مسعود، ولكن ليس فيه تقدير مدة، وحديث حُذيفة بن أسِيد - الذي تقدم - يدل على أن الكتابة في أول الأربعين الثانية.

* * *

• وخرجه مسلم أيضًا بلفظ آخر من حديث حذيفة بن أَسِيد يبلغ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يدُخْل الملَكُ على النُّطفة بعد ما تستقر في الرحم بِأربعين أو خمس وأربعين لَيْلةً فيقول: يَا رب! أَشَقِي أمْ سعيدٌ فَيُكْتبان فيقول: أي رب! أذكرٌ أم أَنثى؟ فيكتبان، ويُكْتَبُ عَملُه وَأَثرُه وأجَلُه وَرِزقُه، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحفُ فَلا يُزادُ فيِهَا ولا يُنقَصُ"

(2)

.

* * *

وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا: "إنَّ النطْفةَ تَقَعُ في الرَّحِم أَرَبَعينَ ليلةً ثم يتسور

(3)

عَلَيْها المَلكُ فَيقُولُ يَا رب أذَكرٌ أَمْ أنثَى؟ ". وذكر الحديث

(4)

.

* * *

وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا: لبضعٍ وأربعين ليلةً

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الحيض: باب مخلقة وغير مخلقة 1/ 418 بنحوه ومسلم في أول كتاب القدر 4/ 2038. بنحوه أيضًا ونصه عند مسلم "إن الله عز وجل قد وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب! نطفة. أي رب! علقة، أي رب! مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال: قال الملك: أي رب! أذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه.

(2)

مسلم في أول كتاب القدر 4/ 2037. بهذا اللفظ وفي أ: "أو خمسة وأربعين" بخطأ نحوي ظاهر.

(3)

في مسلم: "يتصور" وقال النووي في شرحه 16/ 194 هكذا هو في جميع نسخ بلادنا يتصور بالصاد، وذكر القاضي: يتسور بالسين قال: المراد بـ "يتسور": ينزل، وهو استعارة من تسورت الدار إذا نزلت فيها من أعلاها، ولا يكون التسور إلا من فوق، فيحتمل أن تكون الصاد الواقعة في نسخ بلادنا مبدلة من السين والله أعلم أ هـ.

وذكر ابن الأثير محملا لغويا لرواية الصاد فقال: يتصور الملك على الرحم أي يسقط، من قولهم: ضربته ضربة تصور منها أي سقط. راجع النهاية 3/ 60.

(4)

مسلم 4/ 2038. من حديث حذيفة بن أسيد أيضًا ونصه عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك، قال زهير: حسبته قال: الذي يخلقها فيقول: يا رب أذكر أو أنثى؟ فيجعله الله ذكرًا أو أنثى، ثم يقول: يا رب! أسوي أو غير سوي؟ فيجعله الله سويا أو غير سوي، ثم يقول: يا رب! ما رزقه؟ ما أجله؟ ما خُلُقُه؟ ثم يجعله الله شقيًّا أو سعيدًا".

(5)

عقب الرواية السابقة.

ص: 170

• وفي مسند الإمام أحمد من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اسَتقرَّت النُّطْفَةُ في الرَّحِم أَربَعين يَومًا أَوْ أرْبعين ليلةً بُعِثَ إليها مَلَكٌ فَيقولُ: [يَا رب! ما رِزْقُه؟ فَيُقَال لَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَب! مَا أَجَلُه؟ فَيُقَال لَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَب! ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى! فَيعلم، فيقول:] يَا رب شَقيّ أَوْ سَعيدٌ؟ فيعلم"

(1)

.

وقد سبق ما رواه الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود من قوله. وظاهره يدل على أن الملك يبعث إليه وهو نطفة

(2)

.

• وقد روى عن ابن مسعود من وجهين آخرين أنه قال: إن اللّه عز وجل تُعْرَضُ عليه كل يوم أعمال بني آدم فينظر فيها ثلاث ساعات، ثم يؤتى بالأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات وهو قوله:

{يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}

(3)

.

وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}

(4)

ويؤتى بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات وتسبحه الملائكة ثلاث ساعات. قال: فهذا من شأنكم، وشأن ربكم. ولكن ليس في هذا

(5)

توقيت ما ينظر فيه من الأرحام بمدة.

* * *

• وقد روي عن جماعة من الصحابة: أن الكتابة في الأربعين الثانية: فخرج اللَّالكائي بإسناده عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: "إذا مكَثت النُّطْفةُ في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها مَلَكٌ فاختلَجَها، ثم عَرَج بِهَا إلى الرحمن عز وجل فيقول: أخْلُق يا أحسن الخالقين! فيقضي اللّه فيها ما يشاء من أمره، ثم تدفع إلى الملك عند ذلك، فيقول يا رب! أسقط أم تمام

(6)

؟ فيبين له، فيقول: يا رب! أناقص الأجل أم تام الأَجل؟ فيبيَّنُ له ويقول؟ يا رب! أواحد أو توأم. فيبين له فيقول: يا رب! أذكر

(1)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 192 عن أحمد في المسند وذكر أن في أحد رواته خلافًا في توثيقه وبقيتهم ثقات والحديث في مسند أحمد 3/ 397 (الحلبي).

(2)

ص (164).

(3)

سورة آل عمران: 6.

(4)

سورة الشورى: 49، 50.

(5)

ب: "بهذه".

(6)

"ا " ح "تام" وما أثبتناه هو الموافق لما في أصول الاعتقاد.

ص: 171

أم أنثى. فيبين له فيقول: يا رب! أشقي أو سعيد. فيبيَّنُ له ثما يقول: يا رب! أقطَعْ له رِزْقَهُ، فيقطع له رزقه مع أجله

(1)

، فَيَهْبِطُ بهما جميعًا، فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسمه له".

* * *

• وخرّج ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن المني يمكث في الرحم أربعين ليلة فيأتيه ملك النفوس فيعرج به إلى الجبار عز وجل فيقول: يا رب! أذكر أم أنثى. فيقضي الله عز وجل

(2)

ما هو قاض، ثم يقول: يا رب! أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق بين يديه، ثم تلا أبو ذر من فاتحة سورة التغابن إلى قوله تعالى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}

(3)

.

وهذا

(4)

كله يوافق ما في حديث حذيفة بن أَسِيد.

* * *

وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كتابة الملَك تكون بعد نفخ الروح بأربعين ليلة، وأن إسناده فيه نظر

(5)

.

[الجمع بين الأحاديث]:

وقد جمع بعضهم بين هذه الأحاديث والآثار وبين حديث ابن مسعود، فأثبت الكتابة مرتين.

وقد يقال مع ذلك: إن إحداهما في السماء والأخرى في بطن الأم.

والأظهر - واللّه أعلم - أنها مرة واحدة.

ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنَّة؛ فبعضهم يكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة.

وقد يقال: إن لفظة "ثم" في حديث ابن مسعود إنما يراد

(6)

بها ترتيب الأخبار، لا ترتيب المخبر عنه في نفسه. واللّه أعلم

(7)

.

(1)

عند اللالكائي: "خلقه" والخبر فيه 4/ 674 - 675 بإسناد ضعيف بنحوه وفي آخره: إلَّا ما قسم له فإذا أكل رزقه قبض.

(2)

ب: "مما".

(3)

سورة التغابن: 3 والخبر أورده السيوطي في الدر المنثور من حديث أبي ذر (8/ 182) مرفوعا وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر.

(4)

م " فهذا".

(5)

ص 168.

(6)

ب: "أريد".

(7)

كما سبق ص 167 - 168.

ص: 172

[وعند المتأخرين]:

• ومن

(1)

المتأخرين من رجح أن الكتابة تكون في أول الأربعين الثانية كما دل عليه حديث حذيفة بن أسِيد، وقال: إنما أخر ذكرها في حديث ابن مسعود إلى ما بعد ذكر المضغة وإن ذُكرت بلفظ "ثم" لئلا ينقطع ذكر الأطوار الثلاثة التي يتقلب فيها الجنين وهي كونه نطفة، وعلقة، ومضغة؛ فإن ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجب وأحسن، ولذلك

(2)

أخر المعطوف عليها وإن كان المعطوف

(3)

متقدما على بعضها في الترتيب، واستشهد لذلك بقوله تعالى:

{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}

(4)

.

والمراد بالإنسان: آدم عليه السلام.

ومعلوم أن تسويته ونفخ الروح فيه كان قبل جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ولكن لما كان المقصود ذكر قدرة اللّه عز وجل في مبدأ خلق آدم، وخلق نسله - عطف ذكر أحدهما على الآخر، وأخر ذكر تسوية آدم ونفخ الروح فيه، وإن كان ذلك متوسطًا بين خلق آدم من طين، وبين خلق نسله. واللّه أعلم.

* * *

[الكتابة بين عيني الجنين]:

• وقد ورد أن هذه الكتابة تكتب بين عيني الجنين؛ ففي مسند البزار عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا خَلَقَ اللّه النَّسَمةَ قَالَ مَلَكُ الأرحام: أي رب! أَذَكَرٌ أَمْ أنثى؟ قَالَ: فَيَقْضي اللّه إِليْهِ أمره

(5)

ثُمَّ يَقُول: أي رب! أَشَقيُّ أم سعيد؟ فَيَقْضي اللّه إِلَيْهِ أمره، ثم يُكْتَبُ بَينْ عَيْنَيه مَا هُوَ لاقٍ حَتَّى النَّكْبةِ يُنْكَبُهَا"

(6)

.

وقد ورد موقوفا على ابن عمر غير مرفوع.

وحديث حذيفة بن أَسِيد المتقدم

(7)

صريح في أن الملَك يكتب ذلك في صحيفة.

(1)

من هنا إلى قوله: "واللّه أعلم" في الصحيفة التالية سقط من "ا".

(2)

ب: "فلذلك".

(3)

ليست في ب.

(4)

سورة السجدة: 7 - 9.

(5)

ليست في ب.

(6)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 193 عن أبي يعلى والبزار وقال: رجال أبي يعلى رجال الصحيح.

(7)

ص 162.

ص: 173

ولعله يكتب في صحيفة:

(1)

، ويكتب بين عيني الولد.

* * *

[وصفات الوليد]:

• وقد روي أنه يقترن بهذه الكتابة أنه يخلق مع الجنين ما تضمنته من صفاته القائمة.

• فروي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِن اللّه إِذَا أرَاد أن يَخْلُق الخلق بَعَث مَلَكًا فَدَخل الرَّحمَ فَيَقولُ: أَي رب! ماذا؟ فَيَقُولُ: غُلامٌ أَوْ جاريةٌ أوْ مَا شاءَ أَن يَخلْق في الرَّحم، فَيقُول: أي رب!

(2)

أَشَقيٌّ أَمْ سَعيدٌ؟ [فيقول ما شاء] فيقول: يا رَبِّ! ما أَجَله؟ فَيَقولُ: كَذَا وَكَذَا [فيقول: يا رب! ما رزقه؟ فيقول: كذا وكذا]

(3)

فَيقُول: [يا رب!]

(4)

مَا خَلْقهُ؟ ما خلائقه؟ فَيَقول: كَذَا وَكَذَا، فَما مِنْ شَيْءٍ إلا وَهُو يُخلقُ مَعَه في الرَّحم".

• خرجه أبو داود في كتاب القدر والبزار في مسنده

(5)

.

* * *

[سبق القدر]:

وبكل حال فهذه الكتابة التي تكتب للجنين في بطن أمه غير كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائق المذكورة في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}

(6)

كما في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللّه قَدَّرَ مَقَادير الخلائق قَبْلَ أنْ يَخْلق السَّموات والأرض بِخمْسِين ألفَ سَنَةٍ"

(7)

.

* * *

• وفي حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللّه القَلَم،

(1)

م: "صحيفته".

(2)

م: "أرى رب". وهو تحريف.

(3)

،

(4)

ما بين القوسين من المجمع.

(5)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 193 وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.

(6)

سورة الحديد: 22.

(7)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب القدر: باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 4/ 2044 بلفظ: "كتب اللّه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقال: كان عرشه على الماء". قيل: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير: فإن ذلك أزلي لا أول له.

ص: 174

قَالَ لَهُ: اكْتبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائنٌ إلى يَومِ القيامة"

(1)

.

* * *

وقد سبق ذكر ما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه

(2)

أن الملَك إذا سأل عن حال النطفة أمر أن يذهب إلى الكتاب السابق ويقال له: إنك تجد فيه قصة هذه النطفة.

* * *

[النصوص في سبق القدر]:

وقد تكاثرت النصوص بذكر الكتاب السابق بالسعادة والشقاوة.

* * *

[من حديث علي]:

• ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلا وَقَدْ كَتَبَ اللّه مَكانَها مِنَ الجَنَّةِ أَو النَّار

(3)

وإلَّا وقد كُتبتْ شَقِيَّة أَو سَعيدةً" فَقَالَ رَجلٌ: يَا رَسُول اللّه! أفلا نمكُثُ عَلَى كِتَابنَا وَنَدَعُ الْعمَلَ؟ فَقَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ. أَمَّا أَهْلُ السَّعادَة فَيُيَسَّرُونَ لِعَمل أَهْلِ السَّعَادَة، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعمَل أهل الشَّقَاوَة ثُمَّ قَرَأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}

(4)

.

• ففي

(5)

هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلا ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب للسعادة

(6)

أو الشقاوة.

* * *

(1)

أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب سورة "ن" 5/ 424. وقال: هذا حديث حسن غريب.

وأبو داود السجستاني في سننه: كتاب السنة: باب القدر 5/ 76.

وأبو داود الطيالسي في مسنده 1/ 30.

وابن كثير في التفسير 4/ 401.

(2)

ص 164.

(3)

ب: "والنار".

(4)

الآيات من سورة الليل 5 - 10، والحديث أخرجه البخاري في مواطن من صحيحه منها في تفسير سورة الليل 8/ 708 - 709 من طرق ووجوه عدة.

ومسلم في صحيحه: كتاب القدر: باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه 4/ 2039 - 2040.

(5)

م: "وفي".

(6)

م: "السعادة".

ص: 175

[من حديث عمران بن حُصَين]:

• وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رسُول اللّه! أَيُعرَف أهْلُ الجنّةِ مِنْ أَهل النَّار؟ قالَ: "نعم" قَالَ: فَلِمَ يَعْمَل العَامِلُون؟ قَالَ: "كُلٌّ يَعْملُ لِما خُلِقَ لَهُ، أو لما يُسِّرَ لَهُ"

(1)

.

* * *

[حديث ابن مسعود]:

• وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة.

وحديث ابن مسعود فيه أن السعادة والشقاوة بحسب خواتيم الأعمال. وقد قيل إن قوله في آخر الحديث: "فَوَاللّه الَّذي لا إله غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمل يعَمَل أَهلِ الجنّة" إلى آخر الحديث - مدرج من كلام ابن مسعود - كذلك رواه سلمة

(2)

بن كُهَيْلٍ، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعودِ من قوله.

وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة أيضًا.

* * *

[الأعمال بالخواتيم وحديث سهل بن سعد]:

• وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّما الأَعْمَالُ بِالخواتيِم"

(3)

.

* * *

[حديث عائشة]:

• وفي صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا الأعْمَالُ بالخوَاتيم

(4)

".

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} 13/ 521.

ومسلم في كتاب القدر: باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه 4/ 2041.

كلاهما بنحوه وفي ب: "ييسر له".

(2)

في هـ، م، "مسلم" وهو تحريف وقد قوى ابن حجر في الفتح 11/ 495 أن الحديث جميعه مرفوع وأن الإدراج في القَسَم لا في المقسم عليه وذكر أن هذا غاية التحقيق في هذا الموضع وانظر تفصيله فيه.

(3)

في كتاب الرقاق: باب الأعمال بالخواتيم 11/ 337 بسياقه كاملا.

(4)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 2/ 52 ح 340 بهذا النص وبإسناد ضعيف يتقوى بشواهده.

ص: 176

[ومعاوية]:

• وفيه أيضا عن معاوية قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّما الأَعْمَالُ بخواتيمها كَالْوِعَاء إِذا طَاب أَعْلاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإذَا خَبثَ أَعْلاهُ خَبُث أسْفَلُهُ"

(1)

.

* * *

[وأبي هريرة]:

• وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الرَّجُل لَيعْمَلُ الزَّمَانَ الطَّويلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنّةِ ثم يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلٍ النَّارِ، وَإنَّ إلرَّجُلَ لَيَعْملُ الزَّمَان الطَّويلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّار، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلهُ بِعَمَلِ أهْل الجَنَّةِ

(2)

.

* * *

[وأنس]:

• وخرج الإمام أحمد رحمه اللّه تعالى من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ العَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمُرِه أو بُرْهَةً مِنْ دَهرِه بِعَمَل صَالحٍ لَوْ مَات عَلَيه دَخَل الجنَّة، ثُمَّ يَتَحول فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا وَإِنَّ العَبْد لَيَعْمل البرهَة مِنْ عُمُره بِعَمَلٍ سَيئ لَوْ مَاتَ عَلَيْه دَخَل النَّار، ثُمَّ يَتَحَولُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالحًا

(3)

".

[وعائشة أيضًا]:

• وخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الرَّجلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ الجنَّةِ وَهُوَ مَكْتُوبٌ

(4)

في الكتاب منْ أَهْلِ النَّار فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِه تَحَوَّلَ فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّار فَمَاتَ فَدَخلَ النَّار، وإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَملِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ لَمكْتُوبٌ في الكِتابِ مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ فَإِذَا كَانَ قَبْل مَوتِه تَحَوَّل فَعَمِل بِعَمل أهْل الجنّة فَمَاتَ

(1)

الإحسان 2/ 51 ح 339 بإسناد حسن.

(2)

مسلم: كتاب القدر باب كيفية الخلق الآدمى 4/ 2042.

(3)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 211 عن أحمد وأبى يعلى البزار والطبراني ثم قال: ورجاله رجال الصحيح.

(4)

مسند أحمد: "وإنه المكتوب" وتتمة الحديث عند أحمد: وإذا أراد اللّه بعبد خيرًا استعمله قبل موته قالوا: يا رسول الله! وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه" وفي ب: "البرهة من دهره".

ص: 177

فَدَخَلَهَا"

(1)

.

* * *

[وعبد اللّه بن عمرو]:

• وخرَّج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الكتِابَانِ؟ فَقُلْنَا: لا يَا رَسُول اللّه! إِلا أَنْ تُخْبرنَا؟ فَقَالَ للِذي في يَده اليُمْنَى: هَذا كِتابٌ مِنْ ربّ العَالَمينَ فِيه أَسْمَاءُ أَهْل الجنَّة وأَسْماءُ آبائهم وقبائلهم ثُمَّ أجْمِل

(2)

عَلى آخرهم فَلا يُزَادُ فيهمْ وَلا يُنْقَص مِنْهمْ أَبَدًا، ثَمَّ قال للذي في شِماله: هَذَا كِتَابٌ منْ رَبِّ العَالمين فيه أسماء أَهْل النَّار وَأَسْماءُ آبَائهِم وَقَبَائلهم ثُمَّ أُجْمِل عَلَى آخرهم؛ فَلا يُزَادُ فِيهمْ وَلا يُنْقَص مِنْهُمْ أبدًا: فَقَالَ أَصحَابُه: فَفِيم العَمَلُ يَا رَسُول اللّه إِن كَانَ أمْرًا قَد فُرِغَ منه؟ " فَقَالَ: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا؛ فَإِنَّ صَاحِب الجنّة يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَل أهْل الجنَّةَ وإنْ عَمل أَيَّ عَمَل، وإِنَّ صَاحِبَ النَّار يَخْتُمُ لَهُ بِعَمَل أهْلِ النَّار وإنْ عَمِلَ أيّ عَمَلٍ" ثُمَّ قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم بِيدَيْه

(3)

فَنَبَذَهُمَا ثُمَّ قالَ: فَرغَ رَبُّكَمْ من العِبَادِ فريقٌ فِي الجنَّةِ وفَريقٌ في السَّعير

(4)

.

* * *

[وعليّ]:

• وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وخرجه الطبراني من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه: "صَاحبُ الجنَّة مَخْتُومٌ لَهُ بِعَملِ أَهْل الجنّةِ وَصَاحبُ النَّار مَخْتُومُ لَهُ بعَمَلِ أهَل النَّار وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ"

(1)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 117 - 212 عن أحمد وأبي يعلى وذكر أن بعض أسانيدهما رجاله رجال الصحيح.

والحديث في مسند أحمد 6/ 107 (الحلبي).

(2)

قال في النهاية 1/ 297 - 298: أجملت الحساب إذا جمعت آحاده، وكَمَّلتَ أفراده أي أحصوا وجمعوا فلا يزاد فيهم ولا يُنقص.

(3)

أي أشار بهما وفي "ا": "بيده" وهو تحريف.

(4)

أخرجه الترمذي في كتاب القدر: باب ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار 4/ 449 وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.

وأحمد في المسند 10/ 85 - 71 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه العلامة الشيخ شاكر وأخرجه النسائي في الكبرى كما في التحفة 6/ 343.

ص: 178

وقَد يُسلكُ بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة

(1)

حتى يقال: ما أشبههم بهم بل هم منهم وتدركهم السعادة فتستنقذهم، وقد يسلك بأهل الشقاء طريق أهل السعادة حتى يقال: ما أشبههم بهم بل هم منهم ويُدْركهم الشقاءُ: من كتبه اللّه سعيدًا في أم الكتاب لم يخرجه من الدنيا حتى يستعمله بعمل يُسعده قبل موته ولو بفواق ناقة"، ثم قال: "الأعمال بخواتيمها الأعمال بخواتيمها"

(2)

.

[وابن عمر]:

• وخرجه البزار في مسنده بهذا المعنى أيضًا من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

[وسهل بن سعد]:

• وفي الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم الْتقى هو والمشركون وفي أصحابه رجل لا يدع شاذَّة ولا فاذَّة

(4)

إلا اتَّبعها يضربها بسيفه فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "هُوَ مِنْ أَهْل النَّار" فَقَال رَجُلٌ مِنَ القَومِ: أنَا صَاحِبُه فَاتَّبعَه فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا فاسْتَعْجَلَ الموْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيَفِه عَلَى الأرْضِ، وَذُبَابَهُ

(5)

بَينْ ثَدْيَيْه، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرجَ الرَّجُلُ إلى رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسَولُ اللّه! وَقَصَّ عَليْه القِصَّة؛ فَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجنَّةِ فِيمَا يَبْدُو للِنَّاس وَهُوَ مِن أَهْلِ النّار وَإنَّ الرُّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدو للّناسِ وَهُوَ مِنْ أهْلِ الجنّةِ.

- زاد البخاري رواية له: إِنَّمَا الأعمالُ بالخواتيم"

(6)

.

(1)

في المجمع: "الشقاء".

(2)

في المجمع 7/ 213 الأعمال بخواتيمها: ثلاثا.

قال الهيثمي: له حديث في الصحيح في القدر غير هذا.

رواه الطبراني في الأوسط وفيه حماد بن واقد الصفار وهو ضعيف.

(3)

راجع مجمع الزوائد في الوطن المذكور.

(4)

الشاذ والشاذة: الخارج والخارجة عن الجماعة، وأنث الكلمة على معنى النسمة، أو على تشبيه الخارج بشاذة الغنم ومعناه أنه لا يدع أحدًا، على طريق المبالغة، قال ابن الأعرابي: يقال فلان لا يدع شاذة ولا فاذة إذا كان شجاعًا لا يلقاه أحد إلا قتله.

وهذا الرجل الذي كان لا يدع شاذة ولا فاذة يدعى قزمان وكان منافقًا، راجع ما أورده النووي في هذا عن الخطيب البغدادي والقاضي عياض وغيرهما في شرحه على مسلم 1/ 123.

(5)

ذباب السيف طرفه، وفي "ب":"أنا أصاحبه" وما أثبتناه هو الموافق للصحيحين.

(6)

القصة بسياقها في صحيح مسلم: كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه 1/ 106 وعند البخاري في كتاب الرقاق: باب الأعمال بالخواتيم 11/ 330 من الفتح. وطرفاه 2898، 4202.

ص: 179

[شرح الحديث]:

وقوله فيما يبدو للناس إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس: إما من جهة عمل سَيّئ ونحو ذلك؛ فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت.

وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير؛ فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره؛ فتوجب له حُسْنَ الخاتمة.

• قال عبد العزيز بن أبي رَوَّاد: "حضرت رجلًا عند الموت يلقن الشهادة

(1)

: لا إله إلا الله - فقال في آخر ما قال هو كافر بما تقول ومات على ذلك قال: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر".

فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب؛ فإنها هي التي أوقعته.

* * *

[الخواتيم ميراث السوابق]:

وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق فكل ذلك سبق في الكتاب السابق.

[خوف السلف]:

ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق. وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم يقولون بماذا يختم لنا، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا؟.

[بكاء السلف عند الموت]:

وبكى بعض الصحابة عند موته فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللّه تعالى قبض خلقه قبضتين فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، ولا أدري في أي القبضتين كنت

(2)

".

• قال بعض السلف: "ما أبكى العيون ما أبكاها الكتابُ السابق! ".

(1)

ليست في "ا"، ولا في ب.

(2)

مسند أحمد 4/ 176، 177 من حديث أبي نضرة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد اللّه، وقد أورده الهيثمي في المجمع (7/ 188) أول كتاب القدر عن أحمد بسياقه تاما، وذكر أن رجاله رجال الصحيح.

ص: 180

• وقال سفيان لبعض الصالحين: "هل أبكاك قط علم اللّه فيك؟ " فقال له ذلك الرجل: "تركتنى لا أفرح أبدًا".

• وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتيم فكان يبكي ويقول: "أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا ويبكي ويقول أخاف أن أُسْلَبَ الإيمانَ عند الموت

(1)

".

• وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضا على لحيته، ويقول: "يا رب! قد علمتَ ساكنَ الجنة من ساكنِ النار ففي أي الدارين منزل مالك

(2)

؟ ".

• قال حاتم الأصم: "من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار فهو مغتر فلا يأمن الشقاء": "الأول: خطر يوم الميثاق حين قال: هؤلاءِ في الجنة ولا أبالى، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا يعلم في أي الفريقين كان؟ ".

"الثاني: حين خلق في ظلمات ثلاث فنودي الملك بالشقاوة والسعادة، ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟ ".

"والثالث: ذكر هول المطلع ولا يدري أيبشر برضاء اللّه أو بسخطه؟ ".

"والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتا ولا يدري أيُّ الطريقين يُسْلَكُ به".

* * *

وقال سهل التُّسْتَرِى: المريد يخاف أن يُبتلَى بالمعاصي! والعارف يخاف أن يبتلَى بالكفر! ".

* * *

[خوف النفاق]:

ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه؛ فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجَه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة

(3)

.

(1)

صدر الأثر في الحلية 7/ 51.

(2)

ص 180.

(3)

أورده أبو نعيم في الحلية 2/ 383.

ص: 181

[طَلَبُ التثبيت]:

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِر أَنْ يَقُول في دُعَائِهِ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوب ثَبتْ قَلْبي عَلَى دِينِكَ! " فَقيلَ لَهُ يَا نَبيَّ اللّه! آمَنَّا بِك وَبمَا جئت بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنا؟ فقال: "نَعَم إِنَّ القُلوبَ بَبنْ أصْبعَيْن مِنْ أَصابِع الرَّحْمَن عز وجل يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ".

خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس

(1)

.

• وخرج الإمام أحمد من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: "اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القْلُوب ثَبِّتْ قَلْبي عَلَى دِينك" فقلت: يا رسول اللّه

(2)

وإنَّ القَلْب لِيُقَلَّبُ؟ قَال: "نَعَم مَا مِنْ خَلْقِ اللّه منْ بَني آدَمَ من بَشَر إِلا أَنَّ قَلْبَهُ بينَ أُصبُعين مِنْ أصابع اللّه عز وجل فَإِنْ شَاءَ اللّهَ عز وجل أَقَامَه وإنْ شَاءَ أَزَاغَهُ؛ فَنَسْأَلُ اللّه رَبَّنا أَنْ لما يُزِيغَ قُلُوبنا بَعْدَ إذ هَدَانا، وَنَسْألُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لدنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُو الوَهَّابُ".

قالت: قلت: يا رسول اللّه! ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: "بلى! قولي: الَّلهُمَّ رَبَّ النَّبي مُحَمَّد اغْفِرْ لي ذَنْبى، وأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبى، وَأَجِرْنِى مِنْ مُضِلَّاتِ الفتنِ ما أحْيَيْتَنى"

(3)

.

وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرة.

* * *

• وخرج مسلم من حديث عبد اللّه بن عمرو سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ قُلُوبَ بَني آدَم كُلَّها بَينَ أصْبُعَين مِنْ أصابع الرَّحْمنَ عز وجل كَقَلْب وَاحدٍ، يُصَرِّفُهُ حيث يَشَاء" ثُمَّ قَال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمّ مُصَرِّف القُلوُبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِك"

(4)

.

* * *

(1)

أخرجه الترمذي في كتاب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن 4/ 448 - 449 وذكر أبو عيسى أن حديث أنس أصح ما في الباب. وأحمد في المسند 3/ 112، 257 (حلبي).

(2)

"ا": "اللهم مقلب" في هـ، م، ن: أو إن القلوب لتتقلب، أ: وإن القلوب لتتقلب؟

(3)

أخرجه أحمد في المسند 6/ 294، 301 - 302، 315 (حلبي) وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات 5/ 538 وقال حديث حسن.

(4)

أخرجه مسلم في كتاب القدر: باب تصريف اللّه تعالى القلوب كيف شاء 4 - 2045.

ص: 182

‌الحديث الخامس

عن أم المؤمنين: أم عبد اللّه

(1)

عائشه رضي الله عنها قالت قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُو رَدٌّ". رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية لمسلم: "مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".

* * *

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية القاسم بن محمد عن عمته عائشة رضى اللّه عنها

(2)

وألفاظه مختلفة

(3)

ومعناها متقارب وفي بعض ألفاظه: "من أحدث في ديننا ما ليس فيه

(4)

فهو رد".

[قيمة الحديث]:

وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها [كما أن حديث الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها]

(5)

. فكما أن كل عمل لا يراد به وجه اللّه تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل كمل لما يكون عليه أمر اللّه ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به اللّه ورسوله فليس من الدين في شيء.

* * *

• وسيأتي حديث العرباض بن سارية

(6)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله: "مَنْ يَعِشْ مِنكُم

(1)

الذي كنَّاها أم عبد اللّه هو النبي صلى الله عليه وسلم قيل لأن عبد اللّه بن الزبير تربى عندها وهي خالته، وقيل: لأنها أسقطت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سقطا فسماه عبد اللّه. راجع البداية والنهاية 8/ 91.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح رد 5/ 301 ومسلم بروايتيه اللتين أشار إليهما ابن رجب في كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور 3/ 1343، 1344.

(3)

في ن، ب:"وألفاظ الحديث مختلفة".

(4)

في ن "منه" وما أثبتناه عن النسخ الأخرى موافق لما في البخاري.

(5)

ما بين الرقمين سقط من ب وفي م: كما أن حديث الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها، وهو ميزان للأعمال في ظاهرها.

(6)

هو الحديث الثامن والعشرون من الكتاب.

ص: 183

بَعْدى فَسَيَرى اخْتِلافًا كَثيرًا فَعَليْكُمْ بسُنَّتى وَسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدينَ المهْدِيِّين مِنْ بَعْدِى عضُّوا عَليْها بِالنَّواجِذِ وإيَّاكم وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ؛ فَإنّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةُ".

* * *

• وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "إِن أَصْدَقَ الحَديت كِتَابُ اللّه، وخَيْرَ الهَدْى هديُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَشَرَّ الأمُورِ محدَثَاتُها"

(1)

.

[الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع]:

وسنؤخر الكلام على المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه.

ونتكلم ههنا على الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع وردِّها. فهذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود.

ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود.

والمراد بأمره ههنا دينه وشرعه كالمراد بقوله في الرواية الأخرى "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

فالمعنى - إذًا - أن من كان عمله خارجًا عن الشرع ليس متقيدًا بالشرع فهو مردود.

[معنى قوله: ليس عليه أمرنا]:

وقوله "ليس عليه أمرنا" إشارة إلى أن أعمال العاملين كلِّهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة؛ فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها؛ فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشريعة، موافقًا لها فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك فهو مردود.

* * *

[الأعمال: عبادات ومعاملات]:

• والأعمال قسمان: عبادات ومعاملات. فأما العبادات فما كان منها خارجًا عن

(1)

رواه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة 2/ 592 من حديث جابر وعنده: "فإن خير الحديث" والنسائي 3/ 188 - 198 وعنده: "وأحسن الهدى" وابن ماجه 1/ 17 وعنده: "فإن خير الأمور" وأحمد في المسند 3: 310، 317 وعنده:"وإن أفضل الهدى""إن خير الحديث" كلهم عن حديث جابر، ولم يرد بالنص الذي أورده ابن رجب في أي من هذه المواضع. وعند ابن ماجه من حديث ابن مسعود بنحوه عقب الموضع السابق.

ص: 184

حكم اللّه ورسوله بالكلية، فهو مردرد على عامله، وعامله يدخل تحت قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}

(1)

.

‌[مطلب: التقربُ إلى اللّه بسماع الملاهي أو بالرقص بدعة حرام

(2)

]

فمن تقرب إلى اللّه بعمل لم يجعله اللّه ورسوله قربة إلى اللّه فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مُكَاءً وتَصْدِيةً.

* * *

وهذا كمن تقرب إلى اللّه تعالى بسماع الملاهي أو بالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع اللّه ورسوله التقرب بها بالكلية.

* * *

[ما يكون قربة في عبادة قد لا يكون قربة في سواها]

وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقًا. فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قائمًا في الشمس فسأل عنه فقيل: إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم.

فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد ويستظل وأن يتم صومه

(3)

يجعل قيامه وبروزه في الشمس قربة يوفى بنذرهما.

* * *

وقد روي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: وهو على المنبر، فنذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ إعظاما لسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قربة يوفى بنذره مع أن القيام عبادة في مواضع أخرى كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم، فدل على أنه ليس كل

(1)

سورة الشورى: 21.

(2)

هذا العنوان: بهامش "ب" في هذا الموضع.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأيمان والنذور باب النذر فيما لا يملك وفي معصية 11/ 586.

وأبو داود في سننه: كتاب الأيمان والنذور: باب ما جاء في النذر في المعصية 2/ 599 / 560 من رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، قال: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه.

وابن ماجه في السنن: كتاب الكفارات: باب من خلط في نذره طاعة بعصية 1/ 990.

ص: 185

ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن. وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها.

وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها كمن صام يوم العيد أو صلى في وقت النهي.

* * *

[ماذا إذا خلط مشروعًا بما ليس بمشروع أو أخل فيه بمشروع؟]:

وأما من عمل عملًا أصله مشروع وقربة ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع أو أخل فيه بمشروع - فهذا أيضًا مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردودًا

(1)

عليه أم لا؟ فهذا لما يطلق القول فيه بِرَدٍّ ولا قبول بل ينظر فيه.

فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة كمن أخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها أو كمن أخل بالركوع أو السجود أو بالطمأنينة

(2)

فيهما - فهذا عمله مردود عليه وعليه إعادته إن كان فرضا.

وإن كان ما أخل به لما يوجب بطلان العمل كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها ولا يجعلها شرطًا، فهذا لا يقال إن عمله مردود من أصله بل هو ناقص.

وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع فزيادته مردودة عليه بمعنى أنها لا تكون قربة، ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله فيكون مردودًا كمن زاد في صلاته ركعة عمدًا مثلا.

وتارة لما يبطله ولا يرده من أصله كمن توضأ أربعا أربعًا أو صام الليل مع النهار، وواصل في صيامه.

* * *

[وماذا لو بدل مأمورا به بمنهي عنه؟]:

وقد يبدَّل بعضُ ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرّم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بُقْعَةٍ غَصْبٍ - فهذا اختلف

(1)

في هـ، م:"مردود".

(2)

في هـ، م:(مع الطمأنينة).

ص: 186

العلماء فيه: هل عمله مردود من أصله؟ أو أنه غير مردود وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب؟ وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله.

* * *

[من صلى بثوب من حرام]:

وقد حكى عبد الرحمن بن مهدي عن قوم من أصحاب الكلام يقال لهم الشِّمْرِية أصحاب أبي شِمْر

(1)

أنهم يقولون إنه من صلى في ثوب كان في ثمنه درهم حرام أن عليه إعادة صلاته وقال: ما سمعت قولا أخبثَ من قولهم؛ نسأل اللّه العافية.

وعبد الرحمن بن مهدي من أكابر فقهاء أهل الحديث المطلعين على مقالات السلف.

وقد استنكرَ هذا القولَ وجعلهُ بدعة؛ فدل على أنه لم يُعْلَمْ عن أحد من السلف القولُ بإعادة الصلاة في مثل هذا

(2)

.

* * *

[والحج بمال حرام]:

ويشبه هذا: الحج بمال حرام، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه ولكنه حديث لا يثبت وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟

[والذبح بآلة محرمة]:

وقريب من ذلك الذبح بآلة محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح كالسارق؛ فأكثر العلماء قالوا: إنه تباح الذبيحة بذلك، ومنهم من قال: هي محرمة وكذا

(3)

الخلاف في ذبح المحرم للصيد؛ لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر لأنه منهي عنه بعينه.

* * *

[بين نهي ونهي]:

ولهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها،

(1)

نسبه إلى أبي شِمْرِ المرجئ القدري الضال وكان يزعم أن الإيمان هو المعرفة باللّه والخضوع له بالقلب، وأن خصال الإيمان إذا اجتمعت كان الإيمان، وإذا انتفت كلها أو بعضها كان الكفر.

راجع الأنساب للسمعاني 8/ 147 - 148. واللباب 2/ 208 وفي ا بفتح فكسر.

(2)

كما سيأتي في شرح الحديث العاشر.

(3)

ب: "وكذلك".

ص: 187

وبين أن لا يكون مختصًّا بها فلا يبطلها.

[الصلاة بالنجاسة والصلاة في الغصب]:

فالصلاة بالنجاسة أو بغير طهارة أو بغير ستارة أو إلى غير القبلة يبطلها

(1)

لاختصاص النهي بالصلاة بخلاف الصلاة في الغصب.

* * *

[صيام المجامع والمغتاب]:

ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل والشرب والجماع بخلاف ما نهي عنه الصائم لا بخصوص الصيام كالكذب والغيبة عند الجمهور.

* * *

[الحج بين المجامع والسارق]:

وكذلك الحج لا

(2)

يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام، وهو الجماع، ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات كالقتل والسرقة وشرب الخمر.

* * *

[ماذا يبطل الاعتكاف؟]:

وكذلك الاعتكاف إنما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه وهو الجماع. وإنما يبطل بالسكر عندنا وعند الأكثرين لنهي السكران عن قربان المسجد ودخوله على أحد التأويلين في قوله تعالى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}

(3)

أن المراد مواضع الصلاة فصار كالحائض ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكاب الكبائر عندنا وعند كثير من العلماء".

* * *

وإن خالف في ذلك طائفة من السلف منهم عطاء والزهري والثورى ومالك وحكي

(1)

في م: "يبطها" وهو. تحريف.

(2)

في هـ، م:"ما يبطله".

(3)

سورة النساء: 43.

ص: 188

عن غيرهم أيضًا.

* * *

[بماذا تبطل المعاملات؟]:

• وأما المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما فما كان منها تغييرًا

(1)

للأوضاع الشرعية كجعل حَدِّ الزنا عقوبةً مالية، وما أشبه ذلك؛ فإنه مردود من أصله لا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام.

ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفًا

(2)

على فلان؛ فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المائة شاة والخادم ردٌّ عليكَ، وعلى ابنكَ جلدُ مائة وتغريبُ عام"

(3)

وما كان منها عقدًا منهيًّا عنه في الشرع إما لكون العقود عليه ليس محلا للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه أو عليه

(4)

، أو لكون العقد يشغل عن ذكر اللّه عز وجل الواجب عند تضايق وقته أو غير ذلك - فهذا العقد هل هو مردود بالكلية لا ينتقل به الملك أم لا؟.

[اختلاف الروايات في ذلك]:

وهذا الموضع قد اضطرب الناس فيه اضطرابا كثيرًا، وذلك أنه ورد في بعض الصور: أنه مردود لا يفيد

(5)

المِلْك، وفي بعضها: أنه يفيده فحصل الاضطراب فيه بسبب ذلك.

[والأقرب: التفريق بين ما فيه حق اللّه تعالى وما فيه حق الآدمي]:

والأقرب: - إن شاء اللّه تعالى - أنه إن كان النهي فيه لحق اللّه تعالى فإنه لا يفيد

(1)

في هـ، م:"مغير الأوضاع".

(2)

العسيف: الأجير.

(3)

متفق عليه من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: إن رجلًا من الأعراب أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول اللّه: أنشدك اللّه إلا قضيت لي بكتاب اللّه. فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب اللّه، وائذن لي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"قل" قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وأني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أَنما على ابني جلد مائة، وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللّه. الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". قال فغدا عليها، فاعترفت: فأمر بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرجمت، راجع صحيح البخاري: كتاب الشروط: باب الشروط التي لا تحل في الحدود 5/ 323، 324.

ومسلم في كتاب الحدود: باب من اعترف على نفسه بالزنا 3/ 1324 - 1325:

(4)

في هـ، م:"وعليه".

(5)

في هـ، م:"يفيد".

ص: 189

الملك بالكلية.

ومعنى أن يكون الحق

(1)

للّه أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه.

وإن كان النهي عنه لحق آدمي معين بحيث يسقط برضاه به؛ فإنه يقف على رضاه به؛ فإن رضي لزم العقد، واستمر المِلْك وإن لم يرض به فله الفسخ.

فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكُلِّية كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق؛ فلا عبرة برضاه ولا بسخطه.

وإن كان النهي رفقًا بالنهى خاصة لا يلحقه من المشقة فخالف وارتكب المشقة؛ لم يبطل بذلك عمله.

* * *

[صور الأول]:

فأما الأول فله صور كثيرة منها: نكاح من يحرم نكاحه، إما لعينه: كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب، أو للجمع، أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضي بإسقاطه، كنكاح المعتدة والمحرمة والنكاح بغير ولي ونحو ذلك.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فَرَّق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حُبلى؛ فرد النكاح

(2)

لوقوعه في العدة.

ومنها عقود الربا فلا تُفيد الملك، ويؤمر بردها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من باع صاع تمر بصاعين أن يَرُدَّهُ

(3)

.

ومنها بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب وسائر ما نهي عن بيعه مما لا يجوز التراضي ببيعه.

* * *

[صور الثاني]:

وأما الثاني فله صور عديدة منها: إنكاح الولى من لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها -

(1)

ب: "ويعني بكون الحق".

(2)

على ما روى أبو داود في سننه 2131 لكن بإسناد ضعيف، وانظر ما علق به الخطابى في معالم السنن.

(3)

كما روى البخاري ح 2201، 2202 وأطرافهما ومسلم ح 1594.

ص: 190

بغير إذنها

(1)

.

وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة ثيب زوَّجها أبوها وهي كارهة

(2)

.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه خير امرأة زوجت بغير إذنها

(3)

وفي بطلان هذا النكاح أو وقوفه على الإجازة روايتان عن أحمد.

* * *

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرف لغيره في ماله بغير إذنه لم يكن تصرفه باطلا من أصله؛ بل يقف على إجازته، فإن أجازه جاز وإن ردَّه بطَل.

واستدلوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه

(4)

للنبي صلى الله عليه وسلم شاتين وإنما كان أمره بشراء شاة

(5)

واحدة ثم باع إحداهما وقَبِلَ ذلك النبيُّ

(6)

صلى الله عليه وسلم.

وخص ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرف لغيره في ماله بإذن إذا خالف الإذن.

* * *

[تصرف المريض في ماله]:

ومنها تصرف المريض في ماله كله هل يقع باطلًا من أصله أم يوقف

(7)

تصرفه في الثلثين

(8)

على إجازة الورثة؟ فيه اختلاف مشهور للفقهاء، والخلاف في مذهب أحمد وغيره.

(1)

كما ررى مسلم في صحيحه 3/ 1214 - 1217 ح 1592 - 1594 من وجوه عديدة.

(2)

في ذلك يروي أبو داود في كتاب النكاح: باب الثيب 2/ 579 من رواية خنساء بنت خذام أن أباها زوجها وهي ثيِّب فكرهت ذلك، فجاءت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكرت له فرد نكاحها.

(3)

في ذلك يروي أبو داود في كتاب النكاح: باب البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها 2/ 576 بسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم والحديث عند أحمد في السند (4/ 155) المعارف بإسناد صحيح. وابن ماجه في السنن: النكاح. باب من زوج ابنته وهي كارهة 1/ 603.

(4)

ب: "بشراه".

(5)

ليست في ب.

(6)

أخرجه البخاري بسنده عن شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة وكان لو اشترى التراب لربح فيه.

راجع كتاب علامات النبوة: باب حدثنا محمد بن المثنى 6/ 632 من الفتح.

(7)

في ن: "يقف".

(8)

في هـ، م:"الثلث" وهو خطأ.

ص: 191

• وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته لا مال له غيرهم فدعا بهم فجزأهم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولًا شديدًا ولعل الورثة لم يجيزوا عتق الجميع واللّه أعلم

(1)

.

ومنها بيع المدلَّس

(2)

ونحوه كالمصَرَّاة

(3)

وبيع النَّجْش

(4)

وتلقي الرُّكْبَان

(5)

ونحو ذلك.

وفي صحته كله اختلاف مثمهور في مذهب الإمام أحمد.

وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه وردِّه.

والصحيح أنه يصح ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك.

• فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل مشتري المصراة بالخيار

(6)

وأنه جعل للركبان الخيار إذا هبطوا السوق

(7)

.

وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله.

وقد أورد

(8)

على بعض من قال بالبطلان حديثُ المصَرَّاة فلم يذكر عنه جوابا.

وأما بيع الحاضر للبادي فمن صححه جعله من هذا القبيل ومن أبطله جعل الحق فيه

(1)

أورده الشافعي في الأم 4/ 27، ورواه مسلم في كتاب الأيمان والنذور: باب عن أعتق شركاء له في عبد 3/ 1288 من حديث عمران بن حصين. وفيه. فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم

(2)

التدليس في البيع: إخفاء العيب في السلعة.

(3)

المصراة: الناقة أو البقرة أو الشاة يصرَّى اللبن في ضرعها، أي يجمع ويحبس، وذكر الشافعي أنها التي لا تحلب أياما حتى يجتمع اللبن في ضرعها فإذا حلبها المشتري استغزرها.

وقد تكررت هذه اللفظة في الأحاديث منها قوله عليه السلام: "لا تصروا الإبل والغنم"، فإن كان من الصر فهو بفتح التاء وضم الصاد، وإن كان من الصرى فيكون بضم التاء وفتح الصاد. وإنما نهي عنه لأنه خداع وغش. راجع النهاية 3/ 17.

(4)

النَّجش بفتح النون وسكون الجيم وهو أن يمدح السلعة ليروجها أو يزيد ثمنها وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيه. راجع النهاية 5/ 21.

(5)

تلقي الركبان أن يقابل التجار القادمين إلى البلدة فيشتري منهم السلع بثمن بخس قبل أن يدخلوا البلدة فيعرفوا الأسعار وهو لا يخلو من غش وخداع ولذا نهى عنه كسوابقه.

(6)

فقد روى مسلم في كتاب البيوع: باب حكم بيع المصراة 2/ 1158 - 1159 من حديث أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام".

(7)

فقد روى مسلم في كتاب البيوع: باب تحريم تلقي الجلب 2/ 1157 من حديث أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الجب - ما يجلب للبيع أي شيء كان - فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده (مالكه: صاحب المتاع) السوق فهو بالخيار".

(8)

في هـ، م: ورد.

ص: 192

لأهل البلد كلهم، وهم غير منحصرين فلا يتصور إسقاط حقوقهم، فصار كحق اللّه عز وجل.

ومنها لو باع رقيقًا يحرم التفريق بينهم وفرق بينهما كالأم وولدها فهل يقع باطلًا مردودًا أم يقف على رضاهم بذلك؟.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد هذا البيع

(1)

.

ونص أحمد على أنه لا يجوز التفريق بينهم ولو رضوا بذلك؟

وذهب طائفة إلى جواز التفريق بينهم برضاهم، منهم النخعي وعبيد اللّه بن الحسن العنبري

(2)

.

فعلى هذا يتوجه أن يصح ويقف على الرضا.

* * *

[لو خص بعض ولده بعطية]:

• ومنها لو خص بعض أولاده بالعطية دون بعض، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بشير بن سعد لما خص ولده النعمان بالعطة أن يرده

(3)

.

ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل الملك بذلك إلى الولد؛ فإن هذه العطية تصح وتقع مراعاة فإن ساوى

(4)

بين الأولاد في العطية أو استرد ما أعطى الولد جاز وإن مات ولم يفعل شيئًا من ذلك فقال مجاهد هو

(5)

ميراث.

وحكي عن أحمد نحوه وأن العطية تبطل والجمهور على أنها لا تبطل.

وهل للورثة الرجوع فيها أم لا؟ فيه قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد.

* * *

(1)

كما روى الحاكم في المستدرك 2/ 125 - أن عليا رضي الله عنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع.

(2)

في هـ، م:"البصري " وهو تحريف فهو عبيد اللّه بن الحسن بن حصين بن تميم العنبري ولد سنة 106 وولي القضاء سنة 157 وكان ثقة في الحديث مات سنة 168 وله ترجمة في تهذيب التهذيب 7/ 7 - 8.

(3)

فقد روى مسلم في كتاب الهبات: باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة 2/ 1241 - 1244 من حديث النعمان بن بشير قال: أتى أبي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال إنى نحلت ابني هذا غلاما فقال: "أكل بنيك نحلت - (أعطيت) مثل هذا؟ " قال: لا قال: "فاردده".

(4)

ب: "سوى".

(5)

ب: "هي".

ص: 193

[الطلاق النهي عنه]:

• ومنها الطلاق النهي عنه كالطلاق في زمن الحيض فإنه قد قيل أنه قد نهي عنه لحق الزوج حيث كان يخشى عليه أن يعقبه فيه الندم ومن نهي عن شيء رفقًا به فلم ينته عنه بل فعله وتجشم مشقته فإنه لا يحكم ببطلان ما أتى به، كما صام في المرض أو السفر أو واصل في الصيام، أو أخرج ماله كله وجلس يتكفف الناس، أو صلى قائمًا مع تضرره بالقيام للمرض، أو اغتسل وهو يخشى على نفسه الضرر والتلف ولم يتيمم، أو صام الدهر ولم يفطر، أو قام الليل ولم ينم، وكذلك إذا جمع الطلاق الثلاث على القول بتحريمه.

• وقيل إنما نهي عن طلاق الحائض لحق المرأة لا فيه من الإضرار بها بتطويل العدة ولو رضيت بذلك بأن سألته الطلاق بعوض في الحيض فهل يزول بذلك تحريمه؟ فيه قولان مشهوران للعلماء والمشهور من مذهبنا ومذهب الشافعي أنه يزول التحريم بذلك.

* * *

• فإن قيل إن التحريم فيه لحق الزوج خاصة فإذا أقدم

(1)

عليه فقد أسقط حقه فسقط وإن علل بأنه لحق المرأة لم يمنع نفوذه ووقوعه أيضًا؛ فإن رضاء المرأة بالطلاق غير معتبر لوقوعه عند جميع المسلمين، لم يخالف فيه سوى شِرْذِمة يسيرة من الروافض ونحوهم كما أن رضا الرقيق بالعتق غير معتبر ولو تضرر به، ولكن إذا تضررت المرأة بذلك وكان قد بقى شيء من طلاقها أمر الزوج بإرتجاعها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بارتجاع زوجته

(2)

تلافيا منه لضررها وتلافيا منه

(3)

لما وقع منه من الطلاق المحرم، حتى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرم؛ وليتمكن من طلاقها على وجه مباح فتحصل إبانتها على هذا الوجه.

* * *

• وقد روي عن أبي الزبير، عن ابن عمر رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّهَا عليه، ولم يرها شيئًا. وهذا مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلهم مثل ابنه

(1)

في هـ، م، ب: قدم.

(2)

راجع في هذا ما أخرجه مسلم في كتاب الطلاق: باب تحريم طلاق الحائض بغير عن 2/ 1093 من طرق عن ابن عمر.

(3)

ليست في ب.

ص: 194

سالم ومولاه نافع وأنس وابن سيرين وطاووس ويونس بن جبير وعبد اللّه بن دينار وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم.

• وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير من المحدثين والفقهاء وقالوا: إنه تفرد بما خالف الثقات فلا يقبل تفرده فإن في

(1)

رواية الجماعة عن ابن عمر مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حسب عليه الطلقة من وجوه كثيرة.

وكان ابن عمر يقول لمن سأله عن طلاق المرأة

(2)

في الحيض إن كنت طلقت واحدة أو اثنتين فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرني بذلك - يعني بارتجاع المرأة - وإن كنت طلقتها

(3)

ثلاثا فقد عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.

وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى لم يتابع عليها وهو قوله ثم تلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}

(4)

.

ولم يذكر ذلك أحد من الرواة عن ابن عمر.

وإنما روى عبد اللّه بن دينار عن ابن عمر: أنه كان يتلو هذه الآية عند روايته للحديث وهذا هو الصحيح.

وقد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ردها عليه لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض وقد روي ذلك عن أبي الزبير أيضًا من رواية معاوية بن عمار الدهني

(5)

عنه فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقًّا فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه

(6)

.

وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير فقال عن جابر: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ليراجعها فإنها امرأته" وأخطأ في ذكر

(7)

جابر في هذا الإِسناد وتفرد بقوله: فإنها امرأته وهي لا تدل

(8)

على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثا فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يُخْتَلَفْ عليهم فيه.

(1)

ليست في ب.

(2)

ب: "عن الطلاق".

(3)

ب: "طلقت".

(4)

سورة الطلاق:1.

(5)

في هـ، م "الذهبي" وهو تصحيف. وترجمة الدهني في التهذيب 10/ 214.

(6)

هذا منقوض بما سيورده ابن رجب عن ابن سيرين.

(7)

ب: "ذلك".

(8)

في هـ، م:"ولا يدل".

ص: 195

• فروى

(1)

أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم

(2)

أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب: يونس بن جبير، وكان ذا ثَبَتٍ

(3)

فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة.

خرجه مسلم

(4)

.

وفي رواية قال ابن سيرين فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا أفهمه.

وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه والعلم أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا ولعل أبا الزبير من هذا القبيل ولذلك كان نافع يسأل كثيرًا عن طلاق ابن عمر هل كان ثلاثا أو واحدة.

ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك، لهذه الشبهة، واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول: إن الطلاق المحرم

(5)

غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له.

• قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم لأنه يخالف ما أمر به فقال: هذا قول سوء رديء، ثم ذكر قصة ابن عمر، وأنه احتسب بطلاقه في الحيض.

• وقال أبو عبيد: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار: حجازهم وتهامهم ويمنهم وشأمهم وعراقهم ومصرهم.

وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم

(6)

.

(1)

ب: "وروى".

(2)

م: "أتهمهم".

(3)

ثبت المحدث بفتح الثاء والباء: الصحيفة والكتاب الذي يثبت فيه مروياته وأشياخه، ورجل ثبت بسكون الباء: حجة يوثق به.

(4)

في كتاب الطلاق: باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها 2/ 1095 - 1096 بنحوه.

(5)

ليست في ب.

(6)

ترجم البخاري في كتاب الطلاق: باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق 9/ 351 وروى بسنده من حديث أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر يقول: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليراجعها. قلت: تحتسب؟ قال: فمه؟ ثم روى البخاري عقب ذلك في الموضع نفسه من حديث سعيد بن جبير عم ابن عمر قال: "حسبت عليّ بتطليقة".

وقول ابن عمر لأنس: فمه معناه: فما يكون إن لم أحتسب بها. =

ص: 196

[رأى ابن حزم]:

• وأما ما حكاه ابن حزم

(1)

عن ابن عمر أنه لا يقع الطلاق في الحيض مستندًا إلى ما رواه من طريق محمد بن عبد السلام الخشنى الأندلسى حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن عبيد اللّه بن عمر عن نافع ابن عمر في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال لا يعتد بها.

وبإسناده عن خلاس نحوه، فإن هذا الأثر قد سقطت عن آخره لفظة وهي قال: لا يعتد بتلك الحيضة.

كذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه عن عبد الوهاب الثقفي

(2)

.

وكذلك

(3)

رواه يحيى بن معين عن عبد الوهاب أيضًا وقال هو غريب لم

(4)

يحدث به إلا عبد الوهاب ومراد ابن عمر أن الحيضة التي تطلق فيها المرأة لا تعتد بها المرأة قرءا، وهذا هو مراد خلاس وغيره.

* * *

وقد روي ذلك أيضًا عن جماعة من السلف منهم زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم كما وهم ابن حزم فحكوا عن بعض من سمينا أن الطلاق في الحيض لا يقع. وهذا سبب وهمهما واللّه أعلم.

* * *

[عود إلى الحديث والاستشهاد به]:

وهذا الحديث إنما رواه القاسم بن محمد لما سئل عن رجل له مساكن فأوصى بثلث ثلاث مساكن هل يجمع له في مسكن واحد

(5)

فقال يجمع ذلك كله مسكن واحد، حدثتنى عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ عَمِلَ عملا ليس عليه أمْرُنَا فهو رَدٌّ".

= وراجع ما ذكره ابن حجر في هذا الموضع من الفتح وروايات مسلم في صحيحه كتاب الطلاقا: باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر بمراجعتها 2/ 1093 - 1098 وما ذكره الشراح والمعلقون.

(1)

في المحلى 10/ 163.

(2)

في المصنف 5/ 5.

(3)

ب: "وكذا".

(4)

هـ، م:"لا".

(5)

م: "له في مسكن".

ص: 197

خرجه مسلم

(1)

.

* * *

[تغيير الوصية إلى ما هو الأحب والأنفع]:

ومراده أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى اللّه وأنفع جائز وقد حكي هذا عن عطاء وابن جريج.

وربما يستدل بعض من ذهب إلى هذا بقوله تعالى {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا

(2)

أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}

(3)

ولعله أخذ هذا من جمع العتق فإنه (صح أن رجلًا)

(4)

أعتق ستة مملوكين له عند موته [لم يكن له مال غيرهم]

(5)

فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة. خرجه مسلم

(6)

.

وذهب فقهاء الحديث إلى هذا الحديث، لأن تكميل عتق العبد مهما أمكن أولى من تشقيصه

(7)

.

ولهذا شرعت السراية والسعاية

(8)

إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من عبد وقال صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق بعض عبد له: "هُوَ عتيق كُلُّهُ لَيْسَ للّه شَريكٌ"

(9)

.

* * *

وأكثر العلماء على خلاف قول القاسم هذا وأن وصية الموصي لا تجمع ويتبع لفظه

(1)

مضى تخريج الحديث ص 181.

(2)

الجنف: الميل والجور.

(3)

سورة البقرة: 182.

(4)

ما بين القوسين من ن.

(5)

ما بين القوسين من مسلم وهي زيادة واجبة.

(6)

في صحيحه: كتاب الأيمان: باب من أعتق شركًا له في عبد 3/ 1288 وفيه: فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين، وأرق أربعة وقال له قولا شديدًا.

(7)

التشقيص: التجزئة والشقص والشقيص: النصيب في العين المشتركة من كل شيء.

(8)

استسعاء العبد إذا عتق بعضه ورق بعضه: هو أن يسعى في فكاك ما بقى من رقه فيعمل ويكسب ويصرف ثمنه إلى مولاه فسمي تصرفه في كسبه سعاية، وفي هذا يروي البخاري حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق نصيبًا أو شقيصًا في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال وإلا قوم عليه فاستسعى به غير شقوق عليه (غير مكلف إياه فوق طاقته). راجع صحيح البخاري: كتاب العتق: باب إذا عتق نصيبًا في عبد 5/ 156، وسنن أبي داود: كتاب العتق: باب فيمن أعتق نصيبا في مملوك 4/ 254، 255 والنهاية 2/ 370.

(9)

أخرجه أبو داود في كتاب العتق: باب فيمن أعتق نصيبًا في مملوك 4/ 251 - 252 والبيهقي في الكبرى 10/ 274 عنده: هو حركه ومسلم في صحيحه كتاب الأيمان: باب من أعتق شركًا له في عبد 3/ 1286 - 1289 وكتاب العتق أوله، وباب سعاية العبد 3/ 1139 - 1141.

ص: 198

إلا في العتق خاصة؛ لأن المعنى الذي جمع له في العتق غير موجود في بقية الأموال؛ فيعمل فيها بمقتضى وصية الموصي.

* * *

وذهب طائفة من الفقهاء في العتق إلى أنه يعتق من كل عبد ثلثه ويستسعون في الباقي. واتباع قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحق وأولى.

والقاسم نظر إلى أن في مشاركة الموصي له للورثة في المساكن كلها ضررًا عليهم فيدفع عنهم هذا الضرر ويجمع الوصية في مسكن واحد فإن اللّه قد شرط في الوصية عدم المضارة، بقوله تعالى {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ}

(1)

فمن ضار في وصيته كان عمله مردودا عليه؛ لمخالفته ما شرط اللّه تعالى في الوصية.

* * *

[لو أوْصَى بثُلُث مساكنه]

وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لو أوصى بثلث مساكنه

(2)

كلها ثم تلف ثلثا

(3)

المساكن؛ وبقى منها ثلث أنه يعطيه كله

(4)

للموصى له وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة.

وحكي عن أبي يوسف ومحمد ووافقهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في خلافه.

وبنوا ذلك على أن المساكن المشتركة تُقَسَّم بين المشتركين فيها قسمة إجبار كما هو قول مالك.

وظاهر كلام ابن أبي موسى من أصحابنا والمشهور عند أصحابنا أن المساكن المتعددة لا تقسم قسمة إجبار وهو قول أبي حنيفة والشافعي رحمهما اللّه.

[وقد تأول بعض المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أن أحد الفريقين من الورثة والموصى لهم [إن] طلب قسمة المساكن وكانت متقاربة بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة فإنه يجاب إلى قسمتها على قولهم.

وهذا التأويل بعيد مخالف للظاهر واللّه أعلم]

(5)

.

(1)

سورة النساء: 12.

(2)

في هـ، م:"ثم ثلثي المساكن كلها".

(3)

في هـ، م:"ثلث".

(4)

في هـ، م:"كلها".

(5)

ما بين الرقمين ليس في أ.

ص: 199

‌الحديث السادس

عن أبي عبد الله: النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله! صلى الله عليه وسلم يقول:

"إنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإنَّ الحرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيَنْهُمَا أُمورٌ مُشْتبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاس، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَات، فَقَد اسْتَبْرأ لدِينِه وَعِرْضِهِ، وَمنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ في الْحَرَامِ، كالرَّاعِى يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَن يَرْتعَ فيه، أَلَا وَإنّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً، أَلا وإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلا وَإنَّ في الجَسَد مُضغَةً، إذا صَلَحتْ صَلَحَ الجسَدُ كُلُّهُ وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِي الْقَلْبُ". رواه البخاري ومسلم

(1)

.

[تخريج الحديث وبيان درجته]:

هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي، عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص.

والمعنى واحد أو متقارب.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر

(2)

وعمار بن ياسر

(3)

وجابر وابن مسعود وابن عباس

(4)

.

وحديث النعمان أصح أحاديث الباب.

[شرح الحديث]:

فقوله صلى الله عليه وسلم: "الْحَلالُ بَيِّنٌ والْحَرامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبَهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاس" معناه: أن الحلال المحض بيِّن لا اشتباه فيه وكذلك الحرام المحض ولكن بين

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه 1/ 126 وفي كتاب البيوع: باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات 4/ 290 من الفتح.

وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال، وترك الشبهات 2/ 1219 - 1221.

(2)

حديث ابن عمر رواه الطبراني في المعجم الصغير 1/ 51 والأوسط وفي إسناد الأوسط سعد بن زنبور قال أبو حاتم: مجهول، وإسناد الصغير حسن كما ذكر الهيثمي في المجمع 4/ 73 - 74 وأورده البيهقي في الزهد الكبير بروايتي الأوسط والصغير ص 339.

(3)

أورده الهيثمي في المجمع 7/ 73 عن الطبراني في الكبير وذكر أن إسناده ضعيف عن أبي يعلى وهو في مسنده 10/ 293 بإسناد ضعيف أيضًا. وهو في المجمع 10/ 296 عن أبي يعلى وقال: فيه موسى بن عبيدة وهو متروك.

(4)

وأورده الهيثمي في المجمع 10/ 293 - 294 عن الطبراني وقال فيه سابق الجزري لم أعرفه وبقية رجاله ثقات.

ص: 201

الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس هل هي من الحلال أم من الحرام، وأما الراسخون في العلم فلا يشتبه عليهم ذلك ويعلمون من أي القسمين هي.

[الحلال المحض]:

• فأما الحلال المحض فمثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام وشرب الأشربة الطيبة ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان والصوف والشعر وكالنكاح والتسري وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع أو بميراث أو هبة أو غنيمة.

[الحرام المحض]:

• والحرام المحض مثل أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير للرجال، ومثل الاكتساب المحرم كالربا والميسر، وثمن ما لا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس

(1)

ونحو ذلك.

[المشتبه]:

• وأما المشتبه فمثل أكل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه: إما من الأعيان كالخيل والبغال والحمير والضَّب، وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يسكر كثيرها، ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العِينَة والتورُّق

(2)

، ونحو ذلك وبنحو هذا المعنى فسَّر المشتبهات أحمد وإسحق وغيرهما من الأئمة.

[ومجمل القول في ذلك]:

وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب وبين فيه للأمة ما تحتاج إليه من حلال وحرام كما قال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}

(3)

قال

(1)

ليست في "ب".

(2)

العينة: السلف والمراد أن يبيع شيئًا من غيره بثمن مؤجل، ويسلم إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل مما باع به، وينقده الثمن؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذا مع التواطؤ يبطل البيعتين، لأنها حيلة، واستشهد بحديث ابن عمر في التبايع بالعينة وما فيه من توعد شديد، ذكر أنه إذا لم يتواطأ بطل البيع الثاني ثم قال: ولو كان مقصود المشتري الدراهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى التورّق، ففي كراهته عن أحمد روايتان

إلخ.

أقول وكأن التورق: تطلب الرقة (المال أو الدراهم) مع التظاهر بالشراء ففيه تحايل كذلك. راجع القواعد النورانية ص 142 - 143.

(3)

سورة النحل: 89.

ص: 202

مجاهد وغيره: لكل شئٍ أُمِروا به، أو نُهُوا عنه، وقال الله تعالى: في آخر سورة النساء التي بيّن فيها كثيرًا من أحكام الأَمْوال والأَبْضَاع {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

(1)

وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}

(2)

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}

(3)

.

ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول. كما قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}

(4)

.

[إكمال الدين]:

وما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له ولأمته الدين، ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته بمدة يسيرة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

(5)

وقال صلى الله عليه وسلم: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى بَيْضاءَ نَقيَّةٍ لَيْلُها كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا إلَّا هَالِكٌ"

(6)

.

* * *

• وقال أبو ذر رضي الله عنه: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذَكَر لنا منه عِلْمًا

(7)

".

• ولما شك ناس في موته صلى الله عليه وسلم قال عمه العباس رضي الله عنه: "والله! ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السّبيل نهجًا واضحًا، وأَحَلَّ الحلالَ، وحَرَّمَ الحرام، ونكح وطلّق، وحارَبَ وسَالَم وما كان راعي غنم يتبع بها رءوس الجبال يخبط عليها العضاة

(8)

بمخبطته

(9)

(1)

سورة النساء: 176.

(2)

سورة الأنعام: 119.

(3)

سورة التوبة: 115.

(4)

سورة النحل: 44.

(5)

سورة المائدة: 3.

(6)

سنن ابن ماجه 1/ 16 ومسند أحمد 4/ 126 (حلبي) من حديث طويل. عن العرباض بن سارية.

(7)

أورده الهيثمي في المجمع 8/ 266 - 267 وقال: رواه أحمد والطبراني وزاد: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم" ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة وفي إسناد أحمد من لم يسم.

(8)

في النهاية 3/ 255 العضاهُ: كل شجر عظيم له شوك. الواحدة عضةٌ أو عضاهة.

(9)

مخبطته: عصاه، والمخبط: العصا التي يخبط بها الشجر، وخبط الشجر: ضربه بالعصا ليتناثر ورقه. كما في النهاية 2/ 7. وأثر العباس في الطبقات الكبرى 2/ 267.

ص: 203

ويمدر

(1)

حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم".

[ما ترك الله ورسوله أمرا من الحلال والحرام إلا مبيَّنًا]:

• وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالا إلا مبينا، ولا حرامًا إلا مبينًا لكن بعضه كان أظهر بيانًا من بعض، فما ظهر بيانه، واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيها الإسلام.

[أسباب خلافات العلماء]:

وما كان بيانه دون ذلك؛ فمنه ما يشتهر بين حملة الشريعة خاصة. فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفى على بعض من ليس منهم.

ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضًا فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب:

• منها أنه قد يكون النص عليه خفيًّا لم ينقله إلا قليل من الناس فلما يبلغ جميعَ حملةِ العلم.

• ومنها أنه قد يُنْقل فيه نصّان: أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم فيبلغ طائفةً منهم أحدُ النصين دون الآخر فيتمسكون بما بلغهم. أو يبلغ النصان معا من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ.

• ومنها ما ليس فيه نص صريح وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرًا.

• ومنها ما يكون فيه أمر ونهي

(2)

فتختلف أفهام

(3)

العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه.

* * *

[ولابد للأمة من عالم يوافق قوله الحق]:

وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا ومع هذا فلابد في الأمة من عالم يوافق قوله الحق؛ فيكون هو العالم بهذا الحكم؛ وغيره يكون الأمر مشتبهًا عليه ولا يكون عالما بهذا؛ فإن

(1)

مدر حوضها: طينه وأصلحه بالمدر، وهو الطين المتماسك لئلا يخرج منه الماء كما في النهاية 4/ 309 وفي هـ:"يمدد حوضها" وفيه تصحيف.

(2)

في س "ما يكون أمرا أو نهيا" وفي م "أمر أو نهي".

(3)

سقطت من المطبوعة.

ص: 204

هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها، فلا يكون الحق مهجورًا غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في المشتبهات:"لا يَعْلَمُهُنَّ كثير مِنَ النَّاس"، فدل على أن من الناس من يعلمها وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها وليست مشتبهة في نفس الأمر فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء.

* * *

[ومن أسباب الاشتباه في الحلال والحرام]:

وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن.

• ومنها ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير عليه.

فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه، اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك، أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه.

والثاني لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه.

[ما لا يعلم له أصل ملك]:

• وأما ما لا يعلم

(1)

له أصل ملك كما يجده الإنسان في بيته ولا يدرى هل هو له أو لغيره فهذا مشتبه ولا يحرم عليه تناوله؛ لأن الظاهر أن ما في بيته ملكه؛ لثبوت يده عليه. والورع اجتنابه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"إِنِّي لأنْقَلِبُ إِلى أَهْلِي فأَجِدُ

(2)

التَّمْرةَ سَاقِطَة عَلَى فِراشى فأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أن تَكُونَ صَدقَةً

(3)

فَأُلقِيْهَا".

خرجاه في الصحيحين

(4)

.

(1)

في ب: "ما لم يعلم".

(2)

في هـ، م:"فأجده" وهو خطأ.

(3)

في المطبوعة "من الصدقة" وهو مخالف لما في الأصول ولما في الصحيحين.

(4)

البخاري في كتاب اللقطة: باب إذا وجد تمرة في الطريق 5/ 86، ومسلم في كتاب الزكاة: باب تحريم الزكاة على رسول الله وعلى آله 2/ 751 من حديث أبي هريرة.

ص: 205

[متى تقوى الشبهة؟]:

• فإن كان هناك من جنس المحظور وشكّ هل هو منه أم لا؟ قويت الشبهة.

• وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه أرق من الليل فقال له بعض نسائه: يا رسول الله! أرقت الليلة؟ فقال: "إِنِّي كُنْتُ أَصبْتُ تمرة تَحَتَ جَنْبِي فَأكلْتُها وَكَانَ عِنْدنَا تمرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدقة فَخَشِيتُ أَن تَكونَ منهُ

(1)

".

• ومن هذا أيضًا ما أصله الإباحة كطهارة الماء والثوب والأرض إذا لم يتيقن زوال أصله فيجوز استعماله، وما أصله الحظر كالأبضاع، ولحوم الحيوان، فلا تحل إلا بيقين حِلِّه من التذكية والعقد

(2)

.

* * *

[ماذا لو تردد العالم في الحكم؟]:

فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه - فيبني

(3)

فيما أصله الحرمة على التحريم.

ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه، أو كلب غير كلبه، أو يجده قد وقع في ماء؛ وعلل بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره.

• • •

[تأسيس الأحكام على اليقين]:

ويرجع فيما أصله الحل إلى الحل فلا ينجس الماء والأرض والثوب بمجرد ظن النجاسة.

وكذلك البدَن إذا تحقق طهارته وشك هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء خلافًا لمالك رحمه الله إذا لم يكن قد دخل في الصلاة.

(1)

أخرجه أحمد في المسند 11/ 10، 72 (المعارف) وبهامشه إشارة إلى مواطن أخرى له في المسند. وصحح محققه إسناده.

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 89 عن أحمد في المسند قال: رواه أحمد ورجاله موثقون.

(2)

في ب "العقل" وهو تصحيف فالمراد عقد الزوجية الذي يحل به البضع.

(3)

في س: "فبنى عليه فينبني: وفي هـ، م: "فيتبين".

ص: 206

• وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شُكِىَ

(1)

إليه الرجل يخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: "لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَع صَوتًا أَوْ يَجِدَ ريحًا"

(2)

.

وفي بعض الروايات: "في المسجد" بدل: "الصلاة".

وهذا يعم حال الصلاة وغيرها

(3)

.

[ماذا لو وجد سببا لغلبة ظن؟]:

فإن وجد سَبَبٌ قويٌّ يغلب معه على الظن نجاسة ما أصله الطهارة مثل أن يكون الثوب يلبسه كافر لا يتحرز من النجاسات؛ فهذا محل اشتباه.

فمن العلماء من رخص فيه؛ أخذًا بالأصل.

ومنهم من كرهه تنزيها.

ومنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة، مثل أن يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحته أو يكون، ملاقيا لعورته كالسراويل والقمص

(4)

.

[قاعدة هذه المسائل]:

وترجع هذه المسائل وأشباهها

(5)

إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر فإن الأصل الطهارة والظاهر النجاسة.

* * *

[تعارض الأدلة]:

وقد تعارضت الأدلة في ذلك فالقائلون بالطهارة يستدلون بأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وطعامهم إنما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما ينسجه الكفار بأيديهم من الثياب والأوانى وكانوا في المغازى يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب ويستعملونها وصح عنهم أنهم استعملوا الماء من مزادة مشركة.

(1)

في المطبوعة: "شكا" وما أثبتناه بصيغة المبني للمجهول موافق لما في صحيح مسلم.

(2)

والحديث أخرجه البخاري في البيوع: باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات 4/ 345 وطرفاه 137، 177.

(3)

وراجع أيضًا ما أخرجه مسلم في كتاب الحيض: باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك 1/ 276. كلاهما من حديث عبد الله بن زيد.

(4)

في هـ، م:"القميص".

(5)

ب: "وشبهها".

ص: 207

والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن آنية أهل الكتاب الذين يأكلون الخنزير ويشربون الخمر فقال: "إن لمْ تَجِدوا غَيْرَهَا فَاغْسِلُوهَا بالَماءِ ثُمَّ كُلُوا فِيهَا

(1)

".

* * *

[الشبهة عند الإمام أحمد]:

وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام يعني الحلال المحض والحرام المحض

(2)

وقال: من اتقاها فقد استبرأ لدينه.

وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.

* * *

ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط فإن كان أكثر ماله الحرام فقال أحمد: ينبغي أن يجتنبه

(3)

إلا أن يكون شيئًا يسيرًا أو لا يعرف.

واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرم؟ على وجهين.

وإن كان أكْثَرُ ماله الحلال جازت معاملته والأكل من ماله.

* * *

[جوائز السلطان]:

• وقد روى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قالَ في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام.

* * *

[التعامل مع المشركين وأهل الكتاب]:

• وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا

(1)

راجع في هذا ما ذكره النووي وما أورده من الأحاديث في المجموع 1/ 261 - 265، ثم ما رواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح: باب الصيد بالكلاب المعلمة 3/ 1532، وما رواه البخاري في كتاب الذبائح. باب آنية المجوس 9/ 622 خاصا باستعمال آنية المشركين.

(2)

كما في الورع - له - ص 70: باب ترك الشبهة وما فيها - بنحوه.

(3)

في هـ، م:"يتجنبه".

ص: 208

يجتنبون الحرام كله.

* * *

[ماذا لو اشتبه الأمر؟]:

وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركه.

• قال سفيان: لا يعجبني ذلك وتركه أعجب لي.

• وقال الزهري ومكحول لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه - نص عليه أحمد في رواية حنبل.

• وذهب إسحق بن راهويه: إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ مِمَّا

(1)

يقضي من الربا والقمار - نقله عنه ابن منصور.

• وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرًا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي وإن كان المال قليلًا اجتنبه كله؛ وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئًا فإنه يتعذر

(2)

معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير.

• ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي.

• ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام، ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه

(3)

كما تقدم عن مكحول والزهري.

• وروي مثله عن الفضيل بن عياض.

وروى في ذلك آثار عن السلف.

فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمَّن له جار يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه يدعوه إلى طعام؟ قال أجيبوه فإنما الهناء

(4)

لكم والوزر عليه.

(1)

"ا": "بما".

(2)

ب: "يبعد".

(3)

في م بعد هذا "فصح كما تقدم" وقول مكحول والزهري في الصحيفة السابقة.

(4)

في س، ب "فإن المهنأ" والخبر في مصنف عبد الرزاق 14675 بنحوه.

ص: 209

وفي رواية أنه قال له

(1)

لا أعلم له شيئًا إلا خبيثًا أو حراما؟ فقال أجيبوه.

وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود ولكنه عارضه بما روي عنه قال "الإثْمُ حزَّازُ الْقُلُوب"

(2)

.

وروي عن سلمان مثل قول ابن مسعود الأول.

وعن سعيد بن جبير والحسن البصري ومورق العجلي وإبراهيم النخعي وابن سيرين وغيرهم.

والآثار بذلك موجودة في كتاب الأدب لحميد بن زنجويه، وبعضها زي كتاب الجامع للخلال، وفى مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم.

* * *

[إذا علم أن عين الشيء محرم أخذ بوجه محرم؟]:

ومتى علم أن عين الشيء حرام أخذ بوجه محرم فإنه يحرم تناوله وقد حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره.

وقد روي عن ابن سيرين في الرجل يقضي من الربا قال: لا بأس به، وعن الرجل يقضي من القمار، قال: لا بأس به.

خرجه الخلال بإسناد صحيح.

وروى عن الحسن خلاف هذا

(3)

وأنه قال: إن هذه المكاسب قد فسدت فخذوا منها شبه المضطر.

(1)

ليست في هـ، ولا في م.

(2)

ورد فيه أيضًا: "الإثم حواز" بتشديد الزاي وتخفيف الواو وورد بتشديد الواو وتخفيف الزاي. ولكل منها معنى ومحمل صحيح. قال في النهاية: الإثم حواز القلوب (بتشديد الزاي والإثم بمعنى الآثام) وهي الأمور التي تحز في القلوب أي تؤثر فيها كما يؤثر الحز في الشيء، وهو ما يحظر من أن تكون معاصي لفقد الطمأنينة إليها وهي جمع حاز بتشديد الزاي، وروي "الإثم حواز القلوب" بتشديد الواو أي يحوزها ويتملكها ويغلب عليها، ويروى:"الإثم حزاز القلوب" بزايين. الأولى مشددة، وهي فعال من الحز (وهو القطع).

راجع النهاية 1/ 377 - 378.

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 176 وقال رواه الطبراني كله بأسانيد رجالها ثقات وهو من حديث ابن مسعود وانظر الورع لأحمد ص 45 باب ما يكره من أمر الربا.

وفي ب: "حواز".

(3)

ب: "ذلك".

ص: 210

وعارض المروي

(1)

عن ابن مسعود وسلمان ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أكل طعاما ثم أخبر أنه من حرام فاستقاءهُ

(2)

.

* * *

[الاشتباه في الحكم لتردد الفروع بين أصول تجتذبه]:

وقد يقع الاشتباه في الحكم لكون الفرع مترددًا بين أصول تجتذبه كتحريم الرجل زوجته، فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى، وبين تحريم الطلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد

(3)

وبين تحريم الطلاق الثلاث الذي لا تباح معه [الزوجة بدون زوج وإصابة]

(4)

. وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله له من الطعام والشراب الذي لا يحرمه وإنما يوجب الكفارة الصغرى أو لا يوجب شيئًا على الاختلاف في ذلك.

فمن ها هنا كثر الاختلاف في هذه المسألة في زمن الصحابة فمن بعدهم.

* * *

[الأمور المشتبهة قد تظهر للبعض]:

وبكل حال فالأمور المشتبهة التي لا يتبين أنها حلال أو حرام لكثير من الناس كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قد يتبين لبعض الناس أنها حلال أو حرام.

لما عنده من ذلك من مزيد علم.

* * *

[ولا يعلمها الكثيرون]:

• وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها وكثير منهم لا يعلمها فدخل فيمن لا يعلمها نوعان:

أحدهما: من يتوقف فيها؛ لاشتباهها عليه.

(1)

م: "المروزي".

(2)

انظر الورع لأحمد ص 84 باب من كره طعاما من شبهة فاستقاءه. وما رواه البخاري في صحيحه 7/ 183 ح 3842 عن عائشة.

(3)

في المطبوعة والهندية: "الذي تباح معه الزوجة بدون زوج بعقد جديد إصابة وبين" وفيه خطأ واضح.

(4)

ما بين الرقمين سقط من المطبوعة في هذا الموضع.

ص: 211

والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه.

ودل كلامه على أن غير هؤلاء يعلمها.

ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم.

وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله عز وجل، وغيره ليس بعالم بها بمعنى: أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر وإن كان يعتقد فيها اعتقادًا يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلًا ويكون مأجورًا على اجتهاده، ومغفورًا له خطؤه لعدم اعتماده.

* * *

• وقوله صلى الله عليه وسلم "فَمن اتَّقى الشُّبهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأ لدِينِه وعِرْضِهِ، وَمنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَام".

قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين.

وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه، وهو ممن لا يعلمها.

فأما من كان عالمًا بها واتبع ما دله علمه عليها فذلك قسم ثالث لم نذكره، لظهور حكمه، فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة؛ لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس واتبع (علمه في ذلك وأما من لم يعلم) حكم الله (فيها فهم قسمان)

(1)

أحدهما من يتقي هذه الشبهات لاشتباهها عليه فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه ومعنى استبرأ طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين.

والعرض هو موضع المدح والذم من الإنسان وما يحصل له بذكره بالجميل مدح وبذكره بالقبيح قدح.

وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان، وتارة في سلفه، أو في أهله فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها فقد حصَّن عرضه من القدح والشين الداخل على من لا يجتنبها

(2)

.

وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشبهات فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن كما قال بعض السلف: من عرض نفسه للتهم فلا يلومنَّ من أساء الظن به.

* * *

(1)

ما بين القوسين هنا وفي سابقة سقط من المطبوعة تبعًا للهندية.

(2)

ب: "من لم يجتنبها".

ص: 212

• وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: "فَمَنْ تَركَها اسْتِبْراءً لدِينِه وَعرضِهِ فَقَدْ سَلِمَ"

(1)

.

والمعنى: أن منْ تركها بهذا القصد وهو براءة دينه وعرضه عن النقص لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه.

وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين ولهذا ورد: كل ما وقى به المرء عرضه فهو صدقة.

• وفي رواية الصحيحين في هذا الحديث: "فَمَنْ تَركَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْه مِنَ الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرك"

(2)

.

يعني من ترك الإثم مع اشتباهه عليه وعدم تحققه فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم، وهذا إذا كان تركه تحرزا من الإثم فأما من يقصد التصنع للناس فإنه لا يترك إلا ما يظن أنه ممدوح عندهم.

القسم الثاني من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده فأما من أتى شيئًا مما يظنه أناس شبهة لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر فلا حرج عليه من الله في ذلك لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك كان تركها حينئذ استبراء لعرضه فيكون حسنًا.

• وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفا مع صفية: "إِنَّهَا صَفِيّةُ بنتُ حُيَيّ"

(3)

.

وخرج أنس إلى الجمعة فرأى الناس قد صلَّوْا فاستحيا ودخل موضعًا لا يراه الناس فيه وقال: "من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله".

وخرجه الطبراني مرفوعا ولا يصح

(4)

.

* * *

(1)

أول البيوع: باب ترك الشبهات 3/ 511 وأعقبها طريقا آخر للحديث نحوه بمعناه وقال: حسن صحيح.

(2)

أخرجه البخارى في البيوع: باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات 4/ 290 وعنده "ماشبه" ويبدو أن معنى "في الصحيحين" أي في الجملة إذ ليس الحديث في مسلم.

(3)

أخرجه أحمد في المسند 6/ 337 (حلبي). وابن ماجه في السنن: كتاب الصيام: باب المعتكف يزوره أهله في المسجد 1/ 565 - 566.

ومسلم في كتاب السلام: باب ما يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به 4/ 1712 والبخاري في الاعتكاف: باب هل يخرج المعتكف لا لحوائجه إلى باب المسجد 4/ 278 كلهم من حديث صفية رضي الله عنها.

(4)

أورده الهيثمي في المجمع 8/ 30 عن الطبراني في الأوسط وقال: فيه جماعة لم أعرفهم.

ص: 213

[من يأتي الشبهات لاعتقاده حلها]:

وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال - إما باجتهاد سائغ أو تقليد سائغ وكان مخطئًا في اعتقاده - فحكمه حكم الذي قبله.

فإن كان الاجتهاد ضعيفًا أو التقليد غير سائغ وإنما حمل عليه مجرد اتباع الهوى - فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه.

* * *

[من يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه]:

والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه قد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في الحرام فهذا يفسر بمعنيين:

أحدهما: أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح، وفي رواية في الصحيحين لهذا الحديث:"ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان"

(1)

.

وفي رواية "مَنْ يُخالِطُ الرَّيبَةَ يُوشِكُ أَنْ يَجْسُرَ (أي يقرب أن يقدم) على الحرام المحض"

(2)

.

والجسور: المقدام الذي لا يهاب شيئًا، ولا يراقب أحدًا.

ورواه بعضهم يجشر بالشين المعجمة أي يرتع والجشر الرعي وجشرت الدابة إذا رعيتها.

* * *

• وفي مراسيل أبي المتوكل النَّاجى

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم "منْ يَرعَى بجَنَبَاتِ الْحَرامِ

(1)

هي التي أخرجها البخاري 4/ 290. وليست في مسلم؛ على ما سبق.

(2)

ليس هذا في الصحيحين كما قد يتبادر من صنيع ابن رجب فقد رويت هذه الجملة - في غير الصحيحين رواها النسائي في البيوع: باب اجتناب الشبهات في الكسب 7/ 241 - 243 من حديث النعمان بن بشير، وفيه: وإن بين ذلك أمورًا مشتبهة، وقال: وسأضرب لكم في ذلك مثلا: إن الله عز وجل حَمَى حِمىً، وإن حمى الله عز وجل ما حرم، وأنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى، وربما قال: إنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، وإن من يخالط الريبة يوشك أن يجسر وأخرجه النسائي أيضًا في الأشربة: باب الحث على ترك الشبهات 8/ 327 وابن حبان 2/ 497 بإسناد صحيح.

وأبو داود في البيوع: باب اجتناب الشبهات 3/ 623 - 624.

(3)

هو علي بن داود - يقال - داود - الساجي البصري. روى عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم.

وعنه ثابت البناني وقتادة وغيرهما. وثقه النسائي وابن حبان وغيرهما. توفي سنة 108 وترجمته في التهذيب 7/ 318.

ص: 214

يوشِكُ أَنْ يُخَالِطهُ وَمنْ تَهَاونَ بِالمُحقِّراتِ يُوشِكُ أنْ يُخالِطَ الْكَبائرَ".

والمعنى الثاني أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أو حرام فإنه لا يأمن أن يكون حراما في نفس الأمر فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام.

* * *

• وقد روي من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْحلالُ بَيِّنٌ

والْحرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبهاتٌ فَمَنَ اتَّقَاها كَان الأَنْزَه

(1)

لدِينِه وَعِرضِه ومن وَقَع في الشّبُهَاتِ أَوْشَكَ أَنْ يقعَ في الْحَرامِ كالْمرْتِعِ

(2)

حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ

(3)

أَنْ يُوَاقِعَ الْحِمىَ وَهُوَ لا يَشْعُر".

خرجه الطبراني وغيره

(4)

.

* * *

[طاعة الوالدين في الشبهة]:

واختلف العلماء هل يطيع والديه في الدخول في شيء من الشبهة أو لا يطيعهما؟

• فروي عن بشر بن الحارث، قال: لا طاعة لهما في الشبهة.

• وعن محمد بن مقاتل العبادانى قال: يطيعهما.

• وتوقف أحمد في هذه المسألة وقال يداريهما وأبى أن يجيب فيها

(5)

.

* * *

[البيع من الشبهة]:

• وقال أحمد لا يشبع الرجل من الشبهة ولا يشتري الثوب للتجمل من الشبهة وتوقف في حل ما يؤكل وما يلبس منها وقال في التمرة يلقيها الطير لا يأكلها ولا يأخذها ولا يتعرض لها.

(1)

في مجمع الزوائد 4/ 74 (أبرأ) وما أثبتناه عن النسخ الخطية هو الموافق لما في المعجم الأوسط للطبراني.

(2)

في هـ، م:"كالراعي - يوشك" والمرتع: بضم الميم وسكون الراء وكسر التاء.

(3)

ب: "أوشك" وما أثبتناه هو الموافق لما في المعجم.

(4)

أخرجه الطبراني في الأوسط 2/ 413 - 414 بإسناد ضعيف كما في المجمع 4/ 73 - 74.

(5)

وانظر كلامه وكلام بشر عن هذا في الورع ص 48، 49، 52.

ص: 215

[في العثور على مال في البيت]:

• وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلُسَ أو الدراهم أحبُّ إليَّ أن يتنزه عنها يعني إذا لم يدر من أين هي؟.

• وكان بعض السلف لا يأكل شيئًا (حتى) يعلم من أين هو

(1)

ويسأل عنه حتى يقف على أصله.

* * *

• وقد روي في ذلك حديث مرفوع إلا أن فيه ضعفًا

(2)

.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم "كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يرتعَ فِيه أَلا وَإِن لِكُلِّ مَلكٍ حِمىً أَلا وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ":

* * *

• هذا مَثَلٌ ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمن وقع في الشبهات وأنه يقرب وقوعه في الحرام المحض. وفى بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (و) سَأَضْربُ لَكُمْ مَثَلًا

(3)

. ثم ذكر هذا الكلام فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مثل المحرمات كالحمى الذي يحميه الملوك ويمنعون غيرهم من قربانه.

* * *

• وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حول مدينته اثني عشر ميلا حمى محرَّمًا، لا يقطع شجره، ولا يصاد صيده، وحمى عمر وعثمان أماكن ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصدقة والله سبحانه وتعالى حمى هذه المحرمات ومنع عباده من قربانها وسماها حدوده فقال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

(4)

.

* * *

• وهذا فيه بيان أنه حد لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم فلا يقربوا الحرام ولا يتعدوا

(1)

في بعض الأصول: "لا يأكل إلا شيئًا يعلم .. ".

(2)

راجع ما أورده الهيثمى في المجمع 10/ 291.

(3)

منها رواية النسائي القريبة ص 214.

(4)

سورة البقرة: 187.

ص: 216

الحلال وكذلك قال في آية أخرى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}

(1)

وجعل من يرعى حول الحمى أو قريبا منه جديرًا بأن يدخل الحمى ويرتع فيه؛ فلذلك من تعدى الحلال ووقع في الشبهات فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض، ويقع فيه!.

* * *

[وجوب التباعد عن المحرمات]:

وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزا.

[وترك بعض المباح]

[واتخاذ ذلك حاجزا من الحرام]

• وقد خرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَبلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المتَّقينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْس بِهِ حَذرًا ممَّا بِه بأس"

(2)

.

* * *

• وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراما - حجابا بينه وبين الحرام.

• وقال الحسن: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام".

• وقال الثوري: "إنما سُمُّوا المتقين؛ لأنهم اتَّقَوْا ما لا يُتَّقى".

• وروي عن ابن عمر قال: "إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها".

• وقال ميمون بن مِهران: "لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام

(1)

سورة البقرة: 229.

(2)

الترمذي في كتاب صفة القيامة 4/ 634 وقال: حديث حسن غريب وابن ماجه في كتاب الزهد: باب الورع والتقوى 2/ 1409. كلاهما من حديث عبد الله بن يزيد، عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس، عن عطية السعدي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 217

حاجزًا من الحلال".

• وقال سفيان بن عيينة: "لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعلَ بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال، وحتى يدعَ الإِثْمَ وما تشابه منه".

* * *

[الحديث وسد الذرائع]:

ويستدل بهذا الحديث مَنْ يذهب إلى سَدِّ الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها، ويدل على ذلك أيضًا من قواعد الشريعة تحريم قليل ما يسكر كثيره، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر سدا لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت تحرك شهوته.

ومنع كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سرتها وركبتها إلا من وراء حائل كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر امرأته إذا كانت حائضًا أن تتزر فيباشرها من فوق الإزار

(1)

.

* * *

ومن أمثلة ذلك وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: من سيب دابته ترعى زرع غيره فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع ولو كان ذلك نهارًا وهذا هو الصحيح لأنه مفرِّط بإِرسالها في هذه الحال.

وكذا الخلاف لو أرسل كلب الصيد قريبًا من الحرم فدخل الحرم فصاد فيه ففي ضمانه روايتان عن أحمد، وقيل يضمنه بكل حال.

* * *

• وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَد مُضْغةً إِذَا صَلحت صَلحَ الْجسدُ كُلُّهُ وإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسدُ كُلُّهُ أَلا وهي الْقَلبُ" فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صَلَحت حركات الجوارح كُلها، ونشأ عن ذلك اجتنابُ المحرمات كلِّهَا، وتوقِّى

(1)

البخاري 300، 302، 2030 ومسلم ح 1 - (293) و 2 - (

) كلاهما من حديث عائشة. والبخاري ح 303، ومسلم ح 3 - (394) كلاهما من حديث ميمونة.

ص: 218

الشبهات؛ حذرًا من الوقوع في المحرمات.

وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباع هواه وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلِّهَا وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب.

* * *

[القلب ملك والأعضاء جنوده]:

ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك.

فإن كان الملك صالحًا كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدًا كانت جنوده بهذه المثابة

(1)

فاسدة ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}

(2)

.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْألُكَ قَلْبًا سَلِيمًا"

(3)

.

فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة (الله وما يحبه الله وخشية الله وخشية)

(4)

ما يباعده منه.

* * *

[استقامة إيمان المرء باستقامة قلبه]:

وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَسْتَقِيمُ

(1)

في المطبوعة تبعا للهندية: "المشابهة" وهو تحريف.

(2)

سورة الشعراء: 88 - 89.

(3)

أخرجه أحمد في المسند 4/ 123، 125 والترمذي في سننه الدعوات: باب 23 - 5/ 476 وعقب عليه بقوله: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه.

زاد المباركفوري 9/ 249 أن في إسناده مجهولا.

والنسائي في سننه: كتاب السهو: باب 61 - كلهم من حديث شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعَزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم" لفظ النسائي.

(4)

ما بين القوسين من هـ، م.

ص: 219

إيمانُ عَبْد حَتَّى يَسْتَقيم قَلْبُهُ"

(1)

.

[المراد باستقامة إيمان المرء]:

والمراد باستقامة [إيمانه استقامة أعمال جوارحه فإن أعمال جوارحه لا تستقيم إلا باستقامة]

(2)

القلب.

ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئا من محبة الله تعالى ومحبة طاعته وكراهة معصيته.

• وقال الحسن لرجل: داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم. يعني أن مراده منهما ومطلوبه صلاح قلوبهم فلا صلاح للقلوب حتى يستقر فيها معرفة اللهِ وعظمتُه

(3)

ومحبتُه وخشيتُه ومهابتُه ورجاؤه والتوكل عليه وتمتلئ من ذلك.

* * *

[استقامة الإيمان وحقيقة التوحيد]:

وهذا هو حقيقة التوحيد، وهو معنى قول لا إله إلا الله؛ فلا صلاح للقلوب، حتى يكون إلهُها الذي تؤلهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده

(4)

لا شريك له ولو كان في السموات والأرض إله يؤله سوى الله لفسدت بذلك السماوات والأرض كما قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}

(5)

فعُلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معا حتى تكون حركات أهلها وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كلِّه وإن كانت حركة القلب وإرادته

(6)

لغير الله فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب.

[التوحيد والحب في الله]:

وروى الليث عن مجاهد في قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}

(7)

قال: لا تحبوا غيري.

• وفي صحيح الحاكم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشركُ

(1)

رواه أحمد في المسند 3/ 198 (حلبي) بإسناد حسن من حديث أنس بن مالك - وتتمته: "ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه" وقد أورد الهيثمي عنه في المجمع 1/ 53 وقال في إسناده علي بن مسعده وثقه جماعة، وضعفه آخرون.

(2)

ما بين الرقمين ليس في "ب".

(3)

ليست في "ب".

(4)

في م، هـ:"هو إله واحد".

(5)

سورة الأنبياء: 22.

(6)

ليست في ب.

(7)

سورة الأنعام: 151.

ص: 220

أخفي منْ دبيب الذَّرّ على الصَّفا في الليلة الظَّلْمَاء وأدْنَاهُ أن تحبَّ على شيءٍ مِنَ الْجَوْر وأن تبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض؟ " قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}

(1)

.

[محبة ما يكرهه الله]

فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه الله متابعة للهوى، والموالاة على ذلك، والمعاداة عليه، من الشرك الخفي، ويدل على ذلك قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل الله علامة الصدق في محبته اتباع رسوله فدل على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة.

* * *

[علامة حب الله]

• وقال الحسن رحمه الله: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنا نحب ربنا حبًّا شديدًا فأحب الله أن يجعل لحبه علَمًا فأنزل الله هذه الآية {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}

(2)

.

• ومن هنا قال الحسن: "اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته".

• وسئل ذو النون المصري: متى أحب ربي؟ قال: "إذا كان ما يبغضه عندك أمرَّ من الصبر".

* * *

• وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك.

* * *

(1)

الآية 31 من سورة آل عمران، والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 291 وصححه على شرط الشيخين، لكن تعقبه الذهبي فقال: فيه عبد الأعلى (وهو أحد رواة الحديث) قال الدارقطني: ليس بثقة.

وأورده ابن كثير في التفسير 2/ 358 عن ابن أبي حاتم من حديث عائشة وقال: قال أبو زرعة: هذا منكر الحديث.

(2)

أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2/ 17 من وجوه عن ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأورده الواحدي في أسباب النزول ص 97 عن الحسن وابن جرير.

وأورد الأستاذ المحقق عن الطبري 6/ 324 قوله: "وأما ما روي عن الحسن في ذلك مما قد ذكرنا فلا خبر به عندنا يصح".

ص: 221

• وقال أبو يعقوب النهر جوري: كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة.

* * *

• وقال رويم: المحبة الموافقة في كل الأحوال.

* * *

• وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده.

* * *

• وعن بعض السلف قال: قرأت في بعض الكتب السالفة: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من مرضاته، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه.

* * *

[السلوك لله كله]:

• وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أَعطى لله وَمَنَعَ لله وأَحبَّ لله وأَبغَض لله فَقَدِ استكمَلَ الإيمانَ"

(1)

.

ومعنى هذا أن كل

(2)

حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهرًا وباطنًا.

* * *

[بين صلاح الجوارح وصلاح القلب]:

ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح؛ فإذا كان القلب صالحًا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله؛ فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكفَّت عما يكرهه وعما يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك.

* * *

(1)

أخرجه الترمذي في جامعه: صفة القيامة: باب 60 بإسناد حسن من حديث معاذ بن أنس الجهني، وفي آخره:"وأنكح له فقد استكمل إيمانه" وهو عند أحمد في المسند 3/ 138، 140.

(2)

ليست في ب.

ص: 222

[من سلوك السلف وأقوالهم]:

• قال الحسن رضي الله عنه: "ما ضربتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمي؛ حتى أنظر: أعلى طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدم وإن كانت معصيةً تأخرتُ".

• وقال محمد بن الفضل البلخي: "ما خطوت منذ أربعين سنة خُطوةً لغير الله عز وجل".

* * *

• وقيل لداود الطائي: لو تنحيتَ من الظل إلى الشمس فقال: هذه خُطا لا أدري كيف تُكتَب؟ ".

• فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم؛ فلم يبق فيها إرادة لغير الله عز وجل صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله عز وجل، وبما فيه رضاه، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 223

‌الحديث السابع

عن أبي رقية: تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"الدين النصيحة": [ثَلاثًا] قلنا: لمن؟ [يا رسول الله] قال: "لله [عز وجل] وَلِكتَابه ولرِسُوله صلى الله عليه وسلم ولأَئِمَّةِ المُسلمِينَ وَعَامَّتِهِم". رواه مسلم.

* * *

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث خرجه مسلم

(1)

من رواية سهيل

(2)

بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري.

وقد روي عن سهيل وغيره عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرجه الترمذي

(3)

من هذا الوجه

(4)

. فمن العلماء من صححه من الطريقين جميعًا ومنهم من قال: إن الصحيح حديث تميم والإسناد الآخر وهم.

وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر

(5)

وثوبان

(6)

وابن عباس

(7)

وغيرهم.

وقد ذكرنا في أول الكتاب عن أبي داود: أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه.

وقال الحافظ أبو نعيم: هذا الحديث له شأن عظيم

(8)

ذكر محمد بن أسلم

(1)

في كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة 1/ 74 وما بين المعكوفات ليس في مسلم.

(2)

في المطبوعة: "سهل" وهو تحريف فهو سهيل بن أبي صالح، وهو المسمى ذكوان السمان، يكنى أبا يزيد، مدني ثقة، وترجمته في التهذيب 4/ 263 - 264.

(3)

في كتاب البر والصلة: باب ما جاء في النصيحة 4/ 324 وقال حديث حسن صحيح.

(4)

يعني الوجه الأخير وهو طريق أبي هريرة.

(5)

حديث ابن عمر رواه البزار ورجاله رجال الصحيح على ما ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 87.

(6)

حديث ثوبان أخرجه الطبراني في الأوسط. وفيه أيوب بن سويد، ضعيف لا يحتج به، راجع مجمع الزوائد في الموضع نفسه.

(7)

حديث ابن عباس أخرجه أحمد في المسند 5/ 96 (المعارف) بإسناد ظاهره الانقطاع على ما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر. انظر أيضًا مجمع الزوائد 1/ 87.

(8)

ليست في ب.

ص: 225

الطوسي: "أنه أحد أرباع الدين".

* * *

[أحاديث النصحية]:

• وخرج الطبراني

(1)

من حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من لا يَهتَمُّ بأَمرِ المُسلمينَ فَلَيسَ منهُم، وَمَن لَم يُمسِ وَيُصبحُ ناصحًا لله وَلِرَسُولِه ولِكتَابِه ولإمَامِهِ ولعَامَّة المسلمينَ فَليسَ منهُم".

• وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ الله عز وجل: أحَبُّ ما تَعبَّدني بهِ عَبدِي: النُّصحُ لي"

(2)

.

* * *

[أنواع النصيحة]:

وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموما، وفي بعضها النصح لولاة أمورهم، وفي بعضها نصح ولاة الأمور لرعاياهم.

[النصح للمسلمين]:

• فأما الأول وهو النصح للمسلمين عموما ففي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال: "بايعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على إقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكَاة، والنُّصح لِكُلِّ مُسلِم"

(3)

.

• وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"حَقُّ المُؤمِنِ على المؤمن ستٌّ ذكر منها: "وَإذَا استَنصحَك فَانصَح لهُ"

(4)

.

وروي هذا الحديث من وجوه أخر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي المسند عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

في الأوسط والصغير وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 87 أن فيه عبد الله بن أبي جعفر وهو مختلف في توثيقه وهو في الصغير 2/ 328.

(2)

ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد في الموضع المذكور أيضًا أن فيه عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد وكلاهما ضعيف.

(3)

البخاري في كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة 1/ 166 ح 57 وأطرافه 58، 524، 1401، 2714، 2715، 7240. ومسلم في كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة 1/ 75 ح 56.

(4)

صحيح مسلم: كتاب السلام: باب من حق المسلم للمسلم رد السلام 4/ 1705.

ص: 226

"إذَا استَنصَحَ أحدُكُم أخَاه فَليَنصحُ له"

(1)

.

[النصح لولاة الأمور]:

• وأما الثاني وهو النصح لولاة الأمور. ونصحهم لرعاياهم ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إنَّ الله يَرضَي لكُم ثَلاثًا: يَرضي لكُم أن تَعُبدوُهُ ولا تُشركوا به شَيئًا، وَأَن تَعتصمُوا بِحَبلِ الله جَميعًا وَلا تَفرَّقُوا، وأَن تُنَاصِحُوا من ولَّاه الله أمركُم"

(2)

.

• وفي المسند وغيره

(3)

عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بالخَيْف من مني: "ثلاثٌ لا يُغَلُّ عَلَيهنَّ قَلب امريءٍ مُسلِم: إخلاصُ العَمَلِ لله، وَمُناصَحةُ وُلاةِ الأمر، ولُزومُ جَمَاعةِ المُسلِمين".

• وقد روي هذه الخطبة عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو سعيد الخدري.

• وقد رُوي حديثُ أبي سعيد بلفظ آخر خرجه الدارقطني في الأفراد بإسناد جيد ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ثلاثٌ لا يُغَلُّ عَليهنَّ قَلبُ امرئٍ مُسلمِ: النَّصيِحَةُ لله وَلِرسُوله ولكتابه وَلعَامَّة المُسلِمين".

• وفي "الصحيحين" عن معقل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِن عَبدٍ يَستَرعيهِ الله رَعيَّةً ثُمَّ لم يَحُطهَا بنصيحةٍ إلَّا لم يَدخُل الجنة"

(4)

.

[نصح الأنبياء لأممهم]

وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السلام أنهم نصحوا لأممهم، كما أخبر الله بذلك عن نوح عليه السلام وعن صالح عليه السلام.

(1)

راجع الإصابة في تمييز الصحابة 7/ 217. والمسند 3/ 418 - 419 و 4/ 259 والمجمع 4/ 83 وقد ضعفه.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه: الأقضية: باب النهي عن كثرة المسائل 3/ 1340 لكن ليس فيه: وأن تناصحوا من ولاه الله عليكم مع أنها موضع الشاهد بل فيه بعد قوله "ولا تفرقوا" قوله: ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال وفي أوله: يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا.

(3)

مسند أحمد 4/ 82 (الحلبي) ومستدرك الحاكم 1/ 86 - 88 من طرق وقد صححه وأقره الذهبي.

(4)

البخاري في كتاب الأحكام: باب من استرعي رعية فلم ينصح 13/ 126 - 127. ومسلم في كتاب الإيمان: باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار 1/ 126 بنحوه.

ص: 227

[ونصح الضعفاء لله ورسوله]:

وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}

(1)

يعني أن من تخلف عن الجهاد لعذر فلا حرج عليه، بشرط أن يكون ناصحا لله ورسوله

(2)

في تخلفه؛ فإن المنافقين كانوا يظهرون الأعذار كاذبين ويتخلفون عن الجهاد من غير نصح الله ورسوله.

[إخبار الرسول بأن الدين النصيحة واقتضاء النصيحة الحب]:

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين النصيحة: فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل عليه السلام، وسَمَّى ذلك كُلَّهُ دِينًا؛ فإن النصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها وهو مقام الإحسان فلا يكمل النصح لله بدون ذلك، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه، وترك المحرمات والمكروهات على هذا الوجه أيضًا.

• وفي مراسيل الحسن رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"أَرَأَيتُم لَو كَانَ لأحدِكُم عَبْدان، فَكَانَ أَحَدهُما يُطيعُه إذَا أَمرَهُ، ويُؤدِّي إليه إذا ائتَمنه، وَيَنصحُ له إذَا غَابَ عَنهُ، وكان الآخرُ يَعصِيه إذَا أمرهُ، وَيَخونهُ إذَا ائتمَنهُ، وَيَغُشُّهُ إذَا غَابَ عَنهُ كَانَا سَواءٌ؟ " قالوا: لا. قَالَ: "فَكَذَا كم أنتُم عِنَدَ الله عز وجل".

خرجه ابن أبي الدنيا.

وخرج الإمام أحمد معناه من حديث أبي الأحوص عن أبيه

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم.

[الآثار في اقتضاء النصيحة الحب]:

• وقال الفضيل بن عياض: "الحب أفضل من الخوف ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبك، والآخر يخافك؛ فالذي يحبك منهما ينصحك: شاهدا كنت أو غائبا؛ لحبه إياك، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخافه، ويغشَّك إذا

(1)

سورة التوبة: 91.

(2)

ما بين الرقمين ليس في ب.

(3)

هو أبو مالك بن نضلة، والحديث في مسند أحمد 4/ 136 - 137 (حلبي). وأورده الهيثمي في المجمع 10/ 232 عن الطبراني في الكبير بإسنادين ورجال الأول ثقات.

ص: 228

غبتَ ولا ينصحَكَ".

• قال عبد العزيز بن رفيع: قال الحواريون - لعيسى عليه الصلاة والسلام: ما الخالص من العمل؟ قال: ما لا تحب أن يحمدك الناس عليه، قالوا: فما النصح لله؟ قال: أن تبدأ بحق الله قبل حق الناس، وإن عرض لك أمران: أحدهما الله تعالى والآخر للدنيا بدأت بحق الله تعالى.

* * *

[تفسير العلماء للنصيحة]:

[عند الخطابي]:

• وقال الخطابي

(1)

: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي: إرادة الخير للمنصوح له قال: وأصل النصح في اللغة: الخلوص يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع، فمعنى النصيحة لله سبحانه صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته.

والنصيحة لكتابه: الإيمان به، والعمل بما فيه.

والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته، وبذل الطاعة له

(2)

فيما أمر به ونهى عنه.

والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم. انتهى.

* * *

[عند بعض أهل العلم]:

• وقد حكى الإمام أبو عبد الله: محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة

(3)

- عن بعض أهل العلم - أنه فسر هذا الحديث بما لا مزيد على حسنه ونحن نحكيه ههنا بلفظه إن شاء الله تعالى؛ قال محمد بن نصر: قال بعض أهل العلم:

"جماع تفسير النصيحة هي عناية القلب للمنصوح له كائنا من كان وهي على وجهين".

أحدهما: فرض، والآخر: نافلة.

[النصيحة الفرض]

فالنصيحة المفترضة لله هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما

(1)

في أعلام السنن لوحة 20 - أ - 21 - ب وقد اختصر ابن رجب النص اختصارا شديدًا.

(2)

ليست في ب.

(3)

- 2/ 691 - 694 فقرة 765.

ص: 229

افترض، ومجانبة ما حرَّم.

* * *

[النصيحة النافلة]:

وأما النصيحة التي هي نافلة فهي إيثار محبته على محبة نفسه، وذلك أن يعرض له أمران: أحدهما لنفسه والآخر لربه؛ فيبدأ بما كان لربه ويؤخر ما كان لنفسه.

فهذه جملة تفسير النصيحة لله الفرض منه والنافلة.

ولذلك

(1)

تفسير، وسنذكر بعضه ليَفهم بالتفسير من لا يفهم الجملة

(2)

.

* * *

[تفصيل ذلك]:

فالفرض منها: مجانبة نهيه، وإقامة فرضه، بجميع جوارحه ما كان مطيقًا له؛ فإن عجز عن الإقامة بفرضه - لآفة حلَّت به من مرض أو حبس أو غير ذلك عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلة المانعة له قال الله عز وجل:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}

(3)

فسماهم محسنين؛ لنصيحتهم لله بقلوبهم لَمَّا مُنِعوا من الجهاد بأنفسهم.

[النصح لله لا يسقط]:

وقد ترفع الأعمال كلها عن العبد في بعض الحالات ولا يرفع عنهم النصح لله فلو كان من المرض

(4)

بحال لا يمكنه عمل شيء من جوارحه بلسان ولا غيره غير أن عقله ثابت لم يسقط عنه النصح لله بقلبه، وهو أن يندم على ذنوبه، وينويَ - إن صح - أن يقوم بما افترض الله عليه، ويجتنب ما نهاه عنه، وإلا كان غير ناصح لله بقلبه.

وكذلك النصح لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما أوجبه على الناس عن أمر ربّه.

* * *

(1)

في م، هـ:"وكذلك" وهو تحريف.

(2)

م: "بالجملة" وقد ضرب على الباء في نسخة "ا".

(3)

سورة التوبة: 91.

(4)

م: "من مرض" وما أثبتناه عن الأصول الأخرى هو الموافق لما عند المروزي في تعظيم قدر الصلاة 6/ 292.

ص: 230

[من النصح لله]:

ومن النصح الواجب لله أن لا يرضى بمعصية العاصي، ويحب طاعة من أطاع الله ورسوله.

* * *

[النصيحة النافلة]:

وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض فبذل المجهود

(1)

بإيثار الله تعالى على كل محبوب بالقلب، وسائر الجوارح؛ وحتى

(2)

لا يكون في الناصح فضل عن غيره؛ لأن الناصح إذا اجتهد لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكل ما كان في القيام به سروره ومحبته، فكذلك الناصح لربه.

ومن تنفل لله بدون الاجتهاد فهو ناصح على قدر عمله، غير مستحق

(3)

للنصح بكماله.

* * *

[النصيحة لكتاب الله]:

وأما النصيحة لكتاب الله

(4)

فشدة حبه، وتعظيم قدره: إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية في تدبره

(5)

، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعد ما يفهمه.

[وكذلك الناصح من العباد يتفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه غُنِي بفهمه؛]

(6)

ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه.

فكذلك الناصح لكتاب ربه يعني بفهمه ليقوم لله بما أمره به كما يحب ويرضى. ثم ينشر ما فهم في العباد، ويديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه، والتأدُّبِ بآدابه.

* * *

(1)

في "الصلاة": "المحمود" وهو تحريف مطبعي.

(2)

ب: "حتى".

(3)

في "الصلاة": "محق".

(4)

م: "لكتابه". وما أثبتناه هو الموافق لما عند المروزي.

(5)

"ا"، ب:"لتدبره" وما أثبتناه هو الموافق لما عند المروزي.

(6)

ما بين الرقمين سقط من ب. وفي هـ، م:"من غني" وهو تحريف واضح. وعند المروزي: "من القلب".

ص: 231

[النصيحة للرسول في حياته وبعد مماته]:

وأما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فبذل المجهود في طاعته ونصرته، ومعاونته، وبذل المال إذا أراده، والمسارعة إلى محبته.

وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته، والبحث عن أخلاقه وآدابه، وتعظيم أمره، ولزوم القيام به، وشدة الغضب، والإعراض عمن تدين بخلاف سنته، والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا، وإن كان متدينا بها، وحب من كان منه بسبيل من قرابة أو صهر أو هجرة أو نصرة أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام، والتشبه به في زيه ولباسه.

* * *

[النصيحة لأئمة المسلمين]:

وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم

(1)

ورشدهم، وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم

(2)

، وكراهة افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل.

* * *

[النصيحة لعامة المسلمين]:

وأما النصيحة للمسلمين فأن يحبَّ لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزنَ لحزنهم، ويفرح لفرحهم، وإن ضره ذلك في دنياه، كرخص أسعارهم. وإن كان في ذلك فوات ربح ما بيع من تجارته وكذلك جميع ما يضرهم عامة، ويحب صلاحهم، وألفتهم ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم، ودفع كل أذى ومكروه عنهم.

* * *

[النصيحة عند ابن الصلاح]:

وقال أبو عمرو بن الصلاح

(3)

: النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح

(1)

في "الصلاة": "طاعتهم".

(2)

في "الصلاة": "كلهم" وهو تحريف

(3)

في كتابه: "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط" ص 223 - 224 لكنه صدر هذا فيه بقوله: فقوله "الدين النصيحة" لفظ يفيد الحصر فكأنه قال: ليس الدين إلا النصيحة لله =

ص: 232

له بوجوه الخير إرادة وفعلا.

فالنصيحة لله تعالى: توحيده ووصفه بصفات الكمال والجلال وتنزيهه عما يضادها ويخالفها وتجنب معاصيه، والقيام بطاعته ومحابه بوصف الإخلاص، والحب فيه والبغض فيه، وجهاد من كفر به تعالى، وما ضاهى ذلك، والدعاء إلى ذلك، والحث عليه.

[النصيحة لكتابه]:

والنصيحة لكتابه: الإيمان به، وتعظيمه وتنزيهه، وتلاوته حق تلاوته، والوقوف مع أوامره ونواهيه. وتفهم علومه وأمثاله، وتدبر آياته، والدعاء إليه، وذب تحريف الغالين، وطعن الملحدين عنه.

* * *

[النصيحة لرسوله]:

والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم قريب من ذلك: الإيمان به، وبما جاء به وتوقيره وتبجيله، والتمسك بطاعته، وإحياء سنته، واستثارة

(1)

علومها ونشرها، ومعاداة من عاداه وعاداها، وموالاة من والاه ووالاها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة آله وصحابته ونحو ذلك

(2)

.

* * *

[لأئمة المسلمين]:

والنصيحة لأئمة المسلمين

(3)

: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به

(4)

، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب

(5)

عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق، وحث الأغيار على ذلك.

= ولكتابه وسائر ما ذكر، أي لا يكمل الدين إلا بذلك. كما سبق بيانه في أمثال ذلك وفيه إشعار بعظم موقع النصيحة من الدين وهكذا مثله في أمثال ذلك. والنصيحة كامة جامعة .. إلخ.

(1)

م واستنشار وفي صيانة الصحيح: "واستشارة".

(2)

م: "وأصحابه".

(3)

بعد هذا في صيانه صحيح مسلم: "أي لحلفائهم وقادتهم".

(4)

في الصيانة: "وتذكيرهم في رفق ولطف".

(5)

في الصيانه: "الخروج".

ص: 233

[لعامتهم]:

والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذبُّ عنهم، ومجانبةُ الغشِّ والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره

(1)

لنفسه، وما شابه ذلك انتهى ما ذكره. ومن أنواع نصحهم بدفع الأذى والمكروه عنهم، إيثار فقيرهم، وتعليم جاهلهم، ورد من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل، بالتلطف في ردهم إلى الحق، والرفق بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ محبَّةٌ لإزالة فسادهم ولو بحصول ضرر له في دنياه، كما قال بعض السلف:"وددت أن هذا الخلق أطاعوا الله وإن لحمي قرض بالمقاريض"

(2)

.

وكان عمر بن عبد العزيز يقول: "يا ليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملتم به، فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو حتى يكون آخر شيء منها خروج نفسي".

[ومن النصح لله ورسوله]:

ومن أنواع النصح لله تعالي وكتابه ورسوله - وهو مما يختص به العلماء - ردُّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على موردها، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلَّها، وكذلك ردُّ الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردِّها.

ومن ذلك: بيان ما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وما لم يصح منه بتبيين حال رواته ومن تقبل رواياته منهم، ومن لا تقبل. وبيان غلط من غلط من ثقاتهم الذين تقبل رواياتهم.

* * *

[ومن النصح لعامة المسلمين]:

ومن أعظم أنواع النصح أن ينصح لمن استشاره في أمره كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا استنصح أحدُكم أخاه فلينصح له

(3)

"وفي بعض الأحاديث: "إن من حق المسلم على

(1)

في الصيانة: "ما يكرهه".

(2)

هذا قول الداعي المحابي، أبي عبد الرحمن: زهير بن نعيم البابي أورده عنه أبو نعيم في ترجمته له في الحلية 10/ 147 - 150 بلفظ: "وددت أن جسدي قرض بالمقاريض، وأن هذا الخلق أطاعوا الله".

(3)

تقدم ص 227.

ص: 234

المسلم أن ينصح له إذا غاب

(1)

".

ومعنى ذلك أنه إذا ذكر في غيبه بالسوء أن ينصره، ويردَّ عنه وإذا رأى من يريد أذاه في غيبته كفَّه عن ذلك؛ فإن النصح في الغيب يدل على صدق الناصح؛ فإنه قد يُظهر النصح له في حضوره؛ تملقًا ويغشه في غيابه!.

[من مأثور السلف في النصيحة]:

• وقال الحسنُ إنك لن تبلغ حق نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما تعجز عنه.

* * *

• قال الحسن: وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله: إن أحبَّ عباد الله إلى الله الذين يحبون الله إلى عباده، ويحببون عبادَ الله إلى الله، ويسعون في الأرض بالنصيحة. وقال فرقد السَّبَخَى: قرأت في بعض الكتب: "المحب لله عز وجل أمير مؤمر على الأمراء زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هناك والمحبة فيما هناك

(2)

والمحبة منتهى القرية والاجتهاد، ولن

(3)

يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل. يحبونه ويحبون ذكره، ويحبونه إلى خلقه: يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء الله وأحباؤه وصفوته

(4)

أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه.

* * *

• وقال ابن عُلَيَّة - في قول أبي بكر المزني: ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة ولكن بشيء كان في قلبه

(5)

قال: الذي كان في قلبه: الحب لله عز وجل، والنصيحة في خلقه.

* * *

• وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة

(1)

راجع ما أورده الهيثمي في المجمع 8/ 184 - 186 في هذا عن أحمد بإسناد حسن من حديث ابن عمر وعن غيره، والبرهانفوري في الكنز 9/ 41.

(2)

ليست في ب ولا في "ا".

(3)

ب: "ولم".

(4)

ب: "وأهل صفوته".

(5)

في و: "بشيء وقر في صدره" وفي نسخة "بشيء كان في قلبه".

ص: 235

والصيام وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة".

* * *

• وسئل ابن المبارك أي الأعمال أفضل؟ قال: "النصح الله".

* * *

• وقال معمر: "كان يقال أنصح الناس لك: من خاف الله فيك".

* * *

• وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرا حتى قال بعضهم: "من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رءوس الناس فإنما وبخه".

* * *

• وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعيِّر".

* * *

• وقال عبد العزيز بن أبي روَّاد: "كان من كان قبلكم إذا رأى الرجلُ من أخيه شيئا يأمُره في رفق؛ فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق

(1)

بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره".

* * *

• وسئل ابن عباس: رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر فقال: "إن كنت فاعلًا ولا بد ففيما بينك وبينه".

* * *

• وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس علي المسلم نصح الذمي، وعليه نصح المسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"والنصح لكل مسلم وأن تنصح لجماعة المُسلِمين وعَامَّتهم".

* * *

(1)

الخرق بضم الحاء وسكون الراء: الجهل والحمق، وقد خرق يخرق خرقًا من باب تعب، فهو أخرق. راجع النهاية 2/ 26.

ص: 236

‌الحديث الثامن

عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن رسول الله، قال:

"أُمرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاس حَتَّى يَشهَدُوا أن: لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّدًا رَسُولُ الله، وَيقيمُوا الصَّلاة، ويُؤتُوا الزَّكاةَ، فإذا فَعَلُوا ذَلك، عَصَمُوا منِّي دِماءَهُم وَأَموَالَهُم، إلَّا بِحَقِّ الإسلامِ، وحِسَابُهُم عَلَى الله تَعَالَى". رواه البخاري ومسلم.

* * *

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

(1)

.

وقوله إلا بحق الإسلام هذه اللفظة تفرد بها البخاري دون مسلم.

وقد روي معنى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة.

"ففي صحيح البخاري" عن أنس رضي الله عنه

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"أُمرتُ أَن أُقَاتِل النَّاس - يعني

(3)

المُشركين - حَتَّى يَشهَدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُه، فَإذَا شَهدُوا أن لا إله إلا الله وأن مُحمدًا رَسُولُ الله، وَصَلَّوا صلاتنا واستقبَلوا قِبلتَنَا وأكلُوا ذبيحَتَنَا؛ فَقَد حَرُمَت عَلينَا دِمَاؤهُم وأموَالهُم إلا بحقِّها".

* * *

(1)

حديث ابن عمر أخرجه البخاري في كتاب الإيمان: باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة فخلوا سبيلهم 1/ 75 من الفتح.

ومسلم في كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/ 53 قال ابن حجر في الفتح: هذا الحديث من رواية الأبناء عن الآباء، وهو كثير، لكن رواية الشخص عن أبيه عن جده أقل، وواقد هنا روي عن أبيه، عن جد أبيه فهو واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، وقد روي عن أبيه محمد، وروى أبوه محمد عن جده عبد الله بن عمر، وكما قال ابن حجر، فواقد هنا روى عن أبيه، عن جد أبيه.

(2)

في كتاب الصلاة: باب استقبال القبلة 1/ 497 من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا .. الحديث". ح 392 وطرفاه في 391، 393. وقوله: "يعني المشركين" ليست في البخاري، وليس فيه: "أقاتل المشركين".

(3)

ليست في "ا". وفي (ب): "أقاتل المشركين".

ص: 237

• وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّمَا أُمرتُ أن أُقَاتلَ النَّاس حَتَّى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ويَشهُدوا أن لا إله إلا الله وحده لَا شريك له، وأنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله

(1)

فَإذَا فَعَلوا ذلِك فقد اعتَصَمُوا وعَصمُوا دِمَاءَهُم وأموَالَهُم إلَّا بحَقِّهَا وَحِسابُهُم على الله عز وجل

(2)

.

وخرجه ابن ماجه مُختَصَرًا

(3)

* * *

• وخرج نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا

(4)

.

ولكن المشهور من رواية أبي هريرة ليس فيه ذكر إقام الصلواة ولا إيتاء الزكاة ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاس حَتَّى يَقُولوا لَا إله إلا الله فَمَن قَالَ لا إله إلا الله عَصَم منِّي مَالهُ وَنَفسه إلَّا بِحقِّه وِحِسَابُهُ عَلَى الله عز وجل

(5)

".

* * *

• وفي رواية لمسلم: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي

(6)

وبما جئت به" وخرجه مسلم أيضًا من حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ حديث أبي هريرة الأول وزاد فيه في آخره: ثم قرأ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}

(7)

.

• وخرج

(8)

أيضًا من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال لا إله إلا الله، وكَفَر بِمَا يُعبدُ من دُونِ الله حُرِّمَ مَالهُ ودَمُه

(1)

م وأن محمدًا رسول الله وما أثبتناه عن النسخ الخطية هو الموافق لما في المسند.

(2)

مسند أحمد 5/ 245 - 246 (الحلبي) من حديث طويل.

وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 273 - 274 وقال: رواه أحمد والبراز والطبراني باختصار، وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف، وقد يحسن حديثه.

(3)

مقدمة سنن ابن ماجه باب الإيمان 1/ 28. ح 72 وفيه ذكر الصلاة والزكاة.

(4)

الموضع السابق من سنن ابن ماجه 1/ 27 وفيه ذكر الصلاة والزكاة أيضا.

(5)

البخاري في كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم 13/ 250 من الفتح ومسلم في كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/ 51 - 52.

(6)

هو والرواية التالية في الموضع نفسه 521 - 53.

وفي ب: "فقرأ" وما أثبتناه هو الموافق لما في مسلم. وفي ا "وزاد في آخره".

(7)

سورة الغاشية: 21، 22.

(8)

أي مسلم في صحيحه.

ص: 238

وَحِسَابُهُ عَلَى الله [عز وجل] ".

• وقد روي عن سفيان بن عيينة أنه قال: "كان هذا في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة".

وهذا ضعيف جدًّا، وفي صحته عن سفيان نظر؛ فإن رواة هذه الأحاديث

(1)

إنما صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة

(2)

وبعضهم تأخر إسلامه.

* * *

[شرح الحديث واستدلالاته]:

• ثم قوله: "عصموا مني دماءهم وأموالهم" يدل على أنه كان [عند هذا القول]

(3)

مأمورا بالقتال، ويقتل من أبى الإسلام.

وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة.

[الشهادتان ثم شرائع الإسلام]:

ومن المعلوم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلمًا: وقد أنكر

(4)

على أسامة بن زيد قتله لمن قال لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم

(5)

الصلاة والزكاة بل قد رُوي أنه قد قبل من قوم الإسلام، واشترطوا أن لا يزكوا.

ففي مسند الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"سَيصَّدَّقُونُ وَيُجَاهِدون"

(6)

.

• وفيه أيضًا عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على

(1)

ب: "هذا الحديث".

(2)

م: "إنما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة".

(3)

ما بين الرقمين ليس في ب.

(4)

ب: "فقد".

(5)

في هـ، م:"ثم إنه يلزم" وهو تحريف.

(6)

رواه أحمد في المسند 3/ 341 حديثين بإسناد واحد أورده مع كل حديث وأورد السؤال في الأول والجواب في الثاني وفي الإسناد ابن لهيعة. وفي الرواية الثانية سيصدقون ويجاهدون إذا أسلموا يعني ثقيفًا وانظره في الفتح الرباني.

ص: 239

أن لا يصلي إلا صلاتين فقبل منه

(1)

.

• وأخذ أحمد بهذه الأحاديث وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها.

واستدل أيضًا بأن حكيم بن حزام قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخرَّ إلا قائمًا

(2)

.

قال أحمد: معناه أن يسجد مِن غير ركوع

(3)

.

* * *

وخرج محمد بن نصر المروزي بإسناد ضعيف جدًّا عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتقبل من أجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانتا فريضتين على من أقر محمد صلى الله عليه وسلم وبالإسلام وذلك قول الله عز وجل:{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}

(4)

.

* * *

وهذا لا يثبت وعلى تقدير ثبوته فالمراد منه أنه لم يكن يقر أحدًا دخل في الإسلام على ترك الصلاة والزكاة وهذا حق فإنه صلى الله عليه وسلم أمر معاذا لما بعثه إلى اليمن أن يدعوهم أولًا

(1)

مسند أحمد 5/ 25 وقد أخرجه من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم .. .

(2)

رواه أحمد في المسند 3/ 402 من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما، قال: قلت: يا رسول الله! الرجل يسألني البيع وليس عندي: أفأبيعه؟ قال: لا تبع ما ليس عندك.

وروى النسائي في سننه 2/ 205 كتاب التطبيق: باب كيف يخر للسجود.

واقتصر على رواية شطره الأول الذي أورده ابن رجب.

(3)

ذكر السندي في حاشيته على النسائي، وتعليقًا على ترجمته المذكورة كيف يخر للسجود:

هو من الخرور وهو السقوط أي لا أسقط إلى السجود إلا قائمًا أي أرجع من الركوع إلى القيام، ثم أخر منه إلى السجود. ولا أخر من الركوع إليه ثم قال: وهذا المعنى هو ما فهمه المصنف (النسائي) وقيل معناه: لا أموت إلا ثابتا على الإسلام فهو مثل {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقيل: معناه لا أقع في شيء من تجارتي وأموري إلا قمت به منتصبا له، وقيل: معناه لا أغبن ولا أُغبن وبالجملة فهذا حديث مما أشكل على الناس فهمه وما أشار إليه المصنف في معناه أحسن والله تعالى أعلم.

وهكذا رد السيوطي هذه الأقوال التي لا تتفق مع ترجمة النسائي حيث قال: وهذه الأقوال خارجة عما جنح إليه المصنف حيث ترجم على الحديث: باب كيف يخر للسجود.

أقول وربما لو وقفوا على تفسير ابن حنبل ورأي ابن رجب لغيروا من منحاهم في تفسير الحديث.

(4)

سورة المجادلة: 13. وانظر الحديث عند المروزي في تعظيم قدر الصلاة 1/ 95 ح 12. وفيه: "يقبل".

ص: 240

إلى الشهادتين وقال: "إن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بالصلاة ثم بالزكاة"

(1)

.

ومراده أن من صار مسلمًا بدخوله في الإسلام أمر بعد ذلك بإقام الصلاة، ثم بإيتاء الزكاة.

* * *

وكان من سأله عن الإسلام يذكر له مع الشهادتين بقية أركان الإسلام كما قال لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإسلام.

وكما قال للأعرابي الذي جاءه ثائر الرأس يسأله عن الإسلام.

* * *

[الجمع بين ألفاظ الأحاديث]:

وبهذا الذي قررناه يظهر الجمع بين ألفاظ أحاديث هذا الباب ويتبين أن كلها حق، فإن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما، ويصير بذلك مسلمًا، فإذا دخل في الإسلام، فإن أقام الصلاة وآتى الزكاة، وقام بشرائع الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم وإن أخل بشيء من هذه الأركان فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا.

* * *

[فهم خاطئ]:

وقد ظن بعضهم أن معنى الحديث أن الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين، ويقيمَ الصلاة، ويؤتيَ الزكاة، وجعلوا ذلك حجة على خطاب الكفار بالفروع.

وفي هذا نظر.

وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار تدل على خلاف هذا.

(1)

رواه مسلم في صحيحه: الإيمان: باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام 1/ 51 وفيه: إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإذا أطَاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم.

ورواه البخارى في صحيحه: كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة وقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة: 43، 83، 110] 3/ 261 ح 1395 وأطرافه 1458، 1496، 2448، 4347، 7371، 7372 بنحو ما روى مسلم.

ص: 241

[دليل هذا الخطأ]:

• وفي صحيح مسلم

(1)

عن أبي هريرة رضي الله غنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليا يوم خيبر فأعطاه الراية وقال: "امْشِ وَلَا تَلْتفتْ حَتَّى يَفْتح الله عَليْكَ" فَسَارَ عَليٌّ شَيْئًا (وَلَمْ يَلْتفِتْ)

(2)

ثُمْ وَقَفَ فَصرَخَ يَا رسُول الله! عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاس! فقالَ: "قَاتَلُهُم عَلَى أن يَشْهَدُوا أَنْ لا إله إلا الله، وأَن محمدًا رَسُولُ الله؛ فَإذا فَعَلُوا ذَلِكَ فقد عَصمُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالهُمُ إلا بِحقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله عز وجل".

فجعل مجرد الإجابة إلى الشهادتين عاصمة للنفوس والأموال إلا بحقها، ومن حقها الامتناع عن الصلاة والزكاة بعد الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم.

* * *

[قتال الجماعة الممتنعة عن الشرائع]:

ومما يدل على قتال الجماعة الممتنعين من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة من القرآن قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}

(3)

وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}

(4)

وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}

(5)

مع قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}

(6)

.

وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قومًا لم يغر عليهم حتى يصبح فإن سمع أذانا وإلا أغار عليهم. مع احتمال أن يكونوا قد دخلوا في الإسلام.

وكان يوصي سراياه: "إن سمعتم مؤذنا أو رأيتم مسجدًا. فلا تقتلوا أحدًا

(7)

".

وقد بعث عيينة بن حصن إلى قوم من بني العنبر فأغار عليهم ولم يسمع أذانًا. تم ادعوا أنهم قد أسلموا قبل ذلك

(8)

.

وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل عمان كتابًا فيه: "مِنْ مُحَمدٍ النَّبيِّ إلى أهل عُمانَ سَلامٌ

(1)

في كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل علي رضي الله عنه 4/ 1871 - 1872 باختلاف يسير.

(2)

من مسلم.

(3)

سورة التوبة: 5.

(4)

سورة التوبة: 11.

(5)

سورة الأنفال: 39.

(6)

سورة البينة: 5.

(7)

كما في أبي داود 2635 والترمذي 1549 بإسناد حسن غريب.

(8)

راجع الإصابة 3/ 54 - 55.

ص: 242

عَلَيْكُمْ أَمّا بَعدُ فأقرُّوا بشهادةِ أن لَا إله إلا الله، وَأَدُّوا الزَّكاة، وخُطُّوا المساجَدَ وَإلا غَزَوْتُكُمْ". خرجه البراز والطبراني وغيرهما

(1)

.

فهذا كله يدل على أنه كان يعتبر حال الداخلين في الإسلام فإن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وإلا لم يمتنع عن قتالهم وفي هذا وقع تناظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

"لما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخْلِفَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده، وكفر من كفر من العرب قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمرتُ أنْ أُقاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لا إله إلا الله فَمَنْ قَالَ لَا إله إلا الله فقد عَصَمَ مِنِّي مَالُه وَنَفْسهُ إلا بِحقِّه وَحِسابُهُ عَلَى الله عز وجل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتِلنَّ من فَرقَ بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شَرَحَ صَدْرَ أبي بكر للقتال فعرفتُ أَنَّهُ الحق"

(2)

.

[وجهتا نظر أبي بكر وعمر]:

فأبو بكر رضي الله عنه أخذ قتالهم من قوله: "إلا بحقه" فدل على أن قتال من أتى بالشهادتين جائز، ومن حقه أداء حق المال الواجب.

وعمر رضي الله عنه ظن أن مجرد الإتيان بالشهادتين يعصم الدم في الدنيا.

[تمسكا بعموم أول الحديث كما ظن طائفة من الناس أن من أتى بالشهادتين امْتَنعَ من دخول النار في الآخرة]

(3)

تمسكًا بعموم ألفاظ وردت.

وليس الأمر على ذلك.

ثم إن عمر رجع إلى موافقة أبي بكر رضي الله عنه.

* * *

وقد خرج النسائي قصة تناظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بزيادة، وهي:

(1)

أورده الهيثمي 1/ 29 و 3/ 64 عن الطبراني في الأوسط من حديث أبي شداد من أهل دمار، وقال وإسناده لم أر أحدًا ذكرهم إلا أن الطبراني قال: تفرّدَ بِهِ موسى بن إسماعيل - وليس بالتبوذكي، وعن البزار وقال: هو مرسل وفيه من لا يعرف.

(2)

راجع ما مضى من تخريج الحديث ص 238. وحديثي 6924، 6925 من البخاري.

(3)

ما بين الرقمين ليس في ب.

ص: 243

أن أبا بكر قال لعمر: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمرْتُ أن أَقاتلَ النَّاس حَتَّى يَشْهدُوا أنْ لَا إله إلا الله وَأَنِّي رَسُولَ الله وَيُقيمَوا الصُّلاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاة

(1)

.

• وخرجه ابن خزيمة في صحيحه

(2)

ولكن هذه الرواية خطأ. أخطأ فيها عمران القطان إسنادًا ومتنا قاله أئمة الحفاظ منهم علي بن المديني وأبو زرعة وأبو حاتم والترمذي والنسائي

(3)

.

ولم يكن هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ عند أبي بكر ولا عمر.

وإنما قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ وهذا أخذه والله أعلم من قوله في الحديث "إلا بحقها" وفى رواية "إلا بحق الإسلام" فجعل من حق الإسلام إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما أن من حقه أن لا ترتكب

(4)

الحدود وجعل كل ذلك مما استثنى بقوله إلا بحقها.

* * *

[دلالة قوله: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة].

وقوله: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإنما الزكاة حق المال" يدل على أن من ترك الصلاة فإنه يقاتل، لأنها حق البدن؛ فكذلك من ترك الزكاة التي هي حق المال.

* * *

(1)

سنن النسائي في كتاب الجهاد: باب وجوب الجهاد 6/ 4 - 5 من حديث أبي هريرة و 6/ 6 - 7 من حديث أنس والمناظرة برواياتها العديدة رواها النسائي في السنن أحاديث: 2443، 3090، 3091، 3092، 3093، 3094، 3095، 3967، 3969، 3970، 3971، 3972، 3973، 3974، 2375، 3977، 5003.

(2)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: جماع أبواب التغليظ في منع الزكاة: باب الأمر بقتال مانع الزكاة اتباعا لأمر الله عز وجل بقتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وائتمارًا لأمره جل وعلا بتخليتهم بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة قال الله عز وجل {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11].

4/ 7 رواية عن محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، عن عمرو بن عاصم الكلابي، عن عمران القطان، عن معمر بن راشد، عن الزهري، عن أنس بن مالك. بنحوه.

قال محققه: إسناده منكر لكن للحديث شواهد كثيرة. والمتن صحيح.

(3)

قال النسائي عقب روايته السابقة (6/ 7): عمران القطان ليس بالقوي في الحديث وهذا الحديث خطأ (يعني رواية أنس) والذي قبله الصواب: حديث الزهري عن عبيد الله بن عتبة عن أبي هروة وليس فيه ذكر الصلاة والزكاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

(4)

ب: "تركب".

ص: 244

• وفي هذا إشارة إلى أن قتال تارك الصلاة أمر مجمع عليه؛ لأنه جعله أصلًا مقيسا عليه، وليس هو مذكورًا في الحديث الذي احتج به عمر رضي الله عنه وإنما

(1)

أخذ من قوله: "إلا بحقها" فكذلك الزكاة؛ لأنها من حقها.

وكل ذلك من حقوق الإسلام.

* * *

[من أدلة القتال على ترك الصلاة]:

ويستدل أيضًا على القتال على ترك الصلاة بما في صحيح مسلم عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"يُستَعْمَلُ عَلْيكُمْ أُمراءُ فَتَعْرفُون وَتُنكِرُون فَمَنْ أنْكَرَ فَقَدْ برئ وَمَنْ كَره فَقَدْ سَلِم، ولكِنْ مَنْ رَضيَ وَتَابعَ"، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله! ألا نُقَاتِلُهُمْ؟ قال: "لا! مَا صَلَّوْا"

(2)

.

* * *

[القتال على ترك الطَّائفة سائر أركان الإسلام]:

وحكم من ترك سائر أركان الإسلام أن يقاتلوا عليها كما يقاتلون على ترك الصلاة والزكاة.

• وروى ابن شهاب عن حنظلة بن علي بن الأسقع أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه وأمره أن يقاتل الناس على خمس، فمن ترك واحدة من الخمس فقاتلهم عليها كما تقاتل على الخمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان.

• وقال سعيد بن جبير: قال عمر بن الخطاب: "لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم عليه كما نقاتلهما على الصلاة والزكاة".

فهذا الكلام في قتال الطائفة الممتنعة عن شيء من هذه الواجبات.

(1)

في المطبوعة: "وإنه".

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة: باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا 3/ 1480 ح 1854.

ص: 245

[قتال الفرد أو قتله]:

وأما قتل الواحد المتنع عنها فأكثر العلماء على أنه يقتل المتنع عن الصلاة.

وهو قول مالك والشافعي، وأحمد، وأبي عبيد، وغيرهم.

• ويدل على ذلك ما في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري: أن خالد بن الوليد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل رجل فقال: "لا؛ لعله أن يكون يصلي؟ " فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إنِّي لَمْ أَومَر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ الناس وَلا أشُقَّ بَطُونَهَم"

(1)

.

• وفي المسند للإمام أحمد رحمه الله عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلًا من الأنصار حدثه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليْس يَشْهَدُ أَن لا إله إلا الله؟ ".

قال: بلى، ولا شهادة له.

[قال: "ألَيس يَشْهَدُ أن مُحمدًا رسُول الله"؟ قال: بلى]

(2)

. قال: "أَليْسَ يصَلِّي"؟ قَالَ: بلىَ ولا صَلَاة له!؟ قال: "أُولَئكَ الذينَ نَهَاني الله عن قَتْلِهم"

(3)

.

* * *

[قتل المتنع عن أداء الزكاة]:

وأما قتل المتنع عن أداء الزكاة ففيه قولان لمن قال: يقتل الممتنع من فعل الصلاة.

أحدهما: يقتل أيضًا وهو المشهور عن أحمد رحمه الله ويستدل له بحديث ابن عمر هذا.

والثاني: لا يقتل، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد في رواية.

* * *

(1)

أنقب عن قلوب الناس: أبحث وأفتش والحديث أخرجه البخاري في كتاب المغازي: باب بعث على بن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن قبل حجة الوداع 8/ 67.

ومسلم في كتاب الزكاة: باب ذكر الخوارج وصفتهم 2/ 742.

(2)

ما بين الرقمين من المسند.

(3)

مسند أحمد 5/ 432 - 433 (حلبي) وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 24 عن أحمد وقال: رجاله رجال الصحيح.

ص: 246

[والصوم]:

وأما الصوم فقال مالك وأحمد في رواية عنه: يقتل بتركه.

وقال الشافعي وأحمد في رواية: لا يقتل بذلك.

ويستدل له بحديث ابن عمر وغيره مما في معناه. فإنه ليس في شيء منها ذكر الصوم.

ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب: الصوم لم يجئ فيه شيء.

* * *

قلت: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا وموقوفا: أن من ترك الشهادتين أو الصلاة أو الصيام فهو كافر حلال الدم بخلاف الزكاة والحج.

* * *

وقد سبق ذكر شرحه في حديث بُني الإسلام على خمس.

[الحج؟]:

وأما الحج فعن أحمد رحمه الله في القتل بتركه روايتان.

وحمل بعض أصحابنا رواية قتله على من أخره عازما على تركه بالكلية. أو أخره وغلب على ظنه الموت في عامه فأما إن أخَّره معتقدًا أنه على التراخي كما يقوله كثير من العلماء؛ فلا قتل بذلك.

* * *

[عودٌ إلى شرح الحديث].

• وقوله صلى الله عليه وسلم "إلا بِحَقها" وفي رواية "إلا بِحَق الإسلام" قد سبق أن أبا بكر أدخل في هذا الحق - فعل الصلاة والزكاة، وأن من العلماء من أدخل فيه فعل الصيام والحج أيضًا.

* * *

ومن حقها ارتكاب ما يبيح دم المسلم من المحرمات.

وقد ورد تفسير حقها بذلك خرجه الطبراني وابن جرير الطبري من حديث أنس عن

ص: 247

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُمْرت أنْ أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قَالُوها عَصمُوا مِني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُم إلَّا بحَقِّها وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله عز وجل. قيل: وما حقها؟ قال: زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، وكُفرٌ بَعْدَ إيمانٍ، وقَتْلُ نفسٍ فَيُقتَلُ بِهَا".

ولعل آخره من قول أنس

(1)

.

وقد قيل: إن الصواب وقف الحديث كله عليه.

* * *

ويشهد لهذا ما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَحلُّ دَمُ امْرئٍ مُسْلمٍ يَشْهدُ أَنْ لَا إلَه إلَّا الله وأَنِّي رَسُول الله إلا بإِحْدَى ثَلاتٍ الثَّيبُ الزّاني، والنَّفسُ بالنفس، وَالتَّارِك لِديِنه المُفَارِق للجَمَاعة".

وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفى عند ذكره في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "وحِسَابهُمْ عَلَى الله عز وجل".

يعني أن الشهادتين مع إقام الصلاة وإيتاء الزكاة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا إلا أن يأتي ما يبيح دمه.

وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل: فإن كان صادقًا أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذبًا فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار.

وقد تقدم

(3)

أن في بعض الروايات في صحيح مسلم "ثم تلا: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}

(4)

.

والمعنى: إنما عليك تذكيرهم بالله ودعوتهم إليه، ولست مسلطا على إدخال الإيمان في قلوبهم قهرًا، ولا مكلفًا بذلك.

ثم أخبر تعالى أن مرجع العباد كلهم إليه، وحسابهم عليه.

وفي مسند البزار عن عياض الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لا إله إلا الله كلمةٌ

(1)

حديث أنس أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 25 - 26 عن الطبراني في الأوسط وقال: فيه عمرو بن هاشم والأكثر على توتيقه.

(2)

في الحديث الرابع عشر من الكتاب.

(3)

ص 238.

(4)

سورة الغاشية: 21 - 26.

ص: 248

عَلَى الله كريمةٌ لَها عِنْدَ الله مَكَانٌ، وهِى كَلِمَةٌ مَنْ قالها صادقًا أَدْخَلَهُ الله بِها الجنَّة، ومَنْ قَالَها كاذِبًا حَقَنَتْ مَالهُ ودمَهُ، ولَقِى الله غدًا فَحَاسَبَهُ"

(1)

.

[قبول توبة الزنديق]:

وقد استدل بهذا من يرى قبول الزنديق، وهو المنافق، إذا أظهر العود إلى الإسلام، ولم ير قتله بمجرد ظهور نفاقه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقق ويُجْريهمْ على أحكام المسلمين في الظاهر مع علمه بنفاق بعضهم في الباطن.

وهذا قول الشافعي وأحمد في رواية عنه.

وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء والله أعلم

(2)

.

(1)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 26 عن البزار وقال: رجاله موثقون إن كان تابعيه عبد الرحمن بن مسعود، وفي الكشف 1/ 10 حقنت دمه وماله، وتعليقا على كلمة الهيثمي قال محقق الكشف: كيف يمكن هذا والمذكور في مسند البزار منسوب قرشيا وهذا هذلي؟

والحديث في الكشف عن عبد الوارث بن عبد الصمد، عن أبيه، عن عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الملك بن عمير هكذا، قال عن عبد الرحمن القرشي عن عياض قال العلامة المحقق: كذا في الأصل وفي الإصابة: عبيدة عن عبد الملك بن عبد الرحمن الأنصاري، عن عياض وفيه أنه المحفوظ، قلت: فعبد الرحمن علي هذا ليس من الرواة، فلتراجع نسخة أخرى وانظر الإصابة 4/ 759، والكبير للطبراني 17/ 314.

(2)

في "أعلام السنن" له تعليقا على حديث ابن عمر المرفوع: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله

الحديث وفيه: "وحسابهم على الله" فقد قال الخطابي: "ومعنى قوله": "وحسابهم على الله" أي فيما يستسرون له، دون ما يخلون به من الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر، وفيه دلالة على أن الكافر المستسر بكفره، لا يُتعرض له، إذا كان ظاهر حاله الإسلام، وأن توبته مقبولة إذا أظهر الإنابة من كُفْرٍ، علم بإقراره أنه كان يعتقده قبل، وهو قول أكثر العلماء".

أعلام السنن 1/ 138 ط. المغرب (منشورات عكاظ. الرباط).

ص: 249

‌الحديث التاسع

عن أبي هريرة: عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:

"مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْه فَاجْتنِبوهُ، ومَا أَمرْتُكُمْ بِه فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فإنَّمَا أَهْلَكَ الّذيِنَ منْ قَبْلِكُمْ كَثرةُ مَسَائِلهِمْ، واختلافُهُم عَلَىَ أَنْبيائِهمْ". رواه البخاري ومسلم:

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث بهذا اللفظ خرجه مسلم وحده من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة

(1)

.

وخرجَاهُ من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوني ما تركتكم إنما أهْلكَ مَنْ كان قَبْلكم سؤالُهم واخْتلافُهمْ على أَنْبيائهم فإذا نَهَيتُكُم عَنْ شيء فَاجْتَنِبُوه، وإذا أَمَرْتكُم بِأَمْرٍ فَأتوا مِنْه مَا استَطعتُم

(2)

".

وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن أبي هريرة بمعناه

(3)

.

[سبب ورود الحديث]:

وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

• خَطَبَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيُّها النَّاسُ! قَدْ فَرضَ الله عَلَيْكُمُ الحَجَّ فحُجُّوا" فقال رجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ؟ يَا رَسوُلَ الله فَسَكَتَ حتَّى قَالَهَا ثلاثًا؛ فَقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قُلتُ نَعمْ لَوَجَبَتْ وَلَما استَطعْتُم ثم قال: ذَرُوني مَا تَرَكْتُكُمْ فَإنَّما هَلَكَ مَنْ كان قَبْلكُم بِسؤَالِهمْ وَاخْتِلافهِم عَلَى أَنْبيَائِهِم؛ فَإذَا أَمرْتُكُمْ بِشَيءٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَإذَا نَهيتكُمْ عَنْ شَيء فَدَعُوه"

(4)

.

وخرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرًا

(5)

وقال فيه: فنزل قوله تعالى.

(1)

في كتاب الفضائل: باب توقيره صلى الله عليه وسلم 4/ 1830. وفيه: "وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم".

(2)

البخاري في كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم 13/ 251 ومسلم في الباب المذكور 4/ 1831 واللفظ الذكور للبخاري.

(3)

في الموضع نفسه.

(4)

أخرجه مسلم في كتاب الحج: باب فرض الحج مرة في العمر 2/ 975 وانظر أيضًا تفسير ابن كثير 2/ 105.

(5)

في السنن 2/ 280 - 291 من حديث علي رضي الله عنه بإسناد منقطع كما في التعليق المغني.

ص: 251

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}

(1)

.

* * *

• وقد روي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج وقالوا أفي كل عام؟.

* * *

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال:

خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ: مَنْ أبي؟ فقال: "فلان" فنزلت هذه الآية:

{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}

(2)

.

* * *

وفيهما أيضًا عن قتادة عن أنس، قال: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتى أحْفَوُه

(3)

في المسألة فَغَضِبَ فَصَعِدَ المنِبَرَ فَقَالَ: "لا تَسألوني اليَوْمَ عَنْ شَيء إلا بَيَّنْتُه". فقام رَجُلٌ كانَ إذا لَاحى

(4)

الرِّجَالَ دُعِيَ إلَى غَيْر أبيه، فَقَالَ: يا رسُولَ الله! مَنْ أَبي؟ قال: "أبُوَكَ حُذافةُ" ثُمَّ أنْشَأ عَمَرُ فقال: رَضينَا بالله رَبًّا وبالإسْلامِ دِينًا وبمُحَمدٍ رَسُولًا، نَعُوذُ بالله مِنْ الفِتَن.

وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآلة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}

(5)

.

* * *

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال:

كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل: مَنْ أَبي؟ ويقول الرَّجلُ تضِلُّ ناقته: أَيْنَ نَاقَتِي؟ فأنزل الله هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}

(6)

.

* * *

(1)

سورة المائدة: 101.

(2)

الحديث رواه البخاري في الفسير: سورة المائدة 8/ 280. ومسلم في كتاب الفضائل: باب توقيره صلى الله عليه وسلم 1832.

(3)

أحفوه: أكثروا في الإلحاح وبالغوا فيه.

(4)

لاحى الرجال: قاولهم وخاصمهم ونازعهم .. راجع النهاية 4/ 243.

(5)

صحيح البخاري: دعوات: باب التعوذ من الفتن، 11/ 172 - 173 بنحوه. ومسلم: فضائل باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع ونحو ذلك 4/ 1834.

(6)

صحيح البخاري التفسير: سورة المائدة آية 101.

ص: 252

وخرج ابن جرير الطبري في تفسيره

(1)

من حديث أبي هريرة قال خَرجَ رَسَولُ الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ غَضْبَانُ مُحْمارًّا وَجْهُهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى المِنْبر فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ فقال: "في النار" فَقَامَ إليه آخرُ فقال: مَنْ أبي؟ قال: "أبُوكَ حُذافَةٌ" فَقَامَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: "رَضِينَا بالله رَبًّا، وَبالإسلامِ دِينًا، وبمحمَّدٍ نَبِيًّا، وَبالقْرْآن إمَامًا إنّا يا رسولَ الله حَديثُو عَهْدٍ بِجِاهليَّة وَشِرْك وَالله أَعْلَم مَنْ آباؤنا؟ قَال: فَسَكَنَ غَضَبُهُ ونَزَلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}

(2)

.

وروي أيضًا من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن في الناس فقال: يا قوم! "كُتبَ عليْكم الحجُّ" فقام رجل فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فَأَغَضَبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غَضَبًا شديدًا فقال: "والذي نَفْسِي بيده لو قُلْتُ نَعْم لَوجَبتْ ولو وَجَبت ما استَطعْتُم، وإذن لكفرْتم فَاتْركُوني مَا تركتكُمْ فإذا أمرتكم بشيء فافْعَلوا، وإذا نهيْتكُم عن شيء فانْتهوا عَنْه" فأنَزْلَ الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} نهاهما أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله تعالى عن ذلك [وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك]

(3)

ولكن انتظروا

(4)

فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه

(5)

.

* * *

[دلالة الأحاديث]:

فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يُحتاج إليه مما يسوء السائل جوابُهُ مثل سؤال السائل هل هو في النار؟ أو في الجنة؟ وهل أبوه من ينتسب إليه أو غيره؟ وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء كما كان يفعله

(1)

11/ 103 (المعارف).

(2)

أورده ابن كثير في التفسير 2/ 105 عن ابن جرير وذكر أن إسناده جيد.

(3)

الزيادة من الطبري، وفي بعض الأصول "عن ذلك

ولكن".

(4)

في بعض الأصول: "انظروا" والتصويب عن الطبري.

(5)

تفسير الطبري 11/ 159 - 110 وذكر محققه أن إسناده ضعيف راجع ما ذكره بالهامش وما أحال عليه.

وأورده السيوطي في الدر المنثور 2/ 335 - 336 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن كثير في التفسير 2/ 106 عن عطية العوفي، عن ابن عباس.

ص: 253

كثير من المنافقين وغيرهم.

وقريب من ذلك سؤال الآيات واقتراحها على وجه التعنت كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب.

وقد قال عكرمة وغيره: إن الآية نزلت في ذلك

(1)

.

ويقرب من ذلك: السؤال عما أخفاه الله عن عباده ولم يطعهم عليه كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح.

ودلت أيضًا على نهي المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سَبَبًا لنزول التشديد فيه؛ كالسؤال عن الحج هل يجب كل عام أو لا؟

[وشواهد ذلك]:

• وفي الصحيح

(2)

عن سعد [بن أبي وقاص رضي الله عنه]

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"إنَّ أَعظَمَ الْمُسْلِمين في الْمُسْلِمينَ جُرْمًا مَنْ سَأل عَنْ شَيء لَمْ يُحَرَّم فَحُرِّم مِنَ أَجْلِ مَسْألَتِهِ".

* * *

• ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللعان كره المسائل وعابها حتى ابْتُلي السائل عنه

(4)

قبل وقوعه - بذلك في أهله

(5)

.

* * *

• وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال

(6)

.

(1)

قال ابن كثير في الموضع المذكور: يعني عكرمة رحمه الله إن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات كما سألت قريش أن يجري لهم أنهارًا ويجعل لهم الصفا ذهبًا، و غير ذلك، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتابًا من السماء.

(2)

مسلم. كتاب الفضائل: باب توقيره صلى الله عليه وسلم 4/ 1831. والبخاري في الاعتصام 13/ 264.

(3)

ليست في ب. ولا في أ.

(4)

في المطبوعة: "به عينه".

(5)

راجع ما جاء في ذلك في صحيح مسلم: اللعان. 2/ 1133 - 1134.

(6)

راجع ما رواه البخاري في الأدب: باب عقوق الوالدين من الكبائر 10/ 405 من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال". وهو عند مسلم (593) من وجوه.

ص: 254

[سؤال الرسول بين النهي عنه والرخصة فيه]:

• ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في السائل إلا للأعراب ونحوهم من الوفود القادمين عليه: يتألفهم بذلك. فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم فنهوا عن المسألة، كما في صحيح مسلم

(1)

عن النواس بن سمعان قال: أَقَمْتُ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بالمدِينةِ سَنَةً ما يَمْنَعُني من الهِجرَةِ إلا الْمَسْأَلَةُ؛ كان أَحَدُنا إذا هَاجَرَ لَمْ يَسْأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء [قال فسألته عن البر والإثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق. والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس"].

* * *

• وفيه أيضًا عن أنس رضي الله عنه قال: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ شيء فَكَان يُعْجِبنَا أَنْ يَجِيء الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ البَادية العَاقلُ، فَيسْأَلَهُ ونَحْنُ نَسْمَع

(2)

.

* * *

وفي المسند عن أبي أمامة قال: كان الله قد أنزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .

قال: فكنا قد كرهنا كثيرًا من مسألته واتقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قال: فأتينا أعرابيا فرشوناه بُرْدًا

(3)

ثم قلنا له: سل النبي صلى الله عليه وسلم وذكر حديثا

(4)

.

وفي مسند أبي يعلى عن البراء بن عازب قال: "إنْ كَانَ لَتَأْتِي عَلَيَّ السَّنَةُ أُريدُ أنْ أَسْأل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيءٍ فَأتَهَيَّبُ منْهُ وإن كُنَّا لَنَتَمَنَّى الأعراب"

(5)

.

* * *

(1)

في كتاب البر والصلة والآداب: باب تفسير البر والإثم 4/ 1980 ح 15 - (3553).

(2)

صحيح مسلم في كتاب الإيمان: باب السؤال عن أركان الإسلام 1/ 41 ح 10 - (12).

(3)

البرد: كساء مخطط يلتحف به وبعد هذا في المسند: فاعتم به حتى رأيت حاشية البرد خارجة من حاجبه الأيمن قال: ثم قلنا له

الحديث ومعنى قوله: رشوناه بردا: حبوناه به راجع المعجم الوسيط 1/ 47.

(4)

مسند أحمد 5/ 266 (حلبي) وفيه بعد هذا: قال: فقال: يا نبي الله. كيف رفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها، وعلمناها نساءنا وذرارينا وخدمنا؟ قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وقد علت وجهه حمرة من الغضب، قال: فقال: ثكلتك أمك وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يصبحوا يتعلقوا بحرف مما جاءتهم به أنبياؤهم. ألا وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته (ثلاث مرات).

(5)

رواه أبو يعلى في المسند الكبير، انظر المطالب العالية 3/ 325.

ص: 255

وفي مسند البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رَأَيْتُ قَوْمًا أَخيرَ مِنْ أَصحَاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَا سَألُوه إلا عَنْ اثْنَتيْ عَشْرةَ مَسْأَلَةً كُلها في القَرْآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}

(1)

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}

(2)

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى}

(3)

وذكر الحديث

(4)

.

* * *

[السؤال عما يتوقع]:

وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له: إنا لاقُوا العدوِّ غدا، وليس معنا مُدًى أفنذبح بالقصب؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده، وعن طاعتهم، وقتالهم.

وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها.

* * *

[عودٌ إلى الحديث]:

فهذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم":

يدل على كراهة المسائل وذمها.

‌[هل كان خاصًّا بزمنه صلى الله عليه وسلم

-؟]:

ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصًّا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يحرم، أو إيجاب ما يشق القيام به، وهذا قد أمن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

ولكن ليس هذا وحده هو سبب كراهية المسائل، بل له سبب آخر، وهو الذي أشار إليه ابن عباس في كلامه الذي ذكرناه بقوله: ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا

(1)

سورة البقرة: 219.

(2)

سورة البقرة: 217.

(3)

سورة البقرة: 220.

(4)

أخرجه الدرامي في سننه 1/ 50 - 51 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 158 - 159 عن الطبراني في الكبير، قال: وفيه عطاء بن السائب ثقة ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات.

وهو عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/ 1062 ح 2053 من طريق عطاء كذلك؛ فإسناده ضعيف لذلك؛ سيما الرواية عنه في هذا الحديث بعد اختلاطه وانظر ما ذكره المحقق.

ص: 256

تَسْألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه.

[الحاجة الحقيقية إلى فهم ما تم الإخبار به]:

ومعنى هذا: أن جميع ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم لابد أن يبينه الله في كتابه العزيز، ويبلِّغ ذلك رسولُهُ صلى الله عليه وسلم عنه، فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال، فإن الله تعالى أَعْلم بمصالح عباده منهم، فما كان فيه هدايتهم ونفعهم فإن الله تعالى لابد أن يبينه لهم ابتداء من غير سؤال كما قال {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}

(1)

.

وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال عن شيء، ولا سيما قبل وقوعه، والحاجة إليه. وإنما الحاجة الهمة إلى فهم ما أخبر الله به ورسوله، ثم اتباع ذلك والعمل به.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن السائل فيحيل على القرآن كما سأله عمر عن الكلالة فقال يكفيك آية الصيف

(2)

وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى أن في الاشتغال بامتثال أمره، واجتنات نهيه شغلا عن المسائل فقال:

"إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيء فَاجْتَنبُوهُ وإذَا أَمَرْتُكُمْ بَأَمْرٍ فَأتُوا مِنهُ مَا اسْتَطعْتُمْ".

[ماذا على المسلم؟]:

فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام: أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية، وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر، واجتناب ما ينهى عنه، وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره.

[هكذا كانوا]:

وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة.

(1)

سورة النساء 176.

(2)

هي قوله تعالى في آخر سورة النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} الآية وكان نزولها في فصل صيف فلهذا سميت آية الصيف. وقد أورده:

ابن كثير في التفسير 1/ 592 - 593 وهو عند أحمد في المسند 1/ 192، 231 (المعارف مطولا) ومختصرًا 269 بإسناد صحيح كما ذكر محققه العلامة الشيخ شاكر، ومسلم: كتاب الفرائض: باب ميراث الكلالة 3/ 1236.

وابن ماجه في السنن: الفرائض: باب الكلالة 2/ 910 ولفظها: يا عمر! تكفيك آية الصيف، ولفظ أحمد في الموضعين: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء، ولفظ مسلم: يا عمر! ألا تكفيك آية الصيف

الحديث. ولفظ المطبوعة من تفسير ابن كثير. يكفيك بالياء. وهي في طبعتي المسند بالتاء.

ص: 257

[الصورة المقابلة]:

فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع فإن هذا مما يدخل في النهي، ويثبط عن الجد في متابعة الأمر.

[اتباع السنة]:

وقد سأل رَجلٌ ابن عَمَر عَنِ اسْتلامِ الحَجَر فَقَال لَهُ: رَأيتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَستَلِمهُ وَيُقَبِّلُهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أرأَيْتُ أَنْ غُلِبتُ عَنْهُ؟ أرَأيْتَ أَنْ زُوحمتُ؟ فقال له ابْنُ عَمَر: اجعل "أَرأَيْتَ" بِاليَمَن؛ رَأَيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُه ويُقَبِّلُهُ.

خرجه الترمذي

(1)

.

[ومتى يحمد السؤال في العلم؟]:

ومراد ابن عمر أن لا يكون لك هم إلا في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا حاجة إلى

(2)

فرض العجز عن ذلك، أو تَعَسُّرِه قبل وقوعه، فإنه قد يفتِّرُ

(3)

لعزم على التصميم على المتابعة

(4)

؛ فإن التفقه في الدين والسؤال عن العلم إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدل.

* * *

[العلم والفتنة]:

• وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان فقال له عمر: متى ذلك يا علي؟ قال: إذا تُفُقِّه لغير الدين، وتُعُلِّم لغير العمل، والتُمِست الدنيا بعمل الآخرة.

* * *

• وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهزم فيها الكبير، وتتخذ سنة، فإن غيرت يومًا قيل: هذا منكر؟ قالوا: ومتى ذلك؟ قال إذا قلّت أمناؤكم، وكثرت أُمراؤكم، وقلَّتْ فقهاؤكُمْ، وكثرت

(1)

سنن الترمذي: كتاب الحج: باب ما جاء في تقبيل الحجر 3/ 215 وقال: حديث حسن صحيح.

(2)

في المطبوعة: "إلا " وهو تحريف.

(3)

هكذا ضبطت في (ب) بتشديد التاء وكسرها.

(4)

من هنا إلى قوله" في كتابه" ليس في أ.

ص: 258

قراؤكم، وتفقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة.

خرجهما عبد الرزاق في كتابه

(1)

.

[لماذا كانوا يكرهون السؤال؟]:

ولهذا المعنى كان كثير من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، ولا يجيبون عن ذلك.

قال عمرو بن مرة: "خرج عمر رضي الله عنه على الناس فقال: أُحَرِّج عليكم أن تسألونا عما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلا".

• وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لا تسألوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ؟ فَإنِّي سَمِعتُ عُمَرَ رضي الله عنه يقول: لُعن السَّائلُ عَمَّا لَمْ يَكُنْ".

* * *

• وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا؟ فإن قالوا: لا؛ قال: دعوه حتى يكون

(2)

.

* * *

• وقال مسروق: "سألت أبَيَّ بنَ كعب عن شيء، فقال: أكان بَعدُ؟ فقلت: لا: فقال: أَجِمَّنَا [يعني أرحنا]

(3)

حتى يكون؛ فإذا كان: اجتهدنا لك رأْينا.

* * *

• وقال الشعبي: "سئل عمار عن مسألة فقال: هل كان هذا بعدُ؟ قالوا: لا.

قال: فدعونا حتى يكون؛ فإذا كان تجشَّمْنَاهُ لكم".

* * *

• وعن الصلت بن راشد قال: "سألتُ طاووسًا عن شيء فانتهرنى وقال: أكان هذا؟ قلت: نعم. قال: آلله؟ قلت: آلله، قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، أنه قال:. أيها الناس! لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فَيَذْهَبَ بكم

(1)

المصنَّف برقمي 20742، 20743 وانظر ما أورده المحقق بهامشيهما.

(2)

هذا والأثران قبله رواهما الدارمي في أوائل مسنده وأوردهما عنه ابن حجر في الفتح 13/ 280 وانظر جامع بيان العلم 2/ 1064 - 1067.

(3)

ما بين القوسين ليس في أ.

ص: 259

ها هنا وها هنا: فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله لم ينفكَّ المسلمون أن يكون فيهم مَنْ إذا سُئِل سُدِّدَ، أو قال وُفِّقَ.

[النهي عن سؤال ما لم يكن]:

وقَد خَرَّجَهُ أبو دَاودَ في كتاب المَراسِيلَ مَرْفُوعًا

(1)

مِنْ طَرِيق ابن عَجْلان عنْ طَاوُوس عن مُعَاذ بن جَبَلٍ قَال: قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تُعَجِّلُوا بالْبليَّة قبْل نزولها فَإنكم إن لم تَفْعَلوا لَمْ يَنْفَكَّ المسْلمونَ [أَنْ يَكُونَ] مِنْهُم مَنْ إذا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّق، وَإنَّكُم إنْ عَجَّلتُمْ تَشَتَّتتْ بِكُمُ السُّبُلُ هَهُنا وههنا".

ومعنى إرساله أن طاووسا لها يسمع من معاذ.

وخرجه أيضًا من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه مرسلًا

(2)

.

* * *

[وروى الحجاج بن منهال: حدثنا جرير بن حازم، سمعت الزبير بن سعيد - رجلًا، من بني هاشم - قال: سمعت أشياخنا يحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"لا يزالُ في أُمَّتِي مَنْ إذا سئِل سُدِّد وأُرْشِدَ حَتّى يسْألوا عَمَّا لم يَنْزل تَبْيينهُ فإذا فَعلُوا ذَلك ذُهب بِهْم هَهُنَا وَهَهُنَا

(3)

".

[النهي عن الأغلوطات]:

وقد روي عن الصُّنابِحي، عن معاوية، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن الأُغْلُوطَاتِ.

خرجه الإمام أحمد رحمه الله

(4)

وفسره الأوزاعي وقال: هي شِدادُ المسائل

(5)

.

(1)

في "ما جاء في العلم" ص 322 - 323.

(2)

عقبه وقال ابن حجر في الفتح 13/ 267 وهما مرسلان يقوي بعضهما بعضا.

(3)

ما بين الرقمين ليس في أ. والأثر أورده ابن حجر في الفتح في الموضع نفسه وفي (م)"أن رجلًا " وفي (ب)"ورجلًا" وكلاهما تحريف.

(4)

في المسند 5/ 435 (الحلبى) وهو عند أبي داود في السنن كتاب العلم. باب التوقي في الفتيا 4/ 65 كلاهما بلفظ: "الغلوطات".

(5)

في المسند في الموضع المذكور: شداد المسائل هكذا بالدال.

وفي معالم السنن بهامش أبي داود في الموضع السابق قال الشيخ: وقد روي: أنه نهى عن الأغلوطات وحكي عن الأوزاعى قوله في بيانها: أنها شرار المسائل بالراء، وشداد المسائل هي صعابها وشرارها وربما يرجع هذا الذي حكاه الخطابي ما حكاه ابن رجب عن الحسن - الآتي بعد حديث ثوبان. =

ص: 260

وقال عيسى بن يونس: هي ما لا يُحْتَاج إليه من كيف وكيف.

* * *

[الآثار في ذلك]:

ويروى من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سَيَكُونُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتي يُغَلِّطونَ فُقَهَاءَهُمْ بِعُضَل الْمسَائل، أولئك شِرَارُ أُمتّي"

(1)

.

* * *

• وقال الحسن: "شِرارُ عباد الله الذين يتبعون شِرارَ المسائل يَغُمُّونَ بِها عبَاد الله".

• وقال الأوزاعي "إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط. فلقد رأيتهم أقلَّ الناس علما".

* * *

• وقال ابن وهب عن مالك: "أدركت هذه البلدة، وإنَّهُمْ ليكرهون هذا الإكثارَ الذي فيه النَّاسُ اليوم".

يريد المسائل.

• وقال أيضًا: سمعت مالكا وهو يعيب كثرة الكلام، وكثرة الفتيا ثم قال: يتكلم كأنه جمل مُغْتَلِم

(2)

يقول: هو كذا هو كذا يهدر في كلامه.

* * *

= ثم قال الخطابى: والأغلوطات واحدها أغلوطة، وزنها أفعولة، من الغَلط، كالأحموقة من الحمق، والأسطورة من السطر فأما الغلوطات فواحدها غَلوطة مبنى من الغلْط كالحلوبة والركوبة من الحلب والركوب، والمعنى أنه نهى عن أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها، ويستسقط رأيهم فيها. وهو في جامع بيان العلم 2/ 1055 - 1056 من وجوه ضعيفة.

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير 2/ 98 ح 1431 من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن يزيد بن ربيعة، عن أبي الأشعث، عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سيكون أقوام من أمتي يتعاطون فقهاؤهم عضل المسائل .. " الحديث.

ويزيد بن ربيعة متروك كما ذكر الهيثمي في المجمع 1/ 55، والحديث ضعيف جدًّا كما ذكر الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 3/ 592.

(2)

المغْتلِم: المضطرب الهائج.

ص: 261

• قال: وسمعتُ مالكا يكره الجواب في كثرة المسائل وقال: قال الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}

(1)

فلم يأته في ذلك جواب، وكان مالك يكره المجادلة عن السنن أيضًا.

• قال الهيثم بن جميل: قلت لمالك: يا أبا عبد الله! الرجل يكون عالما بالسنن؛ يجادل عنها؟ قال: لا ولكن يخبر بالسنة، فإن قُبلت منه وإلا سكت.

* * *

• قال إسحق بن عيسى: "كان مالك يقول: الراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل".

* * *

• وقال ابن وهب: "سمعت مالكًا يقول: الراء في العلم يُقْسِى القلوب ويورث

(2)

الضِّغْنَ".

* * *

• وكان أبو شريح الإسكندارني يوما في مجلسه فكثرت المسائل فقال: قد دَرَنَتُ قلوبكم منذ اليوم؛ فقوموا إلى أبي حميد: خالد بن حميد اصقلوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتحر الصداقة، وأقِلّوا المسائل إلا ما نَزَل، فإنها تُقْسي القلوب، وتُورثُ العَدَاوةَ.

• وقال الميموني: "سمعت أبا عبد الله يعني أحمد - يُسْأَلُ عن مسألة فقال: وقعت هذه المسألة؟ بليتم بها بعد؟ ".

* * *

[الناس في هذا أقسام]:

وقد انقسم الناس في هذا الباب أقسامًا.

فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل حتى قَلَّ فقهه

(3)

وعلمه بحدود ما أنزل

(1)

سورة الإسراء: 85.

(2)

في المطبوعة: "يؤثر" وهو تحريف.

(3)

م: "فهمه".

ص: 262

الله على رسولِه، وصار حاملَ فقه غيرَ فقيه.

* * *

ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها: ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك، وكثرة الخصومات فيه، والجدال عليه، حتى يتولدَ من ذلك افتراقُ القلوب، ويستمرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشحناءُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويقترن ذلك كثيرًا بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس.

وهذا مما ذمه العلماء الربانيون، ودلَّت السنة على قبحه وتحريمه.

* * *

[فقهاء الحديث ومنهجهم الأمثل]:

وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وتفهّمها والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة، والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير، والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السُّنَّة، والزهد والرقائق وغير ذلك.

وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين.

* * *

[من ثمرات هذا المنهج]:

• وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أَحْدَثَ النَّاسُ من الرأي مما لا ينتفع به ولا يقع، وإنما يورث التجادل فيه الخصومات والجدالَ، وكثرةَ القيل والقال.

[مما قيل عنه]:

• وكان الإمام أحمد كثيرًا إذا سئل عن شيء من المسائل المولَّدات التي لا تقع يقول: "دعونا من هذه المسائل المحدثة".

* * *

ص: 263

• وما أحسن ما قاله

(1)

يونس بن سليمان السَّقَطى

(2)

: "نظرت في الأمر فإذا هو الحديث والرأي، فوجدت في الحديث ذكر الرب عز وجل وربوبيّته وجلاله

(3)

وعظمته، وذكر العرش، وصفة الجنة والنار، وذكر النبيين والمرسلين، والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام، وجماع الخير فيه.

ونظرت في الرأي فإذا فيه المنكر والغدر والحيل وقطيعة الأرحام، وجماع الشر فيه".

* * *

• وقال أحمد بن شبُّوية: "من أراد علم القبر فعليه بالآثار، ومن أراد علم الخُبْزِ فعليه بالرأي".

* * *

• ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبًا؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها.

* * *

[الائتمام بالأئمة]:

• ولا بد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم، كالشافعي، وأحمد، وإسحق، وأبي عبيد، ومن سلك مسلكهم؛ فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقتهم في قع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وترك ما يجب العمل به.

[وملاك الأمر في هذا]:

ومِلاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله عز وجل، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله، وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه.

ومن كان كذلك وفقه الله، وسدده، وألهمه رشده، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب

(4)

في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(5)

. ومن الراسخين في العلم.

(1)

م "قاله".

(2)

ب: "السفطي".

(3)

م "وربوبيته وإجلاله".

(4)

ليست في ب.

(5)

سورة فاطر: 28.

ص: 264

[الراسخون في العلم]:

• وقد خرج ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم؛ فقال: "مَنْ بَرَّتْ يمينُه، وصدق لسانهُ، واستقام قَلْبُه، ومن عفَّ بطنُه وفرجه؛ فذلك من الراسخين في العلم

(1)

".

* * *

• وقال نافع بن زيد

(2)

: يقال: الراسخون في العلم: المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون

(3)

مَن فوقهم، ولا يَحقِرون مَنْ دونهم.

ويشهد لهذا قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهلُ اليمن، هم أبرُّ قلوبا، وأرقُّ أفئدةً، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية"

(4)

.

وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري، ومن كان على طريقه من علماء أهل اليمن، ثم إلى مثل أبي موسى الخولاني، وأويس القرني، وطاووس، ووهب بن منبه، وغيرهم من علماء أهل اليمن، وكل هؤلاء من العلماء الربانيين الخائفين لله، فكلهم علماء بالله يخشونه ويخافونه.

* * *

وبعضهم أوسع علما بأحكام الله وشرائع دينه من بعض ولم يكن تميزهم عن الناس بكثرة قيل وقال، ولا بحث ولا جدال.

وكذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه أعلم الناس بالحلال والحرام وهو الذي يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة

(5)

. ولم يكن علمه بتوسعة المسائل، وتكثيرها، بل قد سبق عنه

(1)

أورده السيوطي في الدر المنثور 2/ 7 وزاد نسبته إلى ابن جرير والطبراني عن أنس وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع. وواثلة ليس من رواته عند الطبري كما ذكر محققه 6/ 206 - 207 وأبان أن راويه عن الصحابة المذكورين هو عبد الله بن يزيد أحد الوضاعين.

(2)

كما أورده ابن حصير في تفسيره 1/ 328 من رواية ابن المنذر عنه في تفسيره أيضًا.

(3)

"ا": "لا يتعاطون" والتصويب من ابن كثير.

(4)

متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق: باب خير مال المسلمين غنم يتبع بها شعف الجبال وفي كتاب المغازي: باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن ومسلم في كتاب الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه 1/ 72 - 73 من حديث أبي هريرة.

(5)

برتوة: أي برمية سهم، وقيل: بميل، وقيل: مدى البصر، وقيل بدرجة ومنزلة، وقيل: بخطوة. راجع النهاية وهامشها 2/ 195. وفي ب "رتوة بحجر" أي مقدار رمية بحجر. وعن مناقب معاذ انظر مختصر تاريخ دمشق 24/ 368 - 383 وما ذكر بهامشه من مصادر.

ص: 265

كراهة الكلام فيما لا يقع، وإنما كان عالما بالله وعالمًا بأصول دينه رضي الله عنه.

* * *

وقد قيل للإمام أحمد: "مَنْ نَسأَلُ بعدَك؟ قال: عبدَ الوهاب الوراق، قيل له: إنه له اتساع في العلم؟ قال: إنه رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق".

وسئل عن معروف الكرخي فقال: "كان معه أصل العلم: خشية الله!؟ ".

وهذا يرجع إلى قول بعض السلف: "كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا".

وهذا باب واسع يطول استقصاؤه.

* * *

[عود إلى شرح الحديث]:

ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه فنقول: من لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا

(1)

يوجد مثلها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم

(2)

بل اشتغل بفهم كلام الله ورسوله، وقصَد بذلك امتثالَ الأوامر، واجتنابَ النواهي، فهو ممن امتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وعمل بمقتضاه.

ومن لم يكن اهتمامه بفهم ما أنزل الله على رسوله، واشتغل بكثرة توليد مسائل قد تقع وقد لا تقع، وتكلَّف أجوبتها بمجرد الرأي خُشِيَ عليه أن يكون مخالفا لهذا الحديث مرتكبًا لنهيه، تاركا لأمره.

[مأتى كثرة الحوادث]:

واعلم أن كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنما هي من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، فلو أن من أراد أن يعمل عملا سأل عما شرعه الله في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى عنه فيه فاجتنبه، وقعت الحوادث مقيدة بالكتاب والسنة.

وإنما يعمل العامل بمقتضى رأيه وهواه؛ فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما شرعه الله، وربما عَسُرَ رَدُّهَا إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة لبعدها عنها.

(1)

ب: "لم".

(2)

في ب: في كتاب ولا سنة.

ص: 266

[وعلاج ذلك]:

وفي الجملة فمن امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وانتهى عما نهى عنه، وكان مشتغلا بذلك عن غيره حصَل له النجاة في الدنيا والآخرة.

ومن خالف ذلك واشتغل بخواطره وما يستحسنه؛ وقع فيما حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، وعدم انقيادهم، وطاعتهم لرسلهم.

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَاجْتَنِبوهُ، وَإذَا أَمرتُكُم بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْه مَا اسْتَطَعْتُمْ".

قال بعض العلماء: هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر؛ لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه، والأمر قيد بحسب الاستطاعة.

وروي هذا عن الإمام أحمد رحمه الله.

ويشبه هذا قول بعضهم:

"أعمال البرِّ يعملها الْبَرُّ والفاجر، وأما المعاصي فلا يتركها إلا صدِّيق"

(1)

.

* * *

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَه: "اتَّق الْمَحارِمَ تَكُنْ أعْبدَ النَّاس"

(2)

.

وقالت عائشة رضي الله عنها: "من سرَّهُ أنْ يَسْبِق الدّائبَ المُجْتَهد فَلْيَكُفَّ عَن الذُّنوب" وروي عنها مرفوعا

(3)

.

وقال الحسن: "ما عَبَدَ العابدون بشيء أفضلَ من ترك ما نهاهم الله عنه".

* * *

(1)

أورده أبو نعيم في الحلية 10/ 211 من قول سهل التستري.

(2)

رواه أحمد في المسند والترمذي في السنن 7/ 69 وأشار إلى ضعفه بالانقطاع وضعفه العجلوني في الكشف 1/ 43 وحسنه الألباني في صحيح الجامع 1/ 82 والصحيحة 930.

(3)

رواه أبو يعلى في المسند 8/ 361 بإسناد ضعيف؛ راجع ما ذكره المحقق والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 200 وابن عدي في الضعفاء 3/ 428 - 429 وابن حجر في التهذيب 4/ 272 في ترجمة سويد بن سعيد أحد رواة الحديث.

ص: 267

[تفضيل ترك المحرمات على فعل الطاعات]:

والظاهر أن ما ورد منْ تَفْضِيل ترك المحرمات على فعل الطاعات فإنما أريد به على نوافل الطاعات، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أدل من جنس ترك المحرمات؛ لأن الأعمال مقصودة لذاتها، والمحارم المطلوب عدمها؛ ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمال، ولذلك كان جنس ترك الأعمال قد يكون كفرًا كترك التوحيد؛ وكترك أركان الإسلام أو بعضها على ما سبق بخلاف ارتكاب المنهيات فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه.

ويشهد لذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: "لردُّ دَانقٍ حرامٍ أفضل من مائة ألف تنْفَقُ في سبيل الله".

وعن بعض السلف قال: "ترك دانق مما يكرهه الله أحب إلى الله من خمسمائة حجة".

* * *

• وقال ميمون بن مِهران: "ذكرُ الله باللسان حَسَنٌ وأفضل منه أن يذكر العبدُ الله عند المعصية فيمسكَ عنها".

* * *

• وقال ابن المبارك: "لأن أَرُدَّ دِرْهَمًا من شبهة أحب إليَّ مِنْ أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف".

* * *

• وقال عمر بن عبد العزيز: "ليست التقوى قيامَ الليل، وصيامَ النهار، والتخليطُ فيما بين ذلك؟! ولكن التقوى أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، فإن كان مع ذلك عمل فهو خير إلى خير".

أو كما قال.

• وقال أيضًا: "وددت أني لا أصلي غيرَ الصلوات الخمس سوى الوتر وأن أؤدى الزكاة، ولا أتصدق بعدها بدرهم، وأن أصوم رمضان، ثم لا أصوم بعده يوما أبدًا، وأن أحج حجة الإسلام، ثم لا أحج بعدها أبدًا، ثم أعمِد إلى فضل قوتي فأجعله فيما حرَّم الله عليَّ فأمسكَ عنه".

ص: 268

[والحاصل]:

• وحاصل كلامهم يدل على أن اجتناب المحرمات وإن قلَّت فهي أفضل من الإكثار من نوافل الطاعات؛ فإن ذلك فرضٌ وهذا نفل.

* * *

وقال طائفةٌ من المتأخرين: إنما قال صلى الله عليه وسلم "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" لأن الامتثال للأمر لا يحصل إلا بعمل، والعمل يتوقف وجوده على شروط وأسباب، وبعضها قد لا يستطاع؛ فلذلك قيده بالاستطاعة، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة؛ قال الله عز وجل:

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}

(1)

.

وقال في الحج:

{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}

(2)

.

وأما النهي فالمطلوب عدمه وذلك هو الأصل، فالمقصود استمرار العدم الأصلي وذلك ممكن، وليس فيه ما لا يستطاع، وهذا أيضًا فيه نظر؛ فإن الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قويا لا صبر معه للعبد على الامتناع عن فعل المعصية مع القدرة عليها فيحتاج الكف

(3)

عنها حينئذ إلى مجاهدة شديدة، وربما كانت أشقَّ على النفوس من مجرد مجاهدة النفس على فعل الطاعات، ولهذا يوجد كثيرًا من يجتهد في فعل الطاعات، ولا يقوى على ترك المحرمات.

وقد سئل عمر عن قوم يشتهون المعصية، ولا يعملون بها فقال:"أولئك قوم امتحَن الله قلوبَهُم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم".

* * *

• وقال يزيد بن ميسرةَ: "يقول الله في بعض الكتب: أيها الشباب التارك لشهوته، المتبذل في شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي".

وقال: "ما أشد الشهوة في الجسد! إنها مثل حريق النار، وكيف ينجو منها

(1)

سورة التغابن: 16.

(2)

سورة آل عمران: 97.

(3)

م: "للكف".

ص: 269

الحصُوريُّونَ

(1)

؟ ".

* * *

[التحقيق في هذا]:

والتحقيق في هذا: أن الله لا يكلِّفُ العبادَ من الأعمال ما لا طاقة لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرًا من الأعمال بمجرد المشقة رُخْصَةً عليهم، ورحمةً لهم.

وأما المناهي فلم يعذِر أحدًا بارتكابها بقوة الداعي والشهوات، بل كلفهم تركها على كل حال، وإنما أباح أن يتناولوا من المطاعم المحرمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة لا لأجل التلذذ والشهوة.

[والاستنتاج]

ومن هنا يعلم صحة ما قال الإمام أحمد رحمه الله: "أن النهي أشد من الأمر".

* * *

[تأكيد أن النهي أشد من الأمر]:

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان وغيره أنه قال: "اسْتَقيموا وَلَنْ تُحْصُوا

(2)

".

يعني لن تقدروا على الاستقامة كلها.

وروى الحكَم بن حَزْن الكُلَفي

(3)

قال: وَفَدْتُ إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَشَهدْتُ معَهُ الجُمُعةَ فَقَام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُتَوكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْس، فَحَمِدَ الله وأَثنى عَلَيْه بِكَلماتٍ خَفيفات طَيِّبات مُبارَكَاتٍ ثُمَّ قَال:"أيَّها النَّاسُ! إنكُمْ لَنْ تُطيقُوا وَلَنْ تَفْعَلوا كُلَّ مَا أَمَرْتكُم بِهِ وَلَكنْ سَدِّدُوا وَأبْشِرُوا".

(1)

الحصوريون: جمع حصور وهو من يجاهد نفسه ويمنعها من شهواتها. والأثران في الحلية 5/ 237، 241.

(2)

راجع في هذا مسند أحمد 5/ 276 (حلبي)، والمستدرك 1/ 130 والكنز الثمين في أحاديث النبي الأمين ص 57. وابن ماجة 1/ 101 - 102 وقال البوصيري: إسناده ثقات أثبات إلا أن فيه انقطاعا بين سالم وثوبان ولكن أخرجه الدارمي وابن حبان في صحيحه من طريق ثوبان متصلا.

(3)

في صلب م، هـ "الحكم بن حرب الكلفي" وهو خطأ وقد ضبطه في التقريب ص 44 حزن بفتح الحاء وسكون الزاي، والكلفى بضم الكاف وفتح اللام.

راجع ترجمته والحديث في الاستيعاب 1/ 361، وأسد الغابة 2/ 31، والإصابة 2/ 26 والتهذيب 2/ 425، وسنن أبي داود 1/ 251، ومسند أحمد 4 - 312، والمعجم الكبير 3/ 213 وإسناده حسن لغيره.

ص: 270

أخرجه الإمام أحمد وأبو داود.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أَمَرْتُكُمْ بأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ ما استَطَعْتُمْ" دليل على أن من عجز عن فعل المأمور به كُلِّه، وقدر على بعضه فإنه يأتي بما أمكنه منه.

وهذا مُطَّرد في مسائل:

• منها: الطهارة فإذا قدر على بعضها وعجز عن الباقي إما لعدم الماء أو المرض في بعض أعضائه دون بعض فإنه يأتي من ذلك بما قدر عليه، ويَتَيمَّمُ للباقي.

وسواء في ذلك الوضوء والغسل على المشهور.

* * *

• ومنها الصلاة؛ فمن عجز عن فعل الفرِيضة قائمًا صلى قاعدًا، فإن عجز صلّى مضطجعًا.

وفي صَحيح البخَاري عَنْ عِمْرانَ بْن حصين رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلِّ قَائمًا؛ فإنْ لَمْ تسْتَطِعْ فَقَاعِدًا؛ فإنْ لَمْ تَسْتَطِع فعَلى جَنْبٍ"

(1)

.

ولو عجز عن ذلك كله أوْمَأَ بطرْفه، وصلَّى بنيته، ولم تسقط عنه الصلاة على المشهور.

• ومنها زكاة الفطر؛ فإذا قدر على إخراج بعض صاع لزمه ذلك على الصحيح، فأما من قدر على صيام بعض النهار دون تكملته فلا يلزمه ذلك بغير خلاف؛ لأن صيام بعض اليوم ليس بقربة في نفسه.

* * *

وكذا

(2)

لو قدر على عتق بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه؛ لأن تبعيض العتق غير محبوب للشارع بل يؤمر بتكملته بكل طريق.

* * *

وأما من فاته الوقوف بعرفة في الحج فهل يأتي بما بقي منه من المبيت بمزدلفة، ورمي الجمار أم لا؟ بل يقتصر على الطواف والسعي ويتحلل بعمرة؟ على روايتين عن أحمد

(1)

أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة: باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب 2/ 587.

(2)

م: "وكذلك".

ص: 271

أشهرهما: أنه يقتصر على الطواف والسعي؛ لأن البيت والرمي من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه، وإنما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام وبذكره في الأيام المعدودات لمن أفاض من عرفات، فلا يؤمر به مَنْ لم (1) يقف بعرفة، كما لا يؤمر به المعتمر المقيم والله أعلم.

ص: 272

‌الحديث العاشر

عن أبي هريرة رضي الله (تعالى) عنه قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:

"إنَّ الله تَعالى طَيِّبٌ لَا يَقْبلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ الله تَعَالَى أَمرَ الْمؤْمنينَ بمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَليَن فقال تعالى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}

(1)

. وقال تعالى:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}

(2)

.

ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلى السَّماء يَاربِّ! يَا رَبّ! وَمَطعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فَأَنَّى يستَجَابُ لِذَلِكَ؟ ". رواه مسلم

(3)

.

* * *

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

وخرجه الترمذي وقال: "حسن غريب"

(4)

.

وفضيل بن مرزوق ثقة وسط خرَّجَ له مسلم دون البخارى

(5)

.

(1)

سورة المؤمنون: 51.

(2)

سورة البقرة: 172.

(3)

في كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب 2/ 703 وأوله: أيها الناس

(4)

في كتاب التفسير: سورة البقرة: 5/ 220 وأوله يأيها الناس

(5)

هو فضيل بن مرزوق الأغر الرقاشي ويقال الرواسي الكوفي أبو عبد الرحمن مولى بني عنزة. روى عن أبي إسحاق السبيعي وعدي بن ثابت وعطية العوفي والأعمش وغيرهم. روى عنه يزيد بن هارون، ويحيى بن آدم، وعلي بن الجعد شيخ البخاري.

وثقه الثوري والشافعي وابن معين وعن ابن معين: أنه صالح الحديث إلا أنه شديد التشيع وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: صالح الحديث، صدوق يهم كثيرًا، يكتب حدشه، قلت يحتج به؟ قال: لا. وضعفه النسائي، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.

وقد عيب على مسلم إخراجه لحديثه، قال ابن حبان في الثقات: يخطئ. وقال في المجروحين: كان يخطئ على الثقات ويروي عن عطية الموضوعات. راجع ترجمته في التهذيب 8/ 298 - 299 والثقات لابن شاهين ص 263 وذكر أن ابن معين وثقه مرة وضعفه أخرى، والتاريخ لابن معين 2/ 476 ووثقه في هذا الموضع والتقريب 2/ 113 وذكر أنه من الطبقة السابعة، والجرح والتعديل 7/ 75.

روى له مسلم والأربعة. مات في حدود 160.

ص: 273

وقوله صلى الله عليه وسلم "إنَّ الله طَيِّبٌ" هذا قد جاء أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إنَّ الله طيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّب، نظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، وَجَوادٌ يُحِبُّ الْجُودَ".

* * *

خرجه الترمذي

(1)

.

وفى إسناده مقال. والطيِّب هنا معناه الطاهر.

* * *

والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها.

وهذا كما في قوله تعالى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}

(2)

.

والمراد المنزهون من أدناس الفواحش وأوضارها.

* * *

وقوله "لَا يَقْبَلُ إلَّا طيِّبًا" قد ورد معناه في حديث الصدقة، ولفظه:"لا يتصدق أحد بصدقة إلا من كعسب طيِّبٍ ولا يقبل الله إلا طيبًا"

(3)

.

والمراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيبًا حلالا.

* * *

(1)

في جامعه: كتاب الأدب: باب ما جاء في النظافة 5/ 111 - 112 رواية عن محمد بن بشار، عن أبي عامر العقدي عن خالد بن إلياس، ويقال ابن إياس، عن صالح بن أبي حسان، عن سعيد بن المسيب قال:"إن الله طيب يحب الطيب، نطيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود فنظفوا - أراه قال: أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود"، قال: فذكرت ذلك لمهاجر بن مسمار فقال: حدثنيه عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثله، إلا أنه قال:"نظفوا اُفنيتكم".

ثم عقب الترمذي بقوله: هذا حديث غريب، وخالد بن إلياس يضعف.

(2)

سورة النور: 26.

(3)

في ذلك يروي مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها 2/ 702 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من كليب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله" ورواه أحمد في مسنده 2/ 431 بنحوه وفيه: "ولا يصعد إلى السماء إلا طيب". وهو عند البخاري برقمي 1410، 1430.

ص: 274

[عموم معنى الطيب في الأموال والأعمال والأقوال]:

وقد قيل إن المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله: "لا يقبل إلا طيِّبًا" أعَم من ذلك وهو أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبًا طاهرًا من المفسدات كلها كالرياء والعجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيبًا حلالًا؛ فإن الطَّيِّبَ يوصفُ به الأعمالُ والأقوالُ والاعتقاداتُ، فكُلُّ هذه تنقسم إلى طيِّبٍ وخبيثٍ.

[التعميم في الخبيث والطيب]:

وقد قيل إنه يدخل في قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}

(1)

هذا كلُّه.

* * *

[تقسيم الكلام إلى خبيث وطيب]:

وقد قسم الله تعالى الكلام إلى طيِّبٍ وخبيثٍ فقال:

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ}

(2)

{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}

(3)

. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}

(4)

.

* * *

[الرسول يحل الطيب ويحرم الخبيث]:

ووصف الرسولَ صلى الله عليه وسلم بأنه يُحِلُّ الطيباتِ، ويُحَرِّمُ الخبائث.

وقد قيل إنه يدخل في ذلك: الأعمال والأقوال والاعتقادات أيضًا.

[وصف المؤمنين]:

ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب بقوله تعالى:

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ}

(5)

وأن الملائكة تقول عند الموت: اخرجي أيَّتُهَا النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب

(6)

، وأن الملائكة تسلم عليهم عند دخولهم

(1)

سورة المائدة: 100.

(2)

سورة إبراهيم: 24.

(3)

سورة إبراهيم: 26.

(4)

سورة فاطر: 10.

(5)

سورة النحل: 32.

(6)

أورده ابن كثير في التفسير 2/ 514 عن أحمد في المسند من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

ص: 275

الجنَّة، ويقولون لهم: طبتم.

وقد ورد في الحديث: "إن المؤمنَ إذَا زار أخًا له في الله تقول له الملائكة: طِبْتَ وطَاب مَمْشاكَ، وتَبَوَّأْتَ من الجنة منزلا

(1)

.

* * *

[المؤمن طيب كله]:

فالمؤمن كله طيِّب: قلبه ولسانه وجسدُهُ بما سكن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان، وداخلة في اسمه.

فهذه الطيبات كلها يقبلها الله عز وجل.

[من أعظم وسائل طيب العمل]:

ومن أعظم ما يحصل به طيبة

(2)

الأعمال للمؤمنين: طيبُ مطعمه، وأن يكون من حلال؛ فبذلك يزكو عمله.

* * *

• وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُقْبَلُ العملُ ولا يَزْكُو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العملَ، ويمنع قبولَهُ؛ فإنه قال بعد تقريره:

"إن الله لا يقبل إلا طيبا وإن

(3)

الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}

(4)

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}

(5)

.

[والمراد]:

والمراد بهذا: أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح؛ فما دام الأكل حلالا فالعمل صالح مقبول؛ فإذا كان الأكل غير

(1)

أخرجه الترمذي في أبواب البر والصلة: باب ما جاء في زيارة الإخوان 4/ 365 وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه في الجنائز: باب ثواب من عاد مريضا 1/ 463 - 464 كلاهما من حديث أبي هريرة وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/ 244.

(2)

م: "طيب".

(3)

"ا""إن".

(4)

سورة المؤمنون: 51.

(5)

سورة البقرة: 172.

ص: 276

حلال فكيف يكون العمل مقبولًا؟.

* * *

وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنه كيف يتقَبَّلُ مع الحرام فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام.

* * *

• وقد خرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "تليت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}

(1)

.

فقام سعد بن أبي وقاص فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَني مُسْتَجَابَ الدَّعْوة فَقَال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: يا سَعْدَ! أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجابَ الدَّعْوَةِ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بَيدِه إنَّ العَبْدَ لِيَقْذفُ اللُّقْمَةَ الحَرَامِ في جَوْفِهِ ما يَتَقبَّلُ الله مِنْهُ عَمَل أَرْبَعين يَوْمًا.

وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فالنَّارُ أوْلَىَ بِهِ"

(2)

.

* * *

• وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله بإسناد فيه نظر أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "مَنْ اشْتَرى ثَوبًا بعَشَرة دَرَاهِمَ في ثَمَنِه درهمٌ حَرَامٌ لَمْ يَقْبَلِ الله لهُ صَلاة مَا كَان عَلَيْه".

ثُمَّ أَدْخَلَ إصْبَعَيْه في أُذنيه فَقَالَ: صُمَّتَا إنْ لمْ أَكُنْ سَمِعتُه مِنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم "

(3)

.

• ويُروى من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا معناه أيضًا.

خرجه البزار وغيره بإسناد ضعيف جدًّا

(4)

.

(1)

سورة البقرة: 168.

(2)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 291 عن الطبراني في الصغير قال: فيه من لم أعرفهم.

(3)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 292 وقال: رواد أحمد من طريق هاشم عن ابن عمر وهاشم لم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا، على أن بقية مدلس.

وهو عند أحمد في المسند 2/ 98 الحلبي وفيه: "لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه" وانظر ما علق به الشيخ أحمد شاكر في المسند 8/ 84 - 85 (المعارف) فيما يتعلق بتضعيف الحديث.

(4)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 292 عن البزار وقال: فيه أبو الجنوب وهو ضعيف.

ص: 277

• وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا بنَفَقَةٍ طَيِّبةٍ ووَضَع رِجْلَه في الغَرْز، فنادى لبيك اللهم لبَّيك! نَاداهُ مُنادٍ مِنَ السَّماء لَبَّيْك وَسَعْدَيْك، زَادُكَ حَلالٌ، ورِحِلتكَ حَلالٌ وحَجُّكَ مَبْرورٌ غير مأْزور، وإذا خَرَج الرجُلُ بالنَّفَقَةِ الخبَيثَة فَوَضَع رِجْلهُ في الْغَرْز فَنَادى: لَبَّيك اللَّهم لَبيك ناداهُ منادٍ مِن السَّماء: لا لَبَّيكَ وَلا سَعديكَ؟ زَادُكَ حَرامٌ، ونَفَقَتُكَ حَرَامٌ، وَحَجُّكَ غَيْرُ مَبْرورٍ"

(1)

.

• ويروى من حديث عمر رضي الله عنه نحوه بإسناد ضعيف أيضًا.

* * *

وروى أبو يحيى القتات

(2)

، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام".

* * *

[من حج بمال حرام]:

وقد اختلف العلماء في حجِّ من حجَّ بمال حرام، ومن صلى في ثوب حرام، هل يسقط عنه فرضُ الصلاة والحج بذلك؟.

وفيه عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان.

وهذه الأحاديث المذكورة تدل على أنه لا يتقبل العمل مع مباشرة الحرام.

[المراد بقبول العمل]:

لكن القبول قد يراد به الرضا بالعمل، ومدح فاعله، والثناء عليه بين الملائكة والمباهاة به.

وقد يراد به حصول الثواب والأجر عليه:

وقد يراد به سقوط الفرض من الذمة:

(1)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 292 عن الطبراني في الأوسط وقال: فيه سليمان بن داود اليمامي، وهو ضعيف. وفي الميزان 2/ 202 قول البخاري: إنه منكر الحديث؛ أي لا تحل الرواية عنه.

والمراد بقوله: "وضع رجله في الغرز": بدأ السفر.

(2)

في حديثه ضعف كما في التهذيب 12/ 277.

ص: 278

فإن كان المراد ههنا القبول بالمعنى الأول أو الثاني لم يمنع ذلك من سقوط الفرض به من الذمة. كما ورد أنه لا تقبل صلاة الآبق، ولا المرأة التي زوجها عليها ساخط، ولا من أتى كاهنا، ولا من شرب الخمر أربعين يوما.

والمراد - والله أعلم - نفي القبول بالمعنى الأول أو الثاني وهو المراد والله أعلم من قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}

(1)

.

ولهذا كانت هذه الآية يشتد منها خوف السلف على نفوسهم؛ فخافوا أن لا يكونوا من المتقين الذين يتقبل الله منهم

(2)

.

وسئل الإمام أحمد عن معنى المتقين فيها فقال: يتقي الأشياء؛ فلا يقع فيما لا يحل له.

* * *

[تمام العمل بخمس خصال]:

وقال أبو عبد الله النِّبَاجي الزاهد رحمه الله: "خمس خصال بها تمام العمل:

[1]

الإيمان بمعرفة الله عز وجل.

[2]

ومعرفةُ الحق.

[3]

وإخلاصُ العمل لله.

[4]

والعملُ على السنة.

[5]

وأكلُ الحلال.

فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل.

وذلك أنك إذا عرفتَ الله عز وجل ولم تعرف الحق لم تنتفع.

وإذا عرفْت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع.

وإن عرفتَ الله وعرفتَ الحقَّ ولم تُخْلِصِ العملَ لم تنتفع.

وإن عرفت الله وعرفتَ الحق وأخلصتَ العملَ ولم يكن على السنة لم تنتفع.

وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع

(3)

".

(1)

سورة المائدة: 27.

(2)

"ا": "يتقبل منهم".

(3)

هذا جزء أثر أورده أبو نعيم في الحلية 9/ 310 بنحوه تاما وفيه "الساجي" وهو تحريف.

ص: 279

[أكل الحرام وآثاره]:

وقال وهَيْبُ بن الورد: "لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك: حلال أو حرام".

* * *

[الصدقة بالمال الحرام]:

وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة كما في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقْبلُ الله صَلاةً بِغير طُهُورٍ، ولا صَدَقَةً مِنْ غُلولٍ

(1)

".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تَصَدَّقَ أحدٌ بِصَدَقةٍ مِنْ مَالٍ طَيِّبٍ وَلا يقْبَل الله إلا الطَّيِّب إلّا أَخَذَها الرَّحْمَنُ بِيمينه" وذكر الحديث

(2)

.

وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله عَن ابن مَسْعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَال "لا يَكْسِبُ عَبْد مالًا منْ حَرَامٍ فَيُنْفِقُ مِنْه فَيُبارَكَ له فِيه، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فُيَتقَبَّلَ مِنْه، وَلا يَتْرُكُه خَلْفَ ظهْرِهِ إلا كانَ زَادَهُ إلى النارِ، إنَّ الله لا يَمْحو السَّيئَ بالسيئ ولَكنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بالحَسَن؛ إن الخبيثَ لَا يَمْحو الخبيثَ"

(3)

.

ويروى من حديث دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"مَنْ كَسَبَ مَالًا حَرَامًا فَتَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيه أَجْرٌ، وَكَانَ إصْرهُ عَلَيْه"

(4)

.

خرجه ابن حبان في صحيحه، ورواه بعضهم موقوفا على أبي هريرة.

ومن مراسيل القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الطهارة: باب الطهارة للصلاة 1/ 204.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب 2/ 702 والبخاري في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} . 13/ 415 واللفظ لمسلم كما مضى ص 274 هـ 3، وفي ب:"ما تصدَّق واحد" وقد آثرنا لفظ مسلم.

(3)

أخرجه أحمد في المسند 5/ 246 - 247 (المعارف) بسياقه مطولًا وذكر محققه الشيخ أحمد شاكر أن إسناده ضعيف، راجع تعليقه في هذا الموطن.

(4)

رواه ابن حبان في صحيحه: صدقة التطوع: ذكر البيان بأن المال إذا لم يكن بطيب أخذ من حله لم يؤجر التصدق به عليه 5/ 151 - 152 من حديث دراج أبي السمح عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جمع مالًا حرامًا ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه".

ص: 280

"مَن أَصَابَ مَالًا مِنْ مَأْثَم؛ فَوَصَلَ بِهِ رَحِمَهُ، أو تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ أَنْفَقَهُ في سبِيل الله جُمِعَ ذَلِكَ جَميعًا ثُمَّ قُذِف بِهِ في نَار جَهَنَّمَ"

(1)

.

* * *

ورُوى عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مَثَلَ من أصاب مالا من غير حله فتصدق به مَثَلَ من أخذ مال يتيم، وكسا به أرملة

(2)

.

* * *

وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه فقال: "إن الخبيثَ لا يُكَفِّرُ الخبيثَ".

* * *

وكذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الخبيثَ لا يكفِّر الخبيثَ

(3)

ولكن الطَيب يكفّرُ الخبيثَ".

* * *

وقال الحسن: "أيها المتصدق على المسكين يَرحمه! ارحم مَنْ قد ظلمتَ".

[أنواع الصدقة بالمال الحرام]:

واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين:

أحدهما: أن يتصدق به الخائن أو الغاصب ونحوهما على نفسه فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه يعني أنه لا يؤجر عليه بل يأثم بتصرفه في مال غيره بغير إذنه، ولا يحصلُ للمالكِ بذلكَ أجْرٌ لعدم قصده ونيته.

كذا قال جماعة من العلماء منهم ابن عقيل من أصحابنا.

وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي أنه سأل سعيد بن المسيب قال: "وجدت لقطة أفأتصدق بها؟ قال: "لا تؤجر أنت ولا صاحبها

(4)

".

(1)

أورده الذهبي في ترجمته له في السير 5/ 203 من قوله، بنحوه.

(2)

هذا جزء أثر أورده أحمد في الزهد 171 عن أبي الدرداء بنحوه.

(3)

ما بين الرقمين سقط من ب.

(4)

المصنف 10/ 137 وفيه: عرفها سنة .. الحديث.

ص: 281

ولعل مراده إذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب.

ولو أخذ السلطان أو بعض نوابه من بيت المال ما لا يستحقه فتصدق منه أو أعتق أو بنى به مسجدًا أو غيره مما ينتفع به الناس فالمنقول عن ابن عمر أنه كالغاصب إذا تصدق بما غصبه؛ ولذلك قال لعبد الله بن عامر أمير البصرة وكان الناس قد اجتمعوا عنده في حال موته وهم يثنون عليه ببره وإحسانه وابن عمر ساكت فطلب منه أن يتكلم فروى له حديثًا: "لا يقبل الله صدقة من غُلُولٍ" ثم قال له: وكنتَ على البصرة

(1)

.

وقال أسد بن موسى في كتاب الورع: حديث الفضيل بن عياض عن منصور عن تميم بن سلمة قال: قال ابن عامر لعبد الله بن عمر: "أرأيت هذه العِقَاب

(2)

التي نسهّلها، والعيون التي نفجّرها ألنا فيها أجر؟ " فقال ابن عمر:"أما علمتَ أن خبيثا لا يُكَفِّرُ خبيثًا قَطُّ؟ ".

* * *

حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن أبي مليح، عن ميمون بن مهران قال: قال ابن عمر لابن عامر وقد سأله عن العتق فقال: "مَثَلُكَ مَثَلُ رجل سرق إبلَ حاج ثم جاهدَ بها في سبيل الله فانظر هل يُقْبَل منه؟ ".

* * *

[توقي الانتفاع بما يحدثه الملوك العصاة]:

وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع كطاووس ووهيب بن الورد يتوقَّوْن

(1)

في ذلك يروي مسلم في صحيحه: كتاب الطهارة: باب وجوب الطهارة للصلاة 1/ 204 من حديث أبي عوانة عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول" وكنت على البصرة.

قال النووي: معنى قوله: "وكنت على البصرة" أنك لست بسالم من الغلول، فقد كنت واليا على البصرة، وتعلقت بك تبعات من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، ولا يقبل الدعاء لمن هذه صفته، كما لا تقبل الصلاة إلا من متصون.

والظاهر - والله أعلم - أن ابن عمر قصد زجر ابن عامر وحثه على التوبة، وتحريضه على الإقلاع عن المخالفات ولم يرد القطع حقيقة بأن الدعاء للفساق لا ينفع.

فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف والخلف يدعون للكفار وأصحاب المعاصي بالهداية والتوبة.

(2)

جمع عقبة: المرقى الصعب من الجبال؛ قاموس.

ص: 282

الانتفاع بما أحدثه مثل هؤلاء الملوك.

وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه رخص فيما فعلوه من المنافع العامة كالمساجد والقناطر والمصانع؛ فإن هذه ينفق عليها من مال الفيء اللهم إلا أن يتيقن أنهم فعلوا أشياء من ذلك بمال حرام كالمكوس والغصوب ونحوهما؛ فحينئذ يُتوقَّى الانتفاعُ بما عمل بالمال الحرام.

ولعل ابن عمر رضي الله عنهما إنما أنكر عليهم أخذهم لأموال بيت المال لأنفسهم، ودعواهم أن ما فعلوه منها بعد ذلك فهو صدقة منهم؛ فإن هذا شبيهٌ بالغصوب وعلى مثل هذا يُحْمَلُ إنكارُ مَنْ أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد.

* * *

[ابن الجوزي يرد فتوى]:

قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: رأيت بعض المتقدمين سئل عمن كسب حلالا وحراما من السلاطين والأمراء ثم بنى الأربطة والمساجد هل له ثواب؟ فأفتى بما يوجب طيب قلبِ المنفق، وأن له في إنفاق مالا يملكه نوع سمسرة؛ لأنه لا يعرفُ أعيان المغصوبين فيرد عليهم.

قال: فقلت: واعجبا من متصدرين للفتوى لا يعرفون أصول الشريعة؟ ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أولا.

فإن كان سلطانا فما يخرج من بيت المال فقد عرفت وجوه مصارفه فكيف يَمْنَعُ مستحقيه، ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة أو رباط؟

وإن كان من الأمراء أو نواب السلاطين فيجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال.

وإن كان حراما أو غصبا فكل تصرف فيه

(1)

حرام والواجب رده على من أخذ منه أو ورثته، فإن لم يعرف رد إلى بيت المال، فيصرف في المصالح أو في الصدقة ولم يحظ آخذه بغير الإثم. انتهى.

* * *

(1)

في المطبوعة: "فكل شيء يصرف فيه" وهو خطأ يفسد له المعنى.

ص: 283

[ابن رجب يوضح رأي ابن الجوزي]:

وإنما كلامه في السلاطين الذين عهدهم في وقته الذين يمنعون المستحقين من الفيء حقوقهم، ويتصرفون فيه لأنفسهم تصرف الملاك ببناء ما ينسبونه

(1)

إليهم من مدارس وأرْبطة ونحوهما مما قد لا يحتاج إليه ويُخَصُّ به قوم دون قوم.

فأما لو فرض إمام عادل يعطي الناس حقوقهم من الفيء، ثم يبني لهما ما يحتاجون إليه من مسجد أو مدرسة أو مارستان ونحو ذلك كان جائزًا.

ولو كان بعض من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بنى بما أخذه منه بناء

(2)

محتاجًا إليه في حال يجوز البناء فيه من بيت المال لكنه ينسبه إلى نفسه فقد يتخرج على الخلاف في الغاصب إذا رد المال إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة هل يبرأ بذلك أم لا؟ وهذا كله إذا بني على قدر الحاجة من غير سرف ولا زخرفة.

وقد أمر عمر بن عبد العزيز بترميم مسجد البصرة من مال بيت المال، ونهاهم أن يجاوزوا

(3)

ما تصدع منه وقال: إني لم أجد للبنيان في مال الله حقًّا.

ورُوي عنه أنه قال: "لا حاجة للمسلمين فيما أضرَّ ببيت مالهم".

* * *

[تصرف الغاصب في مال غيره]:

واعلم أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره موقوفا على إجازة مالكه؛ فإن أجاز تُصَرُّفَهُ فيه جاز.

وقد حكى بعض أصحابنا - رواية عن أحمد -: أن من أخرج زكاته من مال مغصوب ثم أجازه له المالك جاز وسقط عنه الزكاة.

وكذلك خَرَّجَ ابنُ أبي موسى

(4)

رواية عن أحمد أنه إذا أعتق عَبدَ غيره عن نفسه ملتزما ضمانه في ماله ثم أجازه المالك جاز ونفذ عتقه وهو خلاف نص أحمد.

• وحكي عن

(5)

الحنفية أنه لو غصب شاة فذبحها لمتعته وقرانه ثم أجازها المالك أجزأت عنه.

* * *

(1)

في المطبوعة: "يبنونة" وهو تصحيف.

(2)

"ا": بنى بما يأخذه بناء

".

(3)

م: "يتجاوزوا".

(4)

م: "ابن أبي الدنيا".

(5)

ليست في ب.

ص: 284

[النوع الثاني من الصدقة بالمال الحرام]:

الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب أن يتصدق به عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه أو إلى ورثته؛ فهذا جائز عند أكثر العلماء منهم مالك، وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم.

* * *

[أقوال العلماء في ذلك]:

• قال ابن عبد البر: ذهب الزهري، والثوري، والأوزاعي، والليث إلى أن الغالَّ

(1)

إذا تفرق أهل العسكر، ولم يصل إليهم أنه يدفع إلى الإمام خُمُسَهُ ويتصدَّقُ بالباقي

(2)

.

روي ذلك عن عبادة بن الصامت، ومعاوية، والحسن البصري، وهو يشبه مذهب ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يُعْرَفُ صاحبه، وقال: وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه - إذا جاء - مخيرًا بين الأجر والضمان وكذلك الغُصوب. انتهى.

* * *

• وروي عن مالك بن دينار قال: سألت عطَاء بنَ أبي رباح عمن عنده مال حرام ولا يعرف أربابه ويريد الخروج منه قال: يتصدق به، ولا أقول إن ذلك يجزئ عنه.

• قال مالك: كان هذا القول من عطاء أحبَّ إليَّ من وزنه ذهبا!؟.

• وقال سفيان - فيمن اشترى من قوم شيئًا مغصوبًا: يرده إليهم، فإن لم يقدر عليهم تصدق به كله، ولا يأخذ رأس ماله.

وكذا قال فيمن باع شيئًا ممن تكره معاملته لشبهة ماله قال: يَتَصَدّق بالثَّمَنِ.

وخالفه ابن المبارك وقال: يتصدق بالربح خاصة.

• وقال أحمد: يتصدق بالربح.

(1)

هو الآخذ من الغنيمة قبل القسم.

(2)

قال ابن حجر في الفتح 6/ 216 قال ابن المنذر أجمعوا على أن على الغال أن يعيد ما غل قبل القسمة، وأما بعدها فقال الثوري والأوزاعي والليث ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، وكان الشافعي لا يرى بذلك ويقول: إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لم يملكه فليس له الصدقة بمال غيره، قال: الواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة.

ص: 285

وكذا قال فيمن ورث مالا عن أبيه، وكان أبوه يبيع ممن تُكرهُ معاملته أنه يتصدق منه بمقدار الربح، ويأخذ الباقي.

وقد رُوي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك منهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه.

* * *

والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها.

* * *

وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مالٌ حرام لا يُعرف أربابُه أنه يتلفه ويلقيه في البحر، ولا يتصدق به وقال: لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب.

* * *

[والصحيح في ذلك]:

والصحيح الصدقة به؛ لأنّ إتلافَ المال، وإضاعته منهيٌّ عنه، وإرصادَه أبدًا تعريضٌ له للإتلاف، واستيلاء الظلمة عليه، والصدقةُ به ليست عن

(1)

مكتسبه حتى يكون تقربًا منه بالخبيث؛ وإنما هي صدقة عن مالكه؛ ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا.

* * *

[دعاء ذي المطعم الحرام]:

وقوله: "ثمَ ذَكر الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَر أشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْه إلى السَّمَاءِ يَا ربِّ! يا ربِّ! ومَطعَمُهُ حَرَامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرَامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِىَ بِالحَرَامِ؛ فَأنَّى يُسْتَجابُ لِذَلكَ!؟ ".

* * *

[أسباب إجابة الدعاء وآدابه]:

هذا الكلام أشار فيه صلى الله عليه وسلم إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته،

(1)

في المطبوعة: "عند" وهو تحريف.

ص: 286

إلى ما يمنع من إجابته؛ فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة:

أحدهما: إطالة السفر.

والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ثَلاثُ دَعَواتٍ مُستَجاباتٌ لا شَك فِيهنَّ: دَعْوَةُ المظلومِ، ودعْوةُ المُسَافِرِ، وَدَعوةُ الوَالدِ لِولَدِهِ".

خرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي

(1)

.

وعنده: "دعوةُ الوالِدِ على وَلَده".

وروي مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله:

ومتى طال السفر، كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان.

وتَحمُّلُ المشاق والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء.

* * *

والثاني: حصول التبذل في اللباس والهيئة بالشعث والاغبرار.

وهو أيضًا من المقتضيات لإجابة الدعاء كما في الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالأبواب لَوْ أقسمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ"

(2)

.

(1)

ابن ماجه في كتاب الدعاء: باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم 2/ 1270 والترمذي في أبواب البر والصلة: باب ما جاء في دعوة الوالدين 4/ 314، وفي الدعوات 5/ 502 وأبو داود في كتاب الصلاة: باب الدعاء بظهر الغيب 2/ 187. وقد حسنه الترمذي في الموضع الثاني وهذا لفظ الترمذي بما أشار به ابن رجب. وفي ابن ماجه وأبي داود بنحو ما هنا.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب: باب فضل الضعفاء والخاملين 4/ 2024 وفي كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء 4/ 2191 وهذا أحد المواطن القليلة التي يكرر فيها مسلم رواية حديث في صحيحه.

ورواه ابن حبان في صحيحه: باب المعجزات 8/ 139.

كلاهما من حديث أبي هريرة.

وأخرجه الترمذي في المناقب: باب مناقب البراء بن مالك رضي الله عنه 5/ 692 - 693 من حديث أنس بن مالك وعقب عليه بقوله: هذا حديث صحيح حسن ولفظه:

"كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك" والأشعث هو =

ص: 287

ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء خرج متبذلًا متواضعًا متضرعا

(1)

.

وكان مطرف بن عبد الله قد حبس له ابن أخ فلبس خلقان ثيابه، وأخذ عكَّازا بيده فقيل له ما هذا؟ قال أستكين لربي لعله أن يشفعني في ابن أخي

(2)

.

* * *

الثالث: مد يديه إلى السماء وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته.

وفي حديث سلمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحيي إذا رَفَعَ الرَّجُلُ إلَيْهِ يَديْهِ أنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائبتَيْنِ"

(3)

.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

وروي نحوه من حديث أنس وجابر وغيرهما.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَرْفَعَ يَدِيْهِ في الاسْتِسْقَاءِ حَتَّى يُرى بَيَاضُ إِبطَيْهِ

(4)

وَرَفَعَ يَدَيْه يومَ بَدْرٍ يَسْتَنْصِرُ عَلَى المُشْرِكين حَتَّى سَقَط رِدَاؤُهُ عَنْ منْكَبَيْه

(5)

.

= الملبد الشعر المغبر غير مدهون ولا مرجل.

والمقصود بقوله: مدفوع بالأبواب أنه لا قدر له عند الناس: فهم يدفعونه عن أبوابهم، أو يطردونه عنهم؛ احتقارًا له.

ومعنى قوله: لو أقسم على الله لأبره: أي لو حلف على وقوع شيء أوقعه الله إكراما له بإجابة سؤاله وصيانة له من الحنث في يمينه ولعل هذا هو ما حدا بابن حبان أن يورده في باب المعجزات، وهذا لعظم منزلته عند الله، وإن كان حقيرًا عند الناس، فيكون هذا الإبرار في القسم كرامة من الله له.

وقيل معنى القسم هنا: الدعاء وإبراره إجابته راجع أيضًا شرح النووي على مسلم.

(1)

كما روى الترمذي في الصلاة: باب ما جاء في صلاة الاستسقاء 2/ 445 بإسناد حسن صحيح من حديث ابن عباس.

وعزاه الشيخ شاكر في التعليق إلى أبي داود، والنسائي وأبي عوانة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي قال: وصححه أبو عوانة وابن حبان أيضًا.

(2)

انظر السير 4/ 195 وهامشه.

(3)

أخرجه الترمذي بهذا اللفظ في كتاب الدعوات: باب 105 - 5/ 556 - 557 بإسناد حسن غريب وأخرجه أحمد في المسند 5/ 438 (الحلبي) بلفظ "إن الله عز وجل ليستحيي أن يبسط العبد يديه يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين".

وابن ماجه في السنن: كتاب الدعاء: باب رفع اليدين في الدعاء 2/ 1271 بلفظ: "إن ربكم حَيِيٌّ كريم يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفرًا أو قال خائبتين".

والحاكم في المستدرك. كتاب الدعاء 4/ 497 بلفظ: إن الله أن يستحي أن يبسط العبد يديه

الحديث بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم وأبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب الدعاء 2/ 165 بلفظ: إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم الحديث بنحو ما عند ابن ماجه.

(4)

كما في صحيح مسلم: كتاب صلاة الاستسقاء: باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء 2/ 612 وكما في صحيح ابن حبان 4/ 229 من الإحسان من حديث أنس.

(5)

كما في البداية والنهاية 3/ 275. وصحيح مسلم 3/ 1383 ح 58 - (1763).

ص: 288

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة رفع يديه في الدعاء أنواع متعددة، فمنها أنه كان يشير بإصبعه السبابة فقط، وروي عنه أنه كان يفعل ذلك على المنبر

(1)

، وفعله لما ركب راحلته

(2)

.

* * *

[دعاء القنوت في الصلاة]:

وذهب جماعة من العلماء إلى أن دعاء القنوت في الصلاة يشير فيه بإصبعه منهم الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وإسحق بن راهويه.

* * *

وقال ابن عباس وغيره: هذا هو الإخلاص في الدعاء

(3)

.

* * *

وقال ابن سيرين: إذا أثنيت على الله فأشر بإصبع واحدة.

* * *

[من صور رفع اليدين في الصلاة]:

• ومنها أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة وهو مستقبلها، وجعل بطونهما مما يلي وجهه.

وقد رويت هذه الصفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء.

(1)

كما روى ذلك مسلم في صحيحه: الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة 2/ 595.

وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب رفع اليدين على المنبر 1/ 662.

والنسائي في السنن: كتاب الجمعة: باب الإشارة في الخطبة 3/ 108 ح 1412.

والترمذي في السنن: أبواب الصلاة: باب ما جاء في كراهية رفع الأيدي على المنبر 2/ 391 - 392 بإسناد حسن صحيح.

والدارمي في السنن: كتاب الصلاة: باب كيف يشير الإمام في الخطبة 1/ 441 من وجهين وكلهم من حديث عُمارة بن رويبة وبشر بن مروان يخطب فرفع يديه في الدعاء فقال عمارة: قبح الله هاتين اليدين القصيرتين: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يزيد على أن يقول هكذا وأشار هُشَيْم بالسبابة. لفظ الترمذي.

(2)

كما في صحيح مسلم 2/ 890 من حديث جابر في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

في كنز العمال 2/ 72 عن عكرمة قال: قال ابن عباس: الابتهال هكذا وبسط يديه وظهورها إلى وجهه، والدعاء هكذا ووضع يديه تحت لحييه، والإخلاص هكذا يشير بإصبعه. وقد عزاه لعبد الرزاق في المصنف.

ص: 289

واستحب بعضهم الرفع في الاستسقاء على هذه الصفة منهم الجوزجاني.

وقال بعض السلف: "الرفع على هذا الوجه تضرع".

• ومنها أنه رفع يديه وجعل ظهورهما

(1)

عكس ذلك.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أيضًا

(2)

.

ورُوي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يدعون كذلك.

وقال بعضهم: الرفع على هذا الوجه استجارة بالله، واستعاذة به. منهم ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة رضي الله عنهم.

ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه كَانَ إذا استْعَاذَ رَفَعَ يَدَيْهِ عَلَى هذَا الْوَجْه

(3)

.

* * *

• ومنها رفع يديه، وَجَعْلُ كَفَّيْهِ إِلى السَّمَاءِ، وَظُهُورُهما إلى الأرْض.

وقد ورد الأمر بذلك في سؤال الله عز وجل في غير حديث.

وعن ابن عمر وأبي هريرة وابن سيرين أن هذا هو الدعاء والسؤال لله عز وجل.

• ومنها عكس ذلك، وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء وبطونهما مما يلى الأرض.

وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء

(4)

.

وخرجه الإمام أحمد رحمه الله ولفظه، فبسط يديه وجعل ظاهرهما مما يلي السماء

(5)

.

وخرجه أبو داود ولفظه: استسقى هكذا يعني النبي صلى الله عليه وسلم مد يديه وجعل بطونهما مما يلى الأرض

(6)

.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

ما بين الرقمين ليس في أ. وانظر المجمع 10/ 168.

(2)

راجع ما أخرجه ابن ماجه في الدعاء 2/ 1272 من حديث ابن عباس مرفوعًا.

(3)

رواه أحمد مرسلا بإسناد حسن على ما في المجمع 10/ 168 من حديث خلاد بن السائب.

(4)

الحديث في كتاب الاستسقاء: باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء 2/ 612.

(5)

مسند أحمد 3/ 241 (الحلبي) من حديث أنس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فبسط يديه

الحديث.

(6)

الحديث في سنن أبي داود: باب رفع اليدين في الاستسقاء 1/ 692.

ص: 290

واقفًا بِعرفَةَ يَدعُو هَكَذا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ ثَنْدُوتَنهِ

(1)

وَجَعَلَ بُطُونَ كَفَّيْه مِمَّا يلي الأَرض.

* * *

وهكذا وصف حماد بن سلمة رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة.

ورُوي عن ابن سيرين: أن هذا هو الاستجارة.

وقال الحميدي: هذا هو الابتهال.

* * *

والرابع: الإلحاح على الله عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء.

وخرج البزار من حديث عائشة أم المؤمنين مرفوعًا: "إذا قال العَبْدُ يا رب! أَرْبَعًا قَالَ الله: لَبَّيْكَ عَبْدي سَل تُعطه"

(2)

.

وخرج الطبراني وغيره من حديث سعد بن خارجة أن قَوْما شَكَوْا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم قُحُوط المَطَر فَقَالَ: "اجْثُوا عَلَى الرُّكَب وَقَولُوا يا رب! يا ربّ! " وَرَفَع السَّبابَة إلى السَّماء فَسُقُوا حَتَّى أَحَبُّوا أَنْ يُكْشفَ عنْهُم

(3)

.

وفي المسند وغيره عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّلاةُ مَثْنى، مثنى، وتَشَهُّدٌ في كُلِّ رَكْعَتين، وَتَضَرُّع وَتَخَشُّعٌ، وَتمَسْكُنٌ وَتُقْنِعُ يَديْكَ، يقولُ ترفعهما إلى رَبِّكَ مُسْتَقْبلًا بهما وَجْهَك وتقولُ: يَا رب! يا رب! فَمَنْ لَمْ يَفْعل ذَلِكَ فهي خِداجٌ"

(4)

.

(1)

قال في النهاية: الثندوتان للرجل كالثديين للمرأة، يقال بضم الثاء وفتحها.

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 168 وقال: فيه بشر بن حرب وهو ضعيف وهو في مسند أحمد 3/ 13 (الحلبي) من طريق حماد بن سلمة عن بشر بن حرب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفي ا: "ثندوته".

(2)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 159 عن البزار وقال: فيه الحكم بن سعيد الأموي ضعيف.

(3)

أورده الهيثمي في المجمع 2/ 412 عن الطبراني في الأوسط وضعفه - بعامر بن خارجة بن سعد حيث روى الحديث عن أبيه عن جده سعد.

(4)

الحديث في مسند أحمد 3/ 229 - 231 المعارف و 4/ 225 - 227 (الحلبي) الأول من حديث الفضل بن العباس وقال محققه: أرجو أن يكون صحيحا إن شاء الله وعزاه للترمذي 2/ 225 - 227 والبيهقي 2/ 487 - 488، والبخاري في التاريخ الكبير 2/ 1 / 258 - 259 وغيرهم.

راجع ما ذكره في تحقيق الحديث بروايته.

ص: 291

وقال يزيد الرقاشي

(1)

عن أنس ما من عبد يقول يا رب! يا رب! يا رب! إلا قال له ربه لبيك لبيك.

ورُوي عن أبي الدرداء وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يقولان: "اسم الله الأكبر ربِّ! ربِّ

(2)

! "

وعن عطاء قال: "مَا قَالَ عبدٌ يا ربِّ.! يا رب! ثَلاثَ مَرَّاتٍ إلَّا نَظَر الله إليه" فذكر ذَلكَ للحَسَنَ فقال: أَمَا تقْرأون القرآن؟ ثُمَّ تلا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ}

(3)

.

* * *

ومن تأمل الأدعية الذكورة في القرآن وجدها غالبًا تفتتح باسم الرب لقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}

(4)

{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}

(5)

.

وقوله: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}

(6)

ومثل هذا في القرآن كثير.

وسئل مالك وسفيان عمن يقول في الدعاء يا سيدي فقالا: يقول: يا رب! زاد مالك، كما قالت الأنبياء في دعائهم.

* * *

(1)

صالح لكنه ليس بالقوي في حديثه وفي التقريب 2/ 361 ضعيف من الخامسة.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 505 وسكت عنه هو والذهبي فهو حديث حسن.

(3)

سورة آل عمران: 191 - 195 والأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 313.

(4)

سورة البقرة: 201.

(5)

سورة البقرة: 286.

(6)

سورة آل عمران: 7.

ص: 292

[موانع إجابة الدعاء]:

وأما ما يمنع إجابة الدعاء فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه: التوسع في الحرام أكلا وشربا ولبسًا وتغذية.

وقد سبق حديث ابن عباس في هذا المعنى أيضًا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد:"أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة"

(1)

.

فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به: سبب موجب لإجابة إلدعاء

(2)

.

• وروى عكرمة بن عمار: حدثنا الأصفر قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: كيف

(3)

تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها ومن أين خرجت؟! ".

• وعن وهب بن منبه قال: "مَنْ سَرَّهُ أَن يستجيبَ الله دعوتَهُ فَلْيُطَيِّبْ

(4)

طُعْمَتَهُ".

* * *

• وعن سهل بن عبد اللّه قال: "مَنْ أكل الحلال أربعين صباحًا أجيبت دعوته".

• وعن يوسف بن أسباط قال: "بلغنا أن دعاء العبد يحبس عن السموات بسوء المطعم".

* * *

وقوله صلى الله عليه وسلم " فَأَنَّى يُسْتَجابُ لِذَلِكَ".

معناه: كيف يستجاب له؟! فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحًا في استحالة الاستجابة، ومنعها بالكلية. فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام والتغذى به من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه، وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعًا من الإجابة أيضًا، وكذلك ترك الواجبات كما في الحديث أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع استجابة دعاء الأخيار، وفعل الطاعات يكون موجبا لاستجابة الدعاء.

• ولهذا لما توسل الذين دخلوا الغار وانطبقت الصخرة عليهم بأعمالهم الصالحة التي

(1)

ص: 277.

(2)

في م، هـ: فأكل الحرام .. موجب لعدم إجابة ..

(3)

ليست في "ا"، ولا في ب.

(4)

هكذا في "ا".

ص: 293

أخلصوا فيها لله تعالى، ودعوا الله بها أجيبت دعوتهم.

* * *

• وقال وهب بن منبه: "مَثَلُ الذي يدعو بغير عمل كَمَثَلِ الذي يرمى بغير وتر"

(1)

.

وعنه قال: "العمل الصالح يبلغ الدعاء" ثم تلا قوله تعالى:

{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}

(2)

.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاءَ والتسبيحَ"

(3)

.

* * *

• وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "يكفي مع البر من الدعاء مثلُ ما يكفي الطعامَ من الملح".

• وقال محمد بن واسع: "يكفي من الدعاء من الورع: اليسيرُ".

* * *

• وقيل لسفيان: لو دعوتَ الله؟ قال: إن تركَ الذنوب هو الدعاء.

* * *

• وقال ليث: رأى موسى عليه الصلاة والسلام رجلا رافعًا يديه وهو يسأل الله مجتهدًا، فقال موسى عليه السلام:"أي ربِّ! عبدُك دعاك حتى رحمته، وأنت أرحم الراحمين فما صنعت في حاجته؟ " فقال: "يا موسى! لو رفع يديه حتى ينقطع ما نظرت في حاجته حتى ينظر في حَقِّي! ".

* * *

• وخرج الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا معناه

وقال مالك بن دينار: "أصاب بني إسرائيل بلاءٌ فخرجوا مخرجًا فأوحى الله تعالى

(1)

أورده ابن المبارك في الزهد ص 109 ح 322 عن معمر، عن سماك بن فضل، عن وهب.

(2)

سورة فاطر: 10.

(3)

أخرجه أحمد في الزهد ص 382 عن عبد الرحمن بن مهدي عن الرحمن بن فضالة عن بكير بن عبد الله عن أبي ذر.

ص: 294

إلى نبيه أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسةٍ، وترفعون إليَّ أَكفَّا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن اشتد غضبي عليكم، ولن تزدادوا منى إلا بُعْدًا".

وقال بعض السلف: "لا تستبطئ الإجابةَ وقد سَدَدْتَ طُرُقَهَا بالمعاصي".

وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:

نحن ندعو الإله في كُلّ كَربٍ

ثم ننساه عندَ كَشْفِ الكروب!

كيف نرجو استجابة لِدُعَاءٍ

قَدْ سَدَدْنا طريقَها بالذنوب؟

* * *

ص: 295

‌الحديث الحادي عشر

عن أبي مُحمَّدٍ: الحَسنِ بْنِ عَلي بْن أَبِي طالِب رضي الله عنهما سِبْط رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَرَيْحَانِتِه قَالَ:

حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ".

رَوَاهُ النَّسائي والترمِذِيُّ وَقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

* * *

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث خرجه الإمام أحمد

(1)

والترمذي

(2)

والنسائي

(3)

وابن حبان في صحيحه

(4)

والحاكم

(5)

من حديث بريد

(6)

بن أبي مريم، عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي، وصححه الترمذي.

(1)

في المسند 2/ 169، 171 (المعارف) وذكر محققه أن إسناده صحيح.

(2)

في جامعه: كتاب صفة القيامة: باب (60) 4/ 668 وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

في كتاب الأشربة: باب الحث على ترك الشبهات 2/ 334.

(4)

في باب الورع والتوكل: ذكر الزجر عما يريب المرء من أسباب هذه الدنيا الفانية 2/ 52 من الإحسان وأورد معه سياقه وقصته.

(5)

في المستدرك 4/ 99 وعلق الذهبي عليه بقوله: سنده قوي. والحديث أخرجه النسائي مختصرًا بهذا اللفظ الذي أورده ابن رجب عن النووي وأخرجه الترمذي والحاكم تامًّا وأشار الترمذي إلى أن له قصة، وقد ساقه أحمد في المسند بقصته وتمامه من حديث بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي، قال: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة فألقيتها في فيَّ فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعابها فألقاها في التمر، فقال له رجل: ما عليك لو أكل هذه التمرة؟ قال: إنا لا نأكل الصدقة، قال: وكان يقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنية، وإن الكذب ريبة، قال: وكان يعلمنا هذا الدعاء: "اللهما اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنه لا يذل من واليت، وربما قال: تباركت ربنا وتعاليت".

(6)

في م و ب: "يزيد .. ، عن أبي الجوزاء" وكلاهما تصحيف؛ فالأول هو بريد (بالباء المضمومة والراء المفتوحة) بن أبي مريم: مالك بن ربيعة السلولي البصري روى عن أبيه، وكان ذا صحبة، وعن أنس وابن عباس والحسن وأبي الحوراء: ربيعة بن شيبان، وروى عنه ابنه يحيى وشعبة وأبو إسحاق السبيعي. غيرهم، وثقة ابن معين والنسائي وابن حبان، وكانت وفاته سنة 144، وترجمته في التهذيب 1/ 432 وتهذيب الكمال 4/ 52 - 53.

أما الثاني فقد ذكر الترمذي عقب الحديث أن أبا الحوراء السعدي اسمه ربيعة بن شيبان وذكر القاضي عياض في الإلماع ص 156: أن أبا الحوراء بالحاء والراء هو ربيعة بن شيبان، وأما أبو الجوزاء بالجيم والزاي فهو أوس بن عبد الله الربعبي، (يروي) عن ابن عباس، وأبو الجوزاء مثله أيضًا: أحمد بن عثمان النوفلي، من شيوخ مسلم والنسائي أ. هـ.

ص: 297

• وأبو الحوراء السعدي قال الأكثرون: إن اسمه ربيعة بن شيبان، ووثقه النسائي وابن حبان وتوقف أحمد في أن أبا الحوراء اسمه ربيعة بن شيبان ومال إلى التفرقة بينهما وقال الجوزجاني: أبو الحوراء مجهول لا يعرف

(1)

.

• وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر.

وعند الترمذي وغيره زيادة في هذا الحديث وهي: "فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة".

• ولفظ ابن حبان: "فإن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة".

• وقد خرجه الإمام أحمد بإسناد فيه جهالة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "دَعْ مَا يَريبُك إلى ما لا يَريبُك"

(2)

.

• وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفًا على أنس

(3)

.

• وخرجه الطبراني من رواية مالك، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا

(4)

قال الدارقطني:

(1)

راجع ترجمته في الكنى والأسماء لمسلم ص 51، والكنى والأسماء للدولابي 1/ 161، وتهذيب التهذيب 3/ 256.

(2)

رواه أحمد في المسند 3/ 153 من طريق يحيى بن إسحاق، عن أبي عبد الله الأسدي، عن أنس مرفوعًا، بدون سياق أو قصة.

وأورده الهيثمي في المجمع 10/ 152 وقال: رواه أحمد. وأبو عبد الله الأسدي لم أعرفه وبقية رجاله: رجال الصحيح.

(3)

في المسند 3/ 112 (الحلبي) من طريق عبد الله بن إدريس، عن المختار بن فلفل قال: سألت أنس بن مالك عن الشرب في الأوعية فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفتة، وقال: كل مسكر حرام، قال قلت: وما المزفتة، قال: المقيرة، قال: قلت: فالرصاص والقارورة؟ قال: ما بأس بهما. قال قلت: فإن ناسًا يكرهونهما؟ قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن كل مسكر حرام" قال: قلت له: صدقت السكر حرام فالشربة والشربتان على طعامنا؟ قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وقال: الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة فما خمرت من ذلك فهى الخمر".

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 56 وقال رواه أحمد وأبو يعلى إلا أنه قال: حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة فذكره.

والبزار باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح.

وزاد البزار لعد قوله: دع ما يريبك إِلى ما لا يريبك: فإنها كلمة حكم أخذ بها من كان قبلكم.

(4)

أخرجه الطبراني في المعجم الصغير 1/ 122 ح 276.

وأورده الهيثمي في المجمع 10/ 295 وقال: فيه عبد الله بن أبي رومان وهو ضعيف.

والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 2/ 220 من رواية عبد الله بن عبد الملك بن أبي رومان الأسكندراني، عن ابن وهب به وفي آخره بعد هذا: فإنك لن تجد فقد شيء تركته لله عز وجل.

وعقب الخطيب بقوله: غريب من حديث مالك لا أعلم روي إلا من هذا الوجه.

ص: 298

وإنما يروى هذا من قول ابن عمر، وعن عمر، ويُروى عن مالك من قوله

(1)

انتهى.

• ويروى بإسناد ضعيف، عن عثمان بن عطاء الخراساني - وهو ضعيف - عن أبيه عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل:

"دَع ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُك" قال: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: "إذا أردت أمرًا فضَع يدَك على صَدْرِكَ، فإن القْلب يضطرب للحرام، ويسكن للحلال، وإن المسلمَ الورِعَ يَدَعُ الصغيرةَ مَخَافَةَ الكبيرة".

• وقد روي عن عطاء الخراساني مرسلًا.

وخرج الطبراني نحوه بإسناده ضعيف - عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه:

"قيل: فمن الوَرِع؟ قال: الذي يقف عند الشبهة"

(2)

.

• وقد روي

(3)

هذا الكلام موقوفًا على جماعة من الصحابة منهم

(4)

: عمر، وابن عمر، رضي الله عنهم، وأبو الدرداء.

• وعن ابن مسعود قال:

"ما تريد إلى ما يَريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك؟! ".

* * *

[الربا والريبة]:

• وقال عمر: "دعوا الربا والريبة" يعني: ما ارتبتم فيه. وإن لم تتحققوا أنه ربا.

* * *

[قلب المؤمن دليله]:

• ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها، فإن الحلال المحض

(1)

راجع تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 2/ 387 فقد أورد الحديث من طريق قتيبة عن مالك، وأبطل هذا الطريق ثم قال: وإنما يحفظ عن عبد الله بن أبي رومان الأسكندراني عن ابن وهب عن مالك، تفرد به واشتهر ابن أبي رومان وكان ضعيفًا قال: والصواب عن مالك من قوله: قد سرقه محمد بن عبد بن عامر من ابن أبي رومان، فرواه كما ذكرنا.

(2)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 294 من وجهين ضعيفين عن الطبراني وغيره.

(3)

ب: "وروى".

(4)

ليست في ب.

ص: 299

لا يحصل للمؤمن في قلبه منه ريب

(1)

، والريب بمعنى القلق والاضطراب، بل تسكن إليه النفس، ويطمئن به القلب، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب: القلق والاضطراب الموجب للشك.

[من أقوال العلماء في ذلك]:

• وقال أبو عبد الرحمن العمري الزاهد: "إذا كان العبد ورِعا تَرَكَ ما يريبه إلى ما لا يريبه".

• وقال الفُضَيْل: "يزعم الناس أن الورع شديد؟ وما ورد عليَّ أمران إلا أخذت بأشدهما؛ فدَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك".

وقال حسان بن أبي سنان: "ما شَىْءٌ أهونَ من الورع: إذا رابك شيء فدعه".

وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله.

* * *

[رجل يرفض انتهاز الفرص]:

• قال ابن المبارك: كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز أن قصب السكر أصابته آفة فاشتر السكر فيما قِبَلك. فاشتراه من رجل فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفًا قال: فأتى صاحب السكر فقال: يا هذا إن غلامي كان قد كتب إليّ فلم أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك؟ فقال له الآخر: قد أعلمتني الآن، وقد طيبتُه لك قال: فرجع فلم يحتمل قلبه فأتاه، فقال: يا هذا! إني لم آت هذا الأمر - من قبل وجهه؛ فأُحب أن تسترد هذا البيع قال: فما زال به حتى ردَّه

(2)

عليه.

* * *

[وصور أخرى]:

• وكان يونس بن عبيد إذا طَلب المتاعَ ونفَق وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له: أعْلم مَن تشتري منه أن المتاع قد طُلب.

وقال هشام بن حسان: ترك محمد بن سيرين أربعين ألفًا فيما لا ترون به اليوم بأسًا.

* * *

(1)

في ب: "ريبة".

(2)

ب: "رُدَّ "

ص: 300

[الإسلام يأبى حبس السلع لزيادة أسعارها]:

وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعامًا إلى البصرة مع رجل وأمره

(1)

أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه، فأتاه كتابه: إني قدمت البصرة فوجدت الطعام مُبَغَّضًا

(2)

فحبسته فزاد الطعام فازددت فيه كذا وكذا، فكتب إليه الحجاج: إنك قد خنتنا وعملتَ بخلاف ما أمرناك به فإذا أتاك كتابي

(3)

فتصدق بجميع ثمن ذلك

(4)

الطعام

(5)

على فقراء البصرة فليتنى أسلم إذا فعلتَ ذلك.

* * *

[التنزه عن ما فيه شبهة]:

• وتنزه يزيد بن زريع عن خمسمائة ألف من ميراث أبيه فلم يأخذه وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين.

* * *

• وكان يزيد يعمل الخوص ويتقوَّت منه إلى أن مات رحمه الله.

* * *

وكان المِسْور بن مَخْرمَة قد احتكر طعامًا كثيرًا، فرأى سحابًا في الخريف، فكرهه، فقال: ألا أراني كرهت ما ينفع المسلمين؟! فآلى أن لا يربح فيه شيئًا، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: جزاك الله خيرًا.

* * *

[مما يؤخذ من ذلك]:

وفي هذا: أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارًا مَنْهِيًّا عنه.

* * *

[أدلة ذلك]:

• وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه،

(1)

في م: "وامرأة" وهو تحريف.

(2)

م: "منقصا".

(3)

في م: "كثاي" وهو تحريف.

(4)

في م: "بجميع ذلك الثمن ثمن الطعام".

(5)

ليست في ب.

ص: 301

لدخوله في ربح ما لم يضمن.

وقد نهى عنه النبي

(1)

صلى الله عليه وسلم: فقال أحمد - في رواية عنه فيمن

(2)

أجره ما استأجره بربحه: "إنه يتصدق بالريح".

وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة: "إذا خالف فيه المضارب إنه يتصدَّق به".

وقال في رواية عنه - فيما إذا اشترى ثمرة قبل بدوِّ

(3)

صلاحها بشرط القطع - ثم تركها حتى بدا صلاحها - إنه يتصدق [به وقال في رواية عنه]

(4)

بالزيادة.

وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب، لأَن الصدقة بالشبهات مستحب

(5)

.

• وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمُحْرِم فقالت: "إنما هي أيام قلائل؛ فما رابك فدعه" يعني، ما اشتبه عليك هل هو حلال أو حرام فاتركه، فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصده هو.

* * *

[العمل بالرخصة أفضل]:

• وقد يُستدل بهذا على أن الخروج من اختلاف العلماء أفضل؛ لأنه أبعد عن الشبهة،

(1)

أخرجه أحمد في المسند 10/ 120، 154 و 11/ 149 - 150 (المعارف) بإسناد صحيح ح 6628، 6671، 6918.

والترمذي في جامعه: كتاب البيوع: باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك 3/ 535 - 536 بإسناد حسن صحيح ح 1234.

وأبو داود في سننه: كتاب البيوع: باب في الرجل يبيع ما ليس عنده 3/ 769 - 775 ح 3504.

والنسائي في سننه: كتاب البيوع: باب سلف وبيع وهو أن يبيع السلعة على أن يسلفه سلفًا، وباب شرطان في بيع يقول: أبيعك هذه السلعة - إلى شهر بكذا 7/ 295 من وجوه: ح 4629 - 4631.

وابن ماجه في سننه .. كتاب التجارات: باب النهي عن بيع ما ليس عندك 2/ 737 - 738 ح 2388.

كلهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يُضمن ولا بيع ما ليس عندك".

لفظ الترمذي وأبي داود.

وعند أحمد: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وعن بيع وسلف، وعن راجح ما لم يضمن، وعن بيع ما ليس عندك".

وقوله ولا ربح ما لم يضمن قال في عون المعبود: يعني لا يجوز أن يأخذ ربح سلعة لم يضمنها مثل أن يشتري متاعًا ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع، فهذا البيع باطل، وربحه لا يجوز، لأن البيع في ضمان البائع الأول، وليس في ضمان المشتري منه، لعدم القبض.

(2)

في م: "فمن". وفي ب: "فيمن أجر ما استأجره بربح أنه يتصدق به".

(3)

ليست في "ا".

(4)

ما بين الرقمين سقط من المطبوعة. وفي ب "أنه يتصدق بالزيادة" وقال في رواية عنه بالزيادة.

(5)

في م: "مستحبة".

ص: 302

ولكن المحققين

(1)

من العلماء من أصحابنا وغيرهم على أن هذا ليس على إطلاقه؛ فإن من مسائل الخلاف ما ثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم رخصة ليس لها مُعارض، فاتباع تلك الرخصة أولى من اجتنابها، وإن لم تكن تلك الرخصة بلغت بعض العلماء؛ فامتنع منها لذلك.

• وهذا كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"لا ينصرف حتى يسمعَ صوتًا أو يجدَ ريحًا

(2)

" ولا سيما إن كان شكه في الصلاة؛ فإنه لا يجوز له قطعها. لصحة النهي عنه

(3)

، وإن كان بعض العلماء يوجب ذلك.

* * *

[متى يترك العمل بالرخصة؟]:

وإن كان للرخصة معارض إما من سنة أُخرى، أو من عمل الأمة بخلافها فالأَولى تركُ العمل بها.

وكذا لو كان قد عمل بها شذوذ من الناس، واشتهر في الأمة العملُ بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإن الأخذ بما عليه عمل المسلمين هو المتعينّ، فإن هذه الأُمة قدْ أجارها الله أن يظهر أهل باطلها على أهل حقها، فما ظهر العمل به في القرون الثلاثة المفضلة فهو الحق، وما عداه فهو باطل.

وها هنا أمر ينبغي التفطُّن له، وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع.

* * *

[التنزه عن الصغيرة مع ارتكاب الكبيرة ليس من الورع]:

فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورّع عن شيء من دقائق الشبه فإنه لا يُحتَمل له ذلك، بل يُنكَر عليه؛ كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من

(1)

ب: "المحققون".

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الوضوء: باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن 1/ 337، وباب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين 1/ 283 وفي البيوع ح 2056.

وأخرجه مسلم في كتاب الحيض: باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك 1/ 286.

كلاهما من حديث عبد الله بن زيد وروي نحوه من حديث أبي هريرة كذلك. وتقدم ص 207.

(3)

ليست في ب.

ص: 303

أهل العراق: يسألوننى عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا"

(1)

؟!

• وسأل رجلٌ بشْر بن الحارث عن رجل له زوجة وأُمه تأْمره بطلاقها؟ فقال: إن كان يَبَرُّ أَمَّهُ في كل شيء ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أُمه فيضربها فلا يفعل.

• وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلا، ويشترط الخوصة

(2)

يعني التي تربط بها جُرْزَةُ

(3)

البقل؟ فقال أحمد: إيش هذه المسائل؟ قيل له: إن إبراهيم بن أبي نعيم يفعل ذلك؟!

(4)

فقال أحمد: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم. هذا يشبه ذاك.

وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا.

* * *

[هؤلاء هم أهل الورع]:

• وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع؛ فإنه أمَر مَن يشتري له سمنًا فجاء به على ورقة؛ فأمر برد الورقة إلى البائع.

• وكان الإمام أحمد لا يستمد من محابر أصحابه، وإنما يخرج معه محبرته

(5)

يستمد منها.

• واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته، فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم.

• واستأْذنه رجل آخر

(6)

في ذلك فتبسم وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا!

وهذا قاله على وجه التواضع، وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع.

(1)

أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ص 260 - 264، وأحمد في مسنده 9/ 202 بإسناد صحيح كما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر، والبخاري في صحيحه كتاب الفضائل: باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما 7/ 95 وفي كتاب الأدب: باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته 10/ 426، والترمذي في كتاب المناقب: باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام 5/ 657 وقال هذا حديث صحيح وفي أ، ر، ظ، ب "يسألوني" بحذف النون على لغة.

(2)

سقطت من ب والخوصة واحدة الخوص، وهو سعف النخل.

(3)

م "حزمة" وهما بمعنى.

(4)

في ب: "قيل له إنه إبراهيم بن أبي نعيم" أ: إن إبراهيم بن أبي نعيم.

(5)

في ب: "محبرة".

(6)

ليست في "ا".

ص: 304

وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة، ويُقْدِم على الشبهات من غير توقف.

* * *

[الخير طمأنينة والشر ريبة]:

• وقوله صلى الله عليه وسلم "فإن الخيرَ طمأنينة وإن الشر ريبة" يعني أن الخير تطمئن به القلوب عند الاشتباه، والشر ترتاب به، ولا تطمئن إليه.

• وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه، وسيأتي مزيد لهذا في

(1)

الكلام على حديث "النواس بن سمعان

(2)

" إن شاء الله تعالى.

* * *

[استفت قلبك]:

• وخرج ابن جرير بإسناده عن قتادة عن بشير

(3)

بن كعب أنه قرأ هذه الآية {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}

(4)

ثم قال لجاريته: إن دريت ما مناكبها فأنت حرة لوجه الله. قالت: مناكبها: جبالها، فكأنما سُفِع في وجهه، ورغب في جاريته، فسألهم: فمنهم من أمره، ومنهم من نهاه، فسأل أبا الدرداء، فقال: الخير طمأنينة والشر ريبة فذر ما يريبك إلى ما لا يريبك

(5)

.

* * *

[الصدق طمأنينة والكذب ريبة]:

• وقوله في الرواية الأخرى "إن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة" يشير إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على قول كل قائل، كما في حديث وابصة" وإن أفتاك الناس وأفتَوْك" وإنما يعتمد على قول من يقول الصدق.

(1)

سقطت من المطبوعة.

(2)

في الحديث السابع والعشرين.

(3)

في المطبوعة: "بشر" وهو خطأ. والخبر في تفسير الطبري 5/ 29.

(4)

سورة الملك: 15.

(5)

الخبر في تفسير ابن كثير 4/ 398 مختصرا وفيه أنه سأل أبا الدرداء فقال: هي الجبال. وأورده السيوطي في الدر المنثور 6/ 248 عن ابن المنذر بمثل ما هنا دون قوله: فكأنما سفع في وجهه إلى وأنه سأل أبا الدرداء فقال: الخير طمأنينة

الحديث.

ص: 305

وعلامة الصدق أنه تطمئن به القلوب، وعلامة الكذب أنه تحصل به الريبة، فلا تسكن القلوب إليه، بل تنفر منه.

ومن هنا كان العقلاء على

(1)

عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا كلامه، وما يدعو إليه، عرفوا أنه صادق، وأنه جاء بالحق، وإذا سمعوا كلام مسيلمة، عرفوا أنه كاذب، وأنه جاء بالباطل.

وقد روي أن عمرو بن العاص سمعد قبل إسلامه يدعي أُنه أنزل

(2)

عليه "يا وَبْرُ يا وَبْرُ

(3)

!! لك أُذنان وصدر، وإنك لتعلم يا عمرو! " فقال:"والله! إني لأعلم أَنك تكذب؟! ".

* * *

[وبضدها تتميز الأشياء]:

• وقال بعض المتقدمين صوِّر ما شئت في قلبك، وتفكر فيه، ثم قِسْه إلى ضده؛ فإنك إذا ميزت بينهما عرفت الحق من الباطل، والصدق من الكذب، قال: كأنك تصور محمدًا صلى الله عليه وسلم ثم تتفكر فيما أتى به من القرآن فتقرأ:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

(4)

ثم تتصوّر ضد محمد صلى الله عليه وسلم فتجده مسيلمة؛ فتتفكر فيما جاء به فتقرأ:

أَلا يا ربة المخدع

قد هُيِّئ لك المضجع

يعني قوله لسجاح حين تزوج بها.

• قال: فترى هذا - يعني القرآن - رصينا عجيبًا يلوط بالقلب

(5)

ويحسن في السمع، وترى ذا - يعنى قول مسيلمة - باردًا غثًّا فاحشا، فتعلم أن محمدًا حقٌّ أتى بوحي، وأن مسيلمةَ كَذّابٌ أَتى بباطل.

(1)

ب: "في".

(2)

ب: "نزل".

(3)

قال في النهاية (5/ 145): الوبر: دُويْبةَ على قدر السِّنَّوْر (القط) غبراء أو بيضاء حسنة العينين شديدة الحياء، حجازية، والأنثى وبرة.

(4)

سورة البقرة: 164.

(5)

يلوط بالقلب: يتعلق به، ويحبب إليه.

ص: 306

‌الحديث الثاني عشر

عَنْ أبي هُرَيْرةَ رضِيَ الله تَعَالَى عنه عَن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المرءِ تَرْكُهُ ما لَا يَعْنيِهِ". حَديث حَسَن رَوَاهُ الترمذي وغيره هكذا.

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث خرجه الترمذي

(1)

وابن ماجه

(2)

من رواية الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنهم.

وقال الترمذي: غريب. وقد حسنه الشيخ المصنف، رحمه الله؛ لأن رجال إسناده ثقات.

وقرة بن عبد الرحمن بن حيويل

(3)

وثقه قوم، وضعفه آخرون.

• وقال ابن عبد البر: هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات.

وهذا موافق لتحسين الشيخ له، رضي الله عنه

(4)

.

وأما أكثر الأئمة فقالوا: ليس هو محفوظًا

(5)

بهذا الإسناد، إنما هو محفوظ عن الزهري، [عن علي بن حسين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلًا.

• كذلك رواه الثقات عن الزهري]

(6)

، منهم مالك في الموطأ، ويونس، ومعمر،

(1)

أخرجه الترمذي في كتاب الزهد: باب (11) 4/ 558 وقال: هذا حديث غريب.

(2)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن: باب كف اللسان في الفتنة 2/ 1316.

(3)

هو قرة بن عبد الرحمن بن حيويل ويقال ابن حيويل بن ناشرة الكتعي المعافري المصري، ويقال: إنه مدني الأصل.

روى عن الزهري، وأبي الزبير، وربيعة، ويحيى بن سعد الأنصاري وغيرهم.

روى عنه الأوزاعي، والليث، وابن لهيعة وغيرهم.

قال الجوزجاني عن أحمد: إنه منكر الحديث جدًّا، وقال ابن معين: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم والنسائي: ليس بقوي، وقال ابن عدي: لم أر له حديثًا منكرًا جدًّا وأرجو أنه لا بأس به.

روى له مسلم مقرونًا بغيره، وذكره ابن حبان في الثقات وتوفي سنة 147 وترجمته في ميزان الاعتدال 3/ 388، وتهذيب التهذيب 8/ 372 - 374، وتهذيب الكمال 23/ 581 - 584 وفي المطبوعة:"بن حيوة" وهو تحريف وفي ب "حتويل" وهو تصحيف.

(4)

في ب: "رضي الله عنه له".

(5)

ب: "محفوظ" عامة النسخ: "بمحفوظ".

(6)

ما بين الرقمين ليس في ب. ورواية مالك للحديث في الموطأ 2/ 903 أول كتاب حسن الخلق ح 3.

ص: 307

وإبراهيم بن سعد، إلا أَنه قال:"من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه".

* * *

وممن قال إنه لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلًا: الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، والدارقطني.

وقد خلط الضعفاء في إسناده على الزهري تخليطًا فاحشًا.

والصحيح فيه المرسل.

ورواه عبد الله بن عمر العمري

(1)

عن الزهري، عن علي بن حسين، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم[فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي.

وخرّجه الإمام أحمد في مسنده من هذا الوجه

(2)

.

والعمري ليس بالحافظ.

وخرّجه أيضًا من وجه آخر عن الحسين

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم]

(4)

.

وضعفه البخاري في تاريخه من هذا الوجه أيضًا وقال: لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلًا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر، وكلها ضعيفة

(5)

.

* * *

[الحديث أصل عظيم من أصول الأدب]:

• وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد: إمام المالكية في زمانه أنه قال: "جماع آداب الخير، وأزِمَّته تتفرع من أربعة أحاديث:

(1)

في المطبوعة: "والعمري" وهو خطأ، فهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي المدني أبو عبد الرحمن العمري مختلف في توثيقه والأكثرون على تضعيفه: توفي سنة 173 وقيل سنة 171 وله ترجمة في ميزان الاعتدال 2/ 465 - 466، وتهذيب التهذيب 5/ 326 - 327.

(2)

في المسند 3/ 177 (المعارف) وصحح محققه إسناده: تبعًا لصاحب الزوائد 8/ 18.

(3)

في المسند 3/ 174 (المعارف) رواية عن ابن نمير ويعلى عن حجاج بن دينار، عن شعيب بن خالد، عن حسين بن علي، وذكر محققه علة تضعيف الحديث أن شعيب بن خالد لم يدرك الحسين؛ فالحديث منقطع.

(4)

ما بين القوسين ليس في ب.

(5)

كرواية الطبراني له في المعجم الصغير (867) من طريق زيد بن ثابت راجع مجمع الزوائد 8/ 18. وتضعيف البخاري للرواية المذكورة في التاريخ الكبير 2/ 2/ 220.

ص: 308

[1]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"

(1)

.

[2]

وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

[3]

وقوله صلى الله عليه وسلم: للذي اختصر له في الوصية: "لا تغضب"

(2)

.

[4]

وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه"

(3)

.

[مَنْ حَسُن إسلامُه تَرَكَ ما لا يعنيه بحكم الشرع]:

ومعنى هذا الحديث: أن من حَسُن إسلامه ترك ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال.

ومعنى يعنيه: أنه تتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه.

• والعناية: شدة الاهتمام بالشيء يقال: عناه يعنيه إذا اهتم به، وطلبه.

وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به

(4)

، ولا إرادة - بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام.

ولهذا جعله من حسن الإسلام؛ فإذا حَسُنَ إسلامُ المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال؛ فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام، وإن الإسلام الكامل

(5)

الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب: باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره 10/ 445. وباب حق الضيف 10/ 531، 532 ح 6018، 6019، 6135، 6136، 6138 وفي الرقاق: باب حفظ اللسان 11/ 308 ح 6475 ومسلم في كتاب اللقطة: باب الضيافة ونحوها 3/ 1752 - 1753 من حديثي أبي هريرة، وأبي شريح الخزاعي.

(2)

أخرجه البخارى في كتاب الأدب: باب الحذر من الغضب 10/ 519 ح (6116) من حديث أبي هريرة: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: "لا تغضب"، فردد مرارًا قال:"لا تغضب".

وروى نحوه من حديث ابن عمر، راجع فتح الباري في الموضع المذكور.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه 1/ 56 - 57.

ومسلم في كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير 1/ 67.

كلاهما من حديث أنس بن مالك.

(4)

ليست في ب ولا في "ا".

(5)

ليست في ب.

(6)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان: باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 1/ 53 ومسلم في كتاب الإيمان: باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل 1/ 65 من رواية عبد الله بن عمر وغيره.

ص: 309

[حتى المشتبهات والمكروهات وفضول المباحات]:

وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كلِّه من المحرمات، والمشتبهات، والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها؛ فإن هذا كلَّه لا يعني المسلم إذا كَمُل إسلامه، وبلغ إلى درحة الإِحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.

[الحياء من وسائل ترك ما لا يعني]:

فمن عبَد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضاره قربَ الله منه، واطلاعَه عليه. فقد حَسُن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه فإنه؛ يتولّد من هذين المقامين: الاستحياءُ من الله وتركُ كلِّ ما يُستحيا منه؛ كما وصى صلى الله عليه وسلم رجلًا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه

(1)

.

• وفي المسند والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "الاستحياءُ من الله تعالى: أن تحفظ الرأسَ وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، [ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا]

(2)

فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء"

(3)

.

[مما أثر في ذلك]:

• قال بعضهم: "استحي من الله على قدر قربه منك، وخف الله على قدر قدرته عليك".

وقال بعض العارفين: "إذا تكلمت فاذكر سمعَ الله لك، وإذا سكتَّ فاذكر نظرهُ إليك".

وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كقوله تعالى:

(1)

أخرجه ابن عدي في الكامل بإسناد ضعيف من حديث أبي أمامة. راجع فيض القدير على الجامع الصغير 3/ 487 وتقدم ص 330.

(2)

ما بين الرقمين ليس في ب.

(3)

مسند أحمد 5/ 245 - 246 (المعارف) بإسناد ضعيف كما بين محققه. وجامع الترمذي في كتاب صفة القيامة 4/ 637 وعقب عليه بقوله: "هذا حديث غريب" إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد. وقد أورده المنذرى في الترغيب والترهيب 3/ 400 عن الترمذي ثم قال: أبان بن إسحاق فيه مقال، والصباح مختلف فيه وتكلم فيه لرفعه هذا الحديث، وقالوا: الصواب: عن ابن مسعود موقوف.

ص: 310

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

(1)

.

وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}

(2)

.

وقال تعالى {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}

(3)

.

* * *

[من حُسْن الإسلام: قلة الكلام فيما لا يعني]:

• وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني: حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأول التي هي في سورة ق.

وفي المسند من حديث الحسين

(4)

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إن مِنْ حُسن إسلام المرءِ قلةَ الكلام فيما لا يعنيه".

• وخرج الخرائطيُّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله! إني مطاع في قومي، فما آمرهم؟ قال له: مرهم بإفشاء السلام، وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم"

(5)

.

* * *

[كيف يقضي المرء وقته؟]:

• وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام: "وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر

(1)

سورة ق: 16 - 18.

(2)

سورة يونس: 61.

(3)

سورة الزخرف: 80.

(4)

في المطبوعة تبعًا للهندية الحسن وأشير بالهامش إلى أن نسخة أخرى: الحسين؛ وهذا هو الصواب؛ فالحديث عند أحمد في مسند الحسين بن علي بن أبي طالب 3/ 174، 177 (المعارف) بإسناد ضعيف في الموضع الأول لانقطاعه. وبإسناد صحيح في الموضع الثاني على ما ذكر محققه. وفي ب وبعد الحديث:"وخرجه الخرائطي" وفيه خطأ واضح.

(5)

ب: "لا يعنيهم" وهو خطأ؛ والحديث عند الخرائطي في المكارم 2/ 436 بإسناد ضعيف جدًّا.

ص: 311

فيها في صنع الله تعالى، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب".

"وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنًا إلا لثلاث: تزوّدٍ لمعاد، أو مَرمَّةٍ لمعاش، أو لذةٍ في غير محرم".

"وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلا على شانه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه

(1)

".

وقال عمر بن العزيز رحمه الله: "من عدَّ كلامَه من عمله قل كلامُه إلا فيما يعنيه".

وهو كما قال؛ فإن كثيرًا من الناس لا يعُدُّ كلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ؛ فيجازفُ فيه ولَا يتحرى.

[المؤاخذة على الكلمة].

وقد خفي هذا على معاذ بن جبل رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أنؤاخذ بما نتكلَّم به؟ فقال: ثَكِلتْكَ أمّك

(2)

يا معاذ! وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم

(3)

؟ ".

* * *

[نفي الخير عن كثير مما يتناجى به الناس].

وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم فقال:

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}

(4)

.

(1)

أورده الغزالي في الإحياء 4/ 403 وذكر العراقي في تخريجه أن الحديث أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه أ. هـ. وانظر الإحسان 1/ 287 ح 362 وهو فيه من طريق إبراهيم بن هشام أحد الكذابين الذين مشاهم ابن حبان فلم يصب، وانظر الضعفاء لابن الجوزي 1/ 59 وانظر هامشه والترغيب 3/ 188 - 190.

ومعنى قوله: "ظاعنا" ساعيًا أو مرتحلًا.

(2)

قال في النهاية 1/ 217: "ثكلتك أمك" أي فقدتك. والثكل: فقد الولد. وامرأة ثاكل وثكلى، كأنه دعا عليه بالموت لسوء فعله أو قوله، والموت يعم كل أحد. فإذن الدعاء عليه كلا دعاء، أو أراد إذا كنت هكذا فالموت خير لك لئلا تزداد سوءًا، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء كقولهم: تربت يداك.

(3)

أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان: باب ما جاء في حرمة الصلاة 5/ 11 - 12 وقال حديث حسن صحيح.

وابن ماجه في كتاب الفتن: باب كف اللسان في الفتنة 2/ 1314 - 1315 كلاهما من حديث طويل. وأحمد في المسند 5/ 231 (الحلبي).

وهذا جزء من الحديث التاسع والعشرين من أحاديث الكتاب.

(4)

سورة النساء: 114.

ص: 312

• وخرّج الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"كل كلامِ ابن آدمَ عليه لا لَهُ إلا الأَمْرَ بِالمعْروفِ، والنَّهيَ عن المنكَرِ، وذكْرَ الله عز وجل"

(1)

.

وقد تعجب قوم من هذا الحديث عند سفيان الثوري فقال سفيان: وما تعجُّبكم

(2)

من هذا؟ أليس قد قال الله تعالى:

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}

(3)

.

أليس قد قال تعالى:

{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}

(4)

.

* * *

[من آثار الكلام فيما لا يعني عدم دخول الجنة]:

• وخرّج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: توفي رجل من أصحابه يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال، يعني رجل: أبشر بالجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو لا تدري فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه"

(5)

.

(1)

الترمذي في كتاب الزهد 4/ 608 باختلاف يسير وقال هذا حديث حسن غريب وابن ماجه في كتاب الفتن: باب كف اللسان في الفتنة 2 - 1315 بنص ما أورده ابن رجب وقال: لا نعرفه إلا من حديث محمد بن يزيد بن خنيس. وانظر تضعيف الشيخ الألباني له في الضعيفة 3/ 545 - 547 ح 1366.

(2)

في ا، و، م،:"وما يعجبكم" وفي ل، ظ بالتاء المفتوحة والجيم المشددة المضمومة وهما متقاربان.

(3)

سورة النساء: 114.

(4)

سورة النبأ: 38.

(5)

أخرجه الترمذي في كتاب الزهد 4/ 558 وقال هذا حديث غريب وعنده: "فلعله تكلم فيما لا يعنيه. أو بخل بما لا ينقصه" وقوله: "أو بخل بما لا يغنيه" ليست في ب. وفي أ: "فقال رجل يعني أبشر بالجنة" وما آثرناه هو الموافق لما عند الترمذي.

قال المباركفوري في التحفة (3/ 260): قوله: (أو لا تدري) بفتح الواو على أنها عاطفة على محذوف أي تبشر ولا تدري أو تقول هذا ولا تدري ما تقول، أو على أنها للحال أي والحال أنك لا تدري.

ثم عقب على قول الترمذي هذا حديث غريب بقوله: "قال في المرقاة: ورجاله رجال الصحيحين سليمان بن عبد الجبار البغدادي شيخ الترمذي وقد ذكره ابن حبان في الثقات.

وقال المنذري في الترغيب والترهيب بعد ذكر هذا الحديث، ونقل كلام الترمذي هذا: ما لفظه: "رواته ثقات".

ولم يرتض المباركفوري هذا التعميم فقال:

رجال الحديث ثقات كما قال المنذري، لكن الأعمش ليس له سماع من أنس واستشهد بقول ابن حجر في التهذيب في ترجمة الأعمش: روى عن أنس ولم يثبت له منه سماع.

ص: 313

وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها أنه قتل شهيدًا

(1)

.

* * *

[وعدم المبالاة بمن يتكلم فيما لا يعنيه]:

• وخرَّج أبو القاسم البغوي في معجمه من حديث شهاب بن مالك وكان وفد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له امرأة: يا رسول الله! أَلا تسلم علينا؟ فقال: "إنك من قبيل

(2)

يقلِّلن الكثير، ومنعها ما لا يغنيها، وسؤالها عما لا يعنيها".

(1)

في هذا يروي الطبراني في الأوسط بإسناد جيد من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيرًا فقلت: بأبي أنت ما لي أراك متغيرًا؟ قال: "ما دخل جوفي ما يدخل ذات كبد منذ ثلاث"، قال: فذهبت، فإذا يهودي يسقي إبلًا له، فسقيت له على كل دلو بتمرة، فجمعت تمرًا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"من أين لك يا كعب"؟ فأخبرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحبني يا كعب"؟ قلت: بأبي أنت وأمي نعم! قال: "إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تجفافًا"، قال: ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما فعل كعب؟ " قالوا: مريض .. فخرج يمشي حتى دخل عليه! فقال: "أبشر يا كعب"! فقالت أمه: هنيئًا لك الجنة يا كعب! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من هذه المتألية على الله"؟ قلت: هي أمي يا رسول الله! قال: "ما يدريك يا أم كعب؟ لعل كعبًا قال ما لا ينفعه ومنع ما لا يغنيه".

راجع مجمع الزوائد للهيثمي 15/ 313 - 314 والصمت لابن أبي الدنيا 74 وقد أورده فيه مختصرًا على شطر القصة الأخير وعنده: "لعل كعبًا قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه".

وقال العراقي في تعليقه على الإحياء: إسناده جيد إلا أن الظاهر انقطاعه بين الصحابي والراوي عنه - إحياء 3/ 97.

وأخرج أبو يعلى في مسنده (11/ 524) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدًا قال: فبكت عليه باكية فقالت: واشهيداه! قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مه ما يدريك أنه شهيد؟ ولعله كان يتكلم بما لا يعنيه، ويبخل بما لا ينقصه".

وإسناده ضعيف لضعف عصام بن طليق؛ فقد رواه أبو يعلى عن محمد بن بكار عن عصام بن طليق؛ عن شعيب بن العلاء عن أبي هريرة.

وقد أورده الهيثمي في المجمع 10/ 302 - 303 وضعفه بعصام المذكور.

وانظر هامش أبي يعلى وتعليق المحقق.

وأخرج أبو يعلى في مسنده (7/ 84) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: اسْتشهد غلام منا يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع؟ فمسحت أمُّهُ التراب عن وجهه وقالت: هنيئًا لك يا بني الجنة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره".

وقد رواه أبو يعلى عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، عن يحيى بن يعلى الأسلمي، عن الأعمش، عن أنس وقد ضعفه الهيثمي في المجمع 10/ 303 بيحيى بن يعلى الأسلمي؛ قال: وهو ضعيف.

(2)

في س: "قبيلة" واسم المرأة المذكورة: أم كلثوم وقد أشار إليها وإلى خبرها ابن حجر في الإصابة 2/ 158 ورواه عن ابن قانع أيضًا من طريق عمارة بن عقبة الحنفي، عن بقير بن عبد الله بن شهاب بن مالك، عن جده شهاب بن مالك فذكره. وانظر الكنز 45084.

ص: 314

[وتكثير الذنوب]:

• وخرَّج العقيلي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "أكَثُر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه"

(1)

.

[من ثمرات السكوت عما لا يعني: رفعة الشأن]:

• قال عمرو

(2)

بن قيس الملائي: مر رجل بلقمان والناس عنده فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى، قال: الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني

(3)

.

[بعد المنزلة]:

• وقال وهب بن منبه: "كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا على الماء، فبينما هما يمشيان في البحر إذا هما

(4)

برجل يمشي على الهواء فقالا له: يا عبد الله! بأي شيء أدركت هذه المنزلة؟ قال: بيسير من الدنيا، فطمت نفسي عن الشهوات، وكففت لساني

(5)

عما لا يعنيني، ورغبت فيما دعاني إليه ربي ولزمت الصمت؛ فإن أقسمت على الله أبر قسمي، وإن سألته أعطأني

(6)

".

[والتهلل عند الموت]:

• ودخلوا

(7)

على بعض الصحابة في مرضه، ووجهه يتهلل، فسألوه عن سبب تَهَلّلِ وجهه فقال:"ما من عمل أوثقَ عندي من خصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين".

(1)

أورده السيوطي في الجامع الصغير عن ابن لال وابن النجار من حديث أبي هريرة وعن السجزي في الإبانة من حديث عبد الله بن أبي أوفى وعن أحمد في الزهد من حديث سلمان الفارسي، قال المناوي في التيسير 1/ 200: رمز المؤلف لضعفه، وليس كما قال، بل حسن.

وهو عند العقيلى في الضعفاء الكبير 3/ 424 من رواية عصام بن طليق عن شعيب عن أبي هريرة، وشعيب مجهول، وعصام مجهول منكر الحديث.

(2)

في ب: "عمر" وهو خطأ؛ فهو عمرو بن قيس الملائي أبو عبد الله الكوفي، كان محدثا ثقة، توفي سنة 146 وترجمته في التهذيب 8/ 92 - 93.

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ص 76 من طريق خلف بن هشام عن أبي شهاب، عن عمرو بن قيس.

(4)

م: و، س، ب:"إذ".

(5)

في س: "نفسي".

(6)

الخبر في الصمت ح 753 بنحوه.

(7)

"ا": "خلوا" والخبر في الصمت ح 113 بنحوه.

ص: 315

• وقال مورِّق العجلي: أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه، ولست بتاركٍ طلبه أبدًا، قالوا: وما وهو؟ قال: "الكف عما لا يعنيني".

رواه ابن أبي الدنيا

(1)

.

[ودخول الجنة]:

• وروى [أسد بن موسى قال]

(2)

: حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة". فدخل عبد الله بن سلام فقام إليه ناس فأخبروه وقالوا: أخبرنا

(3)

بأوثق عملك في نفسك قال: إن عملى لضعيف [إن]

(4)

أوثق ما أرجو به: سلامةُ الصدر، وتركي

(5)

ما لا يعنيني

(6)

.

[رجل يعرضي الله عنه]:

• وروى أبو عبيدة عن الحسن قال: "من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه".

* * *

• وقال سهل التُّسْتَري: "مَنْ تكلم فيما لا يعنيه حُرِم الصدق".

* * *

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في الصمت ص 76 عن محمد بن سعد، عن عفان، عن جعفر بن سليمان، عن المعلي بن زياد قال: قال مورق العجلي:

"أمر أنا أطلبه منذ عشر سنين، لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه" قالوا ما هو يا أبا المعتمر؟ قال: "الصمت عما لا يعنيني".

وهو عند أحمد في الزهد، وأبي نعيم في الحلية 2/ 235 في أخبار مورق العجلي وعنده: سألت الله حاجة كذا وكذا منذ عشرين سنة فما أعطيتها ولا أيست منها" قال: فسأله بعض أهله: ما هي؟ قال: "أن لا أقول ما لا يعنيني".

(2)

ما بين القوسين سقط من ب.

(3)

عند ابن أبي الدنيا: "فأخبرنا".

(4)

ما بين القوسين هو الموافق لما عند ابن أبي الدنيا.

(5)

في الصمت: "وترك".

(6)

أورده العراقي في تخريج أحاديث الأحياء 3/ 97 عن ابن أبي الدنيا من حديث محمد بن كعب وقال: هكذا مرسلًا وفيه أبو [معشر]: نجيح اختلف فيه.

وهو عند ابن أبي الدنيا في الصمت ح 111 بنحوه من طريق علي بن الجعد عن أبي معشر، عن محمد بن كعب. لكن الحديث ضعيف بإرساله عن محمد بن كعب.

ص: 316

• وقال معروف: "كلام العبد فيما لا يعنيه: خذلان من الله عز وجل".

* * *

[من حَسُن إسلامه فترك ما لا يعنيه زادت حسناته]:

• وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرءَ: من حسن إسلامه، فإذا ترك ما لا يعنيه، وفعل ما يعنيه كُلَّه، فقد كمل حُسْن إسلامه.

وقد جاءَت الأحاديث بفضل من حَسُن إسلامُهُ، وأَنه تُضاعف حسناته، وتكفَّر سيئاته.

والظاهر أن كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إذَا أَحْسَن أَحدُكُم إِسْلامَهُ فَكُلُّ حَسَنةٍ يَعْملُها تُكتَب بِعشْر أمْثالِها إلى سَبعمِائة ضِعْفٍ، وكلُّ سيئة تُكْتَب بمِثلها حَتَّى يَلْقى الله عز وجل"

(1)

.

فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابدَّ منه، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام، وإخلاصِ النية، والحاجةِ إلى ذلك العمل، وفضلِه، كالنفقة في الجهاد، وفي الحج، وفي الأقارب، وفي اليتامى، والمساكين، وأوقاتِ الحاجة إلى النفقة.

ويشهد لذلك ما روي عن عطية عن ابن عمر رضي الله عنه قال: نزلت {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}

(2)

في الأعراب قيل له: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثر ثم تلا قوله تعالى:

{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}

(3)

.

• وخرّج النسائي من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إذا أسْلم العبدُ فَحَسُنَ إسلامُهُ كتب الله له كُلَّ حسنة كان أزلفها

(4)

ومحيت عنه كلُّ سيئة كان أزلَفَها ثم كان بعد ذلك القصاصُ: الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله".

(1)

صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب 1/ 118 وصحيح البخاري: كتاب الإيمان: باب حسن إسلام المرء 1/ 100.

(2)

سورة الأنعام: 160. والخبر عند ابن جرير في التفسير 12/ 280 بإسناده الضعيف من جهة عطية العوفي.

(3)

سورة النساء: 40.

(4)

أزلفها: أسلفها وقدمها.

ص: 317

• وفي رواية أخرى: "وقيل له ائْتَنِف العمل"

(1)

.

[الإسلام يَجُبُّ ما قبله]:

والمراد بالحسنات والسيئات التي كان أزلفها: ما سبق منه قبل الإسلام.

وهذا يدل على أنه يثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم، ويمحى عنه سيآته إذا أسلم، لكن بشرط أن يحسن إسلامه، ويتقي تلك السيات في حال إسلامه.

وقد نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله.

• ويدل على ذلك ما في الصحيحين

(2)

. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله! أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "أما مَن أحسَن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أُخذ بعمله في الجاهلية والإسلام".

• وفي صحيح مسلم

(3)

عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم - لما أسلم -: أريد أن أشترط. قال: "تشترط ماذا؟ " قلت: أن يُغفر لي؟ قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ ".

• وخرجه الإمام أحمد، ولفظه:

"إن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله من الذُّنوب"

(4)

.

(1)

أخرجه النسائي في كتاب الإيمان وشرائعه: باب حسن إسلام المرء 8/ 105 - 106 وفي آخره: إلا أن يتجاوز الله عز وجل عنها.

وأخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الإيمان: باب حسن إسلام المرء 1/ 98 من الفتح دون قوله "كتب الله له كل حسنة" وليس فيهما هذه الرواية الأخرى.

وانظره في سلسلة الأحاديث الصحيحة 247 وقد زاد نسبته إلى البزار والإسماعيلي والدارقطني والبيهقي في الشعب وفي م: "استأنف" وهي الموافقة لما أورده في الكنز 1/ 75 عن سمويه من روايته.

(2)

البخاري في أول كتاب استتابة المرتدين 12/ 265.

ومسلم في كتاب الإيمان: باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية 1/ 111.

(3)

مسلم في كتاب الإيمان: باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة 1/ 112 من حديث طويل.

(4)

رواه أحمد في المسند (4/ 204، 205) الحلبي من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس عن قيس بن شفي عن عمرو بن العاص قال: قلت: يا رسول الله أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها؟ " قال عمرو: فوالله إن كنت لأشد الناس حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا راجعته بما أريد، حتى لحق بالله عز وجل حياء منه.

وأخرجه من وجه آخر في الموضع الثاني وليس فيه ابن لهيعة.

وأخرجه أحمد 4/ 198 - 199 بسياق آخر مطولا فيه قصة إسلام خالد وبإسناد رجاله ثقات كما في المجمع.

ص: 318

وهذا محمول على الإسلام الكامل الحسن؛ جمعًا بينه وبين حديث ابن مسعود الذي قبله.

• وفي صحيح مسلم

(1)

أيضًا عن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله! أرأيتَ أمورًا كنتُ أصنعها في الجاهلية، من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم، أفيها أجرٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَسلمتَ على ما أسلفتَ من خير".

وفي رواية له قال: فقلت: والله لا أدع شيئًا صنعتُه في الجاهلية إلا صنعتُ في الإسلام مثله.

* * *

[حسنات الكافر إذا أسلم يثاب عليها]:

وهذا يدل على أن حسنات الكافر - إذا أسلم - يثاب عليها؛ كما دل عليه حديث أبي سعيد المتقدم

(2)

.

* * *

[وسيئاته تبدل حسنات].

وقد قيل: إن سيآته في الشرك تبدل حسنات، ويثاب عليها؛ أخذًا من قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}

(3)

.

[كيف تبدل السيئات حسنات].

وقد اختلف المفسرون في هذا التبديل على قولين، فمنهم من قال: هو في الدنيا بمعنى: أن الله يبدل من أسلم، وتاب إليه بدل ما كان عليه من الكفر والمعَاصي: الإيمان والأعمالَ الصالحة، وحَكى هذا القولَ إبراهيمُ الحربي في غريب الحديث، عن أكثر المفسرين، وسمى منهم ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والسُّدِّي، وعكرمة.

قلت: وهو المشهور عن الحسن رضي الله عنه.

(1)

في كتاب الإيمان: باب حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده 1/ 113 - 114.

(2)

ص 317.

(3)

سورة الفرقان: 68 - 70.

ص: 319

قال: وقال الحسن، وأبو مالك وغيرهما: هي في أهل الشرك خاصة، ليس هي في أهل الإسلام.

قلت: إنما يصح هذا القول على أن يكون التبديل في الآخرة كما سيأتي.

وأما إن قيل: إنه في الدنيا فالكافر إذا أسلم، والمسلم إذا تاب في ذلك [سواء بل المسلم إذا تاب]

(1)

فهو أحسن حالا من الكافر إذا أسلم.

وقال: وقال آخرون: والتبديل في الآخرة، جعلت لهم مكان كل سيئة حسنة، منهم: عمرو بن ميمون، ومكحول، وابن المسَيِّب، وعلي بن الحسين قال: وأنكره أبو العالية، ومجاهد، وخالد سَبَلان وفيه موضع إنكار، ثم ذكر ما حاصله: أنه يلزم من ذلك أن يكون من كَثُرت سيئاته أحسن حالًا ممن قلَّت سيئاته؛ حيث يعطى مكان كل سيئة حسنة، ثم قال: ولو قال قائل: إنما ذكر الله أن تبدل السيئات حسنات، ولم يذكر العدد كيف تبدل؟ فيجوز أن معنى تبدَّل: أن من عمل سيئة واحدة وتاب منها تُبَدَّلُ مائة ألف حسنة، ومن عمل ألف سيئة أن تبدل ألف حسنة فيكون حينئذ من قلت سيئاته أحسن حالًا.

قلت: هذا القول - وهو التبديل في الآخرة - قد أنكره أبو العالية وتلا قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}

(2)

.

ورد بعضهم بقوله تعالى:

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

(3)

.

وقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}

(4)

.

[كيف تبدل سيئات التائب؟].

• ولكن قد أجيب عن هذا بأن التائب يُوقفُ عَلَى سيئاته ثم تُبَدَّل حسنات.

قال أبو عثمان النهْدي: "إن المؤمن يؤتى كتابَه في سِتر من الله عز وجل، فيقرأ سيئاته، فإذا قرأ تغير لها لونه حتى يمر بحسناته، فيقرؤها، فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات، فعند ذلك يقول:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}

(5)

.

(1)

ما بين الرقمين ليس في المطبوعة ولا في الهندية.

(2)

سورة آل عمران: 30.

(3)

سورة الزلزلة: 8.

(4)

سورة الكهف: 49.

(5)

سورة الحاقة: 19. والخبر - برواياته - أورده ابن كثير في التفسير 4/ 415.

ص: 320

ورواه بعضهم عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، وقال بعضهم: عن أبي عثمان، عن سلمان.

• وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، وآخر أهل النار خروجًا منها: رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها؛ فَتُعْرَض عليه صغار ذنوبه فيقال له: عملتَ يوم كذا وكذا: كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تُعْرض عليه فيقالُ له: "فإن لك مكان كل سيئة حسنة" فيقول: رَبِّ! قد عملتُ أَشياءَ لا أراها ههنا؟ فلقد رأيتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نَواجِذهُ

(1)

.

* * *

فإذا بدلت السيئات بالحسنات في حق من عوقب على ذنوبه بالنار ففي حقِّ مَنْ محيت سيئاته بالإسلام والتوبة النَّصوح أولى؛ لأن محوها بذلك أَحَبُّ إلى الله من محوها بالعقاب.

• وخرج الحاكم من طريق الفضل بن موسى عن أبي العنبس

(2)

عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليتمنَّينَّ أقوام أنهم أكثروا من السيئات" قالوا: بم؟ يا رسول الله! قال: "الذين بدَّل الله سيئاتهم حسنات

(3)

".

• وخرجه ابن أبي حاتم، من طريق سليمان أبي داود الزهري

(4)

، عن أبي العنبس، عن أبيه، عن أبي هريرة موقوفًا وهو أشبه من المرفوع.

(1)

قال في النهاية: 5/ 20: النواجذ من الأسنان: الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك، والأكثر الأشهر أنها أقصى الأسنان، والمراد الأول، لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يبلغ به الضحك حتى تبدو أواخر أضراسه.

والحديث في صحيح مسلم كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلةً فيها 1/ 177 ح 314 - (190).

وفي ب: "فإنك لك مكان كل سيئة" فيقول يا رب

قال: "فلقد .. " وفي مسلم: فيقال: عملت.

(2)

في المطبوعة تبعًا للهندية: "عن أبي العبس" وهو خطأ؛ فأبو العنبس هذا هو سعيد بن كثير بن عبيد التيمي ضبطه في التقريب بفتح المهملة والموحدة بينهما نون ساكنة وذكر في التهذيب 4/ 73 - 74 عن ابن حبان والدارقطني وابن معين أنه ثقة وانظر التاريخ الكبير 2/ 1/ 509.

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 252 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي وفيه: "ليتمنين أقوام لو أكثروا .... ".

(4)

في ظ، ر، ل، ب: سليمان بن داود الزهري وهو خطأ؛ فهو سليمان بن موسى أبو داود الزهري الكوفي سكن دمشق روى بن موسى بن عبيدة ومظاهر بن أسلم، روى عنه الطاطري وهشام بن غماز، ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه صالح الحديث، محله الصدق، وانظر الجرح والتعديل 2/ 1/ 142 والخبر في تفسير ابن كثير 3/ 327 بنحوه.

ص: 321

ويروي مثل هذا عن الحسن البصْري أيضًا، وهو يخالف قوله المشهور: أن التبديل في الدنيا.

وأما ما ذكره الحربي في التبديل، وأن من قلت سيئاته يزاد في حسناته، ومن كثرت سيئاتُه يُقَلل من حسناته، فحديث أبي ذر صريح في ردِّ هذا وأنه يُعطَى مكان كل سيئة حسنةً.

[التبديل في حق من؟].

وأما قوله: يلزم من ذلك أن يكون من كثرت سيئاتُه أحسن حالًا ممن قلَّت سيئاته - فيقال: إنما التبديل في حق من ندم على سيئاته، وجعلها نصب عينيه، فكلما ذكرها ازداد خوفًا ورجلًا وحياءً من الله، ومسارعةً إلى الأعمال الصالحة المكفِّرة كما قال تعالى:

{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}

(1)

.

* * *

وما ذكرناه كلَّه داخل في العمل الصالح، ومن كانت هذه حالَه فإنه يتجرع من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعافَ ما ذاق من حلاوتها عند فعلها، ويصير كل ذنب من ذنوبه سببًا لأعمال صالحة ماحية له؛ فلا يستنكر بعد هذا تبديل هذه الذنوب حسنات.

وقد وردت أحاديث صريحة في أن الكافر إذا أسلم، وحسن إسلامه: تبدلت سيئاته في الشرك حسنات.

• فخرج الطبراني من حديث عبد الرحمن بن جُبَير بن نُفَير عن أبي فروة: شَطْب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرَأيْتَ رجلا عمل الذنوب كُلَّهَا، ولم يترك حاجة ولا داجة

(2)

فهل له من توبة؟ فقال: "أسلمت؟ " قال: نعم قال: "فافعل الخيرات واترك السيئات فيجعلها الله لك خيرات كلها" قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: "نعم" قال: فما زال يكبر حتى توارى

(3)

.

(1)

سورة الفرقان الآية: 70.

(2)

قال في النهاية 1/ 456 - 457: المراد ما تركت شيئًا دعتني نفسي إليه من المعاصي إلا وقد ركبته.

والحاجة ما صغر من الحوائج. والداجة: ما كبر.

(3)

أخرجه الطبراني في الكبير 7/ 314 عن أحمد بن يزيد الحويطي، عن أبي المغيرة عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي طويل: شطب الممدود أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلًا عمل الذنوب كلها، فلم يترك منها شيئًا وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها، فهل له من توبة؟ قال:"فهل أسلمت؟ " قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله: قال: "نعم تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن" قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: "نعم" =

ص: 322

• وخرجه من وجه آخر بإسناد ضعيف، عن سلمة بن نفيل

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم.

• وخرج ابن أبي حاتم نحوه من حديث مكحول مرسلا

(2)

.

• وخرج البراز الحديث الأول، وعنده عن أبي طويل:[شطب الممدود]

(3)

أنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه.

• وكذا خرجه أبو القاسم البغوي في معجمه

(4)

، وذكر أن الصواب عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير مرسلا أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم طويلا شطبا

(5)

.

والشطب في اللغة الممدود

(6)

، فصحفه بعض الرواة وظنه اسم رجل.

= قال: الله أكبر فما زال يكبر حتى تواري.

وقد أورده الهيثمي في المجمع 1/ 31، 32 - و 10/ 202 وقال: رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هارون أبي نشيط، وهو ثقة.

وقد أخرجه ابن كثير في التفسير 3/ 328 عن الطبراني من حديث أبي المغيرة، عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي فروة أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلًا عمل الذنوب كلها

الحديث فهل أبو طويل هو أبو فروة؟.

(1)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 31 عن الطبراني في الكبير وقال: في إسناده ياسين الزيات يروي الموضوعات وهو عند الطبراني في الكبير 7/ 53 - 54 عن عبد الله بن سعد بن يحيى الرقي عن يزيد بن محمد بن يزيد بن سنان، عن ياسين الزيات، عن أبي سلمة الحمصي، عن يحيى بن جابر، عن سلمة بن نفيل مرفوعًا بنحو حديث أبي طويل وقد أشار إليه ابن كثير في الموضع السابق.

وأورده السيوطي في الدر المنثور 5/ 80 لكن عن سلمة بن كهيل.

(2)

أورده ابن كثير في الموضع المذكور عن ابن أبي حاتم عن أبيه، عن محمد بن الوزير الدمشقي، عن الوليد بن مسلم، عن أبي جابر، أنه سمع مكحولًا يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال: يا رسول الله! رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أأسلمت؟ " فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فإن الله غافر لك غدراتك وفجراتك، ومبدل سيئاتك حسنات ما كنت كذلك" فقال: يا رسول الله! وغدراتي وفجراتي؟ فقال: "وغدراتك وفجراتك". فولي الرجل يكبر ويهلل. وأورده السيوطي في الدر المنثور في الموضع السابق.

(3)

ما بين القوسين سقط من المطبوعة.

(4)

أورده السيوطي في الدر المنثور في الموضع المذكور عن البغوي وابن قانع والطبراني من حديث أبي طويل: شطب الممدود. وهو عند الطبراني في الكبير 7/ 314 وأورده الهيثمي في المجمع 1/ 32 عن الطبراني والبزار وذكر أن رجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هرون وهو ثقة وذكر ابن حجر في الإصابة 3/ 349 - 350 بعد إيراده أنه على شرط الصحيح.

(5)

عامة النسخ: طويل شطب والتصويب عن البغوي كما أورد نصه ابن حجر في الموضع السابق. فقال فيه عن شطب: أبي طويل.

(6)

تتمة النص كما عند ابن حجر: والشطب في اللغة الممدود، يعني فظنه الراوي اسما.

ص: 323

‌الحديث الثالث عشر

عن أبي حَمْزَةَ: أَنَس بْنِ مالِك رضي الله عنه خادِمِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:

"لا يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحبَّ لأَخِيه ما يُحبُّ لنَفْسِهِ". رَوَاهُ البُخاريُّ ومُسْلمٌ.

* * *

[تخريج الحديث]:

• هذا

(1)

الحديث خرجاه في الصحيحين

(2)

، من حديث قتادة، عن أنس ولفظ مسلم:"حتى يحب لجاره أو لأخِيهِ" بالشك.

• وخرجه الإمام أحمد رحمه الله ولفظه: "لا يبْلُغ عَبْدٌ حقيقةَ الإِيمانِ حتى يُحبَّ للناس ما يُحبُّ لنفسه مِنَ الخَيْر"

(3)

.

(1)

ليست في المطبوعة. وفي ب: "فهذا".

(2)

البخاري في كتاب الإيمان: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه 1/ 56 - 57 ومسلم في كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير 1/ 67.

(3)

حديث أنس عن أحمد في المسند 3/ 176 من طريق شعبة وحجاج عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو لجاره ما يحب لنفسه" ولم يشك حجاج.

وأخرجه في 3/ 206 من طريق روح، عن حسين المعلم، عن قتادة عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير" وفي 3/ 251 من طريق عفان، عن همام عن قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير".

وفي 3/ 272 بمثل الموضع الأول إلا أنه فسر قوله "ولم يشك حجاج" فأضاف عقبها: "حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وفي 3/ 278 بمثل الموضع الأول ودون شك وهو من طريق شعبة فقط.

وفي 3/ 289 يمثل الموضع الثاني دون القسم.

ولم نجد في المسند ما أشار إليه ابن رجب، لكنها باللفظ الذي أورده ابن رجب عند ابن حبان (1/ 229) من الإحسان فقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق حسين المعلم، عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير".

وهو نص الرواية التي أوردها ابن رجب.

وقد أشار ابن حجر إلى إخراج ابن حبان لها ولم يشر إلى غيره في فتح الباري 1/ 57.

فلعل ذكر إخراج أحمد له سبق قلم أو خطأ ناسخ أو إشارة إلى مصدر آخر غير المسند.

على أن ابن حبان لا يتركنا دون أن يومض إلى ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان"!

إن حقيقة الإيمان هي الصورة المثلى في الإيمان، وهي هدف أسمى يسعى إليه المؤمنون ومن عندهم أصل الإيمان وهو التصديق بالله ربًا، وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا؛ ومن هنا يترجم ابن حبان لهذا =

ص: 325

• وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في الصحيحين، وأن المراد بنفي الإيمان: نفي بلوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإيمان كثيرًا ما ينفي لانتقاء بعض أركانه وواجباته كقوله صلى الله عليه وسلم:

"لا يَزني الزاني حين يَزني وهو مُؤمِنٌ، وَلا يَسرق السارقُ حين يسرق وهو مُؤمِنٌ، ولا يشْرب الخَمرَ حين يشربها وَهُو مؤمن"

(1)

.

وقوله:

"لا يُؤمِن مَنْ لا يأمَنْ جارُه بَوائِقَهُ"

(2)

.

[رأي العلماء في مرتكب الكبيرة]:

وقد اختلف العلماءُ في مرتكب الكبائر: هل يسمى مؤمنًا ناقص الإيمان أم لا يسمى مؤمنًا وإنما يقال: هو مسلم وليس بمؤمن؟ على قولين، وهما: روايتان عن الإمام أحمد.

* * *

[رأي العلماء في مرتكب الصغائر]:

فأما من ارتكب الصغائر فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية، بل هو مؤمن ناقص

= الحديث بهذا العنوان:

"ذكر البيان بأن نفي الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه إنما هو نفي حقيقة الإيمان لا الإيمان نفسه، مع البيان بأن ما يحب لأخيه أراد به الخير دون الشر".

وهو كذلك ما يريد ابن رجب من إيراد الحديث ومن التعقيب عليه؛ كما يستفاد من ذكر ابن حجر لهذه الرواية كمفسر للرواية الأساسية.

قال ابن حجر: والمراد بالنفي كمال الإيمان ونفي اسم الشيء - على معنى نفي الكمال عنه - مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان. ثم قال:

وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان" ومعنى الحقيقة هنا: الكمال؛ ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرًا".

(1)

رواه مسلم في كتاب الإيمان: باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية، على إرادة نفي كماله 1/ 76 من حديث أبي هريرة وهو في البخاري في المظالم: 5/ 119 - 120 وأطرافه في: 5578، 6772، 6810.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب البر والصلة: باب ليس بمؤمن من لا يأمن جاره غوائله 4/ 65 من حديث أبي هريرة بلفظ: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن". قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "جار لا يأمن جاره بوائقه" قالوا: فما بوائقه يا رسول الله؟ قال: "شره".

وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

ص: 326

الإيمان، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك.

* * *

[أقوال السلف في مرتكب الكبيرة]:

والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له: مؤمن ناقص الإيمان: مرويّ عن جابر بن عبد الله، وهو قول ابن المبارك، وإسحاق، وأبي عبيد وغيرهم.

والقول بأنه مسلم ليس بمؤمن: مروي عن أبي جعفر: محمد بن علي، وذكر بعضهم أنه اختار عند أهل السنة.

• وقال ابن عباس، رضي الله عنهما: الزاني ينزع منه

(1)

نور الإيمان.

• وقال أبو هريرة: ينزع منه الإيمان، فيكون فوقه كالظُّلَّة فإذا تاب عاد إليه

(2)

.

* * *

• وقال عبد الله بن رواحة وأبو الدرداء: الإيمان كالقميص: يلبسه الإنسان تارة ويخلعه أُخرى، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره.

* * *

والمعنى أنه إذا أكمل خصال الإيمان لبسه، فإذا نقص منها شيئًا نزعه.

* * *

[من صفات المؤمن الكامل أن يحب للناس ما يحب لنفسه]:

وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء.

والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أَن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، فإذا زال ذلك عنه؛ فقد نقص إيمانه بذلك.

(1)

في م، هـ:"عنه، وما أثبتناه عن "ا" موافق لما في سنن سعيد بن منصور 3/ 1/ 123 والخبر فيها عن مجاهد: أن ابن عباس دعا سميعًا، وكريبًا، وعكرمة، فقال لهم: إنكم قد بلغتم ما يبلغ الرجال من شأن النساء، فمن أحب منكم أن أزوجه زوجته، لم يزن رجل قط إلا نزع منه نور الإسلام، يرده الله إن شاء أن يرده، أو يمنعه إياه إن شاء أن يمنعه.

ورأي ابن عباس هذا رواه البخاري في أول كتاب الحدود 12/ 58 تعليقا وتمثل به في كتاب المظالم عقب إيراده الرواية السابقة 5/ 120 وأورده الآجري في الشريعة ص 114 - 115 بسياقه تاما من وجوه عديدة.

(2)

في م، هـ:"فإن" والخبر في الشريعة ص 115 بنحوه.

ص: 327

• وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: "أَحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا"

(1)

.

خرجه الترمذي وابن ماجه

(2)

.

• وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان، قال:"أفضل الإيمان أن تُحبَّ لله، وتُبغضَ لله، وتُعْمِلَ لسانَك في ذكر الله" قال: وماذا يا رسول الله؟ قال: "أن تحبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك، وتكرهَ لهم ما تكرهُ لِنفْسِكَ، وأن تقول خيرًا أو تصمت"

(3)

.

* * *

[من ثمرات هذه القيمة: دخول الجنة]:

وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة على هذه الخصلة.

• ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن يزيد بن أسد القشري قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتحب الجنة؟ "[قال] قلت: نعم. قال: "فأَحِبَّ لأخيك ما تحبُّ لِنَفْسِكَ"

(4)

.

[والبعد عن النار]:

• وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أحبَّ أن يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الجنَّة؛ فلتُدْرِكُه مَنِيَّتُّهُ وهو يؤمن بالله والَيْومِ الآخر، ويأتِي إلى النَّاس الذي يُحِب أنْ يُؤتَى إليْه"

(5)

.

* * *

(1)

في م. هـ: "مؤمنًا" كما عند ابن ماجه وما أثبتناه، عن ب، س، ل، ظ، ر موافق لما في الترمذي.

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب الزهد: باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس 4/ 551، وعقب عليه بقوله: هذا حديث غريب.

وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد: باب الورع والتقوى 2/ 1410 وعقب عليه صاحب الزوائد بقوله: هذا إسناد حسن.

وانظر مصباح الزجاجة 2/ 341 - 342 ح 1504.

(3)

مضى الحديث ص 126.

(4)

في مسند أحمد 4/ 70 الحلبي وهو في التاريخ الكبير للبخاري 4/ 2/ 313 والمستدرك للحاكم 4/ 168 وصححه وأقره الذهبي. وفي ب: "يزيد بن أسد القشيري" وهو تحريف.

(5)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول 3/ 3/ 147 من حديث طويل.

وهو عند أحمد في المسند 11/ 59 (معارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه.

ص: 328

[النصح للمسلمين]:

وفيه أيضًا عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"يَا أبا ذَرَّ! إنِّي أرَاكَ ضعيفًا؛ وإنِّي أُحب لَكَ مَا أُحِب لِنَفْسي؛ لا تأَمَّرَنَّ على اثنَين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم"

(1)

.

وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه؛ وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف، وإنما كان يتولى أُمور الناس؛ لأَن الله قَوَّاه على ذلك، وأمرهُ بدعاءِ الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم.

* * *

وقد رُوي عن علي رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:

"إنّي أَرْضَى لَكَ مَا أرْضَى لِنَفْسِي، وَأكْرَهُ لَكَ مَا أكْرهُ لنَفْسِي، لا تقرأ القُرآنَ وأنتَ جُنُبُ، ولا وأنتَ راكعٌ وَلا وأنت سَاجِد"

(2)

.

• وكان محمد بن واسع يبيع حمارًا له فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه.

وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه، وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين كما سبق تفسير ذلك في موضعه

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة: باب كراهة الإمارة بغير ضرورة 3/ 1457 - 1458 ح 17. (1826).

(2)

أخرج الطيالسي في مسنده ص 17 عن علي رضي الله عنه قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآن وأنا راكع، وأن ألبس المعصفر، وأن أتختم بالذهب" وأورد الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 276 عن علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقرأ القرآن وأنت جنب" ثم قال: رواه البزار وفي إسناده أبو مالك النخعي، وقد أجمعوا على ضعفه، ولعلي عند أبي يعلى قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ شيئًا من القرآن، قال:"هكذا لمن ليس بجنب. فأما الجنب فلا، ولا آية، ورجاله موثقون" وانظر سنن الدارقطني والتعليق المغني 1/ 118 - 119.

وذكر النووي في شرحه على مسلم 4/ 68 اختلاف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض فقال: فالجمهور على تحريم القراءة عليهما جميعًا ولا فرق عندنا بين آية وبعض آية فإن الجميع يحرم. ولو قال الجنب: بسم الله، والحمد لله، ونحو ذلك إن قصد به القرآن حرم عليه، وإن قصد به الذكر أو لم يقصد شيئًا لم يحرم، ويجوز للجنب والحائض أن يجريا القرآن على قلوبهما، وأن ينظرا في المصحف وفي عامة النسخ سوي نسخة "بريدة":"ولا ساجد".

(3)

في حديث النصيحة وهو الحديث السابع من أحاديث الكتاب.

ص: 329

وقد

(1)

ذكرنا فيما تقدم

(2)

حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"مَثَلُ المؤمنِينَ في تَوادِّهم وتَعَاطفهِمْ وتراحُمهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عُضْوٌ تَدَاعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر".

خرجاه في الصحيحين.

* * *

[المؤمن مع المؤمن فيما يسوءه وفيما يسره]:

وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوءُ أخاه المؤمن، ويَحْزُنه ما يحزنه.

وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن، ويريد لأخيه المؤمن ما يريد لنفسه من الخير.

[مبعث ذلك]:

وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغش والغل والحسد؛ فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير، أو يساويه فيه، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله، وينفرد بها عنهم.

والإيمان يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء.

وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يريد العلو في الأرض ولا الفساد فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}

(3)

.

[أثر كراهية تفوق الغير بالخير].

وروى ابن جرير

(4)

بإسناد فيه نظر عن علي رضي الله عنه قال:

(1)

ليست في ب.

(2)

في ص 124 في شرح الحديث الثاني وهو في صحيح البخاري كتاب الأدب: باب رحمة الناس والبهائم 10/ 367 وفي صحيح مسلم كتاب البر والصلة: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/ 1999.

كلاهما من حديث النعمان بن بشير.

(3)

سورة القصص: 83.

(4)

في التفسير 20/ 79 وأورده ابن كثير في التفسير 3/ 402 عن ابن جرير ولم يضعف الحديث وإنما عقب عليه بقوله: وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره فإن ذلك مذموم، ثم أيد هذا بشاهد من الصحيح فقال كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنه أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد".

ص: 330

إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل

(1)

صاحبه، فيدخل في قوله تعالى:

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}

(2)

.

وكذا روي عن الفضيل بن عياض في هذه الآية قال: "لا يحب أن يكون نعله أجود من نعل غيره، ولا شراكه أجود من شراك غيره".

[حب التفوق على الغير بين الفخر والتجمل].

• وقد قيل

(3)

: إن هذا محمول على أنه أراد الفخر على غيره لا بمجرد التجمل.

• قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية: العلوّ في الأرض: التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها، والفساد: العمل بالمعاصي.

• وقد ورد ما يدل على أنه لا يأثم من كره أن يفوقه أحَدٌ من الناس في الجمال

(4)

.

• فخرج الإمام أحمد، رحمه الله، والحاكم في صحيحه من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مُرارَة الرَّهاوي فأدركته وهو يقول: يا رسول الله! قد قُسم لي من الجمال ما ترى فما أحب أحدًا من الناس فَضلني بشراكين فما فوقهما، أليس ذلك هو من البغي؟ فقال: "لا! ليس ذلك بالبغي، ولكن البغي من بَطِر أو قال سَفِه الحقَّ

(5)

وغَمَص

(6)

الناس"

(7)

.

• وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه، وفي

(1)

ليست في ب.

(2)

سورة القصص: 83.

(3)

القائل هو ابن كثير كما تبين.

(4)

في س: "لا يأثم من أحب أن لا يفوقه الناس في الجمال" وفي م، هـ "أن يفوقه من الناس أحد".

(5)

قال في النهاية 2/ 376: سفه الحق: أي جهله، وقيل جهل نفسه ولم يفكر فيها، وفي الكلام محذوف تقديره: إنما البغي فعل من سفه الحق، والسفه في الأصل: الخفة والطيش، وسفه فلان رأيه إذا كان مضطربًا لا استقامة به، والسفيه: الجاهل.

(6)

عند أحمد: "وغمط" وعند الحاكم: "غمص" وكلاهما مروي وصحيح. قال في النهاية: 3/ 387: الغمط: الاستهانة والاستحقار، وهو مثل الغمص.

(7)

الحديث أخرجه أحمد في المسند 5/ 234 و 6/ 61 (المعارف) بإسناد منقطع كما ذكر محققه. وأخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب اللباس: باب إن الله جميل يحب الجمال 4/ 181 - 182 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

ص: 331

حديثه: "الكبر" بدل "البغي" فنفى أن تكون كراهته

(1)

لأن يفوقه أحد في الجمال بغيًا أو كبرا، وفسر البغي والكبر ببطر الحق، وهو التكبر عليه، والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه

(2)

.

* * *

[المؤمن متواضع يقبل الحق ولا يأباه].

• ومن هنا قال بعض السلف: "التواضع: أن تقبل الحق من كل مَن جاءَ به وإن كان صغيرًا".

فمن قبل الحق ممن جاء به سواء أكان صغيرًا أو كبيرًا، وسواء أكان يحبه أو لا يُحبه، فهو متواضع.

ومن أبى قبول الحق تعاظمًا عليه فهو متكبر.

وغَمْصُ الناس: هو احتقارهم وازدراؤهم، وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص.

* * *

[حب الناس يدفع إلى إصلاح عيوبهم].

وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإن رأى في أخيه المسلم نقصًا في دينه اجتهد في إصلاحه.

قال بعض الصالحين من السلف:

أهل المحبة لله نظروا بنور الله، وعطفوا على أهل معاصي الله: مقتوا أعمالهم، وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم، وأشفقوا على أبدانهم من النار.

* * *

(1)

في س: "أن يكون محبته الانفراد بالجمال". وفي ب: "بدل البغي ببطر الحق".

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب اللباس: باب ما جاء في الكبر 4/ 352 من حديث أبي هريرة أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رجلًا جميلًا، فقال: يا رسول الله! إني رجل حبب إليَّ الجمال، وأعطيت منه ما ترى، حتى ما أحب أن يفوقني أحد، إما قال: بشراك نعلي، وإما قال: بشسع نعلي، أفمن الكبر ذلك؟ قال:"لا، ولكنَّ الكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الحق وغَمَطَ الناس".

ص: 332

[حب الناس يدفع إلى الغبطة لا الحسد].

ولا يكون المؤمن مؤمنًا حقًّا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه.

وإن رأى في غيره فضيلة فاق بها عليه فتمنى لنفسه مثلها، فإن كانت تلك الفضيلة دينية كان حسنًا.

• وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه منزلة الشهادة.

وقال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقرؤه آناه الليل، وآناء النهار"

(1)

.

• وقال

(2)

في الذي رأى من ينفق ماله في طاعة الله فقال: لو أن لي مالا لفعلت فيه كما فعل [هذا] فهما في الأجر سواءٌ.

وإن كانت دنيوية فلا خير في تمنيها كما قال تعالى:

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}

(3)

.

* * *

وأما قوله عز وجل: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}

(4)

فقد فُسر ذلك بالحسد، وهو تمني الرجل نفس ما أعطي أخوه من أهل ومال، وأن ينتقل ذلك إليه، وفُسر بتمني ما هو ممتنع شرعًا أو قدَرًا كتمني النساء أن يكن رجالا، أو يكون لهن مثل ما للرجال من الفضائل الدينية كالجهاد، والدنيوية كالميراث والعاقل والشهادة ونحو ذلك.

وقيل: إن الآية تشمل ذلك كله.

ومع هذا كله فينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية؛ ولهذا أُمِر أن ينظر في الدين إلى مَن هو فوقه، وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته كما قال تعالى:

(1)

أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها: باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه 1/ 558، 559 من حديث ابن عمر بتقديم وتأخير. والبخاري في فضائل القرآن ح 5025.

(2)

في هـ، م:"فيمن". وفي ب: "كما فعل فهما". والحديث في البخاري رقم 5026.

(3)

سورة القصص: 79 - 80.

(4)

سورة النساء: 32.

ص: 333

{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}

(1)

.

ولا يكره أن أحدًا يشاركه في ذلك، بل يجب للناس كلهم المنافسة فيه

(2)

، ويحثهم على ذلك، وهو من تمام أداء النصيحة للإخوان.

* * *

[حب المؤمن أن يكون غيره مثله وأحسن منه].

• قال الفضيل: إن كنت تحب أن يكون الناس مثلك فما أديت النصيحة لربك، كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك؟! يشير إلى أن النصيحة لهم: أن يحب أن يكونوا فوقه، وهذه منزلة عالية، ودرجة رفيعة في النصح، وليس ذلك بواجب.

• وإنما المأمور به في الشرع أن يحب أن يكونوا مثله، ومع هذا فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية اجتهد على لحاقه، وحزن على تقصير نفسه، وتخلفه عن لحاق السابقين، لا حسدًا لهم على ما آتاهم الله بل منافسة لهم وغبطة وحزنًا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين.

* * *

[المؤمن يحاسب نفسه].

• وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرًا عن الدرجات العالية فيستفيد بذلك أمرين نفيسين: الاجتهاد في طلب الفضائل، والازدياد منها. والنظر إلى نفسه بعين النقص.

• وينشأ من هذا أن يجب للمؤمنين أن يكونوا خيرًا منه؛ لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه بل هو يجتهد في إصلاحها.

* * *

• وقد قال محمد بن واسع لابنه: أما أبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله

(3)

.

• فمن كان لا يرضى عن نفسه فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله، مع نصحه لهما؟ بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرًا منه، ويحب لنفسه أن يكون خيرًا مما هو

(1)

سورة المطففين: 26.

(2)

ليست في ب.

(3)

رواه أبو نعيم في الحلية 2/ 350 من طريق عبد الله بن عيسى الطفاوي، عن محمد بن عبد الله الرداد قال: نظر محمد بن واسع إلى ابن له يخطر بيده فقال له: تعال ويحك! أتدري ابن من أنت؟ أمك اشتريتها بمائتي درهم، وأبوك لا كثر الله في المسلمين ضربه - أو نحوه أو مثله.

ص: 334

عليه.

* * *

[ويتحدث بنعمة الله عليه].

• وإن علم المرءُ أن الله قد خصه على غيره بفضل فأخبر به لمصلحة دينية، وكان إخباره على وجه التحدث بالنعم، ويرى نفسه مقصرًا في الشكر كان جائزًا؛ فقد قال ابن مسعود:"ما أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني".

ولا يمنع هذا أن يحب للناس أن يشاركوه فيما خصه الله به، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأمُرُّ على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم.

* * *

[ولا يتفاخر بما حباه الله به].

• وقال الشافعي: "وددتُ أن الناس تعلّموا هذا العلم ولم يُنْسَبْ إليّ منه شيء

(1)

".

* * *

[ويسعى في خير غيره].

• وكان عتبة الغلام إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أعماله: "أخْرِجْ إليّ ماءً أو تمرات أفطر عليها ليكون لك مثلُ أجْرِي

(2)

".

* * *

(1)

رواه أبو نعيم في الحلية 9/ 118 عن الربيع من وجهين قال في أولهما: سمعت الشافعي يقول؛ فذكره بنحوه، وقال في الثاني: دخلت على الشافعي وهو عليل، فسأل عن أصحابنا وقال: يا بني! لوددت أن الخلق كلهم تعلموا - يريد كتبه أو علمه - ولا ينسب إليّ منه شيء.

(2)

في م. هـ "ليكون لك أجر مثل أجري" والخبر رواه أبو نعيم في الحلية 6/ 235 من طريق عبد الله بن عيسى الطفاوي، عن أبي عبد الله الشحام قال: كان عتبة يبيت عندي قال: فكان يبيت في بيت وحده، قال عبد الله فقلت له: ما كانت عبادته؟ قال كان يستقبل القبلة فلا يزال في فكر وبكاء حتى يصبح، قال: وربما جاءني وهو مُمْسٍ فقول: أخرج إليّ شربة من ماء أو تمرات أفطر عليها فيكون لك مثل أجري.

ص: 335

‌الحديث الرابع عشر

عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:

"لا يَحِل دَم امْرِئ مُسْلم إلا بِإِحْدى ثَلاث: الثَّيِّبُ الزَّانِى، والنَّفْسُ بالنَّفْسِ، والتَّاركُ لِديِنه الْمُفارِقُ للِجَمَاعَةِ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.

* * *

[تخريج الحديث].

• هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود

(1)

.

وفي رواية لمسلم: "التارك للإسلام" بدل قوله: التارك لدينه

(2)

.

وفي هذا المعنى أحاديث متعددة.

• فخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن مسعود

(3)

.

وخرج الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحِلُّ دَم امرِئ مُسلم إلا بإحدى ثَلاث: رَجُلٌ كَفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفْسًا بغير نفْس"

(4)

.

• وفي رواية للنسائي:

رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عمدًا فعليه القوَدُ، أو ارتد بعد إسلامه

(1)

مسلم في كتاب القسامة: باب ما يباح به دم المسلم 3/ 1302.

والبخاري في كتاب الديات: باب قول الله تعالى: أن النفس بالنفس 12/ 201 من الفتح وعنده: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة".

(2)

في الباب نفسه 3/ 1303 من رواية أخرى عن ابن مسعود.

(3)

أشار إليه مسلم عقب رواية ابن مسعود.

(4)

الترمذي في كتاب الديات: باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث 4/ 19 إشارة.

والنسائي في كتاب تحريم الدم: باب ذكر ما يحل به دم المسلم 7/ 91 - 92.

وابن ماجه في كتاب الحدود: باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث 2/ 847.

ص: 337

فعليه القتلُ

(1)

.

وقد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وغيرهم.

* * *

[عقوبة الإعدام بخصال ثلاث].

وقد ذكرنا حديث أنس فيما تقدم

(2)

وفيه أن هذه الثلاث خصال هي حق الإسلام التي يستباح بها دم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين.

* * *

[زنا الثيب].

أما زنا الثيب فأجمع المسلمون على أن حده الرجم حتى يموت، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية

(3)

وكان في القرآن الذي نسخ لفظه: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم).

* * *

[ابن عباس يثبت الرجم بالقرآن].

وقد استنبط ابن عباس الرجم من القرآن من قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}

(4)

.

قال: فمن كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، ثم تلا هذه الآية، وقال: كان الرجم مما أَخفَوْا.

خرجه النسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد

(5)

.

(1)

أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم: باب الحكم في المرتد 7/ 103 والقود: القصاص.

(2)

ص 248.

(3)

راجع قصة ماعز والغامدية في المستدرك 4/ 361 - 364، ومسلم 3/ 1318 - 1324.

(4)

سورة المائدة: 15.

(5)

أخرجه الحاكم في المستدرك. كتاب الحدود: باب من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن 4/ 359 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي. وأخرجه النسائي في الكبرى 6/ 333 ح 11139.

ص: 338

[والزهري أيضًا].

ويستنبط أيضا من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}

(1)

وقال الزهري: بلغنا أنها نزلت في اليهوديين اللذين رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني أحكم بما في التوراة وأمر بهما فرجما

(2)

.

* * *

• وخرج مسلم في صحيحه من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين

(3)

، وقال في حديثه: فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}

(4)

وأنزل {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}

(5)

في الكفار كلها.

• وخرجه الإمام أحمد وعنده: فأنزل الله: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقولون: ائتوا محمد فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا إلى قوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: في اليهود

(6)

.

(1)

سورة المائدة: 44 - 49 وانظر أسباب نزول القرآن للواحدي 190.

(2)

راجع في هذا ما أخرجه أبو داود في كتاب الحدود: باب رجم اليهوديين 2/ 465 وابن كثير في التفسير 2/ 58 - 59 الطبري في التفسير 10/ 338 - 340 ح 12008.

(3)

قصة رجم اليهوديين لم يخرجها مسلم في صحيحه من حديث البراء بن عازب وإنما خرجها من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين قد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود. فقال: "ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا: نسود وجوههما ونحممُهما ونخالف بين وجوههما. ويطاف بهما. وقال: فائتوا بالتوراة إن كنتم صادقين، فجاءوا بها فقرأوها. حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليرفع يده. فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ح 26 - (1699).

أما ما في مسلم من حديث البراء فرجم يهودي واحد. وهذا سياق مسلم عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمَّمًا (مسود الوجه) مجلودًا فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: "هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ "، قالوا نعم .. الحديث وفيه: فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله:{إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} وأنزل الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ

} والآيتين التاليتين. ورواية أحمد التالية هي من حديث البراء بسياقة مسلم.

وبهذا يكون قد التبس على ابن رجب حديث ابن عمر بحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما راجع صحيح مسلم. كتاب الحدود: باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا 3/ 1326 - 1327 ح 1700.

(4)

سورة المائدة: 41.

(5)

سورة المائدة: 44.

(6)

سورة المائدة: 42.

والحديث في مسند أحمد 4/ 286 (الحلبي) وهو حديث صحيح.

ص: 339

• ورُوي من حديث جابر قصة رجم اليهوديين، وفي حديثه قال: فأنزل الله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}

(1)

.

وكان الله تعالى قد أمر أولًا بحبس النساء الزواني إلى أن يتوفاهن الموت، أو يجعل الله لهن سبيلًا. ثم جعل الله لهن السبيل، ففي صحيح مسلم

(2)

عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"خُذُوا عَنِّي، خذوا عنِّي: قَدْ جَعَل الله سَبِيلا: الْبِكْر بالْبِكْر جَلْدُ مائة وتغريبُ عام، والثيب بالثيب: جلد مائة والرجم".

* * *

[بعض العلماء يشدد في حد الزنا].

وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من العلماء وأوجبوا جلد الثيب مائة، ثم رجمه، كما فعل علي بشُراحة الهَمْدانية

(3)

وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويشير إلى أن كتاب الله فيه جلد الزانيين من غير تفصيل بين ثيب وبكر، وجاءت السنة برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضًا

(4)

.

* * *

وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد، رحمه الله، وإسحاق، وهو قول الحسن، وطائفة من السلف.

• وقالت طائفة منهم: إن كان الثيبان شيخين جلدا ورجما، وإن كانا شابين رجما بغير جلد؛ لأن ذنب الشيخ أقبح، لا سيما بالزنا، وهذا قول أبيِّ بن كعب.

وروي عنه مرفوعًا، ولا يصح رفعه، وهو رواية عن أحمد وإسحاق أيضًا.

وأما "النفس بالنفس" فمعناه: أن المكلف إذا قتل نفسًا بغير حق عمدا فإنه يقتل بها، وقد دل القرآن على ذلك بقوله تعالى:

(1)

أورده ابن كثير في التفسير 2/ 59 عن الحميدى ولم يعقب عليه. والآية: 42 من سورة المائدة.

(2)

في كتاب الحدود: باب حد الزنا 1316/ 3 - 1317 (1690) وفيه: وتغريب سنة.

(3)

أخرج قصتها الحاكم في المستدرك 4/ 364 - 365 من طريقين صححهما على شرط الشيخين. وأقره الذهبي في الثاني، وسكت عن الأول وانظرها في صحيح البخاري ح 6812.

(4)

ليست في ب.

ص: 340

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}

(1)

.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}

(2)

.

[لا قصاص بين والد وولده].

ويستثنى من عموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} صور منها:

أن يقتل الوالد ولده. الجمهور على أنه لا يقتل به؛ وصح ذلك عن عمر رضي الله عنه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة

(3)

وقد تُكُلِّم في أسانيدها.

[شروط ذلك].

وقال مالك: إن تعمد قتله تعمدًا لا يشك فيه مثل أن يذبحه فإنه يقتل به وإن حذفه بسيف أو عصا لم يقتل.

وقال الْبَتِّي

(4)

يقتل بقتله بجميع وجوه العمد للعمومات.

* * *

[ولا بين حر وعبد والآراء في ذلك].

ومنها: أن يقتل الحر عبدًا. فالأكثرون على أنه لا يقتل به وقد وردت في ذلك أحاديث في أسانيدها مقال.

وقيل: يقتل بعبد غيره دون عبده وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

(1)

سورة المائدة: 45.

(2)

سورة البقرة: 178.

(3)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الديات: باب لا يقتل الوالد بولده 2/ 888 من حديث ابن عباس مرفوعًا "لا يقتل بالولد الوالد" ومن حديث عمر مرفوعًا أيضًا "لا يقتل الوالد بالولد".

ولم يعقب صاحب الزوائد على أي من الحديثين.

وأخرج الحاكم في المستدرك 4/ 367 نحوه من حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بسياق آخر. وصححه على شرط الشيخين وأقره الزهبي.

وأخرج الترمذي في كتاب الديات: باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه 4/ 18 من حديث عمرو بن العاص وعمر، وابن عباس نحو ما ذكرنا عن الحاكم وابن ماجه، وفي بعضها اضطراب.

(4)

نسبة إلى البَتِّ موضع يظن أنه بنواحي البصرة، والبتي - هنا - عثمان بن مسلم بن هرمز، من أهل البصرة رأى أنس بن مالك رضي الله عنه وروى عن الحسن البصري، وصالح بن أبي مريم وغيرهما، روى عنه شعبة والثوري وجماعة راجع الأنساب 2/ 82 واللباب 1/ 120.

ص: 341

وقيل: يقتل بعبده وعبد غيره، وهى رواية عن الثوري، وقول طائفة من أهل الحديث. لحديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قَتل عبدَه قَتلناه، ومَنْ جَدَعه جَدَعْناه"

(1)

.

وقد طعن فيه الإمام أحمد

(2)

وغيره.

وقد أجمعوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار في الأطراف وهذا يدل على أن هذا الحديث مطَّرحٌ لا يعمل به، وهذا مما يستدل به على أن المراد بقوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} : الأحرار، لأنه ذكر بعد القصاص في الأطراف، وهو يختص بالأحرار.

* * *

[ولا بين مسلم وكافر والآراء في ذلك]:

ومنها: أن يقتل المسلم كافرًا فإن كان حربيًّا لم يُقْتَل به بغير خلاف؛ لأن قتل الحربي مباح بلا ريب، وإن كان ذميًّا أو معاهدًا فالجمهور على أنه لا يقتل به أيضا.

• وفي صحيح البخاري عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُقتلُ مُسْلِمٌ بِكَافِر"

(3)

.

• وقال أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الكوفيين: يُقتل بهِ.

• وقد روى ربيعة عن ابن

(4)

البيلماني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل رجلًا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة، وقال:"أنا أحق من وفى بذمته".

• وهذا مرسل ضعيف، قد ضعفه الإمام أحمد، وأبو عبيد، وإبراهيم الحربي،

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الديات: باب هل يقتل الحر بالعبد 2/ 888 ولم يعقب عليه صاحب الزوائد.

والجدع: قطع الأنف والأذن والشفة، وهو بالأنف أخص، فإذا أطلق غلب عليه. راجع النهاية 1/ 246.

وأخرجه الترمذي في كتاب الديات: باب ما جاء في الرجل يقتل عبده 4/ 26 ثم قال: "هذا حديث حسن غريب. وقد ذهب بعض أهل العلم من التابعين منهم إبراهيم النخعي إلى هذا. وقال بعض أهل العلم منهم الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح: ليس بين الحر والعبد قصاص في النفس ولا فيما دون النفس وهو قول أحمد وإسحاق .. إلخ" وانظر الأم 6/ 21.

(2)

ولهذا كان العمل عنده على خلافه كما ذكرنا آنفًا.

(3)

أخرجه الشافعي في الأم 6/ 33.

وأخرجه البخاري في كتاب الديات: باب لا يقتل مسلم بكافر 12/ 260 من حديث أبي جحيفة قال: "سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ وقال ابن عيينة مرة: ما ليس عند الناس؟ فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتابه، وما في الصحيفة قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر".

(4)

في المطبوعة تبعًا للهندية: "أبو البيلماني" وهو تحريف. وجاء فيهما محرفًا في المواضع الثلاثة الآتية من الخبر.

ص: 342

والجوزجاني، وابن المنذر، والدارقطني، وقال: ابن البيلماني ضعيف: لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسل؟.

وقال الجوزجاني: إنما أخذه ربيعة عن إبراهيم بن أبي يحيى عن ابن المنكدر

(1)

عن ابن البيلماني. وابن أبي يحيى متروك الحديث

(2)

.

وفي مراسيل أبي داود حديث آخر مرسل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلمًا بكافر قتله غيلة، وقال:"أنا أولى وأحق من وفى بذمته"

(3)

.

وهذا مذهب مالك، وأهل المدينة: أن القتل غيلة لا تشترط له المكافأة، فيقتل فيه المسلم بالكافر، وعلى هذا حملوا حديث ابن البيلماني أيضا

(4)

على تقدير صحته.

* * *

[المساواة بين الرجل والمرأة في القصاص].

ومنها أن يقتل الرجل والمرأة فيقتل بها بغير خلاف

(5)

.

• وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن الرجل يقتل بالمرأة

(6)

".

• وصح أنه صلى الله عليه وسلم قتل يهوديا قتل جارية

(7)

.

وأكثر العلماء على أنه لا يدفع إلى أولياء الرجل شيء.

وروي عن علي أنه يدفع إليهم نصف الدية؛ لأن دية المرأة نصف دية الرجل، وهو قول طائفة من السلف، وأحمد في رواية عنه.

* * *

[المرتد يقتل حدًّا].

وأما التارك لدينه المفارق للجماعة فالمراد به: من ترك الإسلام، وارتد عنه، وفارق

(1)

جاء في المطبوعة تبعًا للهندية "ابن المنذر" وأشير في هامش كل منهما إلى أن في نسخة أخرى "ابن المنكدر" دون أن ينبه فيهما على الصواب وهو ما أثبتناه.

(2)

الحديث في ترتيب مسند الشافعي 2/ 105 وأخرجه أبو داود في كتاب المراسيل: باب الديات ص 273 وأورده ابن حجر في الفتح 12/ 262 وذكر ما رد العلماء به الحديث، وبين ذلك بيانًا مستفيضًا فراجعه إن شئت.

(3)

المراسيل: عقب الرواية السابقة.

(4)

ليست في ب.

(5)

راجع الأم 6/ 18.

(6)

على ما في المستدرك 1/ 397 وغيره.

(7)

كما رواه مسلم في صحيحه: كتاب القسامة: باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره 3/ 1299. والبخاري ح 2413، 2746، 5295، 6876 - 6879، 6884، 6885.

ص: 343

جماعة المسلمين، كما جاء التصريح بذلك في حديث عثمان

(1)

.

وإنما استثناه مع من يحل دمه من أهل الشهادتين باعتبار ما كان عليه قبل الردة، وحكم الإسلام لازم له بعدها، ولهذا يستتاب، ويطلب منه العود إلى الإسلام. وفي إلزامه بقضاء ما فاته في زمن الردة من العبادات اختلافٌ مشهور بين العلماء.

وأيضًا فقد يترك دينه، ويفارق الجماعة وهو مقر بالشهادتين، ويدعي الإسلام، كما إذا جحد شيئًا من أركان الإسلام، أو سب الله ورسوله، أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين، أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك.

(1)

في هذا يروي أحمد في مسنده (1/ 348) المعارف والنسائي في سننه: كتاب تحريم الدم: ذكر ما يحل به دم المسلم (7/ 91 - 92) كلاهما من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل وعبد الله بن عامر بن ربيعة قالا: كنا مع عثمان وهو محصور وكنا إذا دخلنا مدخلا نسمع كلام من بالبلاط فدخل عثمان يومًا ثم خرج فقال: إنهم ليتواعدُونِّي بالقتل؟ قلنا: يكفيكهم الله. قال: فلم يقتلونِّي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بدينى بدلًا منه منذ هداني الله، ولا قتلت نفسًا فلم يقتلونني؟ ".

لفظ النسائي.

وعن أحمد وبم يقتلونني؟ إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

أو قتل نفسًا فيقتل بها

فبم يقتلونني؟ ".

كما روى أحمد في المسند (1/ 355 - 356) المعارف بإسناد صحيح على ما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر والنسائي في سننه: كتاب تحريم الدم: باب الحكم في المرتد (7/ 103) كلاهما من طريق المغيرة بن مسلم عن مطر الوراق، عن نافع، عن ابن عمر أن عثمان أشرف على أصحابه وهو محصور فقال: علام تقتلوني؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عمدًا فعليه القود، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل"، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحدًا فأقيد نفسي منه، ولا ارتددت منذ أسلمت؟! إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.

لفظ أحمد.

ومن هاتين الروايتين يبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" وأن الوصفين: التارك والمفارق واردان على شخص واحد هو المرتد، وأن المفارق للجماعة، فيه كشف وتفسير للوصف الأول وهو التارك لدينه.

وهذا ما وضحه ابن حجر في الفتح 12/ 201 - 202 تعليقًا على رواية البخاري: "والمفارق لدينه، التارك للجماعة" ورواية مسلم: "والتارك لدينه المفارق للجماعة". قال ابن حجر: والمراد بالجماعة: جماعة المسلمين أي فارقهم وتركهم بالارتداد فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة له (أي للمسلم) مستقلة وإلا لكانت الخصال أربعًا وهو كقوله قبل ذلك: "مسلم يشهد أن لا إله إلا الله" فإنها صفة مفسرة لقوله مسلم وليست قيدًا فيه، إذ لا يكون مسلمًا إلا بذلك.

ثم قال ابن حجر: ويؤيد ما قلته أنه وقع في حديث عثمان أو يكفر بعد إسلامه" أخرجه النسائي بسند صحيح.

وفي لفظ له صحيح أيضا: "ارتد بعد إسلامه".

وهما الروايتان اللتان أوردناهما عن النسائي وأحمد كليهما بسياقيهما.

ص: 344

• وفي صحيح البخاري

(1)

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بدَّل دينَه فاقتلوه"

(2)

.

[هل يفرق بين الرجل والمرأة في حد الردة؟].

ولا فرق في هذا بين الرجل والمرأة عند أكثر العلماء. ومنهم من قال: لا تقتل المرأة إذا ارتدت كما لا تقتل نساءُ أهل دار

(3)

الحرب في الحرب، وإنما يُقْتَل رجالهم.

وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه، وجعلوا الكفر الطارئ كالأصلي. والجمهور فرقوا بينهما، وجعلوا الطارئ أغلظ لما سبقه من الإسلام؛ ولهذا يقتل بالردة عنه من لا يقتل من أهل الحرب، كالشيخ الفاني والزَّمِن والأعمى، ولا يُقْتَلون في الحرب.

* * *

[قبول توبة المرتد].

• وقوله صلى الله عليه وسلم: "التَّارك لِدِينه المفَارقُ للجَمَاعة" يدل على أنه لو تاب ورجع إلى الإسلام لا

(4)

يقتل؛ لأنه ليس بتاركٍ لدينه بعد رجوعه، ولا مفارقٍ للجماعة.

فإن قيل: بل استثناء هذا ممن يُعْصَمُ دَمُه من أهل الشهادتين يدل على أنه يقتل ولو كان مقرا بالشهادتين، كما يقتل الزاني المحصَن، وقاتل النفس، وهذا يدل على أن المرتد لا تقبل توبته، كما حكي عن الحسن، أو أن يحمل ذلك على من ارتد ممن ولد على الإسلام، فإنه لا تقبل توبته.

وإنما تقبل توبة من كان كافرًا، ثم أسلم، ثم ارتد على قول طائفة من العلماء منهم الليث بن سعد، وأحمد في رواية عنه، وإسحاق.

قيل: إنما استثناه من المسلمين باعتبار ما كان عليه قبل مفارقة دينه، كما سبق تقريره، وليس هذا كالثيب الزاني، وقاتل النفس؛ لأن قتلهما وجب عقوبةً لجريمتهما الماضية ولا يمكن تلافى ذلك.

(1)

سقطت من المطبوعة.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم: باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم 12/ 267 من طريق حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة قال: أتى علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه".

(3)

من هنا إلى قوله: "ولكن يقال" سقط من "أ".

(4)

ب: "لم".

ص: 345

وأما المرتد؛ فإنما قتل لوصف قائم به في الحال، وهو ترك دينه، ومفارقة الجماعة.

فإذا عاد إلى دينه، وإلى موافقته للجماعة فالوصف الذي أبيح به دمه قد انتفى، فتزول إباحة دمه. والله أعلم.

* * *

• فإن قيل: فقد خرَّج النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"لا يَحِل دمُ امرئٍ مُسلم إلا بإحدَى ثلاث خِصال: زَانٍ محصَن يُرجم، ورَجُلٌ قتل [رجلا]

(1)

متعمدًا فَيُقَتل

(2)

، ورجل يخرجُ من الإسلام يحارب

(3)

الله [عز وجل] ورسوله، فيقتلُ أو يُصَلَّب أو يُنْفَى من الأرْض"

(4)

.

وهذا يدل على أن المراد من جمع بين الردة والمحاربة.

• قيل: قد خرج أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"لا يَحلُّ دَم امْريءٍ مُسلم يشهَد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسُولُ الله إلا في

(5)

إحدى ثَلاث: رَجُلٌ زَنَى بَعد إحْصَان فإنه يُرجم. ورَجُل خرج مُحاربًا لله ورسوله فإنه يُقْتَل أو يصلب أو ينفى من الأرض. أو يقتل نفسًا فيقتل بها

(6)

".

وهذا يدل على أن من وجد منه الحراب من المسلمين خُيِّر الإمام فيه مطلقًا، كما يقوله علماء أهل المدينة، مالك وغيره.

والرواية الأولى قد تحمل على أن المراد بخروجه عن الإسلام: خروجه عن أحكام الإسلام، وقد تحمل على ظاهرها.

ويستدل

(7)

بذلك من يقول: إن آية المحاربة تختص بالمرتدين، فمن ارتد وحارب

(1)

من النسائي وفيه: أو رجل

(2)

الحديث أخرجه النسائي في السنن من حديث عائشة في كتاب تحريم الدم: باب الصلب 7/ 101 - 102.

(3)

في م. هـ: "فحارب" عامة النسخ: "حارب" والتصويب من النسائي.

(4)

الحديث أخرجه النسائي أيضًا في أبواب القسامة: باب سقوط القود من المسلم للكافر 8/ 23.

(5)

في سنن أبي داود: "إلا بإحدى ثلاث" وفي ب: "زنا بعد إحصان" والتصويب من السنن.

(6)

الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد 4/ 522 - 523.

وفي ب، ر، ظ، ل سقطت كلمة رجل أول الحديث وهي في السنن.

(7)

في م، هـ:"وقد يستدل".

ص: 346

فُعِل به ما في الآية، ومن حارب من غير ردة أُقِيمتْ عليه أحكام المسلمين من القصاص والقطع في السرقة.

وهذا رواية عن أحمد رحمه الله لكنها غير مشهورة عنه.

وكذا قالت طائفة من السلف: إن آية المحاربة تختص بالمرتدين: منهم أبو قلابة وغيره.

وبكل حال فحديث عائشة رضي الله عنها ألفاظه مختلفة، وقد روي عنها مرفوعًا، وروي عنها موقوفًا.

وحديث ابن مسعود رضي الله عنه لفظه لا اختلاف فيه، وهو ثابت متفق على صحته.

* * *

[اللواط موجب للحد].

ولكن يقال على هذا: إنه قد ورد قتل المسلم بغير هذه الخصال الثلاث

(1)

. فمنها في اللواط وقد جاء من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"اقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به"

(2)

.

* * *

وأخذ به كثير من العلماء كمالك وأحمد وقالوا: إنه موجب للقتل بكل حال محصنًا كان أو غير محصن، وقد روي عن عثمان أنه قال:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأربع، فذكر الثلاثة المتقدمة، وزاد: "ورجل عمل عمل قوم لوط

(3)

".

ومنها: من أتى ذات محرم. وقد روي الأمر بقتله

(4)

.

(1)

في المطبوعة: "بغير إحدى الثلاث الخصال".

(2)

أخرجه أحمد في المسند 4/ 256 - 257، 258 (المعارف) بإسنادين أولهما حسن، وثانيهما صحيح كما ذكر شارحه.

وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 355 من طريقين عن ابن عباس، وصححهما، وأقره الذهبي.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 9/ 414 والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 194 بإسناد منقطع.

(4)

كما في الحديث الذي رواه أحمد في المسند 4/ 256 - 257 (المعارف) عن ابن عباس بإسناد حسن وفيه: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه".

وقد أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 356 وصححه ولكن تعقبه الذهبي فقال: لا.

ص: 347

[حكم من تزوج بامرأة أبيه].

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل من تزوج بامرأة أبيه

(1)

.

وأخذ بذلك طائفة من العلماء، وأوجبوا قتله مطلقًا محصنًا كان أو غير محصن.

* * *

[حكم الساحر].

ومنها الساحر.

• وفي الترمذي من حديث جندُب مرفوعًا: "حدُّ الساحر ضربة بالسَّيفِ"

(2)

.

وذكر أَن الصحيح وقفه على جندَب.

وهو مذهب جماعة من العلماء منهم: عمر بن عبد العزيز، ومالك، وأحمد، وإسحاق. ولكن هؤلاء يقولون إنه: يكْفر بسحره فيكون حكمه حكم المرتدين.

[حكم من وقع على بهيمة]:

ومنها قتل من وقع على بهيمة

(3)

.

وقد ورد في حديث مرفوع

(4)

وقال به طائفة من العلماء.

* * *

[تارك الصلاة].

ومنها: من ترك الصلاة فإنه يقتل عند كثير من العلماء مع قولهم: إنه ليس بكافر.

وقد سبق ذكر ذلك مستوفى.

* * *

(1)

راجع في هذا ما أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 366 - 357 من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وسكت عنه وصححه الذهبي.

(2)

جامع الترمذي: كتاب الحدود: باب ما جاء في حد الساحر 4/ 60 وعقب عليه بقوله: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، ثم ضعف أحد رواته، وصحح وقفه على جندب ثم قال: والعمل هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر، فإذا عمل عملًا دون الكفر فلم نر عليه قتلًا وراويه هو جندب بن جنادة.

(3)

سقط هذا من المطبوعة.

(4)

كما في المستدرك 4/ 355، وكما في المسند 4/ 256 - 257 (المعارف)، وسبق ابن ماجه: كتاب الحدود: باب من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة 2/ 856 وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي.

ص: 348

[شارب الخمر].

• ومنها: قتل شارب الخمر في المرة الرابعة. وقد ورد الأمر به عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، وأخذ بذلك عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، وغيره. وأكثر العلماء على أن القتل انتسخ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالشارب في المرة الرابعة فلم يقتله

(1)

.

• وفي صحيح البخاري: أن رجلًا كان يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله".

ولم يقتله بذلك

(2)

.

[السارق]

وقد روي قتل السارق في المرة الخامسة

(3)

، وقيل: إن بعض الفقهاء ذهب إليه.

* * *

[إذا بُويع لخليفتين].

• ومنها ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخِر منهما"

(4)

.

خرجه مسلم من حديث أبي سعيد.

وقد ضعَّف العقيلي أحاديث هذا الباب كلها

(5)

.

* * *

• ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتاكُمْ وأمُرُكم جَميعٌ على رجُل وحد فأراد أن يشُقَّ عصاكُم، أو يفرِّقَ جماعَتكم؛ فاقتلوه"

(6)

.

(1)

راجع الحديث في هذا وما أشار إليه ابن رجب من نسخ القتل في سنن الترمذي: كتاب الحدود: باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه ومن عاد في الرابعة فاقتلوه 4/ 47 - 49، وانظر الأم 6/ 130. وفي ب:"وأكثر العلماء على أن القتل انتسخ".

(2)

الحديث في صحيح البخاري: كتاب الحدود: باب ما يكره من لعن شارب الخمر 12/ 75 وفيه: "لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله".

(3)

روى الحاكم في هذا حديثًا عن الحارث بن حنطب 4/ 382. ولكن الذهبي قال: إنه حديث منكر.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة: باب إذا بويع لخليفتين 3/ 1480.

(5)

هذا مسلم في مثل الحديث الذي رواه الحاكم واستنكره الذهبي قال: إنه رواه البخاري ومسلم من أحاديث الباب؟!.

(6)

أخرجه مسلم في كتاب الإمارة: باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع 3/ 1480. ح 59 - (1852) من حديث عرفجة، وقوله: "وأمركم جميع" أي مجتمع.

ص: 349

وفي رواية: "فاضربوا رأسه بالسيف كائنا من كان".

وقد خرجه مسلم أيضا من رواية عَرْفَجَة

(1)

.

[حكم من شهر السلاح].

• ومنها: من شهر السلاح، فخرج النسائي من حديث ابن الزبير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من شَهَر السلاحَ ثم وضعه فدمه هدر"

(2)

.

وقد روي عن ابن الزبير مرفوعًا وموقوفًا.

وقال البخاري: إنما هو موقوف.

وسئل أحمد رحمه الله عن معنى هذا الحديث فقال: ما أدري ما هذا.

وقال إسحاق بن راهويه: "إنما يريد من شهر سلاحه ثم وضعه في الناس حتى استعرض الناس، فقد حل قتله".

وهو مذهب الحَرُورِيّة يستعرضون

(3)

الرجال والنساء والذرية.

* * *

وقد روي عن عائشة ما يخالف تفسير إسحاق: فخرج الحاكم من رواية علقمة بن أبي علقمة عن أمه أن غلامًا شهَر السيف على مولاه في إمْرَة سعيد بن العاص، وتفلَّت به عليه، فأمسكه الناس عنه، فدخل المولى على عائشة، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"من أشار بحديدةٍ [إلى أحد من المسلمين]

(4)

يريد قتله فقد وجب دمه" فأخذه مولاه فقتله

(5)

.

(1)

قد يتبادر من عبارة ابن رجب أن مسلمًا رحمه الله خرج الحديث عن غير عرفجة، ثم خرجه أيضا من رواية عرفجة بينما لم يخرج مسلم هذا الحديث برواياته الثلاث إلا من حديث عرفجة!

(2)

أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم: باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس 7/ 117 من حديث أبي الزبير مرفوعًا كما ذكر ابن رجب. كما أخرجه موقوفا من طريقين في الموضع نفسه وعنده: "من شهر سيفه" و"من رفع السلاح" لكن ليس عنده: "من شهر السلاح".

(3)

يستعرضون الناس أي على السيف أي يقتلونهم. المعجم الوسيط 2/ 599.

(4)

ما بين الرقمين ليس في ب.

(5)

اختصر ابن رجب القصة وقد رواها الحاكم في المسدرك 2/ 158 - 159 من طريق سعيد بن أبي مريم، عن =

ص: 350

وقال صحيح على شرط الشيخين.

* * *

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد"

(1)

.

وفي رواية: "ومن قتل دون دمه فهو شهيد"

(2)

.

* * *

فإذا أريد مال المرء أو دمه دافع عنه بالأسهل.

هذا مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله.

وهل يجب أن ينوي أنه لا يريد قتله أم لا؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد.

* * *

وذهب طائفة إلى أن من أراد ماله أو دمه أبيح له قتله ابتداءً.

ودخل على ابن عمر لص، فقام إليه بالسيف صَلْتًا

(3)

فلولا أنهم حالوا بينه وبينه لقتله.

وسئل الحسن عن لص دخل بيت رجل ومعه حديدة قال: "اقتله بأي قِتلة قدرت عليه".

وهؤلاء أباحوا قتله وإن ولى

(4)

هاربًا من غير جناية، منهم: أبو أيوب السِّخْتيِانِي.

* * *

= سليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه أن غلامًا كان لبابيٍّ. وكان بَابِيٌّ يضربه في أشياء ويعاقبه، وكان الغلام يعادي سيده، فباعه، فلقيه الغلام يومًا، ومع الغلام سيف، وذلك في إمرة سعيد بن العاص، فشهر العبد على بابي السيف، وتفلت به عليه، فأمسكه الناس عنه، فدخل بابِيٍّ على عائشة رضي الله عنها فأخبرها بما فعل العبد، فقالت عائشة: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين يريد قتله فقد وجب دمه" قالت: فخرج بابي من عندها فذهب إلى سيد العبد الذي ابتاعه منه فاستقاله فأقاله، فردَّهُ إليه، فأخذه بابيّ فقتله.

وكما ذكر ابن رجب فقد صححه الحاكم على شرط الشيخين.

وأقر الذهبي تصحيح الحاكم.

(1)

راجع في هذا ما أخرجه البخاري في كتاب المظالم: باب من قاتل دون ماله 5/ 123 ومسلم في كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من قتل دون ماله فهو شهيد، 1/ 125 كلاهما من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا.

(2)

كما عند النسائي في كتاب تحريم الدم: باب من قاتل دون أهله، وباب من قاتل دون دينه 2/ 173 من حديث سعيد بن زيد مرفوعًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد".

(3)

قال في النهاية 3/ 45 صلتا: أي مجردًا. يقال: أصلت السيف، إذا جرده من غمده، وضربه بالسيف صلتا بفتح الصاد وضمها.

(4)

في و، س، ب:"وإن كان ولى".

ص: 351

[حرمة البيوت].

• وخرج الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدار حرمك، فمن دخل عليك حرمك فاقتله".

ولكن في إسناده ضعف.

* * *

[حكم الجاسوس].

ومنها قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للكفار على المسلمين.

وقد توقف فيه أحمد. وأباح قتلَه طائفةٌ من أصحاب مالك، وابنُ عقيل من أصحابنا، ومن المالكية من قال: إن تكرر ذلك منه أبيح قتله.

واستدل من أباح قتله بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حق حاطب بن أبي بلتعة لما كتب الكتاب إلى أهل مكة يخبرهم بسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ويأمرهم بأخذ حِذْرِهم، فاستأذن عمر في قتله فقال: إنه شهد بدرًا

(2)

.

فلم يقل: إنه لم يأت بما يبيح دمه، وإنما علل بوجود مانع من قتله وهو شهوده بدرًا ومغفرة الله لأهل بدر.

وهذا المانع منتف في حق من بعده.

* * *

[ضارب أبيه].

• ومنها ما خرجه أبو داود في المراسيل من رواية ابن المسيب

(3)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ضرب أباه فاقتلوه".

(1)

في المسند 5/ 326 (الحلبي). وفيه: "الدار حرم" وفي ب: "فمن دخل عليك فاقتله" وما أثبتناه هو الموافق لما في المسند. وقد أورده الهيثمي في المجمع 6/ 245 عن أحمد، والطبراني وقال: فيه محمد بن كثير السلمي وهو ضعيف.

(2)

راجع في قصة حاطب ما أخرجه البخاري في كتاب الجهاد: باب الجاسوس 6/ 100 ومسلم في كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم 4/ 1941 - 1942 كلاهما من حديث علي رضي الله عنه بسياقه مطولًا.

(3)

المراسيل ص 234 فيما جاء في بر الوالدين. وانظر تحفة الأشراف 13/ 207 ح 18706.

ص: 352

وروي مسندًا من وجه آخر لا يصح

(1)

. والله أعلم.

* * *

[درجة الأحاديث المذكورة].

وأعلم أن من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصح، ولا يعرف به قائل معتبر كحديث "من ضرب أباه فاقتلوه"، وحديث قتل السارق في المرة الخامسة. وباقى النصوص كلها يمكن ردها إلى حديث ابن مسعود؛ وذلك أن حديث ابن مسعود تضمن أنه لا يستباح دم المسلم إلا بإحدى ثلاث خصال.

إما أن يترك دينه ويفارق جماعة المسلمين.

وإما أن يزني وهو محصَن.

وإما أن يقتل نفسًا بغير حق.

فيؤخذ منه أن قتل المسلم لا يستباح إلا بأحد ثلاثة أنواع: ترك الدين، وإراقة الدم المحرّم، وانتهاك الفرج المحرم.

فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تبيح دم المسلم دون غيرها.

* * *

[حكمة قتل المحصن].

فأما انتهاك الفرج المحرم فقد ذكر في الحديث أنه الزنا بعد الإحصان، وهذا والله أعلم على وجه المثال؛ فإن المحصن قد تمت عليه النعمة بنيل هذه الشهوة بالنكاح؛ فإذا أتاها بعد ذلك من فرج محرم عليه أبيح دمه.

* * *

[هل يقوم شيء مقام الإحصان؟].

وقد ينتفي شرط الإحصان، فيخلفه شرط آخر، وهو كون الفرج لا يستباح بحال إما مطلقًا كاللواط، أو في حق الواطئ: كمن وطئ ذات محرم بعقد أو غيره، فهذا

(1)

أخرجه الخرائطي في المساوئ ح 79، 80 من وجهين: أحدهما مرسل والآخر منازع في رفعه قال الخرائطي عقب إيراده: وقلت لأبي حازم: إنه (ابن المسيب) قد رفعه إلى أبيه؟ قال: ما أنكره!

ص: 353

الوصف هل يكون قائما مقام الإحصان وخلفًا عنه؟ هذا هو محل النزاع بين العلماء.

والأحاديث دالة على أنه يكون خلفًا عنه ويكتفى به في إباحة الدم

(1)

.

* * *

[هل تنزل إثارة الفتن منزلة سفك الدم؟].

وأما سفك الدم الحرام فهل يقوم مقامه إثارة الفتن المؤدية إلى سفك الدماء، كتفريق جماعة المسلمين، وشقّ العصا، والمبايعة لإمام ثان، ودلِّ الكفار على عورات المسلمين؟ هذا هو محل النزاع.

وقد روي عن عمر ما يدل على إباحة القتل بمثل هذا.

* * *

[وشهر السلاح].

وكذلك شهر السلاح لطلب القتل هل يقوم مقام القتل في إباحة الدم أم لا؟ فابن الزبير، وعائشة رأياه قائمًا مقام القتل الحقيقي في ذلك.

* * *

[وقطع الطريق وبم يباح قتل النفس؟].

وكذلك قطع الطريق بمجرده هل يبيح القتل أم لا؟ لأنه مظنة لسفك الدماء المحرَّمة، وقول الله عز وجل:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}

(2)

يدل على أنه يباح قَتْل النفس بشيئين:

أحدهما بالنفس، والثانى بالفساد في الأرض.

ويدخل في الفساد في الأرض: الحراب

(3)

، والردة والزنا. فإن ذلك كله فساد في الأرض. وكذلك تكرُّر شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنة سفك الدماء المحرمة.

وقد اجتمع الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه على حده ثمانين، وجعلوا

(4)

السكر مظنة الافتراء والقذفِ الموجبِ لجلد الثمانين.

(1)

في المطبوعة: "الدماء".

(2)

سورة المائدة: 32.

(3)

م: "الحرب".

(4)

في ب: "وجعل".

ص: 354

ولما قدم وفد "عبد القيس" على النبي صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن الأشْرِبة، والانتباذ في الظروف، قال:"إن أَحَدَكُم ليقوم إلى ابن عمه - يعنى إذا شرب - فيضربه بالسيف"

(1)

.

وكان فيهم رجل قد أصابته جراحة من ذلك، فكان يخبؤها حياء من النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذا كله يرجع إلى إباحة الدم [بالقتل إقامة لمظان القتل]

(2)

مقام حقيقته. لكن هل نُسخَ ذلك أم حكمه باق؟ هذا هو محل النزاع.

وأما ترك الدين ومفارقة الجماعة فمعناه: الإرتداد عن دين الإسلام

(3)

ولو أتى بالشهادتين، فلو سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو مقرٌّ بالشهادتين أبيح دمه؛ لأنه قد ترك بذلك دِينَه.

* * *

[حكم من استهان بالقرآن].

وكذلك لو استهان بالمصحف، وألقاه في القاذورات، أو جحد ما يُعلم من الدين بالضرورة كالصلاة وما أشبه ذلك مما يُخرِج من الدين.

وهل يقوم مقام ذلك ترك شيء من أركان الإسلام الخمس؟.

هذا ينبنى على أنه هل يخرج من الدين بالكلية بذلك أم لا؟.

فمن رآه خروجا عن الدين كان عنده كترك الشهادتين وإنكارهما.

(1)

أخرجه أحمد في المسند 3/ 22 - 23 (الحلبي) بسياقه كاملًا وباختلاف يسير فيما أورده ابن رجب مختصرًا وذلك من طريق يحيى بن سعيد، عن ابن أبي عروبة عن قتادة، عمن لقي الوفد وذكر أبو نضرة عن أبي سعيد أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا حيٌّ من ربيعة وبيننا وبينك كفار مضر، ولسنا نستطيع أن نأتيك إلا في أشهر الحرم فمرنا بأمر إذا نحن أخذنا به دخلنا الجنة ونأمر به أو ندعو من وراءنا فقال:"آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، فهذا ليس من الأربع، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان، أعطوا من الغنائم الخمس، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والنقير والحنتم والمزفت". قالوا وما علمك بالنقير؟ قال: "جذع ينقر ثم يلقون فيه من القطيعاء أو التمر والماء، حتى إذا سكن غليانه شربتموه، حتى إن أحدكم ليضرب ابن عمه بالسيف". وفي القوم رجل أصابته جراحة من ذلك فجعلت أخبؤها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فما تأمرنا أن نشرب؟ قال: "في الأسقية التي يلاث على أفواهها" قالوا: إن أرضنا كثيرة الجرذان، لا تبقى فيها أسقية الأدم؟ قال:"وإن أكلته الجرذان" مرتين أو ثلاثًا وقال لأشج عبد القيس: "إن فيك خلتين يحبهما الله عز وجل: الحلم والأناة" ورواه مسلم 17، 18.

والقطيعاء هو نوع من التمر، أو هو البسر قبل أن يدرك نهاية 4/ 84.

(2)

ما بين الرقمين ليس في ب.

(3)

ب: "المسلمين".

ص: 355

ومن لم يره خروجًا عن الدين فاختلفوا: هل يلحق بتارك الدين في القتل؛ لكونه ترك أحدَ مباني الإسلام؛ أم لا؟ لكونه لم يخرج عن الدين؟.

* * *

[حكم الداعي إلى بدعة].

ومن هذا الباب ما قاله كثير من العلماء في قتل الداعية إلى البدع؛ فإنهم نظروا إلى أن ذلك شبيه بالخروج عن الدين، وهو ذريعة ووسيلة إليه، فإن استخفى بذلك ولم يدع غيره كان حكمه حكم المنافقين إذا استخْفَوْا، وإذا دعا إلى ذلك تَغلَّظ جُرمه بإفساد دين الأمة.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمرُ بقتل الخوارج وَقَتْلُهُمْ

(1)

، وقد اختلف العلماء في حكمهم.

فمنهم من قال: هم الكفار فيكون قتلهم لكفرهم.

ومنهم من قال: إنما يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين، وتكفيرهم لهم؛ وهو قول مالك وطائفةٍ من أصحابنا، وأجازوا الابتداء بقتالهم، والإجهاز على جريحهم.

ومنهم من قال: إن دعوا إلى ما هم عليه قوتلوا، وإن أظهروه ولم يدعوا إليه لم يقاتلوا. وهو نصٌّ عن أحمد رحمه الله وإسحاق، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة.

ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم؛ حتى يبدوا بقتال أو بما يبيح قتالهم من سفك دم ونحوه كما روي عن علي رضي الله عنه، وهو قول الشافعي وكثيرٍ من أصحابنا.

• وقد روى من وجوه متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل رجل كان يصلي وقال: "ولو قتل لكان أول فتنة وآخرها"

(2)

.

(1)

كالحديث الذي رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين: باب قتل الخوارج والملحدين 12/ 282 - 283 ومسلم في كتاب الزكاة: باب التحريض على قتل الخوارج 2/ 746 - 747 كلاهما من حديث أنس بلفظ "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهما، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة".

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (5/ 42) الحلبي من طريق روح، عن عثمان الشحام، عن مسلم بن أبي بكرة، عن أبيه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مر برجل ساجد وهو ينطق إلى الصلاة فقضى الصلاة ورجع عليه وهو ساجد، فقام =

ص: 356

• وفي رواية: "لو قتل لم يختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال

(1)

.

خرجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره.

فيستدل بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شره عن السلمين، ويَحْسِم مادة الفتن.

• وقد حكى ابن عبد البر وغيره عن مذهب مالك: جواز قتل الداعي إلى البدعة.

فرجعت نصوص القتل كلها إلى ما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه بهذا التقدير، ولله الحمد.

* * *

[هذه النصوص محكمة أم منسوخة؟].

وكثير من العلماء يقول في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هنا: إنها منسوخة

(2)

بحديث ابن مسعود، وفي هذا نظر من وجهين:

أحدهما: أنه لا يُعلم أن حديث ابن مسعود كان متأخرا عن تلك النصوص كلها، لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين، وكثير من تلك النصوص يرويها من تأخر إسلامه كأبي هريرة، وجرير بن عبد الله، ومعاوية؛ فإن هؤلاء كلَّهم رَوَوْا حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة.

والثاني: أن الخاص لا ينسخ بالعام ولو كان العام متأخرا عنه في الصحيح الذي عليه

= النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يقتل هذا؟ " فقام رجل فحسر عن يديه فاخترط سيفه وهزه ثم قال: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي كيف أقتل رجلًا ساجدًا يشهد أن لا إله إلا الله وأَن محمدًا عبده ورسوله؟ ثم قال: "من يقتل هذا؟ " فقام رجل فقال: أنا فحسر عن ذراعيه واخترط سيفه وهزه حتى أرعدت يده، فقال: يا نبي الله! كيف أقتل رجلًا ساجدًا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لو قتلتموه لكان أول فتنة وآخرها" وعثمان الشحام قال عنه في التقريب 2/ 15: لا بأس به وقد أورده الهيثمي في المجمع 6/ 225 عن أحمد والطبراني وقال: رجال أحمد رجال الصحيح.

(1)

أخرج الهيثمي نحوه في مجمع الزوائد 6/ 226 - 227 من طريق أبي يعلى وقال: فيه يزيد الرقاشي ضعفه الجمهور وفيه توثيق لين ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه أيضًا من طريق البزار وقال: رجاله وثقوا على ضعف في بعضهم.

ورواه في المجمع 7/ 257 - 258 بسياقه مطولًا وفيه: "لو قتل ما اختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الرجال".

كلاهما من حديث أنس قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وفيه أبو معشر: نجيح، وفيه ضعف. وهو في مسند أبي يعلى 90، 3668، 4143.

(2)

في ب: "التي ذكرنا أنها منسوخة".

ص: 357

جمهور العلماء؛ لأن دلالة الخاص على معناه بالنص، [ودلالة العام عليه: بالظاهر عند الأكثرين، فلا يبطل الظاهر حكم النص]

(1)

.

• وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل رجل كذب عليه في حياته، وقال لحِيٍّ من العرب:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم"

(2)

.

• وهذا روي من وجوه متعددة كلها ضعيفة، وفي بعضها: أن هذا الرجل كان قد خطب امرأة منهم في الجاهلية، فأبَوْا أن يزوجوه وأنه لما قال لهم هذه المقالة صدّقوه، ونزل على تلك المرأة، وحينئذ فهذا الرجل قد زنى ونَسبَ إباحة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كفر ورِدَّةٌ عن الدين.

• وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا بقتل القبطي الذي كان يدخل على أم ولده مارية، وكان الناس يتحدثون بذلك، فلما وجده عليٌّ مجبوبًا تركه

(3)

.

وقد حمله بعضهم على أن القبطي لم يكن أسلم بعد، وأن المعاهَد إذا فعل ما يؤذي المسلمين انتقض عهده، فكيف إذا آذى النبي صلى الله عليه وسلم؟.

وقال بعضهم: بل كان مسلمًا ولكنه نُهي عن ذلك فلم ينته؛ حتى تكلم الناس بسببه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأَذَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في فراشه مبيح

(4)

للدم، لكن لما ظهرت براءته بالعيان تبين للناس براءة مارية، فزال السبب المبيح للقتل.

‌[أم كانت خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم

-؟].

• وقد روي عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل بغير هذه الأسباب الثلاثة التي في حديث ابن مسعود، وغَيرُه ليس له ذلك، كأنه يشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن

(1)

ما بين الرقمين ليس في ب.

(2)

راجع في هذا: الكامل 909 والكبير للطبراني 6215.

(3)

الذي في صحيح مسلم من حديث أنس أن رجلًا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:"اذهب فاضرب عنقه" فأتاه علي فإذا هو في ركي (بئر) يتبرد فيها. فقال له علي: اخرج فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب، ليس له ذكر، فكف علي عنه" الحديث. راجع كتاب التوبة: باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة.

وليس فيه ذكر القبطي، ولا تحدث الناس به، وإن كان كل من هذين الأمرين صحيحًا في ذاته، لكن ابن رجب يسوق الحديث على المعنى أحيانًا كما سبق.

وانظر القصة في مستدرك الحاكم 4/ 39 - 40، والاستيعاب لابن عبد البر 4/ 1912.

(4)

في ب، س:"يبيح الدم".

ص: 358

يعزر بالقتل إذا رأى ذلك مصلحة، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من التعدي والحَيْف. وأما غيره فليس له ذلك؛ لأنه غير مأمون عليه التعدي

(1)

بالهوى.

قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن حديث أبي بكر: "أكانت

(2)

لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم " قال لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلًا إلا بإحدى ثلاث، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له ذلك: أن يقتل"

(3)

.

وحديث أبي بكر المشار إليه هو: أن رجلًا كلم أبا بكر: فأغلظ له، فقال له أبو بَرْزَة: ألا أقتله؟ يا خليفة رسول الله! فقال أبو بكر: "ما كانت لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم "

(4)

.

وعلى هذا يتخرج حديث الأمْر بقتل هذا القبطي، ويتخرج عليه أيضًا حديث الأمر بقتل السارق، إن كان صحيحًا، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله في أول مرة فراجعوه فيه، فقطعه ثم فعل ذلك أربع مرات، وهو يأمر بقتله، فيراجَع فيه، فَيُقطع حتى قطعت أطرافه الأربع ثم قتل في الخامسة

(5)

والله أعلم.

* * *

(1)

في م، هـ:"من التعدي".

(2)

في م، هـ:"ما كانت".

(3)

راجع في هذا ما أورده أبو داود في السنن: كتاب الحدود: باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم 4/ 530 - 531 من حديث أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل فأرسل إليّ فقال: ما الذي قلت آنفًا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلًا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم؟!!

(4)

أفاد أبو داود أن هذا تعقيب أحمد بن حنبل على حديث أبي بكر فقد روى عنه عقب الحديث: أي لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلًا إلا لإحدى الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل. أي بغير ذلك.

(5)

مضى أن هذا الحديث ليس بصحيح بل هو منكر، من رواية الحاكم، وفي سياقه بعض المخالفة عما هنا راجح المستدرك 4/ 382.

ص: 359

‌الحديث الخامس عشر

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

"مَنْ كانَ يُؤمنُ بالله واليوم الآخر، فليقُلْ خَيرًا أو لِيَصْمُتْ، وَمَنَ كانَ يُؤمن بالله واليوم الآخر، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كان يُؤمِنُ بالله واليَوم الآخِر، فَلْيُكْرِم ضَيْفَهُ". رواه البخاري ومسلم.

* * *

[تخريج الحديث].

هذا الحديث خرّجاه من طرق عن أبي هريرة

(1)

وفي بعض ألفاظها: فلا يؤذي جاره"

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره 10/ 445 - عن قتيبة بن سعيد عن أبي الأحوص، عن أبي حصين، عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليرم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت وأخرجه في باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه وقوله تعالى {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} من الكتاب 10/ 532 - عن عبد الله بن محمد السندي عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي حصين به وباللفظ ذاته.

وفي الباب نفسه - عن عبد الله بن محمد عن هشام بن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق: باب حفظ اللسان 11/ 308 - عن عبد العزيز بن عبد الله، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان: باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان 1/ 68 - 69 من طريق ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

وهذه هي رواية الحديث الخامس عشر.

وأخرجه مسلم عقب هذه الرواية - عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت".

ثم أخرجه من طريق عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة بمثل حديث أبي حصين، غير أنه قال: فليحسن إلى جاره".

ص: 361

وفي بعضها: "فليحسن قرى ضيفه" وفي بعضها: "فليصل رحمه" بدل ذكر الجار.

• وخرجاه أيضًا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم.

• وقد رُوي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة

(2)

، وابن مسعود

(3)

، وعبد الله بن عمرو

(4)

وأبي أيوب الأنصاري

(5)

، ..............................

(1)

عقب الروايات السابقة في كل من الصحيحين، كما أخرج مسلم رواية أبي صريح في كتاب اللقطة: باب الضيافة ونحوها 3/ 1352 - 1353.

(2)

حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أحمد في المسند 6/ 63 (الحلبي) عن الحكم بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي الرجال، عن أبيه، عن أمه عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

وقد أورده الهيثمي في المجمع 8/ 167 من حديث عائشة رضي الله عنها وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.

(3)

حديث عبد الله بن مسعود أورده السيوطي في الجامع الكبير عن الخرائطي في مكارم الأخلاق ح 22921 من جامع الأحاديث. وهو في المكارم 1/ 322 ح 308 بإسناد ضعيف.

(4)

ب: "عبد الله بن عمر" والحديث في ذلك مروي عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو كليهما، فحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

قال الهيثمي بعد إيراده لهذا الحديث في المجمع (10/ 302) رواه الطبراني في الأوسط - وفيه ضعفاء وثقوا. وكأنه يشير إلى الحكم عليه بالحسن.

وحديث عبد الله بن عمرو رواه أحمد في المسند (10/ 114) المعارف وقد صحح محققه إسناده وذكر تحسين الهيثمي له في المجمع 8/ 2167 وقد أورده الهيثمي في هذا الموضع وفي 8/ 177 عن أحمد والطبراني وحسن الحديث عنهما وقد رواه أحمد من طريق ابن لهيعة، عن حي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحفظ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

(5)

حديث أبي أيوب الأنصاري رواه الطبراني في الكبير 4/ 124 عن مطلب بن شعيب الأزدي، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن أيوب. عن يعقوب بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن جبير، عن محمد بن ثابت بن شرحبيل القرشي أن عبد الله بن يزيد الخطمي حدثه عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا تدخلن الحمام".

وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 278 عن الطبراني في الكبير والأوسط وقال: فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث وقد ضعفه أحمد وغيره وقال عبد الملك بن شعيب بن الليث ثقه مأمون.

وعلى هكذا فالحديث حسن.

ورواه ابن حبان في صحيحه من وجه آخر عن أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، عن يحيى بن معين، عن عمرو بن الربيع عن يحيى بن أيوب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن محمد بن ثابت بن شرحبيل عن =

ص: 362

وابن عباس

(1)

، وغيرههم من الصحابة رضي الله عنهم

(2)

.

* * *

[الإيمان وخصاله].

• فقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" فليفعل كذا وكذا يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان، وقد سبق أن الأعمال تدخل في الإيمان.

وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالصبر والسماحة، قال الحسن: المراد: الصبر عن المعاصي، والسماحة: بالطاعة.

• وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله كأداء الواجبات، وترك المحرمات. ومن ذلك قول الخير، والصمت عن غيره. وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف، وإكرام الجار، والكف عن أَذاه: فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن.

* * *

[قول الخير من الإِيمان].

أحدها: قول الخير، والصمت عما سواه، وقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي قال:

= عبد الله بن يزيد الخطمي، عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل، الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا تدخلن الحمام".

قال: فنميت بذلك إلى عمر بن عبد العزيز في خلافته، فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن سل محمد بن ثابت عن حديثه فإنه رضا فسأله ثم كتب إلى عمر فمنع النساء عن الحمام". راجع الإحسان 7/ 445. ورواه الخرائطي في مكارم الأخلاق 1/ 224 ح 221 و 321 ح 307 بإسناد ضعيف.

(1)

حديث ابن عباس رواه البزار في مسنده - عن الفضل بن سهل عن عبد الله بن صالح عن مسلم، عن مندل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت".

كشف الأستار (2/ 391).

وقد أورده الهيثمي في المجمع 8/ 176 عن البزار في هذا الموضع وقال: رواه البزار وفي بعض رجاله ضعف وقد وثقوا. وهو عند الخرائطي في المكارم 1/ 226 ح 213 بإسناد ضعيف.

(2)

يروى في ذلك عن أنس وزيد بن خالد وأبي مسعود وأبي سعيد الخدري، وطائفة من الصحابة.

يراجع في ذلك مسند أحمد 3/ 76 (الحلبي) و 5/ 24، 412 وكشف الأستار 2/ 391، ومجمع الزوائد 8/ 166، 169، 176.

ص: 363

قلت: يا رسول الله! أَوصني.

قال: "هَلْ تملك لسانَكَ؟ " قلت: ما أملِكُ إذا لم أملك لِساني؟.

قال: "فهل تَمْلِكُ يَدَكَ "؟ قلت: فما أملِكُ إذا لم أَملِك يدِي؟.

قال: "فلا تَقُلْ بلسَانكَ إلا معْرُوفًا، ولا تبْسطْ يَدك إلا إلى خير

(1)

".

* * *

[استقامة اللسان من الإِيمان].

وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإِيمان، كما في المسند عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"لا يستَقيمُ إيمانُ عبد حتَّى يستقيمَ قلبُه ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانه"

(2)

.

• وخرّج الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلغُ عَبْدٌ حقيقةَ الإِيمانِ حتى يخْزُنَ مِنْ لسانِه"

(3)

.

[فضيلة الصمت عما عدا الخير].

• وخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل عن النبي، صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير 1/ 281 - 22 من وجهين بنحوه وإسناد أحدهما إسناد حسن والإسناد الثاني قال عنه البخاري في التاريخ الكبير 1/ 1/ 244: فيه نظر.

وأخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت ص 36 - 37.

وانظر مجمع الزوائد 4/ 105 - 106 و 10/ 300.

(2)

أخرجه أحمد في المسند 3/ 198 (الحلبي) - عن زيد بن الحباب، عن علي بن مسعدة الباهلي عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه".

وإسناده حسن؛ فقد قال الهيثمي بعد أن أورده في المجمع 1/ 53 رواه أحمد وفي إسناده علي بن مسعدة وثقه جماعة، وضعفه آخرون والحديث رواه ابن أبي الدنيا في الصمت ص 38 - عن عمرو بن محمد الناقد عَنْ زيد بن الحباب - به.

(3)

أخرجه الطبراني في الصغير 2/ 346 ح 944 - عن محمد بن الحارث بن عبد الحميد الوردي المصري بمصر، عن زهير بن عباد الرواسي، عن داود بن هلال، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلغ العبد

الحديث".

وقد عقب الطبراني على الحديث بقوله: لم يروه عن هشام إلا داود بن هلال، تفرد به زهير بن عباد.

وقد أورده الهيثمي في المجمع 10/ 302 عن الطبراني في الصغير والأوسط وقال: فيه داود بن هلال ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه ضعفًا، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ص: 364

"إنك لن تزال سالمًا ما سكت، فإذا تكلمت كتب لك أو عليك"

(1)

.

وفي مسند الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنَ صَمَتَ نَجَا"

(2)

.

* * *

• وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إن الرجُلَ ليتكَلَّم بالكَلِمة ما يتبيّن مَا فيها يَزِلُّ بها في النارِ أبعدَ مِمَّا بَيْن المشْرِق والمغْرِب

(3)

".

• وخرج الإِمام أحمد والترمذي

(4)

من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير 20/ 73 - 74 - عن معاذ بن المثنى عن سعيد بن سليمان الواسطي - وعن أبي يزيد القراطيسي عن حجاج بن إبراهيم الأزرق كلاهما عن مبارك بن سعيد، عن سعيد بن مسروق عن أيوب بن كريز عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل قال: بينا نحن ركب مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ تقدمت راحلته، ثم راحلتي لحقت راحلته حتى ظننت أن راحلته قد عرفت وطء راحلتي حتى نطحت ركبتي ركبته، قلت: يا رسول الله! إني أريد أن أسألك مرارًا ويمنعني مكان هذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قال: "ما هو يا معاذ؟ " قلت: العمل الذي يدخلني الجنة ويتجنبنى من النار قال: "قد سألت عظيمًا، وإنه ليسير: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان" ثم قال: ألا أخبرك برأس هذا الأمر وعموده وذروته؟ الجهاد" ثم قال: "الصيام جُنَّة والصدقة تكفر الخطايا، ثم قال:"ألا أنبئك بما هو أملك بالناس عن ذلك؟، فأخذ لسانه فوضعه بين أصبعين من أصابعه فقلت: يا رسول الله! أكلُّ ما نتكلم به يكتب علينا؟ قال: ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟ إنك لم تزل سالمًا ما سكتَّ فإذا تكلمت كتب لك أو عليك".

وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 300 عن الترمذي والطبراني وقال: رواه الترمذي باختصار من قوله "إنك لن تزال" إلى آخره، ورواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما ثقات.

وقوله "إنك لن تزال سالمًا" .. هكذا ورد في المجمع كما هو عن ابن رجب وما وقفنا عليه بالمعجم "إنك لم تزل سالمًا .. " كما سبق ولعل ما في المجمع يرجح صحة ما عند ابن رجب.

والحديث عند الترمذي بإسناد حسن صحيح في الإيمان: باب ما جاء في حرمة الصلاة 5/ 11 - 12 ما عدا الجملة الأخيرة التي أشار إليها الهيثمي ولعلى يقصد هذا؛ فعبارته موهمة.

(2)

أخرجه أحمد في المسند 10/ 184 بإسناد صحيح والطبراني بإسناد جيد كما في الصحيحة 536.

(3)

البخاري في كتاب الرقاق: باب حفظ اللسان 11/ 308 ح 6477 ومسلم في كتاب الزهد والرقائق: باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار 4/ 229. وفي ر، ظ، ل: "ما بين" وكلاهما في الصحيحين.

(4)

مسند أحمد 12/ 204 - 205 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه الشيخ شاكر.

والترمذي في كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس 4/ 557، وقال. هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

ص: 365

"إن الرجلَ ليتكَلَّم بالكَلِمَة لا يَرى بهَا بأَسًا يَهْوِي بها سَبْعين خريفًا في النَّار".

• وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إن الرجُل ليتكَلَّم بالكَلمةِ مِنْ رضْوان الله لا يُلْقِى لها بالًا يرفَعُهُ الله بها درجات، وإنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة مِنْ سُخْط الله لا يلقِى لَها بالًا يهوي بِها في جهنم"

(1)

.

• وخرج الإمام أحمد من حديث سليمان

(2)

بن سحيم عن أمه قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

"إن الرجل ليدْنُو من الجنَّةِ حَتَّى مَا يكون بينَه وبينَها إلا ذراع فيتكلم بالكلِمة فَيَتَبَاعَدُ منها أَبعدَ من صَنْعاء"

(3)

.

• وخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث بلال بن الحارث قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

"إن أحدَكم لَيتكلم بالكَلمة من رضْوان الله ما يظن أن تبْلغ ما بلغت فيَكْتُب الله له بها رضْوانه إلى يَوم يلقاه، وإنّ أحَدَكم لَيتكلَّم بالكَلمة من سُخْط الله ما يَظنّ أن تبلغ

(1)

صحيح البخاري: كتاب الرقاق: باب حفظ اللسان 11/ 308 ح 6478.

(2)

في المطبوعة تبعًا للهندية: "سلمان" وهو تحريف، وأمه هي أمامة بنت أبي الحكم الغفارية ويقال: أمه بنت أبي الحكم. راجع ترجمتها ورواية ابنها سليمان للحديث المذكور عنها في أسد الغابة 4/ 401، والاستيعاب 4/ 1790 والإصابة 8/ 25 - 26.

(3)

أخرجه أحمد في المسند 4/ 64 (الحلبي) - عن ابن أبي عدي عن محمد بن إسحاق، عن سليمان بن سحيم عن أمه ابنة الحكم الغفاري قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"إن الرجل ليدنو من الجنة حتى يكون ما بينه وبينها قيد ذراع فيتكلم بالكلمة فيتباعد منها أبعد من صنعاء".

وأخرجه أحمد في المسند أيضًا 5/ 377 من الطريق ذاته بنحوه: "إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها قيد ذراع

الحديث:

ومن ذلك يبين أن الرواية عن المسند لما تكن بنص ما جاء فيه وإنما كانت بالمعنى إلا أن تكون ثمت نسخة أخرى للمسند أخذ عنها ابن رجب.

وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 297 عن أحمد وقال: رجال أحمد رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق وقد وثق.

أقول: ومحمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن.

وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت 221 - 222 - عن محمد بن عمرو عن ابن أبي عدى - به. وعنده: "إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا قيد رمح فيتكلم بالكلمة فيتباعد منها أبعد من صنعاء".

وبذلك جمعت هذه الرواية بين ما جاء في رواية ابن رجب وما في المسند فقد اقتصر المسند على كلمة "قيد" واقتصر ابن رجب على كلمة: "إلا" وجمع بينهما ابن أبي الدنيا. بالإضافة إلى أن كلمة رمح جاءت عند ابن أبي الدنيا موضع كلمة ذراع عندهما فالله أعلم.

ص: 366

مَا بلغت فيَكْتبُ الله عليه بها سَخَطَه إلى يَوم يلقاه"

(1)

.

وقد ذكرنا فيما سبق

(2)

حديث أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلامُ ابن آدم عَلَيه لا له إلا الأمرَ بالمعْرُوف والنهيَ عَنِ المنكر وذكرَ الله عز وجل

(3)

".

[الكلام إما خير وإما غير خير].

فقوله صلى الله عليه وسلم: "فليقل خيرًا أو لِيَصْمُت". أمرٌ بقول الخير، وبالصمت عما عداه.

وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قولُه، والصمتُ عنه، بل إما أن يكون خيرًا، فيكونَ مأْمورًا بقوله، وإما أن يكون غيرَ خير، فيكونَ مأمورًا بالصمت عنه، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا.

* * *

[فهو إما لك وإما عليك].

وخرج ابن أبي الدنيا حديث معاذ بن جبل ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:

"يا معاذ! ثَكلتْكَ أُمُّك، وهل تَقولُ شيئًا إلا وهُوَ لَكَ أَو عَلَيك

(4)

؟ ".

* * *

[مسئولية الكلمة].

وقد قال الله تعالى {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ

(1)

مسند أحمد 3/ 469 (الحلبي) وفيه ذكر أحمد عن علقمة بن وقاص الليثي: راوي الحديث عن بلال قوله: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث!.

والترمذي في كتاب الزهد: باب قلة الكلام 4/ 559 وقال هذا حديث حسن صحيح.

وهو في الترغيب والترهيب 4/ 9 عن مالك وابن حبان والحاكم والنسائي كذلك. لكن في الرقائق في الكبرى كما في تحفة الأشراف 2/ 103.

(2)

ص 337 لكن بلفظ: كل كلام

(3)

رواه ابن ماجه في السنن: كتاب الفتن: باب كف اللسان 2/ 1315 والترمذي في الزهد: باب 62 - 4/ 508 كلاهما عن محمد بن بشار - زاد الترمذي وغير واحد، كلهم عن محمد بن يزيد بن خنيس المكي قال: سمعت سعيد بن حسان المخزومي قال: حدثتني أم صالح صفية بنت شيبة، عن أم حبيبة: زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل كلام ابن آدم

الحديث.

لفظ الترمذي وقال حديث حسن غريب وما أورده ابن رجب هو نص رواية ابن ماجه.

(4)

راجع أيضًا - في حديث معاذ: الترغيب والترهيب 4/ 5 - 6. وهو عند ابن أبي الدنيا في الصمت ص 37 وعنده: "ثكلتك أمك يا ابن جبل! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ وهل تقول شيئًا إلا لك أو عليك؟ ".

ص: 367

إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

(1)

.

وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات. وقد روي ذلك مرفوعًا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف

(2)

.

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

"إذا كَانَ أَحَدُكُم يُصَلِّي فإنه يُنَاجِي رَبَّه والملَكُ عَنْ يَمينهِ"

(3)

.

وروي من حديث حذيفة مرفوعًا:

"إن عَنْ يَمينه كَاتبَ الحَسَنَات"

(4)

.

(1)

سورة ق: 17، 18.

(2)

راجع عنه مجمع الزوائد 10/ 208.

(3)

يراجع في هذا ما أخرجه أحمد في المسند 2/ 34، 36، 129، 144 من حديث ابن عمرو 3/ 176، 188، 191 - 192، 199، 200، 214، 215،234، 273، 278، 291 من حديث أنس.

وما أخرجه البخاري في كتاب الصلاة.

باب حك البزاق باليد من المسجد 1/ 507 - 508 وباب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى 1/ 511 من حديث أنس وباب دفن المخامة في المسجد 1/ 512 من حديث أبي هريرة، وباب إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه 1/ 513 من حديث أنس، وكتاب مواقيت الصلاة: باب المصلي يناجي ربه عز وجل 2/ 14 من حديث أنس وكتاب العمل في الصلاة: باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة 3/ 84 من حديث أنس.

وانظر ما أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الساجد ومواضع الصلاة: باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها 1/ 390 من حديث أنس (54) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجى ربه

الحديث واللفظ لمسلم.

وعند أحمد في المسند من حديث أبي سعيد الخدري 3/ 24 (الحلبي) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه العراجين أن يمسكها بيده فدخل المسجد ذات يوم وفي يده واحدة منها، فرأى نخامات في قبلة المسجد فحتَّهن به حتى أنقاهن ثم أقبل على الناس مغضبًا فقال: أيحب أحدكم أن يستقبله رجل فيبصق في وجهه؟ إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه عز وجل والملَكُ عن يمينه؛ فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه وليبصق تحت قدمه اليسرى أو عن يساره فإن عجلت به بادرة فليقل هكذا ورد بعضه على بعض، وتفل يحيى في ثوبه ودلكه.

وهو عند ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 363 - 364 بنحوه.

(4)

حديث حذيفة أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 364 - عن وكيع عن الأعمش، عن أبي وائل عن حذيفة قال: إن العبد المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم قام يصلي أقبل الله عليه بوجهه حتى يكون هو الذي ينصرف أو يحدث حدث سوء، فلا يبزق بين يديه ولا عن يمينه فإن عن يمينه كاتب الحسنات، ولكن يبزق عن يساره أو خلف ظهره.

وقد أخرجه عقبه من طريق أبي بكر بن عباس بن عاصم عن أبي وائل عن حذيفة - رفعه بنحوه. وعن كون كاتب الحسنات وهو ملك اليمين ينظر تفسير ابن كثير 4/ 224 والدر المنثور للسيوطي 6/ 103 - 104 عند قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} .

ص: 368

[ماذا يكتب الملَكُ؟].

واختلفوا: هل يكتب كل ما يتكلم به أَو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب؟ على قولين مشهورين.

• وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: أَكلت، وشربت، ذهبت، وجئت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعَمَلُهُ فأُقِرَّ منه ما كان فيه من خير أو شر، وأُلِغِىَ سائرهُ؛ فذلك قوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}

(1)

.

وعن يحيى بن أَبي كثير، قال: ركب رجل الحمار فعثر به فقال: تعس الحمار، فقال صاحب اليمين: ما هي حسنة فأكْتُبَهَا، وقال صاحب الشمال: ما هي سيئة، فأَكتُبَهَا، فأوحى الله إلى صاحب الشمال ما ترك صاحب أليمين من شيء فاكتبه، فأَثبت في السيئات: تعس الحمار

(2)

.

[ما ليس بحسنة].

وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة فهو سيئة إن كان لا يعاقب عليها؛ فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها. وقد تقع مكفَّرةً باجتناب الكبائر، ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهَبَ باطلًا فيحصل له بذلك حسرةٌ في القيامة، وأسفٌ عليه وهو نوع عقوبة.

[خير المجالس وخير الكلام]

وخرج الإمام أحمد، وأَبو داود والنسائي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ما مِنْ قَوم يقُومونَ من مَجِلسٍ لا يذكُرُونَ الله فيهِ إلا قاموا عَنْ مِثْلِ جيفَة حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرةً"

(3)

.

(1)

سورة الرعد: 39.

والأثر في الدر المنثور في الموضع المذكور وقد عزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وفي الدر، ب:"وألقى".

(2)

أورده السيوطي في الدر المنثور 6/ 104 عن ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية، وعنده: ما هي بحسنة .. ما هي بسيئة .. وفي م، هـ: "ما هي من السيئات

" وفي ر، ظ، ل: "ما هي حسنة أكتبها".

(3)

أخرجه أحمد في المسند 2/ 527 (الحلبي) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما جلس قوم مجلسًا فتفرقوا عن غير ذكر الله عز وجل إلا تفرقوا عن مثل جيفة حمار، وكان ذلك المجلس حسرة عليهم =

ص: 369

وخرجه الترمذي ولفظه.

"ما جلس قومٌ مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يُصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم تِرةً

(1)

فإن عذبهم، وإن شاء غفَر لهم.

* * *

• وفي رواية لأبي داود والنسائي.

"مَن قعد مَقعدًا لم يَذْكُر الله فيهِ كَانت عَلَيْهِ مِن الله ترةٌ، ومَن اضطجع مُضطجعًا لم يذكر الله فيه كَانت عليه مِن الله ترة".

زاد النسائي: "ومَنْ قامَ مُقامًا لم يَذكر الله فيه كان عليه منَ الله ترة"

(2)

.

• وخرج أيضًا من حديث أبي سعيد

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم:

"مَا مِن قوم يجْلِسُونَ مجلسًا لا يذْكُرون الله فيه إلا كانت عَلَيهم حسرةً يوم القيامة وإن دَخلَوا الجنة".

= يوم القيامة".

وأخرجه في المسند 2/ 432 من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قوم مجلسًا فلم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة، وما من رجل مشى طريقًا فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة، وما من رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر الله إلا كان عليه ترة".

وأخرجه من وجه ثالث 2/ 481 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان ترة عليهم يوم القيامة".

ومن وجه رابع 2/ 484 بنحوه وزاد في آخره: إن شاء آخذهم به وإن شاء عفا عنهم.

(1)

قال في النهاية 5/ 149: ترة: أي نقصًا وقيل أراد بالترة ههنا: التبعة.

وقال الترمذي 5/ 461: قال بعض أهل المعرفة بالعربية: الترة: الثأر.

(2)

راجع الحديث في سنن أبي داود: كتاب الأدب: باب كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله 5/ 181.

وفي سنن الترمذي: كتاب الدعاء: باب في القوم يجلسون ولا يذكرون الله 5/ 46 وقد عقب عليه بقوله: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أورده المنذري في الترغيب والترهيب 2/ 409 - 410 من طرق عن أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم أيضًا وذكر أن رجال أحمد رجال الصحيح.

وهو عند النسائي في عمل اليوم والليلة.

ح 407 وعنده: "كانت عليه

" كما عند أبي داود كذلك وكما في بعض النسخ.

وفي "ا": "مضجعًا .. كانت".

(3)

أشار الترمذي في الموضع السابق إلى رواية أبي سعيد للحديث بمثله.

والحديث عند النسائي في عمل اليوم والليلة ح 412 باللفظ الذي أورده ابن رجب.

ص: 370

• وقال مجاهد: "ما جلس قوم مجلسًا فتفرقوا قبل أن يذكروا الله إلا تفرقوا عن أنتنَ من ريح الجيفة، وكان مجلسهم يشهد عليهما بغفلتهم، وما جلس قوم مجلسًا فذكروا الله قبل أن يتفرقوا إلا تفرقوا عن أطيب من ريح المسك، وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم".

[الساعات الضائعة].

وقال بعض السلف: "يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات".

• وخرّجه الطبراني من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:

"ما من

(1)

ساعة تَمر بابن آدمَ لم يذكر الله فيها بِخير إلا حُسِرَ عندهَا يومَ القيامة"

(2)

.

[ففضول الكلام يورد المهالك].

فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام فالسكوت عنه أفضل من التكلم به اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لابد منه.

• وقد روي عن ابن مسعود قال: "إياكم وفضولَ الكلام، حسْب امرئ ما بلغ حاجته".

• وعن النخعي قال: "يهلك الناس في فضول المال والكلام".

وأيضًا فإن الإِكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب؛ كما في الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا:

"لا تكْثروا الكَلَام بغَيْرِ ذِكْر الله، فإن كثرة الكلَام بِغَيْر ذكْر الله تقسي القلب وإن أبْعَد الناس عَن اللهِ القَلبُ القَاسي"

(3)

.

• وقال عمر رضي الله عنه: من كثو كلامه كثر سَقَطُه، زمن كثر سَقَطُه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به.

• وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر مرفوعًا بإسناد ضعيف

(4)

.

(1)

سقطت من المطبوعة.

(2)

أورده الهيثمي في المجمع 10/ 80 وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمرو بن الحصين العقيلي وهو للقلب".

(3)

أخرجه الترمذي في كتاب الزهد 3/ 607 - 608 وقال: حديث حسن غريب. وفيه: "قسوة للقلب".

(4)

في الضعفاء الكبير 3/ 384 - عن محمد بن إسماعيل، عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي، عن إبرهيم بن =

ص: 371

• وقال محمد بن عجلان: "إنما الكلام أربعة: أن تذكرَ الله، وتقرأَ القرآن، وتسأل عن علم، فَتُخْبَرَ به، أو تَكَلَّم فيما يعينك من أمر دنياك".

* * *

[الانضباط في الكلام].

• وقال رجل لسلمان: أوصني قال: "لا تكلَّم! " قال: ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم؟ قال: "فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت

(1)

".

• وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأْخذ بلسانه ويقول: "هذا أوردني الموارد؟! ".

[وقال ابن مسعود: "والله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض أحقُّ بطول سَجْنٍ من اللسان]

(2)

".

• وقال وهب بن منبه: "أَجمعت الحكماء على أَن رأْس الحكمة: الصمت

(3)

".

• وقال شُمَيْطُ بن عجلان: "يا ابن آدم! إنك ما سكتَّ فأنت سالم، فإذا تكلمتَ فخذ حِذْرَك، إما لك وإما عليك؟! ".

وهذا باب يطول استقصاؤه.

[مقصود الحديث].

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكلام بالخير والسكوت عما ليس بخير.

• وخرّج الإمام أحمد، وابن حبان، من حديث البراءِ بن عازب، أن رجلًا قال: يا رسول الله! علمني عملًا يُدخلني الجنة فذكر الحديث وفيه قال:

= الأشعث، عن عيسى بن موسى عن عمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كنت النار أولى به ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

ثم قال العقيلي:

إن كان هذا عمر بن راشد فهو ضعيف، لكان كان غيره فمجهول. أول الحديث معروف من قول عمر بن الخطاب وآخره يروى بإسناد جيد بغير هذا الإسناد.

وهو يعني رواية البخاري ومسلم وغيرهما للشطر الأخير من الحديث من روايتي أبي هريرة وأبي شريح.

(1)

الصمت لابن أبي الدنيا ص 48 ح 44 بنحوه.

(2)

ما بين القوسين سقط من ب. وفي ر، ظ، ل:"من لسان".

(3)

ل، ر، ظ "الحكماء أن رأس الحكم

".

ص: 372

"فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانْه عن المنكر؛ فإن لم تطق ذلك فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا من خيرٍ"

(1)

.

* * *

فليس الكلام مأمورًا به على الإِطلاق، ولا السكوت كذلك، بل لابد من الكلام بالخير، والسكوت عن الشر.

* * *

[الصمت عن الشر فضيلة محمودة].

وكان السلف كثيرًا يمدحون الصمت عن الشر، وعما لا يعني؛ لشدته على النفس ولذلك يقع الناس فيه كثيرًا، فكانوا يعالجون أنفسهم، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم.

• قال الفُضَيْل بن عياض: "ما حجَّ ولا رباط ولا جهاد أشدَّ من حبس اللسان! ولو أصبحت يهمك لسانُك أصبحتَ في غم شديد".

• وقال: "سَجْن اللسان سِجْن المؤمن، ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في غم شديد"

(2)

.

* * *

• وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه

(3)

: "إن كان الكلام عن فضة فإن الصمت من ذهب؟! " فقال: "معناه: لو كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب!؟ ".

وهذا يرجع إلى أن الكف عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات، وقد سبق القول في هذا مستوفى.

* * *

• وتذاكروا عند الأحنف بن قيس أَيما أَفضل: الصمت أَو النطق؟ فقال قوم: الصمت أَفضل، فقال الأحنف: النطق أَفضل؛ لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه،

(1)

مسند أحمد 40/ 299 (الحلبي). والإحسان 1/ 296 ح 375 بنحوه وبسياقه تامًّا وأورده الهيثمي في المجمع 4/ 240 وقال: رواه أحمد ررجاله ثقات.

(2)

الصمت لابن أبي الدنيا ح 631. والحلية لأبي نعيم 8/ 110.

(3)

ونسب إلى عيسى وسليمان وانظر الصمت ح 47 والتعلق عليه.

ص: 373

والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه

(1)

.

* * *

• وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "الصامت على علم كالمتكلم على علم" فقال عمر: إني لأرجو أَن يكون التكلم على علم أَفضلَهما يوم القيامة حالًا؛ وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه!؟ " فقال له: يا أمير المؤمنين! وكيف بفتنة المنطق؟.

فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديدًا.

* * *

ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يومًا فرقَّ الناس وبكَوْا، فقطع خطبته فَقيلَ له: لو أتممت كلامَك رجونَا أن ينفع الله به؟ فقال عمر: إن القول فتنة، والفعل أولى بالمؤمن من القول.

[ابن رجب يرى عمر بن عبد العزيز].

وكنت من مدة طويلة قد رأيت في المنام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وسمعته يتكلم في هذه المسألة وأَظن أَني فاوضته فيها وفهمت من كلامه أن التكلم بالخير أفضل من السكوت. وأَظن

(2)

أَنه وقع في أثناء الكلام ذكر سليمان بن عبد الملك وأَن عمر قال ذلك له وقد

(3)

روي عن سليمان بن عبد الملك أَنه قال: "الصمت منام العقل، والمنطق يقظته

(4)

، ولا يتم حال إلا بحال. يعني لابد من الصمت والكلام".

[عندما يعجب المرء بنفسه].

• وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر: فقيه أهل مصر في وقته

(5)

وكان أَحدَ الحكماء: إذا كان المرء يحدّث في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت، وإذا كان ساكتًا فأَعجبه السكوت فليحدِّث

(6)

.

(1)

الصمت لابن أبي الدنيا ح 712 وفي التعليق عزاه إلى تهذيب تاريخ دمشق 7/ 23.

(2)

في المطبوعة: "وأظنه".

(3)

في المطبوعة: "وهذا" وهو تحريف.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في الصمت ح 696 وأبو نعيم في الحلية 7/ 82 بنحوه: أنه كان يقال: .. " وابن حبان في روضة العقلاء منسوبًا لأبي حاتم بسياقه تامًّا ص 41.

(5)

ظ: "زمانه".

(6)

الصمت 97 بإسناد ضعيف.

ص: 374

وهذا حسن؛ فإن من كان كذلك كان سكوته وحديثه بمخالفة هواه وإعجابه بنفسه، ومن كان كذلك كان جديرًا بتوفيق الله إياه، وتسديده في نطقه وسكوته؛ لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل.

* * *

وفي مراسيل الحسن رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: "علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقًا، فإذا كان كذلك لم ينسني على حال، وإذا كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كيلا ينساني، فإذا نسيني حرّكتُ قلبَهُ، فإن تكلم تكلّم لي، وإن سكتَ سكتَ لي؛ فذلك الذي تأْتيه المعونة من عندي".

حرّجه إبراهيم بن الجنيد.

* * *

[التزام الصمت].

وبكل حال فالتزام الصمت مطلقًا، واعتقاده قربة: إما مطلقًا أو في بعض العبادات كالحج والاعتكاف والصيام - منهِيٌّ عنه.

• وروي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام الصمت.

• وخرج الإسماعيلي من حديث عليّ رضي الله عنه قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصمت في العُكُوف"

(1)

.

وفي سنن أبي داود من حديث عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صُماتَ يومٍ إلى الليل"

(2)

.

(1)

بعد هذا في المطبوعة والهندية: "وخرج الإسماعيلي من حديث علي أيضًا قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصمت في الصلاة".

(2)

أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الوصايا: باب ما جاء متى ينقطع اليتم؟ 3/ 293 - 294 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل".

وقد وضح الخطّابي في معالم السنن بهامش السنن أبعاد الحديث ومعناه فقال رحمه الله:

"ظاهر هذا القول يوجب انقطاع أحكام اليتم عنه بالاحتلام وحدوث أحكام البالغين له فيكون للمحتلم أن يبيع ويشتري ويتصرف في ماله، ويعقد النكاح لنفسه، وإن كانت امرأة فلا تزوج إلا بإذنها.

ولكن المحتلم إذا لم يكن رشيدا لم يفك الحجر عنه، وقد يُحْظر الشيء بشيئين فلا يرتفع بارتفاع أحدهما مع بقاء السبب الآخر وقد أمر الله تعالى بالحجر على السفيه فقال:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5] وقال: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} [البقرة: 282]، فأثبت=

ص: 375

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حجت مصمتة: "إن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية

(1)

".

وروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: "صوم الصمت حرام".

* * *

[حق الجار وحرمته]:

الثاني مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المؤمنين: "إكرام الجار"، وفي بعض الروايات:"النهي عن أذى الجار".

فأَما أَذى الجار فمحرم. فإن الأذى بغير حق محرم لكل أحد، ولكن في حق الجار هو أشدُّ تحريمًا. وفي الصحيحين، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل أبي الذنب أعظم؟ قال:

"أَنْ تَجْعَل لله نِدًّا وهو خلَقَك " قيل: ثُم أيٌّ؟ قال: "أن تَقتُلَ ولدَك مخافة أن يَطْعَم معك " قيل: ثُم أيٌّ؟ قال: "أن تُزاني حَلِيلَةَ جارك

(2)

".

[التشديد في المعصية مع الجار]:

* * *

وفي مسند اللإِمام أحمد عن المقدادِ بن الأسْود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

= الولاية على السفيه، كما أثبتها على الضعيف، فكان معنى الضعيف راجعًا إلى الصغير، ومعنى السفيه راجعًا إلى الكبير البالغ، لأن السفه اسم ذم، ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسب، والقلم مرفوع عن غير البالغ فالجرح والذم مرفوعان عنه، وقال سبحانه:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فشرط في دفع المال إليهم شيئين: الاحتلام والرشد. والحكم إذا كان وجوبه معلقًا بشيئين لم يجب إلا بورودهما معًا.

وقوله "لاصُماتَ يوم إلى الليل" وكان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا ينطق، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالذكر والنطق بالخير".

(1)

هذا جزء حديث أخرجه البخاري في المناقب: باب أيام الجاهلية 7/ 147.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب التفسير: سورة البقرة باب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 163 وسورة الفرقان: باب قوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} 8/ 492، وفي كتاب الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه 10/ 433، وفي كتاب الحدود، باب إثم الزناة 12/ 114، وفي كتاب الديات: باب قول الله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} . 12/ 187، وفي كتاب التوحيد: باب قول الله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} 13/ 491 وفي باب قول الله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .

ومسلم في كتاب الإيمان: باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده 1/ 90، 91.

ص: 376

"ما تقولون في الزنا؟ " قالوا: حَرام حَرَّمه اللهُ ورسولُه فهو حرام إلى يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يَزْنيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نسْوة أَيْسَرُ علَيه من أنْ يزني بامرأة جاره" قال: "فما تقولون في السَّرِقَةِ؟، قالوا: حرام حرّمها الله ورسوله، فهي حرام قال: "لأن يَسْرِق الرجلُ من عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أيْسَرُ عليه من أن يسرق من جاره"

(1)

.

[التشديد في أمر إيذائه ونفي الإيمان عمن يؤذي جاره]:

• وفي صحيح البخاري

(2)

عن أبي شريح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يُؤمِن، والله لا يُؤمِن، والله لا يؤمن" قيل: مَنْ؟ يا رسول الله!؟! قال: من لا يَأمَنُ جَارُهُ بوَائِقَه".

وخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي هريرة

(3)

.

* * *

[ومنعه من دخول الجنة]:

• وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخُلُ الجنةَ من لا يأْمَنُ جَارُه بوائِقه"

(4)

.

* * *

[الجار جنتك ونارك]:

• وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة أيضًا قال: قيل: يا رسول الله! إن فلانة تصلي بالليل، وتصوم النهار، وفي لسانها شيء، تؤذي جيرانها،

(1)

أورَده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 332 عن أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وهو عند أحمد في المسند 6/ 8 (الحلبي) وعند الطبراني في الكبير 20/ 256 - 257 وأورده الهيثمي في المجمع 8/ 168 وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات.

(2)

في كتاب الأدب: باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه 10/ 443.

(3)

أخرجه أحمد في المسند 2/ 288، 336 (الحلبي) من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن" قالوا: وما ذاك يا رسول الله قال: "الجار الذي لا يأمن جاره بوائقه" قالوا: يا رسول الله! وما بوائقه؟ قال: "شره".

وأخرجه في المسند أيضًا 4/ 31 و 6/ 385 بنحوه من حديث أبي شريح في الموضع الأول.

وفي الموضع الثاني: "لا والله لا يؤمن

".

وأخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب: باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه 10/ 443. والحاكم في المستدرك 1/ 15 وصححه على شرط الشيخين.

وقال الذهبي: في الصحيحين نحوه الأعرج.

(4)

في كتاب الإِيمان: باب بيان تحريم إيذاء الجار، 1/ 68.

ص: 377

سليطة؟ قال: "لا خير فيها، هي في النار" وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأَثْوَار، وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي أحدًا. قال: "هي في الجنة

(1)

".

ولفظ الإمام أحمد: ولا تؤذي بلسانها جيرانها.

* * *

[أسلوب عملي في التعريف بحق الجار]:

• وخرج الحاكم من حديث أبي جُحَيْفَة قال:

"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال له: "اطرح متاعك في الطريق" قال: فجعل الناس يمرون به فيلعنونه فجاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما لقيت من الناس؟ قال: "وما لقيت منهم؟ " قال: يلعنوني؟ قال: "فقد لعنك الله قبل الناس" قال: يا رسول الله! فإني لا أعود"

(2)

.

* * *

• وخرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه "فقد لعنك الله قبل الناس"

(3)

.

[لا قليل من أذى الجار]:

• وخرج الخرائطي من حديث أُم سلمة قالت: دخلت شاة لجار

(4)

لنا فأَخذت

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب البر والصلة 4/ 166 من طريقين عن أبي هريرة وصححه وأقره الذهبي.

وأخرجه أحمد في المسند 2/ 440 (الحلبي).

وأورده الهيثمي في المجمع 8/ 168 - 69، وقال: رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات والأثوار جمع ثور، وهي قطعة من الأقط، وهو (بفتح الهمزة وكسر القاف) لبن جامد مستحجر: نوع معروف من الجبن راجع النهاية 1/ 228.

والحديث أورده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 235 عن أحمد والبزار وابن حبان أيضًا، وهو عن البخاري في الأدب المفرد 66 باب لا يؤذي جاره ص 36 - 37 وفيه: وتصدق بأثواب" وهو تحريف.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب البر والصلة 4/ 165 - 166 من طريقين: الأول عن أبي هريرة، والثاني عن أبي جحيفة وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي.

(3)

أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب حق الجوار 5/ 357 - 358 من طريق محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال "اذهب فاصبر" فأتاه مرتين أو ثلاثًا فقال:"اذهب فاطرح متاعك في الطريق، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه، فعل الله به وفعل، وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: "ارجع لا ترى مني شيئًا تكرهه".

(4)

ب: "لجارة" وما أثبتناه هو الموافق لما في مساوئ الأخلاق.

ص: 378

قرصة لنا، فقمت إليها فَأَخذتها من بين لحييها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه لا قليل من أذى الجار"

(1)

.

* * *

[القرآن وإكرام الجار]:

وأما إكرام الجار والإحسان إليه فمأمور به وقد قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}

(2)

.

فجمع الله تعالى في هذه الآية بين ذكر حقه على العبد، وحقوق العباد على العبد أيضًا.

* * *

[العباد الذين أمرنا بالإحسان إليهم]:

وجعل العباد الذين أمر بالإحسان إليهم خمسة أنواع:

أحدها: مَنْ بينه وبين الإنسان قرابة. وخص منهم الوالدين بالذكر لامتيازهما عن سائر الأقارب بما لا يشرَكونَهُمَا فيه؛ فإنهما كانا السبب في وجود الولد، ولهما حق التربية والتأْديب وغير ذلك.

الثاني: من هو ضعيف محتاج إلى الإحسان. وهو نوعان: من هو محتاج لضعف

(1)

أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق ص 151 - 152 ح 391، ص 217 ح 617 عن بنان بن سليمان الدقاق، عن عبيد الله بن موسى، عن الأوزاعي، عن عبد الله أو عبدة بن أبي لبابة عن أم سلمة قالت: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحاف إذ دخلت شاة لجار لنا، فأخذت قرصة من سترة لنا فقمت إليها فأخذتها من بين لحييها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه لا قليل من أذى الجار! ".

لفظ الموضع الأول.

وفي الموضع الثاني: عن يحيى بن أبي لبابة عن أم سلمة والظاهر أن هذا تحريف. فقد قال ابن أبي حاتم في المراسيل ص (115): عبدة بن أبي لبابة سمعت أبي يقول: ابن أبي لبابة رأى عمر رؤية، ثم قال ابن أبي حاتم: قال: أبي: عبدة بن أبي لبابة عن أم سلمة في الشاة [أي في القصة التي أوردها الخرائطي] قال أبي: لم يسمع عبدة من أم سلمة، بينهما رجل.

وعلى هذا فالحديث ضعيف لانقطاعه وفي ل "فأما إكرام الجار".

(2)

سورة النساء: 36.

ص: 379

بدنه، وهو اليتيم. ومن هو محتاج لقلة ماله، وهو المسكين.

والثالث: من له حق القرب والمخالطة

(1)

. وجعلهم ثلاثة أنواع: جارٌ ذو قربى، وجارٌ جُنب، وصاحبٌ بالجنب.

[تأويل الآية]:

وقد اختلف المفسرون في تأْويل ذلك:

فمنهم من قال: الجار ذو القربى: الجار اليذي له قرابة، والجار الجُنُب: الأجنبي.

ومنهم من أدخل المرأَة في الجار ذى القربي.

ومنهم من أدخلها في الجار الجنُب.

ومنهم من أدخل الرفيق في السفر في الجار الجنب.

• وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "أعوذ بِكَ مِنْ جار السَّوْءِ في دَارِ الإِقامة؛ فإن جار البادي يتحوّل"

(2)

.

ومنهم من قال: الجار ذو القربى: الجار المسلم، والجار الجنب: الكافر.

[حقوق الجوار وما جاء في ذلك]:

• وفي مسند البزار من حديث جابر مرفوعًا:

"الجيران ثَلاثة: جار لهُ حَقٌّ واحِد، وهُوَ أدنى الجيران حقًّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقًّا:

فأما الذي له حق واحد: فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار.

وأما الذي له حقان فجار: مسلم؛ له حق الإِسلام، وحق الجار.

وأما الذي له ثلاثة حقوق: فجار مسلم ذو رحم؛ له حق الجوار، وحق الإسلام،

(1)

ب: "المحافظة".

(2)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد: باب الجار السوء ص 36 ولفظه عنده: اللهم إني أعوذ بك من جار السوء، فإن جار الدنيا يتحول".

والمنذري في الترغيب والترهيب 2/ 355 عن ابن حبان في صحيحه، وهو في الإحسان 2/ 384.

وعند النسائي في السنن كتاب الاستعاذة: باب الاستعاذة من جار السوء 2/ 319 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعوّذوا بالله من جار السَّوْء في دار المقام، فإن جار البادية يتحول عنك".

وهو لفظ ابن حبان إلا أن عنده: "في دار المقامة".

ص: 380

وحق الرحم"

(1)

.

وقد روي هذا الحديث من وجوه أُخر متصلة ومرسلة ولا تخلو كلها من مقال.

وقيل: الجار ذو القربى: هو القريب الجوار

(2)

الملاصق، والجار الجنب: البعيد الجوار.

* * *

[أي الجيران أولى بالإحسان]:

وفي صحيح البخاري عن عائشة قالت:

قلت: يا رسول الله! إنَّ لي جارين، فإلى أَيهما أُهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك بابًا

(3)

".

(1)

رواه البزار في مسنده وهو في (2/ 380) من كشف الأستار من طريق عبد الله بن محمد بن أبي الربيع الحارثي، عن محمد بن إِسماعيل بن أبي فديك عن عبد الرحمن بن الفضل، عن عطاء الخراساني، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

وليس فيه: "وهو أفضل الجيران حقًّا" وهي عند ابن كثير، فالظاهر أنها سقطت من نسخة الكشف.

وقد عقب البزار بقوله: لا نعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد.

والحديث أورده الهيثمي في المجمع 8/ 164 وقال: رواه البزار عن شيخه عبد الله بن محمد الحارثي وهو وضاع.

أما ابن كثير فقد أورده في التفسير 1/ 495 ثم قال: قال البزار: لا نعلم أحدًا روى عن عبد الرحمن بن الفضل: إلا ابن أبي فديك.

ولم أعثر على هذا التعقيب من البزار في الكشف، فربما كان في المسند.

والحديث عزاه السيوطي في الجامع الصغير 1/ 491 - 492. من التيسير للبزار وأبي الشيخ في الثواب، وأبي نعيم في الحلية.

وذكر المناوي أن أسانيده في هذه المصادر كلها ضعيفة.

واقتصر ابن حجر في الفتح 10/ 441 - 442 على عزو الحديث إلى الطبراني ولا أدري كيف؟ ولم يذكر وهاءَ إسناده! وإنما رتب عليه حكمًا فيما يتعلق بالتعامل مع الجار وترتيب الجيران على أساس ما أفاد الحديث من حقوق؟ وإن ذكر أن عبد الله بن عمرو أحد رواة الحديث حمله - على العموم، فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدي منها لجاره اليهودي؟!.

(2)

ليست في م.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الشفعة: باب أي الجوار أقرب؟ 4/ 438 وفي كتاب الهبة: باب بمن يبدأ الهدية؟ 5/ 219 - 220 وفي كتاب الأدب: باب حق الجوار في قرب الأبواب 10/ 447 من الفتح.

وقد أورد القرطبي هذا الحديث في تفسيره (5/ 184) عند تفسير قوله تعالى {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وقال: ذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا الحديث يفسر المراد من قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} وأنه القريب المسكن منك، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وأنه البعيد المسكن منك واحتجوا بهذا على إيجاب الشفعة للجار، وعضدوه بقوله عليه السلام:"الجار أحق بصقبه"[والصقب: الملاصقة والقرب، والمراد به الشفعة].

قال القرطبي ولا حجة في ذلك؛ فإن عائشة رضي الله عنها إنما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية، فأخبرها أن من قرب بابه فإنه أولى بها من غيره.

ثم قال: قال ابن المنذر: "فدل هذا الحديث على أن الجار يقع على غير اللصيق".

ص: 381

[حدود الجوار]:

وقال طائفة من السلف: حدُّ

(1)

الجوار أَربعون دارًا. وقيل: مستدارُ أربعين دارا من كل جانب.

• وفي مراسيل الزهري: أَن رجلًا أَتي النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جارًا له فأَمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أَن ينادي:

"ألا إن أربعين

(2)

دارًا جار".

• وقال الزهري: أربعون هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، يعني من

(3)

بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله.

[كيف يصنع إذا قل ماله وكثر جيرانه؟]:

• وسئل الإِمام أَحمد عمن يطبخ قِدْرًا وهو في دار السبيل، ومعه في الدار نحو ثلاثين أَو أَربعين نفسًا؟ يعني أنهم سُكَّانٌ معه في الدار قال: يبدأ بنفسه وبمن يعول، فإن فَضْلٌ أعطى الأقرب إليه. وكيف يمكنه أن يعطيهم كلهم؟ قيل له: لعل الذي هو جاره يتهاون بذلك القَدْر، ليس له عنده موقع. فرأَى أَنه لا يبعث إليه.

[من هو الصاحب بالجنب].

وأما الصاحب بالجنب ففسره طائفة بالزوجة، وفسره طائفة منهم ابن عباس بالرفيق في السفر، ولم يريدوا إخراج الصاحب الملازم في الحضر، إِنما أَرادوا أَن صحبة السفر تكفي؛ فالصحبة الدائمة في الحضر أَولى.

• ولهذا قال سعيد بن جُبَيْر: "هو الرفيق الصالح".

• وقال زيد بن أسلم: "هو جليسُك في الحضر، ورفيقك في السفر".

وقال ابن زيد: هو الرجل يعتريك ويُلِمُّ بك لتنفعه"

(4)

.

[خير الأصحاب وخير الجيران].

• وفي المسند والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

ليست في ب.

(2)

ب: "الأربعين".

(3)

م: "ما".

(4)

في م: "لتسعفه".

ص: 382

"خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره"

(1)

.

* * *

[بقية من أمرنا بالإحسان إليهم].

الرابع: من هو وارد على الإنسان غير مقيم عنده، وهو ابن السبيل يعني المسافر إذا ورد إلى بلد آخر.

وفسره بعضهما بالضيف، يعني به ابن السبيل إذا نزل ضيفًا على أحد.

والخامس ملك اليمين. وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم بهم كثيرًا وأمر بالإحسان إليهما.

وروي أن آخر ما وصى به عند موته: "الصلاة وما ملكت أَيمانكم"

(2)

.

وأدخل بعض السلف في هذه الآية ما يملكه الإنسان من الحيوانات والبهائم.

* * *

[تعظيم حق الجار]:

ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة في إكرام الجار.

• وفي الصحيحين

(3)

عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما زال جِبْريلُ يُوصِيني بالجار حتى ظننتُ أَنه سَيُوَرّثه".

* * *

فمن أنواع الإِحسان إلى الجار مواساتُه عند حاجته.

• وفي المسند عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يشبع المؤمن دون جاره"

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة: باب ما جاء في حق الجوار 4/ 333 وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب.

وأحمد في المسند 10/ 100 - 101 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه.

(2)

من حديث أم سلمة في سنن ابن ماجه 1/ 519 ومن حديث أنس وعلي فيها 2/ 900، 901 وفي سنن أبي داود في كتاب الأدب: باب في حق المملوك 5/ 359 من حديث علي رضي الله عنه ومن حديث أنس وأم سلمة في الكبرى للنسائي 4/ 258 - 259.

(3)

البخاري في كتاب الأدب: باب الوصاة بالجار 10/ 441.

ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب: باب الوصية بالجار والإِحسان إليه 4/ 2025 كلاهما من حديثي عائشة وابن عمر بخ: 6014، 6015، م: 2624، 2625.

(4)

أخرجه أحمد في المسند 1/ 321 - 322 (المعارف) بإسناد ضعيف كما ذكر محققه.

ص: 383

• وخرج الحاكم

(1)

من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المؤمنُ الذي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ".

وفي رواية أُخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال

(2)

.

"ما آمن مَنْ بات شَبْعَانًا وجارُهُ طاويًا"

(3)

.

• وفي المسند عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"أوّل خصمين يوم القيامة جاران"

(4)

.

* * *

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب البر والصلة 4/ 167 وصححه وأقره الذهبي ولفظه في النسخة التي بين أيدينا: "ليس المؤمن الذي يبيت وجاره إلى جنبه جائع".

ورواه الحاكم من حديث عائشة 2/ 12 - : "ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه". وقد سكت عنه الحاكم وضعفه الذهبي.

(2)

ما بين الرقمين سقط من ب.

(3)

بإسناد ضعيف جدًّا في الكامل 2/ 219 من رواية حكيم بن جبير عنه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، رواه الطبراني في الكبير 1/ 259 من طريق محمد بن محمد التمار، عن محمد بن سعيد الأثرم عن همام عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به".

وأخرجه البزار كما في الكشف 1/ 76 من طريق محمد بن عثمان بن كرامة عن حسين بن علي الجعفي، عن سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد عن أنس - قال علي بن زيد - فيما أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس المؤمن الذي يبيت شعبان وجاره طاوي".

قال البزار: لا نعلمه يروى عن أنس إلا من هذا الوجه.

وقد أورده الهيثمي في المجمع 8/ 170 ولم يعزه إلا إلى البزار والطبراني ثم قال: وإسناد البزار حسن وكذلك عند المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 358 قال: رواه الطبراني والبزار وإسناده حسن.

(4)

أخرجه أحمد في المسند 4/ 151 (الحلبي) من طريق قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، عن ابن عشانة، عن عقبة بن عامر مرفوعًا باللفظ المذكور.

وأخرجه الطبراني في الكبير 17/ 261 من طريق أبي الزنباع: روح بن الفرج، عن يحيى بن سليمان الجعفي، عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن عشانة به.

وفي 17/ 265 من طريق جعفر بن محمد الفريابي عن قتيبة بن سعيد - به.

وقد أورده الهيثمي في المجمع 8/ 170 عن عقبة بن عامر وقال: رواه أحمد والطبراني بنحوه وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح غير أبي عشانة وهو ثقة.

كما أورده في المجمع أيضًا 10/ 349 وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.

وقول الهيثمي إن الطبراني أورد الحديث بنحوه أي بنحو ما أخرجه أحمد غير مسلم، فقد أورده في المعجم بمثله لا بنحوه.

وقد أورده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 355 وقال: رواه أحمد واللفظ له والطبراني بإسنادين أحدهما جيد. وهو كما ترى.

ص: 384

• وفي كتاب الأدب للبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم:

"كم من جارٍ متعلقٌ بجاره يوم القيامة فيقول: يا رب! هذا أغلق بابَه دوني، فمنع معروفه"

(1)

.

* * *

[إكرام الجار وكيف يكون؟].

• وخرج الخرائطي وغيره بإسناد ضعيف من حديث عطاءٍ الخراساني عن عمرو بن شُعَيْب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من أَغلق بابه دون جاره مخافةً على أَهله وماله فليس ذلك بمؤمن، وليس بِمؤمن من لا يأمن جارُه بوائقَه. أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنيته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجُبَ عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بقُتار

(2)

قدرك إلا أن تغرف له. وإن اشتريت فاكهة فَأَهْدِ له، فإن لم تفعل فأَدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدُك ليغيظ بها ولدَه:

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد: باب من أغلق الباب على الجار 1/ 200 ح 111.

وفي م "يمنع" وما أثبتناه عن بعض الأصول هو الموافق لما في الأدب المفرد.

وإسناده ضعيف؛ لأنه من طريق ليث بن أبي سليم، وهو صدوق يهم.

(2)

القتار: ريح القدر والشواء ونحوهما نهاية 4/ 12. ظ، ر: "بقتار ريح".

(3)

أخرج الخرائطي شطره الأول في المساوئ ص 154 وهو في المنتقى بتمامه ح 104 كلاهما: من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده.

وقد أورد المنذري الحديث بتمامه في الترغيب والترهيب 3/ 357 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن الخرائطي في مكارم الأخلاق ثم قال: ولعل قوله: أتدري ما حق الجار إلى آخره في كلام الراوي غير مرفوع لكن قد روى الطبراني عن معاوية بن حيدة. قال: قلت: يا رسول الله! ما حق الجار عليّ؟ حال: إن مرض عدته؛ وإن مات شيعته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أعوز سترته .. فذكر الحديث بنحوه، ثم قال: وروى الشيخ ابن حيان في كتاب التوبيخ عن معاذ بن جبل، قال: قلنا: يا رسول الله! ما حق الجوار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عدته، فذكر الحديث.

وروى أبو القاسم الأصبهاني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره قالوا: يا رسول الله! وما حق الجار على الجار؟ قال: إن سألك فأعطه".

فذكر الحديث بنحوه، لم يذكر فيه الفاكهة.

ثم قال المنذري ولا يخفى أن كثرة الطرق تقوِّيه: كذلك كان صنيع ابن حجر في الفتح 10/ 446 بالنسبة لهذا الحديث؛ فقد قال: وقد ورد في تفسير الإِكرام والإحسان إلى الجار وترك أذاه عدة أحاديث أخرجها الطبراني من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمرو بن شعيب =

ص: 385

ورفع هذا الكلام منكر، ولعله من تفسير الخراساني

(1)

.

وقد روي أيضًا عن عطاء، عن الحسن، عن جابر، مرفوعًا:

"أدنى حق الجوار أن لا تؤذي جارك بِقُتَار قدرك إلا أن تقدح

(2)

له منها".

* * *

• وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال:

"أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم إذا طبختَ مرقًا فأَكثر ماءَه، ثم انظر إلى أَهل بيت جيرانك فأصبْهُم منها بمعروف".

* * *

• وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"يا أبا ذر إذا طبختَ مَرَقَةً فأَكثر ماءَها وتعاهد جيرانك"

(3)

.

[الإهداء للجار غير المسلم].

• وفي المسند والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه ذبح شاة فقال: "هل أهديتم منها لجارنا اليهودي؟ ثلاث مرات ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما زال

= عن أبيه، عن جده، وأبو الشيخ في كتاب "التوبيخ" من حديث معاذ بن جبل، قالوا: يا رسول الله! ما حق الجار على الجار؟ قال إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه. وإن أصابه خير هنيته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فادخل سرًا.

ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده".

ثم قال ابن حجر: وألفاظهم متقاربة، والسياق أكثره لعمرو بن شعيب، وفي حديث بهز بن حكيم:"وإن أعوز سترته".

وأسانيدهم واهية، لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن للحديث أصلًا.

ثم الأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مستحبًّا ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق".

(1)

قد عرفت ما يؤيد هذا من كلام المنذري وابن حجر كما عرفت اتجاههما إلى تقوية الحديث والإيماء إلى أن له أصلًا.

(2)

تقدح له منها: تغرف يقال: قدح القدر إذا غرف ما فيها، والمقدحة. المغرفة، والقديح: المرق، راجع النهاية 4/ 21. وعن الحديث راجع الكشف 1901، والمجمع 8/ 165.

(3)

كلا الروايتين عن أبي ذر في صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب 4/ 2025.

ص: 386

جبريل يُوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورِّثه"

(1)

.

* * *

[النهي عن مضايقة الجار ووجوب تلبية الممكن له].

• وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَمْنعنّ أحدُكُم جارَهُ أن يغرز خشبةً في جداره"

(2)

.

(1)

حديث عبد الله بن عمرو أخرجه بتمامه الترمذي في كتاب البر والصلة. باب ما جاء في حق الجوار 4/ 333 وقال: هذا حديث حسن غريب. وعنده: "أهديتم لجارنا اليهودي مرتين".

وأخرجه أحمد في المسند 2/ 160 (الحلبي) 9/ 258 - 259 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه. وليس فيه قصة الإهداء وهو عند البخاري في الأدب المفرد: باب يبدأ بالجار (57) ص 34 بتمامه وعنده: "فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي؟ أهديت لجارنا اليهودي؟

".

ورواه أبو داود في السنن: كتاب الأدب: باب في حق الجوار 5/ 357 رقم 5152 بتمامه كذلك إلا أن عنده "أهديتم لجاري اليهودي؟ " مرة واحدة.

(2)

البخاري في كتاب المظالم: باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره (5/ 110) وفي كتاب الأشربة: باب الشرب من فم السقاء 10/ 90.

ومسلم في كتاب المساقاة: باب غرز الخشب في جدار الجار 3/ 1230.

وفي الصحيحين تعقيب أبي هريرة المذكور.

وقد وضح ابن حجر المراد من الحديث ومن التعقيب في الموضع الأول الذي روي فيه الحديث فقال: قوله: "ولا يمنع جار جاره إلخ" استدل به على أن الجدار إذا كان لواحد وله جار فأراد أن يضع جذعه عليه جاز سواء أذن المالك أم لا فإن امتنع أجبر، وبه قال أحمد وإسحق وغيرهما من أهل الحديث وابن حبيب من المالكية، والشافعي في القديم، وعنه في الجديد قولان: أشهرهما اشتراط إذن المالك، فإن امتنع لم يجبر، وهو قول الحنفية، وحملوا الأمر في الحديث على الندب، والنهي على التنزيه جمعًا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه. وفيه نظر كما سيأتي، وجزم الترمذي وابن عبد البر عن الشافعي بالقول القديم وهو نصه في البويطي ثم أورد قول البيهقي: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن تخصها، وقد حمله الراوي على ظاهره وهو أعلم بالمراد بما حدث به، يشير إلى قول أبي هريرة:"ما لي أراكم عنها معرضين؟ ".

وقبل أن نورد شرح ابن حجر لهذا التعقيب يحسن بنا أن نمهد لهذا ببعض التساؤلات؛ فمن هم أولئك الذين استشعر أبو هريرة إعراضهم عن هذا التوجيه حتى عقب على الحديث بهذا التعقيب؟.

وهل يتصور أن يكون واحد من الصحابة مخاطبًا بهذا؟ كما قد يتبادر ممن يقرأ الحديث أو يروى له؟ وكيف يتم ذلك وقد كان الصحابة أطوع للرسول صلى الله عليه وسلم منهم لأنفسهم وآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وعشيرتهم؟ ثم متى كان هذا التعقيب من أبي هريرة عندما روى هذا الحديث؟ بل ما هي وجوه الرواية لهذا الحديث وتعقيبه لدى المحدثين؟ فلعل ذلك يلقي الضوء على المراد. أما عن وجوه الرواية.

فعند أبي داود في السنن: الأقضية: أبواب من القضاء 4/ 49 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه" فنكّسوا فقال: "ما لي =

ص: 387

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أراكم قد أعرضتم؟ لألقينها بين أكتافكم".

وعند الترمذي في السنن: الأحكام: باب ما جاء في الرجل يضع على حائط جاره خشبًا 3/ 635 - 636 من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم جارُه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه".

فلما حدث أبو هريرة طأطأوا رءوسهم فقال: "ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله! لأرمينَّ بها بين أكتافكم" وقد عقب الترمذي على الحديث بقوله: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول الشافعي وروي عن بعض أهل العلم منهم مالك بن أنس قالوا: له أن يمنع جاره أن يضع خشبة في جداره. والقول الأول أصح وعند ابن ماجه في السنة: الأحكام: باب الرجل يضع خشبة على جدار جاره 2/ 782 - 783 من حديث أبي هريرة بمثل ما عند الترمذي.

وعند أحمد في المسند 2/ 240 بمثل ما عند الترمذي وابن ماجه وفي 2/ 463 مختصرًا دون قول أبي هريرة وعنده: "من سأله جاره أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه".

وحديث أبي هريرة عند مالك في الموطأ: رواية محمد بن الحسن. باب القضاء ص 284 ح 804 بنحو رواية البخاري ومسلم.

وقد عقب محمد بن الحسن بتعقيب هام، حيث قال:

وهذا عندنا على وجه التوسع من الناس بعضهم على بعض، وحسن الخلق، فأما في الحكم فلا يجبرون على ذلك.

ثم ساق دليلًا على ما ذهب إليه فقال: "بلغنا أن شريحًا اختُصم إليه في ذلك، فقال للذي وضع خشبه: ارفع رجلك عن مطية أخيك، فهذا الحكم في ذلك، والتوسع أفضل".

ولعل التأمل في قوله صلى الله عليه وسلم:

"إذا استأذن أحدكم أخاه".

"إذا استأذن أحدكم جارُه".

"من سأله جاره".

لعل هذا التأمل في هذه البداية وفي قوله: "فلا يمنعه" يقفنا على أمرين: الأول شرط عدم المنع.

والثاني حكم هذا المنع.

فأما فيما يتعلق بشرط عدم المنع فهو الاستئذان والطلب من صاحب الجدار وإذا فليس حقًّا مطلقًا للجار؛ وإنما هو مقيد باستئذان جاره منه.

وأما فيما يتعلق بحكم عدم المنع أو النهي عن المنع فلا يخلو إما أن يكون للتحريم أو للتنزيه فلو أن النهي كان للتحريم لما كان هناك حاجة إلى الاستئذان ولأخذ الجار هذا الحكم بمجرد حاجته إلى ذلك، أو رفعه إلى القضاء بذلك.

فأما حيث وجه الحديث إلى الاستئذان أو قيد به فإنه ذلك بدوره يعني أمرين:

الأول: أن لا يتعسف من يحتاج إلى غرز خشبة في جدار جاره فيغرزها ليقيم عليها بناء أو نحوه بدون استئذان صاحب الجدار، فهذا مال، والنفس معلقة بمالها ولا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس منه.

والثاني: أنه حرصًا على تنمية العلاقات الإنسانية، وبما لا يخشى معه الضرر أو ضياع الحقوق فإن الأولى - إنسانيًّا - بمن استؤذن في عون لجار بجدار أن يأذن وأن لا يمنع.

فإذا استشعر ضررًا أو خاف ضياع حق له فإن له أن يمنع.

ولعلنا على ذكر مما ذكره محمد بن الحسن. =

ص: 388

ثم يقول أبو هريرة، رضي الله عنه:"ما لي أراكم عنها مُعْرضين؟ والله لأرمينّ بها بين أكتافكم".

ومذهب الإمام أَحمد: أَن الجار يلزمه أَن يمكِّن جاره من وضع خشبة على جداره إذا احتاج الجار إلى ذلك ولم يضر بجداره؛ لهذا الحديث الصحيح.

= ولعل هذا هو ما حدا بأبي داود أن يروي عقب الحديث المذكور حديث المضارة، عن أبي صرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه" ولعل في هذا توفيقًا بين من يقول: ليس له أن يمنع جاره أن يغرز خشبة في جداره وبين من يقول: له أن يمنع؛ فليس له من الناحية الإنسانية أن يمنع ما دام لن يضار بذلك، وله أن يمنع إن توقع الضرر؟!

وحق الجار في الاستعانة أو الارتفاق بجوار جاره مقيد بالاستئذان والطلب الذي يستل الأحقاد، وينمي عواطف الأخوة.

ولعل هذا الحكم كان جديدًا أو كان غريبًا على أسماع من روى لهم أبو هريرة هذا الحديث، ولهذا استبعد ابن حجر أن يكونوا من الصحابة أو من الفقهاء وإلا لما حدث منهم ما حدث؛ حيث، نكسوا رءوسهم، أو طأطأوها تعبيرًا عن استغرابهم.

فقد كان هذا التوجيه من أبي هريرة بالحديث حين كان يلي إمرة المدينة ومن هنا كانت مواجهته لما رأى من إعراضهم، ولما استنكر من استثقالهم، قال: ما لي أراكم عنها معرضين وكأنما يريد أن يقول ما لي أراكم أيها المؤمنون هكذا معرضين عن هذه السنة أو هذه المقالة؟ بل كأنما كان يريد أن يذكرهم بقوله تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور: 51] معنى قوله: لأرمينها أو لألقينها بين أكتافكم: لأشيعن هذه المقالة فيكم ولأقرعنكم بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته.

وقد أورد ابن حجر عن الخطابي قوله في توضيح هذه الجملة: معناه: إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها أي الخشبة على رقابكم كارهين وأراد بذلك المبالغة.

وكما ذكر ابن حجر فقد ذهب البعض إلى أنه متى استؤذن المالك فقد أصبح واجبًا عليه أن يأذن وحرم عليه أن يمتنع وبالتالي كان للقاضي أن يجبره. ولعله يشير إلى رأي ابن حنبل الذي سيذكره ابن رجب بعد مقالة أبي هريرة. وربما عنى هذا ترجيح ابن رجب له.

وتأكيدًا لما سبق أن أومأنا إليه قال ابن حجر:

ومحل الوجوب عند من قال به: أن يحتاج إليه الجار، ولا يضع عليه ما يتضرر به المالك، ولا يقدَّم على حاجة المالك.

ولعلّنا على ذُكْرٍ من حديث المضارة، وروايات حديث أبي هريرة وقواعد الشريعة وقضاء شريح، وفهم محمد بن الحسن!؟.

وهو ما يتسق مع ما أورده ابن رجب عن أحمد بن حنبل، ولا يكاد يختلف مع ما اتضح لنا إلا في جزئية واحدة: أننا نقول إن هذا الوجوب من الناحية الإنسانية لا من حيث الحكم والقضاء، إلا في حالة واحدة: أن يتعنت المالك حيث يتشهى منع نفع الآخرين في الوقت الذي لا يلحقه أي ضرر بأية صورة من وراء ارتفاق جاره بجداره؛ وربما كان هذا أساس إجبار المالك فيما رفع من قضايا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إلى عمر في ذلك.

ص: 389

[مواساة الجار واجبة].

وظاهر كلامه أنه يجب عليه أن يواسيه من فضل ما عنده بما لا يضر به إذا علم حاجته.

• قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إني أسمع السائل في الطريق يقول: إني جائع. فقال: قد يصدق، وقد يكذب. قلت: فإذا كان لي جار أَعلم أَنه يجوع؟ قال: تواسيه. قلت: إذا كان قُوتي رغيفين؟ قال: تطعمه شيئًا. ثم قال: الذي جاء في الحديث إنما هو الجار.

• وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: الأغنياءُ يجب عليهم المواساة؟ قال: إذا كان قوم يضعون شيئًا على شيء كيف لا يجب عليهم؟ قلت: إذا كان للرجل قميصان أو قلت جُبَّتَان يجب عليه المواساة؟ قال: إذا كان يحتاج إلى أن يكون فضلًا.

وهذا نص منه في وجوب المواساة من الفاضل

(1)

ولم يخصّه بالجار، ونصه الأوّل يقتضي اختصاصه بالجار.

وقال في رواية ابن هانئ، في السُّؤال يكذبون:"أحب إلينا لو صدقوا ما وسعنا إلا مواساتهم".

وهذا يدل على وجوب مواساة الجائع من الجيران وغيرهم.

* * *

[إطعام الجائع واجب].

• وفي الصحيح عن أَبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفُكُّوا العاني"

(2)

.

• وفي المسند وصحيح الحاكم، عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَيما أَهل عَرصةٍ أَصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمةُ الله عز وجل"

(3)

.

* * *

(1)

في م "الفضائل".

(2)

العاني: الأسير: وحديث أبي موسى أخرجه البخاري في كتاب الجهاد: باب فكاك الأسير 6/ 167. وفي كتاب النكاح: باب حق إجابة الوليمة 9/ 240، وفي أول كتاب الأطعمة 9/ 517 وفي كتاب المرضى: باب وجوب عيادة المريض 10/ 112، وفي كتاب الأحكام: باب إجابة الحاكم الدعوة 13/ 163.

وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز: باب الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة 3/ 479.

(3)

أخرجه أحمد في المسند 7/ 48 - 49 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه من طريق يزيد بن هرون، =

ص: 390

[منع الإضرار بالجار].

ومذهب أحمد ومالك أَنه يمنع الجار أن يتصرف في خاص ملكه بما يضر بجاره، فيجب عندهما كف الأذى عن الجار بمنع إحداث الانتفاع المضرِّ به، ولو كان المنتفع إنما ينتفع بخاص ملكه.

ويجب عند أحمد أن يبذل لجاره

(1)

ما يحتاج إليه، ولا ضرر عليه في بذله.

* * *

[تحمل أذى الجار مطلوب].

وأعلى من هذين أن يصبر على أذى جاره، ولا يقابله بالأذى.

• قال الحسن: ليس حُسن الجوار كفَّ الأذى، ولكن حسن الجوار احتمال الأذى.

• ويروى من حديث أبي ذر يرفعه:

"إن الله يحب الرجل يكون له الجار يؤذيه جواره؛ فيصبرُ على أذاه حتى يُفَرِّق بينهما الموتُ أو ظَعْنٌ".

خرجه الإمام أحمد

(2)

.

= عن أصبغ بن زيد الجهني عن أبي بشر: جعفر بن أبي وحشية، عن أبي الزاهرية: حدير بن كريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى، وبرئ الله تعالى منه، وأيُّمَا أهل عرصة أصبح منهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى".

والعرصة: الساحة والحي، والمجمَّع السكنى، والنجع، والقرية

إلخ.

وأخرجه الحاكم في المستدرك 11/ 2 - 12 من طريق أبي بكر بن إسحاق الفقيه، عن محمد بن أيوب، عن عمرو بن الحصين العقيلي، عن أصبغ بن زيد الجهني، عن أبي الزاهرية به بلفظ المسند وسكت عنه وقال الذهبي: عمرو تركوه وأصبغ فيه لين.

فالحديث من طريق أحمد صحيح وإن ضعفه الهيثمي بأبي بشر في المجمع 4/ 100 لكن طريق الحاكم ضعيف جدًّا؛ فالعجب من ابن رجب حين قل: وصحيح الحاكم!؟

(1)

في ر، ظ:"للجار".

(2)

أخرجه أحمد في المسند 5/ 151 (الحلبي) من طريق أبي العلاء بن الشخير عن ابن الأحمس قال: لقيت أَبا ذر، فقلت بلغني عنك أنك تحدث حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما إنه لا تخالني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعته منه؟ فما الذي بلغك عنى؟ قلت: بلغني أنك تقول: ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يشنؤهم الله عز وجل؟ قال: قلت: وسمعته قلت: فمن هؤلاء الذين يحبُّ الله عز وجل؟ قَالَ: الرجل يلقى العدو في الفئة، فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سُراهم، حتى يحبوا أن يمسوا الأرض، فينزلون فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه جواره فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن. قلت: ومن هؤلاء الذين يشنؤهم الله؟ قال: التاجر=

ص: 391

• وفي مراسيل أَبي عبد الرحمن الحُبلي أَن رجلًا جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه جاره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كُفَّ أذاك عنه، واصبر لأذاه؛ فكفى بالموت مُفَرِّقًا".

خرجه ابن أبي الدنيا

(1)

.

[إكرام الضيف من الإِيمان].

الثالث مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين: إكرام الضيف، والمراد إحسان ضيافته. وفي الصحيحين

(2)

من حديث أبي شريح رضي الله عنه قال: أَبصرت عيناي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وسمعته أذناي حين تكلم به قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته". قالوا: وما جائزته؟ قال: "يوم وليلة" قال: "والضيافة ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة".

[مدة الضيافة والجائزة].

• وخرج مسلم من حديث أبي شُرَيْح أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، وما أنفق عليه بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أَن يَثْوِي

(3)

عنده حتى يُؤثمه

(4)

قالوا: يا رسول الله! كيف يؤتمه؟ قال: "يقيم عنده ولا شيء له

= الحلاف، أو قال: البائع الحلاف. والبخيل المنان، والفقير المحتال.

وقد أورده الهيثمي في المجمع 8/ 170 - 171 عن الطبراني وأحمد من وجهين وقال: إسناد الطبراني وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح.

(1)

في مكارم الأخلاق ص 81 - 82 ح 327 من طريق رشدين بن سعد، عن أبي هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الحبلي

فإسناده ضعيف برشدين.

(2)

قال في النهاية 1/ 314 تعليقًا على حديث: "الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة، وما زاد فهو صدقة" أي يضاف ثلاثة أيام فيتكلف له في اليوم الأول مما اتسع له من بر وإلطاف، ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما حضره، ولا يزيد على عادته، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة، ويسمى الجيزة: وهي قدر ما يجوز به المسافر من منها إلى منهل، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ومعروف، إن شاء فعل، وإن شاء ترك.

وإنما كره له المقام بعد ذلك لئلا تضيق به إقامته، فتكون الصدقة على وجه المن والأذى ا. هـ.

وحديث أبي شريح أخرجه البخاري في كتاب الأدب: باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره 10/ 445، وباب حق الضيف 10/ 531 وفي كتاب الرقاق: باب حفظ اللسان 11/ 308.

ومسلم في كتاب اللقطة: باب الضيافة ونحوها 3/ 1352 - 1353.

(3)

ثوى المكان، وثوى به يثوي ثواء (بضم التاء) وأثوى به أطال الإقامة به أو نزل به. راجع القاموس 4/ 310.

(4)

يُؤثمه: يوقعه في الإِثم. قال النووي في شرحه لمسلم 31/ 12: معناه: لا يحل للضيف أن يقيم عنده بعد الثلاث حتى يوقعه في الإِثم (أي إلى أن يوقعه في الإِثم) لأنه (المضيف) قد يغتابه لطول مقامه، أو يعرض له بما يؤذيه، أو يظن به ما لا يجوز، وقد قال تعالى:{اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم} وهذا كله محمول على ما إذا أقام بعد الثلاث من غير استدعاء من المضيف .. إلخ.

ص: 392

يَقْريه به

(1)

".

• وخرج الإِمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه - قالها ثلاثًا - قالوا: وما كرامة

(2)

الضيف؟ يا رسول الله! قال: ثلاثة أيام، فما حبس

(3)

بعد ذلك فهو صدقة"

(4)

.

ففي هذه الأحاديث أن جائزة الضيف يوم وليلة، وأَن الضيافة ثلاثة أيام، ففرّق بين الجائزة والضيافة، وأكد

(5)

الجائزة. وقد ورد في تأكيدها أحاديث أخر.

* * *

• فخرج أبو داود

(6)

من حديث المقدام بن مَعْدِيكَرِبِ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ليلة الضيف حق على كل مسلم؛ فمن أَصبح بفنائه فهو عليه دَيْنٌ إن شاءَ اقتضى، وإن شاء ترك".

* * *

• وخرجه ابن ماجه

(7)

ولفظه: ليلة الضيف حق على كل مسلم.

[متى يستحق الضيف قِراه وعلى من؟]:

• وخرج الإمام أحمد وأبو داود

(8)

من حديث المقدام أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما رجلٍ أضاف قومًا فأَصبح محرومًا إن نصْره حقٌّ على كُل مسْلم حتى يأخذَ بِقِرَى ليلة من زرعه وماله".

(1)

أخرجه مسلم في الباب المذكور 3/ 1353. والقِرى: الكرم.

(2)

في م: "إكرام".

(3)

في الترغيب والترهيب "فما زاد".

(4)

أورده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 371 وقال: رواه أحمد مطولًا ومختصرًا بأسانيد أحدها صحيح، والبزار وأبو يعلى. وهو عند أحمد في المسند 3/ 76 الحلَبِي وعنده:"فما جلس بعد ذلك فهو عليه صدقة".

(5)

في م: "وكذا الجائزة قد" وفيه تحريف واضح. ر: "وقد روى في تأكدها".

(6)

في كتاب الأطعمة: باب ما جاء في الضيافة 4/ 129 باللفظ المذكور.

(7)

في كتاب الأدب: باب حق الضيف 2/ 1212 بلفظ غير ما ذكره ابن رجب فرواية ابن ماجه: "ليلة الضيف واجبة فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه، فإن شاء اقتضى

".

(8)

أخرجه أبو داود في الموضع السابق، وأحمد في المسند 4/ 131، 133 (الحلبي).

ص: 393

وفي الصحيحين

(1)

عن عقبة بن عامر، قال: قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يَقْروننا فما ترى [فيه؟] فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن نزلتم بقوم فأَمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا. فإن لم يفعلوا خذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم".

* * *

• وخرج الإمام أَحمد والحاكم من حديث أَبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيما ضيفٍ نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا؛ فله أن يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِراه ولا حرَجَ عليه"

(2)

.

* * *

[التشديد على من لم يكرم ضيفه]:

• وقال عبد الله بن عمرو: "من لها يضيِّف فليس من محمد صلى الله عليه وسلم ولا من إبراهيم عليه السلام".

• وقال عبد الله بن الحارث بن جَزْء

(3)

: "من لم يكرم ضيفه فليس من محمد صلى الله عليه وسلم ولا من إبراهيم عليه السلام".

[للضيف أن يطالب بحقه وأَن يقاضي من لم يكرمه]:

• وقال أبو هريرة لقوم نزل عليهم فاستضافهم فلم يُضَيِّفوه، فتنحى ونزل فدعاهم إلى طعام فلم يُجيبُوه، فقال لهم: لا تُنْزلون الضيف، ولا تجيبون الدعوة، ما أنتم من

(1)

البخاري في كتاب المظالم: باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه 5/ 407 - 108 وفي كتاب الأدب: باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه 10/ 532 وهذا لفظه.

ومسلم في كتاب اللقطة: باب الضيافة ونحوها 3/ 1353.

(2)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8 - 175 عن أحمد في المسند وذكر أن رواته ثقات.

وهو عند أحمد في المسند 2/ 380 (الحلبي) بهذا اللفظ. وفي المطبوع من تلخيص المستدرك 4/ 132 وعقب عليه الذهبي بقوله: صحيح ولم يذكر في المستدرك.

(3)

في المطبوعة: حزم وهو تحريف، فهو عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله بن معديكرب الزبيدي شهد فتح مصر وهو كبير السن، واختط بها قرية "صفط تراب" من أعمال مركز المحلة الكبرى، قال ابن منده: وهو آخر من مات من الصحابة بمصر توفي سنة 86 وقيل: 88.

وله ترجمة في طبقات ابن سعد 7/ 2 / 191 ط ل. و 7/ 497 ط ب، والجرح والتعديل 2/ 302. والإِصابة 4/ 50 - 51، وتهذيب التهذيب 5/ 178 - 179.

ص: 394

الإسلام على شيء؟ فعرفه رجل منهما فقال له: انزل عافاك الله. قال: هذا شرٌّ وشرٌّ، لا تُنْزلون إلا من تعرفون؟! .. ".

وروى عن أبي الدَّرْدَاءِ نحو هذه القصة إلا أَنه قال لهم: "ما أَنتم من الدِّين إلا على مثل هذه" وأَشار إلى هُدْبة

(1)

في ثوبه.

* * *

[علام تدل هذه النصوص؟]:

وهذه النصوص تدل على وجوب الضيافة يومًا وليلة، وهو قول الليث وأَحمد.

• وقال أحمد: له المطالبة بذلك إذا منعه؛ لأنه حق له واجب، وهل يأخذ بيده من ماله إذا منعه أو يرفعه إلى الحا كم؟ على راويتين منصوصتين عنه.

* * *

[مدة الضيافة المشروعة وحقها]:

• وقال حميد بن زَنْجَويْه: ليلة الضيف واجبة، وليس له أن يأخذ قراه منهم قهرًا إلا أن يكون مسافرًا في مصالح المسلمين العامة، دون مصلحة نفسه.

• وقال الليث بن سعد: لو نزل الضيف بالعبد أضافه من المال الذي بيده، وللضيف أن يأكل وإن لم يعلم أن سيده أذن له؛ لأن الضيافة واجبة.

وهو قياس قول أحمد؛ لأنه نصَّ على أَنه يجوز إجابة دعوة العبد المأْذون له في التجارة.

* * *

وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم أَجابوا دعوة الملوك.

• وروي ذلك عن النبي

(2)

صلى الله عليه وسلم أيضًا: فإذا جاز له أن يدعو الناس إلى طعامه

(1)

هدبة الثوب: طرفه. أراد أنهم من الدين على حرف يسير.

(2)

أخلاق النبي ص 62.

وقد روي عن أنس بن مالك قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة والنضير على حمار مخطوم .. الحديث.

أخرجه الترمذي في الشمائل 2/ 164. وأخرجه في جامعه: كتاب الجنائز 3/ 337 وعقب عليه بقوله: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم الأعور عن أنس، ومسلم هذا يضعف وقد تكلم فيه.

وأخرجه ابن ماجه عن أنس من طريق مسلم هذا في كتاب التجارات: باب ما للعبد أن يعطي ويتصدق 2/ 770 مقتصرًا على قوله (كان يجيب دعوة المملوك) وفي كتاب الزهد: باب البراءة من الكبر والتواضع 2/ 1398 بتمامه.

ص: 395

ابتداء

(1)

وجاز إجابة دعوته، فإضافته لمن نزل به أَولى.

• ومنع مالك والشافعي وغيرهما من دعوة العبد المأْذون له بدون إذن سيده.

* * *

[ضيافة الغزاة]:

ونقل عليُّ بن سعيد عن أحمد ما يدل على وجوب الضيافة للغزاة خاصة بمن مرُّوا بهما ثلاثة أيام. والمشهور عنه الأوّل، وهو وجوبها لكل ضيف نزل بقوم.

* * *

[وعلى من تجب ولمن؟ وما هي أقوال العلماء في مدتها؟]:

واختلف قولُه: هل تجب على أهل الأمصار والمرى، أم تختص أهل القرى ومن كان على طريق يمر بهم المسافرون؟ على روايتين منصوصتين عنه.

والمنصوص عنه أنه تحب للمسلم والكافر.

وخص كثير من أَصحابه الوجوب للمسلم كما لا تجب نفقة الأقارب مع اختلاف الدِّين على إحدى الروايتين عنه. وأما اليومان الآخران وهما: الثاني والثالث فهما تمام الضيافة.

* * *

والمنصوص عن أَحمد أَنه لا يجب إلا الجائزة الأولى وقال: قد فُرِّق ينن الجائزِة والضيافة، والجائزة أَوكد.

* * *

ومن أَصحابنا مَنْ أَوجب الضيافة ثلاثة أَيام، منهم: أَبو بكر بن عبد العزيز، وابن أبي موسى، والآمدي.

وما بعد الثلاث فهو صدقة. وظن بعض الناسِ أن الضيافة ثلاثة أيام بعد اليوم والليلة الأولى. ورده أَحمد بقوله صلى الله عليه وسلم: "الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة" ولو كان كما ظن هذا لكانت أربعة.

قلت: ونظير هذا قوله تعالى:

(1)

ليست في المطبوعة.

ص: 396

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}

(1)

.

والمراد في تمام الأربعة.

وهذا الحديث الذي احتج به أحمد قد تقدم من حديث أبي شريح

(2)

وخرجه البخاري من حديث أبي هريرة

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن - قرى ضيفه": قيل: يا رسول الله! وما قِرى الضيف؟ قال: "ثلاثة فما كان بعدُ فهو صدقة

(4)

".

* * *

[كيف يكون الإِكرام؟ وما مداه؟]:

قال حميد بن زنجويه

(5)

: عليه أَن يتكلف له في اليوم والليلة من الطعام أَطيب ما يأْكله هو وعياله، وفي تمام الثلاث يطعمهم من طعامه وفي هذا نظر.

وسنذكر حديث سلمان

(6)

بالنهي عن التكلف للضيف.

ونقل أَشهب عن مالك قال: جائزته يوم وليلة، يكرمه ويتحفه ويخصه يومًا وليلة وثلاثة أيام ضيافة.

وكان ابن عمر يمتنع من الأكل من مال من نزل عليه فوق ثلاثة أيام، ويأمر أن يُنفَق عليه من ماله.

ولصاحب المنزل أن يأْمر الضيف بالتحول عنه بعد الثلاث؛ لأنه قضى ما عليه، وفعل ذلك الإمام أحمد رحمه الله.

* * *

(1)

سورة فصلت: 9، 10.

(2)

تقدم ص 361 - 362.

(3)

الذي أخرجه عن أبي هريرة بهذا اللفظ هو الخرائطي في مكارم الأخلاق 1/ 314 - ح 299 بإسناد حسن.

(4)

في بداية تخريج هذا الحديث أوردنا روايات البخاري له من حديث أبي هريرة وليس منها نص هذه الرواية.

(5)

في المطبوعة: "جندب بن رواحة" وهو خلاف ما في الأصول الخطية، وهو حميد بن مخلد بن قتيبة بن عبد الله الأزدي أبو أحمد بن زنجويه النسائي الحافظ روى عن النضر بن شميل، ويزيد بن هارون، وسعيد بن أبي مريم، وعلي بن المديني وغيرهم. وروى عنه أبو داود والنسائي وأبو زرعة، والبخاري ومسلم في غير الصحيحين. وثقه النسائي وابن حبان والخطيب، وذكر أنه كثر الحديث، قديم الرحلة. توفي سنة 247 على خلاف وترجمته في تهذيب التهذيب 3/ 48 - 49. وتهذيب الكمال 7/ 366 - 372.

(6)

في المطبوعة، ر "سليمان" وهو خطأ، فهو يشير إلى حديث سلمان الفارسي الآتي في الصحيفة التالية.

ص: 397

[النهي عن الإقامة المحرجة]:

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه"، يعني يقيم عنده حتى يضيق عليه لكن هل هذا في الأيام الثلاثة أم فيما زاد عليها؟.

فأما فيما ليس بواجب فلا شك في تحريمه.

وأما فيما هو واجب - وهو اليوم والليلة - فينبني على أنه هل تجب الضيافة على مَنْ لا يجد شيئًا أم لا تحب إلا على من وجد ما يُضيِّف به؟.

فإن قيل

(1)

لا تجب إلا على من يجد ما يُضَيّف به، وهو قول طائفة من أهل الحديث، منهم، حُميد بن زنجويه، لم يَحِلّ للمضَيِّف

(2)

أن يستضيف من هو عاجز عن ضيافته.

* * *

[النهي عن التكلف للضيف]:

وقد روي من حديث سلمان قال:

نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلّف للضيف ما ليس عندنا

(3)

.

فإذا نُهِي المضيف أَن يتكلف للضيف ما ليس عنده، دل على أَنه لا تجب عليه المواساة للضيف إلا بما عندهُ، فإذا لم يكن عندد فضل لم يلزمه شيء.

* * *

[فضل إيثار الضيف]:

وأما إذا آثر على نفسه كما فعل الأنصاري الذي نزل فيه:

(1)

ب: "والأظهر أنها وهي مضروب عليها في ل".

(2)

ل، ر، ط "للضيف".

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 123 من طريقين عن سلمان. أحدهما صحيح والآخر في سنده لين كما ذكر الذهبي.

وأورده الهيثمى في محمع الزوائد 8/ 179 من طرق عن الطبراني في الكبير والأوسط وأحمد، وقال: أحد أسانيد الكبير رجاله رجال الصحيح.

وقد روى أحمد في المسند 5/ 441 (الحلبي) أن سلمان رضي الله عنه دخل عليه رجل فدعا له بما كان عنده فقال: "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أو لولا أنا نهينا أن يتكلف أحدنا لصاحبه لتكلفنا لك".

ص: 398

{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}

(1)

.

فذلك مقام فضل وإحسان، وليس بواجب.

ولو علم الضيف أنهم لا يضيِّفونه إلا بقوتهم وقوت صبيانهم، وأن الصبية يَتأَذُّون بذلك، لم يَجُز له استضافتهم حينئذٍ، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل له أن يُقِيم عنده حتّى يُحْرجَه"

(2)

.

[على من تجب الضيافة؟]:

• وأيضًا فالضيافة نفقة واجبة، ولا تجب إلا على مَن عنده فضل عن قُوته، وقُوت عياله، كنفقة الأقارب، وزكاة الفطر.

• وقد أَنكر الخطابي تفسير تَأَثُّمه بأن يقيم عنده ولا شيء له يَقْريه به، وقال: أراه غلطًا. وكيف يأَثم في ذلك وهو لا يتسع لقِراه، ولا يجد سبيلًا إليه؟ وإنما الكُلْفة على قدر الطاقة. قال: وإنما وجه الحديث أنه كُره له المقام عنده بعد ثلاث؛ لئلا يضيق صدره بمكانه، فتكونَ الصدقة منه على وجه المنِّ والأذى؛ فيبطل أجره.

وهذا الذي قاله: فيه نظر؛ فإنه قد صح تفسيره في الحديث بما أنكره. وإنما وجهه إنه إذا أقام عنده ولا شيء له يَقْريه به

(3)

فربما دعاه ضيقُ صدره به وحَرَجُه إلى ما يأْثم به في قول أو فعل. وليس المراد أنه يأْثم بترك قِراه مع عجزه عنه. والله أعلم.

* * *

(1)

سورة الحشر: 9 وانظر أسباب نزول القرآن للواحدي 445 - 446. وهامشه.

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة: باب ما جاء في الضيافة كم هو 4/ 345 من حديث أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، وما أنفق بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل أن يثوي عنده حتى يحرجه" وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن صحيح وأبو شريح الخزاعي هو الكعبي وهو العدوي اسمه: خويلد بن عمرو ومعنى قوله: لا يثوي عنده يعني لا يقيم عنده حتى يشتد على صاحب المنزل والحرج هو الضيق، إنما قوله "حتى يحرجه" يقول: حتى يضيق عليه.

وهذا يلتقي مع تفسير ابن رجب لمعنى الحديث ردًّا على الخطابي.

وهو عند البخاري 10/ 548، ومسلم 3/ 1352 - 1353.

(3)

ليست في ب.

ص: 399

‌الحديث السادس عشر

عَنْ أَبي هُرَيْرَهَّ رَضيَ الله (تَعَالَى) عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قالَ للنَّبي صلى الله عليه وسلم:

أَوْصِني. قالَ: "لا تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مرارًا، قال:"لَا تَغْضَبْ". رَواهُ الْبُخَاريُّ

(1)

.

[تخريج الحديث]:

* هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي حَصِين الأسدي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، ولم يخرّجه مسلم؛ لأن الأَعمش رواه عن أَبي صالح، واختُلف عليه في إسناده؛ فقيل: عنه، عنِ أبي صالح عن أَبي هريرة، كقول أبي حَصِين، وقيل: عنه، عن أَبي صالح، عن أبي سعيد الخدري. وعند يحيى بن معين أَن هذا هو الصحيح. وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أَبي هريرة وأبي سعيد. وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أَبي هريرة أو جابر. وقيل عنه، عن أبي صالح، عن رجل من الصحابة غيرِ مسمى.

* وخرج الترمذي هذا الحديث من طريق أبي حَصين أَيضًا ولفظه: "جاءَ رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! عَلِّمْني شيئًا ولا تُكثر عليّ لعلِّي أَعِيه. قال: "لا تغضب". فردّد ذلك مرارًا. كلّ ذلك يقول: "لا تغضب"

(2)

.

* وفي رواية أُخرى لغير الترمذي، قال: قلت: يا رسول الله! دُلَّني على عمل يُدخِلني الجنة ولا تُكْثر عليّ. قال: "لا تغضب"

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب: باب الحذر من الغضب 10/ 519 بهذا اللفظ.

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة: باب ما جاء في كثرة الغضب 4/ 371.

وعنده: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: علمني شيئًا .... وعقب عليه بقوله: "وفي الباب عن أَبي سعيد، سليمان بن صرد. وهذا حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وأَبو حصين: اسمه عثمان بن عاصم الأسدي.

(3)

أورد الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 70 عن أَبي صالح، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رسول الله! علمني عملًا يدخلني الجنة ولا تكثر علي، قال:"لا تغضب".

ثم قال: رواه أبو يعلى من رواية صالح، عن الأعمش. ولم أَعرف صالحًا هذا. وأورده عقب هذه الرواية، عن أبي الدرداء، قال: قلت: يا رسول الله! دُلني على عمل يدخلني الجنة

الحديث. وعقب الهيثمي بقوله: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وأحد إسنادي الكبير رجاله ثقات.

ص: 401

[طلبَ الرجل وصيةً جامعة]:

* فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُوصِيَه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير ليحفظها عنه؛ خشية أَن لا يحفظها لكثرتها، فوصاه النبي صلى الله عليه وسلم أَن لا يغضب، ثم ردّد هذه المسأَلة عليه مرارًا والنبي صلى الله عليه وسلم يردِّد عليه هذا الجواب.

* فهذا يدل على أَن الغضب جِمَاعُ الشر، وأَن التحرّز منه جماع الخير.

[من السائل؟]:

ولعل هذا الرجل الذي سأَل النبي صلى الله عليه وسلم هو أَبو الدرداء.

فقد خرج الطبراني من حديث أَبي الدرداءِ قال: قُلت: يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: " لا تغضب ولك الجنة"

(1)

.

* وقد روى الأحنف بن قيس عن عمه جَاريَة

(2)

بن قدامة: أن رجلًا قال: يا رسول الله! قل لي قولًا وأَقلل عليّ لعلي أعقله. قال: "لا تغضب" فأَعاده عليه مرارًا.

كلُ ذلك يقول: "لا تغضب".

* خرجه الإِمام أَحمد

(3)

.

* وفي رواية له أن جَارية بن قدامة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم. فذكره.

* فهذا يغلب على الظن أَن السائل هو جارية بن قدامة، ولكن ذكر الإمام أحمد

(1)

راجع أيضًا: الترغيب والترهيب 3/ 446 فقد أورده المنذري عن الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح.

(2)

في المطبوعة: "حارثة بنُ قدَامة" وهو تحريف، فهو جارية بن قدامة بن زهير بن الحصين التميمي السعدي أبو أيوب، وقيل: أبو قدامة، وقيل: أبو يزيد البصري.

مختلف في صحبته؛ قال ابن حجر: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث: "لا تغضب" وروى عن علي، وشهد معه صفين. روى عنه الأحنف والحسن البصري.

قيل: إنه عم الأحنف بن قيس. وقال الطبراني: ليس بعم الأحنف أخي أبيه، ولكنه كان يدعوه على سبيل الإعظام له.

ذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: تابعي ثقة، وقال ابن حجر: بل صحابي ثابت الصحبة. مات في ولاية يزيد بن معاوية، وترجمته في التهذيب 3/ 54 - 55.

(3)

أخرجه أحمد في المسند 34/ 5 (الحلبي) بهذا الوجه، وبالوجه الثاني الذي سيشير إليه ابن رجب. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 69 عن الطبراني في الكبير والأوسط وعن أحمد في المسند ثم قال: ورجال أحمد رجال الصحيح. وهو في المسند 3/ 484 كالوجه الأول.

وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 277 عن ابن حبان في صحيحه أيضًا، وقال: رواة أحمد رواة الصحيح.

ص: 402

عن يحيى القطان: أَنه قال: هكذا قال هشام. يعني: أن هشامًا ذكر في الحديث أن جاريهّ سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال يحيى: وهم يقولون: إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قال العجلي وغيره:"إنه تابعي وليس بصحابى"

(1)

.

* وخرج الإمام أحمد من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله أَوصني. قال: "لا تغضب". قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال؛ فإذا الغضبُ يَجْمَعُ الشَّر كلَّه

(2)

.

* ورواه مالك في الموَّطأ عن الزهري، عن حُميد مرسلًا

(3)

.

* وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو أَنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل؟ قال: "لا تغضب"

(4)

.

[الغضب جماع الشر]:

* وقول الصحابي: " ففكرت فيما قال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الغضب يجمع الشر كله": يشهد لما ذكرناه: أن الغضب جماع الشر كله

(5)

.

* قال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر.

* وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حُسْن الخلق في كلمة؟ قال: "تَرْك الغضب".

* وكذا فسر الإمام أَحمد وِإسحاق بن راهويه حصن الخلق بترك الغضب.

(1)

تقدم قريبًا رد ابن حجر على هذا في الصحيفة السابقة. لكن انظر المسند 3/ 484؛ ففيه ما ينافيه.

(2)

أخرجه أحمد في المسند 5/ 373 (الحلبي).

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 69/ 8 عن أحمد، وذكر أن رجاله رجال الصحيح.

وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 277 عن أحمد، وقال: رواته محتج بهم في الصحيح.

(3)

في كتاب حسن الخلق: باب ما جاء، في الغضب 2/ 905 - 906.

(4)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 69 عن أحمد في المسند وقال: فيه ابن لهيعة، وهو لين الحديث، وبقية رجاله ثقات.

وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 277 عن أحمد وابن حبان في صحيحه، ولم يضعف الحديث بابن لهيعة.

وهو عند ابن حبان من طريق أبي يعلى الموصلي، عن أحمد بن عيسى المصري، عن ابن وهب، عن عمرو ابن الحارث، عن دراج، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله! ما يمنعني من غضب الله؟ قال: "لا تغضب".

الإحسان 2/ 257.

(5)

ليست في ب.

ص: 403

وقد روي ذلك مرفوعًا؛ خرجه محمد بن نصر المروزي، في كتاب الصلاة من حديث أَبي العلاءِ بن الشِّخِّير

(1)

:

أَن رجلًا أَتى النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَل وجهه فقال: يا رسول الله! أَيُّ العمل أَفضل؟ فقال: "حسنُ الخلق" ثم أتاه عن يمينه فقال يا رسول الله! أَيُّ العمل أفضل؟ فقال: "حسن الخلق "، ثم أتاه عن شِمَالِه فقال: يا رسول الله! أَيُّ العمل أَفضل؟ قال: "حُسْنُ الخلق". ثم أَتاه من بعده - يعني من خلفه - فقال: يا رسول الله أي العمل أَفضل؟ فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"مالك لا تفقه؟ حُسُن الخلق هو أن لا تغضب إن استطعت".

وهذا مرسل.

[معنى قوله لا تغضب]:

* فقوله صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه: "لا تغضب" يحتمل أَمرين:

* أَحدهما: أَن يكون مرادُه الأَمرَ بالأَسباب التي توجب حسنَ الخلق، من الكرم والسخاء، والحلم، والحياء، والتواضع، والاحتمال، وكف الأَذى، والصفح، والعفو، وكظم الغيظ، وِالطلاقة، والبشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإن النَّفْسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة، أَوجبت لها ذلك دفع الغضب عند حصول أَسبابه.

* والثاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأْمر به؛ فإن الغضب إذا ملك ابنَ

(2)

آدم كان كالآمِر الناهي له؛ ولهذا المعنى قال الله عز وجل: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}

(3)

فإِذا لم يمتثل الإنسان ما يأْمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك اندفع عنه شر الغضب، وربما سكنَ غضبه، وذهب عاجلًا، وكأَنه حينئذ لم يغضب!.

(1)

2/ 864 - 865 ح 878 عن حميد بن مسعدة (صدوق) عن بشر بن المفضل (ثقة ثبت) عن سعيد بن إياس الجريري (ثقة اختلط بأخرة) عن أبي العلاء: يزيد بن عبد الله بن الشخير (تابعي ثقة) كما في التقريب 1/ 101، 203، 291 و 21/ 367.

(2)

في المطبوعة: "ملك شيئًا من بني آدم".

(3)

سورة الأعراف: 154.

ص: 404

[الدليل على ذلك].

* وإِلى هذا المعنى وقعت الإشارة في القرآن بقوله عز وجل: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} .

(1)

وبقوله عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

(2)

.

[السنة في علاج الغضب]:

* وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأْمر من غضب بتعاطي أَسباب تدفع عنه الغضب وتُسَكِّنُهُ، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه؛ ففي الصحيحين عن سليمان بن صُرَد قال:

استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جُلوس، وأحدهما يَسُبُّ صاحبه مغْضَبًا قد احمرَّ وجهُه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني لأَعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجِد؛ لو قال: أَعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقالوا للرجل: أَلا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لست بمَجْنون

(3)

.

* وخرج الإِمام أَحمد والترمذي من حديث أَبي سعيد الخدري أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:

"أَلا إن الغضَبَ جمرةٌ في قلب ابن آدم، أَفما رأيتم إلى حُمْرةِ عينيه، وانتفاخ أوداجِه؟ فمن أَحَسَّ من ذلك شيئًا فليلْزقْ بالأَرض"

(4)

.

(1)

سورة الشورى: 37.

(2)

سورة آل عمران: 134.

(3)

هذا جواب غريب لا يصدر عن مؤمن أو سديد التفكير، وقد قال ابن حجر في الفتح: أخلق بهذا المأمور أن يكون كافرا أو منافقًا، أو كان غلبه الغضب حتى أخرجه عن حد الاعتدال، بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السيئ؟!.

وقيل: إِنه كان من جفاة الأعراب، وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، اهـ. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب: باب ما ينهى عنه من السباب واللعن 10/ 389 ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، وبأي شيء يذهب الغضب 54/ 201. وطرفا حديث البخاري 3282، 6115.

(4)

أورده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 269 عن الترمذي أيضًا من حديث طويل وذكر قول الترمذي: هذا حديث حسن، وهو في مسند أحمد 3/ 19، 61 جزء حديث.

ص: 405

وخرج الإِمام أحمد وأَبو داود من حديث أَبي ذر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإِن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضْطَجع"

(1)

.

* وقد قيل: إن المعنى في هذا: أَن القائم متهيِّئٌ للانتقام، والجالس دونه في ذلك، والمضطجع أَبعد عنه؛ فأمره بالتباعد عن حالة الانتقام.

* ويشهد لذلك أنه روى من حديث سنان بن سعد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حديث الحسن مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم:"فإن الغضب جمرة في قلب الإنسان تُوقد، ألا ترى إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فإذا أحسَّ أحدكم من ذلك شيئًا فلْيجلس ولا يَعْدُوَنَّه الغَضَب".

* والمراد أَنه يحبسه في نفسه ولا يعدِّيه إِلى غيره بالأَذى بالفعل.

* ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن:

"إن المضطجع فيها خيرٌ من القاعد، والقاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي"

(2)

.

وإن كان هذا على وجه ضرب المثال في الإسراع في الفتن، إِلا أَن المعنى: أَن من كان أَقرب إِلى الإِسراع فيها، فهو شر ممن كان أبعدَ عن ذلك.

* وخرج الإِمام أَحمد

(3)

من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا غضبَ أَحَدُكم فليسكتَ؛ قالها ثلاثًا".

* وهذا أيضًا دواءٌ عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يَصْدُرُ منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرًا، من السباب وغيري مما يَعظُم ضرره، فإِذا سكت زال هذا الشر كله عنه.

(1)

أخرجه أبو دارد في كتاب الأدب: باب ما يقال عند الغضب 2/ 549 وأحمد في المسند 5/ 152. وهو في صحيح سن أبي داود 3/ 908 ح 4000 - 4782.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة: باب نزول الفتن كمواقع القطر 4/ 2212 من حديث أبي هريرة ح 2886 ومن حديث أبي بكرة عقبه ح 2887.

(3)

في المسند 4/ 12، 191 (المعارف) والتكرار في الوضع الثاني، وقد ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر أن إسناده صحيح في كلا الموضعين. وفي مجمع الزوائد 8/ 73 أورده الهيثمي عن أحمد والطبراني وقال: رجال أحمد ثقات؛ لأن ليثا صرح بالسماع من طاووس.

ص: 406

[من الآثار في علاج الغضب]:

* وما أَحسن قولَ موَرِّق العجلي رحمه الله: "ما امتلأتُ غَيظًا قط، ولا تكلمتُ في غضبٍ قطُّ بما أَندمُ عليه إِذا رضيتُ".

وغضب يومًا عمر بن عبد العزيز فقال له ابنه عبد اللك، رحمهما الله:"أنت يا أمير المؤمنين! مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضب هذا الغضب؟ " فقال له: أَو ما تخضب يا عبد الملك؟ فقال عبد اللك: "وما يُغنْي عنِّي سَعَة جَوْفى إذا لم أرَدّد فيه الغضب حتى لا يظهر؟! ".

فهؤلاءِ قوم ملكوا أَنفسهم عند الغضب. رضي الله عنهم.

* وخرج الإمام أَحمد وأَبو داود منِ حديث عروة بن محمد السعدي أَنه كلَّمه رجل فأَغضبه، فقام فتوضأَ، ثم قال: حدثني أبي، عن جدي عطية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن الغضب من الشيطان، وإن الشَّيْطَانَ خُلِق من النار، وإِنما تُطْفأُ النار بالماء، فإِذا غَضِب أَحدكم فليتوضأْ"

(1)

.

* وروى أَبو نعيم بإسناده عن أَبي مسلم الخولاني أَنه كلَّم معاوية بشيء وهو على المنبر فغضب ثم نزل فاغتسل ثم عاد إلى المنبر وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"إن الغضَب من الشيطانِ والشيطان من النار، والماءُ يطفئُ النار، فإِذا غضبَ أَحدُكم فَلْيغتسلْ

(2)

".

* وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الشديد بالصُّرعَة إِنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب الأدب: باب ما يقال عند الغضب 5/ 141 وأحمد في المسند 4/ 226 الحلبي وقال المناوي في التيسير 1/ 297 "وسكت عليه أبو داود فهو صالح" أقول: يعني صالح للاعتبار على ما رجحه الأثبات؛ لكن سكت عنه المنذري أيضًا، فهو حسن وانظر عون المعبود 13/ 98.

(2)

انظر أيضًا الضعيفة 2/ 51 ح 582 في هذه والتي قبلها، والحلية 2/ 130.

(3)

البخاري في كتاب الأدب: باب الحذر من الغضب 10/ 518، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب: باب فضل من يملك نفسه عند الغضب 4/ 2014.

ص: 407

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تعدُّون الصُّرَعَةَ فيكم؟ " قلنا: الذي لا تصرعه الرجال؟ قال: "ليس ذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"

(1)

.

* وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه

(2)

من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من كظم غيظًا وهو يستطيع أَن يُنْفِذَهُ دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حَتى يُخَيِّرَهُ في أَي الحور شاءَ".

* وخرج الإمام أَحمد

(3)

من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ما تجرَّع عبد جُرْعةً أفضلَ عند الله [عز وجل] من جُرْعةِ غيظ يكظمها ابتغاءَ وجه الله تعالى".

* ومن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ما من جرْعَةٍ أَحبَّ إِلى الله من جُرْعَةِ غيظ يَكْظِمُها عبد. ما كظم عبد لله إِلا ملأَ الله جوفه إِيمانًا"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في الموضع نفسه من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الرقوب فيكم؟ قال: قلنا: الذي لا يولد له؟ قال: "ليس ذلك بالرقوب ولكنه الرجل الذي لبم يقدم من ولده شيئًا. قال: فما تعدون الصرعة؟

" الحديث.

(2)

مسند أحمد 3/ 440 (الحلبي). وصحيح سنن داود ح 3997 وهو فيه حسن.

وسنن أبي داود في كتاب الأدب: باب من كظم غيظًا 5/ 137 - 138.

وسنن الترمذي: كتاب البر والصلة: باب في كظم الغيظ 4/ 372 بهذا اللفظ وقال: حديث حسن غريب.

وسنن ابن ماجه في كتاب الزهد: باب الحلم 2/ 1400. وصحيحه ح 3375 وهو فيه حسن.

(3)

أخرجه أحمد في المسند 8/ 235 - 236 (المعارف) من طريق علي بن عاصم عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري عن ابن عمر، ومن طريق شجاع بن الوليد، عن عمر بن محمد، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه وقد ذكر محققه الشيخ شاكر أن إسناده صحيح من الوجهين.

(4)

أخرجه أحمد في المسند 5/ 9 - 10 (المعارف) من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أَنظر معسرًا أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة، ثلاثًا، ألا إن عمل النار سهل بشهوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا".

قال محققه: إسناده ضعيف.

لكن أورده ابن كثير في التفسير 4/ 405 - 406 وقال: انفرد به أحمد، وإسناده حسن، ليس فيه مجروح، ومتنه حسن.

ص: 408

* وخرج أَبو داود معناه

(1)

من رواية بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:"ملأَه الله أَمنًا وإِيمانًا".

[ملك اللسان واليد].

وقال ميمون بن مِهْرَان: جاءَ رجل إِلى سَلْمانَ فقال: يا أبا عبد الله! أوصني قال: لا تغضب. قال: أَمرتني أَن لا أَغضب، وإِنه ليَغْشاني مالا أَملِك؟! قال: فإِن غضبتَ فامْلِك لسانَك ويدَك.

خرجه ابن أَبي الدنيا

(2)

.

ومِلْكُ لسانه ويده هو الذي أَشار إِليه النبي صلى الله عليه وسلم بأَمره لمن غضب أَن يجلس، ويضطجع، وبأَمره له أَن يسكت.

[ملك النفس]:

* قال عمر بن عبد العزيز: "قد أَفلح من عُصِم من الهوى والغضب والطمع! ".

* وقال الحسن: " أَربعٌ من كُنَّ فيه عَصَمه الله من الشيطان وحرّمه على النار: مَن مَلك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب".

وهذه الأَربع التي ذكرها الحسن هي مبدأُ الشر كله.

فإِن الرغبة في الشيء هي: ميل النفس إِليه؛ لاعتقاد نفعه، فمن حصل له رغبة في شيء حَمَلته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يظنه موصلًا إليه، وقد يكون كثير منها محرمًا، وقد يكون ذلك الشيء المرغوب فيه محرمًا.

والرهبة: هي الخوف من الشيء، وإِذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكل طريق يظنه دافعًا له، وقد يكون كثير منها محرّمًا.

(1)

في السنن: كتاب الأدب: باب من كظم غيظًا 2/ 548 وفي إسناده مجهول لكن يقويه سابقه.

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (280 - 281) من طريق محمد بن عبد المجيد التيمي، عن أبي المليح، عن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان رضي الله عنه فقال: يا أبا عبد الله! أوصني؟ قال! لا تكلم! قال: ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم؟ قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو أسكت قال: زدني؟ قال: لا تغضب. قال: أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك؟ قال: فإن غضبت فاملك لسانك ويدك. قال: زدني؟ قال: لا تلابس الناس. قال: ما يستطع من عاش في الناس أن لا يلابسهم؟! قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث، وأدّ الأمانة". وقد اختصر ابن رجب أول الأثر وآخره.

ص: 409

والشهوة: هي ميل النفر إلى ما يلائمها وتتلذذ به، وقد تميل كثيرًا إلى ما هو محرم، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، بل وإلى الكفر، والسحر والنفاق، والبدع.

والغضب هو: غليان دم القلب طلبًا لدفع المؤْذِي عند خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممن حصل منه الأذى بعد وقوعه، وينشأُ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل، والضرب، وأنواع الظلم، والعدوان، وكثير من الأَقوال المحرمة، كالقذف، والسَّبّ، والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر، كما جرى لجَبَلَة بن الأَيْهَم

(1)

. وكالأَيْمان التي لا يجوز التزامها شرعًا، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندم.

[واجب المؤمن]:

* والواجب

(2)

على المؤمن أَن تكون شهوته مقصورة على طلب ما أباحه الله له

(3)

، وربما تناولها بنية صالحة؛ فأُثيب عليها، وأن يكون غضبه دفعًا للأَذى في الدين له أو لغيره

(4)

، وانتقامًا ممن عصى الله ورسوله كما قال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}

(5)

.

[والرسول هو الأسوة]:

* وهذه كانت حالَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذَا انتُهكت حرماتُ الله لم يقم لغضبه شيء.

ولم يضرب بيده خادمًا ولا امرأَة، إلا أن يُجَاهد في سبيل الله.

وخدمه أَنس عشر سنين، فما قال له أُفٍّ قط، ولا قال له لشيء فعلَه: لم فعلتَ كذا؟ ولا لشيء لم يفعلْه: أَلا فعلتَ كذا؟

(6)

.

(1)

هو جبلة بن الأيهم بن جبلة الغساني من آل جفنة: آخر ملوك الغساسنة أسلم وهاجر إلى المدينة ثم لطم رجلًا من مزينة وأبي القصاص كما حكم عمر وآثر الارتداد وفر إلى القسطنطينية إِلى أن توفي عام 20 هـ 641 راجع الأعلام 2/ 111 - 112 وهامشه.

(2)

ب: "فالواجب".

(3)

ليست في ب.

(4)

ا، ر، ظ:"له ولغيره".

(5)

سورة التوبة: 14، 15.

(6)

راجع في هذا ما أخرجه مسلم في كتاب الفضائل: باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا 4/ 1804 - 1805 والبخاري في الأدب: باب حسن الخلق 10/ 471.

وأبو داود في أول كتاب الأدب: باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم -2/ 547.

وأبو الشيخ في أخلاق النبي ص 21. وفيه الرواية التالية ص 37.

ص: 410

وفي رواية أَنه كان إذا لامه بعض أَهله قال صلى الله عليه وسلم: "دعوه فلو قضي شيء كان"

(1)

.

وفي رواية للطبراني قال أَنس: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشرَ سنين، فما دريت شيئًا قطُّ وافقه، ولا شيئًا خالفه، رضا من الله بما كان

(2)

.

[خلق الرسول]:

* وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خُلُقه القرآن"

(3)

.

(1)

هذه الفقرة ليست في ب وفي ر؟: "بشيء كان". وانظر للحديث الرواية التالية. والرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا ح 4 من رواية أنس؛ بإسناد رجاله ثقات.

(2)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 16 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما دريت شيئًا قط وافقه، ولا شيئًا قط خالفه رضى من الله بما كان وإن كان بعض أزواجه ليقول: لو فعلت كذا وكذا يقول: دعوه فإنه لا يكون إلا ما أراد الله عز وجل وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقم لنفسه من شيء إلا إن انتهكت لله حرمة، فإن انتهكت لله حرمة كان أشد الناس غضبا لله، وما عرض عليه أمران إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه سخط لله، فإن كان فيه لله سخط كان أبعد الناس منه". وقد عقب عليه بقوله: "في الصحيح بعضه" وهو يعني حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها "ما انتقم رسول الله لنفسه قط .. الحديث ثم أضاف: رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم.

(3)

السائل لعائشة رضي الله عنها صحابة كثيرون منهما:

1 -

يزيد بن بابنوس.

2 -

أبو الدرداء.

3 -

سعد بن هشام.

وحديث سعد بن هشام عند مسلم في الصحيح: كتاب صلاة المسافرين وقصرها. باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض 1/ 512 - 513 من طريق محمد بن المثنى العنزي، عن محمد بن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن زرارة أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله فقدم المدينة، فأراد أن يبيع عقارًا له بها فيجعله في السلاح والكراع [الخيل] ويجاهد الروم حتى يموت، فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة، فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة نبي الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال:"أليس لكم فيَّ أسوة؟ " فلما حدثوه بذلك راجع امرأته، وقد كان طلقها، وأشهد على رجعتها، فأتى ابن عباس، فسأله وعن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من؟ قال: عائشة! فأتها فاسألها. ثم أْتني فأخبرني بردها عليك. فانطلقت إليها، فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها (طلبت منه مرافقته إياي في الذهاب إليها) فقال: ما أنا بقاربها (لا أريد قربها) لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا (يقصد شيعة علي وأصحاب الجمل) فأبت فيهما إلا مضيا، قال: فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة، فاستأذنا عليها، فأذنت لنا، فدخلنا عليها، فقالت: أحكيم؟ (فعرفته) فقال: نعم، فقالت: مَنْ معك؟ قال: سعد في هشام. قالت: مَنْ هشام؟ قال: ابن عامر، فترحمت عليه، وقالت خيرًا (قال قتادة: وكان أصيب يوم أحد) فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت، ثم بدا لي فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ {يا أيها المزمل؟} قلت: بلى. قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في=

ص: 411

يعني

(1)

أنه كان يتأَدب بآدابه، ويتخلق لأخلاقه، فما مدحه القرآن كان فيه رضاه،

= أول هذه السورة فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، وأمسك الله خاتمتها (آخر آية في السورة) اثني عشرا شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة قال: قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنا نعدله سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أنْ يبعثَه مِنَ اللَّيل، فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه. ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه. ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد. فتلك إحدى عشرة ركعة، يا بُني. فلما سنَّ (وفي بعض الروايات: أسنّ وهو المشهور في اللغة) وأخذه اللحم (كثرة لحمه) أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع. يا بنيّ. وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهرًا كاملًا غير رمضان. قال: فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها فقال: صدقَت: لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني به قال: قلت: لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها.

قال القاضي عياض: هو على طريق العتب له في ترك الدخول عليها ومكافأته على ذلك بأن يحرمه الفائدة؛ حتى يضطر إلى الدخول عليها.

وحديث سعد بن هشام أخرجه مطولا بهذا السياق ومختصرًا أحمد في المسند 6/ 53 - 54، 91، 163، 216. الحلبي.

وأبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب صلاة الليل 2/ 87 - 88.

والنسائي في سننه: كتاب قيام الليل 3/ 199 - 201 والدارمي في سننه: كتاب الصلاة: باب صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم -1/ 410 - 411 ح 1475 باب 165.

والحاكم في المستدرك 2/ 499 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

وابن حبان في صحيحه 1/ 345، 467، من الإحسان.

والبيهقي في دلائل النبوة 1/ 308.

وحديث يزيد بن بابنوس أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 392 عن أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، عن قيس ابن أنيف، عن قتيبة بن سعيد عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة رضي الله عنها: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ثم قالت: تقرأ سورة المؤمنين؟ اقرأ قد أفلح المؤمنون حتى بلغ العشر فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي وأخرجه ابن كثير في التفسير 3/ 237 عن النَّسَائِي في تفسيره.

وانظر تحفة الأشراف 12/ 636 فقد عزاه المزي للنسائي في التفسير في السنن الكبرى.

وهو في كتاب التفسير من الكبرى: سورة المؤمنون 6/ 412 ح 1/ 11350 عن قتيبة - به.

وقد أخرجه البيهقي في الدلائل 1/ 309.

أما حديث أبي الدرداء فقد رواه البيهقي في الدلائل 1/ 309 - 310 من رواية الحسن بن يحيى، عن زيد بن واقد، عن بسر بن عبيد الله بن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال سَألتُ عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه".

وهي الرواية التي سيشير إليها ابن رجب عقب هذه.

(1)

ب، ر:"تعني".

ص: 412

وما ذمه القرآن كان فيه سَخَطُه.

* وجاءَ في رواية عنها قالت: "كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسَخَطِه"

(1)

.

* وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حيائه لا يواجه أَحدًا بما يكره، بل تُعرف الكراهةُ في وجهه، كما [في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال]

(2)

:

كان [النبي صلى الله عليه وسلم أَشدّ حياءً من العذراءِ في خدرها، فإذا رأَى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه]

(3)

.

* ولما بلُّغه ابنُ مسعود قولَ القائل: هذه قسمةٌ ما أُريدَ بها وجهُ الله - شقّ عليه صلى الله عليه وسلم، وتغيّر وجهه وغضب، ولم يزد على أَن قال:

"قد أُوذِيَ موسَى بأَكثر من هذا فصبر"

(4)

.

(1)

هي رواية أبي الدرداء في الدلائل التي أشرنا إليها في تعليق الرواية السابقة.

(2)

ما بين الرقمين سقط من ب.

(3)

ما بين الرقمين سقط من ب، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل: باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم -4/ 1809 - 1810 ح 70 - (2320).

وأخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب: باب من لم يواجه الناس بالعتاب 10/ 513 ح (6102).

وأخرج شطره الأول في كتاب المناقب. باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم -6/ 566 ح (3562).

وفي كتاب الأدب. باب الحياء 10/ 521 ح (6119) وأخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الزهد: باب الحياء 2/ 1399 ح (4180).

وأحمد في المسند 3/ 71، 79، 88، 91، 92 (الحلبي) والبيهقي في الدلائل 1/ 316.

(4)

أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس: باب ما كان صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم 6/ 251 - 252 ح (3150). من رواية عثمان بن أبي شيبة عن جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسا في القسمة؛ فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب، فآثرهما يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله؟! فقلت: والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته، فقال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى قد أوذيَ بأكثر من هذا فصبر".

وأخرجه البخاري من وجوه عديدة في كتاب أحاديث الأنبياء باب [28] 6/ 436 ح (3405) وفيه قول ابن مسعود: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه" وفي كتاب المغازي: باب غزوة الطائف 8/ 55 ح (4335، 4336) وفي الرواية الأولى قول ابن مسعود: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتغير وجهه" وفي الثانية: فقلت: لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي كتاب الأدب: باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه 10/ 475 ح (6059) وفيه قول ابن مسعود: فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فتمعر وجهه (تغير) وقال: "رحم الله موسى

".=

ص: 413

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأَى أَو سمع ما يكرهه الله، غضب لذلك، وقال فيه، ولم يسكت. وقد دخل بيت عائشة رضي الله عنها، فرأَى سِتْرًا فيه تَصَاوير؛ فتلون وجهُه وهَتَكه، وقال:

"إن من أَشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور"

(1)

.

ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يطيل بالناس صلاته؛ حتى يتأخرَ بعضهم عن الصلاة معه غضب - واشتد غضبه، ووعظ الناسَ، وأَمر بالتخفيف

(2)

.

= وفي باب الصبر في الأذى 10/ 511 (6100) وفيه قول ابن مسعود: "فقال رجل من الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله قلت: أما لأقولن للنبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته - وهو في أصحابه - فساررته، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وتغير وجه وغضب، حتى وددت أني لم أكن أخبرته .. ".

وفى كتاب الاستئذان: باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة 11/ 83 ح (6291) وفيه قول ابن مسعود: فقال رجل من الأنصار: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله! قلت: أما والله لآتيّن النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو في ملأ فساررته فغضب حتى احمر وجهه، ثم قال. رحمة الله على موسى أوذي

". وفي كتاب الدعوات: باب قول الله تبارك وتعالى: {وصل عليهم} ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه، قال أبو موسى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لعبيد: أبي عامر، اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه" 11/ 136 ح (6336) وفيه قول ابن مسعود: فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه وقال: يرحم الله موسى

".

وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة: باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه 2/ 739 من وجهين ح 140، 141 الأول: من طريق منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيته فأخبرته بما قال: قَال فتغير وجهه حتى كان كالصرف (صبغ أحمر يصبغ به الجلود وقد يطلق على الدم).

ثم قال: "فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟ " قال: ثم قال: "يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" قال: قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثًا.

والثاني من طريق الأعمش، عن شقيق: عن عبد الله، بنحوه وفيه:"فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته، فغضب من ذلك غضبًا شديدًا، واحمر وجهه، حتى تمنيت أني لم أذكره له".

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، وقال الله تعالى:{جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} 10/ 517 ح (6109) من طريق الزهري عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت قوام (سترةً ستارة رقيقة أو صفيقة) فيد صور فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه وقالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور".

وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة: باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش. ونحوه (3، 1667) ح 91، 92 من وجوه عدة.

(2)

كما روى البخاري في صحيحه [3] ك العلم: [28] باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره=

ص: 414

* ولما رأَى النُّخامة في قبلة المسجد تغيّظ وحكَّها وقال: "إن أَحدكم إِذا كان في الصلاة فإِن الله حيِالَ وجهه؛ فلا يتنخَّمَنَّ حِيالَ وجهه في الصلاة

(1)

.

= (1/ 186) من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله! لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان؟ فما رأيت النبي في موعظة أشد غضبًا من يومئذ فقال: "أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة".

وفي كتاب الأذان: باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود (2/ 197 - 198) بنحوه. وباب من شكا إمامه إذا طوّل 2/ 200 وفيه من حديث أبي مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله! إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبًا منه يومئذ، ثم قال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فمن أم الناس فليتجوز. فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة".

وفي الباب نفسه عقب هذه الرواية من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أقبل رجل بناضِحَينْ (جملين يسقي بهما) - وقد جنح الليل - فوافق معاذا يصلي، فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذا نال منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا معاذ! أفتان أنت؟ أو أفاتن (ثلاث مرات) فلولا صليت بسبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى؟ فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة؟ ".

وانظر ما رواه في ذلك مسلم في صحيحه: كتاب الصلاة: باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 1/ 340 - 343 من أحاديث أبي مسعود الأنصاري وأبي هريرة وعثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس والترمذي في جامعه: أبواب الصلاة: باب ما جاء إذا أم أحدكم الناس فليخفف 1/ 461 - 464 من حديث أبي هريرة وغيره.

والنسائي في السنن: [10] كتاب الإمامة. [35] باب ما على الإمام من التخفيف (2/ 94 - 95) من أحاديث أبي هريرة وأنس وأبي قتادة: 823، 824، 825.

وابن ماجه في السنن: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من أم قوما فليخفف 1/ 315 - 316) من أحاديث أبي مسعود وأنس، وجابر، وعثمان بن أبي العاص.

والدارمي في السنن: كتاب الصلاة: باب ما أمر الإمام من التخفيف في الصلاة 1/ 322 من حديثي أبي مسعود وأنس ومالك في الموطأ: كتاب صلاة الجماعة: باب العمل في صلاة الجماعة 1/ 134 من حديث أبي هريرة.

وأحمد في المسند 2/ 256، 217، 317، 393، 486، 537، 502 من حديث أبي هريرة و 4/ 118، 119 من حديث أبي مسعود البدري الأنصاري و 4/ 216، 218 من حديث عثمان بن أبي العاص (الحلبي).

(1)

راجع في هذا ما رواه البخاري في كتاب الأدب: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر اللّه تعالى 10/ 537 ح 6111 من حديث جويرية عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي رأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بيده، فتغيظ ثم قال: إن أحدكم

الحديث باللفظ الذي ساقه ابن رجب وانظر ما رواه أبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب كراهية البزاق في المسجد 1/ 323 من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوما إذ رأى نخامة في قبلة المسجد فتغيظ على الناس ثم حكها، قال: وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطخه به وقال: "إن الله قِبَل وجه أحدكم إذا صلى فلا يبزق بين يديه".

وقد أَوْرد السمهودي هذه الرواية عن أبي داود، في وفاء الوفا 2/ 659.=

ص: 415

[من دعائه صلى الله عليه وسلم في ذلك]:

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أَسأَلك كلمة الحى في الغضب والرضا"

(1)

.

وهذا عزيز جدًّا، وهو أَن الإنسان لا يقول سوى الحق، سواءٌ غضب أَو رَضِي؛ فإن أَكثر الناس إِذا غضب لا يتوقف فيما يقول.

= ثم ذكر رواية ابن شبة لها في تاريخ المدينة المنورة 1/ 18 وأفاد أن إسنادها جيد.

وانظر ما رواه البيهقي في السنن: كتاب الصلاة: باب ما جاء في حك النخاعة عن القبلة 2/ 293.

وأحمد في المسند 6/ 316 (العارف) بإسناد صحيح مختصرًا والدارمي في السنن: كتاب الصلاة: باب كراهية البزاق في المسجد 2/ 324 - 325 وابن ماجه في السنن: المساجد والجماعات: باب كراهية النخامة في المسجد 1/ 251 من حديثي أنس وابن عمر.

وانظر ما رواه ابن شبة في تاريخ المدينة 1/ 18 - 29.

وفي تأويل قوله: "فإن الله قبل وجهه" قيل: تأويله: أن القبلة التي أمر الله عز رجل بالتوجه إليها للصلاة قبل وجه؛ فليصنها عن النخامة وفيه إضمار وحذف واختصار، كقوله تعالى:{واسأل القرية} يريد أهل القرية، ومثله في الكلام كثير.

وإنما أضيفت تلك الجهة إلى الله تعالى على سبيل التكرمة كما قيل: بيت الله، وكعبة الله في نحو ذلك من الكلام".

وقال الخطابي: "معناه أن توجهه إلى القبلة مفضٍ بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين قبلته، فأمر أن تصان تلك الجهة عن البصاق ونحوه من أثقال البدن".

(1)

هذا جزء حديث طويل أخرجه النَّسَائِي في السنن: كتاب السهو باب الدعاء بعد الذكر - نوع منه 3/ 54 - 55 من حديث عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم لقد خففت أو أوجزت الصلاة؟ فقال: أما على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام تبعه رجل من القوم هو أبيّ غير أنه كنى عن نفسه فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم: اللهم! بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي اللهم! وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة اللهم! زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين".

ورواه النَّسَائِي عقب هذا من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد قال:

صلى عمار بن ياسر بالقوم صلاة فأخفها فكأنهم أنكروها فقال: ألم أتمَّ الركوع والسجود؟ قالوا: بلى. قال: أما إني دعوت فيها بدعاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به: "اللهم بعلمك الغيب وساق نحوه وفيه وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الإخلاص في الرضا والغضب

الحديث فهل هذه الرواية تفسير لتلك؟ وتكون كلمة الحق هي كلمة الإخلاص أم أنه لا تنافي بين هذا وبين ما ذكره ابن رجب على أساس أنه لا يدفع إلى كلمة الحق شيء قدر الإخلاص للحقيقة وإظهار الحق ابتغاء وجه الحق وحده.

على أية حال فقد أفادت الرواية الثانية فضلًا عن هذا أن إيجاز عمار في صلاته أو تخفيفه إياها لم يكن على حساب تمام أركانها وشرائطها، وأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يستثقلون طول الصلاة كسمة عامة، بل لعلهم كانوا يستغربون إيجازها في بعض الأحْيان، كما رأيناهم مع عمار رضي الله عنهم أجمعين.

ص: 416

وخرج الطبراني من حديث أَنس مرفوعًا:

ثلاثٌ من أَخلاق الإيمان: مَنْ إِذا غضب لم يُدخله غضبه في باطل، ومَن إِذا رضي لم يُخرجه رضاه من حق، ومَن إِذا قدَر لم يتَعاطَ ما ليس له"

(1)

.

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الصغير 1/ 86 - 87 ح 158 بهذا اللفظ عن أحمد بن الحسين الأنصاري عن حجاج بن يوسف بن قتيبة الهمداني، عن بشر بن الحسين، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك مرفوعًا، ثم قال: لم يروه عن الزبير بن عدي إلا بشر بن الحسين وقد أورده العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء 4/ 307 عن الطبراني في هذا الموضع وقال: إسناده ضعيف.

أقول هذا التعليق من العراقي لا يشفي بل لعله يوهم أن ضعفه محتمل لتفرد بشر بروايته عن الزبير بن عدي كما أومأ الطبراني.

وكان على كل من الطبراني والعراقي أن ينص على علة ضعف الحديث وإلى أي شيء تشير عبارة الطبراني. إن بشر بن الحسين هو بشر بن الحسين الأصبهاني الهلالي صاحب الزبير بن عدي.

أحد وضاعي الحديث سيما عن الزبير عن أنس!؟ ولهذا وسم بالكذب وترك حديثه؛ قال البخاري في التاريخ الكبير 1/ 2/ 71 فيه نظر وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: عامة حديثه ليس بمحفوظ وقال أبو حاتم: يكذب على الزبير وساق له مائة حديث عن الزبير بن عدي عن أنس لا يصح منها شيء. وقال ابن عدي: الزبير ثقة، وبشر ضعيف أحاديثه سوى نسخة حجاج عنه - مستقيمة.

قال ابن حبان: يروي بشر بن الحسين عن الزبير نسخة موضوعة شبيها بمائة وخمسين حديثًا، وقال في الثقات في ترجمة الزبير بن عدي كأن الأرض أخرجت له أفلاذ كبدها في حديثه لا ينظر في شيء رواه عن الزبير إلا على جهة التعجب!؟ وقال الدارقطني: يروي عن الزبير بواطيل والزبير ثقة، والنسخة موضوعة، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس حديثه بالقائم. راجع ترجمته في لسان الميزان 2/ 21 - 23 والضعفاء الكبير للعقيلي 1/ 141.

وإذا فالحديث الذي أورده ابن رجب عنه موضوع وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 206 وقال: رواه الطبراني في الصغير وفيه بشر بن الحسين وهو متروك كذاب والعجب من ابن رجب كيف أورد هذا الحديث دن أن يتنبه أو ينبه إلى وضعه؟!

وبعد كتابة هذا رجعت إلى ضعيف الجامع الصغير 7/ 52 فرأيت الشيخ الألباني قد حكم أيضًا بوضعه وأحال إلى الأحاديث الضعيفة له ح 539 ولم أجده فيها بهذا الرقم وإنما هو برقم 541 وقد أضاف إلى رواية الطبراني له في المعجم الصغير رواية أبي نعيم في أخبار أصبهان (1/ 132) وابن بشران في الأمالي الفوائد (2/ 132/ 2) وقد ذكر تعقيب الطبراني الآنف عن تفرد بشر بن الحسين برواية الحديث وحكم الهيثمي أن بشرًا هذا كذاب، ثم أضاف الشيخ الألباني أن راوي الحديث عن بشر هو الهمداني وهو مجهول وانتهى به المطاف أن أنحى باللائمة على السيوطي حيث أورد الحديث في جامعه قائلًا: والحديث مما سود به السيوطي جامعه، ولهذا تعقبه شارحه المناري بكلام الهيثمي المذكور ثم قال:

فكان ينبغي للمصنف حذفه من هذا الكتاب ثم قال الشيخ الألباني:

"ولعل السيوطي اغتر باقتصار الحافظ العراقي على تضعيفه في تخريج الإحياء، وهو منه قصور أو ذهول أو تسامح في التعبير؛ لأن الحديث الموضوع من أقسام الحديث الضعيف.

ثم إن الحديث هو أول حديث في نسخة الزبير بن عدي المحفوظة في ظاهرية دمشق حرسها الله تعالى" فكما أخذنا إيراد الحديث على ابن رجب أخذه الشيخ الألباني على السيوطي!!

ص: 417

[التحذير من التفوه بما يوبق في حال الغضب]:

* وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه أَخبر عن رجلين ممن كان قبلنا: كان أحدهما عابدًا، وكان الآخر مسرفًا على نفسه، وكان العابد يعظه فلا ينتهي، فرآه يومًا على ذنب استعظمه فقال: والله لا يغفر الله لك!؟. فغفر الله للمذنب، وأَحْبَط عمل العابد

(1)

.

وقال أَبو هريرة: لقد تكلَّم بكلمة أوبَقَت دنياه وآخرته.

فكان أَبو هريرة يحذر الناس أن يقولوا مثل هذه الكلمة في غضب وقد خرجه الإمام أحمد وأَبو داود

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب الأدب: باب النهي عن البغي 2/ 693 من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان رجلان من بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب، فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي. أبعثت علي رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا؟ أو كنت على ما في يدي قادرًا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وفال للآخر: اذهبوا به إلى النار.

فال أبو هريرة: لقد تكلم بكلمة

الخ. وهو صحيح في صحيح السنن 4097.

(2)

أخرجه أحمد في المسند 1/ 323، 363 بسياقه كاملًا في أول الموضعين، ومختصرًا في ثانيهما، وسياق الأول من حديث أبي عامر، عن عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس اليمامي، قال: قال لي أبو هريرة: يا يمامي لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة أبدًا؟ قلت: يا أبا هريرة إن هذه لكلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب؟ قال: فلا تقلها؛ فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهدًا في العبادة، وكان الآخر مسرفًا على نفسه، فكانا متآخيين فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب، فيقول: يا هذا أقصر فيقول: خلني وربي، أبعثت عليّ رقيبًا؟ قال: إلى أن رآه يومًا على ذنب استعظمه فقال له: ويحك أقصر قال: خلني وربي أبعثت عليّ رقيبًا؟ قال: فقال: والله لا يغفر الله لك أولًا يدخلك الجنة أبدًا؟ قال أحدهما: قال: فبعث الله إليهما ملكًا فقبض أرواحهما واجتمعا فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أكنت بي عالمًا؟ أكنت على ما في يدي خازنًا؟ اذهبوا به إلى النار قال: فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بالكلمة أوبقت دنياه وآخرته".

وقد أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الأدب في الموضع الآنف من طريق محمد بن الصباح بن سفيان، عن علي بن ثابت، عن عكرمة بن عمار. عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة، وفي آخره:"والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته".

وهذه الجملة من أبي هريرة تمثُّلٌ منه بكلمة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم كما رواها الإِمام أحمد فهي عند أبي داود في حكم المرفوع وعن درجة الحديث قال المنذري: "في إسناده عن علي بن ثابت الجزري، وقال الأزدي: ضعيف الحديث: وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن معين: ثقة. وقال: أبو زرعة: ثقة لا بأس به". وإذا فالحديث حسن. وانظر عون المعبود 13/ 166 - 167.

ورواية أحمد للحديث من غير طريق علي بن ثابت في الموضعين والكلمة الموبقة هي جزمٌ بعدم المغفرة ونفيه دخول الجنة وإقسامه على ذلك.

ص: 418

فهذا غضب لله، ثم تكلم في حال غضبه لله بما لا يجوز، وحتَّم على الله بما لا يعلم، فأَحبط الله عمله، فكيف بمن تكلم في غضبه لنفسه ومتابعة هواه بما لا يجوز؟.

[التحذير من اللعن في الغضب]:

* وفي صحيح مسلم عن عمران بن حُصين أَنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أَسفاره وامرأَة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنَتْها فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا متاعها ودعوها

(1)

.

[وقد يوافق ساعة إجابة]:

* وفيه أيضًا عن جابر، قال: سِرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة

(2)

ورَجُل من الأَنصار على ناضح

(3)

له فتلدَّن عليه بعض التلدن

(4)

فقال له

(5)

سر لعنك الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انزل عنه فلا يصحَبنا مَلْعُون، لا تدْعوا على أَنفسكم، ولا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يُسأَلُ فيها عطاءً فيستجيبَ لكم"

(6)

.

فهذا كله يدل على أن دعاءَ الغضبان قد يُجاب إذا صادف ساعةَ إِجابة، وأَنه يُنهى عن الدعاء على نفسه، وأهله، وماله، في الغضب.

[معنى آية سورة يونس]:

وأَما ما قاله مجاهد في قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}

(7)

.

قال: هو الواصل لأَهله وولده وماله إِذا غَضِب عليه

(8)

قال: اللهم لا تُبارك فيه.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب: باب النهي عن لعن الدواب وغيرها 4/ 2004، 2005، وهو عند ابن كثير في التفسير 2/ 408.

(2)

هي غزوة بطن بواط كما في مسلم، وبواط: جبل من جبال جهينة.

(3)

الناضح: البعير الذي يستقي عليه.

(4)

قال في النهاية 4/ 246: تلدن عليه: تلكأ وتمكث ولم ينبعث.

(5)

في صحيح مسلم: "شأ لعنك الله" وشأ كلمة لزجر البعير.

(6)

مسلم في كتاب الزهد والرقائق: باب حديث جابر الطويل .. - 4/ 2304 ح 3009.

(7)

سورة يونس: 11.

(8)

على أحد من الأهل والولد.

ص: 419

اللهم العنه. يقول: لو عُجل له ذلك لأَهلك من دعا عليه فأَماته

(1)

.

فهذا يدل على أنه يُستجاب جميع ما يدعو به الغضبان على نفسه، أهله وماله. والحديث دل على أَنه قد يستجاب لمصادفته ساعة إِجابة.

[ما روي مما يخالف ذلك]:

وأَما ما روي عن الفُضَيْل بن عياض قال: "ثلاثة لا يُلامون على غضب: الصائم والمريض والمسافر".

* وعن الأحنف بن قيس قال: "يُوحِي الله إلى الحافِظَيْن اللذَيْن مع ابن آدم: لا تكتبا على عبدي في ضَجَره شيئًا".

وعن أَبي عمران الجوني قال: "إِن المريض إِذا جزع فأَذنب قال الملَك الذي على اليمين للملَك الذي على الشمال: لا تكتب

(2)

".

[لا أصل له]:

خرجه ابن أَبي الدنيا - فهذا كله لا يعرف له أصل صحيح من الشرع يدل عليه، والأَحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على خلافه.

[معنى: إذا غضبت فاسكت]:

* وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا غَضبتَ فاسكت" يدل على أَن الغضبان مكلف في حال غضبه بالسكوت؛ فيكون حينئذ مؤاخَذًا بالكلام.

[الغضبان مكلف]:

* وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أَمر من غضب أَن يتلافى غضبه بما يسكنه من أَقوال وأَفعال

(3)

.

(1)

راجع قول مجاهد في تفسير الطبري 15/ 34/ 35 (المعارف) وقد أورده من وجوه، وفيه:"لأهلك من دعا عليه ولأماته". وتفسير ابن كثير 3/ 408/ 409 وعنده: "فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم"، قال ابن كثير: أي لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك، كما يشير إلى ذلك حديث ساعة الإجابة وتفسير مجاهد 1/ 292 وفيه: "قال هو قول الرجل لولده وأهله وماله إذا غضب عليهم: اللهم

لهلك".

(2)

المرض والكفارات لابن أبي الدنيا 248 وقد نظر المحقق إلى إسناده فقال: إسناده رجاله موثقون، ونظر ابن رجب إلى مخالفة قول أبي عمران للأحاديث الآنفة فقال ما قال.

(3)

كما مضى ص 401 وما بعدها.

ص: 420

وهذا هو عين التكليف له بقطع الغضب فكيف يقال: إِنه غير مكلف في حال غضبه بما يصدر منه؟.

* وقال عطاء بن أَبي رباح: "ما أَبكى العلماءَ بكاءٌ آخر العمر مِنْ غضبة يغضبها أَحدهم فَتَهدِم

(1)

عمل خمسين سنة أَو ستين سنة أَو سبعين سنة. ورب غضبة قد أَقحمت صاحبها مُقْحَمًا ما استقاله".

خرجه ابن أَبي الدنيا.

[ما يؤاخذ به وما لا يؤاخذ]:

" ثم إِن مَن قال من السلف: إِن الغضبان إِذا كان سبب غضبه مباحًا كالمرض والسفر

(2)

أو الطَّاعة كالصوم، لا يلام عليه - إِنما مرأده أَنه لا إِثم عليه إِذا كان مما يقع منه في حال الغضب كثيرًا من كلام يوجب تضجُّرًا أو سبًّا ونحوه، كما قال صلى الله عليه وسلم:

"إِنما أَنا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضى البَشر، وأَغضب كما يغضَبُ البشَر، فأَيما مُسْلمٍ سَبَبْتُه أَو جَلَدْتُه فاجْعَلْها له كفارة"

(3)

.

فأَما ما كان من كفر أو ردّة، أَو قتل نفس، أَو أَخذ مال بغير حق، ونحو ذلك - فهذا لا يشك مسلم أَنهم لم يريدوا أَن الغضبان لا يؤاخَذُ به. وكذلك ما يقع من الغضبان من طلاق. وعِتَاقٍ أَو يمين، فإنه يؤاخذ بذلك كله بغير خلاف.

[من الأمثلة في ذلك]:

وفي مسند الإمام أَحمد عن خوْلةَ بنت ثَعْلَبة

(4)

: امرأة أَوس بن الصامت أَنها راجعت زوجها، فغضب، فظاهر منها، وكان شيخًا كبيرًا قد ساءَ خلقه، وضجر، وأَنها جاءَت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت تشكو إِليه ما تَلقى مِن سوءِ خلقه، فأَنزل الله آية الظهار، وأَمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفارة الظهار في قصة طويلة.

وخرجها ابن أَبي حاتم من وجه آخر عن أبي العالية: أَن خويلة غضب زوجها فظاهر منها، فأَتت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، وقالت: إِنه لم يُرد الطلاق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

(1)

في المطبوعة: "فيهدم عمر".

(2)

ب: مباحًا كالسفر.

(3)

أخرجه مسلم بوجوه مختلفة في كتاب البر والصلة: باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه 4/ 2007 - 2009 عن جابر وأنس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم. وهو عند البخاري رقم 6361.

(4)

المسند 6/ 410 - 411 (الحلبي). وفي ب: "خويلة" وهي هي، كما تفيده رواية المسند. وإسناده صحيح على ما في الفتح الرباني 17/ 21 - 22.

ص: 421

"ما أُراكِ إِلا حَرُمت عليه" وذكر القصة بطولها. وفي آخرها قال: فحول الله الطلاق، فجعله ظِهارًا؛ فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى حينئذ أن الظهار طلاق وقد قال: "إِنها حرمت عليه بذلك" يعني لزمه الطلاق، فلما جعله الله ظهارًا مكفَرًا ألزمه بالكفارة ولم يلغه.

* وروى مجاهد، عن ابن عباس: أَن رجلًا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثًا، وأَنا غضبان. فقال:"إِن ابن عباس: لا يستطيع أَن يُحِلَّ لك ما حرم الله عليك، عصيت ربك، وحرمت عليك امرأَتك؟! ".

خرجه الجوْزجَاني والدارقطني بإسناد على شرط مسلم

(1)

.

[اللغو في الأَيمان]:

وخرج القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب "أَحكام القرآن" بإسناد صحيح عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: اللغو في الأَيمان: ما كان في المراء، والهزل، والمزاحة، والحديث الذي لا يعقد

(2)

عليه القلب، وأَيمان الكفارة على كل يمين حلفت عليها على جَدّ من الأَمر في غضب أو غيره لتَفْعَلنَّ أو لتتركن. فذلك عقد الأَيمان فيها الكفارة.

وكذا رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة

(3)

.

وهذا من أَصح الأَسانيد.

[لا طلاق في إغلاق]:

وهذا يدل على أن الحديث المروي عنها مرفوعًا: "لا طلاق ولا عتاق في إِغلاق".

إِما أَنه غير صحيح أَو أَن تفسيره بالغضب غير صحيح

(4)

.

(1)

أخرجه الدارقطني في السنن 4/ 13 (ط. دار المحاسن بالقاهرة).

(2)

في تفسير الطبري: "لا يعتمد" وقال محققه بالهامش: أخشى أن يكون الصواب: "لا يعقد" وبالنص الذي عند ابن رجب يكون ما أومأ إِليه شيخ المحققين: يقينا!؟.

(3)

الإسناد والأثر في تفسير الطبري 4/ 225 ح 4457.

(4)

اختلفت الآراء في تفسير الإغلاق ففسره أحمد وأبو داود بالغضب، وفسره ابن قتيبة بالإكراه، وقال الزيلعي: قال شيخنا: والصواب أنه يعم الإكراه والغضب والجنون وكل أمر انغلق على صاحبه علمه وقصده، مأخوذ من غلق الباب.

وحديث عائشة في هذا مروي من طرق ضعيفة راجع مق الدارقطني 4/ 36 - 37 والتعليق المغني.

ص: 422

[فتاوى الصحابة في يمين الغضبان]:

* وقد صح عن غير واحد من الصحابة أَنهم أَفتوا أَن يمين الغضبان منعقدة وفيها الكفارة

(1)

. وما روي عن ابن عباس مما يخالف ذلك فلا يصح إسناده.

* وقال الحسن: طلاق السنة: أَن يطلقها واحدة طاهرًا من غير جماع، وهو بالخيار ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيَض، فإن بَدا لَهُ أَن يراجعها كان أَملكَ بذلك. فإن كان غضبان ففي ثلاث حِيض، أو في

(2)

ثلاثة أَشهر - إن كانت لا تحيض - ما يُذهب غضبَه.

* وقال الحسن: لقد بيّن الله لئلا يندم أَحد في طلاق كما أَمره الله.

حرّجه القاضي إِسماعيل.

[كنايات الطلاق في الغضب]:

* وقد جعل كثير من العلماءِ الكنايات مع الغضب كالصريح في أَنه يقع بها الطلاق ظاهرًا، ولا يقبل تفسيرها مع الغضب بغير الطلاق.

* ومنهم من جعل الغضب مع الكنايات كالنية، فأَوقع بذلك الطلاق في الباطن أيضًا. فكيف يُجعل الغضب مانعًا من وقوع صريح الطلاق؟!.

(1)

ما دام يعقل ما يقول ويفعل.

(2)

ليست في ب.

ص: 423

‌الحديث السابع عشر

عَن أَبِي يعْلَى: شَدَّاد بْنِ أَوْسٍ رَضِى اللهُ تَعَاَلَى عَنْهُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:

"إِنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنْوا الْقِتْلَةَ، وَإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرحْ ذَبيحَتَهُ". رَوَاهُ مُسلِمٌ

(1)

.

* * *

[تخريج الحديث]:

هذا الحديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة، عن أبي الأَشعث الصنعاني، عن شداد بن أوس، وتركه البخاري؛ لأنَّه لم يخرج في صحيحه لأبي الأشعث شيئًا، وهو شامي ثقة

(2)

.

* وقد روي نحوه من حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الله عز وجل مُحْسِنٌ؛ فأَحسنوا، فإذا قتَل أَحَدُكم فَلْيُكْرِم

(3)

مقتولَه، وإذا ذَبَحَ فليُحِدَّ شَفْرَتَه، وليُرحْ ذَبيحَتَهُ".

خرجه ابن عدي

(4)

.

(1)

في كتاب الصيد والذبائح: باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة 3/ 1548 وفيه:

فأحسنوا الذبح

فليرح ذبيحته".

(2)

سقطت من المطبوعة. وأبو الأشعث الصنعاني هو شراحيل بن آدة، ويقال: شراحيل بن شراحيل بن كليب بن آدة وقيل غير ذلك. وهو من صنعاء الشام، وقيل: من صنعاء اليمن. روى عن شداد بن أوس، وثوبان، وأبي هريرة وغيرهم. روى عنه أبو قلابة الجرمي وحسان بن عطية وغيرهما.

وثقه العجلي وابن حبان، وترجمته في التهذيب 4/ 319 - 320، والثقات لابن حبان 4/ 365 - 366، وذكر أن اسمه شراحيل بن شرحبيل بن كليب بن آدة، وأن من قال: شراحيل بن آدة فقد نسبه إلى جده. وأنَّه مات في زمن معاوية.

(3)

في المطبوعة: "فليحسن".

(4)

أورده ابن عدي تامًّا في الكامل 6/ 624 - 427 في ترجمة مجاعة راوية ذاكرًا أنه ممن يحتمل ويكتب حديثه، وأن عامة أحاديثه يحمل بعضها بعضا.

وفي زيادات الجامع الصغير عزاه السيوطي للطبراني من حديث شداد بن أوس:

"إن الله محسن يحب الإحسان، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته، ثم ليرح ذبيحته" ح 5468، 5469.

وهكذا في صحيح الجامع الصغير وزيادته للشيخ الألباني 1/ 374 لم يعز لابن عدي من حديث سمرة إلا الشطر الأول "إن الله تعالى محسن فأحسنوا".

وقد علق المناوي في التيسير 1/ 262 على حديث سمرة بقوله: إسناده ضعيف؛ مخالفًا ابن عدي.

ص: 425

وخرج الطبراني من حديث أَنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا حكمتم فاعدلوا، وإِذا قتلتم فأحسنوا؛ فإِن الله عز وجل مُحْسِنٌ يحب المحسنين"

(1)

.

* * *

[معنى الجملة الأولى]:

* فقوله صلى الله عليه وسلم: "إِن الله كتبَ الإِحسان على كل شيء" وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب السير، عن خالد، عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم:

"إِن الله كتب الإِحسانَ على كل شيء، أو قال: على كل خلق

(2)

".

هكذا خرّجها مرسلة، وبالشك في "كل شيء" أو "كل خلق". وظاهره يقتضي أنه كتب على كل مخلوق الإِحسان فيكون كل شيء، أو كل مخلوق، هو المكتوب عليه، والمكتوب هو الإحسان.

* وقيل: إن المعنى: أَن الله كتب الإحسان إلى كل شيء أو في كل شيء، أو كتب الإحسان في الولاية على كل شيء، فيكون المكتوب عليه غير مذكور، وإنما المذكور المحسَن إِليه، ولفظ الكتابة يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين خلافًا لبعضهم. وإنما يعرف استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتم، إما شرعًا كقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}

(3)

وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}

(4)

، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}

(5)

أَو فيما هو واقع قدرًا لا محالة كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}

(6)

وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}

(7)

وقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}

(8)

.

* وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام شهر رمضان: "إِني خَشِيتُ أَن يُكتَبَ عَليكم"

(9)

.

(1)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 197 وعزاه للطبراني في الأوسط من حديث أنس وقال: رجاله ثقات.

(2)

ليس في الجزء المحقق من كتاب السير المذكور.

(3)

سورة النساء: 103.

(4)

سورة البقرة: 183.

(5)

سورة البقرة: 216.

(6)

سورة المجادلة: 21.

(7)

سورة الأنبياء: 105.

(8)

سورة المجادلة: 22.

(9)

في هذا روى البخاري في كتاب صلاة التراويح: باب فضل من قام رمضان 4/ 250 - 251 من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته، فاجتمع الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة =

ص: 426

وقال:

"أُمِرتُ بالسِّوَاكِ حتى خشيتُ أَن يُكَتب علىَّ"

(1)

.

* وقال:

"كُتِبَ على ابن آدم حَظُّه من الزِّنا؛ فهو مدركٌ ذلك لا مَحَالة"

(2)

[الحديث نص في الإِحسان]:

وحينئذ فهذا الحديث نص في وجوب الإحسان.

وقد أمر الله تعالى به فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}

(3)

وقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

(4)

.

= الثالثة؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصُلي بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال؛ "أما بعد! فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها".

فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك.

وأخرجه في كتاب الاعتصام: باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه وقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 13/ 264 من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به؛ فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ح 2012، 7290 وانظر في البخاري أحاديث 729، 730، 924، 1129، 2011، 5861، 6113 من حديثي زيد بن ثابت وأم المؤمنين عائشة: رضي الله عنهما.

(1)

أخرجه أحمد في المسند 3/ 490 (الحلبي) من طريق إسماعيل قال: حدثنا ليث عن أبي بردة عن أبي مليح عن وائلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث - باللفظ المذكور.

وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 98 وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة مدلس وقد عنعنه.

أي فهو إسناد ضعيف بالتدليس.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان: باب زنا الجوارح دون الفرج 11/ 26 من حديث أبي هريرة للفظ: "إن الله كتب على ابنّ آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين: النظر، وزنا اللسان: المنطق. والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه".

ج 6343 وانظر ح 6612 ومسلم في كتاب القدر: باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره 4/ 2046 - 2047

ح 20 - (2657) و 21 - ( .... ) من وجهين عن أبي هريرة.

(3)

سورة النحل: 90.

(4)

سورة البقرة: 195.

ص: 427

[أنواع الأمر بالإحسان]:

وهذا الأَمر بالإِحسان تارة يكون للوجوب، كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة، والإِحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قِراه، على ما سبق ذكره.

* وتارة يكون للندب: كصدقة التطوع ونحوها.

[دلالة الحديث على وجوب الإحسان]:

* وهذا الحديث يدل على وجوب الإِحسان في كل شيء من الأعمال.

[وهو في كل شيء بحسبه]:

لكن إِحسان كل شيء بحسبه؛ فالإِحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها؛ فهذا القدر من الإحسان فيها واجب.

وأما الإِحسان فيها بإِكمال مُسْتحَبّاتها فليس بواجب.

* والإحسان في ترك المحرمات: الانتهاءُ عنها، وتركُ ظاهرها وباطنها كما قال تعالى:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}

(1)

فهذا القدر من

(2)

الإِحسان فيها واجب.

* وأَما الإِحسان في الصبر على المقدورات فأن يأَتي بالصبر عليها على وجهه من غير تسَخُّطٍ ولا جزع.

* والإِحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيامُ بما أَوجب الله عن حقوق ذلك كله.

* والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستِهم: القيامُ بواجبات الولاية كلِّها.

* والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله: إِحسانٌ ليس بواجب.

والإِحسان في فتل ما يجوز قتله من الناس والدواب: إِزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأَسهلها وأوحاها

(3)

من غير زيادة في التعذيب. فإنه إيلام لا حاجة إليه.

(1)

سورة الأنعام: 120.

(2)

في "ا": "في".

(3)

في م: "وأروحها" أي أسرعها، ب:"وأحبه وأكثرها وأوحاها" أي أسرعها.

ص: 428

[الإحسان المقصود في الحديث]:

* وهذا النوع هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيل المثال، أَو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال؛ فقال:"إذا قتلتم فأَحسنوا القِتلة، وإِذا ذبحتم فأَحْسِنُوا الذِّبْحة".

والقِتْلة والذِّبحة بالكسر: أي الهيئة. والمعنى: أَحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل.

وهذا يدل على وجوب الإِسراع في إِزهاق النفوس التي يباح إِزهاقها على أَسهل الوجوه.

وقد حَكى ابنُ حزم

(1)

: الإِجماعَ على وجوب الإِحسان في الذِّبحة

(2)

.

* * *

[أسهل وجوه قتل الآدمي]:

* وأَسهل وجوه قتل الآدمي: ضربُه بالسيف على العنق؛ قال الله تعالى في حق الكفار: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}

(3)

وقال: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}

(4)

.

وقد قيل إنه عَيَّن الموضع الذي يكون الضربُ فيد أسهلَ على المقتول، وهو فوق العظام، ودون الدماغ.

ووصى دُرَيْد بن الصِّمَّة قاتله أَن يقتله كذلك.

* * *

[النهي عن المثلة]:

* وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية تغزو في سبيل الله قال لهم: "لا تَمْثُلوا، ولا تقْتُلوا وليدًا"

(5)

.

(1)

في مراتب الإجماع ص 178.

(2)

و، ل، ظ:"الذبيحة".

(3)

سورة محمد: 4.

(4)

سورة الأنفال: 12.

(5)

هذا إشارة إلى بعض القيم والآداب الإسلامية بل إلى بند من بنود قانون التعامل الإنساني في المواجهات العسكرية للقوات الإسلامية المسلحة وما الذي ينبغي أن يوصي به القائد الأعلى ضباطه وجنوده عند انفصالهم للقاء العدو وقد حفظ هذا الدستور عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعامل به وعلمه لغيره كثيرون من الصحابة منهم عبد الله ابن عباس، وصفوان بن عسال المرادي، والنعمان بن مقرن، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وعبد الله ابن مسعود، والمغيرة بن شعبة وغيرهم.

وحديث بريدة بن الحصيب يرويه مسلم في صحيحه: كتاب الجهاد: باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، =

ص: 429

وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعَفُّ

= ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (3/ 1356 - 1357) ح 2 - (1731) من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمُّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغُلُّوا ولا تغدروا، ولا تَمْثُلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقبت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيَّتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونوا كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا جمع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإِنكم أَن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ ".

ورواه أبو داود في سننه: كتاب الجهاد: باب دعاء المشركين 3/ 83 - 85 ح 1612 بنحوه مختصرًا وليس فيه اللفظ الذي ساق ابن رجب.

والترمذي في سننه: كتاب السير: باب ما جاء في وصيته صلى الله عليه وسلم في القتال 4/ 162 - 163 بسياقه كاملًا ح (1617) وعقب عليه بقوله: وفي الباب عن النعمان بن مقرن، وحديث بريدة حديث حسن صحيح.

وأورده مختصرًا وفيه اللفظ الذي ساقه ابن رجب في كتاب الديات باب ما جاء في النهي عن المثلة 4/ 22 - 23 (1408) وعقب عليه بقوله:

وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وشداد بن أوس، وعمران بن حصين، وأنس، وسمرة، والمغيرة، ويعلى ابن مرة، وأبي أيوب. [و] حديث بريدة حديث حسن صحيح وكره أهل العلم المثلة.

وأخطأ في المعجم المفهرس: (مثل) فقال عن هذا الموضع: جهاد 14 وليس كذلك كما رأينا.

ورواه الدارمي في السنن: كتاب السير: باب وصية الإمام في السرايا 2/ 284 ح (2439) مختصرًا وفيه اللفظ الذي ساقه ابن رجب.

وروى أحمد في مسنده: الحديث من وجوه كثيرة، وعن كثير من الصحابة ومن ذلك حديث ابن عباس (1/ 300) الحلبي من طريق داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" وفيه من رعاية حرمة العبادة وأصحاب الأماكن التي يذكر فيها اسم الله ما فيه!؟

وإسناد الحديث حسن كما ذكر الشيخ شاكر في تعليقه على المسند 4/ 257 (المعارف) ح (2728).

وروى أحمد كذلك حديث صفوان بن عسال المرادي 4/ 240 (الحلبي) بنحو حديث ابن عباس وفيه اللفظ الذي أورده ابن رجب.

وهو عند ابن ماجه كذلك في الجهاد: باب وصية الإمام 2/ 353 بإسناد حسن كما ذكر البوصيري في الزوائد 2/ 122.

وأخرج أحمد حديث بريدة بنحو ما أخرجه مسلم وذلك في المسند 15/ 358 (الحلبي).

وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق عقب حديث صفوان.

ص: 430

الناس قِتلةً: أهل الإيمان به"

(1)

.

• وخرج أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين، وسمرة بن جُندَب أَن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن المثلة

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في السنن [9] كتاب الجهاد: [120] باب النهي عن المثلة 3/ 120 باللفظ الذي ساقه ابن رجب وابن ماجه [21] في كتاب الديات: [30] باب أعف الناس قتلة أهل الإيمان 2/ 894 - 895 من وجهين عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحو رواية أبي داود.

وفي معالم السنن بهامش أبي داود عرف الخطابي المثلة وبين متى تكون محرمة فقال: المثلة: تعذيب المقتول بقطع أعضائه وتشويه خلقه قبل أن يقتل أو بعده، وذلك مثل أن يجدع أنفه أو أذنه أو يفقأ عينه أو ما أشبه ذلك من أعضائه. ثم قال: وهذا إذا لم يكن الكافر فعل ذلك بالمقتول المسلم فإن مثل بالمقتول جاز أن يمثل به، ولذلك قطع رسول الله علي أيدي العرنيين، وأرجلهم، وسمر أعينهم، وكانوا فعلوا ذلك برعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك هذا في القصاص بين المسلمين إذا كان القاتل قطع أعضاء المقتول وعذبه قبل القتل فإنه يعاقب بمثله، وقد قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وفي ب: "وروى أبو داود وابن ماجه وهو عند أحمد بإسناد صحيح 5/ 275 (المعارف).

(2)

أخرجه أبو داود في السنن: عقب الحديث السابق من حديث قتادة، عن الحسن، عن الهياج بن عمران أن أباه عمران أبق له غلام فجعل الله عليه لئن قدر عليه ليقطعن يده فأرسلني لأسأل له فأتيت سمرة بن جندب فسألته، فقال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة، فأتيت عمران بن حصين فسألته، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة. وهو حديث قوى إسناده ابن حجر 7/ 459 وضعفه غيره.

وهذه الرواية تدلنا على ما يلي:

1 -

أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يغضبون - إذا أثارهم موقف كإباق هذا العبد، وأن هذا أمر لا ينبغي أن يستغرب فهم بشر!؟.

2 -

أنهم - وقد تلقوا توجيهات القرآن والسنة - لم يكونوا يدعون أنفسهم بحيث تحكُمهم غرائزهم وإنما

كانوا يحكمون فيها تلك التوجيهات ومن هنا كان توقفهم وتحكمهم في السلوك إلى أن يتعرفوا على حكم الله ورسوله.

3 -

أنهم - لذلك - كانوا يسأل بعضهم بعضًا قبل أن يصدر منهم ما قد يكون غير مأذون فيه ولهذا كان سؤال عمران لسمرة وعمران بن حصين معًا، كأنما يريد ليزداد استيثاقًا.

4 -

أنهم لم يكونوا ليكتم أحدهم علما تلقاه، ولا نصيحة وجد فرصتها سانحة، ونفس المنصوح لها مهيأة.

5 -

أنهم كانوا يتلقون ما يتلقون عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوعي كامل، وذاكرة حافظة فما كانوا يتلقونه لأنفسهم وإنما كانوا يعدون أنفسهم كذلك لإبلاغ ما تلقوه إلى من غاب عن مجلسهم من الصحابة ومن هنا كان حرصهم على أن يؤدوا ما سمعوه كما سمعوه.

6 -

أنه - لهذا - لا غرابة أن تتطابق إجاباتهم بل عباراتهم كما رأينا في عبارتي سمرة بن جندب وعمران بن حصين.

ولعل هذا وغيره يتضح لنا كذلك من رواية أحمد في المسند 4/ 428 لهذا الحديث فقد رواه من طريق بهز وعفان عن همام، عن قتادة، عن الحسن، عن هياج بن عمران البرجمي أن غلامًا لأبيه أبق فجعل لله تبارك وتعالى عليه إن قدر عليه ليقطعن يده، قال: فقدر عليه قال [هياج] فبعثني إلى عمران بن حصين، قال: =

ص: 431

• وخرجه البخاري من حديث عبد الله بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن المثلة

(1)

.

• وخرج الإمام أحمد

(2)

من حديث يَعلى بن مُرّة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"لا تمثلوا بعباد الله"

(3)

.

= فقال: أقرئ أباك السلام وأخبره أن رسول الله إن كان يحث في خطبته على الصدقة، وينهى عن المثلة - فليكفر عن يمينه ويتجاوز عن غلامه، قال: وبعثني إلى سمرة فقال: أقرئ أباك السلام وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحث في خطبته على الصدقة، وينهى عن المثلة - فليكفر عن يمينه ويتجاوز عن غلامه".

وهكذا لم يكتف كل من سمرة وعمران بإبلاغ الحديث، وإنما نصح كل منهما بما يعتبر مخرجًا لعمران أبي هياج من يمينه، مُلَمِّحًا كل منهما بقيمة العفو والصفح والتجاوز.

أرأيت كيف كان التطابق بين سمرة وعمران في بلاغ الحديث؟! بل كيف كان التطابق فيما تلا ذلك من نصح لهما ومن حديث؟! والحديث صحيح بشواهده، كما في الإرواء 2230.

(1)

حديث عبد الله بن يزيد في النهي عن المثلة أخرجه البخاري في موضعين من صحيحه أولهما [46] في كتاب المظالم: [30] باب النهبي بغير إذن صاحبه 5/ 119 ح (2474) من طريق آدم بن أبي إياس، عن شعبة، عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النهبي والمثلة". وثانيهما في [72] كتاب الذبائح والصيد: [25] باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة 9/ 643 ح 5516 من طريق حجاج بن منهال عن شعبة، به:"أنه نهى عن النهبة والمثلة".

(2)

في ب: "وروى أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تمثلوا بعبادي" وهذا سهو أو خطأ لعله من الناسخ، فقد رأينا حديث كل من سمرة بن جندب وعمران بن حصين. أما بهذا النص فليس هو من حديثهما، وإنما هو من حديث يعلى بن مرة الثقفي أخرجه أحمد في المسند 4/ 173 من حديث عفان، عن وهيب، عن عطاء بن السائب عن يعلى بن مرة الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل: "لا تمثلوا بعبادي" وهو إذًا حديث قدسي. وسيأتي تتمة لحديث يعلى بعد قليل إن شاء الله وفي ر: بعبادي وكتب فوق الياء: "الله" وفي ل، ب:"بعبادي" وكلاهما مروي كما رأيت.

(3)

يعلى بن مرة لا يروي حديثًا مرفوعًا كما تفيده عبارة ابن رجب وإنما هو يروي حديثًا قدسيًا أوردنا لك إحدى روايتي أحمد له في مسنده منذ قليل، وها نحن نورد لك الرواية الثانية في مسند أحمد لحديث يعلى ابن مرة ولا ثالث للروايتين في المسند وسنرى من سياق أحمد للرواية الثانية أنها تمثل لنا صورة تطبيقية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنم عن الغيرة الحميدة من جهة، كما تعطي صورة للأسلوب الحكيم من جهة أخرى.

فقد روى أحمد في المسند 4/ 172 (الحلبي) من طريق عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حفص، عن يعلى بن مرة أنه كان عند زياد جالسًا فأتى برجل شهد فغير شهادته فقال [زياد]: أقطعن لسانك؟! فقال له يعلى: ألا أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: لا تمثلوا بعبادي؟! قال: فتركه. ولئن صحت هذه الراوية فلنا أن نقول: حين يكون الناصح أمينا حكيمًا رفيقًا رقيقًا فلا عجب أن يجعل الله القبول في نصحه وفي توجهيه ولو من طاغية كزياد بن أبيه؟! وقد حدث!.

ونعود إلى الرواية التي عزاها ابن رجب لأحمد من حديث يعلي بن مرة مرفوعًا لنقول إضافة إلى ما سبق: هذا اللفظ ليس من رواية أحمد عن يعلى بن مرة وإنما هو من رواية الطبراني عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تمثلوا بعباد الله. =

ص: 432

• وخرج أيضًا من حديث رجل من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من مَثَّل بذي روح ثم لم يتب مثَّل الله به يوم القيامة"

(1)

.

* * *

[أنواع القتل المباح]:

• واعلم أن القتل المباح يقع على وجهين:

= ولعلها سبق قلم من النساخ، أو سهو من ابن رجب، وجل من لا يسهو.

وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير 22/ 272 - 273 ح 697، 698، 699:

أ - من رواية معاذ بن المثنى، عن مسدد، عن خالد، عن عطاء بن السائب، عن يعلى بن مرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمثلوا بعباد الله"

ب - من طريق المقدام بن داود، عن أسد بن موسى، عن ورقة بن عمر، عن عطاء بن السائب، عن غير واحد من ثقيف، عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمثلوا بعباد الله".

ج - من رواية محمد بن إسحاق بن راهويه، عن أبيه، عن جرير، عن عطاء بن السائب، عن أناس من قومه، عن يعلى بن مرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تمثلوا بعبادي".

فهذا النص الذي ساقه ابن رجب: "لا تمثلوا بعباد الله" ليس في مسند أحمد ولا من روايته وإنما هو كما رأيت من رواية الطبراني وفي معجمه الكبير.

على أن هذه الروايات سواء أكانت من رواية أحمد على ما سبق أو من رواية الطبراني مطعون فيها بما يلي:

1 -

أن من رواتها عطاء بن السائب عند أحمد وعند الطبراني والمأخوذ عنه أنه اختلط وأنَّه وإن كان قد روى عن يعلى عند أحمد مرة دون واسطة ومرة بواسطة عبد الله بن حفص وعند الطبراني كذلك إلا أن الذي روى عنه عند أحمد والطبراني من طعن في روايته عنه وهم محمد بن فضيل وجرير ووهيب

إلخ.

2 -

أن عطاء بن السائب لم يسمع من يعلى بن مرة.

3 -

أن عبد الله بن حفص الذي روى عنه عطاء عند أحمد مجهول.

4 -

أن الحديث أتي عند الطبراني حديثًا قُدسيًا دون أن تذكر فيه رواية للنبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل.

5 -

أنه سواء أكان من رواية أحمد أو من رواية الطبراني فهو حديث ضعيف جدًا.

ومع ذلك استشهد به ابن رجب دون أن ينبه على ذلك أو دون أن يتنبه لذلك.

ويراجع تهذيب التهذيب 7/ 203 - 207 في ترجمة عطاء بن السائب. وينظر مجمع الزوائد 6/ 248 في تضعيف الحديث.

(1)

رواه أحمد في المسند 2/ 92 (الحلبي) من طريق أبي النضر عن شريك، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره بالنص المذكور.

ورواه في 2/ 115 من طريق أسود وحسين عن شريك به عن رجل من أصحاب النبي [قال أبو صالح] أراه ابن عمر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه من حديث أسود وبمثله من حديث حسين.

وقد أورد الهيثمي في المجمع 6/ 249 - 250 رواية الموضع الثاني وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن ابن عمر من غير شك، [أي كرواية أحمد الأولى] ثم قال: ورجال أحمد ثقات.

ص: 433

[الوجه الأول]

• أن يكون قصاصا فلا يجوز التمثيل

(1)

فيه بالمقتص منه، بل يقتل كما قَتَل. فإن كان قد مثل بالمقتول فهل يُمثَّل به كما فعل أم لا يقتل إلا بالسيف؟ فيه قولان مشهوران للعلماء:

• أحدهما أنه يفعل به كما فعل، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه. وفي الصحيحين عن أنس، قال:

خرجت جارية عليها أوضَاحٌ

(2)

، بالمدينة فرماها يهودي بحجر، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رَمَقٌ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلان قتلك؟ فرفعت رأْسها، فقال لها في الثالثة: فلان قتلك؟ فَخَفَضت رأْسها، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَرضَخَ رأسَهُ بين حجَرين.

وفي رواية لهما: فأُخذ فاعترف

(3)

.

(1)

ليست في ب.

(2)

قال في النهاية 5/ 196: الأوضاح: نوع من الحلي يعمل من الفضة، سميت بها لبياضها، واحدها: وضح. وقد قتلها من أجل حليها.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه: 44 - كتاب الخصومات 1 - باب ما يذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهود 5/ 71 من الفتح ح (2413) عن موسى بن همام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه أن يهوديًّا رض رأس جارية بين حجرين. قيل: من فعل هذا بك؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سُمِّي اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضَّ رأسه بين حجرين.

وفي: 55 - كتاب الوصايا: 5 - باب إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت (5/ 371) من الفتح ح 2746 من طريق حسان بن أبي عباد، عن همام - به.

وفيه: فأومأت برأسها فجيء به، فلم يزل حتى اعترف

".

وفي [68] كتاب الطلاق: [24] باب الإشارة في الطلاق والأمور (9/ 436) من الفتح ح 5295 عن الأويسي عن إبراهيم بن سعد، عن شعبة بن الحجاج، عن هشام بن زيد، عن أنس رضي الله عنه قال: عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية فأخذ أوضاحًا كانت عليها، ورضخ رأسها، فأتي بها أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق - وقد أُصمتت - فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن قتلك؟ فلان؛ لغير الذي قتلها - فأشارت برأسها أن لا. قال: فقال لرجل آخر - غير الذي قتلها - فأشارت أن لا. فقال: فلان؟ لقاتلها، فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُضِخ رأسه بين حجرين.

وفي: 87 - كتاب الديات: 4 - باب سؤال القاتل حتى يقر والإقرار في الحدود (12/ 198) من الفتح ح 6876 عن حجاج بن منهال، عن همام به.

وفيه: فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان أو فلان - حتى سُمِّي اليهودي فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقر، فرض رأسه بالحجارة".

وفي: 5 - باب إذا قتل بحجر أو عصا (12/ 200) ح 6877 عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن هشام بن زيد بن أنس عن جده أنس بن مالك قال: "خرجت جارية عليها أوضاح =

ص: 434

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بالمدينة فرماها يهودي بحجر، قال: فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة: فلان قتلك؟ فخفضت رأسها فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله بين الحجرين".

وفي: 7 - باب من أقاد بالحجر 12/ 204 - 205 ح 6879 عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر عن شعبة - به وفيه: فقتلها بحجر

فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين".

وفي: 12 - باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به 12/ 213 ح 6884 عن إسحاق عن حَبَّان، عن همام به: أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان أفلان؟ حتى سُمِّي اليهودي فأومأت برأسها، فجيء باليهودي، فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرُضّ رأسه بالحجارة، وقد قال همام: بحجرين".

وفي: 13 - باب قتل الرجل بالمرأة 12/ 213 - 214 ح 6885 عن مسدد عن يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهوديًّا بجارية قتلها على أوضاح لها.

والملحوظ في هذه الروايات ما يلي:

1 -

أن البخاري لم يكرر إسنادًا واحدًا في هذه المواضع بل اختار لكل موضع طريقًا من طرق الحديث، ومن المعروف أن تعداد طرق الحديث يقوي صحته، ويؤكد توثيقه.

2 -

أن هذه الطرق وإن اتحدت في مضمون الواقعة إلا أن اختلافها بالإجمال والتفصيل أعطى لكل منها قيمة خاصة وكأن هذه الروايات في مجموعها تتضافر لتعطي الحدث كل ما يحتاج إليه من تفصيل أو تحليل أو تفسير أو تعليل.

3 -

أن كل من تلقي عن أنس وعمن تلقي عن أنس أخذ الرواية بالدقة اللازمة، وأداها بالأمانة الواجبة وأنَّه كما يتحدث أنس تارة بالإجمال وأخرى بالتفصيل يأخذ عنه تلاميذه ويؤدون كما سمعوا.

4 -

أن البخاري يستنبط فقهه من هذه الروايات، ومن هنا تختلف استنباطاته تبعًا لاختلاف هذه الروايات ثم تأتي تراجمه لهذه الأحاديث في أبوابها معبرة عن اختلاف هذه الاستنباطات بما يوائم الكتب والموضوعات التي أودعت فيها هذه الأبواب من جهة، وبما يوائم الروايات التي تتخير لهذه الأبواب من جهة أخرى؛ بحيث تكون الترجمة مندرجة تحت الكتاب المعين في الوقت الذي يتسق فيه معها كل ما أورد في إطار عنوانها من رواية، بل كل ما كانت هذه الترجمة عنوانًا له أو استنباطًا بحيث تبين تراجم البخاري عن فقهه وفلسفته من جهة كما تبين عن تمام الملاءمة مع كتب الأبواب وأحاديث هذه الأبواب من جهة أخرى.

5 -

كما رأينا فقد جاءت هذه الروايات في كتب: الخصومات، والوصايا والطلاق والديات.

وقد يكون من الواضح اندراج هذا الحدث في كتابي الخصومات، والديات الذي يعبر عنه في بعض المراجع بالقصاص كما ذكر ذلك ابن حجر في تعليقه على الحديث في روايته الثانية (5/ 371).

بيد أن دخول هذا الحدث وروايته في موضوعي الوصايا والطلاق هو الذي يحتاج إلى تفسير.

وقد كفانا بدر الدين بن جماعة مؤنة هذا في كتابه: مناسبات تراجم البخاري ص 102 حيث قال عن إيراد الحديث في كتاب الطلاق باب الإشارة في الطلاق والأمور ما يلي:

مقصود البخاري بما ذكر من الحديث والآثار: أن الإشارة إذا فهمت من الأخرس وغيره نزلت منزلة اللفظ في ترتب الأحكام عليها، وأن الشرع اعتبرها في الحكم كاللفظ.

فإذا لاحظنا أن المرأة أصمتت أي لم تكن تقدر على النطق وأنها أشارت كما يشير الأخرس وأن هذه الإشارة عمل بمقتضاها في القصاص من القاتل كان معنى هذا أن إشارة الأخرس ومن في حكمه يعمل بها في الأحكام ومن ذلك الطلاق والوصايا. =

ص: 435

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 6 - أن هذه الروايات - وقد صحت جميعها - ينبغي أن يجمع بينها فيما اختلف من الجزئيات فيها، وأن بكامل بعضها بعضًا فيما يتعلق بعناصر الحدث وتفصيلاته وأبعاده.

7 -

فيما يتعلق بوسيلة قتل اليهودي للجارية فقد أفادت الروايات الأولى، والثانية، والرابعة، والسابعة أن اليهودي رض رأس الجارية بحجرين.

وفي الرواية الثالثة أنه رضخ رأسها وفي الخامسة والسادسة أنه رماها وقتلها بحجر وفي الثامنة أنه قتلها على أوضاح لها.

ولا تنافي بين هذه الروايات.

فالرضخ هو الرمي بالحجارة رميًا ينشأ عنه غالبًا شرح ودق وكسر ولهذا قال اللغويون: رضخه رضخًا دقه بحجر وكسره فهو مرضوخ ورضيخ يقال رضخ الحصى والنوى الرأس ورضخ الشيء اليابس رضه و كسره. ورضه: دقه جريشًا أو كسره ولم ينعم دقه.

ولهذا فالرضخ والرض بمعنى أو هما متقاربان كما في الفتح 12/ 198، والمعجم الوسيط 1/ 350 - 351 والنهاية 2/ 228 - 229.

فروايات الرض والرضخ يفسر بعضها بعضًا.

وقد رميت الجارية بحجر ومن قوة الضربة لم تحتمل فوقعت مغشيًا عليها وصادف وقوع رأسها المصابة على حجر آخر كان له بدوره نصيب من مضاعفة الرض أو الرضخ فصح أنها رضت بحجر كما صح أنها رضت بحجرين، قال ابن حجر في الموضع السابق: ولا تنافي بين قوله: "رض رأسها بين حجرين" وبين قوله: "رماها بحجر" وبين قوله: "رضخ رأسها؛ لأنَّه يجمع بينها بأنه رماها بحجر فأصاب رأسها فسقطت على حجر آخر.

8 -

فيما يتعلق بما حدث عدا هذا فقد عدا اليهودي على حلي الجارية فأخذها وأتي أهلها النبي صلى الله عليه وسلم يرفعون لدعوى على ذلك اليهودي وعند غير البخاري: فدخل عليها رسول الله عنه فقال لها: من قتلك؟

9 -

يبدو أنه لم تكن تمت بينة على هذه الدعوى ولهذا سئلت الجارية عن أناس آخرين إن كانوا قد قتلوها فأشارت أن لا ولم يك بد بعد هذا من سؤالها إن كان اليهودي المدعى عليه هو القاتل وأشارت أن نعم - أي أومأت برأسها كما تذكر بعض الروايات والجمع بين هذه الروايات يقضي أنها لم تتكلم وأن إشارتها برأسها كانت مرة تفيد النفي وفي المرة الأخيرة أفادت الإثبات.

10 -

كان لا بد من إحضار المدعى عليه ولهذا ترجم البخاري في أول موضع أورد فيه الحديث بهذا العنوان: باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهود (5/ 71).

والإشخاص هو إحضار الشخص وهو هنا اليهودي المدَّعَى عليه.

11 -

ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ المتهم بدعوى دون بينة أو اعتراف، ولم تكن تمث بينة كما سبق، فلم يبق إلا أن يكون إقرار أو اعتراف فكيف تم ذلك؟

في الرواية الأولى: فأخذ اليهودي فاعترف.

في الرواية الثانية: فلم يزل حتى اعترف.

في الرواية الثالثة: اختصرت هذه الجملة.

في الرواية الرابعة: فلم يزل به حتى أقَرَّ.

في الرواية الخامسة: اختصرت هذه الجملة وفيها فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

في الرواية السادسة: اختصرت هذه الجملة.

ص: 436

وفي رواية لمسلم: أن رجلًا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في القَلِيب، ورضَخَ رأسها بالحجارة، فأخِذ فأُتِيَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يُرجم حتى يموت، فرُجم حتى مات

(1)

.

= في الرواية السابعة: فجيء باليهودي فاعترف.

في الرواية الثامنة: اختصرت هذه الجملة.

ومن هذه الروايات نستطيع القول إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن وقف بنفسه على الدعوى من المجني عليها دعا بإحضار المتهم وإشخاصة وإنه لعدم وجود بينة لم يزل باليهودي بكلامه الرقيق الرقيق وأسلوبه المستبين الحكيم حتى أقر اليهودي واعترف بما صدر منه ولو قد كان شيء آخر تعرض له اليهودي من ترويع أو تعذيب أو إرهاب أو تهديد لنقل إلينا ولهذا قال ابن حجر - نقلًا عن المهلب:

في الحديث أنه ينبغي للحاكم أن يستدل على أهل الجنايات ثم يتلطف بهم حتى يقروا ليؤخذوا بإقرارهم.

12 -

فيما يتعلق بالقصاص فهذه هي الروايات.

أ - فرض رأسه بين حجرين.

ب - فرض رأسه بالحجارة.

ج - فرخ رأسه بين حجرين.

د - فرض رأسه بالحجارة.

هـ - فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين.

و - فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين.

ز - فرض رأسه بالحجارة - بحجرين.

ح - قتله بالجارية.

وعند مسلم كما سيجيء فأمر به فرجم حتى مات.

وعن الجمع بين هذه الروايات قال ابن حجر 12/ 199:

قال عياض: رضخه بين حجرين، ورميه بالحجارة، ورجمه بها بمعنى والجامع أنه رمى بحجر أو أكثر ورأسه على حجر آخر.

ملحوظة: واضح أن المرأة كانت تجود بنفسها وهي تجيب برأسها فلما ماتت كان القصاص.

13 -

عندما نتملى عناوين الأبواب التي روي بها البخاري هذه الأحاديث فسنلمس إلى أي مدى كان اقتدار الرجل في الاستنباط بل إلى أي مدى كان فقهه وكانت فلسفته؟.

14 -

العبارة التي أوردها ابن رجب فأخذ فاعترف واضح أنها في الرواية الأولى وإن لم تكن بها بهذا النص لكن الرواية الأولى هي الأقرب إلى هذه العبارة حيث جاء نصها: "فأخذ اليهودي فاعترف" وبنحوها جاءت الرواية الثانية والرابعة والسابعة.

والحديث رواه مسلم في صحيحه: 28 - كتاب القسامة: 3 - باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات وقتل الرجل بالمرأة 3/ 1299 - 1300 ح 15 - 17 من خمسة أوجه بنحو ما أورد البخاري وفي آخرها فقط: "فأخذ اليهودي فأقر" وليس فيه فاعترف.

فلعل ابن رجب يقصد من قوله: وفي رواية لهما: "فأخذ فاعترف" أن في مجموع الكتابين هذه العبارة بحيث تصدق بوجودها بنصها - على ما علمت - في أحدهما وبمعناها في الكتاب الآخر.

(1)

في الموضع المذكور وعند مسلم بهذه الرواية تفصيل لم يرد في روايات البخاري: أن اليهودي أخذ حليٌ=

ص: 437

• والقول الثاني: لا قَود إلا بالسيف، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة رضي الله عنه، ورواية عن أحمد.

وعن أَحمد رواية ثالثة: يُفعل به كما فَعَل إلا أَن يكون حرَّقَه بالنار أَو مثَّل به فيقتل السيف؛ للنهي عن المثلة، وعن التحريق بالنار.

نقلها عنه الأثرم.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قَوَد إلا بالسيف".

خرجه ابن ماجه.

وإسناده ضعيف

(1)

.

قال أحمد: يُروى "لا قود إِلا بالسيف" وليس إسناده بجيد.

وحديث أَنس - يعني في قتل اليهودي بالحجارة - أسند منه وأَجود.

* * *

[ماذا لو مثل به ثمَّ قتله؟]:

ولو مثَّل به ثم قتله مثل أَن قَطع أَطرافه ثم قَتَله فهل يُكتفي بقتله أم يُصنع به كما صنَعَ فتقطع أَطرافه ثم يقتل؟ على قولين:

أحدهما: يفعل به كما فعل سواء.

وهو قول أَبي حنيفة، والشافعي وأحمد، في إحدى الروايتين وإسحاق وغيرهم.

والثاني: يكتفي بقتله.

وهو قول الثوري، وأحمد في رواية، وأبي يوسف، ومحمد.

وقال مالك: إن فعل ذلك به على سبيل التمثيل والتعذيب فُعِل به كما فعل، وإن لم يكن على هذا الوجه اكتُفِي بقتله.

* * *

= الجارية وكان قتله لها أو عدوانه عليها بسبب هذا الحلي وأنَّه ألقاها بعدئذ في الحفرة ورضخ رأسها بالحجارة ولا مانع أن تكون قد سقطت على حجر وضربت بحجر آخر سواء أكان ضربها بالحجر قبل السقوط أو بعده.

(1)

أخرجه ابن ماجه في كتاب الديات: باب لا قود إلا بالسيف 2/ 889 من طريقين ضعيفين قال صاحب الزوائد عن أولهما: في إسناده جابر الجعفي وهو كذاب، وعن الثاني: في إسناده مبارك بن فضالة، وهو يدلس، وقد عنعنه وذلك من حديث النعمان بن بشير.

ص: 438

[الوجه الثاني من وجوه القتل المباح]:

• والوجه الثاني: أن يكون القتل للكفر: إما لكفر أصلي أو لردة عن الإسلام؛ فأكثر العلماء على كراهة الممثلة فيه أيضًا وأنَّه يقتل فيه بالسيف.

* * *

[ما روي في جواز التمثيل]:

• وقد روي عن طائفة من السلف جواز التمثيل فيه بالتحريق بالنار وغير ذلك كما فعله خالد بن الوليد وغيره

(1)

.

• وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه حرق فجاءَة

(2)

بالنار.

• وروي أن أم قرفة

(3)

الفزارية ارتدت في عهد أبي بكر الصديق فأَمر بها فشدّت ذؤابتها في أذناب قلُوصين، أو فرسين، ثم صاح بهما فتقطعت المرأة.

وأَسانيد هذه القصة منقطعة.

• وقد ذكر ابن سعد في طبقاته

(4)

بغير إسناد أن زيد بن حارثة قتلها هذه القتلة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

وصح عن علي رضي الله عنه أنه حرَّق المرتدين، وأنكر ذلك ابنُ عباس عليه

(5)

.

• وقيل: إنه لم يحرقهم وإِنما دخن عليهم حتى ماتوا. وقيل إنه قتلهم ثم حرقهم، ولا يصح ذلك، وروي عنه أنه جيء بمرتد فأمر به فوطيء بالأرجل حتى مات.

• واختار ابن عقيل من أصحابنا جواز القتل بالتمثيل للكفر لا سيما إذا تغلَّظ،

(1)

رواه ابن سعد في الطبقات 7/ 396 من حديث هشام بن عروة عن أبيه

(2)

في المطبوعة: "فجأة" وهو تحريف ظـ "الفُجأة".

(3)

في المطبوعة: "أم فرقد".

(4)

2/ 90.

(5)

في ذلك يروي البخاري في كتاب استتابة المرتدين: باب حكم المرتد والمرتدة 12/ 267 ح 6922 من حديث عكرمة، مولي ابن عباس، قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقتلتهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه. وانظر ما أورده ابن حجر في هذا الموضع عن هذا.

ورواه الترمذي في كتاب الحدود: باب ما جاء في المرتد 4/ 59 وزاد فيه فبلغ ذلك عليًّا فقال: صدق ابن عباس.

ص: 439

وحمَل النهي عن المثلة على القتل بالقصاص.

• واستدل من أجاز ذلك بحديث العُرَنيّين، وقد خرجاه في الصحيحين من حديث أَنس: أَن أناسا من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فاجتوَوها

(1)

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشرَبُوا من أَلبانها وأَبوالها فافعلوا. ففعلوا فصَحُّوا، ثم مالوا على الرِّعاء فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، وسَاقوا ذَودَ

(2)

رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في أثَرهِم، فأُتي بهم، فقطَّع أيديَهُم وأرجلهم، وشمل

(3)

أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا".

• وفي رواية. ثم نُبذوا في الشمس حتى ماتوا.

وفي رواية: وسُمِرت أعينهم وأُلقوا في الحرة يستسقون فلا يُسقَونَ

(4)

.

(1)

اجتووها: استوخموها، وتضرّروا بها، ولم يوافقهم جوها وطعامها، فكرهوا المقام بها.

(2)

الذود (بفتح الذال وسكون الواو) من الإبل ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، راجع النهاية 2/ 171.

(3)

السمل: فقء العين، والسَّمر: لغة في السمل ومخرجهما متقارب، وقد يكون بالمسمار، يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت. راجع فتح الباري في مواضع الحديث.

(4)

أخرجه البخاري في: 4 - كتاب الوضوء: 66 باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها 1/ 335 ح 233 من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالهم وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون".

قال أبو قلابة: "فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله".

وفي: 24 - كتاب الزكاة: 68 - باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل 3/ 366 ح 1501 من طريق مسدد عن يحيى عن شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه أن ناسًا من عرينة اجتووا المدينة، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وتركهم بالحرة يعضون الحجارة".

وفي 56 - كتاب الجهاد: 152 - باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرّق؟ 6/ 153 ح 2018 عن معلى بن أسد، عن وهيب عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رهطًا من عكل ثمانية قدموا على النبي فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أبغنا رِسْلًا (أعنا على طلبه والرسل بكسر الراء وسكون السين: الدر من اللبن) قال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذَّود (الثلاث من الإبل إلى العشرة) فانطلقوا فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم، فأتى الصريخ النبي صلى الله عليه وسلم (والصريخ صوت المستغيث) فبعث الطلب، فما ترجل النهار (ما ارتفع) حتى أتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها، وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا". =

ص: 440

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قال أبو قلابة: "قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا" وفي: 64 - كتاب المغازي: 36 - باب قصة عكل وعرينة 7/ 458 ح 4192 عن عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة أن أنسًا رضي الله عنه حدثهم أن ناسًا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فقالوا: يا نبي الله! إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذوذ وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطب في آثارهم فأمر بهم، فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم".

قال قتادة: "بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك - كان يحث على الصدقة، وينهى عن المثلثة".

ملحوظة: ينظر عن هذا البلاغ وما كتبه ابن حجر في هذا الموضع، فقد ذكر أن هذا الْمَتْنَ جاء مسندًا من حديث قتادة عن الحسن البصري عن هياج عن عمران بن حصين وسمرة بن جندب عن أحمد وأبي داود وقد مضى لنا هذا الحديث وحديث أنس أخرجه البخاري كذلك في: 65 - كتاب التفسير: 5 - باب {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا - إلي قوله - أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} الآية 8/ 273 ح 4610 عن علي بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن ابن عون، عن سلمان مولى أبي قلابة، عن أبي قلابة أنه كان جالسًا خلف عمر بن عبد العزيز فذكِّروا وذكروا، فقالوا وقالوا: قد أفادت بها الخلفاء، فالتفت إلى أبي قلابة وهو خلف ظهره، فقال: ما تقول يا عبد الله بن زيد أو قال: ما تقول يا أبا قلابة؟ قلت: ما علمت نفسا حل قتلها في الإسلام إلا رجل زنى بعد إحصان، أو قتل نفسًا بغير نفس، أو حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال عنبسة: حدثنا أنس بكذا وكذا، قلت: إياي حدث أنس، قال: قدم قوم على النبي صلى الله عليه وسلم فكلموه فقالوا: قد استوخمنا هذه الأرض، فقال: هذه نعم لنا تخرج لترعى، فاخرجوا فيها فاشربوا من ألبانها وأبوالها، فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحوا ومالوا على الراعي فقتلوه، واطردوا النعم، فما يستبطأ من هؤلاء؟ قتلوا النفس، وحاربوا الله ورسوله، وخوفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث.

وفي: 76 - كتاب الطب: 5 - باب الدواء بألبان الإبل 10/ 141 ح 5685 عن مسلم بن إبراهيم، عن سلام ابن مسكين، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك أن ناسًا كان بهم سقم، قالوا: يا رسول الله! آونا وأطعمنا، فلما صحوا قالوا: إن المدينة وخمة، فأنزلهم الحرة في ذَوْدٍ له، فقال: اشربوا من ألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا ذوده فبعث في آثارهم فقطع أيديهم وأرجهلم وسمر أعينهم فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت".

قال سلام: فبلغني أن الحجاج قال لأنس: "حدثني بأشد عقوبة عاقبه النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بهذا، فبلغ الحسن، فقال: "وددت أنه لم يحدثه".

وفي: 6 - باب الدواء بأبوال الإبل / 10/ 42 ح 5686 عن موسى بن إسماعيل، عن همام، عن قتادة، عن أنس - بنحوه وعقب البخاري بقوله: قال قتادة: فحدثني محمد بن سيرين أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود. وفي: 29 - باب من خرج من أرض لا تلائمه 10/ 178 ح 5727 بنحو ما في المغازي وفيه فانطلقوا حتى كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم

الحديث.

وفى 86 - كتاب الحدود: 15 - باب المحاربين من أهل الكفر والردة وقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} 12/ 109، ح 6802 عن علي بن عبد الله، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى=

ص: 441

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ابن أبي كثير، عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه

الحديث وفيه: "فصحوا فارتدوا فقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل

فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا".

وفي: 16 - باب لم يحسم النبي صلى الله عليه وسلم المحاربين من أهل الردة حتى هلكوا 12/ 110 - 111 ح 16803 عن محمد بن الصلت عن الوليد بن مسلم به مختصرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع العرنيين ولم يحسمهم.

وفي: 17 - باب لم يسق المرتدون حتى ماتوا 12/ 111 ح 6804 عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في الصفة فاجتووا المدينة

وساق الحديث بنحو ما مضى وقول أبي قلابة: سرقوا وقتلوا وحاربوا الله ورسوله. وفي: 18 - باب سمر النبي صلى الله عليه وسلم أعين المحاربين 112/ 12 ح 1805 من رواية قتيبة بن سعيد عن حماد، عن أيوب - به الحديث بنحو ما مضى وفيه: فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم غدوة، فبعث الطلب في إثرهم فما ارتفع النهار حتى جيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ....

وقول أبي قلابة: "هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله".

وفي 87 كتاب الديات: 22 - باب القسامة 12/ 230 - 31 ح 6899 عن قتيبة بن سعيد، عن أبي بشر، عن الحجاج بن أبي عثمان عن أبي رجاء، عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يومًا للناس، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟.

قالوا: نقول: القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء؟ قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب. أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قَدْ زنى، ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا. قلت: فو الله مما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل يجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام. فقال القوم: أو ليس قد حدث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في السرق، وسمر الأعين (يعنون في معصية وإن لم تصل إلى الكفر؟) [قال أبو قلابة:] فقلت: أنا أحدثكم حديث أنس، حدثني أنس أن نفرا من عكل: ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض فسقمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أفلا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من ألبانها وأبوالها؟ قالوا: بلى فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فَصحُّوا، ففتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واطردوا النعم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهم فأدركوا فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا. قلت (القائل أبو قلابة): وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء؟ ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا وسرقوا؟! فقال عنبسة بن سعيد (وقد تذكَّر الحديث وأن ما حدث كان للكفر والقتل والسرقة لا لمجرد المعصية) والله إن سمعت كاليوم قط؟! قال أبو قلابة: أتردُّ عليّ حديثي يا عنبسة؟ قال: لا ولكن جئت بالحديث على وجهه، والله لا يزال هذا الجند بخير ما عاش هذا الشيخ بين أظهرهم .. الحديث.

والملحوظ من هذه الروايات ما يلي:

1 -

أن هؤلاء النفر الذين قدموا المدينة كانوا ثمانية وكان بعضهم من عكل وبعضهم من عرينة ثلاثة من عكل وأربعة من عرينة والثامن كان تبعًا لهم.

وهذا يفسر ما جاء في هذه الروايات أنهم من عكل أو من عرينة أو منهما معا، وأن ناشا وأن رهطًا إلخ.

2 -

أنهم جاءوا مبايعين على الإسلام وشرائعه وجاءوا طالبين أن يدبر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أمر الإقامة والإعاشة؛=

ص: 442

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حيث قالوا "آونا وأطعمنا".

3 -

حين سقمت أبدانهم وهم بالمدينة وذكروا أنهم أم يتعودوا، على حياة الريف والمدن رغبوا أن يخرجوا إلى الإبل في الصحراء يفيدون من ألبانها، ويفيئون إلى مراعيها ويذخرون من أشعارها وأوبارها أثاثا ومتاعًا إلى حين؛ سيما وهم لم يوائمهم طعام المدينة ولا جواؤها.

ولقد طلبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعينهم على حياتهم خارج المدينة.

ولقد وافقهم صلى الله عليه وسلم وسمح لهم بالارتفاق بإبله بل خصص لخدمتهم راعي هذه الإبل، ولم يكتف بهذا وذاك وإنما وصف لهم العلاج مما سقموا منه، حتى برئوا بفضل الله ورسوله.

فماذا بعد الإنعام إلا الشكر، وماذا بعد فضل الله إلا الإقامة على الإيمان وطاعته وماذا بعد بيعة الرسول إلا الوفاء بها؟!.

ثم ماذا أذا حدث الكفر بعد الأيمان؟ والمعصية بدل الطاعة؟ ونقض العهد مع الله ورسوله من بعد ميثاقه؟!.

لقد أفادت الروايات ما يلي:

1 -

أن الجزاء النبوي لم يكن عقابًا على معصية فحسب.

وإنما كان عقابًا على ارتدادهم وحربهم لله وسعيهم في الأرض فسادًا ولقد ذكر المفسرون أن آية المحاربين إنما نزلت بسببهم وترجم البخاري بالآية في أكثر من موضع كما رأينا ..

2 -

أنه ليس لأحد أن يملي بها لنفسه ولا أن يفتي بها لحاكم أن يقتل في المعصية، أو أن يمثل بها في التمثيل برقاب الناس أو التنكيل بعباد الله.

لقد سأل الحجاج أنَسًا أن يحدثه بأشد عقوبة عاقبه النبي صلى الله عليه وسلم وأسرع أنس فحدثه بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين دون أن يبسط له أنهم كفروا بعد إسلامهم، وخانوا الله فأمكن منهم، ونفضوا بيعة رسوله وعاشوا في الأرض فسادًا ولم يقتصر أمرهم على السرقة أو القتل فحسب.

ولقد كان الحجاج مسرفًا في طغيانه مسرفًا في أجزيته ولو علم أنس سلفًا أن الحجاج سيعتمد على هذه الجزئية التي اقتصر أنس في إخباره عليها ليبرر لنفسه إسرافها في الانتقام، وتجاوزها في التشفي ما اقتصر على ذلك، ولعل عذر أنس أنه لم يدر بخلده أن الحجاج يريد ليتخذها مبررًا أو تكأة للعقاب على مجرد المعصية ولهذا ما عتم الحجاج بن يوسف الثقفي حين سمع ذلك من أنس وكما نقل ابن حجر في الفتح في موضع الرواية (10/ 142) عن بهز: "فوالله ما انتهى الحجاج حتى قام بها على المنبر فقال: حدثنا أنس فذكر الحديث ثم قال: قطع النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي والأرجل وسمل الأعين في معصية الله أفلا نفعل نحن ذلك في معصية الله؟ وأخطأ الحجاج خطأ فاحشا؛ فلم يكن ذلك في مجرد المعصية وإنما كان ذلك للردة والكفر وحرب الله ورسوله.

وأخطأ الحجاج خطأ فاحشا ففد كان كما حكت الروايات الآنفة: قبل أن تنزل الحدود.

وأخطأ الحجاج خطأ فاحشًا فقد كان ذلك كما حكت الروايات: قبل النهي عن المثلة.

ولهذا لما بلغ الحديث الحسن البصري قال: وددت أنه لم يحدثه.

بل كما نقل ابن حجر عن الإسماعيلي في الموضع نفسه فقد قال أنس نفسه: ما ندمت على شيء ما ندمت على حديث حدثت به الحجاج فذكر ما حدثه به في شأن العرنيين.

قال ابن حجر:

وإنما ندم أنس على ذلك لأن الحجاج كان مسرفًا في العقوبة، وكان يتعلق بأدنى شبهة، ولا حجة له في قصة العرنيين لأنَّه وقع التصريح في بعض طرقه أنهم ارتدوا وكان ذلك قبل أن تنزل الحدود، وقبل النهي عن المثلة=

ص: 443

• وفي رواية للترمذي: قطع أيديَهم وأرجلَهم من خلاف

(1)

.

• وفي رواية للنسائي: وصلَّبهم

(2)

.

* * *

[الآراء فيما عوقبوا به]:

• وقد اختلف العُلماءُ في وجه عقوبة هؤلاءِ: فمنهم من قال: من فَعل مثل فِعلهم فارتد وحارب وأَخذ المال - صُنع به كما صنع بهؤلاءِ.

• ورُوي هذا عن طائفة منهم أبو قلابة، وهو رواية عن أحمد. ومنهم من قال: بل

(3)

= وقد حضر أبو هريرة الأمر بالتعذيب بالنار ثم حضر نسخه والنهي عن التعذيب بالنار وكان إسلام أبي هريرة متأخرًا عن قصة العرنيين وقد أحال ابن حجر على مواطن ذلك من كتب الطهارة، والجهاد والمغازي.

ولا زلنا على ذكر مما دار في مجلس عمر بن عبد العزيز من حوار بين عمر وبين علمائه من جهة، وبين أبي قلابة وعنبسة بن سعيد من جهة أخرى وكيف استهدف عمر بيان وجه الحق فيما لولي الأمر من حق في العقوبة خاصة في ضوء تشريع القسامة من ناجة وما جاء عن عقوبة العرنيين من جهة أخرى وكيف كان تقبله لقوة حجة أبى قلابة في مواجهة ما اتجه إليه عنبسة وكيف كانت شجاعة أبي قلابة في دفاعه عن الرسول، وتوضيحه لأبعاد الموقف وكيف ترفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع عمر بن عبد العزيز وكيف استند إلى قوة الحجة وانتقل من مثال إلى مثال حتى يقنع عمر بحسن التأتي، وحكمة المنطق، وأقنعه فعلًا وحاج عنبسة فحجه حتى أشاد عنبسة بحفظه وبمكانته العلمية وأن الناس لن يزالوا بخير ما دام فيهم مثل أبي قلابة. وانتهى الملأ مع عمر بن عبد العزيز على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع ما صنع مع العرنيين لا لمجرد أنهم عصوا وإنما لأنهم ارتدوا وحاربوا الله ورسوله.

فليس لحاكم في المسلمين أن يتخذ هذا ذريعة للبطش والتنكيل بمن استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا وشهد أَنْ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟!.

وليس لحاقد على الإسلام أن يتخذ هذا ذريعة للنيل من نبي الإسلام فقد عرفنا ماذا صنع العرنيون، ثم قد عرفنا أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود، كما كان قبل النهي عن المثلة. ولو سلمنا أنه كان بعد النهي عن المثلة فقد كان قصاصا منهم قبل أن يكون مثلة بهم، والله أعلم.

وحديث أنس أخرجه مسلم في صحيحه: 28 - كتاب القسامة: 2 - باب حكم المحاربين والمرتدين 3/ 1296 - 1298 ح 9، 10، 11، 12، 13، 14 وعنده: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها" ففعلوا فصحوا ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم ":

"وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين فأرسلهم إليهم، وبعث معهم قائفًا يقتص أثرهم".

وقول أنس: "إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء.

(1)

في كتاب الطهارة: باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه 1/ 106 - 107.

(2)

في كتاب تحريم الدم: باب تأويل قول الله عز وجل {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} 7/ 93 - 101.

(3)

سقط من ر.

ص: 444

هذا يدل على جواز التمثيل بمن تغلظت جرائمه في الجملة، وإِنما نهى عن التمثيل في القصاص، وهو قول ابن عقيل من أَصحابنا.

• ومنهم من قال: بل نُسخ ما فُعل بالعُرَنيين بالنهي عن المثلة.

• ومنهم من قال: كان قبل نزول الحدود، وآية المحاربة، ثم نسخ بذلك.

وهذا قول جماعة منهم الأَوزاعي وأَبو عبيد

(1)

.

ومنهم من قال: بل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بهم إِنما كان بآية المحاربة

(2)

ولم ينسخ شيء من ذلك، وقالوا: إِنما قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقطع أيديهم لأَنهِم أَخذوا المال، ومن أَخذ المال وقَتل: قُطِعَ وصُلِّب حتما. فيقتل لقتله، وتقطع لاُخذه المال يده ورجله من خلاف، ويصلَّب لجمعه بين الجنايتين، وهما: القتل وأَخذ المال.

وهذا قول الحسن ورواية عن أحمد.

وإِنما سَمَل أعينهم لاُنهم سَمَلوا أَعين الرعاة.

كذا أَخرجه مسلم من حديث أَنس

(3)

.

• وذكر ابن شهاب أَنهم قتلوا الراعي، ومثلوا به. وذكر ابن سعد أَنهم قطعوا يده ورجله وغرسوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، وحينئذ فقد يكون قطعهم وسَمْلُ

(4)

أَعينهم، وتعطيشُهم - قصاصا.

• وهذا يتخرج على قول من يقول: إِن المحارب إِذا جنى جناية توجب القصاص اسْتُوْفِيَتْ منه قبل قتله، وهو مذهب أَحمد. لكن هل يستوفى منه تحتُّمًا كقتله أَم على وجه القصاص فيسقط بعفو الولي؟ على روايتين عنه، ولكن رواية الترمذي أَن قطعهم من خلاف يدل على أَن قطعهم للمحاربة، إلا أَن يكونوا قد قطعوا يد الراعي ورجله من خلاف. والله أعلم.

* * *

(1)

في المطبوعة: "وأبو عبيدة" وهو تحريف.

(2)

في المطبوعة: "إنما كان من باب المحاربة"

(3)

كما مضى ص 443، 444 هـ.

(4)

في المطبوعة: "وقد سمل" ولفظ "قد" هنا مقحم.

ص: 445

[الإذن في التحريق ثم نسخه]:

• وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه كان أَذن في التحريق بالنار، ثم نهى عنه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إِن وجدتم فلانا وفلانًا - لرجلين من قريش - سماهما - فأحرقوهما بالنار. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني كنت أمرتكم أن تُحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وِإن النار لا يعذب بها إِلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما

(1)

.

وفيه أَيضًا عن ابن عباس أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

لا تعذبوا بعذاب الله عز وجل

(2)

.

• وخرج الإمام أَحمد رحمه الله وأَبو داود والنسائي من حديث ابن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمررنا بقرية نمل قد أُحرقت فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إنه لا ينبغي لبشر أن يعذِّب بعذاب الله عز وجل"

(3)

.

• وقد حرق خالد جماعة في الردة.

• وروي عن طائفة من الصحابة تحريق مَنْ عِمل عمَل قوم لوط.

• وروي عن عليّ أَنه أَشار على أبي بكر أَن يقتله ثم يُحَرقه بالنار، واستحسن ذلك إسحاق بن راهوية؛ لئلا يكون تعذيبا بالنار.

• وفي مسند الإِمام أَحمد أَن عليا لما ضربه ابن مُلْجَم قال: افعلوا به كما أراد رسول

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد: باب التوديع 6/ 115 ح 2954 وباب لا يعذب بعذاب الله 6/ 449 ح 3016.

والرجلان: هما هبار بن الأسود ورفيقه خالد أو نافع بن عبد قيس آذيَا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان زوجها أبو العاص لما أسره ثم أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، شرط عليه أن يجهز له ابنته زينب فجهزها، فتبعها هبار ورفيقه فنخسا بعيرها، فاسقطت ومرضت من ذلك.

وقد أسلم هبار هذا بعدئذ. راجع ما أورده ابن حجر عنه وعن القصة في الفتح في الموضع الثاني من الموضعين المذكورين.

(2)

في كتاب الجهاد: باب لا يعذب بعذاب الله 6/ 449 ح 3017 من الفتح وطرفه ح 6922.

(3)

أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد: باب كراهية حرق العدو بالنار 3/ 125 وأحمد في المسند 5/ 288 بإسناد حسن، و 6/ 47 - 48 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر نقلًا عن مجمع الزوائد 4/ 41 والنسائي في التفسير في الكبرى كما في التحفة 7/ 77.

ص: 446

الله صلى الله عليه وسلم أَن يفعل برجل أراد قتله، قال: اقتلوه ثم حرقوه

(1)

.

• وأَكثر العلماء على كراهة التحريق بالنار حتى للهوام.

• وقال إِبراهيم النخعي: تحريق العقرب بالنار مُثْلةٌ.

ونهت أُم الدرداءِ عن تحريق البرغوث بالنار.

• وقال أَحمد: لا يشوى السمك في النار وهو حي، وقال: الجراد أَهون، لأَنه لادم له.

* * *

[النهي عن صبر البهائم وأن تتخذ الروح غرضا]:

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه نهى عن صَبْرِ البهائم وهو: أَن تحبس البهيمة ثم تضرب بالنَّبْل ونحوهِ حتى تموت.

• ففي الصحيحين عن أَنس: أَن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أَن تُصْبَر البهائم

(2)

.

• وفيهما أَيضًا عن ابن عمر: أَنه مر بقوم نصبوا دجاجة يرمونها فقال ابن عمر من فعل هذا؟ إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا.

• وخرّج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه نهى أَن يتخذ شيء فيه الروح غرضا

(3)

.

والغرض: هو الذى يرمي فيه السهام.

• وفي مسند الإمام أَحمد عن أبي هريرة: أَن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الرَّميَّة أَن ترمى الدابة، ثم تؤكل، ولكن تذبح، ثم ليرموا إِن شاءوا

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند 2/ 93 (المعارف) بإسناد صحيح وانظره في مجمع الزوائد 9/ 145. قال الهيثمي: فيه عمران بن ظبيان وثقه ابن حبان وغيره وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الصيد والذبائح: باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة وحديث ابن عمر التالي في الموضع نفسه 9/ 642 ح 5513 - 5515.

وأخرج مسلم حديث أنس في كتاب الصيد والذبائح: باب النهي عن صبر البهائم 3/ 1549 وحديث ابن عمر في الباب نفسه 3/ 1550.

(3)

أخرجه مسلم في الباب المذكور 3/ 1549.

(4)

مسند أحمد 2/ 402 (الحلبي) وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 13 عن أحمد والطبراني وقال: فيه ابن لهيعة وحديثه حسن.

ص: 447

[الأمر بإحسان الذبح]:

• وفي هذا المعنى أَحاديث كثيرة. فلهذا أَمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان القتل والذبح، وأَمر أَن تحد الشفرة، وأن تُراح الذبيحة، يشير إِلى أَن الذَّبْحَ بالآلة الحادة يُريح الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها.

• وخرج الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ابن عمر: قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدّ الشفار، وأَن تُوارى عن البهائم، وقال:"إِذا ذبح أَحدكم فليُجْهِز"

(1)

يعني فليسرع الذبح.

[الأمر بالرفق في الذبح]:

وقد ورد الأَمر بالرفق بالذبيحة عند ذبحها.

• وخرج ابن ماجه من حديث أَبي سعيد الخدري قال: مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، برجل، وهو يجر شاة بأذُنِها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"دع أُذنها وخذ بسالفتها"

(2)

.

والسالفة: مقدم العنق.

• وخرج الخلّال والطبراني من حديث عكرمة، عن ابن عباس، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها؛ فقال:"أفلا قَبْل هذا؟ أتريد أن تميتها موتتين؟ "

(3)

.

وقد روي عن عكرمة مرسلًا، خرجه عبد الرزاق

(4)

وغيره، وفيه زيادة:"هلا حدَدت شفرتك قبل أن تضجعها".

• وقال الإمام أَحمد: تُقاد إِلى الذبح قودا رفيقا، وتُوارى السكين عنها، ولا يظهر السكين إِلا عند الذبح. أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أَن توارى الشفار

(5)

.

(1)

ابن ماجه في السنن: كتاب الذبائح: باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح 2/ 1059 بإسناد ضعيف، فقد ذكر صاحب الزوائد أن مدار إسناده على ابن لهيعة وشيخه قرة وكلاهما ضعيف.

ورواه أحمد في المسند 8/ 169 - 170 المعارف بإسناد صحيح.

(2)

أخرجه في السنن 2/ 1059 بإسناد ضعيف للعلة التي ذكرناها في الحديث السابق.

(3)

أورده الهيثمي في المجمع 4/ 33 عن الطبراني في الكبير والأوسط وقال: رجاله رجال الصحيح ب: "موتات" وما أثبتناه هو الموافق للمجمع والمعجم 11/ 263.

(4)

في المصنف 4/ 493.

(5)

انظر المصنف ح 8606، 8608.

ص: 448

• وقال: ما أبهمت عليه البهائم فلم تُبهَم، إنما تعرف ربها، وتعرف أنها تموت.

• وقال يروى عن ابن سابط أنه قال: إِن البهائم جبلت على كل شيء إِلا أَنها

(1)

تعرف ربها، وتخاف الموت.

• وقد ورد الأَمرُ بقطع الأَوداج عند الذبحِ كما خرجه أَبو داود من حديث عكرمة عن ابن عباس، وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن شريطة الشيطان

(2)

.

وهي التي تذبح فيقطع الجلد. ولا تفري الأَوداج.

• وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وعنده: قال عكرمة: كانوا يقطعون منها الشيء اليسير ثم يذَرُونها حتى تموت، ولا يقطعون الودَج، فنُهي عن ذلك

(3)

.

• وروى عبد الرزاق في كتابه، عن محمد بن راشد، عن الوَضين بن عطاء قال: إِن جزارًا فتح بابا على شاة ليذبحها فانفلتت منه حتى جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فأتبعها فأخذ يسحبها برجلها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبري لأمر الله، وأنت يا جزار، فسقها إلى الموت سوقا رفيقا

(4)

".

• وبإسناده عن ابن سيرين: أَن عمر رأَى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له: ويلك قُدْها إلى الموت قودا جميلا

(5)

.

• وروى محمد بن زياد أن ابن عمر رأى قصَّابا يجر شاة فقال: سُقها إلى الموت سوقًا جميلًا فأخرج القصاب شفرته

(6)

فقال: ما أسوقها سوقًا جميلًا، وأنا أريد أن أذبحها الساعة. فقال: سقها سوقا جميلا.

• وفي مسند الإِمام أَحمد عن معاوية بن قرَّة، عن أَبيه، أَن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إِنى لأَذبح الشاة وأَنا أَرحمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والشاة إن رحمتَها

(1)

أ، ر:"إلا على أنها" وفي أ كتب فوق إلا: "كذا".

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب الأضاحي: باب المبالغة في الذبح 3/ 251 - 252 وتفسير الشريطة التالي من قول الحسن بن عيسى مولى ابن المبارك كما في أبي داود.

(3)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7/ 555.

(4)

المصنف 8609 وإسناده معضل؛ فوفاة الوضين سنة سبع أو تسع وأربعين ومائة فضلا عن أنه مختلف في توثيقه التهذيب 11/ 120 - 121.

(5)

المصنف 8605 بإسناد منقطع؛ فابن سيرين ولد لسنتين بقيتا من خلافه عثمان؛ فلم يدرك عمر تهذيب 9/ 214.

(6)

في المطبوعة: "شفرة".

ص: 449

رحِمكَ الله

(1)

.

• وقال مطرِّف بن عبد الله: إِن الله ليرحم برحمة العصفور.

• وقال نوفٌ

(2)

البكالي: إِن رجلا ذبح عِجَّوْلا

(3)

بين يدى أُمه فخُبل فبينما هو تحت شجرة فيها وكر فيه فرخ، فوقع الفرخ إِلى الأرض فرحمه، فأَعاده في مكانه، فرد الله إليه قوّته.

* * *

وقد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه نهى أَن تُولَّهَ والدة عن ولدها

(4)

.

وهو عام في بني آدم وغيرهم.

وفي سنن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفَرَع فقال: "هو حق وأَن تتركوه حتى يكون بَكْرا ابن مخاض أَو ابْن لبون فُتعطيَه أَرملة أَو تحمل عليه في سبيل الله - خيرٌ من أَن تذبحه فيلصَق لحمه بوبره، وتُكفئَ إِناءَك، وتولِّهَ ناقَتَك

(5)

".

(1)

مسند أحمد 3/ 436 (الحلبي) من رواية إسماعيل بن إبراهيم، عن زياد بن مخراق عن معاوية بن قرة وقد أورده الْهَيْثَمي في مجمع الزوائد 4/ 32 - 33 عن أحمد والطبراني في الصغير وقال: رجاله ثقات وهو عند الطبراني 1/ 129 ح 293 وعند أحمد كذلك 5/ 34.

(2)

في المطبوعة: "عوف" وهو تحريف.

(3)

في المطبوعة: "عجلا "والعجل والعجَّول (بكسر العين وتشديد الجيم المفتوحة وسكون الواو) ولد البقرة كما في القاموس 4/ 13.

(4)

كما روى أبو داود 2842 والنسائي 4225 وأحمد في المسند 2/ 182 - 183 و 187 من حديث عبد الله بن عمرو.

(5)

أخرجه أبو داود في: 10 - كتاب الأضاحي: 21 - باب العقيقة 3/ 262 - 363 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال: لا يحب الله العقوق، كأنه كره الاسم وقال: من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة، وسئل عن الفرع، قال: والفرع حق وأن تتركوه حتى يكون بكرًا شُغْزُبًّا ابن مخاض أو ابن لبون، فتعطيه أرملة، أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناءك، وتوله ناقتك".

قال الخطابي: قوله: "لا يحب الله العقوق" ليس فيه توهين لأمر العقيقة، ولا إسقاط لوجوبها، وإنما استبشع الاسم وأحب أن يسميه بأحسن منه واختلف أهل اللغة في اشتقاق اسم العقيقة، فقال بعضهم: العقيقة اسم للشعر يحلق فسميت الشاة عقيقة على المجاز إذْ كانت إنما تذبح بسبب حلاقة الشعر وقال بعضهما: بل العقيقة هي الشاة نفسها وسميت عقيقة لأنها تعق مذابحها أي تشق وتقطع، يقال عق البرق في السحاب إذا تشقق فتشظى له شظايا في وجه السحاب، قالوا: ومن هذا عقوق الولد أباه: وهو قطيعته وجفوته.

وقوله حتى يكون بكرًا شغزبا هكذا رواه أبو داود، وهو غَلط وَالصواب حتى يكون بكرًا زُخْرُبًّا وهو الغليظ كذا رواه أبو عبيد وغيره ويشبه أن يكون حرف الزاي قد أبدل بالسين لقرب مخارجها وأبدل الخاء غينًا لقرب =

ص: 450

والمعنى أَن ولد الناقة إِذا ذبح وهو صغير عند ولادته لم يُنتفع بلحمه، وتضرَّر صاحبه بانقطاع لبن ناقته، ويُكفئَ إِناءَه، وهو المحلب الذي تُحلب فيه الناقة، وتُولَّه الناقة على ولدها؛ بفقدها إياه.

= مخرجهما فصار سغربا فصحفه بعض الرواة فصار شُغِّزُبًّا:

وقوله: "وتَكفأ إناءك" يريد بالإناء: المحلب الذي تحلب فيه الناقة، يقول: إذا ذبحت جوارها انقطع مادة اللبن فتترك الإناء مكفأ لا يحلب فيه.

وقوله: "وتوله ناقتك" أي تفجعها بولدها وأصله من الوله وهو ذهاب العقل من فقدان إلف، وأنشد ابن الأعرابي:

وكنا خليطي في الجمال فأصبحت

جمالي توالي وُلَّهًا من جمالك

راجع معالم السنن بهامش السنن.

ص: 451