الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والثلاثون
عَنْ أَبي سَعِيد: سَعْدِ بْنِ مالِكِ بْنِ سِنَانٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ". حَدِيثٌ حَسَنٌ.
رَوَاهُ ابْنُ ماجَهْ وَالدارَقطنيُّ وَغيرُهُما مُسْنَدًا.
وَرَوَاهُ مالِكٌ في المُوَطإِ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيى عَنْ أَبيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسلًا، فَأَسقَطَ أَبَا سَعِيدٍ وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّى بَعْضُهَا ببعض
(1)
.
* * *
[تخريج الحديث]
حديث أبي سعيد لم يخرجه ابن ماجه؛ وإنما خرَّجَه الدارقطني
(2)
والحاكم
(3)
والبيهقى
(4)
من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة حدثنا الدراوردى، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا ضرر ولا ضرار: من ضارّ ضرّه الله، ومن شاق شق الله عليه".
وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم.
• وقال البيهقي: تفرد به عثمان عن الدراوردي.
وخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلا
(5)
.
• قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث.
قال: ولا يسند من وجه صحيح.
(1)
م: يقوى بعضها بعضًا.
(2)
في السنن كتاب البيوع 3/ 77 بِنَصِّهِ كاملًا كما أورده ابن رجب.
وفي كتاب الأقضية والأحكام: باب في المرأة تقتل إذا ارتدت 4/ 228 شطره الأول "لا ضرر ولا ضرار" من رواية عثمان المذكور.
(3)
في المستدرك: كتاب البيوع: باب النهي عن المحاقلة والمحاضرة والمنابذة 2/ 57 - 58 بإسناد الدارقطني ولفظه. كالموضع الأول وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي.
(4)
في السنن: كتاب الصلح: باب لا ضرر ولا ضرار 6/ 691 من رواية عثمان وبنص رواية المستدرك.
(5)
أخرجه مالك في الموطأ: 36 - كتاب الأقضية: 26 - باب القضاء في المرفق 2/ 745 مرسلا.
وفي: 39 - كتاب المكاتب: 11 - باب ما لا يجوز من عتق المكاتب 2/ 805 معلقا بصيغة الجزم.
ثم خرجه من رواية عبد الملك بن معاذ النصيبي، عن الدراوردي موصولا.
والدرارردي كان الإمامُ أحمد يضعف ما حدث به من حفظه ولا يعبأ به، ولا شك في تقديم قول مالك على قوله.
• وقال خالد بن سعد الأندلسي الحافظ: لم يصح حديث "لا ضرر ولا ضرار" مسندًا.
وأما ابن ماجه؛ فخرجه من رواية فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى: أن لا ضرَرَ ولا ضِرار
(1)
.
وهذا من جملة صحيفة تُرْوى بهذا الإسناد.
وهي منقطعة مأخوذة من كتاب. قاله ابن المديني وأبو زرعه وغيرهما.
• وإسحاق بن يحيى قيل هو ابن طلحة
(2)
، وهو ضعيف لم يسمع من عبادة، قاله أبو زرعة، وابن أبي حاتم، والدارقطني في موضع.
وقيل: إنه إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة
(3)
ولم يسمع أيضًا من عبادة.
قاله الدارقطني أيضًا.
وذكره ابن عدي
(4)
في كتابه "الضعفاء" وقال: عامّة أحاديثه غير محفوظة.
وقيل: إن موسى بن عقبة لم يسمع منه، وإنما ررى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي - عنه.
وأبو عياش لا يعرف.
• وخرجه ابن ماجه أيضًا من وجه آخر من رواية جابر الجعفي، عن عكرمة، عن
(1)
أخرجه ابن ماجه في سننه 13 - كتاب الأحكام: 87 - باب من بنى في حقه ما يضر بجاره 2/ 784 ح 2340 من طريق عبد ربه بن خالد النميري، عن فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار.
وقد علق البوصبري في مصباح الزجاجة (2/ 14، 33) بقوله: هذ إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع؛ وذكر في الموضع الأول في إسناد مماثل: هذا إسناد ضعيف، لضعف إسحاق بن يحيى، وأيضًا لم يدرك عبادة بن الصامت، قاله البخاري والترمذي وابن حبان وابن عدي.
(2)
وترجمته في التهذيب، 1/ 254 - 255 والجرح والتعديل 1/ 1، 236 ت 835 والتاريخ الكبير، 1/ 1/ 406.
(3)
وترجمته في التاريخ الكبير 1/ 1/ 405 والجرح والتعديل 1/ 1/ 237 والتهذيب 1/ 256.
(4)
في الكامل 1/ 339 - 340.
ابن عباس
(1)
قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".
وجابر الجعفي ضعفه الأكثرون.
وخرجه الدارقطني من رواية إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين
(2)
عن عكرمة
(3)
.
وإبراهيم ضعفه
(4)
جماعة.
وروايات داود عن عكرمة مناكير.
• وخرج الدارقطني من حديث الواقدي، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أبي الرّجال، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا ضرر ولا ضرار"
(5)
.
(1)
في السنن: 13 - كتاب الأحكام: 17 - باب من بنى في حقه ما يضر بجاره 2/ 784 ح 2341 عن طريق محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق عن معمر، عن جابر.
وقال البوصيري في المصباح 2/ 33 ح 828 "هذا إسناد فيه جابر وقد اتهم، رواه أحمد في مسنده والدارقطني في سننه من حديث ابن عباس أيضًا، وله شاهد من حديث أبي صرمة رواه أبو دواد والترمذي وابن ماجه".
(2)
"ا": "حصين" وما أثبتناه عن الأصول الأخرى هو الموافق لما في السنن.
(3)
أخرجه الدارقطني في السنن: كتاب الأقضية والأحكام: باب في المرأة تقتل إذا ارتدت 4/ 228 من طريق أحمد بن محمد بن أبي شيبة، عن محمد بن عثمان بن كرامة عن عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم بن إسماعيل به: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للجار أن يضع خشبته على جدار جاره وإن كره، والطريق الميتاء سبعُ أذرع، ولا ضرر ولا ضرار".
(4)
قال في التعليق المغني: وإبراهيم بن إسماعيل قال عبد الحق في أحكامه: هذا هو ابن أبي حبيبة وفيه مقال، فوثقه أحمد، وضعفه أبو حاتم وقال: هو منكر الحديث، لا يحتج به.
وكذا قال البخاري في التاريخ الكبير، 1/ 1/ 271 - 272 وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، 1/ 1 /83 - 84 شيخ
…
ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث دون إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وأحب إليَّ من إبراهيم بن الفضل.
وقال يحيى بن معين: صالح.
ونقل ابن حجر في التهذيب توثيق أحمد والعجلي له وتضعيف النسائي والدارقطني له وقول ابن عدي: "هو صالح في باب الرواية كما حكى عن يحيى بن معين ويكتب حديثه مع ضعفه" أي يعتبر به.
وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل.
وقال العقيلي: له غير حديث لا يتابع على شيء منها، وكانت وفاته سنة 165 راجع ترجمته أيضًا في التهذيب 1/ 104 - 105 والضعفاء الكبير 1/ 43 - 44 والضعفاء والمتروكين للدارقطني ص 112 ت 32 والضعفاء الصغير للبخاري ص 16 ت 2 والضعفاء والمتروكين للنسائي ص 145 ت والكامل لابن عدي 1/ 233 - 236 ت 66/ 66.
(5)
أخرجه الدارقطني في السنن في الموضع السابق 4/ 227 وقال صاحب التعليق المغني: فيه الواقدي ورواه الطبراني في معجمه الأوسط بإسناده عن سعيد بن أيوب عن أبي سهيل، عن عائشة، مثله، وسكت عنه=
والواقدى متروك
(1)
وشيخه مختلف في تضعيفه
(2)
.
• وخرجه الطبراني من وجهين ضعيفين أيضًا عن القاسم عن
(3)
عائشة.
• وخرج الطبراني أيضًا من رواية محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا ضرر ولا إضرار في الإسلام
(4)
".
وهذا إسناد متقارب وهو غريب لكن خرجه أبو داود في المراسيل من رواية عبد الرحمن بن معز، عن ابن
(5)
إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع مرسلًا وهو
(6)
أصح
(7)
.
= ورواه أيضًا بإسناد آخر عن أبي بكر بن أبي سبرة عن نافع بن مالك، أبي سهيل، عن القاسم، عن عائشة، وقال: لم يروه عن القاسم إلا نافع بن مالك.
(1)
هو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدى المديني أبو عبد الله قاضي بغداد كان في التاريخ ذا باع واسع بيد أنه لم يك شيئًا في صناعة الحديث.
قال البخاري: الواقدى مدني سكن بغداد متروك الحديث تركه أحمد وابن المبارك وقال في موضع آخر: كذبه أحمد وقال ابن المدينى: الهيثم بن عدى أوثق عندى من الواقدى، ولا أرضاه في الحديث.
وقال ابن سعد: كان عالمًا بالمغازي والسيرة والفتوح واختلاف الناس في الحديث والأحكام واجتماعهم.
وقال الخطيب: ولي قضاء الجانب الشرقي (أي ببغداد) وهو ممن طبق الأرضَ ذكره وكان جوادًا كريمًا مشهورًا بالسخاء.
وقال إبراهيم الحربي: كان الواقدي أعلم الناس بالإسلام، وأما الجاهلية فلم يعلم منها شيئًا وكان الواقدي أمين الناس على الإسلام.
كانت وفاته سنة سبع ومائتين راجع ترجمته في التهذيب 9/ 363 - 368، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 178 والضعفاء الصغير ص 409 ت 334، والضعفاء والمتروكين للنسائي ص 233 ت 531 والضعفاء، والمتروكين للدارقطني ص 347 ت 477 والتاريخ ليحيى بن معين 3/ 160 والكامل لابن عدي 6/ 241 - 243 والضعفاء الكبير 4/ 107 - 109 والجرح والتعديل 4/ 1/ 20 - 21.
(2)
قال في التقريب 1/ 210: صدوق له أوهام، من السابعة مات سنة خمس وستين.
(3)
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 110 عن الطبراني في الأوسط وقال: و [فيه] سمر بن أحمد بن رشدين وهو ابن محمد بن الحجاج بن رشدين وقال ابن عدي: كذبوه.
(4)
أورده الهيثمي في الموضع السابق وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن إسحاق وهو ثقة لكنه مدلس.
وفيه: "ولا ضرار".
(5)
م: "أبي إسحاق"، وهو خطأ.
(6)
م: "وهذا".
(7)
هو في مراسيل أبى داود ص 328 ح 369 عن واسع بن حبان قال: كانت لأبي لبابة عَذْقٌ (نخلة) في حائط رجل، فكلمه فقال: إنك تطأ حائطى إلى عَذْقك فحزها إلى مَالِكَ واكفف صاحبك ما يكره فقال: ما أنا بفاعل، فقال: اذهب فأخرج له مثل عذقه إلى حائطه، ثم اضرب فوق ذلك بجدار؛ فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار. بيد أن الإسناد الذي ذكره ابن رجب في النسخة الأخرى من المراسيل مع المسانيد ص 207.
• وخرج الدارقطني
(1)
من رواية أبي بكر بن عياش، قال: أُراه عن ابن عطاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحَدُكم جارَهُ أن يَضَع خشبه على حائطه".
وهذا الإسناد فيه شك
(2)
.
وابن عطاء، هو: يعقوب وهو ضعيف
(3)
.
• وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا ضَرر ولا ضرار"
(4)
قال ابن عبد البر: إسناده غير صحيح.
• قلت: كثير هذا يصحح حديثه الترمذي، ويقول البخاري، في بعض حديثه: هو أصح حديث في الباب.
وحَسَّن حديثه إبراهيمُ بن المنذر الحِزَامِي
(5)
وقال: هو خير مراسيل ابن المسيب.
وكذلك حسَّنه ابن أبي عاصم، وترك حديثَه آخرون، منهم الإمام أحمد وغيره
(6)
.
فهذا ما حضَرنا من ذكر طرق أحاديث هذا الباب.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن بعض طرقه تُقَوَّى ببعض، وهو كما قال.
(1)
في السنن في الموضع السابق 4/ 228.
(2)
حيث كان من رواية أحمد بن يونس الذي قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش: أراه قال: عن ابن عطاء
…
إلخ فكلمة أراه بمعنى أظنه وهذا ليس بيقين ولهذا قال ابن رجب ما قال.
(3)
ضعفه أبو زرعة رالنسائي وقال أحمد: منكر الحديث وقال أبو حاتم: ليس بالمتين وهو ممن يكتب حديثه وقال أبو أحمد بن عدي: له أحاديث صالحة وهو ممن يكتب حديثه وعنده غرائب وخاصة إذا روى عنه أبو إسماعيل المؤدب وزمعة وأبو قرة وذكره ابن حبان في الثقات.
راجع ترجمته في الضعفاء الكبير 4/ 445 - 446، والكامل 7/ 143 - 144، وتهذيب التهذيب 11/ 392 - 393 والتقريب 2/ 376 والتاريخ الكبير 4/ 2 / 398.
(4)
م: "ولا إضرار".
(5)
م: "الخزاعي" وهو تحريف.
(6)
قال ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه.
وقال الترمذي: قلت لمحمد: في حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة كيف هو؟ قال: هو حديث حسن إلا أن أحمد كان يحمل على كثير؛ يضعفه. توفي بين الخمسين ومائة إلى الستين.
راجع ترجمته في الكامل 6/ 57 - 63 وتهذيب التهذيب 8/ 421 - 423 والتاريخ ليحيى بن معين 2/ 434 ت 607.
وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني: إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف؛ قَوِيتا
(1)
.
• وقال الشافعي في المرسل: إنه إذا أسند من وجه آخر أو أرسله من يأخذ العلم عن غير من يأخذ عنه المرسل الأول؛ فإنه يُقْبل
(2)
وقال الجوزجاني: إذا كان الحديث المسند من رجل غير مُقْنِعٍ: يعني لا يُقنع برواياته، وشدّ أركانَهُ المراسيلُ بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار: استُعْمِل، واكتُفيَ له.
وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوى منه.
• وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث وقال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".
• وقال أبو عمر بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث، ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به.
• وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يُشعر بكونه غير ضعيف. والله أعلم.
وفي المعنى أيضًا حديث أبى صِرْمة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من ضارَّ ضارَّ اللهُ بهِ، ومن شاقَّ شَقّ الله عليه"
(3)
.
خرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه
(4)
وقال الترمذي: حَسَنٌ غريب.
• وخرج الترمذي بإسناد فيه ضعف، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي
(1)
م: "قوتها" د: "قويت".
(2)
راجع الرسالة للشافعي ص 461 وما بعدها.
(3)
على ما مضى في شرح الحديث الأول.
(4)
أخرجه أبو داود في السنن: 18 - كتاب الأقضية: 31 - أبواب من القضاء 4/ 49 - 50 من رواية قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن يحيى، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن لؤلؤة (مولاة للأنصار) عن أبي صِرمة قال أبو داود: قال غير قتيبة في هذا الحديث: عن أبي صرمة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه".
والترمذي في: 28 - كتاب البر: الصلة: 27 - باب ما جاء في الخيانة والغش من طريق قتيبة - به - بنحوه وعنده: "ضار الله به" وعقب عليه لقوله: هذا حديث حسن غريب.
وأخرجه ابن ماجه في: 13 - كتاب الأحكام: 17 - باب من بنى في حقه ما يضر بجاره 2/ 784 - 785 من رواية محمد بن رمح، عن الليث - به - وعنده:"شق الله عليه".
صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ملعونٌ من ضارَّ مؤمنًا أو مَكرَ به"
(1)
.
* * *
• وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ضَرَرَ ولا ضِرار" هذه الرواية الصحيحة ضرار بغير همزة.
[بين الضرار والإضرار]:
• وروي إضرار بالهمزة ووقع ذلك في بعض روايات ابن ماجه، والدارقطني، بل وفي بعض نسخ الموطأ.
• وقد أثبت بعضهم هذه الرواية، وقال: يقال ضر وأضر بمعنى
(2)
وأنكرها آخرون وقالوا: لا صحة لها.
واختلفوا هل بين اللفظين - أعني الضرر
(3)
والضرار - فرق أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد.
والمشهور أن بينهما فرقًا.
[بين الضرر والضرار]:
• ثم قيل: إن الضرر هو الاسم، والضرار: الفعل.
فالمعنى: أن الضرر نفسه منتفٍ في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك.
وقيل: الضرر أن يُدْخِلَ على غيره ضررًا بما ينتفعُ هو به.
والضرار: أن يدخل على غيره ضررًا بلا منفعة له به، كمن منع مالا يضره، ويتضرر به الممنوع.
ورجح هذا القولَ طائفةٌ منهم: ابنُ عبد البر، وابنُ الصلاح.
[المراد بالجملة]:
• وقيل: الضرر أن يضرّ
(4)
بمن لا يضره، والضرار: أن يضر بمن قد أضر به على
(1)
عقب الحديث السابق من رواية عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب، عن أبي سلمة الكندي، عن فرقد السنجي، عن مرة بن شراحيل، عن أبي بكر الصديق مرفوعًا. وعقب عليه بقوله: هذا حديث غريب.
(2)
م: "بمعنى واحد"، وهي عند ابن ماجه، من حديث أبي صرمة: من ضار أضرَّ الله به 2/ 785 ح 2342.
(3)
م: "الضر".
(4)
م: "يضر به من".
وجه غير جائز.
وبكل حال؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إنما نفى الضرر والضرار بغير حق.
فأما إدخال الضرر على أحد بحق
(1)
إما لكونه تعدى حدود الله؛ فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره
(2)
فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل؛ فهذا غير مراد قطعًا وإنما المرادُ: إلحاق الضررِ بغير حق.
وهذا على نوعين:
• أحدهما: أن لا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير؛ فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه.
• وقد ورد في القرآن النهي عن المضارَّة في مواضع.
[مواضع النهي عن المضارة]:
• منها في الوصية قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}
(3)
.
وفي حديث أبي
(4)
هويرة المرفوع: "أن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضره الموت؛ فيضار في الوصية؛ فيدخل النار" ثم تلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}
(5)
.
وقد خرجه الترمذي
(6)
وغيره بمعناه.
(1)
م: "يستحقه".
(2)
م: "نفسه غيره".
(3)
سورة النساء: 12.
(4)
م: "وفي الحديث عن".
(5)
سورة النساء: 13، 14.
(6)
أخرجه الترمذي في السنن: 31 - كتاب الوصايا: 2 - باب ما جاء في الضرار في الوصية 4/ 431 - 432 ح 2117 من طريق نصر بن علي الجهضمي، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن نصر بن علي: جد هذا النصر، عن الأشعث بن جابر، عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة أنه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار. ثم قرأ أبو هريرة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} .. إلى قوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقد عقب عليه بقوله.
هذا حديث حسن غريب ونصر بن علي الذي روى عن الأشعث بن جابر هو جد نصر بن علي الجهضمي.
وهو عند البيهقي في السنن: كتاب الوصايا: باب ما جاء في قول الله عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وما ينهى عنه من الإضرار في الوصيّة 6/ 271 من رواية نصر بن علي عن الأشعث - به - بنحوه والبغوي في شرح السنة كتاب الجنائز: باب الوصية بالثلث 5/ 286 معزوًا إلى أبي هريرة رفعه، ولم يذكر البغوي إسناده. =
وقال ابن عباس
(1)
رضي الله عنه: "الإضرارُ في الوصية من الكبائر" ثم تلا هذه الآية.
= ورواه أبو داود في السنن: 12 - كتاب الوصايا: 3 - باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية 3/ 288 - 289 ح 2867 من طريق عبدة بن عبد الله عن عبد الصمد - به - بنحوه.
وعنه أخرجه القرطبي في التفسير 2/ 271 و 5/ 81.
وعنه وعن الترمذي وابن ماجه أخرجه ابن كثير في التفسير 1/ 461 - 462 إلا أنه ذكر عن الترمذي تحسينه فقط للحديث.
وفي نسخة الترمذي بشرح المباكفوري لم يجئ تعقيب الترمذي على الحديث إلا بالتحسين.
وكذلك في الترغيب والترهيب 4/ 327 - 328 فقد أورده عن أبي داود والترمذي وابن ماجه ولم يحك عن الترمذي إلا القول بتحسين الحديث.
وبهذا يبين أن النسخة المصرية (طبع مصطفى الحلبي) فيها زيادة ليست بالأصول الصحيحة وهي الحكم على الحديث بالصحة مع الحسن فقد جاء فيها أن الترمذي عقب على الحديث بقوله: هذا حديث حسن صحيح غريب.
كيف يحكم على الحديث بالصحة وفي شهر بن حوشب وقد ضعف؟.
ولقد كان المباركفورى دقيقًا حين فسر لنا كيف يحكم الترمذي على الحديث بالحسن مع أن في شهر ما فيه.
قال رحمه الله: "قال الترمذي - بعد نقل تحسين الترمذي - وشهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين".
كأنما يريد ليقول: إن الترمذي طبق القاعدة في المختلف فيه فحديثه لا يرقى للصحة مراعاة لمن ضعفه، ولا يحكم بضعفه مراعاة لمن وثقه وإنما يكون المنطق قاضيًا بالتوسط بين الأمرين ومن هنا يحكم بتحسينه وإسناد هذا الحديث يقضي بذلك؛ مما يؤكد لنا أن لفظة "صحيح" ليس لها أساس لا من الصحة ولا من الصَّواب.
ولعل هذا يقضى ألا يعتمد الباحث على نسخة واحدة حتى يطمئن إلى باقي النسخ؛ فلعله يصحح خطأ، أو يؤكد صوابًا.
(1)
أورده ابن كثير في التفسير 1/ 461، 485 من حديث ابن عباس مرفوعًا، ومن حديثه موقوفًا من قوله.
فأورد المرفوع عن ابن أبي حاتم راويًا له عن أبيه عن أبي النضر الدمشقي عن عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ثم قال: وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة، وقال ابن عساكر ويعرف بمغنى المساكين ورَوى عنه غير واحد من الأئمة وقال فيه أبو حاتم الرازي: هو شيخ وقال علي بن المديني: هو مجهول لا أعرفه، لكن رواه النسائي في سننه عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفًا، فذكره ثم قال: وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشج، عن عائذ بن حبيب، عن داود بن أبي هند.
ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ، عن داود، عن عكرمة عن ابن عباس موقوفًا، وفي بعضها ويقرأ ابن عباس:{غَيْرَ مُضَارٍّ} .
وأنهى ابن كثير هذه الجولة بترجيح وقف الحديث فقال: "قال ابن جرير والصحيح: الموقوف".
وفي الموضع الثاني أشار إلى ما تقدم من رواية الحديث مرفوعًا ثم قال: قال ابن أبي حاتم: "هو صحيح عن ابن عباس من قوله" وهذا تأكيد لما ذكر ابن جرير.
وبقي أن نقف على رواية النسائي للحديث كما أشار ابن كثير.
وقد بحثنا في المجتبى فلما نجدها، ثم وقفنا المزي في تحفة الأشراف 5/ 133 على أن ذلك في الكبرى وأنه روى فيها الروايتين: الموقوفة والمرفوعة. والموقوفة في الكبرى 6/ 320. =
والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يَخُصَّ بعضَ الورثة بزيادة على فَرْضِه الذي فَرَضَهُ الله لهُ؛ فيتَضَرَّرُ بقيةُ الورثة بتخصيصه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
• "إن الله قد أعطى كلَّ ذي حَقّ حَقَّه فلا وصيةَ لوَارثٍ
(1)
".
= وهكذا رواه البيهقى في السنن في الموضع السابق 6/ 371 مرفوعًا من رواية عبد الله بن يوسف، عن عمر بن المغيرة، عن داود ثم رواه موقوفًا من رواية سعيد بن منصور، من هشيم، عن داود وقال: هذا هو الصحيح موقوف، وكذلك رواه ابن عيينة وغيره عن داود موقوفًا وروي من وجه آخر مرفرعًا ورفعه ضعيف.
والواضح أن رواية عمر بن المغيرة هي المعلة.
وقد أورد العقيلى في الضعفاء 3/ 189 الحديث في ترجمة عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند مرفوعًا وقال: ولا يتابع على رفعه، هذا رواه الناس عن داود موقوفًا، لا نعلم رفعه غير عمر بن المغيرة.
وأورده الدارقطني في السنن 4/ 151 مرفوعًا بهذه الرواية التي أعلها العقيلي بعمر بن المغيرة.
وانظر ما أجمله صاحب التعليق عن روايات الحديث وترجيح القول بوقفه.
وأورده ابن حجر في لسان الميزان 4/ 332 في ترجمة عمر بن المغيرة مرفوعًا من روايته وذكر أن المحفوظ هو الموقوف، وأورد قول البخاري: عمر بن المغيرة منكر الحديث مجهول.
ثم ذكر فيه قول العقيلى الذي أوردناه عنه.
وأورده ابن أبي شيبة في المصنف 11/ 204، 205 من وجهين عن ابن عباس من قوله:
الأول من رواية ابن إدريس، عن داود، عن عكرمة عن ابن عباس قال: الضرار في الوصية من الكبائر، ثم تلا:{غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} .
والثانى من طريق أبي خالد عن داود به عن ابن عباس قال: الضرار في الوصية من الكبائر ثم قرأ {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} .
وأخرجه سعيد بن منصور في السنن 1/ 109 من طريق هشيم عن داود عن عكرمة قال: الجنَف في الوصية والإِضرار فيها من الكبائر.
ومن طريق خالد بن عبد الله، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الجنف في الوصية والإضرار فيها من الكبائر ومن رواية سفيان عن داود - به - بمثله وزاد في أوله: "الحيف".
(1)
رواه النسائي في السنن: 30 - كتاب الوصايا: 5 - باب إبطال الوصية للوارث 3/ 290 - 291 من وجوه عن عمرو بن خارجة ونص الرواية الأولى: "إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه ولا وصية لوارث".
ونص الثانية: "إن الله قد قسّم لكل إنسان قسمه من الميراث؛ فلا تجوز لوارث وصية".
وفيها توضيح الرواية الأولى.
ونص الثالثة: "إن الله عز اسمه قد أعطى لكل ذي حق حقه ولا وصية لوارث".
وأخرجه أبو داود في السنن: 12 - كتاب الوصايا: 6 - باب ما جاء في الوصية للوارث 3/ 290 - 291 من حديث أبي أمامة مرفوعا بنص ما أورده ابن رجب وفي: 17 - كتاب البيوع والإجارات: 95 - باب تضمين العارية 4/ 824 - 825 من حديث أبي أمامة أيضا مطولا وزاد فيه: "ولا تنفق المرأة شيئًا من بيتها إلا بإذن زوجها
…
" الحديث.
وابن ماجه في السنن: 22 - كتاب الوصايا 6 - باب لا وصية لوارث 2/ 905 - 906 ح: 2712، 2713، 2714 من أحاديث عمرو بن خارجة، وأبي أمامة، وأنس مختصرًا ومطولا. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وعلق البوصيري في مصباح الزجاجة: على حديث أنس بقوله: إسناده صحيح ومحمد بن شعيب وثقه دحيم وأبو دارد وباقى رجال الإسناد على شرط البخارى.
وأخرجه الترمذي في السنن: 31 - كتاب الوصايا: 5 - باب ما جاء لا وصية لوارث 4/ 433 - 434.
عن علي بن حجر وهنّاد، عن إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع:
"إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وحسابهم على الله ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة، لا تنفق امرأة من بيت زوجها إلا بإذن زوجها، قيل: يا رسول الله! ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا، ثم قال: العارية مؤداة، والمنحة مردودة والدين مَقضي، والزعيم غارم".
ثم عقب عليه بقوله: وفي الباب عن عمرو بن خارجة وأنس وهو حديث حسن صحيح.
وقد يتساءل المرء كيف يحكم الترمذي بصحة الحديث مع حسنه وهو من رواية إسماعيل بن عياش وهو ممن ضعف؟ والجواب يتبين من قول الترمذي عقيب حكمه:
وقد روي عن أبى أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه. رواية إسماعيل بن عياش عن أهل العراق وأهل الحجاز ليس بذاك فيما تفرد به؛ لأنه روى عنهم مناكير، وروايته عن أهل الشام أصح [أي وهذا الحديث من روايته عنهم، ثم أضاف الترمذي:
هكذا قال محمد بن إسماعيل، قال: سمعت أحمد بن الحسن يقول: قال أحمد بن حنبل: إسماعيل بن عياش أصلح حديثا من بقية، ولبقية أحاديث مناكير عن الثقات، وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: سمعت زكريا بن عدي يقول: قال أبو إسحاق الفزاري: خذوا عن بقية ما حدث عن الثقات، ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدث عن الثقات ولا عن غير الثقات.
ثم روى الترمذي عقب هذا: هذا حديث عمرو بن خارجة، عن قتيبة بن سعيد، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته
…
الحديث بسياقه.
وقد حكم على الحديث بأنه حسن صحيح، لكنه قبل أن يحكم بهذا استشعر سؤال سائل: كيف يتم هذا وهو من رواية شهر بن حوشب وهو من هو؟.
فأورد ما طعن به عليه ثم أورد ما يرد به على هذا الطعن؛ حيث قال: وسمعت أحمد بن الحسن يقول: قال أحمد بن حنبل: لا أبالي بحديث شهر بن حوشب قال: وسألت محمد بن إسماعيل عن شهر بن حوشب فوثقه، وقال: إنما يتكلم فيه ابن عون، ثم روى ابن عون عن هلال بن أبي زينب عن شهر بن حوشب.
والحديث أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الوصايا: باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين الوارثين 6/ 263 - 264: من طريق عطاء عن ابن عباس مرفوعا وأعله بالانقطاع، ثم أورده من طريق عطاء عن عكرمة عن ابن عباس وأعله بضعف عطاء ومن طريق مجاهد مرفوعا ومن رواية أبي أمامة من طريق إسماعيل بن عياش وأكد بما نقل عن أحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما أن ما روى إسماعيل عن الشاميين صحيح وما روى عن الحجازيين غير صحيح. وهذا الحديث إنما رواه إسماعيل عن شامي وأنه قد روي من غير وجه من حديث الشاميين ثم ساقه من وجهين عن عمرو بن خارجة من حديث شهر ومن حديث غيره ومن وجوه عن أنس ثم قال:
وقد روى هذا الحديث من أوجه أُخَر كلها غير قوية والاعتماد على الحديث الأول وهو رواية أبى نجيح عن عطاء عن ابن عباس وعلى ما ذكره الشافعي من نقل أهل المغازي عامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح "لا وصية لوارث" وإجماع العامة على القول به.
• وتارة بأن يوصى لأجنبي بزيادة على الثلث فينقص حقوق الورثة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الثلث والثلث كثير"
(1)
.
ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث، لم ينفَّذْ ما وصَّى به إلا بإجازة الورثة.
• وسواء قصد المضارة أو لم يقصد.
وأما إن قصد المضارة بالوصية لأجنبي بالثلث؛ فإنه يأثم بقصده المضارة.
(1)
راجع في هذا ما أخرجه مالك في الموطأ: 37 - كتاب الوصية: 3 - باب الوصية في الثلث لا تتعدى 2/ 763 ح 4 عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع، من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله! قد بلغ بى من الوجع ما ترى وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالى؟ قال رسول صلى الله عليه وسلم:"لا" فقلت: فالشطر؟ قال: "لا" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" قال: فقلت: يا رسول الله! أأخلف بعد أصحابي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمْضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم؛ لكن البائس سعد بن خولة" يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
وأخرجه البخارى في كتاب الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئٍ ما نوى، وفي الجنائز: باب رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، وفي الوصايا: باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يدعهم يتكففون الناس، وباب الوصية بالثلث، وفى فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أمض لأصحابى هجرتهم، وفى المغازي باب حجة الوداع، وفي النفقات في فاتحته، وفى المرضى: باب وضع اليد على المريض، وفي الدعوات باب الدعاء يرفع الوباء والوجع، وفي الفرائض باب ميراث البنات أحاديث 56، 1295، 2742، 2744، 3936، 4409، 5354، 5659، 5668، 6373، 6733 ومسلم في 25 - كتاب الوصية: 1 - باب الوصية بالثلث ح 5.
وأحمد في السند 1/ 168، 171، 172، 173، 174، 176 (الحلبي) والترمذي في السنن: 31 - كتاب الوصايا: 1 - باب ما جاء في الوصية بالثلث 4/ 430 - 431 ح 2116 بسياقه كاملًا وعقب عليه بقوله: وفي الباب عن ابن عباس وهذا حديث حسن صحيح، وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن سعد بن أبي وقاص، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس للرجل أن يوصي بأكثر من الثلث؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: والثلث كثير.
وأبو داود في السنن ك الوصايا: ب 3 ح 2864.
والنسائى في الوصايا: ب 3.
وابن ماجه في الوصايا: ب 5 ح 2708.
ورواه في الباب نفسه من حديث ابن عباس قال: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث كبير" أو "كثير".
والبيهقي في السنن 6/ 268، 269، 9/ 28 والدارمي في السنن 2/ 499 من وجهين عن سعد وابن خزيمة في صحيحه 4/ 61 - 62.
وهل تردّ وصيته إذا ثبَت ذلك بإقراره أم لا؟
حكى ابن عطية رواية عن مالك أنها تردّ.
وقيل: إنه قياس مذهب أحمد.
ومنها الرجعة في النكاح قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
(1)
- وقال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}
(2)
فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة؛ فإنه آثم بذلك.
وهذا كما كانوا في أول الإسلام قبل حصر الطلاق في ثلاث، يطلّق الرجلُ امرأتُه، ثم يتركها حتى يقارب انقضاءَ عدتها؛ ثم يراجعها، ثم يطلقها، ويفعل ذلك أبدًا بغير نهاية فيدع المرأة: لا مطلقة، ولا ممسكة؛ فأبطل الله ذلك، وحصر الطلاق في ثلاث مرات.
وذهب مالك إلى أن من راجع امرأته قبل انقضاء عدتها، ثم طلقها من غير مسيس: أنه إن قصد بذلك مضارَّتها بتطويل العدة لم تستأنف العدة، وبنت على ما مضى منها.
وإن لم يقصد ذلك: أستأنَفَتْ عِدَّةً جَديدَةً.
• وقيل: تَبِينُ مطلقًا، وهو قول عطاء، وقتادة، والشافعي، في القديم، وأحمد في رواية.
• وقيل: تستأنف مطلقًا، وهو قول الأكثرين منهم: أبو قلابة، والزهري، والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي في الجديد، وأحمد في رواية، وإسحاق، وأبو عبيد، وغيرهم.
• ومنها في الإيلاء، فإن الله جعل مدة المولي أربعة أشهر إذا حلف الرجل على امتناعه من وطء زوجته؛ فإنه يضرب له مدة أربعة أشهر، فإن فاء ورجع إلى الوطء؛ كان ذلك توْبتَهُ وإن أصر على الامتناع لم يمكَّن من ذلك.
ثم فيه قولان للسف والخلف.
• أحدهما: أنها تُطَلَّق عليه بمضي هذه المدة.
• والثاني: أنه يوقف، فإن فاء؛ وإلا أمر بالطلاق.
ولو ترك الوطء لقصد الإضرار
(3)
بغير يمين مدة أربعة أشهر: فقال كثير من
(1)
سورة البقرة: 231.
(2)
سورة البقرة: 228.
(3)
م: "إضرار".
أصحابنا: حكمه حكم المُولِي في ذلك.
وقالوا: هو ظاهر كلام أحمد.
وكذا قال جماعة منهم: إذا ترك الوطء أربعة أشهر لغير عذْر ثم طَلَبت
(1)
الفُرْقة، فُرِّق بينهما بناء على أن الوطء عندنا في هذه المدة واجب.
واختلفوا هل يعتبر لذلك قصد الإضرار أم لا يعتبر؟
• ومذهب مالك وأصحابه إذا ترك الوطء من غير عذر، فإنه يفسخ نكاحه مع اختلافهم في تقدير المدة.
ولو أطال السفرَ من غير عذر وطلبت امرأته قدومَهُ فأبى، فقال مالك وأحمد وإسحاق: يفرق الحاكم بينهما، وقدّره أحمد بستة أشهر، وإسحاق بمضي سنتين.
* * *
• ومنها في الرضاع قال تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}
(2)
.
قال مجاهد في قوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قال: لا يمنع أمه أن تُرضعه ليَحْزُنها بذلك
(3)
.
وقال عطاء، وقتادة، والزهري، وسفيان، والسدي، وغيرهم: إذا رضيت بما يرضي به غيرها؛ فهي أحق به.
• وهذا هو المنصوص عن أحمد رحمه الله.
ولو كانت الأم في حبال الزوج.
وقيل: إن كانت في حبال الزوج، فله منعها من إرضاعه؛ إلا أنه لا يمكن ارتضاعُه من غيرها.
وهو قول الشافعي، وبعض أصحابنا.
لكن! إنما يجوزُ ذلك إذا كان قصدُ الزوج به توفيرَ الزوجة للاستمتاع لا مجرد إدخال الضرر عليها.
* * *
(1)
م: "طلب".
(2)
سورة البقرة: 233.
(3)
تفسير مجاهد 1/ 159 والطبري 5/ 49 ح 4974 وخبر قتادة وغيره عقبه.
• وقوله تعالى: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} .
• يدخل فيه أن المطلقة إذا طلبت أرضاعَ ولدها بأجرة مِثْلِهَا، لزم الأَبَ إجابتُها إلى ذلك، وسواء وُجدَ غيرُها أو لم يُوجَد.
• هذا منصوصُ الإمام أحمد.
• فإن طلبت زيادة على أجرة مثلها زيادة كثيرة، ووَجد الأبُ مَنْ يُرضعه بأجرة المثل، لم يلزم الأبَ إجابتها إلى ما طلبت؛ لأنها تقصد المُضارَّة.
وقد نص عليه الإمام أحمد أيضًا.
• ومنها في البيع.
• وقد ورد النهي عن بيع المضطر.
خرّجه أبو داود من حديث علي بن أبي طالب أنه خطبَ الناس فقال: "سيأتي على الناس زمان عَضُوضٌ، يَعضّ الموسِر على ما في يديه ولم يُؤْمَر بذلك "قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ}
(1)
ويبايع المضطرون.
وقد نهى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع المضطر
(2)
.
• وخرجه الإسماعيلي، وزاد فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن كان عِنْدك خيرٌ تعودُ به على أخيك، وإلا فلا تَزيدَنّهُ هَلاكًا إلى هلاكه".
وخرجه أبو يعلى الموصلي بمعناه من حديث حذيفة مرفوعًا أيضًا.
• وقال عبد الله بن معقل: "بيع الضرورة ربًا" قال حرب: سئل أحمد عن بيع المضطر، فكرهه فقيل له: كيف هو؟ قال: يجيئُكَ وهو محتاج فتَبِيعُهُ ما يساوي عشرةً بعشرين؟!.
وقال أبو طالب: قيل لأحمد: إن رَبح بالعشرة خمسة؟ فكره ذلك.
وإن كان المشتري مسترسلًا لا يُحْسِن أن يماكِسَ فباعه بغبن كثير لم يجز أيضًا.
• قال أحمد: "الخلابة: الخداع، وهو أنه يغْبِنه
(3)
فيما لا يَتَغَابَنُ الناس في مثله: يبيعه ما يساوي دِرْهَمًا بخمسة.
(1)
سورة البقرة: 237.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه: 17 - كتاب البيوع والإجارات: 26 - باب في بيع المضطر 3/ 676 - 677 ح 3382 وفي آخره زيادة لم يأت بها ابن رجب وهي: "وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك".
وإسناد الحديث عنده ضعيف؛ ففيه رجل مجهول شيخ من بني تميم حدث عن علي رضي الله عنه.
(3)
م: "يغتبنه".
ومذهب مالك وأحمد أنه يثبت له خيارُ الفَسْخِ بذلكِ.
ولو كان محتاجًا إلى نقد، فلم يجد مَنْ يُقْرضه، فاشترى سلعةً بثمن إلى أجل في ذمته، ومقصوده بيع تلك السلعة ليأخذ ثمنها، فهذا فيه قولان للسلف.
ورخص أحمد فيه في رواية (1).
وقال في رواية: أخشى أن يكون مضطرًّا، فإن باع السلعة من بائعها (2) له، فأكثر السلف على تحريم ذلك.
وهو مذهب مالك وأبي حنيفة رحمهم الله، وأحمد وغيرهم.
* * *
• ومن أنواع الضرر في البيوع: التفريقُ بين الوالدة وولدها في البيع، فإن كان صغيرًا حَرُمَ بالاتفاق.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من فَرَّقَ بين والدة وَوَلَدِهَا؛ فَرَّقَ الله بينه وبين أحبته يوم القيامة
(3)
"، فإن رضيت الأم بذلك، ففي جوازه اختلاف.
(1، 2) ليست في م.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 413، 414 الحلبي من طريق حسن بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن حيي بن عبد الله المعافري، عن أبى عبد الرحمن الحبلي، قال: كنا في البحر، وعلينا عبد الله بن قيس الفزاري، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فمر بصاحب المقاسم، وقد أقام السبي فإذا امرأة تبكي، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: فرقوا بينها وبين ولدها، قال: فأخذ بيدها حتى وضعه في يدها، فانطلق صاحب المقاسم إلى عبد الله بن قيس فأخبره، فأرسل إلى أبي أيوب الأنصاري فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه بين الأحبة يوم القيامة".
لفظ الموضع الأول.
واقتصر في الموضع الثاني على الحديث المرفوع دون القصة وأخرجه الترمذي في السنن: 12 - كتاب البيوع: 52 - باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع 3/ 580 ح 1283 من طريق عمر بن حفص الشيباني عن عبد الله بن وهب بن حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي - به - فذكر الحديث المرفوع بنحو ما أورد ابن رجب.
وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب.
ولم يخرجه من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 55 من طريق أبي النضر الفقيه، عن عثمان بن سعيد الدارمي، عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن عبد الله بن وهب - به - بمثل ما أورد ابن رجب.
وصححه على شرط مسلم وسكت عنه الذهبي وأورده الشيخ ناصر الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته ص 1095 ح 6412 ونص على صحته.
ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جدًّا.
وإنما ذكرنا هذا على وجه المثال.
* * *
• والنوع الثاني أن يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يتصرف في مِلْكِهِ بما فيه مصلحة له؛ فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع بِمْلِكِه، توفيرًا له
(1)
فيتضرر الممنوع بذلك.
• فأما الأول وهو التصرف في مِلْكه بما يتعدى ضررُه إلى غيره.
فإن كان على غير الوجه المعتاد مثل أن يؤجج في أرضه نارًا في يوم عاصف فيحرق
(2)
ما يليه؛ فإنه متعدٍّ بذلك، وعليه الضمان.
وإن كان على الوجه المعتاد ففيه للعلماء قولان مشهوران.
أحدهما: لا يُمنع من ذلك، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما.
• والثاني: المنع، وهو قول أحمد، ووافقه مالك في بعض الصور.
فمن صور ذلك أن يفتح كوة في بنائه العالي مشرفةً على جاره، أو يبني بناءً عاليًا يشرف على جاره ولا يستره؛ فإنه يُلَزَمُ بستره.
نص عليه أحمد ووافقه طائفة من أصحاب الشافعي.
قال الرويانى منهم في كتاب الحلية:
يجتهد الحاكم في ذلك، ويمنع إذا ظهر له التعنُّتُ، وقَصْدُ الفساد.
قال: وكذلك القول في إطالة البناء، ومنع الشمس والقمر.
• وقد خرج الخرائطي وابن عدي بإسناد ضعيف، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده مرفوعًا حديثا طويلًا في حق الجار، وفيه: لا يستطيل
(3)
بالبناء، فيحْجُبُ عنه الريح إلا بإذنه
(4)
.
(1)
ليست في م.
(2)
م: "فيحترق".
(3)
م: "ولا تستطيل".
(4)
أخرج الخرائطي شطره الأول في مساوى الأخلاق ص 154 ح 402 من حديث عثمان بن عطاء بن أبي مسلم الخراساني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه".=
• ومنها أن يحفر بئرًا بالقرب من بئر جاره، فيذهب ماؤها، فإنها تُطَمُّ في ظاهر مذهب مالك وأحمد.
• وخرج أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم "لا تضارُّوا في الحفر" وذلك أن يحفر الرجل إلى جنب الرجل؛ ليذهب بمائه
(1)
.
• ومنها أن يحدث في مِلْكِه ما يضر مِلْكَ جاره من هزٍّ أو دقٍّ ونحوهما؛ فإنه يمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد.
وهو أحد الوجوه للشافعية.
• وكاذا إذا كان يضرُّ بالسكّان كما إذا كان له رائحة خبيثة ونحو ذلك.
• ومنها أن يكون له مِلْكٌ في أرض غيره ويتضرر صاحب الأرض بدخوله إلى أرضه؛ فإنه يجبر على إزالته ليندفع
(2)
به ضَرَرُ الدخول.
وخرج أبو داود في سننه من حديث أبي جعفر: محمد بن علي، أنه حدّث عن سُمْرة بن جندب، أنه كان له عَذْق من نخل في حائط رجل من الأنصار ومع الرجل أهله،
= وضعفه محققه بعثمان بن عطاء وعطاء بن أبي مسلم كلاهما ضعيف وثانيهما مدلس وقد رواه بالعنعنة وأحال إلى الميزان 3/ 48، والتقريب 2/ 32، 23 وأشار إلى رواية ابن عدي والبيهقي في الشعب له.
وقد أورد ابن عدي في الكامل 5/ 171 الحديث كاملًا من طريق أبي قصي، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن سويد بن عبد العزيز، عن عثمان بن عطاء الخراساني - به - أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال
…
فذكره وأضاف إلى ما رواه الخرائطي بقية الحديث أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء تحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا، ولا يخرجها ولدك ليغيط بها ولده، أتدرون ما حق الجار؟ والذي نفسى بيده ما يبلغ حق الجار إلا قليل ممن رحمه الله، فما زال يوصيهم حتى ظنوا أنه سيورثه ثما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "الجيران ثلاثة:
فمنهم من له ثلاثة حقوق، ومنهم من له حقان، ومنهم من له حق، فأما الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة، وأما الذي له حقان فالجار المسلم، له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له حق واحد: الجار الكافر له حق الجوار، قلنا: يا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: نطمعهم من نسكنا؟ قال: لا تطعموا المشركين شيئًا من النسك".
وقد ذكر ابن عدي: أن عثمان بن عطاء - راوي الحديث ضعيف، منكر الحديث، وليس بالقوي في الحديث، وأنه مع ذلك - ممن يكتب حديثه.
وفي م: "فيحب عنه الريح" وهو تحريف بين.
(1)
أخرجه أبو داود في المراسيل 4/ 328.
(2)
"ا": "ليدفع".
وكان سَمُرَةُ يدخل إلى نخله فيتأذى به، ويشُقُّ عليه فطلب إليه أن يناقله فأبى فأتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى قال: فهبْهُ له ولك كذا وكذا أمرا رغَّبَهُ فيه فأبى فقال: أنت مضار؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله
(1)
.
* * *
• وقد روي عن أبي جعفر مرسلا: قال أحمد في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا، الحديث: كل ما كان على هذه الجهة وفيه ضرر، يمنع من ذلك، فإن أجاب؛ وإلا أجبره السلطان، ولا يضرّ بأخيه في ذلك؛ فيه
(2)
مرفق له.
• وخرج أبو بكر الخلال من رواية عبد اللّه بن محمد بن عقيل، عن عبد اللّه بن سليط
(3)
بن قيس، عن أبيه أن رجالًا من الأنصار كانت في حائطة نخلة لرجل آخر وكان صاحب النخلة لا يريُمها
(4)
غدوة وعشية، فشق ذلك على صاحب الحائط فأتى النبيَّ صلى اللّه عليه وآله سلم، فذكر ذلك له؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب النخلة:"خذ منه نخلة مما يلى الحائط مكان نخلتك".
قال: لا واللّه.
قال: "فخذ مني ثنتين".
قال: لا واللّه.
قال: "فهبها لي" قال: لا واللّه.
قال: فردّد عليه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأبى؛ فأمر رسول اللّه صلى
(1)
أخرجه أبو داود في السنن: 18 - كتاب الأقضية: 31 - أبواب من القضاء 4/ 50 ح 3636.
وفيه: أنه كان له عضد من نخل، والعَذْق بفتح العين: النخلة، وبالكسر، العرجون بما فيه من الشماريخ ويجمع على عذاق (نهاية 3/ 199 وقال الخطابي: رواه أبو داود (عضدًا) وإنما هو (عضيد) من نخيل: يريد: نخيلا لم تَبْسُق ولم تطُل، قال الأصمعي: إذا صار للنخلة جذع يتناول منه المتناول، فتلك النخلة العضيد، وجمعه: عضيدات.
وفيه من العلم أنه أمر بإزالة الضرر عنه، وليس في هذا الخبر أنه قلع نخله، ويشبه أن يكون إنما قال ذلك ليردعه به عن الإضرار (أعلام السنن بهامش أبى داود).
(2)
م: "وفيه".
(3)
م: "سابط".
(4)
"لا يريمها": لا يبرحها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للعباس رضي الله عنه:"لا تَرِمْ من منزلك غدا أنت وبنوك" أي لا تبرح، يقال رام يريم إذا ترح وزال من مكانه.
النهاية 2/ 290.
اللّه وآله وسلم أن يعطه نخلة مكان نخلته.
• وخرج أبو داود في المراسيل من رواية ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال: كان لأبي أبابة عذق في حائط رجل فكلمه فقال: إنك تطأ حائطي إلى عَذْقك، فأنا أعطيك مثله في حائطك، وأخرجه عني، فأبى عليه فكلم النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال:"يا أبا لُبَابة! خُذْ مثلَ عَذْقِكَ فحزها إلى مالك واكْفُفْ عن صاحبك ما يكره" فقال: ما أنا بفاعل فقال: "اذهب فأخْرِجْ له مِثل عذقه إلى حائطه ثم اضرب فوق ذلك بجدار؛ فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار"
(1)
.
ففي هذا الحديث والذي قلبه إجباره على المعاوضة؛ حيث كان على شريكه أو جاره ضرر في تركه.
وهذا مثل إيجاب الشفعة لدفع ضرر الشريك الطارئ.
ويستدل بذلك أيضًا على وجوب العمارة على الشريك الممتنع من العمارة.
وعلى إيجاب البيع إذا تعذرت القسمة.
• وقد ورد من حديث محمد بن أبي بكر، من أبيه مرفوعًا "لا تعضِيةَ في الميراث، إلا ما احتمل القَسْم"
(2)
وأبو بكر هو ابن عمرو بن حزم، قاله الإمام أحمد.
(1)
يبد: أن في المراسيل ط. الأزهر سقطا فهذا هو النص فيه 4/ 327 - 328:
وعن واسع بن حبان قال: كانت لأبي لبابة عذق في حائط رجل، فكلمه، فقال: إنك تطأ حائطي إلى عَذْقك فحزها إلى مالك، واكفف صاحبك ما يكره
…
الحديث" وهو بتمامه في طبعة دار القلم 206.
(2)
التعضية: التفريق ومعنى الحديث: أن يموت الرجل ويدع شيئًا إن قسم بين ورثته استضروا أو بعضهم كالجوهرة والطيلسان والحمام ونحو ذلك نهاية 3/ 256.
والحديث أخرجه الدارقطني في السنن كتاب الأقضية والأحكام 4/ 219 من رواية الحسين بن إسماعيل، عن خلاد بن أسلم، عن روح بن عبادة، عن ابن جريح، عن صديق بن موسى، عن محمد بن أبي بكر، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره.
من طريق الحسين بن إسماعيل، عن عبد اللّه بن شبيب، عن عبد الجبار بن سعيد: عن سليمان بن محمد، عن أبي بكر بن سبرة، عن ابن جريح - به - بنحوه.
وأعله صاحب التعليق المغني بصديق بن موسى قال: وهو ليس بالحجة.
وأخرجه البيهقي في السنن: كتاب آداب القاضي: باب ما لا يحتمل القسمة 10/ 133 من طريق صديق بن موسى عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من أبيه رفعه.
ثم قال البيهقى بعد أن شرح الحديث: والتعضية التفريق، وهو مأخوذ من الإعضاء، يقال عضيت اللحم إذا فرقته.
وأورد قول الشافعي في القديم، ولا يكون مثل هذا الحديث حجة، لأنه ضعيف، وهو قول من لقينا من فقهائنا.
قال البيهقي: وإنما ضعفه لانقطاعه وهو قول الكافة.
والحديث حينئذ مرسل.
والتعضية هي القسمة.
ومتى تعذرت القسمة لكون المقسوم يُتضرر بقسمته وطلَبَ أحدُ الشريكين البيعَ أُجْبِرَ الآخرُ وقسم الثمن
(1)
.
نص عليه أحمد وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة.
• وأما الثاني: وهو منع الجار من الانتفاع بملكه والارتفاق به فإن كان ذلك يضر
(2)
بمن انتفع بملكه فله المنع كمن له جدار واهٍ لا يحمل أن يطرح عليه خشب وأما إنْ لم يضرَّ به فهل يجب عليه التمكين، ويحرم عليه الامتناع أمْ لا؟ فمن قال في القسم الأول: لا يمنع المالك من التصرف في مِلكِهِ وإن أضرّ بجَارِهِ: قال هنا للجار المنع من التصرف في مِلْكِه بغير إذنه.
ومن قال هناك بالمنع؛ فاختلفوا ههنا على قولين.
• أحدهما: المنع ههنا وهو قول مالك.
• والثاني: أنه لا يجوز المنع وهو مذهب أحمد في طرح الخشب على جدار جاره.
ووافقه الشافعي في القديم، وإسحاق، وأبو ثور، وداود وابن المنذر، وعبد الملك بن جيب المالكي، وحكاه مالك عن بعض قضاة المدينة.
• وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعنّ أَحَدُكم جارَه أن يغرزَ خشبةً على جداره".
• قال أبو هريرة: ما لي أرأكم عنها معرضين؟ واللّه لأرمينَّ بها بين أكتافكم
(3)
.
وقضى عمرُ بنُ الخطَّابِ رضى اللّه عنه على محمد بن مسلمة أن يُجْرِي ماءَ جاره في أرضه.
وقال لتَمُرَّنَّ به ولو على بطنك.
وفي الإجبار على ذلك روايتان عن الإمام أحمد.
• ومذْهب أبي ثور الإجبار على إجراء الماء في أرض جاره إذا أجراه في قناة
(4)
في
(1)
ليست في م.
(2)
"ا": "مضر".
(3)
مضى تخريج الحديث ص 388.
(4)
"ا": "قنى". وانظر الموطأ 2/ 746 ح 33 وترتيب مسند الشافعي 2/ 134 - 135.
باطن أرضه نقله عنه حرب الكرماني.
* * *
• ومما ينهى عن منعه للضرر
(1)
منع الماء والكلأ.
• وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تَمْنَعُوا فَضْلَ الماء لتمنعُوا
(2)
به الكَلأَ".
• وفي سنن أبي داود أن رجلًا قال: يا نبي اللّه! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الماء" قال: يا نبي اللّه! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح" قال! يا نبي اللّه! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "أن تفعل الخيرَ خيرٌ لك"
(3)
.
• وفيه أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الناسُ شركاءُ في ثلاثٍ الماءُ
(1)
ب: "لضرر".
(2)
أخرجه البخاري في: 41 - كتاب الحرث والمزارعة: 2 - باب من قال إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يمنع فضل الماء" 5/ 31 ح 2353، 2354 من وجهين عن أبي هريرة وفي: 90 - كتاب الحيل: 5 - باب ما يكره من الاحتيال في البيوع ولا يمنع فضل الماء يمنع به فضل الكلأ 12/ 335 ح 6962 من وجه ثالث عن أبي هريرة.
ولفظ الأول: "لا يمنع فضل اللّه ليمنع به الكلأ".
والثانى: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ".
والثالث: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ".
والأول رواه عن عبد اللّه بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعا.
والثالث: رواه عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك - به -.
والثاني: رواه عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة.
فلم يتكرر إسناد ولا صيغة.
وأخرجه مسلم في: 22 كتاب المساقاة: 8 - باب تحريم فضل بيع الماء الذي يكون بالفلاة ويحتاج إليه لرعي الكلأ، وتحريم منع بذله، وتحريم بيع ضراب الفحل 3/ 1198 ح 36 (1566)، 37، 38 من وجهين عن مالك بلفظ واحد كنص الأولى عند البخارى.
والثانى كالثانى في البخارى والثالث: لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ وكلاهما من وجهين آخرين عن أبي هريرة.
(3)
أخرجه أبو داود في: 3 - كتاب الزكاة: 35 - باب ما لا يجوز منعه 2/ 308 ح 1669، من رواية عبيد اللّه بن معاذ، عن أبيه، عن كهمس، عن سيار بن منظور، عن أبيه، عن امرأة يقال لها بهَيسة عن أبيها قالت: "استأذن أبي النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينه وبين قميصه فجعل يقبل ويلتزم ثم قال: يا رسول اللّه! فذكره
…
".
وقد سكت عنه واكتفى المنذري بقوله: وأخرجه النسائي، فهو حسن. عون المعبود 2/ 52. ورواه في: 17 - كتاب البيوع والإجارات: 26 باب منع الماء 3/ 750 ح 3476 بإسناده ولفظه، وفيه: يا نبي اللّه! بدل يا رسول اللّه! في الأولى والثالثة.
والنارُ والكَلأُ"
(1)
.
• وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يُمنع فضلُ الماء الجارى والنابع مطلقًا سواء قيل إن الماء مِلْكٌ لمالك
(2)
أرضه أم لا.
• وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيدٍ وغيرهم.
والمنصوص عن أحمد وجوبُ بذله مجانًا بغير عوض للشرب، وسقي البهائم، وسقي الزروع.
• ومذهب أبي حنيفة والشافعي لا يجب بذله للزرع.
• واختلفوا هل يجب بذله مطلقًا؟ أو إذا كات بقرب الكلأ وكان منعه مُفْضِيًا إلى منع الكلأ على قولين لأصحابنا وأصحاب الشافعي.
• وفي كلام أحمد ما يدل على اختصاص المنع بالقرب من الكلأ.
• وأما مالِكٌ فلا يجبُ عنده بذلُ فضل الماء المملوك بملك مَنْبعِهِ ومجراه إلا للمضطر كالمُحازِ في الأوعية، وإنما يجب عنده بذل فضل الماء الذي لا يُمْلَك.
• وعند الشافعي حكم الكلأ كذلك يجوز منعُ فضله إلا في أرض الموات.
• ومذهب أبي حنيفة وأحمد وأبي عبيد: أنه لا يُمنع فضلُ الكلأ مطلقًا.
• ومنهم من قال: لا يمنع أحال الماء والكلأ إلا أهل الثغور خاصة.
وهو قول الأوزاعى، لأن أهل الثغور إذا ذهب ماؤهم وكلؤهم لم يقدروا أن يتحولوا من مكانهم من وراء بَيْضةِ الإسلام وأَهْلِهِ.
• وأما النهي عن منع النار فحمله طائفة من الفقهاء على النهي عن الاقتباس منها دون أعيان الجمر.
(1)
أخرجه أبو داود في السنن في الموضع السابق عقب الحديث المذكور ح 3477 من حديث علي بن الجعد، عن حريز بن عثمان، عن حبان بن زيد الشرعي، عن رجل من قرن.
ومن رواية مسدد عن عيسى بن يونس، عن حريز بن عثمان، عن أبي خداش - حبان بن زيد لفظ علي بن الجعد - عن رجل من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا أسمعه يقول:
"المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار".
وليست بدايته كما عند ابن رجب.
والحديث سكت عنه كل من أبي داود والمنذري راجع عون المعبود (3/ 294) فهو حسن.
(2)
ليست في م.
ومنهم من حمله على منع الحجارة الْمُورِية للنار.
وهو بعيد.
ولو حمل على منع الاستضاءة بالنار، وبذل ما فضل عن جاحة صاحبها بها لمن يستدفيء بها أو يُنْضج عليها طعامًا ونحوه لم يبعد.
• وأما الملح فلعله يحمل على منع أخذه من المعادن الباحة فإن الملح من المعادن الظاهرة لا يملك بالإحياء ولا بالإقطاع.
نص عليه أحمد.
• وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقطع رجلًا الملح فقيل له: يا رسول اللّه! إنه
(1)
بمنزلة الماء العِدِّ
(2)
فانتزعه منه
(3)
.
• ومما يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ضرر" أن اللّه تعالى لم يكلف عباده فعل ما يضرهم البتة، فإن ما يأمرهم به هو عينُ صلاح دينهم ودنياهم
(4)
، وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهها، لكنه لم يأمر عباده بشيء هو ضارٌّ لهم في أبدانهم أيضًا؛ ولهذا أسقط الطهارة بالماء عن المريض.
• وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}
(5)
.
وأسقط الصيام عن المريض والمسافر.
• وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}
(6)
وأسقط اجتناب
(1)
م "يا رسول اللّه! لم؟ إنه".
(2)
العِدّ: هو الماء الدائم الذي لا تنقطع مادته، وجمعه أعداد، ومنه الحديث: نزلوا أعداد مياه الحديبية، أي ذوات المادة كالعيون والآبار (نهاية 3/ 189).
(3)
أخرجه أبو داود في: 14 - كتاب الخراج والإمارة والفيء: 36 - باب إقطاع الأرضين 3/ 446 - 447 عن قتيبة بن سعيد الثقفي، ومحمد بن المتوكل العسقلانى عن محمد بن يحيى بن قيس عن أبيه، عن ثمامة بن شراحيل، عن سمي بن قيس، عن شمير، قال ابن المتوكل: ابن عبد المدان، عن أبيض بن حمال أنه وفد إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستقطعه الملح، قال ابن المتوكل: الذي بمأرب، فقطعه له، فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العِدَّ، قال فانتزع منه، قال: وسأله عما يحمى من الأراك، قال: ما لم تنله خفاف قال ابن المتوكل: أخفاف الإبل".
ونقل صاحب عون المعبود 3/ 140 عن المنذري قوله: وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حسن غريب.
ورد هذا بقوله: وفي إسناده محمد بن يحيى بن قيس السبئ المأربي قال ابن عدي: أحاديثه مظلمة منكرة فهو إسناد ضعيف.
(4)
ب: "لدينهم ودنياهم".
(5)
سورة المائدة: 6.
(6)
سورة البقرة: 185.
محظورات الإحرام كالحلق ونحوه عمن كان مريضًا أو به أذى من رأسه وأمر بالفدية.
• وفي المسند عن ابن عباس قال: قيل لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الأديان أحب إلى اللّه؟ قال: "الحنيفية السمحة
(1)
".
• ومن حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنى أرْسِلْتُ بحنيفية سمحة"
(2)
.
ومن هذا المعنى ما في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلًا يمشي قيل له: إنه نذر أن يحج ماشيًا فقال: "إن اللّه لَغَنِيٌّ عن مشيه فليركب".
• وفي رواية " إن اللّه لغنيّ عن تعذيب
(3)
هذا نَفْسه".
وفي السنن عن عُقْبَةَ بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن اللّه لا يصنع بشَقَاء أختك شيئًا؛ فلتركَبْ"
(4)
.
• وقد اختلف العلماء في حكم من نذر أن يحج ماشيًا.
فمنهم من قال: لا يلزمه المشي، وله الركوب، بكل حال وهو رواية عن الأوزاعي وأحمد.
• وقال أحمد: يصوم ثلاثة أيام، وقال الأوزاعي: عليه كفارة يمين والشهور أنه يلزمه ذلك إن أطاقه فإن عجز عنه فقيل يركب عند العجز، ولا شيء عليه، وهو أحد
(1)
أخرجه أحمد في المسند 1/ 236 (الحلبى) 3/ 355 (المعارف) وحكم بصحة إسناده ولكنه عقب عليه بقول الهيثمي في المجمع 1/ 60: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار وفي ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالسماع". ثم لم يعقب بشيء يرد به على الهيثمي بعد أن حكم هو بصحة الحديث.
وأورده البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الدين يسر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الدين إلى اللّه الحنيفية السمحة" هكذا تعليقًا، وحسنه ابن حجر في الفتح 1/ 94 وانظر ما علق به على الحديث: وصله.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 6/ 116، 233 أن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة".
(3)
أخرجه البخارى في: 83 - كتاب الأَيمان والنذور: 31 - باب النذر فيما، يملك وفي معصية 11/ 585 - 586 من طريق مسدد عن يحيى، عن حميد، عن ثابت، عن أنس، بالنص الثاني الذي أورده ابن رجب وزاد. ورآه يمشي بين أبْنَيْهِ.
ورواه مسلم في صحيحه: 26 - كتاب المنذر: 4. باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة 3/ 1263 - 1265 ح 9 (1642)، 10 (1643) من وجوه عن أنس بنحوه.
(4)
نص الحديث عند مسلم عقب الحديث السابق أن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت اللّه حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستفتيته، فقال:"لتمش ولتركب" وهو عند أبي داود من وجوه عديدة في: 16 - كتاب الأيمان والنذور: 23 - باب من رأى عليه كفارة إذا كان معصية 3/ 596 - 602 ح 3293، 3294، 3295، 3296، 3297، 3298، 3299، 3303، 3304.
قولي الشافعي.
وقيل: بل عليه مع ذلك كفارة يمين.
وهو قول الثوري وأحمد في رواية.
وقيل: بل عليه دم، قاله طائفة من السلف منهم عطاء، ومجاهد، والحسن، والليث، وأحمد، في رواية.
وقيل: يتصدق بكراء ما ركب.
• وروى عن الأوزاعى وحكاه عن عطاء.
• وروى عن عطاء يتصدق بقدر نفقته عند البيت، وقالت طائفة من الصحابة وغيرهم: لا يجزيه الركوب بل يحج من قابل، فيمشي ما ركب، ويركب ما مشى.
وزاد بعضهم وعليه هدي.
وهو قول مالك إذا كان ما ركبه كثيرًا.
• ومما يدخل في عمومه أيضًا أنّ مَنْ عليه دَيْن، لا يطَالَب به مع إعساره؛ بل ينْظَرُ إلى حال يساره، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} "
(1)
.
وعلى هذا جمهور العلماء؛ خلافًا لشُرَيح في قوله: إن الآية مختصة بديون الربا في الجاهلية.
• والجمهور أخذوا باللفظ العام، ولا يكلف الدين أن يقضيَ مما عليه في خروجه من مِلْكه ضَرَرٌ كثيابه، ومسكنه المحتاج إليه، وَخَادِمِه كذلك، ولا ما يحتاج إلى التجارة به، لنفقته ونفقة عياله.
هذا مذهب الإمام أحمد رحمه اللّه تعالى.
* * *
(1)
سورة البقرة: 280 وانظر مصنف عبد الرزاق 8/ 305 ح 15309 وتفسير الطبري 6/ 30 ح 2678 وما بعده والدر المنثور 1/ 368 وتفسير القرطبي 3/ 371 - 372 وفيه الرد على شريح وتوضيح الاحتجاج للجمهور وأن الآية عامة في الربا وغيره.
الحديث الثالث والثلاثون
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ (تَعَالَى) عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعى رِجالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِماءَهُمْ
(1)
ولكن البَيِّنةُ عَلَى المُدَّعِى، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ". حَدِيثٌ حَسَنٌ.
[تخريج الحديث]:
رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَغْيْرُهُ هَكَذَا، وَبَعْضُهُ في الصَّحِيحَين
(2)
.
* * *
أصل هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكَة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم؛ لادعى ناس دماء رجال وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعَى عليه
(3)
.
• وخرجاه
(4)
أيضًا من رواية نافع بن عمر الْجُمَحِى، عن ابن أبي مُلَيكَة، عن ابن
(1)
م: "لكن".
(2)
رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الدعوى والبينات: باب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه 10/ 252 من طرق ووجوه عديدة أحدها النص الذي أورده ابن رجب وأخرجه في كتاب البيوع: باب اختلاف المتبابعين 5/ 231 - 232 بنحوه.
والبغوى في شرح السنة كتاب الإمارة والقضاء: باب البينة على المدعي واليمين على من أنكر 10/ 101.
وابن ماجه في السنن: 13 - كتاب الأحكام: باب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه 2/ 778 ح 2321.
وأحمد في المسند 1/ 342 - 443، 351، 363 (الحلبي)، 5/ 68، 99 - 100، 143 ح 3188، 3292، 3427 - (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر.
(3)
رواية ابن جُريج أخرجها البخاري في: 65 - كتاب التفسير: 3 - باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} 8/ 213 ح 4552.
وهي عند مسلم في: 33 - كتاب الأقضية: أ - باب اليمين على المدعى عليه 3/ 1336 ح 1 - (1711).
(4)
رواية نافع بن عمر الجمحي عند البخاري في: 48 - كتاب الرهن: 6 - باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه 5/ 145 ح 2514 وفيه يروي نافع عن ابن عمر أن ابن أبي مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس فكتب إليَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه 5/ 280 ح 2668 بنحوه.
وأخرجه مسلم في الأقضية عقب الحديث السابق.
عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى: "أن اليمين على المدعى عليه".
واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساق ابن الصلاح مثله في الأحاديث الكليات وقال: رواه البيهقى بإسناد حسن.
• وخرجه الإسماعيلي في صحيحه، من رواية الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لو يُعطى الناسُ بدعواهم؛ لادَّعَى رجالٌ دماءَ رجالي وأموالَهم، ولكن البينةَ على الطالبِ واليمينَ على المطْلُوب".
• وروى الشافعي: أنبأ مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:"البينة على المدعي".
قال الشافعي: وأحسبه ولا أثبته أنه قال: "واليمين على المدعى عليه"
(1)
.
• وروي محمد عن عمر بن لبابة الفقيه الأندلسي، عن عثمان بن أيوب الأندلسي - ووصفه بالفضل - عن غازي بن قيس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فذكر هذا الحديث، قال: "لكن
(2)
البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر".
وغازي بن قيس: أندلسي كبير صالح، سمع من مالك، وابن جريج وطبقتهما.
وسقط من هذا الإسناد ابن جريج.
وقد استدل الإمام أحمد، وأبو عبيد، بأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
وهذا يدل على أن هذا اللفظ عندهما صحيح محتج به.
وفي المعنى أحاديث كثيرة.
• ففي الصحيحين
(3)
عن الأشعثِ بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في
(1)
ليست في م.
(2)
ترتيب مسند الشافعي 12/ 181 بنصه.
(3)
راجع في هذا ما أخرجه البخاري في: 42 - كتاب المساقاة: 4 - باب الخصومة في البئر، والقضاء فيها ح 2356، 2357 وأحاديث: 2416، 2417، 2516، 2555، 2666، 2667، 2669، 2670، 2673، 2676، 2677، 4549، 4550، 6659، 6660، 6676، 6677، 7183، 7183.
وما أخرجه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 61 - باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار 1/ 122 - 124 ح 218 - (137)، 219 - (
…
)، 220 - (138)، 221 - (
…
)، 222 - (
…
)، 223 - (139)، 224 - (
…
) وهذا الموضع =
بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينُه" قلت: إذًا يحلفُ ولا يبالي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ حَلَفَ على يمين يستحقُّ بها مالًا هو فيها فاجرٌ لقى الله وهُو عليه غضبان" فأنزل الله، تصديق ذلك ثم اقترأ هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}
(1)
الآية.
• وفي رواية لمسلم بعد قوله إذا يحلف قال: "ليس لك إلا ذلك".
• وخرجه مسلم أيضًا بمعناه من حديث وائل بن حُجر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
• وخرج الترمذي من حديث العرزمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته:"البينة على المدعي، واليمين على المدعَى عليه".
وقال: في إسناده مقال، والعرزمى يضعف في الحديث من قِبَلِ
(2)
حفظه
(3)
.
• وخرج الدارقطني من رواية مسلم بن خالد الزنجي وفيه ضعف - عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"البينة على المدعي واليمينُ على من أنْكر إلا في القسامة"
(4)
.
ورواه الحفاظ
(5)
عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، مرسلا
(6)
وخرج أيضًا من رواية مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبته يوم
= الأخير هو الذي يشير ابن رجب إليه في قوله، وفي رواية لمسلم ثم هوَ هو الذي سيشير إليه في مسلم من رواية وائل بن حجر. ففي الموضع الأخير لمسلم يروي من حديث أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن علقمة بن وائل، عن وائل بن حجر، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فقال أحدهما: إن هذا انتزى عَلَيّ أرضي يا رسول الله! في الجاهلية (وهو امرؤ القيس بن عباس الكندي، وخصمه ربيعة بن عبدان) قال: "بينتك؟ " قال: ليس لي بينة قال: "يمينه" قال: إذا يذهب بها، قال:"ليس لك إلا ذاك" قال: فلما قام ليحلف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اقتطع أرضا ظالمًا لقى الله وهو عليه غضبان".
(1)
سورة آل عمران 77.
(2)
م: "جهة" وما أثبتناه هو الموافق لما في الأصول والترمذي.
(3)
أخرجه الترمذي في السنن: 13 - كتاب الأحكام: باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه 3/ 626 ح 1341.
(4)
هذه الرواية أخرجها الدارقطني في السنن: كتاب الحدود والديات 3/ 111 وفى كتاب الأقضية والأحكام: باب المرأة تقتل إذا ارتدت 4/ 218.
(5)
م: "الحافظ".
(6)
أورده الدارقطني في السنن في الموضع السابق قبل الحديث المرفوع، وعزاه لعبد الرزاق.
الفتح: "المدعَى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة"
(1)
.
وخرجه الطبراني.
• وعنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده كلام
(2)
.
• وخرج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة
(3)
وروى حجاج الصواف، عن حميد بن هلال، عن زيد بن ثابت.
قال: قَضَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَيُّمَا رجل طَلب عند رجل طَلِبَةً، فإن المطلوبَ هو أولى باليمين".
• وخرجه أبو عبيد، والبيهقي
(4)
وإسناده ثقات: إلا أن حميد بن هلال ما أظنه لقي زيد بن ثابت.
• وخرجه الدارقطني وزاد فيه "بغير شهداء"
(5)
.
• وخرج النسائي
(6)
، من حديث ابن عباسٍ قال: جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فادعى أحدهما على الآخر حقًّا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمدعي: "أقم بينتك" فقال: يا رسول الله! ما لي بينة؟ فقال للآخر: "احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عليك أو عندك شيء".
• وقد روى عن عمر: أنه كتب إلى أبي موسى أن البينة على المدعي واليمين على
(1)
أخرجه الدارقطني في السنن 4/ 218 - 219.
(2)
راجع ما ذكره العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1/ 342 - 343.
(3)
في المواضع السابقة له.
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الدعوى والبينات باب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه 10/ 253 من حديث حميد بن هلال عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا لم يكن للطالب بينة فعلى المطلوب اليمين".
(5)
هو عند الدارقطني في السنن 4/ 219: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من طلب عند أخيه طلبة بغير شهداء فالمطوب أولى باليمين.
(6)
في الكبرى على ما في تحفة الأشراف 4/ 389 - 390 وهو عند أبي داود في: 16 - الأيمان والنذور: 16 - باب فيمن يحلف كاذبًا متعمدًا 3/ 583 ح 3275 وفي: 18 - كتاب الأقضية: 24 - باب كيف اليمين؟ 4/ 41.
وكلا الموضعين من رواية عطاء بن السائب عن أبي يحيى، عن ابن عباس، ولفظ الأول: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم الطالب البينة، فلم تكن له بينة، فاستحلف المطلوب، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بلى! قد فعلت، ولكن غفر لك بإخلاص قول "لا إله إلا الله".
وعقب أبو داود بقوله: "يراد من هذا الحديث أنه لم يأمره بالكفارة" والحديث في الكبرى 3/ 489 ح 6007/ 5.
من أنكر
(1)
.
• وقَضَى بذلك زيد بن ثابت على عمر
(2)
لأُبيّ بن كعب ولم ينكراه.
وقال قتادة: فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ هو: أن البينة على المدعى، واليمين على من أنكر.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن البينة على المدَّعي واليمين على المدعَى عليه.
[معنى قوله: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"]:
قال: ومعنى قوله: "البينة على المدعي" يعني أنه يستحق بها ما ادعى لا أنها
(3)
واجبة يؤخذ بها.
• ومعنى قوله: "اليمين على المدَعى عليه" أي يبرأ بها لا أنها
(4)
واجبة عليه.
يؤخذ بها على كُلِّ حال، انتهى.
• وقد اختلف الفقهاء من أصحابنا والشافعية في تفسير المدعِي والمدعَى عليه.
(1)
أورده البيهقي في السنن الكبرى 10/ 150 من رواية جعفر بن برقان، عن معمر البصري، عن أبي العوام البصري قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "أن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحِق لا نفاذ له، وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يَيْأسَ ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حراما أو حرم حلالا، ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته بحق، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية؛ فإن ذلك أبلغ في العذر، وأجلى للعمى، ولا يمنعك من قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه لرأيك، وهديت فيه لرشدك، أن تراجع الحق؛ لأن الحق قديم لا يبطل الحق شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة إلّا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة الزور، أو ظنينًا في ولاء أو قرابة فإن الله عز وجل تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان، ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ليس في قرآن ولا سنَّةٍ، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال والأشباه، ثم أعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى، وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر؛ فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر، ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين لهم بما ليس في قلبه شأنه الله فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا وما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته؟!!
وهو عند الدارقطني في السنن 4/ 206 - 207 من وجهين: من رواية عيسى بن يونس، عن عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح الهذلي، ومن رواية أحمد بن حنبل، عن سفيان بن عيينة، عن إدريس الأوذي، عن سعيد بن أبي بردة.
(2)
أخرجه وكيع في أخبار القضاة 1/ 108 - 110 مختصرًا مطولًا.
(3)
،
(4)
م: "لأنها" وهو تحريف يحيل المعنى.
• فمنهم من قال: المدعي هو الذي يخلَّى وسكوته من الخصمين والمدعَى عليه من لا يخلَّى وسكوته منهما.
• ومنهم من قال: المدعِي: مَنْ يطلب أمرًا خفيا على خلاف الأصل والظاهر والمدعى عليه بخلافه.
[تفريعات]:
وبنوا على ذلك مسألة:
وهي: إذا أسلم الزوجان الكافران قبل الدخول ثم اختلفا، فقال الزوج: أسلمنا معا فَنِكَاحُنَا باق، وقالت الزوجة: بل سبق أحدُنا إلى الإسلام، فالنكاح منفسخ.
فإن قلنا المدعي: مَنْ
(1)
يخلى وسكوته، فالمرأة هي المدَّعِي فيكون القول قولَ الزوج لأنه مدعى عليه إذ لا يخلى وسكوته.
وإن قلنا: إن
(2)
المدعي من يدعي أمرًا خفيا فالمدعي هنا هو الزوج، إذ التقارن في الإسلام خلافُ الظاهر، فالقول، قول المرأة؛ لأن الظاهر معها.
• وأما الأمين إذا ادّعى التلف، كالمودَع إذا ادعى تلفَ الوديعة، فقد قيل: إنه مُدّع؛ لأن الأصل يخالف ما ادعاه.
وإنما لم يحتج إلى بينة؛ لأن المودِع ائتمنه، والائتمان يقتضي قبول قوله.
وقيل: إن المدعي الذي يحتاج إلى بينة: هو المدعي ليعْطي بدعواه مال قوم أوْ دماءهم كما ذكر ذلك في الحديث.
• فأما الأمين فلا يدعي ليعطى شيئا.
وقيل: بل هو مدعىً عليه؛ لأنه إذا سكت لم يُتْرَكْ، بل لا بد له من ردّ الجواب.
والودع مدع؛ لأنه إذا سكت ترك ولو ادعى الأمين ردّ الأمانة إلى من ائتمنه؛ فالأكثرونَ على أن قوله مقبول أيضًا كدعوى
(3)
التلف.
• وقال الأوزاعي: لا يقبل قوله، لأنه مدع.
• وقال مالك، وأحمد في رواية: إن ثبت قبضه للأمانة ببينة، لم يقبل قوله في الردّ بدون البينة
(4)
.
(1)
سقطت من م.
(2)
ليست في "ا".
(3)
م: "لدعوى".
(4)
"ا": "بينة".
• ووجَّه بعض أصحابنا ذلك بأن الإشهاد على دفع الحقوق الثابتة بالبينة واجب، فيكون تركه تفريطًا فيجب به الضمان، ولذلك قال طائفة منهم في دفع مال اليتيم إليه: لابد له من بينة؛ لأن الله تعالى أمر بالإشهاد عليه، فيكونُ واجبًا.
• وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين:
• أحدهما: أن البينة على المدّعِي أبدًا وَاليمين على المدَّعَى عليه أبدًا.
وهو قول أبي حنيفة، ووافقه طائفة من الفقهاء والمحدثين كالبخاري، وطرَّدوا ذلك في كل دعوى، حتى في القسامة وَقالوا: لا يحلَّف إلا المدّعَى عليه، ورأوا أن لا يقضى بشاهد ويمين
(1)
لأن اليمين لا تكون إلا على المدعى
(2)
عليه، ورأوا أن اليمين لا يردّ على المدعِي؛ لأنها لا تكون إلا في جانب المنكر المدعَى عليه.
واستدلوا في مسألة القسامة بما روى سعيد بن عبيد، حدثنا بُشير بنُ يَسار الأنصارى، عن سهل بن أبي حَثمة
(3)
أنه أخبره أن نفرا منهم انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها، فوجدوا أحدهم قتيلًا، فذكر الحديث وفيه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"تأتوني بالبيِّنة على من قتله؟ " قالوا: ما لنا بينة، قال:"فيحلفون؟ " قالوا: "لا نرضى بأيمان اليهود فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبْطِلَ دمه فوداه
(4)
مائة من إبل الصدقة، خرجه البخاري
(5)
.
• وخرجه مسلم مختصرًا ولم يتمه
(6)
.
(1)
م: "ولا يمين".
(2)
ا، ب:"إلا على المدعِي" فهذا الذي آثرناه هو الموافق للسياق ولما في ل باحتمال كبير وفي د، ظ:"لأن اليمين لا تكون إلا على المدعى عليه".
(3)
م: "بشير بن بشارة""خيثمة" وفيها تصحيف وتحريف.
(4)
م: "بمائة" وكلا الروايتين صحيح وهذه هي رواية الكشميهني.
(5)
رواية سعيد بن عبيد أخرجها البخاري في 87 في كتاب الديات: 23 - باب القسامة 12/ 229 - 230 ح 6898 عن بشير بن يسار زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا؟ قالوا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، فانطقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا؟ فقال: الكُبْرَ الكُبْرَ (راعوا السن ولا يتكلم الأصغر ومعكم من هو أكبر) فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة. قال: فيحلفون؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطَلَّ دمه فوداه مائة من إبل الصدقة" وفي ا، د، ل، ظ: "يبطل دمه".
(6)
في صحيحه: 28 - كتاب القسامة: 1 - باب القسامة 3/ 1294 ح 5.
ولكن هذه الرواية تعارض رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بُشَير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، فذكر قصة القتيل وقال: فيه فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مقتل عبد الله بن سهل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ".
وهذه هي الرواية المشهورة الثابتة المخرجة بلفظها بكمالها في الصحيحين
(1)
.
• وقد ذكر الأئمة الحفاظ أن رواية يحيى بن سعيد أصح من رواية سعيد بن عبيد الطائى؛ فإنه أجل وأحفظ وأعلم، وهو من أهل المدينة، وهو أعلم بحديثهم من الكوفيين.
وقد ذُكر للإمام أحمد مخالفةُ سعيد بن عبيد ليحيى بن سعيد في هذا الحديث، فنفض يده وقال: ذاك ليس بشيء؛ رواه على ما يقول الكوفيون، وقال: أذهبُ إلى حديث المدنيين يحيى بن سعيد.
وقال النسائي لا نعلم أحد تابع سعيدَ بنَ عبيد على روايته، عن بُشَير بن يسَار.
وقال مسلم في كتاب التمييز
(2)
لم يحفظه سعيد بن عبيد على وجهه، لأن جميع الأخبار فيها سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهم قسامة خمسين يمينًا، وليس في شيء من أخبارهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألهم البينة، وترك سعيد: القسامة، وتواطؤُ الأخبار بخلافه يقضى عليه بالغلط.
وقد خالفه يحيى بن سعيد.
وقال ابن عبد البر
(3)
في رواية سعيد بن عبيد: هذه رواية أهل العراق، عن بُشَير بن يسار، ورواية أهل المدينة عنه أثبت، وهم به أقعد، ونقلهم أصح عند أهل العلم.
* * *
• قلت: وسعيد بن عبيد اختصر قصة القسامة وهي محفوظة في الحديث، وقد خرّج النَّسَائيُّ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن
(4)
النبي صلى الله
(1)
البخاري في: 53 - كتاب الصلح: 7 - باب الصلح مع المشركين 5/ 305 ح 2702 وفي: 58 - كتاب الجزية والموادعة: 12 - باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، وإثم من لم يف بالعهد وقوله {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} 6/ 275 ح 3173 وفى: 78 - كتاب الأدب: 89 - باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال 10/ 535 - 536 ح 6343، ومسلم في صحيحه: 28 - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات: 1 - باب القسامة 3/ 1291 - 1294 ح 1 - (1669)، 2، 3، 4.
(2)
ص 144 - 146.
(3)
في التمهيد 23/ 209.
(4)
م: "عن".
عليه وآله وسلم طلبَ من ولي القتيل شاهدين على مَنْ قتله فقال: ومن أين أصيب شاهدين؟ قال: "فتحلفُ خمسين قسامة" قال: كيف أحلف على ما لم أعلم؟ قال: "فتستحلف منهم خمسين قسامة"
(1)
فهذا الحديث يُجمع به بين روايتى سعيد بن عبيد، ويحيى بن سعيد ويكون كل منهما ترك بعضَ القصة، فترك سعيدٌ ذكرَ قسامة المدعين، وترك يحيى ذكر البينة قبل طَلَب القسامة، والله أعلم
(2)
.
• وأما مسألة الشاهد مع اليمين: فاستدل من أنكر الحكم بالشاهد واليمين بحديث: "شاهداك أو يمينه"
(3)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس لك إلا ذلك"
(4)
وقد تكلم القاضي إسماعيل المالكي في هذه اللفظة وقال: تفرد بها منصور عن أبي وائل وخالفه سائر الرواة وقالوا: إنه سأله: ألك بينة؟ أو لا؟ والبينة لا تقف على الشاهدين فقط؛ بل تعمّ سائر ما يبين الحق.
وقال غيره: يحتمل أن يريد بشاهديه
(5)
كلَّ نوعين يشهدان للمدعِى بصحة دعواه يتبين بها الحق، فيدخل في ذلك شهادة الرجلين، وشهادةُ الرَّجُلِ معَ المرأتين وشهادةُ
(1)
أخرجه النسائي في السنن: 45 - كتاب القسامة: 2، 3 تبدئة أهل الدم في القسامة، ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهل فيه 8/ 5 ح 4710 - 4720 وفي هذا الحديث الأخير ووفي النسائي الحديث الذي أشار إليه ابن رجب من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ابن محيّصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته، قال: يا رسول الله! ومن أين أصيب شاهدين وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم؟ قال: فتحلف خمسين قسامة؟ قال: يا رسول الله! وكيف أحلف على ما لا أعلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فستحلف منهم خمسين قسامة، فقال يا رسول الله! كيف نستحلفهم وهم اليهود؟ فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهما وأعانهم بنصفها".
وقد اعتمد ابن حجر في الفتح 2341 على هذه الرواية في الجمع بين الروايات واعتبرها شاهدا لطلب البينة أولا من المدعين، قال بعد أن استعرض الروايات في هذه القضية: وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لم يحفظ الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة فلم تكن لهم بينة فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم، فأبوا.
وانظر البخاري وفتح الباري 11/ 229 - 243 ففيهما في هذا الموضع الكفاية والاستزادة لمن أراد أن يستزيد.
(2)
وابن حجر متأثر بهذا الاتجاه، أو هذا هو اتجاهه كما قد عرفت.
(3)
راجع ما رواه مسلم في صحيحه: 1 - كتاب الأَيمان: 61 - باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار 1/ 123 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: شاهداك أو يمينه. أي: لك ما يشهد به شاهداك أو يمينه.
وأخرجه البخاري تعليقًا في 87 - كتاب الديات: 22 - باب القسامة وقال الأشعث بن قيس قال النبي صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه 11/ 229.
(4)
أخرجه مسلم في الموضع السابق ح 224 (
…
) وسبق أن أوردنا لك نصه قريبًا.
(5)
م: "بشهادته" وهو تحريف.
الواحد مع اليمين، وقد أقام الله سبحانه أيمانَ المدَّعِي مقام الشهودِ في اللعان.
• وقوله في تمام الحديث: "ليس لك إلا ذلك".
لم يرد به النفي العام، بل النفي الخاص، وهو الذي أراده المدعي: وهو أن يكون القول قوله بغير بينة، فمنعه من ذلك، وأبى ذلك عليه.
وكذلك قوله في الحديث الآخر: "ولكن اليمين على المدعَى عليه" إنما أريد بها اليمين المجردة عن الشهادة، وأول الحديث يدل على ذلك وهو قوله:"لو يُعْطَى الناسُ بدعواهم لادّعى رجالٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم".
فدل على أن قوله: "اليمين على المدعى عليه" إنما هي اليمين القاطعة للمنازعة مع عَدمِ البينة.
• وأما اليمين المثبتة للحق مع وجود الشهادة: فهذا نوع آخر، وقد ثبت بسنة أخرى.
وأما رد اليمين على المدعِي: فالمشهور عن أحمد: موافقة أبي حنيفة وأنها لا ترد.
واستدل أحمد بحديث: "اليمين على المدعَى عليه".
وقال في رواية أبى طالب عنه: ما هو ببعيد أن يقال له: تحلف وتستحق.
واختار ذلك طائفةٌ من متأخري الأصحاب وهو قول مالك والشافعي وأبى عبيد.
• وروي عن طائفة من الصحابة.
وقد ورد فيه حديث مرفوع خرجه الدارقطني وفي إسناده نظر
(1)
.
قال أبو عبيد: ليس هذا إزالة لليمين عن موضعها، فإن الإزالة أن لا يقضى باليمين على المطلوب فأما إذا قُضي بها عليه فَرَضِي بيمين صاحبه كان هو الحاكم على نفسه بذلك لأنه لو شاء لحلف وبَرِئ وبطَلَتْ عنه الدعوى.
• والقول الثاني في المسألة: أنه يرجح جانب أقوى المتداعيين، وتُجْعَلُ اليمين في جانبه هذا مذهب مالك.
وكذا ذكر القاضي أبو يعلى في خلافه أنه مذهب أحمد.
وعلى هذا تتوجه المسائل التي تقدم ذكرها من الحكم بالقسامة، والشاهِدِ، واليمين،
(1)
راجع ما رواه الدارقطني في السنن 4/ 214 من حديث علي وفي إسناده ابن ضميرة كذبه مالك وأبو حاتم وقال البخاري: منكر الحديث.
فإن جانب الدعي في القسامة لما قوى باللوث
(1)
جعلت اليمين في جانبه وحكم له بها.
وكذلك المدعي، إذا أقام شاهدًا، فإنه قوَّى جانبه فحلف معه وقَضى له.
• وهؤلاء لهم في الجواب عن قوله "البينة على المدعى" طريقان:
• أحدهما: أن هذا خص من هذا العموم بدليل.
• والثاني: أن قوله: "البينة على المدَّعِي" ليس بعام، لأن المراد: المدعِي المعهود وهو من لا حجة له سوى الدعوى كما في قوله: "لو يُعطَى الناسُ بدعواهم لادعى رجالٌ دماء قومٍ وأموالهم" فأما المدى عي الذي معه حجة تُقَوِّى دَعْوَاه فليس داخلا في هذا الحديث.
• وطريق ثالث: وهو أن البينة كلُّ مَا بين صحةِ دعْوى المدعِي وشهد بصدقه، فاللوث مع القسامة بينة، والشاهد مع اليمين بينة.
• وطريق رابع: سلكه بعضهم، وهو الطعن في صحة هذه اللفظة أعني قوله "البينة على المدعي" وقالوا: إنما الثابت هو قوله: "اليمين على المدعَى عليه".
* * *
• وقوله: "لو يعطى الناسُ بدعواهم لادعَى قَوْمٌ دمِاءَ قوم وأموالَهم" يدل على أن مدعِيَ الدم والمال لابدّ له من بينة تدل على ما ادَّعاه.
ويدخل في عموم ذلك أن من ادعى على رجلٍ أنه قتل مورّثه
(2)
وليس معه إلا قول المقتول عند موته: جرحني فلان، أنه لا يكتفي بذلك، ولا يكون بمجرده لوثا.
وهذا قول الجمهور، خلافًا للمالكية فإنهم
(3)
جعلوه لوثًا يُقْسِمُ معه الأولياءُ ويستحقون الدم.
• ويدخل في عمومه أيضًا من قذف زوجته ولاعنها؛ فإنه لا يباحُ دَمُها بمجرد لعانها
(4)
.
وهذا قول الأكثرين: خلافًا للشافعي واختار قوله الجوزجاني، لظاهر قوله عز وجل:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}
(5)
.
(1)
اللوث: هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعَى عليه كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر ذكر ذلك ابن قدامة وتفصيله في المغني 12/ 193 وما بعدها.
(2)
ا، د، ل، ظ:"موروثه".
(3)
ا: "وإنهم" وانظر المغني 12/ 207.
(4)
م: "لعانه".
(5)
سورة النور: 8.
والأولون: منهم من حمل العذاب على الحبس، وقالوا: إن لم تلاعن، حُبِسَتْ حتى تُقِرَّ أو تلاعن.
وفيه نظر، ولو ادعت امرأة على رجل بأنه أستكرهها على الزنا، فالجمهور على أنه لا يثبت بدعواها عليه شيء.
• وقال أشهب من المالكية لها الصداق بيمينها.
وقال غيره منهم: لها الصداق بغير يمين.
هذا كله إذا كانت ذات قدر، وادعت ذلك على متهم تليق به الدعوى.
وإن كان المرمي بذلك من أهل الصلاح؛ ففي حدها للقذف عن مالك: روايتان.
وقد كان شريح وإياس بن معاوية يحكمان في الأموال المتنازَع فيها بمجرد القرائن الدالة على صدق أحد المتداعيين.
وقضى شريح في أولاد هرة تداعاها امرأتان كل منهما تقول هي ولد هرتي قال شريجع ألقها مع هذه فإن هي قرت ودرت واسبطرت
(1)
فهي لها، وإن هي فرت وهرّت وأزبأرّت فليس لها.
• قال ابن قتيبة: قوله اسبطرت؛ يريد امتدت للإرضاع وازبأرَّت؛ اقشعرت وتنفشت
(2)
.
وكان يقضي بنحو ذلك أبو بكر الشامي من الشافعية.
ورجح قولَه ابنُ عقيل من أصحابنا.
• وقد روي عن الشافعي وأحمد: استحسان
(3)
قول القافَة
(4)
في سرقة الأموال والأخذ بذلك.
ونقل ابن منصور عن أحمد؛ إذا قال صاحبُ الزرع: أفسدت غنُمك زرعي بالليل يُنظَر في الأثر؛ فإن لم يكن أثر غنمه في الزرع؛ لابد لصاحب الزرع من أن يجيء بالبينة.
(1)
اسبطر: اضطجع وامتد، واسبطرت الذبيحة امتدت للموت، وفي السير: أسرع، والبلاد: استقامت معجم 1/ 415.
(2)
ازبأرّ الشعر: انتفش والنبات والوبر: طلعا ونبتا، والرجل تهيأ للشر المعجم الوسيط 1/ 788. وقول ابن قتيبة في غريب الحديث 2/ 507.
(3)
م: "السختياني" وهو تحريف.
(4)
بفتح الفاء المخففة: جمع قائف: من يتتبع الأثر ويعرفه؛ قاموس: الفاء فصل القاف ص 1095.
• قال إسحاق بن راهويه: كما قال أحمد؛ لأنه مدع.
وهذا يدل على اتفاقهما على الاكتفاء برؤية أثر الغنم، وأن البينة إنما تطلب عند عدم الأثر.
• قوله: "واليمين على المدعَى عليه" يدل على أن كل من ادُّعِي عليه دعوى؛ فأنكر فإن عليه اليمين، وهذا قول أكثر الفقهاء.
وقال مالك: إنما تجب اليمين على المنكِر؛ إذا كان بين المتداعيين نوعُ مخالطة؛ خوفًا من أن يَبتَذِلَ السفهاء الرؤساء
(1)
بطلب أيمانهم.
وعنده؛ لو ادَّعى على رجل أنه غصبه أو سرق منه ولم يكن المدعى عليه متهمًا بذلك لم يسْتَحْلَفْ المدعى عليه.
• وحكى أيضًا عن القاسم بن محمد، وحميد بن عبد الرحمن وحكاه بعضهم عن فقهاء المدينة السبعة
(2)
.
فإن كان من أهل الفضل أو ممن لا يشار إليه بذلك أُدِّب المدعِي عند مالك.
ويُسْتَدل بقوله "اليمين على المدعى عليه".
على أن الدعى لا يمين عليه وإنما عليه البينة.
وهو قول الأكثرين.
• ورُوي عن عليّ أنه أحلف الدَّعِي مع بينته أن شهوده شهدوا بحق.
وفعله أيضًا شريح، وعبدُ الله بن عتبة بن مسعود، وابنُ أبي ليلى، وسوّارٌ العنبري وعبيدُ الله بن الْحَسَن، ومحمد بن عبد الله الأنصاري.
وروى عن النخعي أيضًا.
• وقال إسحاق: إذا استراب الحاكم وجب ذلك.
وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال أحمد: قد فعله عليٌّ، فقال له: أيستقيمُ هذا؟ فقال: قد فعله عليّ؛ فأثبت القاضي هذا: رواية عن أحمد؛ لكنه
(1)
م: "على الرؤساء" وفي د، ل:"يتبذّل".
(2)
وهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد بن ثابت، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبيد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، على خلاف في بعضهم وانظر تدريب الراوي: شرح تقريب النواوي 2/ 240.
حملها على الدعوى على الغائب والصبي.
وهذا لا يصح؛ لأن عليًّا إنما حَلّف المدعي مع بينته على الحاضر معه.
وهؤلاء يقولون: هذه اليمينُ لتقوية الدعوى إذا ضعفت باسترابة الشهود كاليمين مع الشاهد الواحد.
وكان بعضُ المتقدمين يُحَلّفُ الشهود، إذا استرابهم أيضًا.
ومنهم سوّارٌ العنبري قاضى البصرة، وجوز ذلك القاضي أبو يَعلَى من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاة.
• وقد قال ابن عباس في المرأة الشاهدة على الرضاع: إنها تُستحلَف.
وأخذ به اللإمام أحمد.
وقد دل القرآن على استحلاف الشهود عند الارتياب بشهادتهم في الوصية في السفر في قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} - إلى قوله - {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}
(1)
وهذه الآية يُنْسَخ العمل بها عند جمهور السلف.
وقد عمل بها أبو موسى، وابن مسعود.
وأفتى بها عليٌّ، وابنُ عباس.
وهو مذهب شريح، والنخَعِي، وابنِ أبي ليلى، وسفيان، والأوزاعي، وأحمد
(2)
وأبي عبيد، وغيرهم قالوا: تقبلُ شهادةُ الكفارة في وصية المسلِمين في السفر، ويُستحلفان مع شهادتهما.
وهل يمينهما
(3)
من باب تكميل الشهادة؛ فلا يحكم بشهادتهما بدون يمين؟ أم من باب الاستظهار عند الريبة؟ وهذا محتمل.
وأصحابنا جعلوها شرطًا؛ وهو ظاهر ما رُوي عن أبي موسى وغيره.
وقد ذهب طائفة من السلف إلى أن اليمين مع الشاهد الواحد هو من باب الاستظهار، فإن رأى الحاكم الاكتفاء بالشاهد الواحد لبروز عدالته، وظهور صدقه
(1)
سورة المائدة: 106.
(2)
م: وابن عبيد وفيه تحريف واضح.
(3)
م: "يمنعهما".
اكتفى بشهادته بدون يمين الطالب.
(1)
يدل على أول إذا ظهر خلل في شهادة الكفار، حَلَف أولياءُ الميت على خيانتهما وكذبهما واستحقوا ما حَلَفُوا عليه.
وهذا قول مُجَاهد وغيرِه من السَّلَف.
• ووجه ذلك: أن اليمين في جانب أقوى التداعيين.
وقد قويت هنا دعوى الورثة بظهور كذب الشهود الكفار فتردُّ اليمين على المدَّعِين، ويحْلفُون مع اللَّوث
(2)
ويستحقون ما ادّعَوْا كما يحلفُ الأولياء في القسامة مع اللَّوْثِ ويستحقُّون بذلك الدية والدم أيضًا عند مالك وأحمد وغيرهما.
• وقضى ابن مسعود في رجل مسلم حضره الموت، فأَوصى إلى رجلين مسلمين معه وسلّمهُمَا ما معه من المال، وأشهد على وصيته كفارًا ثم قدم الوصيان فدفعا بعض المال إلى الورثة وكتمَا بعضه ثم قدم الكفار فشهدوا عليهم بما كتموه من المال فدعَا الوصيين المسلمين فاستحلَفَهُمَا ما دفع إليهما أكثرَ مما دفعاه، ثم دعا الكفار فشهدوا وحلفوا على شهادتهم، ثم أمر أولياء الميت أن يحلفوا أن ما شهدت به اليهود والنصارى حق فحلفوا فقضى على الوصيين بما حلفوا عليه.
وكان ذلك في خلافة عثمان.
وتأول ابن مسعود الآية على ذلك، وكأنه قابل بين يمين الأوْصياء والشهود الكفار [فأسقطهما وبقى مع الورثة شهادة الكفار]
(3)
فحلفوا معها واستحقوا؛ لأن جانبهم تَرجَّح بشهادة الكفار لهم فجعل اليمين مع أقوى المتداعييِن وقضى بها.
واختلف الفقهاء هل يستحلف في جميع حقوق الآدميين كقول الشافعي ورواية عن أحمد؟
(1)
سورة المائدة: 107.
(2)
اللوث: القوة والشر، وشبه الدلالة على حدث من الأحداث، ولا يكون بينة تامة، يقال: لم يقم على اتهام فلان بالجناية إلا لوث: اشتباه.
واللوث: الجراحات والمطالبة بالأحقاد.
وانظر المعجم الوسيط 1/ 851 وما سبق ص 941 عن ابن قدامة في المغني.
(3)
ما بين الرقمين سقط من م.
أو لا يستحلف؛ إلا فيما يُقْضَى فيه بالنكول، كرواية عن أحمد؟
أو لا يستحلف؛ إلا فيما يصح بذله، كما هو المشهور عن أحمد؟
أو لا يستحلف؛ إلا في كل دعوى لا تحتاج إلى شاهدين كما حكي عن مالك؟
وأما حقوق الله عز وجل.
فمن العلماء من قال: لا يُسْتَحْلَف فيها بحال وهو قول أصحابنا وغيرهم.
ونص عليه أحمد في الزكاة، وبه قال طاووس، والثوري، والحسن بن صالح، وغيرهم.
وقال أبو حنيفة ومالك والليث والشافعي: "إذا اتُّهِم فإنه يسْتَحلَفُ".
وكذا حكي عن الشافعي فيمن تزوج من لا تحل له ثم ادعى الجهل: أنهُ يُحلَّف على دعواه.
وكذا قال إسحاق في طلاق السكران: أنه يحلَّف: أنه ما كان يعقل.
وفي طلاق الناسي يحلف على نسيانه.
وكذا قال القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله في رجل قال لامرأته: "أنت طالق" يحلف أنه ما أرادَ به الثَّلاثَ؛ وتردُّ إليه.
• وخرج الطبراني من رواية أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: كان أناس من الأعراب يأتون بلحم فكان في أنفسنا منه شيء فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "اجهدوا أيمانهم: أنهم ذبحوها ثم اذكروا اسم الله
(1)
وكلوا".
وأبو هارون ضعيف جدًّا.
• وأما المؤتمن في حقوق الآدميين حيث قبل قوله، فهل عليه يمين أم لا؟ ففيه ثلاثة أقوال للعماء.
• أحدها: لا يمين عليه؛ لأنه صدّقه بائتمانه ولا يمين مع التصديق، وبالقياس على الحاكم.
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط 3/ 179 - 180 ح 2367 وقال الهيثمي عنه في المجمع 4/ 36 رجاله ثقات لكنه يخالف ما ذكره ابن رجب عن أبي هارون - راويه، والحق مع ابن رجب، تهذيب 7/ 412.
وهذا قول الحارث العُكْلى.
• والثاني عليه اليمين؛ لأنه منكِر؛ فيدخل في عموم قوله: "واليمين على من أنكر".
وهو قول شريح وأبي حنيفة والشمافعي ومالك في رواية، وأكثر أصحابنا.
• والثالث لا يمين عليه إلا أن يُتّهم.
وهو نص أحمد وقول مالك في رواية؛ لما تقدم من ائتمانه.
وأما إذا قامت قرينة تنافي حال الائتمان فقد اختلّ معنى الائتمان.
* * *
• وقوله: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر":
إنما أريد به إذا ادَّعى على رجل ما يدعيه لنفسه، وينكر أنه لمن
(1)
ادعاه عليه ولهذا قال في أول الحديث: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجالٌ دماء قوم وأموالهم".
فأما من ادعى ما ليس له مُدَّع لنفسه منكرٌ لدعواه فهذا أسهل من الأول ولابد للمدعي هنا من بينة ولكن يكتفى من البينة هنا بما لا يكتفى بها في الدعوى على المدعي لنفسه المنكِر.
ويشهد لذلك مسائل:
منها: اللقطة إذا جاء مَنْ وصَفَها؛ فإنها لا تدفع إليه بغير بينة بالاتفاق، لكن منهم من يقول يجوز الدفع إذا غلب على الظنّ صدْقُهُ، ولا يجب كقول الشافعي وأبي حنيفة.
• ومنهم من يقول: يجب دفعها بذكر الوصف المطابق كقول مالك وأحمد.
• ومنها الغنيمة إذا جاء من يدعي منها شيئًا وأنه كان له واستولى عليه الكفار وأقام على ذلك ما يبين أنه له اكتُفي به.
• وسئل عن ذلك أحمد وقيل له فيريد على ذلك بينة؟ قال: لابدّ
(2)
من بيانٍ يدل على أنه له، وإن علم ذلك دفعه إليه الأمير.
• وروى الخلال بإسناده عن الرُّكين بن الربيع عن أبيه قال: حَسَرَ
(3)
لأخي فرس بعين التمر
(4)
فرآه في مربط سعد، فقال فرسي؟! فقال سعد: ألك بيِّنة؟ قال: لا ولكن أَدعوه؛ فيُحَمْحِمْ، فدعاه فَحَمْحَمَ، فأعطاه إياه.
(1)
ليست في م.
(2)
م: "لابد به".
(3)
شرد ومرد.
(4)
م: "القمر".
وهذا يُحْتَمَلُ أنه كان لحق بالعدوّ، ثم ظهر عليه المسلمون.
ويُحْتَمَلُ أنه عُرف أنه ضالٌّ فَوُضِعَ بين الدَّوَابِّ الضَّالَّةِ فيكون كاللُّقَطَة.
* * *
• ومنها الغُصُوب إذا عُلم ظلم الولاة، وطُلب ردُها من بيت المال.
قال أبو الزناد: كان عمرُ بنُ عبد العزيز يردُّ المظالِمَ إلى أهلها بغير البينة القاطعة، كان يكتفي باليسير إذا عرف وجه
(1)
مظلمة الرجل ردَّها عليه ولم يكلِّفه تحقيقَ البينة لما يعرف من غَشْم الولاة قِبَله على الناس.
ولقد أنفد بيتَ مالِ
(2)
العراق في رد المظالم حتى حمل إليها من الشام.
وذكر أصحابنا أن الأموال المغصوبة مع قطاع الطريق واللصوص يكتفى من مدعيها بالصفة كاللقطة.
ذكره القاضي في خلافه، وأنه ظاهر كلام أحمد والله أعلم.
* * *
(1)
م: "صرف وجه" وكلمة صرف ليست في الأصول.
(2)
م: "انقضت أموال العراق".
الحديث الرابع والثلاثون
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ (تَعَالَى) عَنْه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ. رَوَاهُ مُسْلِم.
* * *
[تخريج الحديث]:
هذا الحديث خرجه مسلم من رواية قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد.
ومن رواية إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد.
وعنده في حديث طارق قال: أولُ مَنْ بدأ بالخطبة يومَ العيد قبل الصلاة: مروان فقام إليه رجل فقال: الصلاةُ قبل الخطبة؟! فقال: قد تُرِكَ ما هنالك؟ فقال أبو سعيد: أمّا هذا فقد قَضَى ما عَلَيه ثم روى هذا الحديث
(1)
.
وقد رُوي معناه من وجه آخر؛ فخرج مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما مِنْ نَبيٍّ بعثَهُ الله في أمة قَبْلِى إلا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَاريُّونَ وأصحابٌ يأخذون بِسُنَّتِهِ ويَقْتَدُونَ بِأمْرِهِ ثم إِنّها تَخْلُفُ مِن بَعْدِهِمْ خلُوفٌ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ وَيفعلُونَ ما لا يُؤْمَرُونَ فمنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فهُوَ مُؤْمِنٌ ومَنَ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، ومَنْ جَاهَدهم بقلبِه فهو مؤْمنٌ وَلَيس
(2)
وَراء ذلكَ من الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ
(3)
".
وروى سالم المرادي، عن عَمْرو بن حَزْمٍ، عن جابر بن زيد، عن عُمَرَ بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "سيصيب أمتي في آخر الزمان بَلاءٌ شَدِيدٌ مِنْ سُلْطانِهِمْ لا يَنْجُو منْه، إلا رَجُلٌ عَرَف دينَ الله [فجاهد عليه] بلسانه
(4)
ويده وقلبه فذلك الذي سَبقَتْ له السَّوَابقُ، ورَجُلٌ عَرَفَ دينَ الله فصدَّق به
(1)
الحديث بطريقيه خرجه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 20 - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان: وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان 1/ 69 ح 78. (49)، 79 - ( .. ).
(2)
ا، ب:"ليس" وما أثبتناه عن الأصول الأخرى هو الموافق لما في صحيح مسلم.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه عقب الرواية السابقة - 80 - (50).
(4)
ا، ب:"دين الله بلسانه".
وللأول عليه سَابِقَةٌ، ورجُلٌ عَرفَ دينَ الله فسكَتَ عليه، فإن رأى مَنْ يَعْمَلُ بخير أحَبَّه عليْهِ، وإِنْ رأى مَنْ يعملُ بباطل أَبْغَضَهُ عليه فذلك الذي ينجُو على إبطائه
(1)
".
وهذا غريب وإسناده منقطع.
• وخرج الإسماعيلي من حديث هارون العبدي وهو ضعيف جدًّا، عن مولى لعمر، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"توشِكُ هذه الأمة أن تهْلِكَ؛ إلا ثلاثَةَ نفر: رجل أنكر بيده وبلسانه وبقلبه؛ فإن جَبُنَ بيده فبِلِسانه وقلبه: فإن جبُن بِلسانه وبيدِه فبِقلبِه".
• وخرج أيضًا من رواية الأوزاعي، عن عمير بن هانئ، عن علي مسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سيكُونُ بعدي فِتَنٌ لا يَستطيع المؤمن فيها أن يغير بيده ولا بلسانه؟ قلتُ: يا رسول الله! وكيف ذاك؟ قال ينكرونَهُ بقُلوبهِم. قلت: يا رسول الله! وهل ينقصُ ذلك إيمانَهم شيئًا؟ قال: لا؛ إلا كما يَنْقصُ القَطْرُ مِنَ الصَّفَا.
وهذا الإسناد منقطع.
• وخرج الطبراني معناه من حديث عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(2)
بإسناد ضعيف.
* * *
[دلالة هذه الأحاديث]:
فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، وأنّ إنكاره بالقلب لابد منه
(3)
فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قبله.
• وقد روي عن أبي جحيفة قال: قال علي: إنّ أولَ ما تُغْلَبُون عليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم الجهادُ بألسنتكم، ثم الجهادُ بقلوبكم؛ فمن لم يعرف قَلْبُهُ المعروفَ ويُنكِر قَلْبُهُ المنكرَ نُكِسَ فَجُعِلَ أعلاه أسفلَه.
وسمع ابن مسعود رجلا يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، فقال
(1)
في بعض الأصول: "إبطائه كله".
(2)
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 275 من حديث عبادة بن الصامت وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه طلحة بن زيد القرشي وهو ضعيف جدًّا.
(3)
م: "وأما إنكاره بالقلب فلابد منه".
ابن مسعود: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر
(1)
.
يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرضٌ لا يسقُطُ عَنْ أحد، فمن لم يعرفه هَلكَ.
وأما الإنكار باللسان واليد، فإنما يجب بِحَسَبِ الطَّاقة.
• وقال ابن مسعود: يوشك مَنْ عَاشَ منكم أن يَرَى مُنْكرًا لا يسطع له غير أن يعلم الله من قبله أنه له كاره
(2)
.
• وفي سنن أبي داود عن الْعُرْسِ بن عَمِيرَةَ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها؛ كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها؛ كان كمن شهدها
(3)
".
فمن شهد الخطيئة فكرهها بقلبه
(4)
؛ كان كمن لم يشهدها إذا عجزَ عن إنكارهَا بلسانه ويده.
ومن غاب عنها فرضيها؛ كان كمن شهدها، وقدَرَ علىَ إنْكَارِهَا ولم ينكرها لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال.
• وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حضر معصية فكرهها؛ فكأنه غاب عنها، ومن غاب
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير 8564 بإسناد صحيح كما في المجمع 7/ 275.
(2)
وانظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال ص 27 - 28.
(3)
أخرجه أبو داود في السنن: 31 - كتاب الملاحم والفتن: 17 - باب الأمر والنهي 4/ 515 ح 4345، 4346: الأول عن محمد بن العلاء، عن أبي بكر، عن مغيرة بن زياد الموصلي، عن عدي بن عدي، عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثانى عن أحمد بن يونس، عن أبي شهاب، عن مغيرة بن زياد، عن عدي بن عدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم وسكت المنذري عند الأول عن التعليق وعقب على الثاني بقوله: وهذا مرسل، عدي بن عدي هو ابن عميرة ابن أخي العرس، تابعي، وفي الحديث الأول والثاني: المغيرة بن زياد، مضطرب الحديث، قال البخاري: قال وكيع: وكان ثقة، وقال غيره: في حديثه اضطراب، وقال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان: لا يحتج بحديثه، وقال النسائي والدارقطني ليس بالقوى، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: وأدخله البخاري في كتاب الضعفاء، فسمعت أبي يقول: يحول اسمه من كتاب الضعفاء، واختلف فيه قول يحيى بن معين (عون المعبود 4/ 218).
(4)
م: "في قلبه".
عنها، فأحبها؛ فكأنه حضرها
(1)
وهذا مثلُ الذي قبله.
فتبين بهذا أن الإنكار بالقلب فرضٌ على كل مسلم في كل حال.
وأمّا الإنكار باليد واللسان؛ فبحسب القدرة كما في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا فلا يغيرون؛ إلَّا يوشك أن يعمهم الله بعقاب".
خرّجه أبو داود بهذا اللفظ
(2)
.
• وقال: قال شعبة فيه: "ما من قوم يعمل فيهما بالمعاصي هم أكثر ممن يعمله، فلما يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب
(3)
".
• وخرج أيضًا من حديث جرير سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما مِنْ رَجُل يكون في قوم يُعْمَلُ فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يُغَيّروا عليه، فلا يغيرون؛ إلا أصَابَهُم الله بِعِقَابٍ قبل أَن يموتوا
(4)
.
وخرجه الإمام أحمد ولفظه: "ما مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فيهم بالمعاصي هُمْ أَعَزُّ وأكثَرُ ممن يعمله فلم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب"
(5)
.
• وخرج أيضًا من حديث عديّ بن عميرة، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن الله لا يُعذِّبُ العامةَ بعمل الخاصة، حتى يَرَوا المنكرَ بَيْنَ
(1)
أخرجه البيهقي في السنن 7/ 266 وابن عدي في الكامل 7/ 230 كلاهما من حديث يحيى بن أبي سليمان المديني وهو منكر الحديث. وانظر ترجمة يحيى في الكامل 7/ 230 - 231.
وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في الإتحاف 7/ 10.
(2)
أخرجه أبو داود في السنن:31 - كتاب الملاحم: 17 - باب الأمر والنهي 4/ 509 - 510 ح 4378 من طريق وهب بن بقية، عن خالد، ومن طريق عمرو بن عون عن هشيم كلاهما عن إسماعيل، عن قيس قال: قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يأيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال عن خالد: وإنَّا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأو الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب.
(3)
نص ما في أبي داود: وقال شعبة فيه: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر ممن يعمله" وليس فيه التعقيب المذكور وهو في ا وفيها هم أعز وأكثر.
(4)
أخرجه أبو داود عقب الروايتين السابقتين ح 4339 وفيه: "إلا أصابهم الله بعذاب".
(5)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 364، 366 (الحلبي) بالنص المذكور في الأول إلا قوله: فلم يغيروه فهو في المسند بدون الفاء وفي الثاني بنحوه.
ظَهْرَانيْهِمْ - وهُم قادرون على أن يُنْكِرُوه - فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك؛ عَذَّب الله الخاصَّة والعامة"
(1)
.
• وخرج أيضًا هو وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن الله لَيَسْأَلُ العَبْدَ يومَ القيامة حتى يقولَ: ما مَنَعَكَ إذ رأيتَ المنكرَ أن تُنكِره؟ فإذا لقَّن الله عَبْدًا حجتَه قال: يا ربّ! رجوتُك وفَرِقْتُ مِنَ الناس
(2)
".
• فأما ما خرجه الترمذي، وابن ماجه من حديث أبي سعيد أيضًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال في خطبة:"ألا لا يمنعنَّ رجلا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه".
وبكى أبو سعيد، وقال: قد - والله - رأينا أشياء فَهِبْنا
(3)
.
• وخرجه الإمام أحمد، وزاد فيه: "فإنه لا يقرّبُ مِنْ أجَلٍ ولا يباعدُ من رِزْقٍ أن يُقَال بحقِّ أو يذكَّر
(4)
بعظيم".
وكذلك خرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 192 (الحلبي) عن طريق ابن نمير عن سيف قال: سمعت عدي بن عدي الكندي يحدث عن مجاهد، قال: حدثني مولى لنا أنه سمع عديا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره. وفيه: "فلا ينكروه".
(2)
أخرجه ابن ماجه في: 36 - كتاب الفتن: 21 - باب قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 2/ 1332 ح 4017 من طريق على بن محمد، عن محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن نهار العبدي، عن أبي سعيد الخدري فذكره.
وذكر البوصيري في مصباح الزجاجة 2/ 300 أن إسناده صحيح.
وأخرجه أحمد في المسند 3/ 29 (الحلبي) من طريق أبي سلمة، عن سليمان بن بلال، عن عبد الله بن عبد الرحمن - به - بمثله إلا أن فيه:"ما منعك إذ رأيت المنكر تنكره؟ ".
(3)
أخرجه الترمذي في: 34 - كتاب الفتن: 26 - باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة 4/ 483 - 484 ح 2191 ضمن حديث الخطبة بسياقه مطولا من حديث عمران بن موسى القزاز البصري، عن حماد بن زيد، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد وعقب الترمذي بقوله: وفي الباب عن حذيفة، وأبي مريم، وأبي زيد بن أخطب، والمغيرة بن شعبة، وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وهذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجه في: 36 - كتاب الفتن: 20 - باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/ 1628 ح 4007 من طريق عمران بن موسى - به - مقتصرًا على الجزء الذي أورده ابن رجب.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 50 (الحلبي) من طريق محمد بن الحسن عن جمفر، عن المعلي الفردوسي، عن الحسن، عن أبي سعيد.
عليه وآله وسلم قال: "لا يحقرْ أحَدُكُمْ نَفْسَهُ، قالوا: يا رسول الله! كيفَ يَحْقِرُ أحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قال: يرَى أمرًا للهِ عليه فيه مَقَالٌ ثُمَّ لا يقولُ فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما مَنَعَكَ أن تقولَ في كذا وكذا؟ فيقولُ خَشْيَةُ الناس، فيقول الله: فَإياي كنت أحقَّ أن تخشى
(1)
.
فهَذان الحديثان محمولان على أن يكون المانِع له من الإنكار مجردَ الهيْبةِ دونَ الخوفِ المسقِطِ للإنكار.
قال سعيد بن جُبَيْر: قُلتُ لابن عباس: آمرُ السلطانَ بالمعروف، وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خفتَ أن يقتلكَ فَلا، ثم عدتُ فقال لي مثْلَ ذلك، ثم عدتُ فقال لي مِثلَ ذلك، وقال: إن كنتَ لابدَّ فاعلا ففيما بينَكَ وبينَه".
• وقال طاووس: أتى رجل ابنَ عباس فقال: ألا أقومُ إلى هذا السلطان فآمَره وأنهاه؟ قال لا تكن له فتنة.
قال: أفرأيت إن أمرنى بمعصية الله؟ قال: ذلك الذي تريدُ؛ فكنْ حينئذ رجلا.
• وقد ذكرنا حديث ابن مسعود الذي فيه. "يخلف من بعدهم خُلُوفٌ، فَمنْ جاهدهم بيده فهو مؤمن .... " الحديث.
وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد.
وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبى داود وقال: هو خلاف الأحاديث التي أمر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على جور الأئمة.
وقد يجاب عن ذلك بأن التغييرَ باليد لا يستلزم القتال.
• وقد نص على ذلك أحمد أيضًا في رواية صالح فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح.
وحينئذٍ: فَجِهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات، مثل أن يُريقَ خمورهم، أو يكسر آلات الملاهي التي لهم ونحو ذلك، أو يبطلَ بيده ما أمَروا به من الظلم إن كانَ له قُدْرَةٌ على ذلك.
(1)
أخرجه ابن ماجه في الموضع السابق عقب الحديث المذكور ح 4008 من طريق أبي كريب، عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد فذكره.
وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة 2/ 298 وقال: إسناده صحيح وأبو البختري، اسمه: سعيد بن فيروز وفي ا، ب:"فيقول: إياي" وفي السنن: "فيقول: فإياي".
وكل هذا جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي وَرَد النهيُ عنه، فإنّ هذا أكثر ما يخشى منه أن يُقْتَلَ الآمِرُ وحده.
• وأما الخروج عليهم بالسيف؛ فيُخْشَى منْهُ الفتن التي تؤَدِّي إلى سَفْكِ دماء المسلمين.
• نعم! إن خَشِيَ في الإقدِامِ على الإنكار على الملوك أن يؤذَى أهلُه أو جيرانُه لم ينبغ له التعرضُ لهم حينئذ لا فيه من تَعدِّي الأذى إلى غيره.
• كذلك قال الفضيل بن عياض، وغيره.
ومع هذا فمتى خاف منهم على نفسه السيفَ أو السوط أو الحبسَ أو القيدَ أو النَّفْي أو أخذَ المال أو نحوَ ذلك من الأذى سقط أمرهم ونهيهُم.
* * *
وقد نص الأئمة على ذلك منهم مالك وأحمد وإسحق وغيرهم
(1)
.
قال أحمد: لا تتعرَّض إلى السلطان فإِن سيفَهُ مَسْلُولٌ
(2)
.
• وقال ابن شُبْرُمَة: "الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر، كالجهاد يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين، ويحرم عليه الفرار منهما، ولا يجب عليه مصابرة أكثَرَ من ذلك؛ فإن خَافَ السبَّ أو سماعَ الكلام السئ، لم يسقط عنه الإنكارُ بذلك.
نص عليه الإمامُ أحمد.
وإن احتمل الأذى، وقَوِي عليه؛ فهو أفضل.
نصّ عليه أحمد أيضًا.
وقيل له: أليس قد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه"
(3)
أي يعرضها من البلاء لما لا طاقة له به؛ قال: ليس هذا من ذلك.
(1)
راجع الأمر والنهي للخلال ص 24 - 26، 29.
(2)
الأمر والنهي للخلال ص 30.
(3)
أخرجه الخوارزمي في جامع مسانيد أبي حنيفة 1/ 125 وقد رواه أبو حنيفة عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ مقارب وابن ماجه في السنن: 36 - كتاب الفتن: 21 - باب قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 2/ 1331 - 1332 ح 4016 من رواية محمد بن بشار، عن عمرو بن عاصم، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن جندب، عن حذيفة، فذكره بنحوه، وأبو نعيم في الحلية 8/ 106، معلقًا مختصرًا وأبو الشيخ في الأمثال (151) من حديث حذيفة و (152) من حديث ابن عمر - الأول بإسناد ضعيف، والثاني بإسناد رجاله ثقات وانظر باقي تخريجه بهوامش الحديثين في الأمثال وفي بعض النسخ:"ليس هذا من ذاك" وأورده الخلال بسياقه عن أحمد في الأمر والنهي ص 33 وعنده: "ليس هذا من ذاك".
• ويدل على ما قاله ما خرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر
(1)
.
• وخرج ابن ماجه معناه من حديث أبي أمامة
(2)
.
وفي مسند البزار بإسناد فيه جهالة، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله! أي الشهداء أكرم على الله؟ قال: "رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف، ونهاه عن منكر؛ فقتله
(3)
".
(1)
أخرجه أبو داود في السنن: 31 - كتاب الملاحم: 17 - باب الأمر والنهي 4/ 514 عن محمد بن عبادة الواسطي، عن يزيد بن هارون، عن إسرائيل، عن محمد بن جحادة، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" أو "أمير جائر".
وأخرجه الترمذي في 34 - كتاب الفتن: 13 - باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر 4/ 471 ح 2174 عن القاسم بن دينار الكوفي، عن عبد الرحمن بن مصعب، عن إسرائيل - به - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر وعقب عليه بقوله: وفي الباب عن أبي أمامة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وأخرجه ابن ماجه في السنن: 36 - كتاب الفتن: 20 - باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/ 329/ ح 4011 عن القاسم بن زكريا، عن عبد الرحمن بن مصعب عن محمد بن عبادة، عن يزيد بن هارون كلاهما عن إسرائيل - به - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" فاللفظ الذي أورده ابن رجب: لفظ ابن ماجه، وأبي داود بالشك من الراوي.
(2)
أخرجه ابن ماجه في سننه عقب الحديث السابق ح 4012 وهو الحديث الذي أشار إليه الترمذي، وقد أخرجه ابن ماجه: عن راشد بن سعيد الرملي، عن الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل عند الجمرة الأولى، فقال: يا رسول الله! أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه فلما رأى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة، وضع رجله في الغرز ليركب، قال:"أين السائل؟ " قال: أنا يا رسول الله! قال: "كلمة حق عند ذي سلطان جائر".
وقد أورده البوصيري في مصباح الزجاجة 2/ 299 وعقب عليه بقوله: هذا إسناد فيه مقال؛ أبو غالب مختلف فيه، ضعفه ابن سعد وأبو حاتم والنسائي ووثقه الدارقطني، وقال أبو عدي: لا بأس به.
وراشد بن سعيد قال فيه أبو حاتم: صدوق وباقي رجال الإسناد ثقات، رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة أيضًا ورواه البيهقي في الكبرى طريق المعلي بن زياد عن أبي غالب، فذكره.
وسبقه إلى ذلك ابن أبي عمر في مسنده؛ فرواه عن وكيع، عن حماد بن سلمة - به - وتبعه عليه أحمد بن منيع في مسنده، فقال: ثنا شريح بن النعمان وأبو نصر قالا: ثنا حماد بن سلمة، فذكره، وله شاهد من حديث أبي سعيد رواه أصحاب السنن الأربعة. ا هـ فهو حسن لغيره.
(3)
أخرجه البزار في مسنده (4) 109 - 110 من الكشف ح 3314 عن محمد بن الحرب البغدادي، عن عبد الوهاب بن نجده، عن محمد بن حمير، عن أبي الحسن، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله! أي الشهداء أكرم على الله؟ قال: رجل قام إلى أمير جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله، قيل: فأي الناس أشد عذابًا؟ قال: رجل قتل نبيًّا، أو قتل رجلًا أمره =
• وقد روي معناه من وجوه أخرى كلها فيها ضعف.
• وأما حديث: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه" فإنما يدل علَى أنه إذا عَلم أنه لا يُطيقُ الأذَى ولا يَصْبِرُ عليه، فإنه لا يتعرَّض حينئذ للأمر.
وهذا حق.
وإنما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر كذلك.
قاله الأئمة، كسفيان وأحمد والفضيل بن عياض، وغيرهم.
• وقد روي عن أحمد، ما يدل على الاكتفاء بالإنكار بالقلب.
قال في رواية أبي داود: نحن نرجو إن أنكرَ بقلبه؛ فقد سَلِمَ، وإن أنكره بيده؛ فهو أفضل
(1)
.
وهذا محمول على أنه يَخَافُ كما صَرَّح بذلك في رواية غير واحد.
• وقد حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنْكَارِ المنكرِ على من يَعلم أنه لا يُقْبل منه.
وصَحَّحَ القول بوجوبه.
وهو قول أكثر العلماء.
• وقد قيل لبعض السلف في هذا؟ فقال: يكون لك معذرة.
وهذا كما أخبر الله تعالى عن الذين أنكروا على المعتدين في السَّبْتِ أنهم قالوا: لِمَنْ قال لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
(2)
.
وقد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به: ففي
= بمعروف ونهاه عن منكر، ثم قرأ {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ثم قال: يا أبا عبيدة! قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا، في ساعة واحدة، فقام مائة رجلٍ واثنا عشر رجلًا من عُبَّادِ بني إسرائيل، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعًا". قال البزار: لا نعلم أحدا سمى أبو الحسن شيخ محمد بن حمير.
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 272 عن البزار في هذا الموضع وقال: فيه ممن لم أعرفه اثنان.
(1)
مسائل الإمام أحمد: باب الأمر والنهي ص 278 وفيه: "إن أنكره
…
". والأمر والنهي للخلال ص 32.
(2)
سورة الأعراف: 164 وقد جاء قوله تعالى: (معذرة) مضبوطا بالضم والتنوين في ا، ظ الضم والفتح قراءتان سبعيتان وانظر تفسير القرطبي 7/ 337 والطبري 13/ 485 والمحرر الوجيز 7/ 189، وحجة القراءات ص 300.
سنن أبي داود
(1)
وابن ماجه
(2)
والترمذي
(3)
عن أبي ثعلبة الخشنى أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}
(4)
؟ فقال: سألت عنها خبيرًا ..
أما والله! لقد سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "بل ائتَمِروا بالمعروفِ وانْهَوْا عن المنكر حتى إذا رأيتَ شُحًّا مُطَاعًا، وهَوًى مُتَّبعًا ودُنْيَا مُؤْثَرَةً، وإعجابَ كُلِّ ذي رَأىٍ برأيه؛ فعليكَ بنفسك وَدَعْ عَنْكَ أمرَ العوامّ".
• وفي سنن أبي داود، عن عبد الله بن عمرو
(5)
قال: فبينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ ذكَر الفتنةَ فقال: إذا رَأَيتُمُ النَّاس مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وخَفّتْ أمانَاتهُمْ وكانوا هكذا وشَبَّكَ بن أَصَابِعِه، فقمتُ إليه فقلت له: كيفَ أفعلُ عند ذلك؟ جعلني الله فداك؟ قال: الْزَمْ بيتَك، وامْلِكْ عليكَ لسانَكَ، وخذ بما تعرِفُ، ودَعْ ما تُنْكِرُ، وعليك بأمر خاصّة نفسِكَ، ودَعْ عنكَ أمرَ العامة
(6)
.
• وكذلك روى عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ
(1)
أخرجه أبو داود في السنن: 31 - كتاب الملاحم:17 - باب الأمر والنهي 4/ 512 عن أبي الربيع سليمان بن داود العتكي، عن ابن المبارك، عن عتبة بن أبي حكيم، عن عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية؟ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ؟ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا فذكره، وفيه وتناهوا
…
فعليك - يعني بنفسك -
…
وزاد في آخره: فإن من ورائكم أيام [الصبر] الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله، وزادني غيره، قال: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: "أجْرُ خمسين منكم".
(2)
أخرجه ابن ماجه في السنن: 36 - كتاب الفتن: 20 - باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/ 1330 - 1331 ح 4014 عن هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، عن عتبة بن أبي حكيم - به - بنحوه مختصرًا وفيه: ورأيت أمرا لا يدان لك به فعليك خويصة نفسك؛ فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر
…
الحديث.
وقوله: فقال: سألت عنها خبيرًا ليس في ا، ولا في ب وهو في السنن إلا ابن ماجه.
(3)
وأخرجه الترمذي في: 48 - كتاب التفسير: 6 - باب ومن سورة المائدة (5/ 257) ح 3058 من رواية سعيد بن يعقوب الطالقاني، عن عبد الله بن المبارك - به - بنحوه وفيه:"فإن من ورائكم أياما: الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم".
قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين منكم" وعقب بقوله: هذا حديث حسن غريب.
(4)
[الآية: 105 سورة المائدة].
(5)
م: "عبد الله بن عمر" وهو تحريف فالحديث في أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو.
(6)
أخرجه أبو داود في السنن: 31 - كتاب الملاحم: 17 - باب الأمر والنهي 4/ 513 - 514 ح 4343 عن هارون بن عبد الله، عن الفضل بن دكين، عن يونس بن أبي إسحاق، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص فذكره بمثله، ورواه ابن حبان في صحيحه 13/ 281 - 282 بإسناد صحيح.
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}
(1)
قالوا: لم يأت تأويلها بعد؛ إنما تأويلها في آخر الزمان.
وعن ابن مسعود قال: إذا اختلفت القلوبُ والأهواءُ، وأُلْبِسْتُم شِيَعًا، وذاق بعضكم بأسَ بعض؛ فيأمر الإنسان حينئذ نفسه، فهو
(2)
حينئذ تأويل هذه الآية.
• وعن ابن عمر قَال: هذه الآية لأقوام يجيئون مِنْ بَعْدِنَا إن قالوا لم يُقْبَلْ منهما.
• وقال جُبَيْرُ بن نُفَيْر: عن جماعة من الصحابة قالوا: إذا رأيتَ شحًّا مُطاعًا وهوًى متّبعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليكَ حينئذ بنفسك لا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلّ إذا اهْتَدَيْتَ.
• وعن مكحول قال: "لم يأت تأويلها بَعْدُ إذا هابَ الواعظُ، وأنكر الموعوظ، فعليك حينئذ بنفسك لا يضركَ مَنْ ضَلّ إذا اهتديتَ.
• وعن الحسن أنه كان إذا تلا هذه الآية قال: يا لها من ثقة ما أَوْلقَهَا! ومنْ سَعَةٍ ما أوسعها!.
وهذا كله قد يحمل على أن مَنْ عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضرر سقط عنه.
وكلام ابن عمر يدل على أن مَنْ كَلِمَ أنه لا يُقْبَلُ منه لما يَجب عليه، كما حكى رواية عن أحمد.
وكذا قال الأوزاعي: مُرْ
(3)
مَنْ تَرى أن يقبل منكَ.
• وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الذي ينكر بقلبه: (وذلك أضعف الإيمان).
يدل على أن الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر من خصال الإيمان، ويدلّ على أن مَنْ قدَر على خَصلة من خصال الإيمان وفَعلَها كان أفضلَ ممن تركها عجزًا عنها
(4)
.
• ويدل على ذلك أيضًا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حق النساء: "أمَّا نقصانُ دينها فإنها تمكثُ الأيامَ واللياليَ لا تُصلِّي"
(5)
يشير إلى أيام الحيض، مع أنها ممنوعة من الصلاة حينئذ، وقد جعل ذلك نقصًا في دينها؛ فَدَلَّ على أن مَن قدر على واجب
(1)
سورة المائدة: 105.
(2)
ليست في ا والأثر أورده ابن كثير في التفسير بسياقه تامًّا عن ابن جرير 2/ 557 من المختصر.
(3)
م: "أمر".
(4)
سقطت من م.
(5)
راجع في هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه: 6 - كتاب الحيض: 6 - باب ترك الحائض الصوم 1/ 405 ح 304 من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى - أو في فطر - إلى المصلى، فمر على النساء فقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني أريتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما =
وفعله فهو أفضل ممن عجز عنه وتركه، وإن كان معذورا في تركه والله أعلم.
* * *
• وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من رأى منكم منكرًا".
يدل على أن الإنكار يتعلق
(1)
بالرؤية، فلو كان مستورًا فلم يره، ولكن عَلِم به؛ فالمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات أنه لا يعرض
(2)
له، وأنه لا يفتش على ما
(3)
اسْتَراب به.
• وعنه رواية أخرى أنه يكشف
(4)
المغطا إذا تحققه.
[ماذا لو سمع صوت غناء محرم؟]:
ولو سمع صوتَ غِنَاء مُحَرَّم، أو آلاتِ الملاهي، وعلم المكانَ التي هي فيه
(5)
فإنه يُنْكِرُها: لأنه قد تحقّق المنكر، وعلم موضعَه فهو كما رآه.
[تَسَوُّر الجدران]:
نص عليه أحمد وقال: إذا لم
(6)
يعلم مكانَهُ فلا شيء عليه وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر؛ فقد أنكره الأئمةُ مثلُ سفيان الثوري وغيره، وهو داخل في التجسس المنهى عنه.
• وقد قيل لابن مسعود: إنّ فلانا تقطُر لحيته خَمْرًا؟ فقال: نهانا الله عن التجسس
(7)
.
[متى يجوز التجسس؟]:
• وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "الأحكام السلطانية": إن كان في المنكر الذي
= رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى قال: فذلك نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى! قال: فذلك من نقصان دينها".
وأطرافه في: 1462، 1951، 2658 وراجع ما أخرجه مسلم في صحيحه: 1 - كتاب الإيمان: 34 - باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق 1/ 86 - 87 ح 32 في - (79)، (80) من أحاديث عبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة بنحوه.
(1)
ب: "متعلق".
(2)
م: "يتعرض".
(3)
م: "مما".
(4)
ا، ب:" يكسر".
(5)
م: "فيها".
(6)
م: " أما إذا لم يعلم".
(7)
أخرجه أبو داود في السنن 2/ 689 ح 4890 ورواه عبد الرزاق في المصنف 10/ 232 عن ابن عيينة، عن الأعمش، عن زيد بن وهب قال: قيل لابن مسعود: هلك الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا؟ قال قد نهينا عن التجسس، فإن يظهر لنا نقم عليه. ومن طريق يعلى بن عبيد، عن الأعمش به - أخرجه البيهقي في السنن 8/ 334 ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبراني في الكبير 9/ 350 ح 9741.
غلب على ظنه الاستسرارُ به بإخبار ثقة عنه انتهاك حرمةٍ يفوت استدراكها، كالزنا، والقتل جاز التجسس والإقدام على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم.
وإن كان دون ذلك في الرتبة؛ لم يجز التجسسُ عليه، ولا الكشفُ عنه.
[حدود المنكر الذي يجب إنكاره]:
والمنكر الذي يجب إنكارهُ ما كان مُجْمَعًا عليه.
• فأما المختلف فيه؛ فمن أصحابنا من قال: لا يجبُ إنكارهُ على من فعله مجتهدًا فيه أو مُقلّدًا لمجتهد تقليدا سَائغًا.
واستثنى القاضي في الأحكام السلطانية ما ضَعُفَ فيه الخلافُ وكان ذريعةً إلى محظور متَّفَقٍ عليه؛ كربا النقد: الخلاف فيه ضعيف؛ وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه.
وكنكاح المتعة؛ فإنه ذريعة إلى الزنا.
• وذُكر عن أبي إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صُرَاحًا، وعن ابن بطة أنه قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إذا كان تأول فيه تأويلا؛ إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة أو طلق ثلاثة في لفظ واحد وحكم بالمراجعة من غير زوج فحكمه مردود، وعلى فاعله العقوبةُ والنَّكَالُ.
• والمنصوص عن أحمد: الإنكارُ على اللاعب بالشطرنج.
وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد، أو تقليد سائغ.
وفيه نظر؛ فإن المنصوص عنه، أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغُ مراتبِ الإنكار مع أنه لا يفسق بذلك عنده؛ فدلَّ على أنه ينكر كلّ مختلف فيه ضَعُف الخلاف فيه؛ لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأوّل، من العدالة بذلك والله أعلم.
• وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاتَه، ولا يقيمُ صُلْبَهُ من الركوع والسجود مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك.
[الدوافع إلى الأمر والنهي]:
• واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يحمل عليه رجاء ثوابه.
وتارة: خوفُ العقاب في تركه.
وتاره: الغضبُ لله على انتهاك محارمه.
وتارة: النصيحة للمؤمنين، والرحمة لهم، ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهما فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة.
وتارة: يحمل عليه: إجلال الله وإعظامه ومحبته وأنه أهل أن يطاع فلا يُعْصَى ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وأنه يفتدى من انتهاك محارِمه بالنفوس والأموال.
• كما قال بعض السلف: وددت أن الخلق كلّهم أطاعوا الله، وأن لحمي قُرِضَ بالمقاريضَ
(1)
.
وكان عبد الملك بنُ عمرَ بن عبد العزيز رحمهما الله يقول لأبيه: وددت أنى غلت بي وبك القُدورُ في الله تعالى.
[كيف يهون الأذى على الآمر والناهي؟]:
ومن لحظ هذا المقام والذي قبله هان عليه كلُّ ما يلقى من الأذى في الله تعالى، وربما دعا لمن آذاه كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا ضَرَبَهُ قومُه فجعل يمسحُ الدَّمَ عن وجهه ويقول "رب اغفر لقومى؛ فإنهم لا يعلمون"
(2)
.
(1)
أورده أبو نعيم في الحلية 10/ 147 - 150 في أواخر ترجمة أبي عبد الرحمن: زهير بن نعيم البابي من قوله.
(2)
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3/ 215 تعليقًا بصيغة الجزم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأورده ابن حجر في الفتح 7/ 372 - 373 عن ابن عائذ من طريق الأوزاعي: بلغنا أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أخذ شيئًا فجعل ينشف به دمه وقال: لو وقع منه شيء على الأرض لنزل عليكم العذاب من السماء، ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
ثم أورده في الموضع نفسه عن الطبراني من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد وفيه سبب مجيء فاطمة الزهراء إلى أحد ولفظه "لما كان يوم أحد وانصرف المشركون خرج النساء إلى الصحابة يعينونهم، فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئًا من حصير فأحرقته بالنار، وكمدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم".
وله من طريق، زهير بن محمد عن أبي حازم:"فأُحرقت حصيرًا حتى صارت رمادًا، فأخذت من ذلك الرماد، فوضعته فيه حتى رقأ الدم" وقال في آخر الحديث: ثم قال يومئذ: "اشتد غضب الله على قوم دمّوا وجه رسوله" ثم مكث ساعة، ثم قال:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
وأصل الحديث في صحيح البخاري: 64 - كتاب المغازي: 24 - باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد 7/ 372 ح 4075 من حديث أبي حازم، عن سهل وله شاهد من حديث أبي هريرة رقم 4073، ومن حديث ابن عباس رقم 4074 في الموضع نفسه ومن حديث ابن مسعود 3477، 6929.
وحديث سهل بن سعد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 117 مختصرًا على اللفظ الذي أورده ابن رجب وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. =
[تعين الرفق في الإنكار]:
وبكل حال فيتعين
(1)
الرفق في الإنكار.
• قال سفيان الثوري: لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ إلا من كان فيه ثلاث خصال.
رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى.
عدل بما يأمر، عدل بما ينهى.
عالم بما يأمر، عالم بما ينهى
(2)
.
• وقال أحمد: "الناس محتاجون إلى مُدارَاةٍ ورفق".
الأمرُ بالمعروف بلا غلظة؛ إلا رجل معلنٌ بالفسق؛ فلا حُرْمَةَ له.
قال: وكان أصحابُ ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون مهلا رحمكم الله مهلا رحمكم الله
(3)
.
• وقال أحمد: يأمر بالرفق والخضوع؛ فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب، فيكون يريد أن ينتصر لنفسه
(4)
والله أعلم.
* * *
= وقد أخرجه الآجري في الشريعة ص 460 من طريق أبي محمد بن صاعد، عن هارون بن موسى القروي، عن محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" يعنى يوم أحد.
والقرطبي في تفسيره 4/ 199 - 200 و 8/ 273 و 14/ 156 والقاضي عياض في الشفا 1/ 221 - 222.
(1)
م: "فتبين".
(2)
أخرجه أبو بكر الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 45 ح 32.
(3)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال ص 35 ح 34.
(4)
هذا جواب من أبي عبد الله لمن سأله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كيف ينبني أن يأمر؟ قال: يأمر بالرفق والخضوع ثم قال: إن أسمعوه ما يكره إلخ هكذا أورده الخلال في المرجع السابق ص 39 ح 46 وانظر أيضًا ص 40 ح 48 وفي ا: "يريد ينتصر".
الحديث الخامس والثلاثون
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"لا تَحاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، ولا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا؛ المسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَكْذِبُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ - بحَسْبِ امْرِيءٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمالُهُ وَعِرْضُهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* * *
[تخريج الحديث]:
هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي سعيد: مولى عبد الله بن عامر بن كُرَيْزٍ عن أبي هريرة
(1)
.
• وأبو سعيد هذا لا يعرف اسمه.
• وقد روى عنه غَيْرُ واحد، وذكره ابن حبان في ثقاته، وقال ابن المديني: هو مجهول.
• وروى هذا الحديث سفيان الثوري فقال فيه: عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة ووهم في قوله سعيد بن يسار؛ إنما هو سعيد مولى ابن كُرَيْزٍ قاله أحمد، ويحيى، والدارقطني، وقد رُوي بعضه من وَجْهٍ آخر.
وخرجه الترمذي من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم أخو المسلم؛ لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، عرضه، وماله، ودمه، التقوى هاهنا،
(1)
في صحيحه: 45 - كتاب البر والصلة والآداب: 10 - باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه 4/ 1986 ح 32 - (2564) من رواية عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن داود بن قيس، عن أبي سعيد - به - وليس فيه:"ولا يكذبه".
وإسناده صحيح وراجع تصحيحه وباقي تخريجه في صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم 6581، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 928 والتيسير 2/ 446 وقد ذكر المناوي أن من هجر أخاه في الدين سنة بلا عذر فهو كسفك دمه؛ لأن المهجور كالميت في عدم الانتفاع به والمراد اشتراك الهاجر والقاتل في الإثم لا في قدره فهجر المسلم فوق ثلاث حرام إلا لمصلحة.
بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"
(1)
.
وخرج أبو داود من قوله كل المسلم إلى آخره
(2)
.
• وخرجاه
(3)
في الصحيحين من رواية الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا تحاسَدُوا ولا تَنَاجَشُوا ولا تَبَاغَضُوا ولا تَدَابَرُوا وكونوا عبادَ الله إخوانًا"
(4)
.
• وخرجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه: 28 - كتاب البر والصلة: 18 - باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم 4/ 325 من رواية عبيد بن أسباط بن محمد القرشي، عن أبيه عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
…
فذكره.
وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب.
وفي الباب عن علي وأبي أيوب.
والحديث باللفظ الذي أورده ابن رجب إلا قوله أن يحقر فهو في الترمذي: الهندية والمصرية "أن يحتقر".
(2)
أخرجه أبو داود في السنن: 35 - كتاب الأدب: 40 - باب الغيبة 5/ 195 - 196 من رواية واصل بن عبد الأعلى عن أسباط بن محمد - به.
(3)
م: "وخرجه"، د، ا:"وخرجا".
(4)
رواية الأعرج عن أبي هريرة لهذا الحديث أخرجها البخاري في الصحيح: 67 - كتاب النكاح: 45 - باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع 9/ 198 ح 5143 من رواية يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال، قال أبو هريرة! يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا".
وفي: 78 - كتاب الأدب: 58 - باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} 10/ 484 ح 6066 من رواية عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله! إخونا".
وأخرجه مسلم في صحيحه: 45 - كتاب البر والصلة والآداب: 9 - باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها 4/ 1985 رواية عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله! إخوانا".
وهكذا لا نجد اللفظ الذي عزاه ابن رجب إلى الصحيحين من رواية الأعرج عن أبي هريرة في أي موضع من الصحيحين فكيف قال ذلك؟.
(5)
راجع في هذه الوجوه صحيح البخاري: 78 - كتاب الأدب: 57 - باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} 10/ 481 ح 4064 رواية عن بشر بن محمد، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر بن راشد، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة بنحوه.
وفي: 85 - كتاب الفرائض: 2 - باب تعليم الفرائض 12/ 4 ح 6724 رواية عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة - بنحوه. =
• وخرج الإمام أحمد من حديث واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"كلّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وعرْضُهُ ومَالُهُ، المسْلِمُ أَخُو المسْلِم لا يظلمه ولا يَخْذُله، والتَّقْوَى ها هنا - وأومأ بيده إلى القلب - وَحَسْبُ أمرئٍ من الشر أن يحقِرَ أخاه المسْلِمَ"
(1)
.
• وخرج أبو داود آخره فقط
(2)
.
• وفي الصحيحين من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"المسلم أخو المُسْلِم لا يظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُه"
(3)
.
• وخرجه الإمام أحمد ولفظه: "المسْلِمُ أخو المسْلِم، لا يظلِمُه ولا يخذلُه ولا يحقرُه وحسب امرئ من الشر أن يحقرَ أخاه المسلم
(4)
.
= وراجع ما أخرجه مسلم عقب رواته السابقة من رواية العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تهجّروا، ولا تدابروا، ولا تحسسوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض الحديث.
ومن رواية جرير، عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة بنحوه.
ومن رواية شعبة، عن الأعمش، بهذا الإسناد:"لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا إخوانا كما أمركم الله".
ومن رواية سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه 4/ 1985 - 1986 ح 29 - (
…
) و 30 - (
…
) و (
…
) و 31 - (
…
).
(1)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 491 (الحلبي) من رواية الحكم بن نافع، عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن زيد، عن عبد الوهاب المكي، عن عبد الواحد بن عبد الله النضري، عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم على المسلم حرام
…
الحديث بنص ما أورده ابن رجب ما عدا بداية الحديث.
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 172 عن واثلة بن الأسقع - لهذه البداية - وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.
(2)
رواه أبو داود في السنن: 35 - كتاب الأدب: 46 - باب المؤاخاة (5/ 202 ح 4893) من رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه فإن الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة". ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة".
(3)
حديث ابن عمر في هذا أخرجه البخاري في 46 - كتاب المظالم: 3 - باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلبه 5/ 97 ح 2442 من رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره بمثل ما سقنا عن أبي داود وفيه: "ومن كان في حاجة أخيه".
وأخرج شطره الأول في: 89 - كتاب الإكراه: 7 - باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه إلخ 12/ 323 ح 6951 من رواية سالم بن عبد الله بن عمر كذلك.
وأخرجه مسلم في: 45 - كتاب البر والصلة والآداب: 15 - باب تحريم الظلم 4/ 1996 من رواية سالم أيضًا وبمثل ما عند أبي داود.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 277، 360 الحلبي من حديث أبي هريرة، وأخرجه مختصرًا من حديث ابن عمر بإسناد صحيح 7/ 191 - 192 (المعارف) كما ذكر المحقق العلامة الشيخ أحمد شاكر وفي 3/ 491 (الحلبي) =
• وفي الصحيحين عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا تباغضُوا ولا تحاسَدُوا ولا تدابَرُوا وكونوا عبادَ الله إخوانا"
(1)
.
• ويروى معناه من حديث أبي بكرٍ الصديق مرفوعًا وموقوفًا"
(2)
.
* * *
[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا"]:
• فقوله صلى الله عليه وآله وسلم "لا تحاسَدُوا".
يعني لا يَحْسُدْ بعضُكم بعضًا، والحسد مَرْكوزٌ في طباع البشَر، وهو أن الإنسان يكرهُ أن يفوقَهُ أحدٌ من جنسه في شيء من الفضائل ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام.
[أقسام الناس في الحسد]:
• فمنهم مَنْ يسعى في زوال نعمة المحسُود بالبَغْي عليه بالقول والفعل.
• ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه.
• ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقلٍ إلى نفسه، وهو شرهما وأخبثهما.
[الحسد المذموم]:
وهذا هو الحسد المذموم المنْهِيُّ عنه.
وهو كان ذنْبَ إبليسَ؛ حيث كان حسدَ آدمَ عليه السلام لمَّا رآه قد فاق على
= من حديث واثلة كما تقدم، وفي 4/ 66، 69، 5/ 339، 381 (الحلبي) من حديث شيخ من بني سليط رضي الله عنه وفي المجمع 8/ 73 أن إسناده جيد.
(1)
أخرجه البخاري في: 78 - كتاب الأدب: 57 باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، وقوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} 10/ 481 ح 6065 من رواية شعيب عن الزهري، عن أنس بن مالك، فذكره بمثله وزاد:"ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".
وفي: 62 - باب الهجرة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث" 10/ 492 ح 6076 من رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أنس - بنحوه.
وأخرجه مسلم في: 45 - كتاب البر والصلة والآداب: 7 - باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر 4/ 1983 - 1984 ح 23 (2559) بمثل رواية الموضع الثاني من البخاري.
وأخرجه عقبة من وجوه أخرى عديدة عن أنس، زاد ابن عيينة في بعضها:"ولا تقاطعوا" وزاد شعبة في بعضها: "كما أمركم الله".
(2)
مسند أحمد 1/ 3 و 5 و 7 وسنن ابن ماجه 2/ 1265 ح 3849 وعمل اليوم والليلة للنسائي ص 502 ح 882.
الملائكة بأن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه في جواره؛ فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أُخْرِجَ منها.
• ويروى عن ابن عمر: أن إبليس قال لنوح: اثنتان بهما أُهِلكُ بني آدم: الحسَد، وبالحسد لُعِنْتُ وجُعلْتُ شيطانًا رجيمًا.
والحرص: - أبيح آدمَ الجنة كلَّها؛ فأصبت حاجتي منه بالحرص.
• خرجه ابن أبي الدنيا.
* * *
[اليهود والحسد]:
وقد وصف الله اليهود بالحسد في مواضعَ من كتابه: (القرآن) كقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}
(1)
- وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
(2)
.
[من آثار الحسد]:
وخرج الإمام أحمد
(3)
والترمذي
(4)
من حديث الزبير بن العوام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"دب إليكم داءُ الأمم قبلَكُم الحسَدُ والبَغْضَاءُ والبَغْضَاءُ هي الحالقةُ، حالقة الدين لا حَالِقَةُ الشَّعرِ، والذي نفس محمد بيده، لا تُؤْمِنُوا حتى تحابُّوا، أوَلا أنبِّئكُمْ بشِيءٍ إذَا فَعَلْتُموهُ تحابَبْتُم أفشُوا السَّلام بينكُم".
• وخرج أبو داود
(5)
من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(1)
سورة البقرة: 109.
(2)
سورة النساء: 54.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 6، 20، 21 (المعارف) ح 1412، 1430 - 1432 بأسانيد ضعيفه - للانقطاع والجهالة كما ذكر محققه العلامة الشيخ أحمد شاكر.
(4)
أخرجه الترمذى في: 38 - كتاب صفة القيامة: 56 - باب حدثنا أبو يحيى 4/ 664 من رواية يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، عن مولى الزبير، عن الزبير بن العَوَّام.
وهو أحد أسانيد أحمد في المسند وهو معلول بجهالة مولى الزبير.
وقد عقب الترمذي بقوله: هذا حديث قد اختلفوا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فروى بعضهم عن يحيى بن أبي كثير، عن يعيش بن الوليد، عن مولى الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن الزبير.
(5)
أخرجه أبو داود في السنن: 35 - كتاب الأدب: 52 - باب الحسد 5/ 208 - 209 ح 4903 رواية عن عثمان بن صالح، عن عبد الملك بن عمرو، عن سليمان بن بلال، عن إبراهيم بن أبي أبي أسيد، عن جده، عن أبي هريرة =
"إياكم والحسَدَ، فإنّ الحسدَ يأكُلُ الحسَنَاتِ كَما تأكلُ النَّارُ الحطَبَ أو قال العُشْبَ".
• وخرج الحاكم وغيره
(1)
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"سيصيب أمتي داءُ الأمم قالوا: يا نَبِيَّ الله! وما داءُ الأمم؟ قال: الأشرُ والبَطَرُ والتَّكَاثُرُ والتَّنَافُسُ في الدنيا والتباغُضُ والتَّحَاسُد حتَّى يكونَ البَغْيُ ثم الهرْجُ".
[أنواع أخرى من الحاسدين]:
وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغ على المحسود بقول ولا فِعل.
• وقد روي عن الحسن: أنه لا يأثم بذلك.
• وروي مرفوعًا من وجوه ضعيفة.
وهذا على نوعين:
• أحدهما: أن لا يمكنه إزالة ذلك الحسد عن نفسه؛ فيكون مغلوبًا على ذلك؛ فلا يأثم به.
• والثاني: من يُحَدِّثُ نفسَه بذلك اختيارًا، ويعيدُه ويُبْدِئُه في نفسه مُسْتَرْوِحًا إلى تمنِّي زوالِ نعمةِ أخيه.
فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية.
=
…
فذكره بالنص الذي أورده ابن رجب.
وقد عقب الخطابي في أعلام السنن بهامشه:
جد إبراهم بن أبي أسيد لم يسم، وذكر البخاري إبراهيم هذا في التاريخ الكبير، وذكر له هذا الحديث وقال: لا يصح.
لكن كيف لم ينبه ابن رجب على هذا؟
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 168 من رواية أبي العباس: محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبد الله، عن ابن وهب، عن أبي هاني: حميد بن هاني الخولاني، عن أبي سعيد الغفاري، عن أبي هريرة
…
فذكره، وفيه: فقالوا: يا رسول الله!
…
والتكاثر والتناجش في الدنيا
…
".
وليس فيه: ثم الهرج.
وقد عقب عليه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 308 عن الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، وفيه: والبطر والتدابر والتنافس والتباغض والبخل حتى يكون البغي ثم الهرج.
وقد قال الهيثمي: فيه أبو سعيد الغفاري لم يرو عنه غير حميد بن هانيء، وبقية رجاله وثقوا.
[في العقاب على ذلك خلاف]:
وفي العقاب على ذلك اختلاف بين العلماء وربما يُذكر في موضع آخر إن شاء الله تعالى لكن هذا يَبْعُدُ أن يَسْلَم من البَغْي على المحسود بالقول فيأثم بذلك.
[وقسم آخر]:
وقسم آخر؛ إذا حسد لما يتمن زوال نعمة
(1)
المحسود بل يسعي في اكتساب مثْل فضائِلِه، ويتمنى أن يكون مثلَه، فإن كانت الفَضائلُ دنيويةً فلا خيرَ في ذلك؛ كما قال الله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ}
(2)
.
وإن كانت فضائل دينية؛ فهو حسن.
[فضيلة الغبطة]:
وقد تمنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه الشهادة في سبيل الله عز وجل
(3)
.
• وفي الصحيحين
(4)
عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين:
(1)
سقط من م.
(2)
سورة القصص: 79.
(3)
كما في (بخ) ح 36، 2787، 2797، 2972، 3123، 7226 وغيرها.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه: 3 - كتاب العلم: 15 - باب الاغتباط في العلم والحكمة 1/ 165 ح 73 رواية عن الحميدي عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين: "رجل آتاه الله مالا فسُلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
وفي: 24 - كتاب الزكاة: 5 - باب إنفاق المال في حقه 3/ 276 ح 1409 عن محمد بن المثني، عن يحيى، عن إسماعيل - به - بنحوه.
وفي 93 - كتاب الأحكام: 3 - باب أجر من قضى بالحكمة 13/ 120 ح 7141 عن شهاب بن عباد، عن إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل - به - بنحوه.
وفي: 96 - كتاب الاعتصام: 13 - باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله تعالى لقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ومدح النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الحكمة حين يقضي بها ويعلمها، ولا يتكلف من قبله، ومشاورة الخلفاء وسؤالهم أهل العلم 13/ 298 ح 7316 عن شهاب بن عباد - به - بنحوه. وفيه: وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها.
وأخرجه مسلم في صحيحه: 6 - كتاب صلاة المسافرين: 47 - باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل لها وعلمها 1/ 558 - 559 ح 266 - (815) من رواية سفيان بن عينية، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار".
وح 267 - (
…
) من طريق يونس عن ابن شهاب - به - وفيه: رجل آتاه الله هذا الكتاب؛ فقام به آناء الليل وآناء النهار)
…
فتصدق به ..... "، وح 268 - (816) من وجوه عديدة عن ابن مسعود بنحو حديثه عن البخاري.
رجلٍ آتاه اللهُ مالًا؛ فهو يُنْفِقه آناءَ الليل وآناءَ النهار، ورجل آتاه الله القرآنَ، فهو يَقُوم به آناءَ الليل وآناءَ النهار".
وهذا هو الغبطة وسماه حسدًا من باب الاستعارة.
[وقسم أرقى]:
وقسم آخر إذا وجد
(1)
من نفسه الحساد سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء
(2)
الإحسان إليه، والدعاء له، ونشرِ فضائله، وفي إزالة ما وَجَدَ له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبّةِ أن يكون أخوه
(3)
المسلم خيرًا منه وأفضلَ.
وهذا من أعلى درجات الإيمان.
وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه
(4)
وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
(5)
.
[قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تناجشوا"]:
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تناجشوا" فسره كثيرون من العلماء بالنجش في البيع وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها إما لنفع البائع بزيادة الثمن له أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه.
* * *
• وفي الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه نهى عن النَّجْش
(6)
.
(1)
م: "في".
(2)
م: "بإبداء" وهو تحريف.
(3)
م: "يكون المسلم".
(4)
بعد هذا في المطبوعة: "وقوله صلى الله عليه وسلم".
(5)
في الحديث الثالث عشر.
(6)
راجع في هذا ما مضى أول الحديث في النهي عن التناجش ثم ما أخرجه البخاري في صحيحه: 34 - كتاب البيوع: 58 - باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سومه 5/ 353 ح 2140 من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا
…
الحديث.
و 640 - باب النهي للبائع أن لا يحفّل الإبل والبقر والنغم وكل محفلة، 4/ 361 ح 2150 من رواية أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة بنحوه.
و: 70 - باب لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة 4/ 372 ح 2160 من رواية الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة مختصرًا.
وفي: 54 - كتاب الشروط: 11 - باب الشروط في الطلاق 5/ 324 ح 2727 من رواية عدي بن ثابت، عن أبي =
• وقال ابن أبي أوفى: الناجِشُ آكلُ ربًا خائن.
ذكره البخاري
(1)
.
[آراء العلماء في هذه الصفقة أو في هذا النوع]:
• قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن فاعلَهُ عاصٍ لله تعالى إذا كانَ بالنهى عالمًا
(2)
.
واختلفوا في البيع:
• فمنهم من قال: إنه فاسد، وهو رواية عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه.
• ومنهم من قال: إن كان الناجش هو البائع أو من واطأه البائع على النَّجْش فَسد؛ لأنّ النهي هنا يعودُ إلى العاقد نفسه.
وإن لم يكن كذلك لم يفسد لأنه يعود إلى أجنبي.
• وكذا حكي عن الشافعي أنه علَّلَ صحة البيع بأن البائع غيرُ الناجش.
وأكثر الفقهاء على أن البيع صحيح مطلقًا.
وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، ومالكٍ رحمه الله، والشافعي رحمه الله، وأحمدَ رحمه الله في رواية عنه.
إلا أن مالكًا وأحمد أثبتا للمشتري الخيار - إذا لم يعلم بالحال، وغُبِنَ غَبْنًا فاحشًا يخرج عن العادة.
= حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلقي، وأن يبتاع المهاجر للأعرابي وأن تشترط المرأة طلاق أختها، وأن يستام الرجل على سوم أخيه، ونهى عن النجش وعن التصرية".
وهذا هو الموضع الذي اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديثه.
وقد أخرجه مسلم في الصحيح: 21 - كتاب البيوع: 4 - باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سومه، وتحريم النجش على تحريم التصرية 3/ 1154 ح 12 - (
…
) من رواية عدي بن ثابت - به - بنحوه.
وقد روى البخاري حديث النهي عن النجش من حديث ابن عمر كذلك أخرجه في 34 - كتاب البيوع: 60 - باب النجش ومن قال: لا يجوز ذلك البيع 4/ 355 ح 2142 من رواية عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش وفي: 90 - كتاب الحيل: 6 - باب ما يكره من التناجش 12/ 336 ح 6963 من رواية قتيبة بن سعيد، عن مالك - به - بمثله. وقد ذكر ابن حجر في هذا الموضع أن المراد بالكراهة في الترجمة كراهة التحريم.
(1)
في صحيحه: 34 - كتاب البيوع: 60 - باب النجش 4/ 355 وقد ذكره تعليقا في الترجمة عقب قوله: باب النجش ومن قال: لا يجوز ذلك ووصله في الشهادات: باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} .. الآية 5/ 286 وأشار الحافظ إلى ذلك في الفتح 4/ 356 وتغليق التعليق 3/ 244.
(2)
في التمهيد 13/ 348.
وقدَّرَهُ مالك وبعض أصحاب أحمد بثلث الثمن، فإن اختار المشتري حينئذ الفسخ فله ذلك.
وإن أراد الإمساكَ فإنه يحطُّ ما غُبِن به من الثمن.
ذكره أصحابنا.
* * *
[احتمال آخر لتفسير التناجش]:
ويحتمل أن يفسر التناجش المنهي عنه في هذا الحديث بما هو أعم من ذلك؛ فإن أصل النَّجْش في اللغة إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة ومنه سُمِّىَ الناجشُ في البيع ناجِشًا، ويسمى الصائد في اللغة ناجِشًا؛ لأنه يثير
(1)
الصيد بحيلته عليه، وخداعِه له، وحينئذ فيكون المعنى: لا تخادعوا، ولا يعامل
(2)
بعضكم بعضًا بالمكر والاحتيال.
وإنما يراد بالمكر والمخادعة إيصالُ الأذى إلى المسلم إما بطريق الأَصالة
(3)
وإما أجتلاب نفعه بذلك.
ويلزم منه وصولُ الضرر إليه، ودخولُه عليه وقد قال تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}
(4)
.
• وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار"
(5)
.
(1)
م: "يصيد".
(2)
م: "يختل".
(3)
م: "الاحتيال".
(4)
سورة فاطر: 43.
(5)
أخرجه ابن حبان في صحيحه: كتاب الحظر والإباحة: باب ذكر الزجر عن أن يمكر المرء أخاه المسلم أو يخادعه في أسبابه 7/ 434 روايته عن الفضل بن الحباب، عن عثمان بن الهيثم عن أبيه، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود
…
فذكره بنص ما أورد ابن رجب.
والطبراني في الكبير 10/ 138 ح 10234 من طريق الفضل بن الحباب - به - بمثله.
والقضاعي في مسند الشهاب 1/ 175 ح 253، 254 الأول روايته عن محمد بن عبيد الله بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد المؤمن، عن الفضل بن الحباب - به - بنحوه وفيه:"والخديعة".
والثاني عن محمد بن إبراهيم بن غالب، عن محمد بن عبد الله - به - بمثل الرواية الأولى وأبو نعيم في الحلية 4/ 188 - 189 عن محمد بن أحمد الجرجاني - في جماعة، عن الفضل بن الحباب - به - بمثله وعقب عليه بقوله: غريب من حديث عاصم، تفرد به عثمان، ولم نكتبه إلا من حديث الفضل بن الحباب.
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 78 - 79 عن الطبراني في الكبير والصغير وقال: رجاله ثقات وفي عاصم بن بهدلة كلام لسوء حفظه.=
• وقد ذكرنا فيما تقدم
(1)
حديث أبي بكر الصديق المرفوع: "ملْعُونٌ من ضَارَّ مُسْلِمًا أو مَكرَ به".
خرجه الترمذي.
* * *
[ما الذي يشمله مفهوم التناجش؟]:
فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهى عنه: جميعُ أنواع المعاملات بالغش ونحوه كتدليس العيوب وكتمانها، وغِشِّ المبيعِ الجيد بالرّدِيء، وغَبْنِ المسْتَرْسِل
(2)
= أقول: لكنه مختلف فيه؛ وثقه أحمد وأبو زرعة وابن حبان والعجلي وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب وهو ثقة، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: صالح، وهو أكثر حديثا من أبي قبيس الأودي وأشهر وأحب إليّ منه، وهو أقل اختلافا عندي من عبد الملك بن عمير.
وقد تكلم فيه ابن علية فقال: كأن كل من اسمه عاصم مستوى الحفظ وكذا قال العقيلي وقال النسائي: ليس به بأس.
وإذا راعينا هذا الاختلاف في شأن عاصم فلا يقل مستوى إسناد حديثه عن الحسن ولا يعلو فيكون صحيحًا.
فلا يرفض حديثه، وتحسن معه المتابعة ولعله - لهذا - أخرج له الشيخان مقرونا بغيره.
وإذا راعينا أنه خلّط بأخرة تبين لنا سبب رئيسي للقول في اضطراب حديثه، أو سوء حفظه، وربما كان هذا منشأ الاختلاف في أمره.
وأن من قبل روايته قبل ما لم يكن فيه تخليط ومن تكلم فيه تكلم لما حدث له بأخرة.
وقد قال العجلي عنه:
…
وهو أجل مقرئ بالكوفة، وقدم البصرة فأقرأهم
…
وأهل البصرة يقولون: ابن بهدلة وكان صاحب سنة وقراءة، وكان ثقة رأسًا في القرآن.
وكان ثقة في الحديث، ولا يختلف عنه في حديث ذر وأبي وائل.
راجع ترجمته في الثقات للعجلي ص 239 - 241 ت 736 ورجال صحيح مسلم لأبي بكر بن منجويه الأصبهاني 2/ 95 ت 1241، والتهذيب 5/ 38 - 40، والتقريب 1/ 387 وفيه يقول: صدوق، له أوهام حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون. مات سنة ثمان وعشرين ومائة.
والحديث أورده المنذري في الترغيب 2/ 572 وقال رواه الطبراني وأبو نعيم والقضاعي وأورد قول الهيثمي في عاصم ثم قال:
والمتقرر فيه عند أهل العلم بالحديث أنه حسن الحديث يحتج به لا سيما إذا وافق الثقات ثم اعتبر هذا أساس حكم المنذري في الترغيب بجودة إسناد الحديث ثم أشار إلى رواية أبي داود للحديث في مراسيله عن الحسن.
وأورده في السلسلة الصحيحة 1058 وأجمل القول عن عاصم محيلا إلى الروض والإرواء ثم قال: "والجملة الأولى لها أكثر من شاهد واحد مخرجة في الإرواء والجملة الأخرى لها شواهد أيضًا كما سبق آنفا، فالحديث بمجموعه صحيح والحمد لله على توفيقه".
أقول: أي صحيح لغيره وإذا راعينا إخراج ابن حبان له في الصحيح، فهو إذًا صحيح لذاته عند ابن حبات على شرطه ومنهجه ومن المعروف أنه في الصحة بعد الصحيحين.
(1)
ص 911 في شرح الحديث الثاني والثلاثين.
(2)
استرسل الشعر كان سَبْطًا والشئ: سهل، وإليه: انبسط واستأنس - وبه: وثق. (المعجم الوسيط 1/ 344).
الذي لا يَعْرِفْ الممَاكَسَة.
وقد وصف الله تعالى في كتابه الكفار والمنافقين بالمكر بالأنبياء وأتباعهم وما أحسن قول أبي العتاهية:
ليس دُنْيا إِلا بدينٍ وليس الد
…
ينُ إلا مكارِمَ الأخلاق
إنما المكرُ والخديعةُ في النا
…
رِ هما مِنْ خِصَال أَهل النِّفاقِ
وإنما يجوز المكر بمن يجوز إدخال الأذى عليه وهمُ الكفار والمحاربون؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الحربُ خدْعة"
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه: 56 - كتاب الجهاد: 157 - باب الحرب خدعة 6/ 157 - 158 ح 3028، 3029، 3030 من حديثي أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وباللفظ الذي ساق ابن رجب إلا أن حديث أبي هريرة فيه:"سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة".
ومن حديثهما أخرجه مسلم في: 32 - كتاب الجهاد والسير: 5 - باب جواز الخداع في الحرب 3/ 1361 - 1362 ح 17 - باب (1739)، 18 (1740).
ومن حديث جابر رضي الله عنه أخرجه ابن الجارود في المنتقى ص 387 ح 1051.
وأخرجه أحمد في المسند 1/ 90 (الحلبي)، 2/ 85 - 86 (المعارف) بإسنادين ضعيفين من حديث علي.
ومن حديث أبي هريرة في مواطن كثيرة منها 2/ 312، 314، ومن حديث أنس في 3/ 244، ومن حديث جابر في 3/ 297، 308.
ورواه أبو داود في السنن: 9 - كتاب الجهاد: 101 - باب المكر في الحرب 3/ 99 - 100 ح 2636، 2637 من حديثي جابر من طريق سعيد بن منصور عن سفيان، عن عمرو أنه سمع جابرًا
…
فذكره.
ورواه من حديث كعب بن مالك عن محمد بن عبيد، عن ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن كعب فذكره.
وقد عقب عليه أبو داود بقوله:
لم يجيء به إلا معمر يريد قوله: "الحرب خدعة" بهذا الإسناد، إنما يروى من حديث عمرو بن دينار، عن جابر ومن حديث معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة وقال الخطابي في أعلام السنن بهامشه:"وقوله": "والحرب خدعة" معناه إباحة الخداع في الحرب وإن كان محظورًا في غيرها من الأمور.
وهذا الحرف يروى على ثلاثة أوجه.
خَدْعة (بفتح الخاء وسكون الدال).
وخُدْعة (بضم الخاء وسكون الدال).
وخُدَعة (الخاء مضمومة والدال منصوبة).
وأصوبها خَدعة بفتح الخاء، أخبرني أبو رجاء الغنوي عن أبي العباس: أحمد بن يحيى قال: (خَدْعة) بفتح الخاء بلغنا أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الخطابي:
قلت: معنى الخدعة أنها هي مرة واحدة أي: إذا خدع القاتل مرة واحدة لم يكن له إقالة، ومن قال خُدْعة أراد الاسم كما يقال: هذه لعبة، ومن قال: خُدَعة بفتح الدال كان معناها أنها تخدع الرجال وتمنيهم ثم لا=
[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تباغضوا]:
قوله: صلى الله عليه وسلم: "ولا تباغضوا".
نهي للمسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى، بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة والإخوةُ يتحابّون بينهم ولا يتباغضون.
• وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تدْخلوا الجنةَ حتّى تُؤمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتى تَحابُّوا، أولا أدُلُّكُم على شَيءٍ إذا فعلتُمُوه تحاببتم أَفشُوا السلامَ بينَكُم" خرجه مسلم
(1)
.
وقد ذكرنا فيما تقدم أحاديثَ في النهي عن التباغُض والتحاسد.
* * *
[تحريم كل ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء]:
وقد حرم الله على المؤمنين ما يُوقِعُ بينهم العداوة والبغضاء كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
(2)
وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}
(3)
(4)
.
[تحريم النميمة]:
• ولهذا المعنى حُرِّم المشيُ بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوةِ والبغْضاءِ ورُخِّصَ في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغَّبَ الله في الإصلاح بينهم كما قال تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}
(5)
وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
= تفي لهم كما قال: رجل لعبة [بوزنة همزة] إذا كان كثير التلاعب بالأشياء.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه: 1 - كتاب الإيمان: 22 - باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن أفشاء السلام سبب لحصولها 1/ 74 إلا أن فيه: لا تدخلون الجنة
…
وذلك من حديث أبي هريرة.
(2)
سورة المائدة: 91.
(3)
سورة آل عمران: 103.
(4)
سورة الأنفال: 62 - 63.
(5)
سورة النساء: 114.
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
(1)
وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}
(2)
.
• وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ألا أخْبرُكُمْ بأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاةِ والصِّيَام والصَّدقة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "إصْلاحُ ذَاتِ البَيْن فإن فَسَادَ ذاتِ البَيْنِ هِي الحَالقةُ"
(3)
.
• وخرج الإمام أحمد وغيره من حديث أسماء بنت يزيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"ألا أنبئكم بشراركم؟ " قالو!: بلى، يا رسول الله! قال:"المشَّاؤون بالنَّمِيمَةِ، المفَرِّقونَ بَينْ الأحِبَّةِ، الباغُون للبُرَآءِ العَيَبَ"
(4)
.
[البغض في الله ليس منهيا عنه]:
وأمّا البُغضُ في الله؛ فهُوَ مِنْ أَوْثَق عُرَى الإيمان، وليس داخلًا في النهي، ولو ظهر لرجل مِنْ أخيه شر؛ فَأَبغَضهُ عَلَيه وكانَ الرَّجلُ معذُورًا فيه في نفس الأمر أثيبَ المبغِضُ له وإن عُذِرَ أخُوهُ كما قال عمر: "إنا كُنَّا نَعْرِفُكُم إِذْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا، وإذ ينزل الوحى، وإذ ينبئنا الله مِن أخباركم ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد انطُلِقَ به، وانقطع الوحى، وإنما نَعْرِفُكُم بما نُخبركم ألا مَنْ أظهَرَ منكم لنا خيْرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومَنْ أظهرَ منكم شرًّا ظننا به شرًّا وأبْغَضْنَاهُ عليه؛ سرائركم بينكم وبين ربكم تعالى
(5)
".
(1)
سورة الحجرات: 9.
(2)
سورة الأنفال: 1.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 6/ 444 - 645 (الحلبي) وأبو داود في السنن: 35 - كتاب الأدب: 58 - باب في إصلاح ذات البين 5/ 218 ح 4919 بنحوه وفيه: "وفساد ذات البين".
والترمذي في السنن: 38 - كتاب صفة القيامة: 56 - باب حدثنا أبو يحيى 4/ 663 - 664 ح 2509 وعقب عليه بقوله: هذا حديث صحيح ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".
(4)
أخرجه أحمد في المسند 6/ 459 (الحلبي) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خيثم، عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى ثم قال: ألا أخبركم بشراركم؟ المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت" وأخرجه عقبه من طريق علي بن عاصم، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم - به - بنحوه.
وفي الحديث شهر وفيه ما فيه.
وقد أورده الهيثمي 8/ 93 عن أحمد من حديث أسماء وعقب عليه لقوله: رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وقد وثقه غير واحد وبقية رجال أحد أسانيده رجال الصحيح.
وفيه: الباغون للبرآء العيب".
(5)
أخرجه أحمد في المسند 1/ 278 - 279 (المعارف) ح 286 بإسناد حسن كما ذكر محققه شاكر ورواه أبو يعلى في مسندد 1/ 174 - 175 ح 196.
وقال الربيع بن خُثَيم: لو رأيتَ رَجُلًا يُظْهِرُ خَيْرًا، ويُسِرّ شرًّا، أحببتَه عليه؛ آجَرَكَ الله على حبك الخيرَ. ولو رأيتَ رجلًا يُظْهِر شَرًّا ويُسِرُّ خَيْرًا أبغضته عليه؛ آجرك الله على بغضك الشر.
* * *
[الاختلاف في الدين طريق للتباغض]:
ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كَثر بسبب ذلك تباغضُهم وتلاعنُهم، وكلٌّ منهم يُظْهرُ أنه يُبْغِضُ لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورًا، وقد لا يكون معذورًا، بل يكون متبعًا لهواه، مقصرًا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه؛ فإنَّ كثيرًا من البغض لذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعا، وإن أُريد أنه لا يقول إلا الحقَّ فيما خولِفَ فيه.
• فهذا الظن قد يُخْطئ ويُصيب، وقد يكون الحاملَ على الميل إليه مجرَّدُ الهوى والإلف أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البُغض لله.
فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه؛ خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.
* * *
[أمر ينبغي التفطن له: الانتصار للحق لا للمذهب]:
وههنا أمر خفي ينبغي التفطن له.
وهو أن كثيرًا من أئمة الدين قد يقول قولًا مرجوحًا، ويكون مجتهدًا فيه، مأجورًا على اجتهاده فيه، موضوعًا عنه خطؤُه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لِكَوْن متبوعه قد قاله بحيث إنه لو
(1)
قاله غيره من أئمة الدين لما قَبِلَهُ، ولا انتصر له، ولا والى مَنْ وافقه، ولا عادى مَنْ خَالَفَهُ، وهو
(2)
مع هذا يظن أنه إنما ينتصر
(3)
للحق لمنزلة متبوعه، وليس كذلك؛ فإن متبوعه إنما كان قصدُه الانتصارَ للحقِّ وإن أخطأ في اجتهاده.
• وأما هذا التابع فقد شاب
(4)
انتصارَه لما يظنه الحقَّ إرادةُ عُلوِّ متْبُوعِهِ، وظُهورِ
(1)
م: "لو أنه".
(2)
م: "ولا هو مع".
(3)
م: "انتصر".
(4)
م: "شابه".
كلمته وأن لا ينسب إلى الخطأ.
وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق؛ فافهم هذا؛ فإنه مُهِمٌّ عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
[قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تدابروا"]:
• قوله "ولا تدابروا" قال أبو عبيد: "التدابر: الصارمة والهِجْرَان مأخوذٌ من أن يُولِّى الرجل صاحبَه دُبُرَهُ، ويُعرضَ عنه بوجهه، وهو التقاطع".
• وخرج مسلم
(1)
من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال؟ "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله تعالى" وخرجه أيضًا بمعناه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يَحلُّ لمسلم أن يَهْجُرَ أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصدُّ هذا، ويصد هذا وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام"
(2)
.
• وخرج أبو داود
(3)
من حديث أبي خراش السلمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "منْ هَجَر أخاه سنةً فهو كسَفْكِ دَمِهِ".
وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية.
* * *
(1)
مضى ص 966 - 968 وقول أبي عبيد المذكور في الغريب 1/ 214.
(2)
أخرجه البخاري في: 78 - كتاب الأدب: 62 - الهجرة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث 10/ 492 ح 6077 من رواية مالك عن الزهري، عن عطاء الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وأخرجه في: 79 - كتاب الاستئذان: 9 - باب السلام للمعرفة وغير المعرفة 11/ 21 ح 6237 باللفظ الذي أورده ابن رجب.
وأخرجه مسلم في: 45 - كتاب البر والصلة والآداب: 8 - باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي 4/ 1984 ح 25 - (2560) من رواية مالك عن ابن شهاب بلفظ البخاري في الموضع الأول.
وأخرجه عقبه من جوه عن الزهري بإسناد مالك ومثل حديثه إلا قوله فيعرض ويعرض هذا، ففيها جميعًا عدا مالكًا:"فيصد هذا ويصد هذا" كما أورد ابن رجب.
(3)
أخرجه أبو داود في: 35 - كتاب الأدب: 55 - باب فيمن يهجر أخاه المسلم 5/ 214 - 215 من رواية ابن السرح، عن ابن وهب، عن حيوة، عن أبي عثمان: الوليد بن أبي الوليد، عن عمران بن أبي أنس عن أبي خراش، السُّلَمي: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره بمثله. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله عن يزيد، عن حيوة - به، بنحوه 1/ 497 - 498 وانظر هامشه.
[القاطعة لأجل الدين]:
فأمّا لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاثة؛ نصَّ عليه الإمامُ أحمد، واسْتَدلَّ بقصة الثلاثة الذين خُلّفوا وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهجرانهم، لما خاف منهم النفاق
(1)
، وأباح هجرانَ أهلِ البدع المغلّظَةِ، والدعاة إلى الأهْواء.
وذكر الخطابي أن هجرة
(2)
الوالد لولده، والزوج لزوجته، وما كان في معنى ذلك تأديبًا تجوز الزيادة فيه على الثلاث؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هجر نساءه شهرًا
(3)
.
[الهجران هل يقطعه السلام؟]:
واختلفوا: هل ينقطع الهجران بالسلام؟ فقالت طائفة: ينقطع بذلك.
• روي: عن الحسن، ومالك في رواية ابن وهب
(4)
، وقاله طائفة من أصحابنا.
• وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
(5)
: "لا يحل لمؤمن أن يَهْجُرَ مؤمنًا فوق ثلاثٍ؛ فإن مرَّتْ به ثَلاثٌ فَلْيَلْقَهُ فَليُسَلمْ عليه، فإن ردَّ عليه السلام؛ فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه؛ فقد باءَ بالإثْمِ، وَخَرَجَ المسْلِمُ مِنْ الهجْرة"
(6)
.
• ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخر من الرد عليه.
• فأما مع الردِّ إذا كان بينهما قبْل الهِجْرة مودَّةٌ ولم يعودا
(7)
إليها ففيها نظر.
• وقد قال أحمد: في رواية الأثرم، وسئل عن السلام يقطع الهجران؟ فقال: قد
(1)
راجع في هذا تفسير ابن كثير 2/ 396 - 399.
(2)
م: "هجران".
(3)
راجع تفسير ابن كثير 4/ 385 - 390.
(4)
م: "وهب"، وهو خطأ؛ فيه سقط.
(5)
سقطت من م.
(6)
أخرجه أبو داود في السنن: 35 - كتاب الأدب: 55 - باب فيمن يهجر أخاه - (5/ 214 - 215 ح 4912) عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة وأحمد بن سعيد السرخسي عن أبي عامر، عن محمد بن هلال، عن أبيه، عن أبي هريرة
…
فذكره وأن قوله: "وخرج المسلم من الهجرة" زيادة في رواية أحمد.
وقد علق المنذري بقوله: رواه عن أبي هريرة: هلال بن أبي هلال مولى بني كعب، مديني، قال الإمام أحمد: لا أعرفه، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالمشهور.
والحديث ضعفه الشيخ ناصر الألباني؛ راجع ضعيف الجامع الصغير: 635 - (1083) 6/ 89 والإرواء 7/ 94.
(7)
م: "ولم يعودوا".
يسلم عليه، وقد صَدَّ عنْه ثم قال: قال
(1)
صلى الله عليه وآله وسلم: "يلتقيان فيصدُّ هذا ويصدُ هذا" فإذا كان قد عوّده أن يُكَلِّمَهُ أو يصافحه
(2)
.
• وكذلك روي عن مالك أنه قال: لا تنقطع الهجرة بدون العود إلى الودة.
[التفرقة في هذا بين الأقارب وغيرهم]:
وفرق بعضهم بين الأقارب والأجانب فقال في الأجانب: تزول الهجرة بينهم بمجرد السلام، بخلاف الأقارب.
وإنما قال هذا لوجوب صلة الرحم.
[ولا بيع بعضكم على بيع بعض]:
• قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض".
قد تكاثر النهي عن ذلك؛ فقي الصحيحين عن أبي هريرة
(3)
، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا يبيعُ المؤمنُ على بيع أخيه، ولا يخطبُ على خطبة أخيه".
• وفي رواية لمسلم: "لا يَسُمِ المسلم على سَوْم أخيه، ولا يخطبُ على خِطْبَتِهِ
(4)
.
• وخرجا من حديث ابن عمر
(5)
، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا
(1)
ا، ب:"ثم قال: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ".
(2)
في هامش ا: "معناه أنه لا يكفي السلام وهي النسخة الوحيدة التي أومضت بهذا التعليق على مراد الإمام فليلقه وليصافحه، ولا يكتفي بالسلام.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه في مواطن كثيرة منها في: 34 - كتاب البيوع: 58 - باب لا يبيع على بيع أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه، حتى يأذن له أن يترك 4/ 353 ح 2140 من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأَ ما في إنائها.
وانظره في أحاديث 2148، 2150، 2151، 2160، 2162، 2723، 2727، 5144، 5152، 6601.
وأخرجه مسلم في صحيحه: 16 - كتاب النكاح: 6 - باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك 2/ 1033 ح 51 - (1413)، 52 - (
…
)، 53 - (
…
) من رواية ابن شهاب، عن ابن المسيب بنحوه.
وفي 21 - كتاب البيوع: 4 - باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سومه، وتحريم النجش وتحريم التصرية 3/ 1154 - 1155 ح 10 - (
…
)، 11 - ( .. .)، 12 - (
…
) بنحوه.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب النكاح عقب الحديث السابق وفي كتاب اليوع في الموضع السابق قبل الروايات المذكورة.
(5)
أخرجه البخاري في: 67 - كتاب النكاح: 45 - باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى يخطب أو يدع 9/ 198 ح 5142 عن مكي بن إبراهيم، عن ابن جريح، عن نافع، عن ابن عمر، نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطِب قبله أو يأذن له الخاطب =
يبيعُ الرَّجُلُ على بَيْع أخيه، ولا يخطبُ على خِطْبَة أخيه؛ إلا أَنْ يأْذَنَ لَهُ".
• ولفظه لمسلم.
وخرج مسلم من حديث عقبة بن عامر
(1)
، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"المؤمنُ أخو المؤمن؛ فلا يحل للمؤمن أن يبتاعَ على بَيْع أخيه، ولا يخطبَ على خِطْبَةِ أخيه حَتَّى يَذَر".
وهذا يدل
(2)
على أن هذا حق للمسلم على المسلم؛ فلا يساويه الكافر في ذلك بل يجوز للمسلم أن يبتاع على بيع الكافر، ويخطبَ على خِطبته، وهو قول الأوزاعي، وأحمد؛ كما لا يثبت للكافر على المسلم حق الشفعة عنده.
[الجمهور على العموم]:
وكثير من الفقهاء ذهبوا إلى أن النهي عامٌّ في حق المسلم والكافر، واختلفوا: هل النهي للتحريم أو التنزيه؟
[ثم اختلفوا في نوعية النهي]:
فمن أصحابنا من قال: هو للتنزيه دون التحريم.
• والصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنه؛ للتحريم.
[وفي صحة البيع والنكاح]:
• واختلفوا: هل يَصحُّ البَيْعُ على بَيْع أخيه والنكاحُ على خِطبته؟ فقال أبو حنيفة رحمه الله، والشافعي رحمه الله، وأَكْثَرُ أصحابنا: يصح.
وقال مالك؛ في النكاح: إنه إن لَم يدْخُلْ بها، فُرِّقَ بينهما وإن دخل بها لم يفرَّقْ.
• وقال أبو بكر من أصحابنا في البيع والنكاح إنه باطل بكل حال وحكاه عن أحمد.
[معنى البيع على البيع وعلة تحريمه]:
ومعنى البيع على بيع أخيه: أن يكونَ قد باع منه شيئًا فيَبْذُلَ للمشترى سِلْعَتهُ ليشتريها ويفسخ بَيْعَ الأول.
= وانظره في حديثي 2139، 2165.
وأخرجه مسلم في الموضع السابق قبل روايات أبي هريرة ح 8 (
…
) وأخرجه قبله مختصرًا ح 7 (1412).
(1)
أخرجه مسلم في كتاب النكاح في الموضع السابق ح 56 - (1414) 2/ 1034.
(2)
م: "دليل".
وهل يختص ذلك بما إذا كان البَذْلُ في مدّة الخيار بحيث يتمكن المشتري من الفسخ فيه أم هو عام في مدة الخيار وبعدها؟ فيه اختلاف بين العلماء.
• [و] قد حكاه الإمام أحمد في رواية حرب، ومال إلى القول بأنه عام في الحالين، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا، ومنهم من خَصَّهُ بما
(1)
إذا كان في مدة الخيار وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن مُشَيش
(2)
، ومنصوص الشافعي.
والأول أظهر؛ لأن المشتري وإن لم يتمكَّن من الفسخ بنفسه بعد انقضاء مدة الخيار، فإنه إذا رغبَ في رَدِّ السلعة الأولى على بائعها فإنه يتسبّب في رَدِّهَا عليه بأنواع من الطرق المقتضية
(3)
لضرره ولو بالإلحاح عليه في المسألة.
وما أدّى إلى ضَرَرِ المسلم كان مُحَرَّمًا والله أعلم.
* * *
[وكونوا عباد الله إخوانا]:
• وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "وكونوا عباد الله إخوانا".
هذا ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كالتعليل لما تقدم.
وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضهم على بعض كانوا إخوانا.
[وسائل الأخوَّة]:
وفيه أَمْرٌ باكتساب ما يصير المسلمون به إخوانًا على الإطلاق، وذلك يدخل فيه أداءُ حقوق المسلم على المسلم من رَدِّ السلام، وتشميتِ العاطس، وعيادَةِ المريض، وتشييعِ الجِنازة
(4)
، وإجابة الدعوة، والابتداء بالسلام عند اللقاء، والنصح بالغيب.
[والأمر بالتهادي]:
• وفي الترمذي عن أبي هريرة
(5)
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تهادَوْا؛
(1)
ليست في أ.
(2)
م: "مشيقس".
(3)
م: "المستفيضة" وهو تحريف.
(4)
"ا": "الجنائز".
(5)
أخرجه الترمذي فيه: 32 - كتاب الولاء والهبة. 6 - باب حث النبي صلى الله عليه وسلم على التهادي 4/ 441 ح 2130 من رواية محمد بن سواء، عن أبي معشر، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فذكره وزاد:"ولا تحقرن جارة لجارتها ولو شق فرسِنِ شاة" أي ولو نصف ظلف شاة.=
فإن الهدية تُذهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ".
• وخرجه غيره.
ولفظه: "تهادَوْا تحابُّوا"
(1)
.
= وقد عقب عليه بقوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأبو معشر اسمه: نجيح: مولى بني هاشم وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه".
والوحر بفتح الحاء وسكونها: الحقد، والغيظ، والغشُّ وأشد الغضب والعداوة ووساوس الصدر وبلابله (المعجم الوسيط 2/ 1028).
(1)
هذا حديث يروى مسندًا من أحاديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعائشة.
ويروى مرسلا في موطأ مالك من رواية عطاء الخراساني.
وطريقه المرسل ضعيف بالإرسال.
وطرقه المسندة فيها مقال إلا أن أقر بها إلى الحسن هو حديث أبي هريرة كما أشار إلى ذلك ابن حجر والشيخ ناصر الألباني.
ثم إن طرقه بمجموعها وشواهدها ترقى إلى الجيد والحسن كما أشار إلى ذلك السخاوي.
فأما حديث أبي هريرة فراوه البخاري في الأدب المفرد: 269 - باب قبول الهدية 2/ 50 من رواية عمرو بن خالد، عن ضمام بن إسماعيل، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة - فذكره.
وابن عدي في الكامل 4/ 104 من رواية عبد الواحد بن يحيى، عن ضِمام - به.
وأعله بضمام بن إسماعيل فذكر أن أحاديثه لا يرويها غيره.
وسيأتي الرد على هذا.
وأخرجه الدولابي في الكنى 1/ 150 من رواية أبي الحسن محمد بن بكير الحضرمي، عن ضمام - به - بمثله.
وأخرجه في 2/ 7 من رواية أبي شريك: يحيى بن يزيد بن ضماد عن موسى بن وردان - به - بمثله.
وبهذا يرد على ابن عدي، إذ ذكر في إعلاله للحديث أنه من رواية ضمام بن إسماعيل، وأنه لم يروه غيره وها قد رأينا متابعة أبي شريك لضمام في الرواية عن موسى بن وردان فلم ينفرد بروايته لهذا الحديث إذًا؟!.
ومن رواية محمد بن بكير الحضرمي، عن ضمام، أخرجه البيهقي في الشعب، وأبو يعلى في المسند أيضًا.
وفي التقريب 1/ 374 أن ضِمام - بكسر أوله - بن إسماعيل بن مالك المرادي أبو إسماعيل المصري: صدوق، ربما أخطأ، مات سنة خمس وثمانين، وله ثمات وثمانون سنة، وروى له البخاري في الأدب.
وفي التقريب أيضًا 2/ 289 أن موسى بن وردان صدوق أيضًا ربما أخطأ، مات سنة سبع عشرة. وله أربع وسبعون سنة. وررى له البخاري في الأدب، كما روى له أصحاب السنن.
وبناءً على هذا وعلى ما ذكره ابن حجر في التلخيص الحبير حسن الشيخ ناصر إسناده وراجع عن هذا وعن الطرق الأخرى للحديث وشواهده نصب الراية للزيلعي 4/ 120 - 122، وإرواء الغليل 6/ 44 - 47، وصحيح الجامع الصغير وزيادته 1/ 577 ح 3004 والفردوس بمأثور الخطاب للكيا الدَّيلمي 2/ 46 - 47، ومجمع الزوائد 4/ 146 - 147 والتمهيد لابن عبد البر 6/ 116، وموطأ مالك 2/ 908، والترغيب والترهيب 3/ 434، والتلخيص الحبير 3/ 69، وتذكرة الموضوعات ص 66 والمقاصد الحسنة ص 156 - 167 ح 352، وكشف الخفاء للعجلوني 1/ 381 - 382، وكشف الأستار عن زوائد البزَّار للهيثمي 2/ 394، والأحاديث المشكلة في الرتبة ص 115، وإتحاف السادة المتقين 5/ 346 و 6/ 159 - 160، 221، وسنن الترمذي في الموضع السابق.
وفي مسند البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"تهادَوْا؛ فإن الهدية تَسُلُّ السخيمة"
(1)
.
[والتصافح]:
• ويروى عن عمر بن عبد العزيز يرفع الحديث قال:
"تصافحوا؛ فإنه يذهب الشحناء وتهادَوْا
(2)
".
وقال الحسن: "المصافحة تزيد في المودة".
وقال مجاهد: بلغني أنه إذا تراءى التحابان، فضحكَ أَحَدُهما إلى الآخر وتصافحا تَحاتَّت خَطَاياهُما كما يتحات الورَقُ من الشجر، فقيل له: إن هذا ليَسِيرٌ من العمل قال: تقول يسيرٌ والله يقول: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
(3)
.
* * *
[المسلم أخو المسلم]:
• وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسْلم أخو المسلِم لا يظْلِمُهُ ولا يخذُلُه ولا يَكْذِبُه ولا يَحْقِرُهُ".
هذا مأخوذ من قوله تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
(4)
.
فإذا كان المؤمنون إخوةً أُمِرُوا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب واجتماعها، ونُهُوا عما يُوجبُ تنَافُرَ القلوبِ واخْتلافَها وهذا من ذاك.
[إيصال النفع لهُ ومنع الضرر عنه]:
وأيضًا؛ فإن الأخ من شأنه أن يوصل إلى أخيه
(5)
النفع، ويكفَّ عنه الضَّرَر، ومن
(1)
أخرجه البزار في مسنده (2/ 394) من الكشف من رواية محمد بن معمر، عن حميد بن حماد، عن عائذ بن شريح، عن أنس بن مالك، فذكره وزاد:"لو أهدى إليَّ كراع لقبلْت، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت". وقد ضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد في الموضع السابق بعائذ بن شريح.
(2)
رواه مالك في الموطأ 2/ 908 وعقب المحقق بقول ابن عبد البر: "هذا يتصل من وجوه شتى حسان كلها".
أقول: لعل هذا لأن في إسناده عطاء بن أبي مسلم.
(3)
سورة الأنفال: من الآية 63 والخبر في تفسير الطبري 14/ 46 - 47 ح 16260.
(4)
سورة الحجرات: من الآية 10.
(5)
م: "لأخيه".
أَعظم الضرر الذي يجب كفه عن الأخ المسلم: [الظلم]
(1)
.
وهذا لا يختص بالمسلم؛ بل هو محرم في حق كل أحد.
وقد سبق الكلام على الظلم مستوفى عند ذكر حديث أبي ذر الإلهي: "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا"
(2)
.
* * *
[نصره ظالما أو مظلوما]:
ومن ذلك خذلان المسلم لأخيه؛ فإن المؤمن مأمور أن ينصر أخاه كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوما؛ فكيف أنصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه".
• خرجه البخارى بمعناه من حديث أنس
(3)
.
• وخرجه مسلم بمعناه من حديث جابر
(4)
.
* * *
[من آثار نصرة المسلم وخذلانه]:
وخرج أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر بن عبد الله
(5)
، عن النبي
(1)
م: "وهذا من أعظم الضرر .. وهذا".
(2)
ص 655. وهو الحديث الرابع والعشرون من أحاديث الكتاب.
(3)
أخرجه البخاري في: 46 - كتاب المظالم. 4 - باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما 5/ 98 ح 2443، 2444 من رواية عثمان بن أبي شيبة عن هشيم عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس وحميد الطويل عن أنس مقتصرا على الشق الأول ومن طريق مسدد، عن معتمر، عن حميد .. بسياقه كاملا بنحوه، وفيه قال:"تأخذ فوق يديه".
ورواه في: 89 - كتاب الإكراه: 7 - باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه .. إلخ 12/ 223 ح 6932 من طريق محمد بن عبد الرحيم عن سعيد بن سليمان عن هشيم، وفيه: أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره.
(4)
أخرجه مسلم في: 45 - كتاب البر والصلة والآداب: 16 - باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما 4/ 1998 ح 62 - (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر أو المهاجرون: يآل المهاجرين! ونادى الأنصار: يآل الأنصار! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا؟ دعوى أهل الجاهلية؟ " قالوا: لا يا رسول الله! إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر؟ قال: "فلا بأس! ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما؛ إن كان ظالما فلينهه؛ فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره".
(5)
أخرجه أبو داود في: 35 - كتاب الأدب 41 - باب من رد عن مسلم غيبته 5/ 197 ح 4884 من رواية إسحاق بن الصباح، عن ابن أبي مريم، عن الليث، عن يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن بشير، عن جابر وأبي طلحة بن سهل الأنصاري، فذكره.
صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما مِن امْرِئٍ مُسْلم
(1)
يخذلُ امْرأ مُسْلِمًا في مَوْضع تُنْتَهَكُ فيه حُرْمَتُه، ويُنْتَقَصُ فيه مِنْ عِرْضِه إلا خَذَله الله في موضع يُحبُّ فيه نُصْرَتَهُ، ومَا مِن امْرئ يَنْصُرُ مُسلِمًا في موضع يُنْتَقَضُ فيه مِن عِرْضِهِ، ويُنتَهك فيه من حرْمَتِهِ؛ إلا نصَرَهُ الله في موضع يُحبُّ فيه
(2)
نُصْرَتَهُ".
• وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مَنْ اُذِلَّ عنده مُؤمِنٌ فلم يَنْصُرْهُ وهو يقدر على أن يَنْصُرَهُ؛ أذله الله على رُؤوسِ الخَلائِق يَوْمَ القِيَامَةِ
(3)
.
• وخرج البزار من حديث عمران بن حصين، عن النبي صلى عليه وآله وسلم قال: "من نصر أخاه بالغيب وهو يستطع نصره؛ نصره الله، في الدنيا والآخرة
(4)
".
* * *
[ومن حق المسلم: أن لا يحدثه أخوه إلا صدقا]:
ومن ذلك كذب السلم لأخيه.
فلا يحل له أن يحدثه فيكذبه بل لا يحدثه إلا صدقًا.
• وفي مسند الإمام أحمد، عن النواس بن سمعان، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كَبُرت خِيانةً أَن تحدِّث أَخاك حديثًا هو لك مُصَدّقٌ وأنتَ به كاذِبٌ
(5)
.
(1)
ليست في السنن.
(2)
ليست في السنن.
(3)
في المسند 3/ 487 (الحلبي) من رواية حسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن موسى بن جبير، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة".
وأورده الهيثمي في المجمع 7/ 267 وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة، وهو حسن الحديث وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.
(4)
رواه البزار في مسنده (4/ 115 - 111) ح 1315 رواية عن عمر بن يحيى، عن يزيد بن زريع، عن يونس، عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره بمثله.
وعقب البزار بقوله: لا نعلمه روي بإسناد أحْسَنَ من هذا، ولا نعلمه إلا عن عمران وحده.
وقد رواه غير واحد عن الحسن، عن عمران موقوفا وح 3316 من رواية عمرو بن مالك، عن معاذ بن محمد، عن يونس بن عبيد، به - فذكره.
وح 3317 من رواية أحمد بن عبد الله السدوسي، عن أحمد بن عبدة، عن يزيد - به مرفوعا:"من نصر أخاه ومن يستطيع نصره، نصره الله في الدنيا والآخرة" و ح 3318 من رواية أحمد، عن محمد بن عبد الملك، عن يزيد به موقوفا - وقد أورده الهيثمي في المجمع 7/ 267 من حديث عمران بن حصين وقال: رواه البزار بأسانيد، وأحدها موقوف على عمران بن حصين وأحد أسانيد المرفوع رجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 183 من رواية عمر بن هارون، عن ثور بن يزيد، عن شريح، عن جبير بن=
[وتحريم احتقاره]:
• ومن ذلك احتقار المسلم لأخيه المسلم.
وهو ناشئ عن الكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ النَّاس".
خرَّجَهُ مُسْلِمُ من حديث ابن مسعود
(1)
.
• وخرجه الإمام أحمد.
وفي رواية له: "الكبر سَفَهُ الحق وازدراء الناس"
(2)
.
وفي رواية: "وغمص الناس".
وفي رواية، زيادة: "فلا يراهم شيئًا
(3)
".
= نفير، عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره بمثله. إلا لفظ "أن" في أن تحدث فليس فيه.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 142 من حديث النواس وعنده: "أن تحدث" وقال: رواه أحمد عن شيخه عمر بن هارون، وقد وثقه قتيبة وغيره، وضعفه ابن معين وغيره. وبقية رجاله ثقات". أي فالحديث حسن.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه: 1 - كتاب الإيمان: 39 - باب تحريم الكبر وبيانه 1/ 93 ح 147 - 91 من حديث عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: "إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنا؟ قال " إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" وفي ب: غمص.
وقد وردت الكلمتان في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبر ففي الحديث: "إنما ذلك من سفه الحق وغمص الناس" وفي الحديث: الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس" مثل رواية مسلم.
وغمص الناس: احتقارهم وتنقص أقدارهم وغمطهم: الاستهانة بهم، والاستحقار لهم والغمط إذًا قريبٌ من الغمص أو هو مثله راجع النهاية 3/ 386 - 387.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 1/ 399 (الحلبي) 5/ 301 (المعارف) من رواية الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان" فقال رجل: يا رسول الله! إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلا، ورأسي دهينا، وشراك نعلي جديدا وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ قال:"لا: ذاك الجمال: إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر مَن سَفِه الحق وأزدرى الناس".
وإسناده صحيح كما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 151 (الحلبي) من حديث عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يموت وفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر تحل له الجنة أن يريح ريحها ولا يراها فقال رجل من قريش يقال له أبو ريحانة: والله! يا رسول الله! إني لأحب الجمال وأشتهيه حتى أني لأحبه في علاقة سوطي، وفي شراك نعلي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ذاك الكبر. إن الله جميل يحب الجمال ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس بعينيه".
وهو عند أحمد في المسند 1/ 385 (الحلبي) 5/ 234 - 235 (المعارف) بإسناد فيه نظر من وجه آخر عن ابن مسعود وفي آخره: "ولكن البغي من بطر قال أو قال: سفه الحق، وغمط الناس" وأخرجه من حديث أبي=
[وتحريم ازدرائه والاستكبار عليه والسخرية منه]:
وغمص الناس: الطعن عليهم وازدراؤهم.
(1)
فالمتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص فيحتقرهم، ويزدريهم، ولا يراهم أهلا لأن يقومَ بحقوقهم، ولا أن يقبلَ من أحد منهم
(2)
الحق إذا أوردوه عليه.
* * *
[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ههنا"]:
• وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "التقوى هَهُنا" ويشيرُ إلى صَدْره ثلاثَ مَرَّاتٍ.
فيه إشارةٌ إلى أن كَرَمَ الْخَلْقِ عند الله بالتقوى فَرُبَّ من يَحْقِرُه
(3)
الناس لضعفه وقلةِ حظّه من الدنيا وهو أعظم قدرًا عند الله تعالى، مِمَّنْ له قَدْرٌ في الدنيا، فإنَّ الناس إنما يتفاوتون بحسب التقوى كما قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
(4)
وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ أكرمُ الناس؟ قال: "أتقاهم لله تعالى"
(5)
.
= ريحانة (4/ 133 - 134) الحلبي بنحو حديث عقبة بن عامر وفيه الجملة الأخيرة بمثله.
ومعنى: غمص الناس بعينيه: احتقرهم.
وقد أورده الهيثمي في المجمع 3/ 133 عن أحمد والطبراني من حديث أبي ريحانة وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، ورواه الطبراني الكبير في الأوسط.
وقوله: وفي رواية إلخ سقط من م.
(1)
سورة الحجرات: 11.
(2)
ليست في م.
(3)
"ا": "يحتقره الإنسان".
(4)
سورة الحجرات: 13.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 431 (الحلبي) عن يحيى بن سعد، عن عبد الله العمري، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية: خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
وأخرجه البخاري في: 60 - كتاب أحاديث الأنبياء: 8 - باب قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} وقوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله} 6/ 387 ح 3353 من رواية على بن عبد الله عن يحيى - به - بمثله إلا الإِجابة الأولى فقد اقتصر فيها على قوله: أتقاهم وباب {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت} - إلى قوله {ونحن له مسلمون} 6/ 414 ح 3374 من طريق إسحاق بن إبراهيم عن المعتمر، عن عبيد الله - به - بنحوه مع الإجابة الأولى مقتصرة على الكلمة الآنفة.
وفي باب قوله تعالى: {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} 6/ 417 ح 3383 من رواية عبيد بن =
• وفي حديث آخر: "الكَرَمُ التَّقْوى"
(1)
.
والتقوى أصلها في القلب كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
(2)
.
وقد سبق
(3)
ذِكرُ هذا المعنى في الكّلام على حديث أبي ذر الإلهي عند قوله: "لو أن أوّلكم وآخِركم وإنسكم: جنّكُم كانوا على أتقى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ منْكم مَا زَادَ ذلك في مُلْكِي شيئا".
[لا ينظر الله إلى الصور بل إلى القلوب]:
وإذا كان أصلُ التقوى في القلوب؛ فلا يطلع أحدٌ على حقيقتها؛ إلا الله تعالى كما
= إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله - به - بمثله وفيه الإجابة الأولى كاملة: أتقاهم لله.
وفي 61 - كتاب المناقب: 1 - باب قول الله تعالى: {النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} إلخ 6، 525 من رواية محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد - به - مختصرًا وبمثل الموضعين الأولين في الإجابة الأولى.
وفي: كتاب التفسير:12 - سورة يوسف: 2 - باب {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} 8/ 362 ح 4689 من رواية محمد بن سلام عن عبدة بن سليمان عن عبيد الله العمري - به - بنحوه، وفيه "أكرمهم عند الله أتقاهم
…
فأكرم الناس يوسف نبي الله
…
فخياركم في الجاهلية خياركم
…
".
وأخرجه مسلم في 43 - كتاب الفضائل: 44 - باب من فضائل يوسف عليه السلام، 4، 1846 ح 168 (2378) من رواية زهير بن حرب، ومحمد بن المثنى، وعبيد الله بن سعيد عن يحيى بن سعيد - به بمثل الموضع الأول عند البخاري.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية 8/ 383 من رواية محمد بن أبي بكر، عن يحيى بن سعيد - به - بنحو ما في المسند.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 13 (الحلبي) عن يونس بن محمد بن سلام بن أبي مطيع عن قتادة عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحسب المال والكرم التقوى" وأخرجه الترمذي في السنن: 48 - كتاب تفسير القرآن: 50 - باب ومن سورة الحجرات 5/ 390 ح 3271 من رواية الفضل بن سهل وغير واحد، عن يونس - به - بمثله، وقال الترمذي: هذا حيث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث سلام بن أبي مطيع.
وابن ماجه في 37 - كتاب الزهد: 24 - باب الورع والتقوى 2/ 1410 ح 4219 عن محمد بن خلف العسقلاني عن يونس به - بمثله.
والبيهقي في السنن: كتاب النكاح: باب اعتبار اليسار في الكفاءة 7/ 135 - 136 عن أبي عبد الله الحافظ، عن أبي العباس: محمد بن يعقوب به - بمثله.
والحاكم في المستدرك 2/ 163 و 4/ 325 عن أبي العباس: محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبيد الله، عن يونس - له - بمثله وقد صَحَّحَه الحاكم على شرط البخاري وأقره الذهبي.
وانظر في تخريجه أيضًا: الموسوعة 4/ 568.
(2)
سورة الحج: 32.
(3)
ص 673.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
(1)
"إن الله لا ينظرُ إلى صُوَرِكُم وأمْوالِكُم ولكن يَنْظُر إلى قُلُوبكُمْ وَأعْمَالِكم".
وحينئذ فقد يكون كثير ممن له صورةٌ حسنةٌ أو مالٌ أو جاهٌ أو رياسةٌ في الدنيا قَلْبُهُ خرابًا من التقوى، ويكونُ مَنْ ليس له شيءٌ من ذلك قلبُه مملوءًا من التقوى، فيكونُ أكرم عند الله تعالى.
[المتواضعون والجنة]:
بل ذلك هو الأكْثَرُ وقوعًا، كما في الصحيحين عن حارثة بن وَهْب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ألا أُخْبرُكم بأهْل الجنة؟ كُلّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لو أقسم على الله لأَبره، ألا أخبِرُكم بأهْلِ النَّار؟ كُلّ عتُلٍّ جَوّاظٍ مُسْتَكبِرٍ
(2)
".
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه: 45 - كتاب البر والصلة: 15 - باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله 4/ 1986 - 1987 ح 33 (
…
)، 34 - (
…
) من وجهين عن أبي هريرة ثانيهما بمثل ما أورد ابن رجب.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: 65 كتاب التفسيرت 68 - سورة ن والقلم: 1 - باب {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} 8/ 662 ح 4918 من طريق أبي نعيم، عن سفيان، عن معبد بن خالد، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على اللهِ لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟
…
" الحديث فذكره.
وفي: كتاب الأدب: 61 - باب الكبر 10/ 489 ح 6071 من طريق محمد بن كثير، به - بنحوه وفيه متضاعف.
وفي: 83 - كتاب الأيمان والنذور: 9 - باب قول الله تعالى: {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} 11/ 541 ح 6657 من رواية محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، عن معبد بن خالد، - به - بنحوه، وفيه: "ألا أدلكم
…
وأهل النار كل جواظ عتل
…
".
وأخرجه مسلم في صحيحه: 51 - كتاب صفة الجنة ونعيمها: 13 - باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء 4/ 2190 ح 46 - (2853) عن عبيد الله بن معاذ العنبري، عن أبيه عن شعبة - به - بنحوه، وفيه أنهم قالوا: بلى في السؤالين ومن طريق ابن المثني بمثله إلا أنه قال: "ألا أدلكم" وح 47 - (
…
) من رواية محمد بن عبد الله بن نمير، عن وكيع عن سفيان، عن معبد - به - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ زنيم متكبر".
قال النووي: ضبطوا قوله: متضعف بفتح العين وكسرها والمشهور الفتح، ولم يذكر الأكثرون غيره، ومعناه: يستضعفه الناس ويحتقرونه، ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا، يقال: تضعفه واستضعفه وأما رواية الكسر فمعناها متواضع متذلل، خامل، واضع من نفسه.
قال القاضي وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان.
والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار: القسم الآخر، وليس المراد الاستيعاب في الطرفين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لو أقسم على الله لأبره، معناه لو حلف يمينا طمعا في كرم الله تعالى بإبراره لأبره، وقيل: لو دعاه لأجابه. يقال: أبررت قسمه وبررته والأول هو المشهور، والعتل؛ هو الجافي الشديد الخصومة بالباطل، =
[المستكبرون والنار]:
• وفي المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"أما أهل الجنة: فكلُّ ضَعِيفٍ مُسْتَضْعَفٍ أشْعَث ذِي طِمْريْنِ لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، وأما أهْلُ النَّار فكلّ جِعْظَريٍّ جَوَّاظٍ جَمَّاع منَّاعٍ ذِي تَبَعٍ
(1)
".
• وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تَحاجَّتِ الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة: [ما لي]
(2)
لا يدخلني إلا ضُعفَاءُ الناس وسَقَطُهُم؟ فقال الله تعالى للجنة: أنتِ رَحْمَتي أرحَمُ بكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وقال للنار: أنتِ عَذَابِي أعذّبُ بك مَنْ أشَاءُ مِنْ عِبَادِي
(3)
".
• وخرجه الإمام أحمد من حديث أبي سَعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "افتخَرَتِ الجنَّةُ والنار فقالت النارُ: يا رب! يدخلني الجبابرةُ والمتكبرون والملوك والأشراف وقالت الجنة: يا رب! يدخلنى الضعفاء والفقراء والمساكين".
وذكر الحديث
(4)
.
= وقيل: الجافي الغليظ.
والجواظ: الجموع المنوع وقيل كثير اللحم المختال في مشيته، وقيل القصير البطين، وأما الزنيم فهو الدعي في النسب، الملصق بالقوم وليس منهم شبه بِزَنَمَة الشاة.
وأما المتكبر والمستكبر، فهو صاحب الكبر وهو بطر الحق، وغمط الناس. النووي 19/ 187 - 188.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 145 (الحلبي) من رواية ابن لهيعة، عن أبي النصر، عن أنس فذكره وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 268) وقال: رواه أحمد من حديث أنس وفيه ابن لهيعة وحديثه يُعْتَضَد.
وهذا منه إشارة إلى أن الحديث حسن، خاصة وقد روي من غير وجه نحوه كما سبق.
(2)
من الصحيحين.
(3)
هذا جزء حديث أخرجه البخاري في: 65 - كتاب التفسير: 50 - سورة ق: 1 - باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 8/ 595 ح 4850.
وفي: كتاب التوحيد: 25 - باب ما جاء في قول الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 13/ 434 ح 7449 من وجوه عن أبي هريرة.
فأخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: 13 - باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء 4، 2186 ح 34 - (2846)، 35 - ( .. )، ( .. )، 36 - ( .. ) من وجوه عن أبي هريرة كذلك.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 78 (الحلبي) جزء حديث طويل من طريق عفان، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد، فذكره.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 112 من حديث أبي سعيد وعقب عليه بقوله: في الصحيح بعضه محالا على حديث أبي هريرة، رواه أحمد ورجاله ثقات، لأن حماد بن سلمة، رَوَى عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط. أي فالحديث صحيح. =
[لا يسوغ تقويم الناس بظواهرهم]:
• وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: "مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رَجُلٌ من أشرافِ الناس، هذا والله حَرِيّ إن خَطَبَ أن يُنْكَحَ وإنْ شَفَع أن يُشَفّع، وإن قال أن يُسْتَمَعَ لقوله، قال: فَسَكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ثم مرَّ رَجُلٌ آخر فقال له
(1)
رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما رأيك في هذا؟ قال: يا رسول الله! هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خَطَبَ أن لا يُنْكَحَ، وإن شَفَعَ أن لا يُشْفَعَ، وإن قال أن لا يُسْمَعَ
(2)
لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض من
(3)
مثل هذا".
• وقال محمد بن كعب القُرَظي في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}
(4)
قال: "تخفضُ رِجَالًا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفعُ رِجَالًا كانُوا في الدنيا مخْفُوضِينَ".
= وفي المسند بعد ما أورده ابن رجب: فقال تبارك وتعالى للنار: "أنت عذابي أصيب بك من أشاء وقال للجنة: أَنت رحمتي وسعت كل شيء ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فيلقى فيها أهلها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يأتيها تبارك وتعالى فيضع قدمه عليها فتزوي وتقول: قدني قدني، وأما الجنة فتبقى ما شاء الله أن تبقى ثم ينشئ الله لها خلقا بما شاء".
(1)
"ا": "قال".
(2)
ليست في م وهي في الصحيح.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: 67 - كتاب النكاح: 15 - باب الأكفاء في الدين 9/ 132 ح 5091 عن إبراهيم بن حمزة، عن ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا حريٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفعَ أن يشفع وإن قال أن يُستمع إليه، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟! قالوا: حريّ إن خطب أن لا ينكح إن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من مِلءِ الأرض مثل هذا.
وأخرجه في: 81 - كتاب الرقاق: 16 - باب فضل الفقر 11/ 273 ح 6447 عن إسماعيل بن أبي أويس، عن ابن أبي حازم - به - عن سهل قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مَرَّ رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا".
وها نحن أولاء ترى أن ابن رجب لفق من الموضعين رواية واحدة أوردها عن الصحيحين.
فهل يريد بقوله وفي الصحيحين: في جملة الصحيحين؟ لكن لم يعدل عن إيراد رواية موضع بعينه؟ على أية حال فقد تعمدت إيراد الروايتين في الموضعين لأبين أن روايته لم تتفق مع أي منهما اتفاقا تاما.
(4)
سورة الواقعة: 1، 2.
[بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم وقيمة الكبر وعواقب المتكبر]:
• قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم).
يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه السلم، فإنه إنما يحتقر أخاه السلم لِتَكَبُّرِهِ عليه، والكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَال الشَّرِّ.
• وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا يدخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قلبه مثقال ذرة من كبر
(1)
".
وفيه أيضا عنه أنه قال: "العِزُّ إزَارُهُ، والكِبرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فمن ينازعني عذبته
(2)
".
فمنازعة الله تعالى صفاتِه التي لا تليق بالمخلوق؛ كفى بها شرا.
• وفي صحيح ابن حبان، عن فضالة بن عبيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ثلاثة لا يسأل عنهم: رجل ينازع الله رداءه
(3)
فإن رداءَهُ الكبرياءُ، وإزَارَهُ العِزُّ، ورجل في شك من أمر الله تعالى والقنوط من رحمة الله
(4)
.
• وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة
(5)
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قال: هَلَكَ الناسُ، فهو أهْلَكُهم".
قال مالك: إذَا قالَ ذلك تحزنا لما يرى في الناس، يعني في دينهم؛ فلا أرى به بأسا
(1)
أخرجه مسلم: 1 - كتاب الإيمان: 39 - باب تحريم الكبر وبيانه 1/ 93 ح 147 - (91) من وجهين عن عبد الله بن مسعود. وقد تقدم ص 620، 989.
(2)
أخرجه مسلم في: 45 - كتاب البر والصلة والآداب 38 - باب تحريم الكبر 4/ 2023 ح 136 - (2620) من حديث أبي مسلم الأغر، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وفي الكلام محذوف تقديره، قال الله عز وجل.
(3)
م: ينازع الله إزاره ورجل ينازع الله على ردائه وهو مخالف للأصول.
(4)
أخرجه ابن حبان في صحيحه: كتاب السير: باب طاعة الأئمة: 7/ 44 ح 4541 من رواية أحمد بن علي المثنى، عن هارون بن معروف، عن المقري، عن حيوة، عن ابن هانئ، عن عمرو بن مالك، عن فضالة بن عبيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة لا يسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، ومات عَاصِيًا، وأمة أو عبد أبق من سيده فمات، وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا فجاءته بعده، وثلاثة لا يسأل عنهم: رجل ينازع الله على ردائه، فإن رداءه الكبر، وإزاره العز، ورجل في شك من أمر الله تعالى والقنوط من رحمة الله، وفي المطبوع من ابن حبان تحريف نفيه: "والقانط من رحمة الله".
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه: 43 - كتاب البر: 41 - باب النهي من قول هلك الناس 4/ 2324 ح 139 - (2623) عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم".
وليس في صحيح مسلم ما نسبه ابن رجب إليه فيما يتعلق ببداية الحديث.
وإذا قال ذلك عُجْبًا بنفسه، وتصاغرًا للناس؛ فهو المكْرُوهُ الذي نهى عنه
(1)
.
ذكره أبو داود في سننه
(2)
.
* * *
[كل المسلم على المسلم حرام وتحريم إيذاء المسلم بأية صورة]:
• قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كُلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).
هذا مما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب به في المجامع العظيمة؛ فإنه خطب به في حجة الوداع يوم النحر، ويوم عرفة، واليوم الثاني من أيام التشريق، وقال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومِكُمْ هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا
(3)
".
• وفي رواية للبخارى وغيره " وأبشاركم
(4)
".
• وفي رواية: "فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلَّغت اللهم هل
(1)
أورده أبو داود في سننه ح 4983 عقب روايته لحديث أبي هريرة هذا الذي أورده ابن رجب عن مسلم وعنده: يعني في أمر دينهم.
(2)
سنن أبي داود عقب روايته للحديث المذكور في: 35 - كتاب الأدب: 85 - باب حدثنا مسدد 5/ 260 - 261 حديث 4983 بروايتين "إذا سمعت""إذا قال الرجل" كما في مسلم.
وانظر النووي على مسلم في الموضع المذكور، وهامش مسلم.
(3)
راجع في هذا ما أخرجه البخاري في الصحيح: 3 - كتاب العلم: 9 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رب مُبلَّغ أوعى من سامع 1/ 157 - 158 ح 67 من حديث ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه وانظر الأحاديث 105، 1741، 3197، 4662، 5550، 7078، 7447.
(4)
أخرجها البخاري في: 92 - كتاب الفتن: 8 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" 13/ 26 ح 7078 وهذا الموضع الوحيد في البخاري لها يقتضينا أن نفيد منها ومن الحديث، ومن التعقيب على الحديث، قال البخاري رحمه الله حدثنا مسدِّد، حدثنا يحيى حدثنا قرةُ بن خالد حدثنا ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة - وعن رجل آخر هو أفضل في نفسي من عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "ألا تدرون أيُّ يوم هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم - قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه - فقال: "أليس بيوم النحر؟ " قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "أي بلد هذا؟ أليست بالبلدة الحرام؟ " قلنا بلى يا رسول الله، قال: "فإن دماءكم، وأموالكم وأعراضكم .. وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ " قلنا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغ يبلغه من هو أوعى له، فكان كذلك قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. فلما كان يومُ حُرِّقَ ابن الحضرمي حين حرَّقهُ جارية بن قدامة قال: أشرِفوا علي أبي بكرة، فقالوا: هذا أبو بكرة يراك قال عبد الرحمن: فحدثتني أمي عن أبي بكرة أنه قال: "لو دخلوا عليّ ما بَهَشْتُ بقصبة".
بلغت
(1)
".
• وفي رواية: ثم قال: "ألا ليبلغ الشاهد الغائب
(2)
".
• وفي رواية للبخاري: "فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها
(3)
".
وفي رواية: "دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام مثل هذا اليوم وهذا البلد إلى يوم القيامة حتى دفعة يدفعها مسلم مسلمًا يريد بها سوءًا
(4)
حرام".
• وفي رواية قال: "المؤمن حرام على المؤمن، كحرمة هذا اليوم، لحمه عليه حرام أن يأكله أو يغتابه بالغيب، وعرضه عليه حرام أن يخرقه، ووجهه عليه حرام أن يلطمه، ودمه عليه حرام أن يسفكه، وحرام عليه أن يدفعه دفعة تُعْنتُه"
(5)
.
• وفي سنن أبي داود عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حَبْل، معه فأخذها ففزع؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"لا يحل لمسلم أن يُروِّعَ مسلمًا"
(6)
.
• وخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن السائب بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه
(1)
من ذلك ما أخرجه البخاري في: 25 - كتاب الحج: 132 - باب الخطبة أيام منى 3/ 573 من رواية فضيل بن غزوان عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: "يا أيها الناس! أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام قال: فأي شهر هذا، قالوا: شهر حرام قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكها حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا؟ في شهركم هذا، فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم! هل بلغت؟ اللهم! هل بلغت؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما، فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".
(2)
كما أخرجه البخاري في: 97 - كتاب التوحيد: 24 - باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} 13/ 424 ح 7447 من حديث أبي بكرة.
(3)
البخاري في الحدود: باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق 12/ 85 ح 6785.
(4)
أورده الهيثمي في كشف الأستار 2/ 35 ح 1143 تاما وقال في المجمع 3/ 268: رجاله ثقات.
(5)
أورده الهيثمي في المجمع 3/ 268 - 269 عن الطبراني في الكبير من حديث أبي مالك الأشعري وقال: فيه محمد بن إسماعيل بن عباس وهو ضعيف.
ومن حديث كعب بن عاصم الأشعري في 3/ 272 عن الطبراني في الكبير وقال: فيه كرامة بنت الحسين ولم أجد من ذكرها. وفيه: دفعا يتعتعه. وهو في الكبير 19/ 175 - 176 وفي م: "بغته".
(6)
أخرجه أبو داود في سننه: 35 - كتاب الأدب: 93 - باب من يأخذ الشيء على المزاح 5/ 273 - 274 من رواية محمد بن سليمان الأنباري، عن ابن غير، عن الأعمش، عن عبد الله بن يسار، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإسناده صحيح، كما في صحيح الجامع 7658.
وآله وسلم قال: "لا يأخذْ أحدكم عصَا أخيه لاعبًا جادًّا، فمن أخذ عصَا أخيه؟ فَليَرُدها إليه"
(1)
.
• قال أبو عبيد
(2)
يعنى أن يأخذ متاعه لا يريد سرقته، إنما يريد إدخال الغيظ عليه، فهو لاعب في مذهب السَّرِقَةِ جادّ في إدخال الروع والأذى عليه.
• وفي الصحيحين عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يَحزُنُه".
ولفظه لمسلم
(3)
.
• وخرج الطبراني من حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال؟ "لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله يكره أذى المؤمن
(4)
".
• وخرج الإمام أحمد، من حديث ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 221 (الحلبي) من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن عبد الله بن السائب، عن أبيه، عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جادا ولا لاعبا وإذا وجد أحدكم عصا صاحبه فليرددها عليه".
ومن رواية يزيد عن أبي ذئب - به نحوه وفيه: "لَعبًا جادا .. " ومن طريق يحيى بن سعيد، عن ابن أبي ذئب به - نحوه وفيه:"لعبا جادا وإذا أخذ".
وأخرجه أبو داود في السنن: 35 - كتاب الأدب 93 - باب من يأخذ الشيء على المزاح 5/ 273 عن محمد بن بشار عن يحيى وعن سليمان بن عبد الرحمن، عن شعيب بن إسحاق كلاهما عن ابن أبي ذئب - له - بمثل الرواية الأولى عند أحمد، وقال سليمان: لعِبًا ولا جدا
…
فليردها".
والحديث أخرجه الترمذي في: 33 - كتاب الفتن: 3 - باب ما جاء لا يحل لمسلم أن يُروِّع مسلما 4/ 462 ح 2160 من حديث بندار، عن يحيى - به - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره بمثل ما ذكر ابن رجب، ثم عقب عليه بقوله: وفي الباب عن ابن عمر وسليمان بن صرد وجعدة وأبي هريرة.
وهذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي ذئب.
والسائب بن يزيد له صحبة قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وهو غلام، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين ووالده يزيد بن السائب له أحاديث. هو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حديث حسن كما في صحيح الجامع 7578.
(2)
في الغريب 4/ 407 وفيه: "إدخال الأذى والروع عليه".
(3)
صحيح البخاري: 79 - كتاب الاستئذان: 47 - باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة 11/ 82 - 83.
ومسلم في: 39 - كتاب السلام: 45 - باب مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه - 4/ 1748 ح 38 - ( .. ) وهو في مسلم من وجه آخر أيضًا ح 37 - (2184) وفيه: "حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه".
(4)
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 64 من حديث ابن عباس وقال: رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفه، والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير الحسن بن كثير، ووثقه ابن حبان وعبد الوهاب بن الورد اسمه وهيب بن الورد، كما ذكر شيخ الحفاظ المزي.
"لا تُؤْذُوا عبادَ الله، ولا تعيّروهم ولا تطلبُوا عوراتِهِمْ فإنَّه مَنْ طَلَبَ عَورَةَ أخِيهِ المسْلم طَلَبَ الله عَوْرَتَهُ، حتَّى يفْضحَهُ في بَيْتِهِ"
(1)
.
• وفي صحيح مسلم
(2)
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الغيبة فقال: "ذِكْركَ أخاكَ بما يَكْرَهُ " قال: أرأيتَ إن كان فيه ما أقولُ؟ فقال: "إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لما يكن فيه ما تقولُ؛ فقد بَهَتَّه".
فتضمنت هذه النصوص كلها، أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه من قول، أو فعل، بغير حق.
• وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}
(3)
وإنما جعل الله المؤمنين إخوة ليتعاطفوا ويتراحموا.
• وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر
(4)
".
• وفي رواية لمسلم: "المؤمنون كرجلٍ واحد إن اشتْكَى رأسُهُ تَدَاعَى له سَائِرُ الجسَدِ بالحمى والسهر"
(5)
.
• وفي رواية له أيضًا:
(1)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 279 (الحلبي) من طريق محمد بن بكر عن ميمون، عن محمد بن عبادة، عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بالنص الذي ذكره ابن رجب.
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 86 - 87 عن أحمد ورجاله، رجال الصحيح، غير ميمون بن عجلان وهو ثقة.
(2)
أخرجه مسلم في: 45 - كتاب البر والصلة والآداب: 20 - باب تحريم الغيبة 4/ 2001 ح 70 - (2589) من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم
…
الحديث.
فقد طرح الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال: أتدرون ما الغيبة؟ وليس في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سئل كما حكى ابن رجب.
ومعنى: بهته: قلت فيه البهتان وهو الباطل والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره، وأصل البهت: أن يقال له الباطل في وجهه، وهما حرامان لكن تباح الغيبة لِغَرَضٍ شرعي كما في شرح النووي في هذا الموضع.
(3)
سورة الأحزاب: 58.
(4)
أخرجه البخاري 78 - كتاب الأدب: 27 - باب رحمة الناس والبهائم 10/ 438 ح 6011.
ومسلم في: 45 - كتاب البر والصلة والآداب: 17 - باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/ 1999 - 2000 ح 66 - (2586).
واللفظ المذكور لمسلم ما عدا الجملة الأخيرة ففي مسلم " بالسهر: الحمى".
(5)
هو في مسلم عقب الحديث السابق.
"المسلمون كرجلٍ واحد إن اشتكَى عينُهُ اشتكى كلُّه، وإن اشتكى رأسُه اشتكى كلُّه"
(1)
.
• وفيهما عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا
(2)
".
• وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"المؤمن مرآة المؤمن [و] المؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عنه ضيعتَه ويحوطُه مِنْ وَرَائه"
(3)
.
• وخرجه الترمذي
(4)
ولفظه "إن أحَدَكُم مِرْآةُ أخيه، فإن رَأَى بِهِ أذى، فَلْيُمِطهُ عَنْهُ".
قال رجل لعمر بن عبد العزيز: "اجعل كبير المسلمين عندك أبا، وصغيرهم ابنًا، وأوسطَهم أخًا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه؟! ".
• ومن كلام يحيى بن معاذ الرازي:
"ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه؛ فلا تضره، وإن لم تُفْرِحْه، فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمّه".
* * *
(1)
عقب الحديث السابق.
(2)
البخاري في: 78 - كتاب الأدب: 36 - باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا 10/ 449 - 450 ومسلم في الموضع المذكور قبل أحاديثه السابقة ح 65 - (2585).
(3)
رواه أبو داود في: 35 - كتاب الآدب: 57 باب في النصيحة (5) 247 - 218 ح 4918 من طريق الربيع بن سليمان، عن ابن وهب عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رياح، عن أبي هريرة وإسناده حسن؛ راجع صحيح الجامع 6656 والصحيحة 926.
(4)
في: 28 - كتاب البر: الصلة: 18 - باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم 4، 325 - 326 ح 1929، من طريق أحمد بن محمد، عن عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وعقب عليه بقوله: ويحيى بن عبيد الله ضعفه شعبة وفي الباب عن أنس وفي م: "فمن" وهو مخالف لما في الأصول.
الحديث السادس والثلاثون
عَنْ أَبي هُريْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً عَنِ كُرَبِ الدُّنْيَا: نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُربِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ: يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَة، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا: سَتَرَةُ اللهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَريقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا: سَهَّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، ومَا جَلَسَ
(1)
قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله يَتْلُونَ كِتَابَ الله، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللّهُ فِيمَنْ عنْدَهُ، وَمَنْ بَطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* * *
[تخريج الحديث]:
• هذا الحديث خرجه مسلم من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
(2)
.
• واعترض عليه غير واحد من الحفاظ في تخريجه
(3)
.
• منهم أبو الفضل الهروي، والدارقطني، فإن أسباط بن محمد رواه عن الأعمش قال: حُدِّثتُ عن أبي صالح؛ فتبين أن الأعمش لم يسمعه من أبي صالح، ولم يذكره من حدثه عنه.
ورجح الترمذيّ وغيره هذه الرواية
(4)
.
(1)
هكذا في الأصول وفيه مخالفة لما في مسلم: "وما اجتمع".
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 11 - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 4/ 2074 ح 38 - (2699) ومن رواية يحيى بن يحيى التميمي، وأبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن العلاء الهمداني، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
(3)
وأخرجه عقبه من وجوه منها من حديث الأغر أبي مسلم أنه قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد: أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة. . ." الحديث بنحوه.
(4)
فقد روى الترمذي في سننه: 15 - كتاب الحدود: 3 - باب ما جاء في الستر على المسلم 4/ 34 ح 1425 من رواية أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح وذكر حديث مسلم مختصرا وقال: وفي الباب عن عقبة بن عامر، وابن عمر ثم قال عن حديث أبي هريرة: "هكذا روي غير واحد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو رواية أبي عوانة. =
وزاد بعض أصحاب الأعمش في متن الحديث: "ومن أقال مسلمًا أقالَ الله عَثْرَتَهُ
= وروى أسباط بن محمد عن الأعمش، قال: حدثت عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وكان هذا أصح من الحديث الأول حدثنا بذلك عبيد بن أسباط بن محمد، قال: حدثني أبي عن الأعمش بهذا الحديث. أقول: ومع هذا فلا وجه للاعتراض على مسلم؛ ذلك أن مسلما بعد أن أورد الحديث من رواية الأَعمش عن أبي صالح، أورده عقبهُ بما يفسر هذه العنعنة، وقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، وحدثناه نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبو أسامة، قالا: حدثنا الأعمش، حدثنا ابن نمير، عن أبي صالح وفي حديث أبي أسامة، حدثنا أبو صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بمثل حديث أبي معاوية غير أن حديث أبي أسامة ليس فيه ذكر التيسير على المعسر".
وقد أورد الترمذي في السنن: 28 - كتاب البر والصلة: 19 - باب ما جاء في السترة على المسلم 4/ 326 ح 1930 رواية أسباط بن محمد التي أشار إليها ابن رجب، والتي سبق أن أشار الترمذي نفسه إليها، وذلك من رواية عبيد بن أسباط بن محمد القرشي، عن أبيه، عن الأعمش، قال: حدثت عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره من وجه آخر أطول من روايته الأولى وأخصر من رواية مسلم، ثم قال: وفي الباب عن ابن عمر وعقبة بن عامر، وهذا حديث حسن وقد روى أبو عوانة وغير واحد هذا الحديث عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ولم يذكر فيه حدثت عن أبي صالح".
والمفاد من صنيع مسلم والترمذي أمور:
الأول: أن الكثير قد رووا هذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح بلا واسطة بينهما.
والثاني: أن إطباق هؤلاء على رواية الحديث بدون واسطة بين الأعمش وأبي صالح قاض بأن الأعمش قد سمع هذا الحديث من أبي صالح دون واسطة.
والثالث: أن رواة الصحيح لو شاموا في الحديث برق تدليس ما أوردوه في كتبهم، كيف وهو موجود في صحيح مسلم!؟.
والرابع: أن ما ورد من تحديث الأعمش بالحديث عن أبي صالح بواسطة صحيح أيضًا بدليل تفسير مسلم لذلك وإيضاحه بأن المحدث للحديث عن أبي صالح للأعمش إنما هو ابن نمير.
والخامس: أنه إذا أورد الحديث بالواسطة بين الراويين مرة يصرح فيها بالتحديث، وبدونها مرة أخرى بالعنعنة فلا يعني هذا دائمًا أن في الحديث تدليسًا أو انقطاعًا، سيما إذا كانت رواية العنعنة من طريق الكثرة أو رواة الصحيح.
والسادس: أنه إذا كان الأمر كذلك فقد صح الأمران معًا: أن الأعمش رواه عن طريق ابن نمير عن أبي صالح وأنه رواه عن أَبي صالح.
ومتى صحت الروايتان فقد وجب التوفيق، وقد كفانا مؤنته المباركفوري في شرحه للترمذي 3/ 124 حيث قال تعليقًا على الحديث ورواية الأعمش: حدثت عن أبي صالح: "وهذا يدل على أن بين الأعمش وأبي صالح واسطة ولم يسمع هذا الحديث منه، ولم يذكر مَنْ حدثه عنه (وقد عرفنا من مسلم أنه ابن نمير) وقد روى أبو عوانة وغير واحد هذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما بينه الترمذي، وهذا يدل على أن الأعمش سمع هذا الحديث من أبي صالح بغير واسطة فالتوفيق أن الأعمش رواه عنه بواسطة، ثم لقيه فسمعه منه من غير واسطة والله أعلم".
فإذا أضفنا إلى هذا أن مسلما إنما بدأ بحديث الأعمش عن أبي صالح ثم أورد تحديث ابن نمير للأعمش بحديث أبي صالح في المتابعات تأكد لنا صحة رواية الحديث بدون واسطة لا سيما في ضوء ما ذكره المباركفوري، وقطعت جهيزة قول كل معترض!
وحديث الأعمش عن أبي صالح؛ صحيح إذًا.
يَوْمَ القِيَامَةِ"
(1)
.
• وخرجا في الصحيحين من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"المسْلمُ أخو المسْلِم لا يظلِمُهُ ولا يُسْلِمُه ومَنْ كان في حاجَةِ أخيهِ كان الله في حاجته، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلم كُرْبة فَرَّجَ الله عَنْه كُرْبة من كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَة وَمَنْ سَتَرَ مُسْلمًا سَتَرَهُ اللّهُ يَوْمَ القيامة"
(2)
.
• وخرج الطبراني من حديث كعب بن عُجْرَةَ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من نَفَّس عن مُؤمِنٍ كُرْبَةً من كُرَبِه، نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن سَتَر على مؤمن عورته، سَتَر الله عورته، ومن فرَّجَ عن مُؤمن كربة فرَّج الله عنه كربته"
(3)
.
• وخرج الإمام أحمدُ من حَدِيث مَسْلَمَةَ بنِ مَخْلد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من ستر مسلمًا في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن نَجَّى مَكْرُوبًا، فَكَّ الله عنْه كُرْبَةً من كُرَبِ يَوْمِ القيامة، وَمَنْ كان في حَاجةِ أخِيه، كانَ اللهُ في حَاجتِه"
(4)
.
* * *
[من نفس عن مؤمن كربة]:
• فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من نَفَّسَ عنَ مؤمِنٍ كُرْبَةً من كُربِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً من كرب يَوْم القِيَامَةِ".
(1)
أورده أحمد بن حنبل في المسند 2/ 252 (الحلبي) من رواية يحيى بن معين، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقال عثرة أقاله الله يوم القيامة".
(2)
أخرجه البخاري في: 46 - كتاب المظالم: 3 - باب لا يظلم المسلِمُ المسلمَ ولا يسلمه 5/ 97 ح 2442 وفي: 89 - كتاب الإكراه: 7 - باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه 12/ 323 ح 6951 من حديث ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر بنحو ما أورد ابن رجب في الموضع الأول، ومختصرًا في الموضع الثاني وأخرجه مسلم في: 45 - كتاب البر والصلة والآداب 15 - باب تحريم الظلم 4/ 1996 ح 58 - (2580) بمثل ما أورد ابن رجب؛ فاللفظ المذكور لمسلم.
وقد سقط من الأصول لفظ كربة في قوله ومن فرج عن مسلم كربة وهي في الصحيحين كليهما فلذلك أثبتناها.
(3)
أورده الهيثمي في المجمع 8/ 193 من حديث كعب وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه شعيب بياع الأنماط، وهو مجهول وهو في الكبير 19/ 158 من طريق ليث بن أبي سليم وفيه ما فيه.
(4)
حديث صحيح أخرجه أحمد في المسند 4/ 104 (الحلبي) وأورده الهيثمي في المجمع 6/ 246 من حديث مسلمة وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرتِ النُّصوصُ بهذا المعنى، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"إنما يَرْحَمُ الله من عباده الرحماء"
(1)
.
وقوله: "إنّ الله يُعذِّبُ الذينَ يُعَذبُونَ النَّاسَ في
(2)
الدُّنْيَا".
والكُرْبَة: هي الشدة العظيمة التي توقع صَاحِبها في الكَرْب، وتنفيسها أن يخفف عنه منها، مأخود من تنفس الخناق كأنه يرخي له الخناق حتى يأخذ نَفَسًا.
والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن يزيلَ عنه الكربة فتنفرجَ عنه كُربَتُه، ويزولَ هَمُّهُ وغمّه.
* * *
[جزاء التنفيس والتفريج]:
فجزاء التنفيس التنفيس وجزاء التفريج التفريج.
(1)
هذا جزء حديث أخرجه البخاري في: 23 - كتاب الجنائز: 32 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته 3/ 151 ح 1284 من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه: إن ابنا لي قبض، فائتنا، فأرسل يقرئ السلام، ويقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٍّ عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع قال: حسبته أنه قال: كأنها شَنَّ ففاضت عيناه، فقال سعد يا رسول الله! ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" وانظره في الأحاديث 5655، 6607، 7277، 7448. وأخرجه مسلم في: 11 - كتاب الجنائز: 6 - باب البكاء على الميت 2، 635 - 636 ح 11 - (923).
والقعقعة حكاية حركة الشيء يسمع له صوت، والشَّنُّ: القربة البالية، والمعنى: وروحه تضطرب وتتحرك لها صوت وحشرجة كصوت الماء إذا ألقي في القربة البالية.
وانظر باقي تخريج الحديث في الموسوعة عن النسائي وأبي داود وأحمد والبيهقي والطبراني والزبيدي وابن أَبي شيبة وغيرهم.
(2)
أخرجه مسلم في 45 - كتاب البر والصلة والآداب 33 - باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: مر هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام، قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ أَشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا 4/ 2018 وأعقبه برواية عن جرير زاد فيها: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين فدخل عليه فحدثه، فأمر بهم فحلوا" وفي هذا قيام من هشام بن حكيم بن حزام بأمور:
1 -
إبلاغ السنة وتوظيف هذا الإبلاغ في إجراء حكيم تمس الحاجة إليه.
2 -
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يكون في إطار القواعد والآداب الإسلامية فسوف يفيد مع الحاكم، كما سيؤتي ثماره مع أفراد المجتمع؟!.
3 -
إحسان التعبير عن الغيرة وقد رفق هشام بعمير، وحادثه بينه وبينه فيما يشبه المناجاة، ونصحه رفقًا به، ويبدو أن عميرًا حين لمس منه فرط حرصه على إحسان علاقته بالله وبالناس ثم حين لمس أن ما يقوم به جنوده خطأ لا يقره الإسلام، ولا تحمد عاقبته أَصاخ السمع وأوقف التعذيب، وأطلق الوثاق؟!.
• كما في حديث ابن عمر. وقد جُمع بينهما في حديث كعْب بن عُجْرة.
• وخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "أيُّما مُؤمِنٍ أَطْعَمَ مؤمنًا على جُوعٍ؛ أطْعَمَهُ الله يوم القيامة مِن ثمار الجنَّة، وأيُّما مُؤمِن سَقَى مُؤمِنًا عَلَى ظَمَأ؛ سَقَاهُ الله يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ الرحِيقِ المخْتُومِ، وأَيُّمَا مؤمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ؛ كَسَاهُ اللهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّة"
(1)
.
• وخرجه الإمام أحمد بالشك في رفعه
(2)
، وقيل إن الصحيح وقفه.
• وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال: "يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قطّ، وأجْوَعَ ما كانوا قطُّ، وأَظْمَأَ مَا كَانُوا قَطُّ، وأنْصَبَ ما كانوا قط؛ فمن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن أطعم لله عز وجل أطعمه الله، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله، ومن عفا لله عز وجل أعفاه الله"
(3)
.
• وخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعًا أن رجلًا من أهل الجنة يُشْرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار: يا فلان! هل تعرفني؟ فيقول: لا والله! ما أعْرِفُكَ، مَنْ أنتَ؟ فيقول: أنا الذي مررتَ بي في دار الدنيا فاستسقيتني شَرْبةً من ماء؛ فسقيتُك قال: قد عرفتُ، قال: فاشْفَعْ لِي بها عنْدَ رَبِّكَ، قال: فيَسْأَلُ الله تَعَالى، فيقولُ: شَفِّعْنِي فيه، فيأمرُ به فَيُخْرَجُ من النار
(4)
.
* * *
[حكمة الاقتصار على كربة من كرب يوم القيامة]:
• وقوله: "كُربة من كُرَبِ يَوْم القِيَامَةِ" ولم يقل من كُرَب الدّنيا والآخرة كما قال
(5)
في التيسير والستر، وقد قيل في مناسبة ذلك أن الكُرَبَ هي الشدائد العظيمة، وليس كل أحد يحصل له ذلك في الدنيا بخلاف الإعسار والعَوْرات المحتاجة إلى الستر؛ فإن
(1)
الترمذي في جامعه: 38 - كتاب صفة القيامة: 18 - باب حدثت محمد بن حاتم المؤدب 4، 633 ح 2449 من عمَّار بن محمد، عن أبي الجارود، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري فذكره بمثله ثم عقب عليه بقوله هذا حديث غريب، وقد روي هذا عن عطية، عن أبي سعيد، موقوف، وهذا أصح عندنا وأشبه. وحديث كعب مضى ص 1003.
(2)
في المسند 3/ 13 - 14 وفيه قال الإمام أحمد: "أراه قد رفعه".
(3)
وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 2/ 66 عن ابن أبي الدنيا في اصطناع المعروف موقوفًا على ابن مسعود ومرفوعًا باللفظ ذاته، زاد فيه:"ومن عمل لله أغناه الله".
(4)
وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 2/ 69 - 70 عن ابن ماجه والأصبهاني بسياق أتم وهو عند ابن ماجه في السنن 2/ 1215 بنحوه وفي إسناده يزيد الرقاشي؛ وهو ضعيف.
(5)
م: "قيل".
أحدًا لا يكاد يخلو في الدنيا
(1)
من ذلك ولو بتعسر بعض
(2)
الحاجات المهمة.
• وقيل لأن كُرَبَ الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء فادخر الله جزاءَ تنفيسِ الكرب عنده لينفس به كُرَبَ الآخرة.
* * *
[ودليل ذلك]:
• ويدل على ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيُسمِعهم الداعي، ويَنْفُذُهم البصر، وتدنو الشمس منهم فيبلغ الناس من الغم والكرب
(3)
مالا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما قد بلغكم؟
(4)
ألا تنتظرون من يشفع لكم إلى
(5)
ربكم؟ وذكر حديث الشفاعة
(6)
.
• خرجاه بمعناه من حديث أبي هريرة.
وخرجا من حديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تحشرون
(7)
حُفَاةً عُرَاةً غُرُلًا قالت: فقلت: يا رسولَ الله! الرِّجالُ والنساءُ يَنْظُرُ بعضهم إلى بعض؟
(8)
فقال: الأمْرُ أشدُّ مِن أنْ يُهِمَّهُمْ ذلك
(9)
".
• وخرجا من حديث أبن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
(10)
قال: يقوم أحدهم في الرشح إلى أنصاف أذُنَيْه
(11)
.
(1)
ليست في م.
(2)
ليست في م.
(3)
م: "من الكرب والغم".
(4)
ليست في م.
(5)
م: "عند ربكم" وما آثرناه هو الموافق لما في الأصول.
(6)
بسياقه كاملًا أخرجه البخاري في: 60 - كتاب أحاديث الأنبياء: 3 - باب قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 6، 371 ح 3340 وطرفاه في 3361، 4712.
وأخرجه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 84 - باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1، 184 - 186 ح 327 - (194). كلاهما من حديث أبي هريرة.
(7)
هذا هو لفظ البخاري ولفظ مسلم يحشر الناس وفي م: "تحشر الناس".
(8)
م: "بعضهم بعضا" وما آثرناه هو الموافق لما في الصحيحين.
(9)
أخرجه البخاري في صحيحه: 81 - كتاب الرقاق: 45 - باب الحشر 11، 377 - 378 ح 6527 وعنده:"أشد من أن يهمهم ذاك".
ومسلم في صحيحه: 51 - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها 14 - باب فناء الدنيا 4/ 2194 ح 56 - (2859). والغُرْل جمع أغرل وهو الذي لم يختن وبقيت معه غرلته وهي الجلدة التي تقطع في الختان؛ يحشرون كما خلقوا لا يضيفون إلى أبدانهم شيئًا، ولا يفقدون منها شيئًا، حتى الغرلة تكون معهم.
(10)
سورة المطففين: 6.
(11)
البخاري في: 65 - كتاب التفسير: 83 - سورة ويل للمطففين 8/ 696.
ومسلم في: 51 - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: 15 - باب صفة يوم القيامة 4/ 2195.
[الناس في عرق الآخرة]:
• وخرجا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عَرَقُهُمْ في الأرض سَبْعين ذِرَاعًا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم".
ولفظه للبخاري
(1)
ولفظ مسلم.
"إن العرق ليذهب في الأرض سبعين ذراعًا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم"
(2)
.
• وخرج مسلم من حديث المقداد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدرَ ميل أو ميلين؛ فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم:
• فمنهم من يأخذهُ إلى عقبيه.
• ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه.
• ومنهم من يأخذه إلى حَقْويْهِ.
• ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا
(3)
".
* * *
[والأعمال الصالحة هي الظلال يومئذ]:
• وقال ابن مسعود
(4)
: "الأرض كُلّها يوم القيامة نار، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها فيعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قدر قامة، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه
(1)
البخاري في: 81 - كتاب الرقاق: 47 - باب قول الله تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} 11/ 392 ح 6531.
وفي "ا": "سبعين باعًا" وهو مخالف لما في الصحيح.
(2)
مسلم في: 51 - كتاب صفة الجنة: 15 - باب صفة يوم القيامة 4/ 2196 ح 61 - (2863).
(3)
أخرجه مسلم عقب الحديث السابق 62 - (2864) من حديث سليم بن عامر، عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل" قال سليم بن عامر: فواللّه ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين. قال: "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومن يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا".
وثمت بعض الاختلافات في الألفاظ بين ما في الصحيح، وبين ما نسب إليه كما ترى.
(4)
أورده ابن حجر في الفتح 11/ 394 عن الطبراني والبيهقي وأبي يعلى بنحوه.
وما مسه الحساب، قال: فمِمَّ ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما يرى الناس يصنع بهم.
• وقال أبو موسى: الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة وأعمالهم تُظِلُّهُم أو تُضْحيهمْ
(1)
.
• وفي المسند من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس"
(2)
.
* * *
[ومن يسر على معسر]:
• قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يَسر علَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللّهُ عَلَيْهِ في الدنْيَا والآخرة).
هذا أيضًا يدل على أن الإعسار قد يحصل في الآخرة.
• وقد وصف الله يوم القيامة؛ بأنه يوم عسير، وأنه على الكافرين غَيْرُ يَسير.
فدل على أنه يُيسَّر على غيرهم.
• وقال: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}
(3)
.
والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين: إما بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجب كما قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
(4)
وتارة بالوضع عنه إن كان غريمًا؛ وإلا فبإعطائه ما يزول له إعْسَارُهُ.
وكلاهما له فضلٌ عظيمٌ.
[وآثار ذلك]:
• وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان تاجر يداين الناسَ، فإذا رأى معسرًا قال لصبيانه: تجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يَتَجَاوَزَ عنا؛
(1)
أورده ابن حجر في الموضع نفسه عن البيهقي في البعث بسند قوي.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 147 - 148 (الحلبي) من رواية علي بن إسحاق، عن عبد الله بن المبارك، عن حرملة بن عمران، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو قال يحكم بين الناس".
قال يزيد وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا. وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 110 وأفاد أن أحمد رواه بإسناد رجاله ثقات.
(3)
سورة الفرقان: 26.
(4)
سورة البقرة: 280.
فتجاوز الله عنه
(1)
.
• وفيهما عن حذيفة وأبي مسعود الأنصاري، سمعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: مات رجل، فقيل له:[ما كنت تعمل؟] فقال: كنت أبايع الناس؛ فأتجاوز عن الموسر، وأخفف عن المعسر
(2)
.
• وفي رواية قال: كنت أنظر المعسر وأتجوّز في السكة أو قال في النقد: فغفر له
(3)
.
• وخرجه مسلم من حديث أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
• وفي حديثه: فقال الله: "نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه
(4)
".
• وخرَج أيضًا من حديث أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من سره أن ينجيه الله من كُرَب يوَم القيامة فَلْيُنَفِّسْ عن معسر أو يضع عنه"
(5)
.
• وخرج أيضًا من حديث أبي اليَسَر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من أنظر مُعْسِرًا أو وَضَعَ عنه؛ أظله الله في ظلِه، يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ"
(6)
.
• وفي المسند عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"مَنْ أراد أن تُستَجَابَ دعوتُهُ و [أن] تُكْشَفَ كُرْبَتُه فليفرِّجْ عن مُعْسِرٍ"
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري في: 34 - كتاب البيوع: 18 - باب من أنظر معسرًا 4/ 308 - 309 ح 2078 بمثله إلا أن فيه: لفتيانه وفي: 60 - كتاب أحاديث الأنبياء: 54 - باب حدثنا أبو اليمان 6/ 514 ح 3480 بنحوه.
ومسلم في: 22 - كتاب المساقاة: 6 - باب فضل إنظار المعسر 3/ 1196 ح 31 - (1562) بنحوه.
(2)
راجع ما أخرجه البخاري في: 34 - كتاب البيوع 17 - باب من أنظر موسرًا 4/ 307 ح 2077.
وفي: 43 كتاب الاستقراض 5 - باب حسن التقاضي 5/ 58 ح 2391 وفي 60: كتاب أحاديث الأنبياء: 50 - باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/ 494 ح 3451.
وما أخرجه مسلم في: 22 كتاب المساقاة: 6 - باب فضل إنظار المعسر 3/ 1194 - 1196 ح 26 - (1560)، 27 - (. . .)، 28 - (. . .)، 29 - (. . .)، 30 - (1561) وفي ا، ب:"فأتجوز".
(3)
هو حديث رقم 28 - (. . .) في المجموعة السابقة.
(4)
هو حديث رقم 30 - (1561) في الموضع المذكور.
(5)
هو حديث رقم 32 - (1563) في الموضع المذكور بمثل ما أورد ابن رجب.
(6)
أخرجه مسلم في: 53 - كتاب الزهد والرقائق: 18 - باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر 4/ 2301 - 2302 ح 74 - (3006) ضمن سياق وقصة.
حديث صحيح.
(7)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 23 (الحلبي) من طريق محمد بن عبيد، عن يوسف بن صهيب، عن زيد العمى، عن ابن عمر فذكره.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 133 من حديث ابن عمر وقال: رواه أحمد وأبو يعلى إلا أنه قال: من يسر على معسر، ورجال أحمد ثقات.
[ومن ستر مسلمًا]:
• وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة". هذا مما تكاثرت النصوص بمعناه.
[ومن كشف عورة أخيه المسلم وآثار ذلك]:
• وخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته"
(1)
.
• وخرج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "مَنْ ستر مؤمنًا في الدنيا
(2)
على عورة ستره الله عز وجل يوم القيامة"
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه في السنن: 20 - كتاب الحدود: 5 - باب الستر على المؤمن ودفع الشبهات 2/ 850 ح 2546 من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، عن محمد بن عثمان الجمحي، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس. فذكره - بمثل سياق ابن رجب.
وقد أورده صاحب الزوائد في مصباح الزجاجة 2/ 70 ح 905 وعلق عليه بقوله: "هذا إسناد فيه مقال؛ محمد بن عثمان بن صفوان الجمحي قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث، وقال الدارقطني: ليس بقوى، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات، وله شاهد من حديث أبي هريرة، رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن ورواه الترمذي من حديث ابن عمر".
وكأنه يميل إلى تحسين الحديث بأمرين:
الأول: أن محمد بن عثمان مختلف فيه.
الثاني: أن للحديث شواهد في الصحيح وعند أصحاب السنن.
(2)
ليست في م؛ ففيها: من "ستر على. . .".
(3)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 153، 159 (الحلبي) بنحوه في الأول وبمثله في الثاني.
والأول أخرجه من رواية سفيان، عن ابن جريج قال: سمعت أبا سعيد يحدث عطاء قال: رحل أبو أيوب إلى عقبة بن عامر فأتى مسلمة بن مخلد فخرج إليه قال: دلوني فأتى عقبة فقال: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر على مؤمن ستره الله يوم القيامة، فأتى راحلته فركب ورجع.
وأخرجه في الموضع الثاني، عن محمد بن بكر قال: قال ابن جريج: وركب أبو أيوب إلى عقبة بن عامر إلى مصر فقال: إني سائلك عن أمر لم يبق من حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا وأنت كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ستر المؤمن؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر مؤمنا في الدنيا على عورة .. فذكره ثم قال: فرجع إلى المدينة فما حل رحله يحدث هذا الحديث.
وقد أورده الهيثمي في المجمع 1/ 133 - 134 عن الطبراني في الأوسط والكبير وقال: رجال الطبراني رجال الصحيح. وعن أحمد في الموضع الثاني وقال: رواه أحمد هكذا منقطع الإسناد.
ولم يشر إلى إسناد الموضع الأول وهو متصل وانظر الرحلة 34، 35 والأسماء المبهمة 37 للخطيب البغدادي وهوامشهما.
• وقد روي عن بعض السلف أنه قال: "أدركتُ قومًا لم يكن لهم عُيوبٌ فذكروا عيوبَ الناسِ، فذكر الناس لهم عُيُوبًا وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ فكفّوا عن عيوب الناس فَنُسِيَتْ عيوبُهم".
أو كما قال.
• وشاهد هذا الحديث حديث أبي بَرْزة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابُوا المسلمين ولا تَتَّبِعُوا عوراتهم فإِنه من اتّبع عوراتهم تَتَبَّع الله عورَته، ومن تَتَبَّع الله عورتَهُ يَفْضَحْه في بَيْتِهِ".
خَرَّجَهُ الإمامُ أَحمدُ وأبو داود
(1)
.
• وخرج الترمذي معناه من حديث ابن عمر
(2)
.
[الناس في المعاصي قسمان]:
• واعلم أن الناس على ضربين.
[الأول: المستور]:
• أحدهما: من كان مستورًا لا يُعْرَفُ بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 421، 424 (الحلبي) وأبو داود في السنن: 35 - كتاب الأدب 40 - باب الغيبة 5/ 194 - 195 ح 4880 كلاهما من رواية الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة.
قال المنذري: سعيد بن عبد الله بن جريج هو مولى أبي برزة، بصري قال عنه أبو حاتم الرازي هو مجهول وقال ابن معين: ما سمعت أحدًا روى عنه إلا الأعمش من رواية أبي بكر بن عياش. (هامش السنن) لكن أورده الشيخ ناصر الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته 2/ 1322 - 1323 ح 84 وصرح بصحته وزاد نسبته إلى أصحاب السنن الأربعة من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الترمذي في: 28 - كتاب البر والصلة: 85 - باب ما جاء في تعظيم المؤمن 4/ 378 ح 2032 من رواية الحسين بن واقده عن أوفى بن دلهم، عن نافع، عن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: "يا معشر من قد أسلم بلسانه؛ ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله".
قال: ونظر ابن عمر يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: "ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد.
وروي إسحاق بن إبراهيم السمرقندي عن حسين بن واقد نحوه.
وروي عن أبي برزة الأسلمي عند النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا اهـ. وهو إيماء منه إلى أن حديث ابن عمر شاهد لحديث أبي برزة.
زلة؛ فإنه لا يجوز كشفها ولا هتكها
(1)
ولا التحدّثُ بها؛ لأن ذلك غِيبَةٌ محرَّمة.
• وهذا هو الذي وردت فيه هذه النصوص؛ وفي ذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
(2)
.
• والمراد: إشاعة
(3)
الفاحشة على المؤمن المستتر
(4)
فيما وقع منه، أو اتُّهم به وهو بريء
(5)
منه؛ كما في قصة الإفك.
• قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة؛ فإن ظهور معاصيهم، عيب في أهلِ الإسلام، وأولى الأمور: سترُ العيوب.
ومثل هذا لو جاء تائبًا نادمًا وأقر بحد
(6)
ولم يفسره، لم يستفسر؛ بل يؤمر بأن يرجعَ ويستر
(7)
نفسه كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماعزًا والغامدية وكما لم يستفسر الذي قال له [أصبتُ حدَّا فَأقِمْهُ عَلَيَّ]
(8)
.
• ومثل هذا لو أوخذ بجريمته، ولم يَبْلُغ الإمامَ؛ فإنه يُشْفَعُ له حتَّى لا يَبْلُغَ الإمام.
• وفي مثله جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أقِيلُوا ذوِي الهيآتِ عَثَرَاتِهمْ".
• خرجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة
(9)
.
[والثاني: المجاهر بالمعاصي]:
• والثاني: مَنْ كان مشتهرًا بالمعَاصي، مُعْلِنا بها ولا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له؛ فهذا هو الفاجر المعلن، وليس له غِيبة، كما نص على ذلك الحسنُ البَصْرِي وغيرُه.
(1)
م: "هتكها ولا كشفها".
(2)
سورة النور: 19.
(3)
في ا، د:"ومن جملة العذاب الأليم إشاعة الفاحشة .. " وفيهما خطأ بيّن.
(4)
ليست في "ا"، ولا في م.
(5)
م: "مما هوة بريء منه".
(6)
في م: "بحمده".
(7)
"ا": ويستتر.
(8)
راجع في هذا وفيما قبله ما أورده أبو داود في: 32 - كتاب الحدود 24 - باب رجم ماعز بن مالك و: 25 - باب المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة 4/ 573 - 590 وما ذكر بهامشه.
(9)
أخرجه أبو داود في السنن: 32 - كتاب الحدود: 4 - باب في الحد يشفع فيه 4/ 540 ح 4375 من رواية جعفر بن مسافر، ومحمد بن سليمان الأنباري، عن ابن أبي فديك، عن عبد الملك بن زيد، عن محمد بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، فذكره بمثله.
ونسبه المنذري للنسائي أيضًا وقال: في إسناده عبد الملك بن زيد العدوي، وهو ضعيف الحديث وأورده ابن حبان في صحيحه (94) بإسناد حسن لغيره، وانظر باقي تخريجه بهامشه.
• ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتُقَام عليه الحدود.
• وصرح بذلك بعضُ أصحابنا، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "واغد يا أنيس! على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها
(1)
".
• ومثل هذا لا يُشْفَعُ له إذا أخِذَ ولو لم يَبْلُغ السلطان، بل يُترك حتى يُقامَ عليه الحد؛ لينكفَّ شره
(2)
ويرتدعَ به أمثاله.
• قال مالك: مَنْ لم يُعرَفْ منه أذى للناس، وإنما كانت منه زلة، فلا بأس أن يشفع له، ما لم يبلغ الإمام.
وأما من عُرفَ بشر أو فسادٍ؛ فلا أُحبّ أن يشْفَع له أحد، ولكن يُترك حتى يُقامَ عليه الحد.
حكاه ابنُ المنذر وغيره.
• وكره الإمامُ أحمد رفعَ الفساق إلى السلطان بكل حال.
وإنما كرههه لأنهم غالبًا لا يقيمون الحدودَ على وجهها، ولهذا قال: إن علمتَ أنه يُقيم عليه الحدَّ فارفعه، ثم ذكر أنهم ضربوا رجلًا فمات، يعني: لم يكن قتله جائزًا.
[ماذا لو تاب أحدهما؟]:
ولو تاب أحد من الضرب الأول كان الأفضلُ له أن يتوبَ فيما بينه وبين الله تعالى، ويَسْتُرَ على نفسه.
(1)
كما في حديث مسلم عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: إن رجلًا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قل" قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم ردّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". فأمر بها رسول الله فرجمت.
29 -
كتاب الحدود: 5 - باب من اعترف على نفسه بالزنى 3/ 1324 ح 25/ (1697/ 1698) وانظر في هذا وفيما قبله هذا الباب كله 3/ 1318 - 1326 والبخاري في الشروط باب الشروط التي لا تحل في الحدود وفي الصلح: باب إذا اصطلحوا على جور فالصلح مردود، وفي الأيمان والنذور: باب كبف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحدود: باب الاعتراف بالزنا، والترمذي في الحدود: باب الرجم على الثيب ح 1433 والنسائي في القضاء: باب صون النساء عن مجلس الحكم ح 5412 وابن ماجه في الحدود: باب حد الزنا ح 2529.
(2)
م: "لينكشف ستره".
• وأما الضرب الثاني: فقيل: إنه كذلك، وقيل: بل الأَولَى له أن يأتي الإمام ويُقِرُّ على نفسه مما يوجب الحد، حتى يُطهِّرَهُ.
* * *
[والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه]:
• قوله: "والله في عَوْن العَبْدِ مَا كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ".
وفي حديث ابن عمر "ومَنْ كان في حاجَة أخيه، كان الله في حاجته".
• وقد سبق في شرح الحديث الخامس والعشرين، والسادس والعشرين فضلُ قضاء الحوائج والسعي فيها.
• وخرج الطبراني من حديث عمر مرفوعًا: "أفضلُ الأعمال: إدخالُ السرورِ على المؤمِنِ، كسَوْتَ عورته، أو أشبعتَ جَوْعَتَهُ، أو قَضَيتَ له
(1)
حاجة".
• وبعث الحسن البصري قومًا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: "مُرُّوا بثابت البُنَاني فخذوه معكم، فأتَوْا ثابتًا، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال: قولوا له: يا أعمش! أما تعلم أن مَشْيَك في حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك من حجة بعد حجة؟!.
فرجعوا إلى ثابت فترك اعتكافه وذهب معهم.
• وخرج الإمام أحمد من حديث ابنة
(2)
الخبَّاب بن الأرتّ قالت: خرج خبّاب في سَرِيّة، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعاهدنا حتى يحلب عنزًا لنا في جَفْنَةٍ لنا فتمتلئ حتى تفيض، فلما قدم خباب حلبها فعاد حلابها إلى ما كان.
• وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يَحْلُبُ للحيّ أغنامهم، فلما استخلَفَ قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر: بلى! وإني لأرجو أن لا يغيرني ما
(1)
م: "حاجته" والحديث بهذا الضبط أورده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 394 عن الطبراني في الأوسط، ثم عزاه لأبي الشيخ من حديث أبن عمر بنحوه وسكت عنهما. وأورده الهيثمي في المجمع 3/ 130 عن الطبراني في الأوسط من حديث عمر بإسناد ضعيف.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 111 (الحلبي) من رواية وكيع، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد الفائشي، عن بنتٍ لخبّاب .. الحديث.
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 312 وقال: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح، غير "عبد الرحمن بن زيد الفايشي وهو ثقة"؛ فالحديث حسن.
دخلتُ فيه عن شيء كنتُ أفعله أو كما قال.
وإنما كانوا يقومُون بالحلاب؛ لأن العرب كانت لا تحلُبُ النِّسَاءُ منهمُ، وكانوا يستقبحون ذلك، وكان الرجال إذا غابُوا احتاج النساء إلى من يحلُبُ لهنَّ.
• وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لقوم: "لا تسقوني حَلَبَ امرأة"
(1)
وكان عمر يتعاهد الأرامل؛ فيستقي لهم الماء بالليل.
• ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة؛ فدخل إليها طلحة نهارًا فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها ما يصنع هذا الرجل عندك قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني، ويُخْرِجُ عَني الأذى فقال: ثَكِلَتْكَ أمكَ يا طلحة! أَعثراتِ عمر تتبع
(2)
.
• وكان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهن كل يوم فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن.
• وقال مجاهد: صحبت ابنَ عمر في السفر لأخدُمه فكان يخدُمني
(3)
.
وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه في السفر أن يخدُمهم.
• وصحب رجل قومًا في الجهاد فاشترط عليهم أن يخدُمهم؛ فكان إذا أراد أحد منهم أن يغسل رأسه أو ثوبه قال: هذا من شَرْطي، فيفعله؛ فمات، فجردوه للغسل فرأوا على يده مكتوبًا من أهل الجنة، فنظروا فإذا هي كتابةٌ بين الجلد واللحم.
• وفي الصحيحين عن أنس قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السفر فمنَّا الصائم، ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلًا في يوم حارٍّ أكْثَرُنَا ظِلًّا صاحبُ الكساء، ومنا من يَتَّقي الشَّمْسَ بيده قال: فسقط الصُّوام، وقام المفطِرُونَ فَضَرَبُوا الأبنية، وَسَقَوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ذهَبَ المفْطِرُونَ اليَوْمَ بالأجْر
(4)
".
(1)
الطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 28 بلفظ: "حلبة" وهو في المجمع 5/ 83 عن البزار بإسناد ضعيف جدًّا.
(2)
رواه أبو نعيم في الحلية 1/ 47 - 48 عن محمد بن معمر، عن يحيى بن عبد الله، عن الأوزاعي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في سواد الليل فرآه طلحة، الحديث بنحوه وإسناده منقطع بين الأوزاعي وعمر كما ترى.
(3)
رواه أبو نعيم في الحلية 3/ 285 - 286 بإسناد متصل عن أبي حامد بن جبلة عن محمد بن إسحاق
…
(4)
أخرجه البخاري في: 56 - كتاب الجهاد: 71 - باب فضل الخدمة في الغزو 6/ 84 ح 2890، ومسلم - واللفظ المذكور له - في: 13 - كتاب الصيام: 16 - باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل 2/ 788 ح 100 - (1119). وأخرجه عقبه من وجه آخر عن أنس ح 101 - (. . .).
• ويروى عن رجل من أسلم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بطعام في بعض أسفاره، فأكل منه، وأكل أصحابُهُ، وقبَض الأسلمي يده فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مالك؟ قال: إني صائم قال: فما حملك على ذلك؟ قال: كان معي ابناي
(1)
رجلان يرحلان بي ويخدماني فقال: "ما زال لهم الفضل عليك بعد".
• وفي مراسيل أبي داود عن أبي قلابة أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدموا يثنون على صاحب لهم خيرًا قالوا: ما رأينا مثل فلان قطّ! ما كان في مسير؛ إلا كان في قراءة، ولا نزلنا منزلًا؛ إلا كان في صلاة، قال: فمن كان يكفيه ضيعته حتى ذكر؛ مَنْ كان يَعْلِفُ جَمَلَه أو دابته؟ قالوا نحن، قال: فكُلُّكُمْ خَيْر منه
(2)
.
* * *
[العلم طريق الجنة]:
• قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة".
وقد رَوى هذا المعنى أيضًا أبو الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(3)
.
وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخلُ فيه سلوكُ الطريق الحقيقي، وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويدخل فيه سلوكُ الطرق المعنوية، المؤدية إلى حصول العلم، مثل حفظه، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتفهم له، ونحو ذلك من الطرق المعنوية التي يتوصل بها إلى العلم.
* * *
• وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "سهل الله له طريقًا إلى الجنة" قد يراد بذلك أن الله يسهل له العلم الذي طلبه، وسلك طريقه وييسره عليه فإن العلم طريق موصل إلى الجنة.
(1)
م: "ابنان يرحلان لي".
(2)
مراسيل أبي داود 4/ 295 ح 273 وفيه: "ما كان يسير إلا في قراءة
…
صنعته - ويبدو أنها تحريف - حتى ذكر؟ ومن" ولا داعي لهذا الاستفهام ويذكر بدله نقطتان هكذا: كي يستقيم المعنى.
(3)
رواه أبو داود في السنن 2/ 341 ح 3641 وابن ماجه في السنن 1/ 81 ح 223 بإسناد صحيح وانظر صحيح ابن ماجه 1/ 43.
وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
(1)
.
• قال بعض السلف: هل من طالب علم فيعانَ عليه
(2)
؟.
• وقد يراد أيضًا: أن الله ييسر لطالب العلم إذا قَصَدَ أبصلبه وَجْه الله تعالى والانتفاعَ به، والعملَ بمقتضاه، فيكونُ سببًا لهدايته، ولدخول الجنة بذلك.
• وقد ييسر الله لطالب العلم علومًا أخر، ينتفع بها، وتكون موصلة له إلى الجنة، كما قيل: مَنْ عَمِلَ بما علم أورثه الله عِلْمَ ما لم يَعْلم.
وكما قيل: "ثواب الحسنة: الحسنةُ بعدها".
• وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}
(3)
،
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}
(4)
.
• وقد يدخل في ذلك أيضًا: تسهيلُ طريق الجنة الحِسِّي يوم القيامة، وهو الصراط، ومما قبله وما بعده من الأهوال فَيُيَسَّرُ ذلك على طالب العلم للانتفاع به، فإن العلم يدل على الله من أقرب الطرق إليه، فمن سلك طريقه ولم يُعْرِّجْ عنه، وصل إلى الله تعالى، وإلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها فَسَهُلَتْ عليه الطرق الموصّلةُ إلى الجنة كلها في الدنيا وفي الآخرة؛ فلا طريق إلى معرفة الله، وإلى الوصول إلى رضوانِه، والفوزِ بقربه، ومجاورَته في الآخرة؛ إلا بالعلم النافع، الذي بعث الله به رُسُلَه، وأنزل به كُتُبه، فهو الدليل عليه، وبه يُهْتَدى في ظلمات الجهل والشُّبَهِ والشُّكُوكِ، ولهذا سمى الله كتابه نورًا؛ لأنَّه يُهْتَدَى به في الظُّلُماتِ، قال الله تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(5)
.
[مثل العلماء مثل النجوم]:
• وَمَثَّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حَمَلةَ العلم الذي جاء به؛ بالنجوم التي يُهْتدى بها في الظلمات.
(1)
سورة القمر: 22.
(2)
هذا مرتبط بالآية المذكورة فقد أورده أبو نعيم في الحلية 3/ 76 من رواية عبد الله بن شوذب عن مطر في قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ. . .} الآية فذكره.
(3)
سورة مريم: من الآية: 76.
(4)
سورة القتال: 17.
(5)
سورة المائدة: 15، 16.
• ففي المسند، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إن مثلَ العلماء في الأرض كَمَثل النُّجوم في السماء يُهْتَدَى بها في ظُلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تَضِلّ الهداة"
(1)
.
وما دام العلم باقيًا في الأرض؛ فالناس في هدى، وبقاء العلم بقاء حملته، فإذا ذهب حملته ومن يقوم به، وقع الناس في الضلال، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صُدُور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ الناس رُءوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلوا فَأَفْتَوا بغير عِلْم فَضَلُّوا
(2)
وأضلوا".
وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يومًا رفْع الطم فقيل له: كيف يذهب العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأناه نساءَنَا وأبناءنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟ ".
• فسئل عبادةُ بنُ الصامت عن هذا الحديث فقال: لو شئتُ لأخبرتُك بأول علم يُرفعُ من الناس: الخشوع
(3)
.
وإنما قال عُبَادَةُ: هذا لأن العِلْم قسمان: أحدهما: ما كان ثمرتُه في قلب الإنسان، وهو العلم بالله تعالى، وأسمائِه، وصفاتِهِ، وأفعالِهِ المقتضي لخشيته، ومهابته، وإجلاله والخضوع له، ومحبته ورجائه، ودعائه والتوكل عليه ونحو ذلك.
فهذا هو العلم النافع.
• كما قال ابن مسعود: إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وَقَع
(1)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 157 (الحلبي) من رواية هشيم بن خارجة، عن رشدين بن سعد، عن عبد الله بن الوليد، عن أبي حفص، عن أنس، فذكره بمثل ما أورد ابن رجب.
وضعفه الهيثمي في المجمع 1/ 121 من حديث أنس وقال: فيه رشدين بن سعد واختلف في الاحتجاج به، وأبو حفص صاحب أنس مجهول والله أعلم.
(2)
أخرجه البخاري في 3 - كتاب العلم: 34 - باب كيف يقبض العلم 1/ 194 ح 100 بنحوه.
وفي: 96 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: 7 - باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس 13/ 282 ح 7307 بسياق أطول وهو أحد الأمثلة التي استَثْبَتَتْ فيها عائشة رضي الله عنها حفظ عبد الله بن عمرو ثم شهدت له به وأخرجه بسياقه ورواياته مسلم في صحيحه 47: كتاب العلم: 5 - باب رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان 4/ 2058 - 2059 ح 13 - (2673)، 14 بوجوه عدة.
(3)
والحديث عند الحاكم في المستدرك 1/ 98 - 100 من وجهين عن عوف بن مالك وأبي الدرداء بإسنادين صحيحين وأقره الذهبي وعند الترمذي ح 2655 عن أبي الدرداء بإسناد حسن غريب.
في القلب فَرَسَخَ فيه نفع.
[العلم علمان]:
وقال الحسن: العلم علمان: علم على اللسان؛ فذاك حجة الله على بني آدم، وعلم في القلب فذاك العلم النافع.
• والقسم الثاني: العلم الذي على اللسان وهو حجة الله كما في الحديث
(1)
: "القرآن حجة لك أو عليك".
[أول ما يرفع: العلم النافع]:
• فأول ما يرفع من العلم: العلم النافع، وهو العلم الباطن الذي يخالِطُ القلوبَ ويُصْلِحُها، ويبقى علم اللسان حجة فيتهاون الناس به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته فلا يبقى إلا القرآن في المصاحف وليس ثمَّ مَنْ يَعْلَمُ معانِيَهُ ولا حُدُودَهُ ولا أَحْكَامَهُ ثم يسرى به في آخر الزمان فلا يبقى في المصاحف ولا في القلوب منه شيءٌ بالكلية، وبعد ذلك تقوم الساعة.
• كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"
(2)
.
• وقال: "لا تقوم الساعة وفي الأرض أحد يقول: الله الله"
(3)
.
* * *
[الجلوس للعلم والقرآن والذكر في المساجد]:
قوله صلى الله عليه وسلم: "وما جلس قومٌ في بيتٍ من بُيُوتِ الله يتلونا كتابَ الله ويتدارسُونَهُ
(1)
"ا": حجة كما في الحديث. . ." وقد مضى الكلام عليه في الحديث الثالث والعشرين.
(2)
رواه مسلم في صحيحه: 52 - كتاب الفتن: 27 - باب قرب الساعة 4/ 2268 ح 131 - (2949) من حديث عبد الله بن مسعود مثله.
وأخرجه أحمد في المسند 1/ 394، 435 (الحلبي)، 5/ 277 - 278 ح 3735 و 6/ 90 - 91 ح 4144 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه.
وانظره في الدر المنثور 6/ 54، 55 فقد أورده عن الطبراني أيضًا بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة.
(3)
أخرجه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 66 - باب ذهاب الإيمان آخر الزمان 1/ 131 ح 234 - (148) والترمذي في: 34 - كتاب الفتن: 35 - باب حدثنا محمد بن بشار 4/ 492 ح 2207 وأبو يعلى في مسنده/ وأحمد في المسند 3/ 162 (الحلبي) والحاكم في المستدرك 4/ 494.
وكلهم من حديث أنس، حسنه الترمذي. وصححه الحاكم وسكت عنه الذهبي وأخرجه الحاكم في الموضع نفسه من حديث عبد الله بن مسعود وصححه وأقره الذهبي وانظر الدر المنثور في الموضع المذكور أيضًا.
بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغَشِيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده".
هذا يدل على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته.
• وهذ إن حُمِلَ على تعلّم القرآن وتعليمه؛ فلا خلاف في استحبابه.
• وفي صحيح البخاري، عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "خَيْرُكُم مَنْ تَعَلَّم القرآنَ وعَلَّمه
(1)
".
قال أبو عبد الرحمن السلمي: فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا.
وكان قد علَّم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجاج بن يوسف.
وإن حُمل على ما هو أعم من ذلك دخل فيه الاجتماع في المساجد على دراسة القرآن مطلقًا.
• وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحيانًا يأمر من يقرأ القرآن ليستمع قراءته كما أمر ابن مسعود أن يقرأ عليه وقال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"
(2)
.
• وكان عمر يأمر مَن يقرأ عليه وعَلَى أصحابه وهم يستمعون، فتارة يأمر أبا موسى، وتارة يأمر عقبةَ بنَ عَامر.
• وسئل ابنُ عباس: أيّ العمل أفضل؟ قال: ذكر الله، قال: وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتعاطَوْن فيه كتابَ الله فيما بينهم ويتدارَسُونَهُ؛ إلا أظلتهُمْ الملائكة بأَجْنِحَتِهَا، وكانوا أضيافَ الله ما داموا على ذلك؛ حتى يفيضوا
(3)
في حديث غيره.
• وروى مرفوعًا والموقوف أصح.
• وروى يزيد الرقاشي عن أنس قال: كانوا إذا صَلَّوا الغداة قَعَدُوا حِلَقًا حِلَقًا
(1)
أخرجه البخاري في: 66 - كتاب فضائل القرآن: 21 - باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه 9/ 74 ح 5027 من طريق حجاج بن منهال، عن شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج قال: (أي أبو عبد الرحمن): "وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا" وأخرجه عقبه بنحوه.
(2)
أخرجه البخاري في: 66 كتاب فضائل القرآن: 32 - باب من أحب أن يستمع القرآن من غيره - 9/ 93 ح 5049. ومسلم في 6 - كتاب صلاة المسافرين: 40 - باب فضائل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر 1/ 551 ح 247 - (800) من حديث عبد الله من وجوه عديدة.
(3)
م: "يخوضوا".
يقرؤون القرآن ويتعلمون الفرائض والسنن ويذكرون الله تعالى.
وروى عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"ما مِن قَومْ صَلَّوْا صلاةَ الغداة، ثم قعدُوا في مُصَلَّاهم يتعاطَوْن كتابَ الله، ويتدارسونه؛ إلا وكل الله بهم ملائكة يستغفرونَ لهم حتَّى يخوضُوا في حديث غيره".
وهذا يدل على استحباب الاجتماع بعد صلاة الغداة لمدارسة القرآن.
ولكن عطية فيه ضعف.
• وقد روى حرب الكرماني بإسناده عن الأوزاعي: أنه سئل عن الدراسة بعد صلاة الصبح فقال: أخبرني حسَّان بنُ عطية أن أوّلَ من أحدثها في مسجد دمشق، هشام بنُ إسماعيل المخزومي في خلافة عبد الملك بن مروان؛ فأخذ الناس بذلك.
• وبإسناده عن سعيد بن عبد العزيز، وإبراهيم بن سليمان أنهما كانا يدرسان القرآن بعد صلاة الصبح ببيروت
(1)
والأوزاعي في المسجد لا يُغَيّر عليهم.
• وذكر حرب أنه رأى أهلَ دمشق، وأهلَ حمص، وأهلَ مكة، وأهل البصرة يجتمعون على القرآن بعد صلاة الصُّبح لكنَّ أهلَ الشام يقرؤون القرآن كُلَّهُمْ جملة من سورة واحدة بأصوات عالية، وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون؛ فيقرأ أحدهم جملة من عَشْرِ آيات والناس ينصتون ثم يقرأ آخر عشرًا
(2)
حتى يَفْرُغُوا.
• قال حرب: وكلُّ ذلك حَسَنٌ جميلٌ وقد أنكرَ ذلك مالك على أهل الشام.
• قال زيد بن عبيد الدمشقي: قال لي مالك بن أنس:
بلغني أنكم تجلسون حِلَقًا تقرؤون؟ فأخبرته بما كان يفعل أصحابنا، فقال مالك: عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا قال: فقلت: هذا طريف؟ قال: وطريف رجل يقرأ ويجتمع الناس حوله؟ فقال: هذا عن غَيْرِ رأينا.
• وقال أبو مصعب وإسحاق بن محمد الفرْوي
(3)
سمعنا مالك بن أنس يقول الاجتماع بكرة بعد صلاة الفجر؛ لقراءة القرآن بدعة؛ ما كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا العلماءُ بعدهم على هذا كانوا إذا صَلَّوْا يخلو كلٌّ بنفسه، ويقرأ
(1)
م: "ببيرون" وهو تصحيف.
(2)
م: "عشر آيات".
(3)
نسبة إلى الجد فهو يعقوب: إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي فروة الفروي القرشي مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه لب اللباب 2/ 153 ت 3024 وقد أحال محققه إلى اللباب 2/ 426 والأنساب 4/ 374.
ويذكر الله تعالى، ثم ينصرفون من غير أن يكلِّم بعضُهم بعضًا اشتغالًا بذكر الله.
• فهذه كلها محدثة.
وقال ابنُ وهب: سمعتُ مالكًا يقول: لما تكن القراءة في المسجد من أمر الناس القديم.
• وأول من أحدث ذلك في المسجد: الحجاجُ بنُ يوسف قال مالك: وأنا أكره ذلك الذي يقرأ في المسجد في المصحف.
• وقد روى هذا كلَّه أبو بكر النيسابوريُّ في كتاب مناقب مالك رحمه الله.
واستدل الأكثرون على استحباب الاجتماع لمدارسة القرآن في الجملة بالأحاديث الدالة على استحباب الاجتماع للذكر.
والقرآن أفضل أنواع الذكر.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهلَ الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تعالى تنادَوْا هَلُمُّوا إلى حاجتكم فيحفُّونَهُمْ بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألُهم ربُّهمْ وهو أعلم بهم ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبّحونَكَ، ويكبِّرونَك، ويحمَدونك ويمجِّدونك فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله! ما رأوك فيقول
(1)
: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رَأوْكَ كانوا أشدَّ لك عبادةً، وأشَدَّ لك
(2)
تمجيدًا وتحميدًا وأكثر لك تسبيحًا فيقول: فما يسألوني؟ قالوا: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رَأَوْهَا؟ فيقولون: لا والله يا رب! ما رأوها فيقول: كيف لو أنهم
(3)
رَأوْهَا؟ فيقولون: لَوْ أنهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حرصًا، وأشدَّ لها طلبًا، وأشدَّ فيها رغبةً قال: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُون؟ فيقولون: من النار قال: يقول. فهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا والله يا رب ما رَأَوْها. فيقول: كيف لو رَأوْهَا فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشدَّ منها فرارًا وأشدّ لها مخافة، فيقول الله تعالى: أشْهدُكم أني قد غَفَرْتُ لهم! فيقول مَلك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجته: قال: هم الجُلسَاءُ، لا يشقى جليسهم"
(4)
.
(1)
م: "فقال".
(2)
م: "أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وتحميدا".
(3)
ليست في م.
(4)
أخرجه البخاري في: 80 - كتاب الدعوات: 66 - باب فضل ذكر الله عز وجل 11/ 208 - 209 ح 6408 باختلاف يسير.
ومسلم في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 4/ 2069 - 2070 ح 25 - (2689).
• وفي صحيح مسلم عن معاوية، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما يُجلِسُكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده لما هدانا للإسلام، ومَنَّ علينا به، فقال:"آللهِ ما أجلسكم إلا ذلك؟ " قالوا: آللهِ ما أجلسنا إلا ذلك. قال: "أما إني لَمْ أسْتَحْلِفْكُمْ لتُهْمَة لكم ولكنه
(1)
أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة"
(2)
.
وخرج الحاكم من حديث معاوية قال: كُنتُ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومًا، فدخل المسجد، فإذا هو بقوم في المسجد قعود فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أقعدكم؟ قالوا: صلَّينا الصلاة المكتوبة، ثم قعدنا نتذاكر كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله إذا ذَكر شيئًا تعاظم ذكره
(3)
".
• وفي المعنى أحاديث أخر متعددة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جزاء الذين يجلسون في بيت الله يتدارسون كتاب الله أربعةُ أشياء:
* * *
[نزول السكينة]:
• أحدها: تنزّلُ السكينة عليهم.
• وفي الصحيحين، عن البراء بن عازب قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف،
(1)
م: "ولكن" ا "إنه" والتصويب من صحيح مسلم.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 11 - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 4/ 2075 ح 40 - "2701".
(3)
في الأصول والمطبوعة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر" والإضافة من المستدرك والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 94 من رواية عبد الوارث، عن الحسين، عن ابن بريدة: أن معاوية خرج من حمام حمص فقال لغلامه: ائتني لبستي، فلبسهما ثم دخل مسجد حمص فركع ركعتين فلما فرغ إذا هو بناس جلوس، فقال لهم: ما يجلسكم؟ قالوا: صلينا صلاة المكتوبة، ثم قص القاص، فلما فرغ قعدنا نتذاكر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال معاوية: ما من رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أقل حديثًا عنه مني، إني سأُحدثكم بخصلتين حفظتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يكون على الناس فيقوم على رأسه الرجال يحب أن تكثر الخصوم عنده فيدخل الجنة، قال: وكنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فدخل المسجد فإذا هو بقوم في المسجد قعود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يقعدكم؟ قالوا: صلينا الصلاة المكتوبة ثم قعدنا نتذاكر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا ذكر شيئًا تعاظم ذكره".
أقول: والمعنى يتضح بالحديث الذي قبله: "إن الله يباهي بكم ملائكته" وبالحديث القدسي إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم".
وقد صحح الحاكم حديث معاوية على شرط الشيخين وأقره الذهبي ثم قال: ولابن بريدة سماع من معاوية. وبين النصين في الجامع والمستدرك تفاوت يسير فليتأمل.
وعنده فرس [مربوط بشطنين] فتغشَّتْهُ سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسهُ ينفِرُ منها، فلما أصبح؛ أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال:"تلك السَّكينَة تَنَزَّلَتْ للقرآن"
(1)
.
• وفيهما أيضًا، عن أبي سعيد أن أُسَيْدَ بن حُضَير بينما هو ليلةً يقرأ في مِرْبَدِه إذْ جَالتْ فَرَسُه فقرأ ثم جَالت أخرى، فقرأ ثم جالت أيضًا؛ قال
(2)
أُسَيْدٌ: فخشيتُ أن تطأ يحيى [يعني ابنه] قال: فقمت إليها فإذا مِثْلُ الظّلة فوقَ رأسي فيها أمثال السُّرُجِ عَرَجت في الجوّ حتى ما أراها قال: فَغَدَا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال صلى الله عليه وسلم: "تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحَتْ يراها الناسُ ما تستتر منهم
(3)
".
• واللفظ لمسلم فيهما
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في 61 - كتاب المناقب: 25 - باب علامات النبوة في الإسلام 6/ 622 ح 3614 من رواية محمد بن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء بن عازب رضي الله عنه يقول: قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار الدابة، فجعلت تنفر فسلم، فإذا ضبابة غشيته، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ فلان فإنها السكينة نزلت للقرآن أو تنزلت للقرآن".
وفي: 65 - كتاب التفسير: 48 - سورة الفتح: 4 - باب {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} 8/ 586 ح 4839 رواية عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: بينما رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، وفرس له مربوط في الدار، فجعل ينفر، فخرج الرجل فنظر فلم ير شيئًا، وجعل ينفر، فلما أصْبَحَ ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن.
وفي: 66 - كتاب فضائل القرآن: 11 - باب فضل الكهف 9/ 57 ح 5011 رواية عن عمرو بن خالد، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين (حبلين) فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن.
وهذه الرواية مقاربة للرواية التي أوردها ابن رجب.
وأخرجه مسلم في: 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها: 36 باب نزول السكينة لقراءة القرآن 1/ 547 - 548 ح 240 - (795) رواية عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة، عن أبي إسحاق به بمثل ما أورده ابن رجب إلا أن ابن رجب لم يورد قوله:"مربوط بشطنين" فلذلك أثبتناهما بين القوسين.
وقد أخرجه مسلم عقبه من وجهين آخرين عن البراء.
(2)
"ا": "فقال" وما آثرناه هو الموافق لما في مسلم.
(3)
أخرجه البخاري في: 66 - كتاب فضائل القرآن 15 - باب نزول السكينة والملائكة عند نزول القرآن 9/ 63 ح 5018 بسياق أتم.
ومسلم في الموضع السابق عقب حديث البراء بسياقه كاملًا. وفيه: "فغدوت على النبي صلى الله عليه وسلم".
(4)
مع مراعاة عدم ذكر الشطنين في الحديث الأول واختصار القصة وعدم الالتزام بنص مسلم فيه كله، وإيراد بعضه على الحكاية وانظره في صحيح مسلم في الموضع المذكور.
• روى ابن المبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن سعد بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في مجلس، فرفع بصره إلى السماء، ثم طأطأ بصره ثم رفعه، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون الله تعالى، يعني أهلَ مجلسٍ أمامه؛ فنزلت عليهم السكينة تحملها الملائكة كالقبة، فلما دنت منهم، تكلم رجل منهم بباطل؛ فرفعت عنهم
(1)
.
وهذا مرسل.
[غشيان الرحمة]:
• والثاني غشيان الرحمة قال الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
(2)
.
• وخرج الحاكم من حديث سَلْمان: أنه كان في عِصَابةٍ يذكرون الله تعالى فمر بهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ما كنتُم تقولون؟ " فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردْت أن أشارِكَكُمْ فيها"
(3)
.
• وخرج البزار من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن لله سيارةً من الملائكة يطلبون حِلَقَ الذكرِ، فإذا أتوا عليهم حفّوا بهم، ثم بعثوا رائدهم إلى السماء إلى ربِّ العزة تبارك وتعالى فيقولون: ربَّنا! أتينَا على عِبَادٍ من عبادِكَ يُعظّمُون آلاءكَ، ويتْلُونَ كِتابَك، ويُصَلّون على نبيك صلى الله عليه وسلم ويسألونَكَ لآخرتهم ودنياهم؟ فيقول الله تبارك وتعالى: غشّوهُم برحمتي فيقولون: يا رب!
(4)
إن فيهما فلانًا الخطاءَ، إنما اعتنقهم اعتناقًا فيقول تبارك وتعالى: غشّوهم برحمتي [إنهم الجلساء لا يشقى جليسهم] "
(5)
.
(1)
أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد ص 330 ح 943 بمثل ما أورد ابن رجب. وقد سقط هذا الحديث والتعقيب عليه من "ا".
(2)
سورة الأعراف: 56.
(3)
هنا اختصر ابن رجب هذا الحديث وقد أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 122 رواية عن أبي العباس: محمد بن يعقوب، عن الخضر بن أبان، عن سيار بن حاتم، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي، قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم قاصدًا حتى دنا منهم فكفوا عن الحديث إعظامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما كنتم تقولون
…
الحديث.
وقد صححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
(4)
م. "ربنا" وما أثبتناه عن الأصول هو الموافق لما في المسند.
(5)
أخرجه البزار في مسنده (4/ 4 - 5) من الكشف ح 3062.
وقد أورده الهيثمي في المجمع 10/ 77 وقال: رواه البزار من طريق زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النميري، وكلاهما وثق على ضعفه فعاد هذا إسناده حسن.
كأنما يريد أن يقول: فعاد هذا على إسناده بالحسن وما بين القوسين ليس في الجامع وهو في الكشف والمجمع؟!.
[والملائكة تحف بهم]:
• والثالث: أن الملائكة تحف بهم، وهذا مذكور في هذه الأحاديث التي ذكرناها.
• وفي حديث أبي هريرة المتقدم:
(1)
"فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا".
• وفي رواية الإمام أحمد:
"عَلَا بعضُهم على بعض حتى يبلغوا العرش
(2)
".
وقال خالد بن معدان يرفع الحديث:
"إن لله ملائكةً في الهواء يَسيحُون بين السماء والأرض يلتمسون الذِّكْرَ فإذا سَمِعُوا قومًا يَذْكرونَ اللهَ تعالى قالوا: رُوَيدًا زَادَكم الله، فَينْشُرُونَ أجنحتَهم حولهم حتى يصعد كلّ منهم إلى العَرْشِ".
• خرجه الخلال في كتاب السنة.
* * *
[ويذكرهم الله فيمن عنده]:
• الرابع: أن الله يذكُرُهُمْ فيمَنْ عنده.
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حينَ يذْكُرُني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرتُه في ملإٍ خير منهم"
(3)
.
(1)
ص 1022.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 358 - 359 (الحلبي) عن يحيى بن أبي بكر، عن زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لله عز وجل ملائكة فضلًا يتبعون مجالس الذكر، يجتمعون عند الذكر فإذا مروا بمجلس علا بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش، فيقول الله عز وجل لهم وهو أعلم - "من أين جئتم؟ فيقولون: من عند عبيدك، يسألونك الجنة، ويتعوذون بك من النار، ويستغفرونك. فيقول: يسألوني جنتي؟ هل رأوها؟ فكيف لو رأوها؟ ويتعوذون من نار جهنم؟ فكيف لو رأوها؟ فإني قد غفرت لهم، فيقولون: ربنا إن فيهم عبدك الخطاء فلانًا مر بهم - لحاجة له - فجلس إليهم، فقال الله عز وجل: أولئك الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".
والملائكة الفضل بضم الفاء وسكون الضاد: هم الملائكة الزائدون عن الملائكة المرتبين مع الخلق وقد روي بسكون الضاد وضمها، والسكون أكثر وأصوب، وهما مصدر بمعنى الفضلة والزيادة (النهاية 3/ 455). وأصل الحديث في الصحيح كما سبق.
(3)
أخرجه البخاري في: 97 - كتاب التوحيد: 15 - باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 13/ 384 ح 7405 من رواية عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في =
• وهذه الخصال الأربع لكل مجتمِعينَ على ذكر الله تعالى.
• كما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، وأبي سعيد؛ كلاهما: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن لأهل ذِكرِ الله تعالى أربعًا تنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحف بهم الملائكة، ويذكرهم الرب فيمن عنده
(1)
وقد قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}
(2)
وذكر الله تعالى لعبده، هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ملائكته، ومباهاته به، وتنويهُه بذكره.
• قال الربيعُ بنُ أنس: إن الله ذَاكِرٌ مَنْ ذكره، وزائدٌ من شكره ومعذبٌ من كفره.
(3)
.
وصلاةُ الله على عبده هي: ثناؤه عليه بين ملائكته، وتنويهُهُ بذكره؛ كذا قال أبو العالية.
ذكره البخاري في صحيحه
(4)
.
= نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
وفي: 35 - باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} 13/ 464 ح 7505 من رواية أبي اليمان عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مقتصرًا على الجملة الأولى.
وفي: 50 - باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه 13/ 512 ح 7537 من رواية مسدد، عن يحيى، عن التيمي، عن أنس، عن أبي هريرة، مقتصرًا على شطره الأخير.
وأخرجه مسلم في: 49 - كتاب التوبة: 1 - باب في الحض على التوبة والفرح بها 4/ 2102 ح 1 - (2675) رواية عن سويد بن سعيد، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح به فذكره وفيه:"وأنا معه حيث يذكرني، والله! لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة، ومن تقرب .. وإذا أقبل إليّ يمشي أقبلت إليه أهرول".
(1)
الذي في صحيح مسلم: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 4/ 2074 ح 39 - (2700) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
"لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده".
(2)
سورة البقرة: من الآية: 152 وانظر في تفسيرها المذكور الدر المنثور 1/ 149.
(3)
سورة الأحزاب: 41 - 43 وانظر الدر المنثور 5/ 206 وما أورده عن ابن أبي حاتم.
(4)
صحيح البخاري: 65 - كتاب التفسير: 10 - باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 8/ 532 وفيه يقول أبو العالية: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء.
وقال رجل لأبي أمامة: رأيتُ في المنام كَأَنَّ الملائكة تصلي عليكَ كلما دخلت، وكلما خرجت، وكلما قمت، وكلما جلستَ؟ فقال أبو أمامة: وأنتم لو شئتم صَلَّتْ عليكمُ الملائكة ثم قرأ - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
(1)
.
خرجه الحاكم.
* * *
[ومن أبطأ به عمله]:
• قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ومَنْ بطَّأَ به عَمَلُه لم يُسْرِعْ به نَسَبُه".
معناه: أن العملَ هو الذي يبلغ بالعبد درجاتِ الآخرة كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}
(2)
فمن أبطأ به عَمَلُه أن يبلغَ به المنازِلَ العاليةَ عند الله لم يُشرِع به نَسَبُهُ؛ فيُبلِغَه تلك الدرجاتِ، فإنَّ الله تعالى رتّبَ الجَزَاءَ على الأعمال، لا على الأنساب كما قال تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}
(3)
.
• وقد أمر الله تعالى بالمسَارَعَةِ إلى مَغْفِرتِهِ ورحمتِه بالأعمال كما قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
(4)
.
(5)
.
• قال ابن مسعود: يأمُر الله بالصراط، فيُضْرَبُ على جهنم، فيمر الناسُ على قدر أعمالهم، زُمَرًا زُمَرًا أوئلهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر المطر، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا
(6)
حتى يمر آخرهم يَتَلبّطُ على بطنه، فيقول:
(1)
الآيات السابقة من سورة الأحزاب.
والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 418 وفيه: قال أبو أمامة: "اللهم غفرا دعونا عنكم وأنتم لو شئتم .. " وقد صححه على شرط مسلم وأقره الذهبي.
(2)
سورة الأحقاف: من الآية 19.
(3)
سورة المؤمنون: 101.
(4)
سورة آل عمران: 133 - 134.
(5)
سورة المؤمنون: 57 - 61.
(6)
م: "مشيها" وفيه تحريف واضح.
يا رب! لم بَطَّأتَ
(1)
بي؟ فيقول: "إني لم أبطئ بك؛ إنما بطَّأ لك عملُك".
* * *
[فاشتروا أنفسكم بالإيمان والعمل]:
• وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
(2)
يا معشر قريش! اشْتَرُوا أنفُسَكم من الله لا أُغْنِي عَنْكُم مِنَ اللهِ شيْئًا، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية
(3)
عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم! لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد! سليني ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا
(4)
.
* * *
[إن أوليائي منكم المتقون]:
• وفي رواية خارج الصحيحين.
إن أوليائي منكم المتّقون، لا يأتي
(5)
الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم، فتقولون يا محمد! فأقول: قَدْ بَلَّغت".
• وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أوليائي المتقون يومَ القيامة وإن كان نسبٌ أقربَ من نسب، يأتى النَّاسُ بالأعمال وتأتُوني بالدُّنيا تحملونها على رقابِكم، تقولون: يا محمد! يا محمد! فأقول هكذا وهكذا وأعرض في كِلَا عِطْفيْهِ
(6)
.
(1)
م: "أبطأت".
(2)
سورة الشعراء: 214.
(3)
"ا": حفصة وهو سبق قلم.
(4)
حديث أبي هريرة أخرجه البخاري في: 55 - كتاب الوصايا: 11 - باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب؟ 5/ 382 ح 2753 من رواية أبي اليمان عن شعيب؛ عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بنحوه. وفي: 61 - كتاب المناقب: 13 - باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية 6/ 551 ح 3526 رواية عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بنحوه.
وفي: 65 - كتاب التفسير: 2 - باب وأنذر عشيرتك الأقربين 8/ 501 ح 4771 من طريق أبي اليمان، عن شعيب - به - بنحوه.
وأخرجه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 89 - باب قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1/ 192 - 193 من وجوه عن أبي هريرة، بنحوه.
وما أورده ابن رجب مقارب للرواية الثالثة عند مسلم والأولى عند البخاري وليست بنصها في أي منهما.
(5)
م: "يأتي".
(6)
الحديث في السنة لابن أبي عاصم 1/ 93 - 94 و 2/ 472 بإسناد حسن.
• وخَرَّجَ البزارُ من حديثِ رفاعةَ بنِ رافع: أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: اجْمَعْ لي قومَك، يعني قريشًا، فجمعهم فقال: إن أوليائي منكُم المتَّقُونَ، فإن كنتُم أولئك فذلك، وإلا فانظروا لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتوني بالأثقال فيُعَرضَ عنكم
(1)
".
• وخرجه الحاكم مختصرًا وصححه
(2)
.
• وفي المسند، عن معاذ بن جبل، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه إلى اليمن خرج معه يُوصِيهِ، ثم التفت، فأقبل بوجهه إلى المدينة فقال: إن أولى الناس بِيَ المتقون من كانوا وحيث كانوا
(3)
.
(1)
م: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 26 من حديث رفاعة بن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: اجمع لي قومك، فجمعهم عمر عند بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل عليه فقال: يا رسول الله! أدخلهم عليك أو تخرج إليهم؟ قال: بل أخرج إليهم، قال: فأتاهم فقال: هل فيكم أحد من غيركم؟ قالوا: نعم. فينا حلفاؤنا وفينا بنو إخواننا وفينا موالينا فقال: حلفاؤنا منا، وبنو إخواننا منا، وموالينا منا، وأنتم ألا تسمعون؟ {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} فإن كنتم أولئك فذاك وإلا فانظروا لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة، وتأتون بالأثقال فنعرض عنكم، ثم رفع يديه، فقال:"يا أيها الناس! إن قريشًا أهل أمانة فمن بغاهم العواثر أكبه الله بمنخريه، قالها ثلاثًا".
ثم قال الهيثمي: رواه البزار واللفظ له، وأحمد باختصار، وقال: كبه الله في النار لوجهه، والطبراني بنحو البزار، وقال في رواية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر، فقال: قد جمعت لك قومي، فسمع بذلك الأنصار، فقالوا: قد نزل في قريش الوحي، فجاء المستمع والناظر ما يقول لهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بين أظهرهم، فذكر نحو البزار بأسانيد ورجال أحمد والبزار وإسناد الطبراني ثقات.
وأورده في الدر المنثور 3/ 183 وزاد نسبته إلى البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك كما سيأتي.
وعنده: "فإن كنتم أولئك فذلك".
وفي ب: "فذاك".
(2)
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 328 مختصرًا وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 235 (الحلبي) أتم من هذا من رواية أبي المغيرة، عن صفوان، عن راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكبًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: يا معاذ! إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري، فبكى معاذ جشعًا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: فذكره بمثله.
وأخرجه عقيبه من وجه آخر عن الحكم بن نافع عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمر وعن راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكوني بنحوه وفيه: لا تبك يا معاذ! للبكاء أو إن البكاء من الشيطان.
وقد أورده الهيثمي في المجمع 9/ 22 من حديث معاذ، وقال: روأه أحمد بإسنادين وقال في أحدهما: عن عاصم بن حميد أن معاذًا قال: وفيها قال: لا تبك يا معاذ إلخ. ورجال الإسنادين رجال الصحيح غير راشد بن سعد وعاصم بن حميد، وهما ثقتان.
• وخرجه الطبراني وزاد فيه: "إن أهلَ بيتي هؤلاء يَرون أنهم أولى الناس بي وليس كذلك إنَّ أوليائي منكم المتقون مَنْ كانوا وحَيْثُ كانوا"
(1)
.
ويشهد لهذا كله ما في الصحيحين، عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء؛ وإنما وليي الله وصالح المؤمنين
(2)
.
يشير إلى أن ولايته لا تُنال بالنسب وإن قَرُبَ، وإنما تُنَالُ بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكملَ إيمانًا وعملًا؛ فهو أعظم ولايةً له، سواء كان له نسب قريب أو لم يكن.
وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
لعمرك ما الإنسانُ إلا بدينِه
…
فلا تَتْرُكِ التَّقْوى اتكالًا على النّسَبْ
لقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ
…
وقد وضع الشركُ الشَّقِيَّ
(3)
أبا لهبْ
* * *
(1)
أورده الهيثمي في المجمع 10/ 231 - 232 وزاد في آخره: "اللهم إني لا أحل لهم فساد ما أصلحت، وايم الله! لتكفأ أمتي عن دينها كما يكفأ الإناء في البطحاء" وعقب عليه بقوله: رواه الطبراني وإسناده جيد.
(2)
أخرجه البخاري في: 78 - كتاب الأدب: 14 - باب تُبَلُّ الرحم ببلالها 10/ 419 ح 5990 من رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، أن عمرو بن العاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارًا غير سر يقول: إن آل أبي فلان
…
الحديث.
وأخرجه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 93 - باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم 1/ 197 ح 366 - (215) من رواية - إسماعيل أيضًا وأوله: ألا إن آل أبي (يعني فلانًا) ليسوا لي بأولياء الحديث فذكره بمثله.
(3)
م: "النسيب".
الحديث السابع والثلاثون
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى، قالَ:
إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيئاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يعْمَلْها كتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، وَإِن هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَها اللَّهُ عز وجل عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَها اللَّهُ عِنْدَه حَسنَةً كامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَها اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَة.
رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ [في صَحِيْحَيْهِمَا بِهَذِهِ الحُرُوف.
فَانْظُرْ يَا أَخِي وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ إِلَى عَظِيمِ لُطْفِ اللَّهِ تعَالَى وَتَأَمَّلْ هذِهِ الألْفَاظَ.
وَقَوْله: "عِنْدَهُ" إِشَارَةٌ إِلَى الاعْتِنَاءِ بِهَا.
وَقوْلُهُ: "كامِلَةً" للِتَّأْكِيدِ وَشِدَّةِ الاعْتِنَاءِ بهَا.
وَقالَ في السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا ثم تَركَهَا كَتَبَها الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فَأَكدهَا بِكامِلَةٍ وَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَأَكَّدَ تَقْلِيلَهَا بِوَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُؤَكِّدْهَا بِكَامِلَةٍ، فَللَّهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ، سُبْحَانَهُ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، وبَاللَّهِ التَّوْفِيقُ].
* * *
[تخريج الحديث]:
هذا الحديث خرجاه من رواية الجعد أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء العطاردي، عن ابن عباس
(1)
وفي رواية لمسلم
(2)
زيادة في آخر الحديث وهي - "ومحاها الله، ولا يهلكُ على الله إلا هَالكٌ".
وفي هذا المعنى أحاديث متعددة.
(1)
أخرجه البخاري في: 81 - كتاب الرقاق: 31 - باب من هم بحسنة أو بسيئة 11/ 323 ح 6491 من رواية الجعد، وعنده: "فيما يروى عن ربه عز وجل قال: قال الله
…
كتبها الله له عنده .. (في الموضعين)
…
ومن هم
…
كتبها الله له عنده
…
فإن هو
…
".
وأخرجه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: باب إذا هم العبد بحسنه كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب 1/ ح 207 - (131) واللفظ له. وما بين المعكوفين ليس في "ا"، ولا ب وهو في م كلام النووي كما في الأربعين وشرحها لابن دقيق العيد ح 37 ص 113 - 114.
(2)
عقب الرواية المذكورة وفي "ا"، ب، م:"أو محاها" والتصويب من مسلم.
• فخرجا في الصحيحين من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله: "إذا أرادَ عَبْدِي أن يعملَ سيئةً فلا تكتُبُوهَا عليه حتى يعملها، فإن عَملَها؛ فاكْتُبُوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإن أراد أن يعملَ حَسَنةً فلم يَعْمَلْهَا؛ فَاكْتُبُوها له حَسَنة فإن عملها؛ فاكْتُبُوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف".
وهذا لفظ البخاري
(1)
.
• وفي رواية لمسلم: قال الله تعالى: "إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها، فأنا أكتبها له بمثلها".
• وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قالت الملائكة: رب! ذاك عبدك يريد أن يعملَ سيئةً وهو أبْصَرُ به قال: ارقبُوه، فإن عَمِلَها؛ فاكتبُوها له بمثلها، وإنْ تركَها فاكتبوها له حسنة، إنما تركَها من جرّائي.
• وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلَامَهُ؛ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلها تُكْتبُ له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكُلُّ سيئةٍ يعملُها تُكْتَبُ بمثلها حتى يلقى الله تعالى
(2)
.
• وفي الصحيحين عن أبي هريرة
(3)
، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(1)
الذي في البخاري في: 97 - كتاب التوحيد: 35 - باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} 13/ 465 ح 7501 من رواية قتيبة بن سعيد، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة".
وبين النصين تفاوت كما ترى.
وهذا هو الموضع الوحيد الذي أخرج البخاري فيه هذا الحديث من رواية أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: 1 - كتاب الإيمان: 59 - باب إذا هم العبد بحسنة كتبت إلخ 1/ 117 - 118 ح 205 - (129) بمثله. وقوله: "من جرائي" روي كذلك وروي مقصورًا: من جراي".
(3)
البخاري في: 30 - كتاب الصوم: 2 - باب فضل الصوم 4/ 103 ح 1894 مختصرًا من رواية القعنبي، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.
وفي: 9 - باب هل يقول إني صائم إذا شتم؟ 4/ 118 ح 1904 من رواية عطاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وفيه: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب إلخ وانظر أطرافه في 5927، 7492، 7538.
وأخرجه مسلم في: 13 - كتاب الصوم: 30 - باب فضل الصيام 2/ 807 ح 164 - من رواية الأعمش، عن أبي =
"كل عمل ابن آدم يضاعَف: الحَسَنَةَ عَشْرُ أمثالِها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيامَ، فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوتَهُ وطَعَامَهُ وشَرَابَهُ مِنْ أجْلي".
وفي رواية لمسلم بعد قوله إلى سبعمائة ضعف: "إلى ما يشاء الله"
(1)
.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"يقول الله عز وجل: "من عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر
(2)
".
• وفيه أيضًا عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مَنْ هَمّ بحسنة فلم يَعْمَلْهَا كُتِبَت له حَسَنة فإِن عَمِلَهَا كُتِبَتْ له عَشْرًا ومَنْ هَمَّ بسيئة فَلَم يَعْمَلْها لم يُكْتَبْ عليه شَيءٌ؛ فإن عَمِلَهَا كُتِبتْ عليه سيئةٌ واحِدةٌ
(3)
.
• وفي المسندِ عن خريم بن فاتك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال " [و]
(4)
من هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعَرَهَا قلْبَه وحَرَصَ عليها كتبت له حسنة ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ومَنْ عَمِلَهَا كُتِبَت له واحدة، ولم تضاعَفْ عليه، ومن عمل حسنة كانت
(5)
له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقةً في سبيل الله كانت له بسبعمائة
= صالح، عن أبي هريرة بمثله. وزاد:"للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك".
وانظره في أحاديث 160 - (1151) - 165 - (. . .).
(1)
أشار إليها ابن حجر في الفتح 11/ 326 وفي ظ: "وفي رواية بعد قوله. . .".
(2)
الذي في صحيح مسلم في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة: 6 - باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى 4/ 2068 ح 22 - (2687) من رواية الأعمش عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة".
وأورده برواية أخرى فيها "أو أزيد". بكسر الزاي وتفاوت ما بين النصين واضح في الجزء الذي أورده ابن رجب.
(3)
رواه مسلم في صحيحه: 1 - كتاب الإيمان: 74 - باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات 1/ 145 - 147 ح 529 - (162) بسياقه مطولا والذي استشهد به ابن رجب هو جزؤه الأخير وله شاهد رواه مسلم في صحيحه أيضًا في: 1 - كتاب الإيمان: باب إذا همَّ العبد بحسنة كتبت، وإذا همَّ بسيئة لم تكتب 1/ 118 ح 206 - (130) لكن من رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرًا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت".
(4)
هكذا هي في المسند؛ حيث إنها جزء حديث.
(5)
م: "كتبت" وما أثبتناه عن الأصول هو الموافق لما في المسند.
ضعْفٍ
(1)
".
[ماذا تضمنت هذه النصوص؟]:
وفي المعنى أحاديث أخر متعددة فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات والسيئاتِ والهمِّ بالحسنةِ والسيئةِ فهذه أربعَة أنواع:
[الأول مما تضمنته: مضاعفة الحسنات]:
• النوعُ الأوّل: عَمَلُ الحسنات فتضاعَفُ الحسنة بعشْرِ أَمثالها إلى سبعمِائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة.
فمضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات، وقد دل عليه قوله تعالى - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
(2)
.
وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له فدل عليه قوله تعالى:
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 321 - 322 من رواية الركين بن الربيع عن رجل عن خُرَيِّم 3450 (الحلبي) من رواية عبد الرحمن بن مهدي، عن شيبان بن عبد الرحمن، عن الركين بن الربيع، عن أبيه، عن عمه فلان بن عميلة، عن خريم بن فاتك الأسدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس موسع عليه في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا موسع عليه في الآخرة وشقي في الدنيا والآخرة، والأعمال: موجبتان ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبعمائة ضعف، فالموجبتان من مات مسلمًا مؤمنًا لا يشرك بالله شيئًا فوجبت له الجنة، ومن مات كافرًا وجبت له النار ومن هم بحسنة
…
الحديث، بمثل ما أورده ابن رجب؛ فهو جزء حديث.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 87 من طريق معاوية بن عمرو، عن سلمة بن جعفر، عن الركين بن الربيع به وسكت عنه، وأعله الذهبي فقال: رواه معاوية بن عمرو الأزدي، ومسلمة: تعبت عليه فلم أعرفه. ورواه الطبراني في الكبير 4/ 205 - 206 من وجوه عديدة.
وأورده ابن الجوزي في العلل المتناهية 2/ 322 - 323 وأعله بالركين وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتهم به: الركين، قال جرير: لم يكن ممن يؤخذ عنه الحديث، كان عريفًا وكان مغفلًا.
ورده المحقق فقال: هذا من أوهام ابن الجوزي رحمه الله فإن الذي قاله جرير كان مغفلًا فهو ركين بن عبد الأعلى كما في الميزان واللسان، وأما هذا فهو ركين بن الربيع الفزاري، من رجال السنن، ثقة من الرابعة، كما في التقريب.
وأورده الهيثمي في المجمع 1/ 21 وقال: روى الترمذي والنسائي منه ذكر النفقة في سبيل الله، رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح إلا أنه قال عن الركين بن الربيع، عن رجل، عن خريم، وقال الطبراني: عن الركين بن الربيع، عن أبيه، عن عمه يسير بن عميلة اهـ.
وأحمد لم يقتصر على هذه الرواية، وإنما رواه كما علمت عن الركين بن الربيع، عن أبيه، عن عمه، وقال فلان بن عميلة.
(2)
سورة الأنعام: 160.
(1)
فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف.
• وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: جاء رَجُلٌ بناقةٍ مَخْطُومَةٍ فقال: يا رسول الله! هذه في سبيل الله. فقال: "لك بها يومَ القيامة سَبْعُمَائةِ ناقة"
(2)
.
• وفي المسند بإسناد فيه نظر عن أبي عُبيدة بنِ الجرَّاح رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أنفَقَ نفقَةً فاضلة في سبيل الله فَبسبعِمائةٍ، ومَنْ أنْفَقَ عَلَى نفسِه وأَهْلِه
(3)
أو عاد مريضًا أو ماز
(4)
أذى، فالحسنة بعشر أمثالها
(5)
".
(1)
سورة البقرة: 261.
(2)
أخرجه مسلم في: 33 - كتاب الإمارة: 37 - باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها 3/ 1505 ح 132 - (1892) وفيه: فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وزاد. "كلها مخطومة".
(3)
م: "أهله وعياله" وفيها زيادة ليست في الأصول ولا في المسند.
(4)
م: "أماط" وما أثبتناه هو الموافق لما في الأصول والمسند.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 1/ 195 (حلبي) من رواية زياد بن الربيع عن واصل مولى أبي عيينة، عن بشار بن أبي سيف عن عياض بن غطيف، قال: دخلنا على أبي عبيدة بن الجراح نعوده من شكوى أصابه وامرأته تحيفه قاعدة عند رأسه قلت: كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: والله! لقد بات بأجر. فقال أبو عبيدة: ما بت بأجر وكان مقبلًا بوجهه على الحائط، فأقبل على القوم بوجهه، فقال: ألا تسألونني عما قلت؟ قالوا: ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أنفق نفقة في سبيل الله
…
الحديث وزاد: والصوم جنة ما لم يخرقها ومن ابتلاه الله ببلاء في جسده فهو له حطة".
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 300 وقال: رواه أحمد وأبو يعلي والبزار وفيه يسار بن أبي سيف ولم أر من وثقه ولا جرحه وبقية رجاله ثقات. وعنده: "وامرأته نحيفة".
ولكن رواه أحمد في المسند 1/ 196 (الحلبي) من طريق آخر عن أبي عبيدة ليس فيه يسار بن أبي سيف، حيث رواه في هذا الموضع من رواية واصل عن الوليد بن عبد الرحمن عن عياض بن غطيف قال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنفق. . ." الحديث.
فقد تابع الوليد بن عبد الرحمن يسار بن أبي سيف ولم ينفرد يسار بروايته؛ مشاهير علماء الأمصار ص 184 ت 1462.
والوليد بن عبد الرحمن هو الجرشي الحمصي الزجاج كان على خراج الغوطة أيام هشام.
روى عن ابن عمر وأبي هروة وأبي أمامة، وجبير بن نفير والحارث بن أوس الثقفي، وعياض بن غطيف وغيرهم.
روى عنه يعلى بن عطاء، وإبراهيم بن أبي عبلة، وداود بن أبي هند، وبشار بن أبي سيف وغيرهم.
وهو أحد ثقات أتباع التابعين بالشام كما قال ابن حبان وأبو حاتم ومحمد بن عون.
وقال أبو زرعة الدمشقي: هو في الطبقة الثالثة، قديم جيد الحديث.
راجع ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (4/ 2/ 147 - 148) ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان ص 184 ت 1462 وتهذيب التهذيب 11/ 140.
فإسناد الحديث من الطريق الثاني صحيح.
• وخَرَّجَ أبو داود من حديث سَهْل بنِ مُعَاذ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الصَّلَاةَ والصِّيَامَ والذّكْرَ يُضَاعفُ على النفقة في سبيل الله بسبعمائة
(1)
ضعف".
• وروى ابن أبي حاتم بإسناده
(2)
عن الحسن، عن عِمْرَانَ بن حُصَين
(3)
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من أرسل نفقةً في سبيل الله، وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعُمائة درهم، ومَنْ غزا بنفسه في سبيل الله، فله بكل دِرْهَم سَبعُمِائة ألف درهم" ثم تلا هذه الآية - {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}
(4)
.
• وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر قال:"لما نزلت هذه الآية - {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ربِّ! زِدْ أُمّتي" فأنزلَ الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} فقال: رب! زد أمتي، فأنزل الله تعالى - {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
(5)
.
• وخرّج الإمامُ أحمد من حديث علي بن زيد بن جُدْعَانَ، عن أبي عثمان النّهديِّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إنَّ الله ليُضاعِفُ الحسنةَ أَلفي أَلْفِ حَسَنَةً".
(1)
أخرجه أبو داود في: 9 - كتاب الجهاد: 14 - باب تضعيف الذكر في سبيل الله تعالى 3/ 19 رواية عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أبي أيوب، عن زبان بن قائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه فذكره بمثله.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 78 رواية عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب - به - بمثله وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
وقد أورده ابن كثير في التفسير 1/ 317.
(2)
م: "بسنده".
(3)
م: "الحصين".
(4)
أخرجه ابن كثير في التفسير في الموضع السابق عن ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن هارون بن عبد الله، عن ابن أبي فديك، عن الخليل بن عبد الله، عن الحسن، عن عمران بن حصين فذكره بنحوه، ثم قال: وهذا حديث غريب.
والآية: 261 من سورة البقرة.
(5)
أخرجه ابن حبان في صحيحه 7/ 80 من الإحسان وأورده ابن كثير في التفسير في الموضع المذكور وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن أبي حاتم.
والآيات 261، 245 من سورة البقرة، 10 من سورة الزمر.
• ثم تلا أبو هريرة - {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}
(1)
.
• وقال: "إذا قال الله أَجْرًا عظيمًا؛ فمن يقدُرُه قَدْرَه؟ ".
• وروي عن أبي هريرة موقوفًا.
• وخرج الترمذي من حديث ابن عمر
(2)
مرفوعًا
(3)
مَنْ دَخَل السُّوقَ فقال: لا إله إلا الله وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت [وهو حي لا يموت] بيده الخَيْرُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير كتَب الله له أَلْفَ ألفِ حسنَةً، ومَحَا عَنْهُ ألفَ ألفِ سيئة ورَفَعَ له ألفَ ألفِ درجة
(4)
.
• ومن حَدِيثِ تَمِيم الدَّاريِّ مرفوعًا: "من
(5)
قال: أشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا أحدًا صمدًا لم يتّخِذْ صاحِبة ولا ولدًا، ولم يكن له كُفُوًا أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ كتبَ الله له أربعين ألفَ ألفِ حسَنَةً".
وفي كلا الإسنادين ضعف.
• وخرج الطبراني بإسناد ضعيف أيضًا، عن ابن عمر مرفوعًا.
"مَنْ قال: سُبْحانَ الله! كَتَبَ الله له مائة ألفِ حَسَنة وأربعة وعشرين ألف حسنة"
(6)
.
• وقوله في حديث أبي هريرة: "إلا الصيامَ؛ فإنه لي وأنا أجزي به"
(7)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 296 (الحلبي) من طريق يزيد بن هارون، عن مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال: أتيت أبا هريرة فقلت له: بلغني أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة؟ قال: وما أعجبك من ذلك؟ فوالله لقد سمعت يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة".
وأورده السيوطي في الدر المنثور 2/ 163 عن ابن جرير وليس فيهما الزيادة المذكورة.
وإسناد الحديث صحيح على ما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر 15/ 90 - 91 (المعارف) ح 7932.
(2)
م: "موقوفًا" وهو خطأ.
(3)
ليست في "ا"، ولا في ب وهي في م والترمذي.
(4)
أخرجه الترمذي في السنن: 49 - كتاب الدعوات: 36 - باب ما يقول إذا دخل السوق 5/ 491 ح 3428 وعقب عليه بقوله: هذا حديث غريب، وقد رواه عمرو بن دينار، وهو قهرمان آل الزبير عن سالم بن عبد الله هذا الحديث نحوه، وساقه عقبه.
(5)
ليست في ب والحديث رواه الترمذي (3469) وقال حديث غريب.
(6)
الذي أورده الهيثمي في المجمع 10/ 357 من حديث ابن عمر ضمن سياق طويل. "ومن قال سبحان الله كتب الله له مائة حسنة" لهذا النص فقط ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أيوب بن عتبة وهو ضعيف، وفيه توثيق لين.
(7)
مضى ص: 1035.
يدل على أن الصِّيَامَ لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه؛ إلا الله تعالى؛ لأنه أفضل أنواع الصبر، وإنما يوفى الصابرون أجْرَهُمْ بغَيْرِ حِسَابٍ.
• وقد رُوي هذا المعنى عن طائفة من السلف منهم كعب وغيره.
• وقد ذكرنا فيما سبق في شرح حديث "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه
(1)
" أن مضاعفة الحسنات زيادةً على العَشْر تكون بحسب حُسْنِ الإسلام كما جاء ذلك مُصَرَّحًا به في حديث أبي هريرة وغيره
(2)
ويكون بحسب كمال الإخلاص، وبحسبِ فضل ذلك العمل في نفسه، وبحسَب الحاجة إليه.
• وذكرنا من حديث ابن عمر أن قوله:- {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
(3)
.
نزلت في الأعراب وأن قوله {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}
(4)
نزلت في المهاجرين.
* * *
[النوع الثاني عمل السيئات]:
• النوع الثاني: عمل السيئات، فتكتَب السيئة بمثلها من غيرِ مضَاعفة، كما قال الله تعالى: - {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
(5)
.
• وقوله: "كُتِبت له سيئةً واحدة" إشارة إلى أنها غيرُ مَضَاعَفَةٍ.
• كما صرح في حديث آخر
(6)
لكنَّ السّيئة تَعْظُمُ أحيانًا بشرف الزمان أو المكان كما قال تعالى: - {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}
(7)
.
• قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية:
{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في كلهنّ ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهنّ حُرُمًا وعظّم حُرُماتِهِنَّ وجعَلَ الذنبَ فيهنّ أعظمَ والعملَ الصالحَ والأجر أعظم
(8)
.
(1)
وهو الحديث الثاني عشر من أحاديث الكتاب.
(2)
كما مضى ص: 317.
(3)
سورة الأنعام: 160.
(4)
سورة النساء: 40.
(5)
سورة الأنعام: 160.
(6)
كما مضى في أحاديث أبي هريرة وأبي ذر ص 1034 - 1035.
(7)
سورة التوبة: 36.
(8)
تفسير ابن كثير 2/ 355 وقد أورده بمثله.
وقال قتادة في هذه الآية: - "اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا فيما سوى ذلك، وإن كان الظلم في كل حال غير طائل ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا
(1)
".
• وقد روى في حديثين مرفوعين أن السّيئاتِ تُضاعَف في رمضان ولكنّ إسْنَادَهُمَا لا يصح.
• وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
(2)
.
• قال ابنُ عمر: الفسوق: ما أصيبَ من معاصي الله صيدًا كان أو غَيْرَهُ.
• وعَنْهُ قال: الفُسُوقُ إتيانُ مَعاصِي الله في الحَرَمِ.
• وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
(3)
وكان جماعة من الصحابة يتَّقُون سُكْنَى الحرم؛ خشيةَ أرتكابِ الذنوب فيه.
• منهم ابنُ عباسٍ، وعبدُ الله بن عمرو بنِ العاص.
وكذلك كان عمر بنُ عبد العزيز يفعل.
وكان عبدُ الله بن عَمْرِو بن العاص يقول: "الخطيئة فيه أعظم".
• وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لأن أُخْطِئَ سَبْعينَ خطيئةً يعني بغير مكة: أَحبُّ إليَّ مِنْ أَن أُخطئ خطيئةً واحدةً بمكة.
• وعن مجاهد قال: تُضاعَفُ السيئاتُ بمكةَ كما تضاعفُ الحسنات.
• وقال ابنُ جريح: "بلغني أن الخطيئة بمكة بمائةِ خطيئة والحسنَةُ على نحو ذلك.
• وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد في شيء من الحديث: "إن السيئةَ تُكْتَبُ
(1)
أورده ابن كثير في الموضع السابق أتم من هذا فقد قال: وقال قتادة، في قوله:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس رسلًا واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان، والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله؛ فإنما تعظيم الأمور ما عظمها الله به عند أهل الفهم، وأهل العقل".
(2)
سورة البقرة: 197 والخبران التاليان في الطبري 4/ 137 - 138.
(3)
سورة الحج: 25 وانظر في تفسير الآية وآثارها: "الدر" 4/ 351 - 352.
بأكثَرَ مِنْ واحدة؟.
قال: لا؛ ما سمعنا إلا بمكة. لتعظيم البلد، ولو أن رجالًا بِعَدَنِ أَبْيَنَ همّ
(1)
.
وقال إسحاق بن راهويه: كما قال أحمد.
وقوله: "لو أنّ رَجُلًا بعدن أبين همّ .. " هو من قول ابن مسعود، وسنذكره فيما بعد
(2)
إن شاء الله تعالى، وقد تُضاعف السيئات بشرف فاعلها، وقوة معرفته بالله وقُرْبِهِ منه فإن مَنْ عَصَى السلطان على بساطه أعظمُ جُرْمًا ممن عصاه على بُعْدٍ.
• ولهذا توعَّدَ الله خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء وإن كان قد عصمهم منها، ليبين لهم فضلَه عليهم، بعصمتهم من ذلك كما قال تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}
(3)
.
• وقال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} - إلى قوله - {وَأَجْرًا عَظِيمًا}
(4)
.
• وكان علي بن الحسين يتأوّلُ في آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني هاشم. مثل ذلك
(5)
لقربهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
* * *
[النوع الثالث: الهم بالحسنات]:
• النوع الثالث: الهمُّ بالحسنات، فتُكَتَبُ حَسَنَةً كاملةً وإن لم يعملها كما في حديث ابن عباس وغيره.
• وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم كما تقدم
(6)
إذا تحدّث عبدي بأن يعملَ حسنة؛ فأنا أكتبها له حسنة.
والظاهر أن المراد بالتحدّث حديثُ النفس وهو الهمّ.
(1)
عدَن بالمكان: أقام به، وعدن أَبيْن: جزيرة باليمن أقام بها أبين.
(2)
ص 1050.
(3)
سورة الإسراء: 74، 75.
(4)
سورة الأحزاب: 30 - 35.
(5)
أي من التعظيم والحرمة فتكريمهم يضاعف ثوابه والاجتراء عليهم يضاعف عقابه.
(6)
ص: 1034.
• وفي حديث خُرَيم بن فاتك: "مَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه، وحَرَصَ عليها كتبت له حسنة"
(1)
.
وهذا يدل على أن المراد بالهمّ هنا هو العزم المصمِّم الذي يوجد معه الحرصُ على العمل، لا مجرد الخطْرة التي تَخْطُر ثم تَنْفَسِخ من غير عزم ولا تصميم.
• قال أبو الدرداء: "من أتى فِرَاشَهُ وهو ينوي أن يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح كُتِبَ له ما نَوَى".
• وروي عنه مرفوعًا وخرجه ابن ماجه مرفوعًا
(2)
.
• قال الدارقطني: المحفوظ الموقوف.
• وروي معناه من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(3)
.
• وروي عن سعيد بن المسيب قال: من هَمَّ بصلاة أو صيام أو حج أو عمرة أو غزو فحيل بينه وبين ذلك بلغه الله تعالى ما نوى.
• وقال أبو عمران الجوني: ينادَى الملك! اكتب لفلان كذا وكذا؛ فيقول: يا رب! إِنه لم يعمله، فيقول الله: إنه نواه.
• وقال زيد بن أسلم: كان رجلٌ يطوف على العلماء يقول: من يدلني على عمل لا أزال منه لله عاملًا؛ فإني لا أحبُّ أن يأتي علَيَّ ساعة من الليل والنهار؛ إلا وأنا عاملٌ لله تعالى؟ فقيل له: وقد وجدت حاجتك؛ فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فَتَرْتَ أو تركْتَ فهُمَّ بعمله، فإنَّ الهامَّ بعمل الخير كفاعله.
ومتى اقترن بالنية قولٌ أو سعيٌ تأكد الجزاء والتَحَقَ صاحِبُه بالعامل.
• كما رَوى أبو كبشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتّقي فيه ربّه، ويصلُ فيه رَحِمَهُ، ويعلم لله فيه
(1)
مضى ص: 1035.
(2)
أخرجه ابن ماجه في السنن: 5 - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها: 177 - باب ما جاء فيمن نام عن حزبه من الليل 1/ 426 - 427 حديث أبي الدرداء يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وزاد في آخره: "وكان نومه صدقة عليه من ربه".
وقد أورده الشيخ ناصر الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1031) ونسبه أيضًا إلى النسائي وابن حبان والحاكم ورمز له بالحسن وأشار إلى إخراجه له في صحيح الترغيب وأبي داود.
(3)
رواه مالك في الموطأ 1/ 111 ح 285 رواية مصعب الزهري وانظر تخريجه بهامشه.
حقًّا، فهذا بأفضَلِ المنَازِلِ.
وعَبْدٌ رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا؛ فهو صادِقُ النية، فيقول: لو أنّ لي مالًا لعملتُ بعمل فلانٍ؛ فهو بنيته (1) فأجرهما سواء.
وعبدٌ رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا [فهو يخبطُ] في ماله بِغَيْرِ عِلْمٍ لا يتَّقي فيه رَبَّهُ، ولا يصلُ فيه رَحِمَهُ، ولا يعلم لله فيه حقًّا؛ فهذا بأخبثِ المنازل.
وعبدٌ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا؛ فهو يقول: لو أن لي مالًا؛ لعملتُ فيه بعمل فلان؛ فهو بنيته (2) فِوْزرُهُمَا سواء".
• خرجه الإمام أحمدُ والترمذيُّ، وهذا لفظه، وابنُ ماجه
(3)
وقد حُمِلَ قولُه: "وهما في الأجر سواء" على استوائهما في أصل أجر العمل، دون مُضاعفته، فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل، دون من نواه ولم يعمله، فإنهما لو استويا من كل وجه لكُتب لمن همّ بحسنة ولم يعملها عشْرُ حسنات، وهو خلاف النصوص كلها؛ ويدل على ذلك قوله تعالى:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ}
(4)
قال ابن عباس وغيره: "القاعدون المفضّلُ عليهم المجاهدُون درجة هم القاعدون من أهل الأعذار، والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجاتٍ هم القاعدونَ من غير أهل الأعذار"
(5)
.
* * *
[النوع الرابع: الهم بالسيئات]:
• النوع الرابع: الهمُّ بالسيئات من غير عمل لها ففي حديث ابن عباس أنها تُكْتب
(1، 2) في الترمذي: "فهو نيته".
(3)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 231 (الحلبي) ضمن حديث آخر.
والترمذي في: 37 - كتاب الزهد: 17 - باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر 4/ 562 - 563 ح 2325 عقب حديث آخر بإسنادٍ واحدٍ وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن صحيح.
وابن ماجه في 37 - كتاب الزهد: 26 - باب النية 2/ 1413 ح 4228 بنحوه وفي أوله: "مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالًا وعلمًا فهو يعمل بعلمه، ينفقه في حقه
…
الحديث وهو في صحيح الترمذي 1894 بإسناد صحيح.
(4)
سورة النساء: 95 - 96.
(5)
رواه الترمذي في السنن: التفسير ح 3035. وإسناده صحيح؛ انظر صحيح الترمذي 2428.
له حسنة كاملة وكذلك في حديث أبي هريرة، وأنس وغيرهما أنها تُكْتَبُ حسنة وفي حديث أبي هريرة قال: إنما تركها من جرائي، يعني من أجلي.
• وهذا يدل على أن المراد مَنْ قَدَر على ما همَّ به من المعصية فتركه لله تعالى، وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة، لأن تركه للمعصية بهذا القصد عملٌ صالح.
• فأما إن همَّ بمعصيةٍ ثم ترك عملها خوفًا من المخلوقين أو مراعاة لهم، فقد قيل إنه يعاقبُ على تركها بهذه النية؛ لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرّم.
• وكذلك قصدُ الرياء للمخلوقين محرّم فإذا اقترن به تركُ المعصية لأجله عُوقب على هذا الترك.
• وقد خرج أبو نعيم بإسناد
(1)
ضعيفٍ عن ابن عباس قال: يا صاحبَ الذنب! لا تأمننَّ
(2)
سوء عاقبته وَلَمَا يتبعُ الذنبَ أَعْظَمُ من الذنب إذا عملته، فذكر كلامًا وقال: وخَوْفُكَ من الريح إذا حَرَّكَتْ ستْرَ بابك، وأنتَ على الذنب، ولا يضطربُ فؤادُك من نظر الله إليك أعظمُ من الذنب إذا عملته
(3)
.
• وقال الفضيل بن عياض: كانوا يقولون تركُ العمل للناس رياءٌ والعملُ لهم
(4)
شِرْكٌ.
• وأما إن سَعَى في حُصُولِهَا بما أمكنَهُ ثم حالَ بينَهُ وبَيْنَهَا القَدَرُ فقد ذَكَر جماعةٌ أنه يُعَاقَبُ عَلَيْهَا حينئذ، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله تَجَاوز لأمتي عما حدّثَتْ به أنفسَها ما لم تَتَكَلّم به أو تَعمل
(5)
.
(1)
اختصر ابن رجب ما أورده أبو نعيم في الحلية 1/ 324 - 325 عن ابن عباس رضي الله عنهما اختصارًا بينًا ففيه
…
إذا عملته فإن قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال وأنت على الذنب أعظم من الذنب الذي عملته، وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب. . . إلخ فارجع إليه إن شئت.
(2)
م: "من سوء" وهي هكذا في الحلية.
(3)
م: "فعلته".
(4)
في هامش م: لعله "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك".
(5)
أخرجه البخاري في: 49 - كتاب العتق: 6 - باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه - (5/ 160) ح 2528. وفي: 68 - كتاب النكاح: 11 - باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره 9/ 388 ح 5269.
وفي: 83 - كتاب الأيمان والنذور: 15 - باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان 11/ 548 - 549 ح 6664.
ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 58 - باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر 1/ 116 - 117 ح 201 - (127)، 202 من وجوه عديدة.
وأبو داود في السنن: 7 - كتاب الطلاق: 15 - باب الوسوسة بالطلاق 2/ 657 - 658.
والترمذي في: 11 - كتاب الطلاق: 8 - باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته 3/ 489 وعقب عليه =
ومَنْ سَعَى في حصول المعصيةِ جهْدَهُ ثم عجز عنها فقد عمل
(1)
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل
(2)
فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حَريصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِه
(3)
".
= بقوله: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم: أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيء حتى يتكلم به.
والنسائي في: 27 - كتاب الطلاق: 22 - باب من طلق في نفسه 6/ 156 - 157 ح 3433 - 3435 من وجوه عديدة.
وابن ماجه في: 10 - كتاب الطلاق: 14 - باب من طلق في نفسه ولم يتكلم به 1/ 658 ح 2040.
وفي: 16 - باب طلاق المكره والناسي 1/ 659 ح 2044 وفيه: عما توسوس به صدورها
…
وما أستكرهوا عليه. والواحدي في أسباب النزول ص 89 وقد ذكر عن المفسرين سبب ورود هذا الحديث، قال: قال المفسرون، لما نزلت هذه الآية:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} جاء أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وناس من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله! والله ما نزلت أشد علينا من هذه الآية، وإن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه، وأن له الدنيا بما فيها، وإنا لمؤاخذون بما تحدث به أنفسنا؟ هلكنا والله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، فقالوا: هلكنا وكلفنا من العمل ما لا نطيق، قال: فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل لموسى: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، واشتد ذلك عليهم، فمكثوا بذلك حولا، فأنزل الله تعالى الفرج والراحة بقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية فنسخت هذه الآية ما قبلها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله قد تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم، ما لم يعملوا أو يتكلموا به".
وأورده السيوطي في الدر المنثور 1/ 374، 375، 376 وزاد نسبته إلى سفيان وعبد بن حميد وابن المنذر.
وانظر ما أورده قبل هذا في تفسير الآيات الأخيرة من سورة البقرة.
وأورده ابن كثير في التفسير 1/ 339 كلهم من حديث أبي هريرة بنحوه وبألفاظ مقاربة وقد أورده القرطبي في التفسير 3/ 423 دون ذكر الصحابي لكن ذكر أن الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
م: "عمل بها".
(2)
كلمة "هذا القاتل" ليست في ا.
(3)
أخرجه البخاري في: 2 - كتاب الإيمان: 23 - باب: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فسماهم المؤمنين 1/ 84 - 85 ح 31 من رواية الأحنف بن قيس، قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل؟ قال: ارجع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره.
وفي: 87 - كتاب الديات: 2 - باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا. . .} 12/ 192 ح 6875 بنحوه وفي: 92 - كتاب الفتن: 10 - باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما 13/ 31 - 32 ح 7083 بنحوه.
وأخرجه مسلم في: 52 - كتاب الفتن وأشراط الساعة: 4 - باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما 4/ 2213 - 2214 من رواية حماد بن زيد عن أيوب ويونس، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ يا أحنف؟ قال: قلت: أريد نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عليا، قال: فقال لي: يا أحنف! ارجع؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار
…
الحديث بنحوه.
وأخرجه عقبه من وجوه أخرى عن أبي بكرة بنحوه.
• وقوله "ما لم تكلَّمْ به أو تعمل".
• يدل على أن الهامَّ بالمعصية إذا تكلم بما همّ به بلسانه؛ فإنه يعاقب على الهمّ حينئذ؛ لأنه قد عَمِلَ بجوارحه معصية وهو التكلم بلسانه
(1)
.
• ويدل على ذلك حديث الذي قال: "لو أن لي مالًا لعملت فيه ما عمل فلان". يعني الذي يعصي الله في ماله قالَ: "فَهُمَا في الوِزْرِ سَوَاءٌ"
(2)
.
• ومن المتأخرين من قال: لا يعاقبُ على التكلم بما همَّ به ما لم تكن المعصية التي همَّ بها قولًا محرَّمًا كالقذف والغِيبةِ والكذبِ؛ فأما ما كان مُتَعلَّقُها العمل بالجوارح؛ فلا يأثم بمجرد التّكَلم بما
(3)
همَّ به.
وهذا قد يستدل له بحديث
(4)
أبي هريرة المتقدّم: "وإذا تحدث بأن يعمل
(5)
سيئة فأنا أغفرها لهُ، ما لم يعملها
(6)
".
• ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس جمعًا بينه وبين قوله: ما لم تكلم به أو تَعْمل
(7)
.
وحديث أبي كبشة يدلّ على ذلك صريحًا؛ فإن قول القائل بلسانه: "لو أن لي مالًا لعملتُ فيه بالمعاصي كما عمل فلان" ليس هو العمل بالمعصية التي همّ بها، وإنما أَخْبَرَ عما همّ به فقط، مما متعلَّقُه إنفاقُ المال في المعاصي، وليس له مَالٌ بالكلية.
وأيضًا فالكلامُ بذلك محرم، فكيف يكون معفوًّا عنه، غَيْرَ مُعَاقَبٍ عليه؟.
* * *
[ماذا إذا انفسخت نيته وفَترت عزيمته؟]:
وأما إن انفسخَتْ نِيتُه وفَتَرتْ عزيمتُه من غير سبب منه؛ فهل يعاقَبُ على ما هم به من المعصية أم لا؟ هذا على قسمين:
[الخواطر]:
• أحدهما: أن يكون الهمُّ بالمعصية خاطرًا خَطَر، ولم يساكنه صاحبه، ولم يعقد
(1)
م: "التكلم باللسان".
(2)
الذي مضى القول فيه قريبا ص 1044.
(3)
م: "ما".
(4)
م: يستدل به على حديث.
(5)
م: "وإذا تحدث عبدي بما لم يعمل سيئة".
(6)
مضى ص 1034.
(7)
ليست في م.
قلبه عليه، بل كرهه ونفِر منه فهذا معفوّ عنه، وهو كالوساوس الرديئة التي سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها فقال:"ذاك صريحُ الإيمان"
(1)
.
• ولما نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}
(2)
- شق ذلك على المسلمين وظنوا دُخولَ هذه الخواطر فيه؛ فنزلت الآية التي بعدها وفيها قوله: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}
(3)
فبينت أن ما لا طاقة لهم به؛ فهو غيرُ مؤاخَذٍ به ولا مكلّفٍ به.
وقد سَمَّى ابنُ عباس وغيرهُ ذلك نَسْخًا.
ومرادُهم أن هذه الآية أزالت الإبهامَ الواقع في النفوس من الآية الأولى.
• وبينت أن المراد بالآية الأولى: العزائم المصمَّمُ عليها.
ومثل هذا كان السلف يسمونه نسخًا.
[العزائم]:
• القسم الثاني: العزائم المصَمَّمة التي تقع في النفوس، وتدوم، ويساكنها صاحبها.
[وهي نوعان: الأول]:
• فهذا أيضًا نوعان: أحدهما: ما كان عملًا مستقلًا بنفسه من أعمال القلوب كالشكِّ في الواحدانية أو النبوَّةِ أو البعث، أو غير ذلك من أصول
(4)
الكفر والنفاق
(5)
أو اعتقاد تكذيب ذلك فهذا كله يعاقَبُ عليه العبدُ ويصير بذلك كافرًا ومنافقًا.
• وقد روي عن ابن عباس: أنه حمل قوله تعالى: - {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}
(6)
على مثل هذا.
• وروي عنه حَمْلُها على كتمان الشهادة كقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}
(7)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه: 1 - كتاب الإيمان: 60 - باب بيان الوسوسة في الإيمان 1/ 119 ح 209 - (132) من حديث أبي هريرة بمثله وح 211 - (133) من حديث عبد الله بن مسعود بنحوه وأخرجه ابن حبان من حديثيهما في صحيحه ح 145، 146، 148، 149.
(2)
سورة البقرة: 284.
(3)
سورة البقرة: 286.
(4)
،
(5)
ليست في م.
(6)
من الآية 284 من سورة البقرة وانظر الطبري 6/ 113.
(7)
من الآية 283 من سورة البقرة وانظر الطبري 6/ 102 ح 6449، 6450 من حديث ابن عباس و 6451 - 6455 من حديث عكرمة والشعبي وابن عباس.
• ويلحق بهذا القسم سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب كمحبة ما يُبْغِضُه الله، وبُغْضِ ما يحبُّه الله، والكبر والعُجْبِ، والحسَد، وسوءِ الظَّنِّ بالمسلم من غير موجب، مع أنه قد رُوي عن سفيان أنه قال في سوء الظن: إذا لم يترتبْ علَيْهِ قولٌ أو فعلٌ؛ فهو معفّو عنه.
• وكذلك رُوي عن الحسن أنه قال في الحسد.
ولعل هذا محمولٌ من قولهما على ما يجده الإنسان ولا يمكنه دفعه؛ فهو يكرهه، ويدفعه عن نفسه ولا
(1)
يندفِعُ
(2)
لا على ما يساكنه ويستروح إليه، ويعيد حديث نفسه به ويُبْديه.
[النوع الثاني وأقوال العلماء فيه]:
• والنوع الثاني: ما لم يكن من أعمال القلوب، بل كان من أعمالِ الجوارح كالزنا، والسرقة وشرب الخمر، والقتل، والقذف، ونحو ذلك إذا أصر العبد على إرادة ذلك، والعزم عليه، ولم يظهر له أثر في الخارج أصلًا فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء.
• أحدهما يؤاخذ
(3)
به.
• قال ابن المبارك: سألتُ سفيانَ الثَّوْرِيَّ: أيؤاخذ العَبْدُ بِالْهَمَّة؟ فقال: إذا كانَتْ عَزْمًا أُوخذ بها
(4)
.
• ورجح هذا القول كثيرٌ من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم، واستدلوا له بنحو قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}
(5)
وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}
(6)
وبنحو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الإثم ما حاكَ في صَدْرِك وكرهتَ أن يَطّلعَ عليه النَّاسُ"
(7)
.
وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوزَ لأمتي عمَّا حدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعْمَلْ"
(8)
على الخطرات.
• وقالوا: ما ساكنه العبد، وعقد قلبه عليه؛ فهو مِنْ كسبه
(9)
وعمله؛ فلا يكون
(1)
م: "فلا".
(2)
م: "إلا" وهو تحريف.
(3)
م: "الأخذ به".
(4)
أورده ابن حجر في الفتح 11/ 328 بمعناه.
(5)
سورة البقرة: 235.
(6)
سورة البقرة: 225.
(7)
هو الحديث السابع والعشرون من الكتاب.
(8)
مضى ص 1045، 1047.
(9)
م: "ما أكنه العبد وعقد عليه قلبه فهو من كسبه".
معفوًّا عنه.
ومن هؤلاء مَنْ قال: إنه يعاقبُ عليه في الدنيا بالهموم والغموم.
• وروى ذلك عن عائشة موقوفًا ومرفوعًا
(1)
وفي صحته نظر.
• وقيل بل يحاسب العبد به يوم القيامة يقفه الله عليه، ثم يعفو عنه، ولا يعاقبه به فتكون عقوبته المحاسبة.
وهذا مروي عن ابن عباس، والربيع بن أنَس، وهو اختيار ابن جرير
(2)
.
• واحتج له بحديث ابن عمر في النجوى
(3)
"وذاك" ليس فيه عموم.
وأيضًا فإنه وارد في الذنوب المستورة في الدنيا لا في وساوس الصدور.
• والقول الثاني: لا يؤاخذ بمجرد النية مطلقًا.
ونسب ذلك إلى نص الشافعي، وهو قولُ ابنِ حامد، من أَصْحَابنَا عملًا بالعمومات.
• وروى العوفي عن ابن عباس: ما يدل على مثل هذا القول.
* * *
• وفيه قول ثالث: أنه لا يؤاخذ بالهمّ بالمعصية؛ إلا بأن يهمَّ بارتكابها في الحرم كما روى السدي، عن مُرَّة، عن عبد الله بن مسعود، قال: "ما مِنْ عبدٍ يَهمُّ بخطيئة فلم يعملها فتكتبَ عليه، ولو همّ بقتل الإنسان عند البيت، وهو بعدنِ أبْينَ أذاقه الله من عذاب أليم وقرأ عبد الله:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
(4)
خرجه الإمام أحمد وغيره
(5)
.
(1)
كما رواه ابن جرير في التفسير 6/ 116 ح 6492، 6493، 6494 ورواه من حديثها مرفوعًا عقبها ح 6495.
(2)
م: في التفسير ح 6486 عن ابن عباس وح 6487 من حديث الربيع.
(3)
كما روى البخاري في المظالم: باب قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ومسلم في التوبة: باب قبول توبة القاتل ح 2768 كلاهما من حديث عبد الله بن عمر.
(4)
سورة الحج: 25.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 6/ 65 - 66، 153 ح 4071، 4316 (المعارف) عن يزيد بن هارون، عن شعبة، عن السدي أنه سمع مرّة أنه سمع عبد الله قال يزيد: قال لي شعبة: ورفَعه، ولا أرفعه لك، يقول الله عز وجل:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: "لو أن رجلا همّ فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عز وجل عذابا أليما".
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 70 عن أبي يعلى والبزار وأحمد وقال: رجال أحمد رجال الصحيح.
كما أورده ابن كثير في التفسير 3/ 214 - 215 عن ابن أبي حاتم، وقال: قال شعبة: هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه =
• وقد رواه عن السدي شعبة، وسفيان، فرفعه شعبة، ووقفه سفيان، والقول قولُ سفيان في وقفه
(1)
.
• قال الضحاك: إن الرجلَ لَيَهُمُّ بالخطيئة بمكة وهو بأرضٍ أُخْرَى فتكتب عليه ولم يعملها.
وقد تقدم عن أحمد وإسْحاقَ ما يدل على مثل هذا القول.
وكذا حكاه القاضي أبو يعلى؛ عن أحمد.
• وروى أحمد في رواية المروزي حديث ابن مسعود هذا.
• ثم قال أحمد: يقول: - من يُرِدْ فيه بإلحادٍ
(2)
قال أحمد: لو أن رجلًا بعدَنِ أَبْينَ
(3)
= لكم، ثم قال: قال يزيد: هو قد رفعه.
وأورده عن أحمد في المسند في هذا الموضع، عن يزيد بن هارون به ثم قال: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري ووقفه أشبه من رفعه، ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود، وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي من مُرّة، عن ابن مسعود موقوفًا.
ولم يرتض الشيخ أحمد شاكر رد القول برفع الحديث، فعقب على ما ذكره ابن كثير وما روى عن شعبة بقوله: وهذا تحكم من شعبة، ثم من ابن كثير، وكلمة يزيد بن هارون التي رواها ابن أبي حاتم كلمة حكيمة، وإشارة دقيقة، يريد أن شعبة قد حكى رفعه عن شيخه، فهو قد رفعه رواية، وإن وقفه رأيا، والرفع زيادة من ثقة فتقبل، ونحن نأخذ عن الراوي روايته، ولا نتقيد برأيه وأما أن غير شعبة رواه موقوفًا؛ فلا يكون علة للمرفوع والرفع زيادة ثقة كما قلنا".
وكأن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، يريد ليقول: إنه من قبيل ما صح مرفوعًا وموقوفًا وليس من قبيل ما صح موقوفًا فقط.
وهي إحدى فرائد الشيخ وما أكثرها!.
وقد أورد ابن كثير عن الثوري، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال:"ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلًا بعدن أبين هم أن يقتل رجلًا بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم".
وكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد: إلحاد فيه؟ لا والله! وبلى والله!.
وقد أورده الهيثمي في المجمع في الموضع السابق عن الطبراني وقال: فيه الحكم بن ظهير وهو متروك.
وأورده السيوطي في الدر المنثور 4/ 351 رزاد نسبته إلى سعيد بن منصور.
كما أورد الحديث السابق في الموضع ذاته وزاد نسبته إلى الفريابي، وسعيد بن منصور وابن راهويه، وعبد بن حميد والبزار وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر.
(1)
قد وقفت على رؤية المرحوم الشيخ أحمد شاكر في هذا.
(2)
إشارة إلى الآية 25 من سورة الحج.
وفي "ا": "من يرد فيه بإلحاد" فقط.
(3)
بوزن أحمر-: قرية على جانب البحر باليمن أو هي اسم مدينة عدن، نهاية 1/ 20.
همّ بقتل رَجُلٍ في الحرم هذا قول الله تعالى: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} هكذا قال ابن مسعود رحمه الله.
• وقد رد بعضهم هذا إلى ما تقدَّم من المعاصي التي مُتَعَلَّقُها القَلْبُ وقال: الحرمُ يجب احترامه وتحريمه
(1)
وتعظيمه بالقلوب.
فالعقوبة على ترك هذا الواجب.
وهذا لا يصحّ؛ فإن حُرْمَةَ الحرم ليست بأعظمَ من حُرْمَة محرِّمِهِ سبحانه وتعالى والعزْمُ على معصية الله عزمٌ على انتهاك محارِمه، ولكن لو عزم على ذلك قصدًا لانتهاك
(2)
، حُرْمة الحرم، واستخفافًا بحرمته؛ فهذا كما لو عَزَمَ على فعل معصية بقصد
(3)
الاستخفاف بحرمة الخالق تعالى؛ فيكفرُ بذلك.
وإنما ينتفى الكفرُ عنه إذا كان هَمُّهُ بالمعصية بمجرد نَيْل شهوته، وغرض نفسه، مع ذهوله عن قصد مخالفة الله، والاستخفافِ بهيبته، وبنظره.
ومتى اقترن العملُ بالهمّ فإنه يعاقبُ عليه، سواءٌ كان الفعل متأخِّرًا أو متقدِّمًا.
فمن فعل محرمًا مرة ثم عزم على فعله متى قدر عليه فهو مُصِرٌّ على المعصية، ومعاقَبٌ على هذه النية، وإن لم يَعُدْ إلى عمله إلا بعد سنين عديدة.
• وبذلك فسر ابنُ المبارك وغيره الإصرارَ على المعصية.
وبكل حال، فالمعصية إنما تُكْتَبُ بمثلها من غير مضاعفةٍ فتكون العُقُوبَة على المعصية، ولا ينضم إليها الهمُّ بها إذ لو ضُمَّ إلى المعصية الهمُّ بها لعُوقِبَ على عمل المعصية عقوبتين، ولا يقال: فهذا يلزم مثلُه في عمل الحسنة فإنه
(4)
إذا عملها بعد الهمّ بها أثيبَ على الحسنة، دون الهمّ بها، لأنا نقول: هذا ممنوعٌ فإنّ مَنْ عَمِلَ حَسنة كُتبت له عشر أمثالها، فيجوز أن يكون بعض هذه الأمثال جزاء للهمّ بالحسنة والله أعلم.
• وقوله في حديث أبن عباس في رواية مسلم: "أو محاها الله
(5)
" يعني أن عملَ السيئة إما أن تُكْتَبَ لعاملها سيئةً واحدة، أو يَمْحُوَهَا الله بما شاء من الأسباب كالتوبة، والاستغفار، وعملِ الحسنات.
(1)
ليست في "ا".
(2)
م: "كانتهاك".
(3)
"ا": "لقصد".
(4)
م: "فإنها".
(5)
م: "مجاهد" وهو تحريف.
• وقد سبق الكلام على ما يمحى
(1)
به السيئات في شرح حديث أبي ذرّ "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تَمْحُهَا".
* * *
[ولا يهلك على الله إلا هالك؟]:
وقوله بعد ذلك "ولا يَهْلِكُ على الله إلا هالِكٌ".
يعني بعد هذا الفضل العظيم من الله، والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات، والتجاوزِ عن السيئات لا يهلك على الله إلا مَنْ هلك، وألقى بيديه
(2)
إلى التَّهلُكَةِ، وتَجرَّأ على السيئات، ورغب عن الحسنات، وأَعرضَ عنها.
• ولهذا قال ابنُ مسعود: ويل لمن غَلَبَ وُحْدَانُهُ عشراتِهِ
(3)
.
• وروى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس مرفوعًا: هلك من غلب واحده عشرًا
(4)
.
• وخرج الإمام أحمد
(5)
...................................
(1)
م: "فيما يمحى" وذلك في الحديث الثامن عشر.
(2)
م: "بيده".
(3)
م: "غلبت وحداته عشراتة" ا: "عشرانه".
(4)
واضح أنه ضعيف جدًّا؛ وآفته من راوييه: الكلبي وأبي صالح.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 9/ 260 - 261 (المعارف) ح 6498 من رواية جرير، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وفيه: قالوا: وما هما يا رسول الله؟ قال: أن تحمد الله وتكبره وتسبحه في دبر كل صلاة مكتوبة عشرا عشرا، وإذا أتيت إلى مضجعك تسبح الله وتكبره وتحمد مائة مرة فتلك خمسون ومائتان باللسان وألفان وخمسمائة في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة؟ قالوا: كيف من يعمل بهما قليل؟ قال: يجيء أحدكم الشيطان في صلاته فيذكره حاجة كذا وكذا، فلا يقولها، ويأتيه عند منامه فينومه فلا يقولها.
قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن بيده.
وقد حسن محققه إسناده؛ وعلل ذلك برواية جرير عن عطاء بعد اختلاطه ثم قال: ولكن الحديث في ذاته صحيح؛ لأنه رواه آخرون عن عطاء ممن سمعوا منه قبل تغيره.
وأحال فضيلته إلى الرواية الثانية للحديث في مسند أحمد في المسند 11/ 144 - 145 ح 6910 (المعارف) من رواية محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عطاء بن السائب - به - بنحوه وفيه، خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، هما يسير، ومن يعمل بهما قليل؛ تسبح الله عشرًا، وتحمد الله عشرًا وتكبر الله عشرًا في دبر كل صلاة فذلك مائة وخمسون باللسان وألف وخمسمائة في الميزان وتسبح ثلاثًا وثلاثين، وتحمد ثلاثًا وثلاثين، وتكبر أربعًا وثلاثين، عطاء لا يدرى أيتهن أربع وثلاثون، إذا أخذ مضجعه =
وأبو داود
(1)
والنسائي
(2)
والترمذي
(3)
من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال
= فذلك مائة باللسان وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم ألفين وخمسمائة سيئة؟ قالوا: يا رسول الله! كيف هما يسير ومن يعمل بهما قليل؟ قال: الحديث.
وعقب عبد الله بن أحمد بن حنبل بقوله:
سمعت عبيد الله القواريري، سمعت حماد بن زيد يقول: قدم علينا عطاء بن السائب البصرة، فقال لنا أيوب: ائتوه فاسألوه عن حديث التسبيح، يعني هذا الحديث.
وقد علل الشيخ أحمد شاكر لما ذهب إليه من أن الحديث في ذاته صحيح بعد أن تبين من هذا الموضع الثاني متابعة شعبة لجرير في السماع من عطاء، وبعد أن تأكد هذا بسماع حماد بن زيد أيضًا من عطاء لهذا الحديث حيث قال رحمه الله، لافتًا إلى أن سماع شعبة من عطاء كان قبل الاختلاط.
وشعبة سمع من عطاء قديمًا، وحديثه عنه حديث صحيح، ودلت رواية عبد الله بن أحمد على أن حماد بن زيد سمعه منه أيضًا، بل لعلها تدل على أن أيوب سمعه منه كذلك، وعلى أن عطاء لم يخلط في هذا الحديث حتى في رواية من سمعه منه بعد تغيره، فليس التغير بموجب أن يخطيء في كل ما يروي.
وهذه لمحة دقيقة ولا ريب!.
(1)
رواه أبو داود في: 35 - كتاب الأدب: 109 - باب التسبيح عند النوم 5/ 309 - 310 ح 5065 من رواية حفص بن عمر، عن شعبة - به - بنحوه وفيه: خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم
…
هما يسير
…
ويكبر
…
في الميزان ويكبر أربعًا وثلاثين إذا أخذ مضجعه ويحمد ثلاثًا وثلاثين ويسبح ثلاثًا وثلاثين فذلك مائة
…
قالوا يا رسول الله! الحديث بنحو ما عند أحمد بتقديم وتأخير.
(2)
وأخرجه النسائي في: 13 - كتاب السهو: 91 - باب عدد التسبيح بعد التسليم 3/ 74 - 75 من رواية يحيى بن حبيب، عن حماد، عن عطاء - به - بنحوه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة وهما يسير ومن يعمل بهما قليل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس. يسبح أحدكم في دبر كل صلاة عشرًا، ويحمد عشرًا، ويكبر عشرًا، فهي خمسون ومائة في اللسان وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن بيده
…
قالوا يا رسول الله! وكيف لا نحصيهما؟ فقال: "إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته
…
فينيمه".
(3)
أخرجه الترمذي في: 49 - كتاب الدعوات: 25 - باب حدثنا أحمد بن منيع 5/ 478 من رواية إسماعيل بن علية عن عطاء - به - بنحوه وفيه ". . ." ألا وهما يسير يسبح الله في دبر كل صلاة عشرًا ويحمده عشرًا ويكبره عشرًا، قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده، قال: فتلك وذكر الحديث من هنا بمثل ما أورد ابن رجب في الجزء وزاد: قالوا: وكيف لا نحصيهما؟ .. الحديث بمثل ما عند أحمد.
وعقب عليه بقوله: وهذا حديث حسن صحيح.
وقد روى شعبة والثوري عن عطاء بن السائب هذا الحديث.
فإذا أضفنا إلى هذا رواية إسماعيل بن علية عن عطاء لهذا الحديث كان معنى هذا أن الذين تابعوا جريرا عن عطاءهم شعبة والثوري وإسماعيل بن علية؛ فتأكد بهذا ما ذهب إليه الشيخ أحمد شاكر: أن الحديث صحيح. وإذا راعينا رواية جرير عن عطاء لروايته عنه بعد الاختلاط فطريق جرير طريق حسن وكما سبق أن صرّح الشيخ أحمد شاكر وإذا أردنا أن نحكم على الحديث من حيث طرقه كلها فهو حسن من طريق، وصحيح من طرق، أو كما قال الترمذي حسن صحيح، أو بعبارة تفسر قول الترمذي في هذا الموضع: حسن وصحيح.
وقد آثرنا أن نذكر لك ما في المصادر التي أشار إليها ابن رجب من نصوصها للحديث فلم نجد مصدرًا منها يمكننا من أن نقول: إن اللفظ الذي آثره ابن رجب له.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة وهما يَسيرٌ ومَنْ يعملُ بهما قليل يسبح الله في
(1)
دبر كل صلاة عشرًا ويحمده عشرًا ويكبره عشرًا قال: دذلك خمسون ومائةً باللسان، وألفٌ وخمسمائة في الميزان وإذا
(2)
أخذت مضْجَعَكَ تسَبّحه وتكبّره، وتَحْمَدُهُ مائةً، فتلك مائةٌ باللسان، وألفٌ في الميزان، فأيّكُم يعملُ في اليوم والليلةِ ألفين وخَمْسَمائة سيئة؟ ".
• وفي المسند عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يدعْ أحَدٌ منكم
(3)
أن يعملَ لله ألفَ حسنةٍ حين يُصبح، يقول: سبحان الله وبحمده مائة مرّة، فإِنها ألفُ حسنةٍ؛ فإنه لن يَعْمَلَ إن شاءَ الله تعالى مثلَ ذلك في يَوْمهِ منَ الذنوبِ، وَيكون ما عملَ من خيرٍ سوى ذلك وافرًا"
(4)
.
* * *
(1)
ليست في م.
(2)
م: "وإذا".
(3)
م: "أحدكم".
(4)
أخرجه أحمد في المسند 6/ 440 (الحلبي) من رواية أبي المغيرة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن أبي الأحوص: حكيم بن عمير وحبيب بن عبيد، عن أبي الدرداء، فذكره بنحوه، وفيه: لا يدع رجل منكم
…
لن يعمل
…
".
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 113 عن أحمد في هذا الموضع وقال فيه: أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف.
إلا أن فيه: يقول: باسم الله سبحان الله
…
الحديث.
الحديث الثامن والثلاثون
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّ اللهَ تَعَالَى قالَ: مَنْ عادَى لي وَليًّا فَقَد آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ، حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بهِ، وَيَدَهُ التي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِي بِهَا؛ وإنْ سَأَلَنِي لأُعْطيَنَّهُ، وَلَئِن اسْتَعَاذَ بي لأُعِيذَنَّهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
* * *
[تخريج الحديث]:
هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري من دون بقية أصحاب الكتب.
خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة
(1)
قال: حدثنا خالد بن مخلد قال: حدثنا سليمان بن بلال قال: حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فذكر الحديث بطوله
(2)
.
(1)
هو: محمد بن عثمان بن كرامة العجلي مولاهم أبو جعفر، وقيل: أبو عبد الله الكوفي.
روى عن أبي نعيم وعبد الله بن موسى وكان يورق عليه وخالد بن مخلد وغيرهم.
روى عنه البخاري في الصحيح هذا الحديث فحسب، وروى عنه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن مخلد وغيرهم.
كان صدوقًا، وذكره ابن حبان في الثقات وتوفي سنة 256.
وترجمته في التهذيب 9/ 338 - 339، والكاشف 3/ 76.
(2)
أخرجه البخاري في: 81 - كتاب الرقاق: 38 - باب التواضع 11/ 340 - 341 ح 6502؛ عن محمد بن عثمان بن كرامة، عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة - فذكره.
وفي "ا"، م: "ولا يزال
…
ولئن".
وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 4 - 5 من رواية محمد بن عثمان بن كرامة - به - بنحوه وفيه: فلئن سألني عبدي أعطته ولئن استعاذ لي لأعذته .. وأكره إساءته - أو مساءته".
وفي المطبوع: "محمد بن إسحاق بن كرامة" وفيه تحريف.
والبيهقي في الزهد الكبير ص 291 من رواية محمد بن عثمان بن كرامة وفيه: فقد بارزني بالحرب، وما تقرب إلي بالنوافل حتى أحبه
…
ولئن سألني عبدي، ولئن استعاذ بي. =
• وزاد في آخره "وما تَردَّدْتُ عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن: يكره الموت وأنا أكره مَسَاءته".
وهو من غرائب الصحيح، تفرد به ابن كرامة، عن خالد وليس هو في مسند أحمد، مع أن خالد بن مَخْلد القَطَواني تكلّم فيه الإمام أحمد وغيره وقالوا: له مناكير
(1)
وعطاء الذي في إسناده قيل: إنه ابن أبي رباح، وقيل: إنه ابن يسار؛ وأنه وقع
= ثم أورد عقبه قول الجنيد في معنى قوله: "يكره الموت وأكره مساءته": لما يلقى من عيان الموت وصعوبته، وكربه، ليس أني أكره له الموت؛ لأن الموت يورده إلى رحمتي ومغفرتي.
وأخرجه في السنن الكبرى: كتاب صلاة الاستسقاء: باب الخروج من المظالم والتقرب إلى الله تعالى بالصدقة ونوافل الخير رجاء الإجابة 3/ 346 من الرواية السابقة وأشار إلى أمرين:
الأول: إخراجه له في الأسماء والصفات.
والثاني: إخراج البخاري له في الصحيح.
وفي كتاب الشهادات: باب ينبغي للمرء أن لا يبلغ منه ولا من غيره من تلاوة القرآن ولا صلاة نافلة ولا نظر في علم ما يشغله عن الصلاة حتى يخرج وقتها 10/ 219 من رواية أبي عبد الله الحافظ، عن إبراهيم بن محمد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عثمان بن كرامة - به - بنحوه - وأشار إلى رواية البخاري له في الصحيح.
(1)
وقد طعن على البخاري إخراجه لهذا الحديث في الصحيح، براويين، روى البخاري هذا الحديث من طريقهما، ولا مخرج له عن أبي هريرة من غيرهما إذ قد تفردا بروايته، كل في طبقته وأحدهما أحد شيوح البخاري وهو: خالد بن مخلد القطواني، وثانيهما شريك بن عبد الله بن أبي نمر.
وكما طعنت رواية البخاري، بذلك طعنت كذلك بعدم وضح المراد بعطاء الراوي، عن أبي هريرة: فهل هو عطاء بن يسار؟ أم هو عطاء بن أبي رباح؟.
وإذًا فنحن أمام تضعيف حديث البخاري بما يلي:
1 -
ضعف خالد بن مخلد.
2 -
ضعف شريك بن عبد الله.
3 -
الجهالة بعطاء وعدم الجزم بتعيينه
فأما خالد بن مخلد فالذي يبدو لي أنه؛ إنما ضعفه من ضعفه بما يلي:
1 -
إفراطه في التشيع.
2 -
حدته في الحديث عن الصحابة.
3 -
وهمه في بعض ما رواه حتى أخذ عليه ابن عدي خطأه في عشرة أحاديث.
4 -
تفرده ببعض ما رواه كهذا الحديث.
وأشد المؤرخين تحاملًا عليه الذهبي.
وأشد المحدثين استنكار له الإمام أحمد.
ومع ذلك فقد عرف به الذهبي في السير 10/ 217 - 219 فقال: الإمام المحدث، الحافظ المكثر المغرب (أي الذي يروي الغرائب) أبو الهيثم البجلي الكوفي القطواني، وقطوان (بفتح القاف والطاء) مكان بالكوفة. جل روايته عن أهل المدينة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حدث عن مالك وسليمان بن بلال. ونافع بن أبي نعيم وغيرهم.
حدث عنه البخاري في صحيحه، وعبد بن حميد، ومحمد بن عثمان بن كرامة، وخلق سواهم.
وقد ررى الجماعة سوى أبي داود، عن رجل عنه.
ثم حكى عن يحيى بن معين قوله فيه: ما به بأس، وعن أبي داود: صدوق يتشيع.
وعن أحمد بن حنبل: له أحاديث مناكير.
وعن محمد بن سعد: كان منكر الحديث، مفرطًا في التشيع، كتبوا عنه ضرورة.
ثم ذكر أن ابن عدي أورد له "في كامله" عدة أحاديث منكرة.
وأن البخاري روى له حديث "من عادى لي وليًا؛ فقد آذنته بالحرب" عن ابن كرامة عنه، وهو غريب جدًا لم يروه سوى ابن كرامة عنه.
وأن وفاته كانت سنة ثلاث عشرة ومائتين.
وذكر في التذكرة 1/ 406 - 407 أنه شيعي صدوق يأتي بغرائب ومناكير.
وإذا ما رجعنا إلى المصادر الأخرى للترجمة وجدنا صالح بن محمد جزرة يقول: إنه ثقة في الحديث؛ إلا أنه كان متهما بالغلو.
وأن الجوزجاني كان يقول عنه: كان شتامًا معلنًا لسوء مذهبه.
وأنه قد قيل له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل في المثالب أو المثاقب.
وأن أبا أحمد يقول: يكتب حديثه ولا يحتج به.
وأن الأزدي يقول: في حديثه بعض المناكير، وهو عندنا في عداد أهل الصدق.
وأن ابن شاهين كان يقول: ثقة صدوق.
أما العجلي فكان يقول: كوفي ثقة، فيه قليل من التشيع، كذا وثقه ابن حبان وترجم له في الثقات.
ونستطيع أن نستنتج مما سبق أن لخالد إيجابيات وسلبيات، وأن إيجابياته تتمثل فيما يلي:
1 -
أنه إمام محدث مكثر حافظ = ضابط.
2 -
أنه صدوق ما به بأس = عدل.
3 -
أنه ثقة لثبوت ضبطه وعدالته.
4 -
أن جل روايته عن أهل المدينة.
5 -
أن ممن أخذ عنه العلم: البخاري ومسلم وأصحاب السنن = أي أنه قد جاز القنطرة كما قيل؛ حيث أخذ عنه الشيخان.
6 -
أنه ذو تشيع قليل.
وإذا كانت تلك الأمور هي محاور إيجابياته؛ فإن محاور سلبياته ما يلي:
1 -
أنه - مُغرب = يأتي بالغرائب.
2 -
أنه يروي أحاديث مناكير كالأحاديث العشرة التي أوردها له ابن عدي في الكامل.
3 -
أنه مفرط في التشيع.
4 -
أنه كان سيئ القالة في الصحابة.
ولعل مأتى الإنكار عليه في أحاديثه ما أحصاه عليه ابن عدي، وما روي من تشيعه المفرط، وسوء مقاله في الصحابة.
فأما الأحاديث العشرة فعامتها أحاديث ثابتة وخطأ خالد فيها؛ إنما جاء في بعض أسماء رواتها أو في رفع =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بعضها وهو: موقوف.
كحديث: "السفر قطعة من العذاب".
رواه خالد عن مالك، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا.
قال ابن عدي:
وهذا لا يعرف لمالك، عن سهيل؛ إنما يرويه مالك في الموطأ، عن سمي؛ عن أبي صالح.
وكحديث "كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر".
وهذا رواه خالد، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا.
وقال ابن عدي، وهو في الموطأ موقوف وأكمل ابن عدي الحديث عن العشرة ثم قال: وخالد بن مخلد القطواني له عن مالك وسليمان بن بلال وغيرهما وله شيوخ كثيرة، ونسخ، وعنده نسخة عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة نحو من مائة حديث.
وله عن يوسف بن عبد الرحمن المدني، عن العلاء نسخة.
وله عن عبد العزيز بن الحصين نسخة، وهو من المكثرين في محدثي أهل الكوفة.
وبعد أن مهد ابن عدي بهذا للاعتذار عما أخذ على خالد في تلك الأحاديث قال رحمه الله: وهذه الأحاديث التي ذكرتها عن مالك، وعن غيره لعله توهمًا منه أنه كما يرويه، أو حمل على حفظه؛ لأني قد اعتبرت حديثه ما روى الناس عنه من الكوفيين: محمد بن عثمان بن كرامة، ومن الغرباء: أحمد بن سعيد الدارمي.
وعندي من حديثهما عن خالد صدر صالح ولم أجد في كتبه أنكر مما ذكرته، فلعله توهمًا منه أو حملًا على الحفظ، وهو عندي إن شاء الله: لا بأس به! ".
إن ابن عدي يريد ليقول:
إن خالد بن مخلد محدث مكثر له شيوخ عديدون وله عنهم نسخ كثيرة.
وقد يحدث الوهم أو النسيان مع هذه الكثرة من الشيوخ، والنسخ والأحاديث.
وهو صدوق لا يعرف عنه تعمد الخطأ.
فلعل هذه الأحاديث التي أخطأ فيها كانت منه على توهم أن ما رواه كان على ما رواه؛ إذ ربما يكون الخطأ في السماع، فسميّ قريب من سهيل، والحديث الذي رواه عن مالك بن سهيل هو: عن مالك عن سُمَيّ. فإما أن يكون ذلك منه على أساس التوهم، أو أن يكون قد سمع على الوجه، لكن الخطأ جاء من ضعف الحفظ. وعلى أية حال: فإن ابن عدي قد اعتبر أو اعتمد من رواية الناس عنه أحد رجلين:
1 -
محمد بن عثمان بن كرامة.
2 -
أحمد بن سعيد الدارمي.
وحديث أبي هريرة الذي معنا ليس مما أنكر عليه في هذه الأحاديث ثم هو من رواية واحد اعتمده ابن عدي وهو: محمد بن عثمان بن كرامة.
وقد شفع ابن عدي ذلك بشهادة منه لما روى ابن كرامة والدارمي عنه بقوله: وعندي من حديثهما عن خالد صدر صالح ولم أجد في كتبه أنكر مما ذكرته فلعله توهمًا منه أو حملًا على الحفظ.
فحديث أبي هريرة يدخل فيما ذكر ابن عدي: أنه صدر صالح؛ وأنه من الرواية التي اعتمدها عن خالد بن مخلد.
وهو يؤكد هذا بالاعتذار عنه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأنه ليس مما أنكر عليه إذ لم يكن من الأحاديث العشرة.
وقوله - بعد هذا عنه - وهو عندي إن شاء الله لا بأس به.
وقد وهم العلامة العيني حيث قرر في مجال دفاعه عن خالد بن مخلد أن هذا الحديث مما استنكره ابن عدي في عداد العشرة؛ وقد علمت أنه ليس واحدًا منها. وقد تتبعتها حديثًا حديثًا فلم أجد حديث أبي هريرة بها. وتأكد هذا بما ذكره الحافظ ابن حجر في هدي الساري 2/ 398 فقد قال: "لقد تتبع هذه المناكير أحمد بن عدي فأوردها في "كامله" وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاري، بل لم أر له من عنده من أفراده سوى حديث واحد وهو حديث أبي هريرة: "من عادى لي وليًّا
…
الحديث".
راجع ترجمة خالد بن مخلد في التاريخ الكبير للبخاري 2/ 1/ 160 والثقات لابن حبان 8/ 224، والثقات للعجلي ص 141 ت 369، والثقات لابن شاهين ص 116 ت 304، والضعفاء للعقيلي 2/ 15، وتهذيب التهذيب 3/ 116 - 118، والتقريب 1/ 218 وقد ذكر أنه من كبار العاشرة، وهدى الساري في الموضع المذكور. وفتح الباري 11/ 341، وعمدة القاري 23/ 89، ورجال صحيح البخاري - ورجال صحيح مسلم لابن منجويه 1/ 183 - 184 ت 380 وأما عن تشيعه فقد رأيت أن البعض يقول: كان مفرطًا في التشيع، وأن البعض الآخر يقول: كان قليل التشيع وهو: - إذًا - أمر اختلفت وجهات النظر في تقديره. وقد حسم الحافظ ابن حجر ما يتعلق بالرواية عنه بقوله في مقدمته:
"أما التشيع، فقد قدمنا أنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره، لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه". وعلى هذا يحمل ما روي عنه من حدة على الصحابة؛ فلعل في ذلك بعض المبالغة التي لا يحمل عليها؛ إلا الغيرة على الصحابة، سيما ونحن لم نَرَ الرواية عنه في هذا شائعة، بل إن القليل فحسب هم الذين رووا ذلك، وأخذوه عليه.
على أن الشيخين ما كانا ليرويا عنه وهما يريان له هذا الذي قيل عنه بالنسبة للصحابة، أو ما كانا ليخفيا ذلك في الترجمة له.
وهذا الحديث الذي رواه البخاري لخالد من رواية أبي هريرة رواه البيهقي وأبو نعيم كما تقدم وهما من هما في نقد الأسانيد، والدراية بالحديث ولم يطعن أي منهما في هذا الحديث، ولا في أحد رواته، بل كان البيهقي كما رأينا يذكر إيراد البخاري للحديث وروايته له، وكأنما يريد ليؤكد تأصيل صحة الحديث، وتوثيق روايته. أما الغرابة؛ فلا يرد بها الحديث وحدها، لأنها لا تنافي الصحة، وكم من غريب وهو صحيح؛ وما أكثر ما يعلق الترمذي في كتابه على الحديث جامعًا بين الصحة والغرابة، وخذ مثلًا - حديث؛ الأعمال بالنيات؛ فهو غريب؛ لانفراد بعض الرواة به في بعض طبقاته كطبقتي الصحابة والتابعين ولكنه مع هذا من أصح الصحيح. وسنرى أن الحديث وإن انفرد بروايته خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن شريك، عن عطاء عن أبي هريرة فإن أبا هريرة لم ينفرد بروايته، كما ذكر ذلك ابن رجب وغيره، الأمر الذي سيؤكد لنا أن للحديث أصلًا يرقى به إلى الصحيح لغيره إن لم نسلم؛ بأنه صحيح لذاته.
وإذا كان وجود الحديث المعلق في الصحيح يشي بذلك، فكيف بالحديث المسند؟
وفي ضوء هذا يستبين لنا معنى قول الذهبي، عن هذا الحديث:"حديث غريب جدًا، ولولا هيبة الصحيح؛ لعدوه من منكرات خالد بن مخلد؛ لغرابة لفظه، وانفراد شريك به، وليس بالحافظ ولم يرد هذا المعنى؛ إلا بهذا الإسناد، ولا خرجه غير البخاري".
قال الزبيدي: أي من الأئمة الستة.
وقد تبين لك أن للحديث مخارج عديدة عدا البخاري، بل عدا الكتب الستة كالسنن الكبرى للبيهقي، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والزهد الكبير، والأسماء والصفات له.
وقد أورده الزبيدي في الإتحاف 5/ 295 - 296 وزاد نسبته إلى الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس يقول الله عز وجل: "من عادى لي وليًا فقد ناصبني بالمحاربة
…
الحديث" وإلى أبي نعيم في الحلية، وابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء، والحكيم في النوادر، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء، وابن عساكر كلهم من حديث أنس يقول الله عز وجل: من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة.
وأورده في 8/ 102 وزاد نسبته إلى أحمد، والحكيم، وأبي يعلى، والطبراني في الأوسط، وأبي نعيم في الطب، والبيهقي في الزهد، وابن عساكر، من حديث عائشة قال: قال الله عز وجل: "من آذى لي وليًا فقد استحل محاربتي
…
الحديث" وسيأتي لنا تفصيل القول فيها.
وأما شريك بن عبد الله بن نمر؛ فحسبنا ما قال ابن حجر: في الفتح 13/ 485، عن شريك الذي قيل عن تفرده بأشياء في حديث الإسراء والمعراج، نقلًا عن أبي الفضل بن طاهر: تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه؛ فإن شريكًا قبله أئمة الجرح والتعديل، ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم واحتجوا به.
ثم قال ابن حجر: وروى عبد الله بن أحمد الدورقي، وعثمان الدارمي، وعباس الدوري، عن يحيى بن معين: لا بأس به، وقال ابن عدي: مشهور من أهل المدينة؛ حدث عنه مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به، إلا أن يروى عنه ضعيف؛ قال ابن طاهر: وحديثه هذا رواه عنه ثقة وهو سليمان بن بلال.
أقول: وهو الراوي الذي روى عنه حديث أبي هريرة "من عادى لي وليًا" الحديث.
ولا يطعن الحديث إذًا بتفرد شريك به.
وهكذا، قال النسائي، وابن معين، وابن أبي حاتم: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث؛ ووثقه أبو داود، وابن حبان لكن قال: ربما أخطأ وقال النسائي: ليس بالقوي ولعله يقصد إذا روى عنه ضعيف.
وقد وضع ابن عدي الميزان: إذا روي عنه ثقة فلا بأس برواياته.
وأنه روى له الشيخان، وأصحاب السنن.
وقد روى عن أنس وعطاء بن يسار وابن المسيب وغيرهم، وروى عنه مالك والثوري والمقبري وغيرهم وهو من الخامسة، قال عنه ابن حجر: صدوق يخطئ.
وقيل ليحيى بن معين: شريك أثبت أو أبو الأحوص؟ قال: شريك.
ومن وثيق صلته بالله ما حكاه يحيى بن معين قال: حدثني منجاب قال: قال رجل لشريك: كيف تجدك يا أبا عبد الله؟! قال: أجدني شاكيا، غير شاك لله عز وجل.
ومن ورعه ما حكاه يحيى قال: قال أبو عبيد الله لشريك القاضي: "أردت أن أسمع منك أحاديث؟ فقال: "قد اختلطت علي أحاديثي وما أدري كيف هي؟ " فألح عليه أبو عبيد الله، فقال: حدثنا بما تحفظ، ودع ما لا تحفظ. فقال: أخاف أن تجرح أحاديثي ويضرب بها في وجهي".
وإذا كان هذا حاله في الورع عن الخطأ، وفي الحرص والتحوط فكيف به إذا حدَّث؟!.
راجع ترجمته في التاريخ الكبير 2/ 2/ 236، والتاريخ لابن معين 2/ 251 - 252، والثقات للعجلي ص 217 ت 663 وذكر أنه مدني تابعي ثقة، والثقات لابن حبان 4/ 360 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/ 1/ 363 - 364 وتهذيب التهذيب 4/ 337 - 338، والتقريب 1/ 351.
في بعض نسخ الصحيح منسوبًا كذلك
(1)
.
• وقد روي هذا الحديث من وجوه أخر، لا تخلو كلها عن مقال.
فرواه عبدُ الواحد بن ميمون أبو حمزة مولى عروة بن الزبير، عن عروة، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله عز وجل] من آذى لي وليًّا فقد استحَلّ مُحَاربتي، وما تَقرّب إليّ عَبْدِي بمثل أداء فرائضي، وإنّ عَبْدي ليتقرّب إليَّ بالنوافلِ حتَّى أحِبَّهُ فإذا أَحْبَبْتُه كنتُ عينَه التي يُبْصرُ بها، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها وفؤادَهُ الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به، وإن دعاني أجَبْتُهُ، وإنْ سألني أعطيتُه وما ترددْتُ في شيء أنا فاعله تَردُّدِي عن موته، وذلك أنه يكره الموتَ وأنا أكرهُ مَسَاءَتَهُ.
• خرجه ابن أبي الدنيا وغيره.
• وخرجه الإمام أحمد بمعناه
(2)
.
(1)
الأصح أنه عطاء بن يسار، فقد وقع في بعض النسخ كذلك مصرحًا به، ونبه إلى ذلك الخطيب البغدادي، وترجع ذلك عند كل من العيني وابن حجر.
راجع عمدة القاري 23/ 89، وفتح الباري 11/ 341 وبذلك تنتفى الجهالة بعطاء.
(2)
الذي في مسند أحمد 6/ 256 من رواية حماد وأبي المنذر قالا: حدثنا عبد الواحد مولى عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: من أذل لي وليًا فقد استحل محاربتي، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء الفرائض، وما يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، إن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته، ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن وفاته، لأنه يكره، وأكره مساءته".
قال الإمام أحمد: وقال أبو المنذر: حدثني عروة، قال: حدثتني عائشة، وقال أبو المنذر:"آذى لي".
فهذا الحديث عند أحمد له إسنادان:
الأول: حماد، وأبو المنذر كلاهما عن عبد الواحد مولى عروة، عن عروة، عن عائشة.
والثاني: أبو المنذر، عن عروة، عن عائشة وهو بأعلى صيغ التحمل: التحديث.
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 247 - 248 من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها وقال، رواه أحمد وفيه: عبد الواحد بن قيس بن عروة، وثقه أبو زرعة والعجلي، وابن معين في إحدى الروايتين عنه وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وعبد الواحد بن قيس حيث هو مختلف فيه فحديثه حسن وراجع ترجمته في الضعفاء لأبي زرعة 3/ 635 ت 201 من أبي زرعة وجهوده في السنة النبوية للدكتور سعدي الهاشمي، والثقات للعجلي ص 314 ت 1044 وقد ذكر أنه شامي تابعي ثقة، والضعفاء الكبير للعقيلي 3/ 51 - 52، والتاريخ الكبير 3/ 2/ 56، وفيه "كان الحسن بن ذكوان يحدث عندنا عجائب" وصوابها عند العقيلي:"يحدث عنه عجائب" وعند البخاري في الضعفاء الصغير ص 79 ت 229: "بعجائب" والتهذيب 6/ 439 - 440 والتقريب 1/ 526، وقد ذكر أنه صدوق له أوهام ومراسيل، ولعله لهذا ذكره ابن حبان في الثقات، ثم في المجروحين وقال: لا يحتج بمقاطعيه ولا بمراسيله، والضعفاء للنسائي ص 208 ت 372، والجرح والتعديل 3/ 1/ 23.
ولقد جاء عبد الواحد هذا في المسند غير منسوب بل جاء فقط موصوفًا بكونه مولى لعروة. =
• وذكر ابن عديّ أنه تفرد به عبد الواحد هذا عن عروة
(1)
.
• وعبد الواحد هذا - قال فيه البخاري: منكرُ الحديث
(2)
ولكن خرجه الطبراني، حدثنا هارون بن كامل قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم: قال: حدثنا إبراهيم بن سويد المدني قال: حدثنا أبو حَزْرةَ: يعقوبُ بنُ مجاهد قال: أخبرني عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكره.
وهذا إسناد
(3)
جيد، ورواته
(4)
كلهم ثقات مخرّج لهم في الصحيح
(5)
سوى شيخ الطبراني؛ فإنه لا يحضرني الآن معرفةُ حاله.
= ونسبه ابن رجب فقال: عبد الواحد بن ميون، ورجح الشيخ ناصر الألباني هذه النسبة وأعل الحديث به، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 183 - 193 وعلى أنه عبد الواحد بن ميمون وهو من الضعف ما هو فقد قال الشيخ ناصر: وجملة القول في حديث عائشة هذا، أنه لا بأس به في الشواهد من الطريق الأخرى إن لم يكن لذاته حسنا.
وهو يقصد بالطريق الأخرى طريق الطبراني لحديث عائشة.
بيد أن الطريق الأخرى للحديث ذات الإسناد العالي والتي أشار إليها الإمام أحمد لحديث عائشة لم يتكلم عليها أحد فقد قال الإمام أحمد عقب الحديث: وقال أبو المنذر: حدثني عروة، حدثتني عائشة وساق الحديث؛ فكأن أبا المنذر روى الحديث عن عروة، مرة بطريق مباشر، ومرة عن طريق عبد الواحد.
فليكن عبد الواحد هذا ابن قيس أو ابن ميمون وليكن درجة حديثه ما تكون.
فقد صرح الهيثمي بأن رجال أحمد رجال الصحيح؛ ما عدا عبد الواحد ففيه ما علمت.
وإذا كان رجال أحمد عدا عبد الواحد رجال الصحيح فالحديث بالإسناد الذي ليس فيه عبد الواحد؛ حديث صحيح.
وإذًا؛ فهذا شاهد من الصحيح لحديث أبي هريرة إن افترضنا جدلًا أنه غير صحيح.
كيف وقد علمت عنه ما علمت؟.
بل كيف وقد صرح أبو نعيم بصحته حيث علق على إسناده لحديث عائشة بقوله "حديث غريب وقد صح معنى هذا الحديث من حديث عطاء، عن أبي هريرة".
نقله الشيخ ناصر في الموضع المذكور عن أبي نعيم في الأربعين الصوفية.
كما نقل فضيلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 18/ 129 - 131، قوله عن حديث أبي هريرة:"هذا حديث شريف، هو أشرف حديث روي في صفة الأولياء".
وهو عند ابن أبي الدنيا في: الأولياء ص 27 - 28 أول حديث في الكتاب عن أنس بن مالك.
(1)
في ترجمته له في الكامل 5/ 301 ت 476/ 1444 وهذا يرجح أيضًا أنه عبد الواحد بن ميمون وليس عبد الواحد بن قيس.
(2)
في ترجمته له في التاريخ الكبير 3/ 2/ 58 وانظر ترجمته أيضًا في الضعفاء والمتروكين للدارقطني ص 278 ت 344 والضعفاء للنسائي ص 207 ت 369، والجرح والتعديل 3/ 1/ 24، وفيه: سئل أبو عامر كيف كان هذا الشيخ؟ فقال: تعرف وتنكر، والكنى للدولابي 1/ 156.
(3)
م: "وهذا أيضًا إسناده".
(4)
م: "ورجاله".
(5)
م: "في الصحيحين".
ولعل الراوي قال: حدثنا أبو حمزة؛ يعني عبد الواحد
(1)
بن ميمون؛ فخيل للسامع أنه قال أبو حَزْرَةُ ثم سماه من عنده بناء على وهمه
(2)
والله أعلم.
(1)
م: "عبد الوهاب" وهو عبد الواحد.
(2)
لعل الذي وهم هو: الحافظ ابن رجب!؟.
لقد اعتقد ابن رجب أن الراوي وهم لأمرين:
الأول: أن الراوي عن عروة فيما يعتقد ابن رجب راوٍ واحد، هو عبد الواحد بن ميمون.
الثاني: أنه ليس لهذا الراوي الواحد؛ إلا كنية واحدة، هي أبو حمزة.
ومن هنا تعين على ابن رجب أن يخطئ الراوي خطأين:
الأول: في الكنية؛ حيث قال الراوي: حدثنا أبو حزرة؛ بينما الكنية الوحيدة لعبد الواحد هي أبو حمزة.
الثاني: في الاسم؛ حيث أعقب الراوي أبا حزرة، بيعقوب بن مجاهد، وكان عليه أن يعقبه بعبد الواحد بن ميمون، حتى لا يكون خطؤه مضاعفا.
وجل من لا يسهو!.
فقد أصاب ابن رجب في أن كنية عبد الواحد: أبو حمزة، ولكنه لم يصب فيما اعتقد أن الراوي خيل إليه أنه قيل له: أبو حزرة، ثم لم يصب فيما اعتقد أنه سماه من عنده بناء على وهمه.
إن الراوي عن عروة راويان، وليس راويًا واحدًا.
إن الراوي عن عروة أبو حمزة: عبد الواحد بن ميمون، وأبو حزرة: يعقوب بن مجاهد.
وكلا الكنيتين صواب.
وكلا الاسمين صحيح.
وآية ذلك في الكنى للدولابي 1/ 156، وتهذيب التهذيب 11/ 394 - 395، 12/ 17 وذكر أنه يعقوب بن مجاهد
القرشي أبو حزرة (بفتح المهملتين بينهما زاي ساكنة) المدني القاص مولى بني مخزوم.
وأنه يقال: كنيته أبو يوسف؛ وأبو حزرة لقب.
وثقه النسائي وابن حبان وروى له البخاري في الأدب، ومسلم، وأبو داود، وتوفي سنة خمسين ومائة أو تسع وأربعين ومائة.
وانظر التقريب 2/ 376، 411 وذكر فيه أنه يكنى أبا حزرة وهو بها أشهر، وأنه صدوق، من السادسة. وقد نقل الشيخ ناصر الألباني في الموضع السابق رواية الطبراني له في الأوسط (15/ 16 - زوائده) عن هارون بن كامل، عن سعيد بن أبي مريم، عن إبراهيم بن سويد، عن أبي حزرة: يعقوب بن مجاهد، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره بتمامه مثله، إلا أنه قال:"إن دعاني أجبته" بدل "إن استعاذني لأعيذنه" وأردف ذلك بتعقيب الطبراني؛ حيث قال:
"لم يروه عن أبي حزرة؛ إلا إبراهيم، ولا عن عروة؛ إلا أبو حزرة. وعبد الواحد بن ميمون".
وهذا نص صريح فيما أشرنا إليه.
وقول ابن رجب في هذا الإسناد: "وهذا إسناد جيد، ورواته كلهم ثقات، محتج بهم في الصحيح" قريب من قول الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 248 و 10/ 269: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، خلا شيخه هارون بن كامل.
وقد رد الشيخ ناصر الألباني في الموضع المذكور أن يكون يعقوب بن مجاهد، وإبراهيم بن سويد من رجال الصحيح، وذكر أن البخاري أخرج لهما في الأدب المفرد لا في الصحيح. =
وخرج الطبراني وغيره من رواية عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله تعالى: "منْ أهان لي وليًّا؛ فقد بارزني بالمحاربة، ابن آدم! إنك لن تُدْرك ما عندي؛ إلا بأداءِ ما افترضْتُ عليك، ولا يزال عبْدي يتحبب
(1)
إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فأكون قلبَه الذي يعقل به، ولسانَه الذي ينطق به، وبصرَهُ الذي يُبْصِرُ به، فإذا دَعَاني أَجَبْتُهُ، وإذا سألني أعطيته، وإذا استنصَرَنِي نَصَرْتُهُ، وأَحَبُّ عبادة عبدي إليّ النصيحة".
عثمان وعلي بن يزيد: ضعيفان
(2)
.
وقال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث: هو منكر جدًّا.
وقد روي من حديث عليّ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسناد
(3)
ضعيف.
خرجه الإسماعيلي في مسند علي.
وروي من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف
(4)
.
وخرجه الطبراني وفيه زيادات في لفظه.
ورويناه من وجه آخر عن ابن عباس وهو: ضعيف أيضًا.
وخرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخُشَني، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن هشام الكناني، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن جبريل عن ربه تعالى قال:
= وربما يكون أساس الرد عند الشيخ أنه في التهذيب في ترجمة يعقوب بن مجاهد أشير إلى أنه من رجال البخاري في الأدب.
وفي ترجمة إبراهيم بن سويد في التقريب أشير كذلك إلى أنه من رجال البخاري في الأدب.
وكلا الموضعين لا ينفي أن كلًا منهما من رجال الصحيح؛ فأما يعقوب بن مجاهد فهو: من رجال مسلم وهذا كاف في أنه من رجال الصحيح.
وأما إبراهيم بن سويد؛ فقد صرح في تهذيب الكمال، وتهذيب التهذيب؛ أنه من رجال البخاري ثم أشار محقق تهذيب الكمال إلى أن الإشارة في تقريب التهذيب أنه من رجال البخاري في الأدب وهم. راجع تهذيب الكمال 1/ 2/ 102 - 103 وفيه أيضًا أن سعيد بن أبي مريم روى عنه في البخاري وأبي داود، وتهذيب التهذيب، 1/ 126 و 11/ 394 - 395، وتقريب التهذيب، 1/ 36 و 2/ 376.
(1)
م: "يتقرب" وما أثبتناه عن "أ" هو الموافق لما في المجمع.
(2)
أورده الهيثمي في المجمع 2/ 248 من طريقين عن الطبراني، وقال: في الطريقين علي بن يزيد وهو ضعيف.
(3)
م: "بسند".
(4)
أورده الهيثمي في المجمع 10/ 270 من حديث ابن عباس وقال: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.
من أهان لي وليًّا فقد بَارَزَني بالمحاربة، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعله ما تردَّدْتُ في قبض نفسِ عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابا من العبادة فأكفُّه عنه لا يدخله عجب؛ فيفسده ذلك، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتنفَّل حتى أُحِبَّهُ، ومن أحببتُه كنتُ له سَمْعًا، وبَصَرًا، ويدًا، ومؤيدًا، دعاني؛ فأجبته، وسألني؛ فأعطيته، ونصح لي، فنصحت له، وإن من عبادي من لا يُصْلِحُ إيمانَهُ؛ إلا الغني ولو أفقرتُه، لأفْسَدَهُ ذلك، وإنّ من عبادي من لا يُصْلِحُ إيمانَهُ؛ إلا الفقر، وإن بَسَطتُ له؛ لأفسَدَه ذلك، وإِنّ مِن عبَادي مَنْ لا يُصْلِحُ إيمانه، إلا الصّحة، ولو أسْقمتُه لأفسَدَه ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه؛ إلا السقم، ولو أصححتُه؛ لأفسدَة ذلك؛ إني أدبّر عِبَادي بعلمي بما في قلوبهم إني عليمٌ خَبِيرٌ.
والخشني، وصدقة: ضعيفان، وهشام لا يُعرَف
(1)
.
وسئل ابنُ معين عن هشام هذا: مَنْ هو؟ قال: لا أَحَدَ.
يعني أنه لا يعتبر به.
وقد خرج البزَارُ بعضَ الحديث من طريق صدقة عن عبد الكريم الجزري، عن أنس.
وخرج الطبراني من حديث الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة حدثني زر بن حُبَيْش، سمعت حُذَيفة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أَوْحَى إليَّ يا أخا المرسلين! ويا أخا المنذرين! أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتًا من بيوتي ولأحدٍ عِنْدهم مظلمة؛ فإني أَلْعنُه ما دامَ قائمًا بين يدي يصلي حتى يرد تلك الظلّامةَ على أهلها، فأكونَ سمعَه الذي يسمع به، وأكونَ بصرَه الذي يبصِرُ به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكونَ جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة".
وهذا إسناد جيد، وهو غريب جدًّا
(2)
".
(1)
وأورده الهيثمي في المجمع 10/ 270 من حديث أنس و"قال" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمر بن سعيد أبو حفص الدمشقي، وهو ضعيف. وهو الوجه الذي أشرنا آنفًا أن ابن أبي الدنيا أخرجه منه في "الأولياء" حيث أخرجه عن الهيثم بن خارجة والحكم بن موسى، عن الحسن بن يحيى الخشني، به.
(2)
تكلم الحافظ ابن حجر على الحديث من رواية خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن شريك، عن عطاء، عن أبي هريرة، وأورد ما قاله الذهبي وغيره عن خالد وشريك مما أفضنا فيه من ذي قبل ثم قال: ولكن للحديث طرقًا أخرى يدل مجموعها على أن له أصلًا، منها عن عائشة، أخرجه أحمد في الزهد، =
[عود إلى شرح الحديث]:
ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري.
وقد قيل: إنه أشرف حديث روي في ذكر الأولياء
(1)
.
[من عادى لي وليًّا]:
قوله تعالى: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب" يعني: فقدْ أعلمتُه بأني مُحارِبٌ له؛ حيث كان محارِبًا لي بمعاداته أوليائي.
ولهذا جاء في حديث عائشة: "فقد استحل محاربتي" وفي حديث أبي أمامة وغيره: "فقد بارزني بالمحاربة".
وخرج ابن ماجه بإسناد ضعيف عن معاذ بن جبل، سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن يَسيرَ الرياء شِرْكٌ، وإنّ مَنْ عَادَى لله وليًّا فقد بارزَ اللهَ بالمحارَبة، وإنّ اللهَ تعالى يُحِبُّ الأبرارَ الأتْقِيَاءَ الأخْفِياءَ الذين إذا غابوا لم يُفْتَقَدُوا، وإنْ
(2)
حَضَرُوا لم
= وابن أبي الدنيا، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد من طريق عبد الواحد بن ميمون، عن عروة، عنها. وذكر ابن حبان، وابن عدي أنه تفرد به، وقد قال البخاري: إنه منكر الحديث. لكن أخرجه الطبراني من طريق يعقوب بن مجاهد، عن عروة وقال: لم يروه عن عروة؛ إلا يعقوب وعبد الواحد [وهذا يؤكد ما سبق أن قلنا في معرض الرد على ابن رجب بشأن تخطئته راوي المعجم].
ثم قال ابن حجر: ومنها عن أبي أمامة أخرجه الطبراني والبيهقي في الزهد بسند ضعيف.
ومنها عن علي عند الإسماعيلي في مسند علي.
وعن ابن عباس أخرجه الطبراني وسندهما ضعيف.
وعن أنس أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني، وفي سنده ضعف أيضًا.
وعن حذيفة أخرجه الطبراني مختصرًا وسنده حسن غريب.
وعن معاذ بن جبل أخرجه ابن ماجه وأبو نعيم في الحلية مختصرًا وسنده ضعيف أيضًا.
وعن وهب بن منبه مقطوعًا أخرجه أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية، وفيه تعقب علي ابن حبان، حيث قال بعد إخراج حديث أبي هريرة: لا يعرف لهذا الحديث؛ إلا طريقان يعني غير حديث الباب، وهما هشام الكناني عن أنس، وعبد الواحد بن ميمون، عن عروة عن، عائشة وكلاهما: لا يصح".
أقول: قد عرفنا الطريق الصحيح الثاني لحديث عائشة في مسند أحمد.
وها هو ذا ابن حجر - بدوره - لا يعرج عليها؛ وهو أصل قوي في تصحيح الحديث.
على أن ابن حجر يلتقي بهذا الذي ذكره عن روايات الحديث مع شيخه ابن رجب إلى حد كبير وانظر الحلية 6/ 116، والفتح 11/ 340 - 347.
(1)
هذا ما قاله العلامة ابن تيمية كما أشرنا إلى ذلك من ذي قبل ص 1064.
(2)
م: "وإذا" وما أثبتناه عن "ا" هو الموافق لما في السنن.
يُدْعَوْا، ولم يُعْرَفُوا، [قلوبهم]
(1)
مصَابيحُ الهدَى، يخرجون من كل غَبْرَاءَ مُظْلِمة"
(2)
.
فأولياء الله تجبُ موالاتهم، وتحرمُ معاداتُهم؛ كما أن أعداءَه تجب معاداتهم، وتَحْرُمُ مُوَالَاتُهُمُ.
قال تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}
(3)
(4)
.
ووصف أحبّاءَهُ الذين يحبّهم ويُحِبُّونَهُ بأنَّهُمْ أَذِلَّةٌ علَى المؤمنينَ، أعِزّةٌ علَى الكَافِرِين
(5)
.
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده، عن وهب بن منبه، قال: إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام حين كلَّمه: "اعلم أنه مَنْ أهانَ لي وليًّا أو أخافه؛ فقد بارزني بالمحارَبة، وبَادأَني وعَرَّضَ نفسه، ودَعَاني إليها وأَنا أسرعُ شيءٍ إليَّ نُصْرَة أوليائي. أفيظُن الذي يحاربني أن يقوم لي؟ أو يظن الذي يعازّني أن يُعْجزَني؟ أَم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة؟ فلا أكِلُ نُصْرَتَهُمْ إلى غَيْري؟ "
(6)
.
(1)
ليست في الأصول وهي في السنن.
(2)
أخرجه ابن ماجه في السنن: 36 - كتاب الفتن: 16 - باب من ترجى له السلامة من الفتن 2/ 1320 ح 3989 من رواية حرملة بن يحيى، عن عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب أنه خرج - يومًا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد معاذ بن جبل قاعدًا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: يبكيني شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن يسير الرياء شرك
…
الحديث.
وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة 2/ 295 ح 1402 وقال: فيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 328 من رواية نافع بن يزيد، عن عباس بن عياش، عن عيسى بن عبد الرحمن به وفي أوله: إن اليسير من الرياء شرك
…
الحديث وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي وقد تابع عباس بن عياش ابن لهيعة في الرواية، عن عيسى بن عبد الرحمن وهي متابعة لا تفيد؛ فعيسى بن عبد الرحمن منكر الحديث، متروك على ما يذكر البخاري والنسائي وأبو حاتم وابن حبان، وإن تعجب فعجب كيف صحح الحاكم حديثه على شرط الشيخين؟! وكيف أقره الذهبي؟!.
(3)
من الآية الأولى من سورة الممتحنة.
(4)
سورة المائدة: 55 - 56.
(5)
إشارة إلى الآية 54 من سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
(6)
في كتاب الزهد في أخبار موسى عليه السلام ص 79 - 84 من طريق إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه من حديث طويل وفيه: "واعلم أن من أهان
…
=
[المعاصي محاربة لله تعالى]:
واعلم أن جميعَ المعاصي محاربة لله تعالى.
قال الحسن: "ابن آدم! هل لك بمحارَبة اللهِ من طاقة؟ فإن من عَصَى الله؛ فقد حارَبَهُ؛ لكن كلما كان الذنبُ أقبح كان أشدَّ محاربة لله".
ولهذا سَمَّى الله تعالى أكله الربا، وقُطّاع الطريق؛ محارِبين لله تعالى ورسولهِ لِعظمِ ظُلْمِهِمْ لعباده، وسعيهم بالفساد في بلاده.
وكذلك معاداةُ أوليائه؛ فإنه تعالى يتولى نصرةَ أوليائه، ويحبّهم، ويؤيدهم، فمن عاداهم فَقَدْ عَادَى الله تعالى وَحَارَبَه.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "اللهَ اللهَ في أصحابي؛ لا تتخذوهم غرضا فمن آذاهم فقد آذاني، ومَنْ آذَاني فقد آذى الله، ومَنْ آذى الله يوشِك أنْ يأخُذَه".
خرجه الترمذي وغيره
(1)
.
= بنفسه
…
فأنا أسرع .. أيظن الذي يحاربني
…
يغازيني
…
أو يظن الذي يبارزني لا أكل. . .". وفي المطبوعة: "أو يظن الذي يُعاديني".
(1)
أخرجه الترمذي في: 50 - كتاب المناقب: 59 - باب حدثنا محمود بن غيلان 5/ 696 ح 3862 من حديث عبد الله بن مغفل بنحوه، وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه؛ إلا من هذا الوجه، وسقطت كلمة حسن من المصرية، وأثبتناها من الهندية وأشار فيها إلى أن لفظ حسن في نسخه.
وأحمد في المسند 5/ 54 - 55، 57 (الحلبي)، وأبو نعيم في الحلية 8/ 287، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 2/ 42، 223، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 9/ 123، وابن حبان في صحيحه كتاب أخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة، رجالها ونسائهم: باب فضل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: ذكر الزجر عن اتخاذ المرء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غرضا بالتنقص 9/ 189 من الإحسان ح 7212، والقاضي عياض في الشفا 2/ 60، 118، 651 والبغوي في شرح السنة 14/ 70 - 71، وذكر تحسين الترمذي له.
كلهم من طريق عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن مغفل.
وعبد الرحمن بن زياد كان أمير خراسان، روى عن عبد الله بن مغفل، وروى عنه عبيدة بن أبي رائطة، قال ابن معين: لا أعرفه، ووثقه ابن حبان وأخرج حديثه في صحيحه.
وقوله: الله الله في أصحابي أي اتقوا الله فيهم لا تتنقصوهم ولا تنقصوهم حقهم ولا تسبوهم.
أو التقدير: أذكركم الله ثم أنشدكم الله في حق أصحابي وتعظيمهم وتوقيرهم كما يقول الأب المشفق الله الله في حق أولادي.
ذكره الطيبي نقله المباركفوري في شرحه على الترمذي 4/ 360.
[التقرب بالفرائض ثم بالنوافل]:
وقوله: "وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حَتَّى أُحِبَّه"
(1)
.
لما ذكر أن معاداةَ أوليائه محاربةٌ له - ذكر بعد ذلكَ وصْفَ أوليائِه الذين تَحْرُمُ معاداتُهم، وتَجِبُ موالاتُهم؛ فذكر ما يتقرب به إليه.
وأصل الولاية: القرب، وأصل العداوة
(2)
: البعدُ؛ فأولياءُ الله: هُمُ الذين يتقربون إليه بما يقربهم مِنْهُ، وأعدَاؤه: الذين أبعدهم عنه
(3)
بأعمالهم المقتضية لطردهم، وإِبعادهم، منه، فقسم أولياءه المتقربين
(4)
قسمين:
[الأولياء قسمان]:
• أحدهما: من يتقرب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعلَ الواجبات، وتركَ المحرمات؛ لأن ذلك كلَّه من فرائض الله التي افترضها على عباده.
• والثاني: من يتقرَّب إليه بعد الفرائض بالنوافل.
فظهر بذلك أنه لا
(5)
طريق يُوصِل إلى التقرب إلى الله تعالى، وموالاتِه ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله.
فمن ادعى ولاية الله والتقرب إليه
(6)
ومحبته بغير هذه الطريق؛ تبيّن أنه كاذبٌ في دعواه؛ كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة مَنْ يعبدونه مِنْ دُونه؛ كما حكى الله عنهما أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}
(7)
.
وكما حكى الله عن اليهود والنصارى أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}
(8)
مع إصرارهم على تكذيب رسلهِ، وارتكاب نواهيه، وتركِ فرائضِه.
فلذلك ذكَر في هذا الحديث أن أولياء الله على درجتين.
[ثم هم درجتان]:
• إحداهما: المُتقَرِّبُونَ إليْهِ بأدَاءِ الفَرَائض.
(1)
م: "يقرب".
(2)
م: "وأصل الموالاة
…
المعاداة".
(3)
م: "منه".
(4)
م: "المقربين".
(5)
م: "فظهر بذلك إلى أن دعوى طريق".
(6)
ليست في م.
(7)
سورة الزمر: 3.
(8)
سورة المائدة: 18.
وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين.
وأداءُ الفرائض أفضلُ الأعمال.
كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضلُ الأعْمالِ أداءُ ما افترض الله، والورَعُ عما حرّم الله، وصِدْقُ النية فيما عند الله تعالى.
• وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: أفضلُ العبادات أداءُ الفرائض، واجتنابُ المحارم.
• وذلك لأن الله تعالى؛ إنما افترضَ على عباده هذه الفرائضَ، ليُقرّبهم منه، ويوجب لهم رضوانَهُ ورحمته.
وأعظم فرائض البدن التي تقربُ إليه: الصلاة؛ كما قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}
(1)
.
• وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقربُ ما يَكُونُ العبدُ من ربّه وهُوَ سَاجِدٌ"
(2)
.
• وقال: "إذا كان أحَدكم يصلي؛ فإنما يناجي ربَّه أو ربُّه بينه وبين القبلة"
(3)
.
• وقال: "إن الله ينصب وجْهه لِوَجْهِ عبده في صلاته ما لم يلتفت"
(4)
.
(1)
سورة العلق: 19.
(2)
أخرجه مسلم في: 4 - كتاب الصلاة: 42 - باب ما يقال في الركوع والسجود 1/ 350 ح 215 - (482) زاد في آخره فأكثروا الدعاء.
وأبو داود في السنن: 2 - كتاب الصلاة: 152 - باب الدعاء في الركوع والسجود 1/ 545 بمثله إلا أن فيه: "فأكثروا من الدعاء".
والنسائي في السنن: 11 - كتاب الافتتاح: 78 - باب أقرب ما يكون العبد من الله عز وجل 2/ 226 ح 1137 بمثل ما عند مسلم.
وأحمد في المسند 2/ 421 (الحلبي) بمثل ما عند مسلم.
والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الصلاة: باب الاجتهاد في الدعاء في السجود رجاء الإجابة 2/ 110 بنحوه وفيه فأكثروا الدعاء فيه.
كلهم من حديث أبي هريرة.
(3)
مضى الحديث ص 368.
(4)
أخرجه أبو داود في السنن: 2 - كتاب الصلاة: 165 - باب الالتفات في الصلاة 1/ 560 ح 909 من رواية ابن شهاب، عن أبي الأحوص في مجلس سعيد بن المسيب، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله عز وجل مقبلًا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف الله عنه".
والنسائي في السنن: 12 - كتاب السهو: 10 - باب التشديد في الالتفات في الصلاة 3/ 8 ح 1195 من رواية الزهري - به - بنحوه.
والحاكم في المستدرك 1/ 236 من رواية الزهري، عن أبي الأحوص، عن سعيد بن المسيب، عن أبي ذر - بنحوه. وقد عقب الحاكم على الحديث بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الأحوص هذا مولى بني الليث، تابعي من أهل المدينة وثقه الزهري، وروى عنه، وجرت بينه وبين سعد بن إبراهيم مناظرة في =
[من الفرائض المقربة]:
• ومن الفرائض المقربة إلى الله تعالى عدلُ الراعي في رعيته، سواء كانت رعيةً عامة
= معناه، وأقره الذهبي.
وأخرج عقبه الحديث الذي أورده ابن رجب وقد أورده الحاكم من رواية زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم قال: إن الله تبارك وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بهن، فإذا نصبتم وجوهكم فلا تلتفتوا؛ فإن الله تعالى ينصب وجهه لوجه عبده حتى يصلي له، فلا يصرف عنه وجهه حتى يكون العبد هو الذي ينصرف.
وعقب عليه بقوله:
وقد أخرج الشيخان لرواة هذا الحديث عن آخرهم، ولم نجد للحارث الأشعري راويا غير ممطور أبي سلام فتركاه، وقد تكلمت على هذا النحو في غير موضع فأغنى عن إعادته.
والحديث على شرط الأئمة صحيح محفوظ.
وسكت عنه الذهبي في هذا الموضع وفي الموضع الآخر الذي سبق أن أورده الحاكم به 1/ 117 - 118 من وجوه وطرق منها ما قال الحاكم: أما حديث أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير فحدثناه علي بن حمشاد، ثنا تميم بن محمد، ثنا هدية بن خالد، ثنا أبان بن يزيد، ثنا يحيى بن أبي كثير، أن زيدًا حدثه، أن أبا سلام حدثه، أن الحارث الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بهن، وأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، لذكر الحديث وقال فيه: إن الله يأمرني بخمس، فذكره بطوله.
هذا حديث صحيح على ما أصلناه في الصحابة إذا لم نجد لهم إلا راويًا واحدًا؛ فإن الحارث الأشعري صحابي معروف، سمعت أبا العباس: محمد بن يعقوب يقول: سمعت الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: الحارث الأشعري له صحبة.
وأخرجه ابن حبان في الصحيح: كتاب التاريخ: باب بدء الخلق: ذكر تشبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم عيسى ابن مريم بعروة بن مسعود 8/ 43 - 44 بسياقة وسياقة إسناده مطولًا.
والترمذي: في جامعه: 45 - كتاب الأمثال: 3 - باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة 5/ 148 - 149 ح 2863، 2864 بسياقه مطولًا في الأول وبنحوه في الثاني.
وفي الأول: وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. . ." وقد عقب عليه بقوله.
هذا حديث حسن صحيح غريب.
قال محمد بن إسماعيل: الحارث الأشعري له صحبة، وله غير هذا الحديث.
والنسائي في التفسير وفي السير (كلاهما في الكبرى ببعضه كما في التحفة 3/ 3 - (901).
وأحمد في المسند 4/ 130، 202 (الحلبي) بسياقة مطولًا في الموضعين وفيهما نحو ما في الترمذي عن الصلاة والالتفات، كلاهما عن عفان، عن أبي خلف: موسى بن خلف، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وابن خزيمة في صحيحه: كتاب الصلاة: 89 - باب في الخشوع في الصلاة أيضًا، والزجر عن الالتفات في الصلاة إذ الله عز وجل يصرف وجهه عن وجه المصلي إذا التفت في صلاته 1/ 244 من رواية معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام به - مختصرًا وفيه عن الالتفات: "فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده حين يصلي له؛ فلا يصرف عنه وجهه حتى يكون العبد هو الذي ينصرف.
كالحاكم، أو خاصةً كعدل آحاد الناس في أهله وولده.
• كما قال صلى الله عليه وآله وسلم "كلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُم مسئولٌ عن رَعيَّتِهِ"
(1)
.
• وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إن المقْسِطِينَ عند الله على منابرَ من نور عن يمين الرحْمَن وكلتا يدَيْه يمينٌ: الذين يعدلون في حكْمِهِمْ وأهلِيهم
(2)
ومَا وُلُّوا".
• وفي الترمذي: عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وآله قال:"إنَّ أحَبَّ العبادِ إلى الله يومَ القيامةِ، وأدناهُم إليه مجلسًا إمامٌ عادل"
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه: 11 - كتاب الجمعة: 11 - الجمعة في القرى والمدن 2/ 380 ح 893 من حديث عبد الله بنِ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته قال: وحسبت أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته".
وأطرافه في: 2409، 2554، 2558، 2751، 5188، 5200، 7138.
ومسلم في: 23 - كتاب الإمارة: 5 - باب فضيلة الإمام العادل 3/ 1459 - 1460 ح 20 - (1829) وأوله ألا كلكم راع وقد أورده عقبه من وجوه عديدة عن ابن عمر.
وأخرجه أحمد في المسند 2/ 5: 54 - 55، 111، 121 (الحلبي) من حديث ابن عمر بنحوه مختصرًا ومطولًا.
وفيه: فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والعبد راع
…
وهو مسئول، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول".
والترمذي في جامعه: 24 - كتاب الجهاد: 27 - باب ما جاء في الإمام 4/ 208 ح 1705 من حديث ابن عمر بنحوه، وعقب أبو عيسى لقوله: وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وأبي موسى، وحديث أبي موسى غير محفوظ، وحديث أنس غير محفوظ، وحديث ابن عمر حديث حسن صحيح.
وأبو داود في السنن: 14 - كتاب الخراج والإمارة والفيء: 1 - باب ما يلزم الإمام من حق الرعية 3/ 342 - 343 ح 2928 من رواية عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر بنحوه. وابن الجارود في المنتقى ص 403 - 404 ح 1094.
والبيهقي في السنن 6/ 287، 7/ 291، 8/ 160 وابن عبد البر في التمهيد 2/ 284.
وانظر باقي تخريجه ووجوهه في الدر المنثور 3/ 68 - 69 وإتحاف السادة المتقين 6/ 327 والموسوعة 6/ 453.
(2)
صحيح مسلم: 33 - كتاب الإمارة: 5 - باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم 3/ 1458 ح 18 - (1827).
وفي أ، م:"على" والتصويب من صحيح مسلم.
(3)
أخرجه الترمذي في جامعه: 13 - كتاب الأحكام: 4 - باب ما جاء في الإمام العادل 3/ 617 ح 1329 من رواية فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال .. فذكره وفيه: إن أحب الناس
…
وزاد في آخره: "وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسًا إمام جائر". =
[الدرجة الثانية]:
درجة السابقين المقرّبين، وهم الذين تقرَّبُوا إلى الله بَعْدَ الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع؛ وذلك يوجب للعبد محبّة الله كما قال:"ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليّ بالنوافل حَتَّى أَحبه".
فمن أحبه الله رزقَه محبَّتَه وطاعتَه والاشتغالَ بذكره وخدمته؛ فأوجَبَ له ذلك القربَ منه، والزلفى لديه، وَالْحُظْوَةَ عنده، كما قال الله تعالى:{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
(1)
.
ففي هذه الآية إشارة إلى أن مَنْ أعرض عن حُبِّنا، وتولَّى عن قُرْبِنَا لم نُبال به واستَبْدَلْنَا به مَنْ هُوَ أولى بهذه المنحة منه وأحق.
فَمَنْ أَعْرَضَ عن الله؛ فماله عن الله بدل، ولله منه أبدال:
ما لِيَ شُغْلٌ سِوَاهُ مالي شُغْل
…
ما يصرفُ عن هَوَاه قَلْبِيَ عَذْلُ
مَا أَصْنَعُ إن جَفَا وخَابَ الأمَلُ
…
مِنِّي بَدَلٌ ومنه
(2)
مالي بدَلُ
• وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: "ابن آدم! اطلُبني تجدْني، فإنْ وجَدتني وجَدْتَ كُلَّ شَيءٍ؛ وإنْ فُتُّك فاتك كُلُّ شَيءٍ؛ وأنا أحَبُّ إليكَ مِن كَلِّ شيء".
وكان ذو النون يردّد هذه الأبيات بالليل كثيرًا:
اطلبُوا لأنفُسكُم
…
مثلَ ما وجدتُ أنا
قَدْ وجَدْتُ لي سكنًا
…
ليس في هواهُ عنَا
إن بَعُدْتُ قرَّبني
…
وإن قرُبْتُ منْه دَنا
من فاته الله؛ فَلَوْ حصلت له الجنة بحذافيرها لكانَ مغبونًا، فكيفَ إذا لم يَحْصُل له إلا نَزْرٌ يسير حقير
(3)
من دارٍ كلُّها لا تعدل جَناحَ بعوضة؟ ولذا قيل:
وقال أبو عيسى: وفي الباب عن عبد الله بن أبي أوفى [و] حديث أبي سعيد حديث حسن غريب، لا نعرفه؛ إلا من هذا الوجه.
(1)
سورة المائدة: 54.
(2)
م: "وما لي منه بدل".
(3)
م: "إلا نزر حقير يسير".
من فاته أن يراكَ يومًا
…
فكلُّ أوقاتِهِ فَوَاتُ
وحيثما كُنْتَ من
(1)
بلاد
…
فلي إلى وجْهكَ التِفاتُ
* * *
[أوصاف المحبين لله]:
• ثم ذكر أوصاف الذينَ يحبُهم الله ويحبونه فقال: (أذلَّةٍ على المؤمنين)، يعني أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين، وخفض الجناح، (أعزة على الكافرين) يعني أنهما
(2)
يعاملون الكافرين بالعزة والشدة عليهم والإغلاظ لهم، فلما أحبّوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه؛ فعامَلوهم بالشدة والغِلْظة؛ كما قال تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
(3)
، {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}
(4)
فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبُوب.
وأيضًا فالجهادُ في سبيل الله دُعَاءٌ للمعرضين عن الله إلى الرجُوع إليه بالسَّيفِ والسِّنَانِ، بَعْدَ دُعَائِهم إليه بالحجة والبُرْهَان، فالمحبُّ لله يُحبُّ اجتلابَ الخلْقِ كُلِّهِمْ إلى بابه، فمن لم يُجِب الدعوة إليه باللين والرفق احتاج إلى الدعوة بالشدة
(5)
والعنف.
"عجب ربك من قوم يقادُون إلى الجنّة بالسَّلاسل
(6)
" ولا يخافون لومة لائم".
(1)
م: "في".
(2)
م: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين".
(3)
سورة الفتح: 29.
(4)
سورة المائدة: 54.
(5)
م: "إلى الله
…
الدعوة باللين
…
احتاج بالدعوة إلى الشدة".
(6)
هذا إشارة إلى ما أخرجه في 15/ 167 - 168 (المعارف) من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح كما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر ح 8001 وذكر أنه سيأتي رقم 8036، 8446، 9253، 10381.
والبخاري في: 56 - كتاب الجهاد: 144 - باب الأسارى في السلاسل 6/ 145 ح 3010 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل".
قال ابن حجر في الفتح: "المراد بكون السلاسل في أعناقهم مقيد بحالة الدنيا، فلا مانع من حمله على حقيقته، والتقدير: يدخلون الجنة وقد كانوا من قبل أن يسلموا في السلاسل".
أي فهم يقادون إلى الجنة بسبب هذا الإسلام وكأنه هو الذي قادهم إلى الجنة؛ إذ أسروا كرهًا فعرفوا الإسلام ودخلوه طوعًا؛ لأن المكره على الإسلام لا قيمة لإسلامه، ونحن منهيون عن إكراههم.
لقد أكرهوا على الأسر ثم عرضنا عليهم الإسلام وأريناهم مزاياه ومحاسنه فإذا بنا نقنعهم به، وندخلهم فيه في حالهم هذه حال الأسر الذي أكرهوا عليه.
لقد أدخلناهم فيه بعد إقناعهم فدخلوا مختارين له بيد أن حالهم وقت إدخالنا إياهم فيه هي حال المكرهين على الأسر. =
لا همّ
(1)
للمحب غيرُ ما يُرْضى حبيْبَه
(2)
، رضي مَنْ رَضِي عليه، وسَخِطَ مَنْ سَخط.
من خاف الملامة في هوى من يحبه؛ فليس بصادق في المحبة.
وقفَ الهوى بِي حَيْثُ أنتَ فليسَ لي
…
متأخَّرٌ عَنه ولا متقدَّمُ
(3)
أجدُ الملامَةَ في هَوَاكَ لذيذةً
…
حُبًّا لذِكْرِكَ فَلْيَلُمْنِي اللّوَّمُ
= ولعل هذا هو معنى ما ساقه ابن حجر في الموضع نفسه من طريق أبي الطفيل رفعه: رأيت ناسًا من أمتي يساقون إلى الجنة في السلاسل كرهًا. قلت: يا رسول الله! من هم؟ قال: قوم من العجم يسبيهم المهاجرون فيدخلونهم في الإسلام مكرهين.
وربما يتضح هذا المعنى بما رواه البخاري في: 65 - كتاب التفسير: 7 - باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 8/ 224 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام وهو وإن كان هنا موقوفًا فهو مما لا مجال للرأي فيه، يأخذ حكم المرفوع بل هو الحديث الذي تقدم للبخاري في كتاب الجهاد، وسقناه لك قبل هذا من وجه آخر مرفوعًا.
وقد فسر ابن حجر قوله: (خير الناس للناس) بقوله: "أي خير بعض الناس لبعضهم أي أنفعهم لهم، وإنما كان ذلك لكونهم كانوا سببًا في إسلامهم".
وهذا يؤكد ما اتجهنا إليه في شرح الحديث والقياد إلى الإسلام قياد إلى الجنة؛ لأنه سبب في دخولها.
وقد أخرجه أبو داود في السنن: 9 - كتاب الجهاد: 124 - باب في الأسير يوثق 3/ 127 ح 2677.
ثم روى عقبه حديثين: أولهما عن جندب بن مكيث، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن غالب الليثي في سرية، وكنت فيهم، وأمرهم أن يشنوا الغارة على بني الملّوح بالكديد، فخرجنا، حتى إذا كنا بالكديد لقينا الحارث بن البرصاء الليثي، فأخذناه، فقال: إنما جئت أريد الإسلام، وإنما خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن تكن مسلمًا لم يضرك رباطنا يوم وليلة، وإن تكن غير ذلك نستوثق منك، فشددناه وثاقا". وثاني الحديثين: حديث أبي هريرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال - سيد أهل اليمامة - فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ماذا عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي يا محمد! خير. إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد، ثم قال له:"ما عندك يا ثمامة؟ "، فأعاد مثل هذا الكلام فتركه، حتى كان بعد الغد، فذكر مثل هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل فيه ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".
أو ليست هذه المعاملة الإنسانية من النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الأبرار مدخلًا كريمًا إلى الإسلام؟ أو ليس هؤلاء الذين أسلموا قد أسلموا طواعية وبالحرية الكاملة في اختيار الإسلام؟!
أو لم يكونوا قد أكرهوا على الأسر؟.
بلى! وقد دخلوا إذًا مختارين!؟.
بيد أنهم كانوا؛ حينئذ على الأسر مكرهين.! لقد أطلقهم الإسلام. بل أفضى بهم إلى دار السلام.
بل عجب ربك منهم يقادون بالإسلام إلى الجنة بعد أن اختاروه، وهم في تلك السلاسل والأغلال!!؟
(1)
م: "ما للمحب".
(2)
ليست في ب.
(3)
م: "متأخر عنكم".
• قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}
(1)
.
يعني درجة الذين يحبُّهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
(2)
.
• واسع العطاء عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه، ومن لا يستحقه فيمنعه.
[من دعوات الأنبياء في حب الله]:
• ويروى أن داود عليه السلام كان يقول: اللهم اجعلني من أحبابك: فإنك إذا أحببتَ عبدًا غفرت ذنبَه وإن كانَ عظيمًا، وقبلتَ عمله وإن كان يسيرًا.
• وكان داود عليه السلام يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك حُبَّك، وحُبَّ من يحبك، وحُبَّ العمل الذي يبلّغني حُبَّك، اللهم! اجعلْ حُبَّك أحبَّ إليَّ من نَفْسِي وَأَهْلِي، ومنَ الماءَ البارد"
(3)
.
• وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أتاني ربي عز وجل يعني في المنام فقال لي: يا محمد! قل اللهم! أني أسألك حُبَّكَ، وحُبَّ مَنْ يحبك، والعملَ الذي يُبَلّغني حُبَّك"
(4)
.
• وكان من دعائه عليه السلام: "اللهم! ارزقني حُبَّك وحُبَّ من يَنْفَعُنِي حُبُّه عندَك، اللهم! ما رزقتني ما أحب فأجعله قوة لي فيما تحبُّ، اللهم! ما زويتَ عني مما أحِبُّ فاجْعَله فراغًا لي فيما تحب
(5)
.
• وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يدعو: "اللهم! اجعل حُبَّك أحبَّ
(1)
سورة: الجمعة: 4.
(2)
سورة البقرة: 261.
(3)
أخرجه الترمذي في جامعه: 49 - كتاب الدعوات: 73 - باب حدثنا محمود بن غيلان 5/ 522 ح 3490 من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان من دعاء داود يقول: فذكره وزاد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود يحدث عنه قال: كان أعبد البشر.
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وانظره في الإتحاف 5/ 78 والمستدرك 2/ 433.
(4)
أخرجه الترمذي في جامعه: 48 - كتاب تفسير القرآن: 39 - باب ومن سورة ص 5/ 368 - 369 ح 3235 من حديث معاذ بن جبل في اختصام الملأ الأعلى ضمن سياق طويل بنحوه زاد بعده: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها حق فادرسوها ثم تعلموها".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وانظره في الإتحاف 5/ 78، والمسند 5/ 243، والمستدرك 1/ 521.
(5)
أخرجه الترمذي في جامعه: 49 - كتاب الدعاء: 74 - باب حدثنا سفيان بن وكيع 5/ 523 ح 3491 من رواية أبي جعفر الخطمي، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني =
الأشياء إليّ، وخشْيتَك أخوفَ الأشياء عندي، وأقطع عني حاجاتِ الدنيا بالشوق إلى لقائك وَإذا أقررتَ أَعْيُنَ أَهْلِ الدنيا من دُنْيَاهُم فأَقرر عيني من عبادتك
(1)
".
فأهل هذه الدرجة من المقرّبين ليس لهم همٌّ؛ إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه.
[من المأثور عن السلف في هذا]:
• قال بعض السلف: العمل على المخافة قدْ يُغَيِّرهُ الرجاء، والعملُ على المحبة لا يدخله الفتور
(2)
.
• ومن كلام بعضهم: "إذا سئم البطَّالُونَ من بَطَالَتِهِمْ؛ فلا يسأم محبُّوك من مُنَاجَاتِك وذكْرِك".
• قال فرقد السَّبَخِي: قرأت في بعض الكتب: "مَنْ أحبَّ الله لم يكن عنده شيء آثَرَ من هواه!
ومَنْ أحبَّ الدنيا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه! ".
[المحب والمحبة والمحبون لله عز وجل
-]:
والمحب لله تعالى: أميرٌ مؤَمَّرٌ على الأمراء، زمرته أولُ الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقربُ المجالس فيما هنالك.
• والمحبة منتهى القربة والاجتهاد.
ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى يحبّونه، ويحبّون ذِكْرَه، ويجيبونه إلى خلقه، يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم
(3)
يوم تبدو الفضائح.
أولئك أولياء الله عز وجل وأحباؤه، وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم بدون
= مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله لي قوة فيما تحب".
وقد عقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب وأبو جعفر الخطمي اسمه عمير بن يزيد بن خماشة.
وأخرجه ابن المبارك في الزهد ص 144 ح 430.
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 8/ 282 من رواية أبي مسهر، عن عباد الخواص، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو
…
فذكره بنحوه. وفيه: "واجعل خوفك أخوف الأشياء إليّ
…
فأقر عيني. . ." والهيثم تابعي فالحديث مرسل.
وأورده الزبيدي في الإتحاف 9/ 604 عن أبي نعيم في هذا الموضع.
(2)
م: "الفوز" وهو تحريف.
(3)
م: يوم القيامة يوم تبدو الفضائح.
لقائه.
• وقال فتح الموصلي: "المحب لا يجد مع حب الله عز وجل للدنيا لذة، ولا يغفُلُ عن ذكر الله طرفة عين
(1)
".
• وقال محمدٌ بنُ النضر الحارثي: "ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محبٌّ لله عز وجل، وما يكاد يسأمُ من ذلك".
• وقال بعضهم: "المحب لله طائر القلب، كثيرُ الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل دوبًا دوبًا، وشوقًا شوقًا".
وأنشد بعض السَّلَف:
وكن لربك ذا حب لتخدمه
…
إن المحبين للأحباب خدّام
وأنشد آخر:
ما للمحب سوى إرادة حُبّه
…
إن المحبَّ بكلّ حال يضرع
[تلاوة القرآن من أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى]:
• ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من النوافل: كثرةُ تلاوة القرآن
(2)
وسماعهُ بتفكر وتدبر وتفهم.
قال خباب بن الأرتِّ رضي الله عنه لرجل: "تقرّبْ إلى الله تعالى ما استطعتَ، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحبُّ إليه من كلامه".
• وفي الترمذي عن أبي أمامة مرفوعًا.
"ما تقرَّبَ العباد إلى الله تعالى بمثلِ مَا خَرَج منه".
يعني القرآن
(3)
.
(1)
ليست في "ا".
(2)
"ا": "كتابه".
(3)
أخرجه الترمذي في جامعه: 46 - كتاب فضائل القرآن 17 - باب حدثنا أحمد بن منيع 5/ 176 - 177 من وجهين مرفوعًا متصلًا ومرسلًا.
فقد رواه من حديث أبي أمامة (2911) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه. ثم قال: قال: أبو النضر: يعني القرآن.
[و] قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه؛ إلا من هذا الوجه وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك =
[السلف والقرآن]:
لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم؛ فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم.
• قال عثمان: "لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم
(1)
".
• وقال ابن مسعود: "مَنْ أحبَّ القرآن فهو يحب الله ورسوله"
(2)
.
• قال بعض العارفين لمريد: "أتحفظ القرآن؟ ".
قال: لا؟ فقال: واغوثاه! بالله! مريد
(3)
لا يحفظ القرآن، فبم يتنعم؟ فبم يترنم؟ فبم يناجي ربه تعالى؟ ".
* * *
كان بعضهم يكثر تلاوة القرآن، ثم اشتغل عنه بغيره؛ فرأى في المنام قائلًا يقول:
إن كنتَ تزعم حُبِّي
…
فلِم جَفَوْتَ كتابي؟
أَمَا تأَملتَ ما فيـ
…
ـه من لطيف عتابي؟
[وكثرة ذكر الله]:
• ومن ذلك: كثرة ذكر الله الذي يتواطأ عليه القلبُ واللسان.
• وفي مسند البزار عن معاذ قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بأفضل الأعمالِ وأقْرَبها إلى الله تعالى؟ قال: أن تموتَ ولسانُكَ رَطْبٌ من ذكر الله تعالى"
(4)
.
= وتركه في آخر أمره.
وقد روي هذا الحديث عن زيد بن أرطاة، عن جبير بن نفير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل ثم أورد الحديث. وللحديث وجوه أخرى لا تخلو من مقال.
(1)
رواه أبو نعيم في الحلية 7/ 300 بإسناد فيه مقال.
(2)
رواه الطبراني بإسناد رجاله ثقات بنحوه، انظر المجمع 7/ 168.
(3)
م: "لمريد".
(4)
أخرجه البزار في مسنده: كتاب الأذكار: باب الإكثار من الذكر 4/ 3 - 4 من الكشف ح 3059 عن العباس بن عبد الله الباكسائي، ثنا زيد بن يحيى، ثنا ثوبان، ثني أبي، حدثني جبير بن نفير، ثنا معاذ بن جبل قال: فذكره.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 77 وقال: رواه الطبراني بأسانيد وفي هذه الطريق خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك ضعفه جماعة، ووثقه أبو زرعة الدمشقي وغيره وبقية رجاله ثقات.
ورواه البزار من غير طريقه إلا أنه قال: أخبرني بأفضل الأعمال وأقربه إلى الله، وإسناده حسن.
• وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله تعالى:
"أنا عند ظن عَبْدي بي وأنا معَهُ حينَ يذكُرني، فإن ذكَرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإنْ ذَكَرني في ملأ ذكرتهُ في ملأ خيرٍ منهم"
(1)
.
• وفي حديث آخر: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرَّكَتْ بي شَفَتَاهُ"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في: 97 - كتاب التوحيد: 15 - باب قول الله تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وقوله جل ذكره: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 13/ 384 ح 7405 من حديث أبي هريرة بنحوه، وزاد في آخره: وإن تقرب إلي شبرًا تقربْتُ إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
وفي: 35 - باب يريدون أن يبدلوا كلام الله 13/ 466 مقتصرًا على الجملة االأولى.
وفي: 50 - باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه 13/ 512 مقتصرًا على شطره الأخير وأورده قبله شاهدًا للحديث عن أنس رضي الله عنه.
ومن حديث أبي هريرة أخرجه مسلم في صحيحه: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 1 - باب الحث على ذكر الله تعالى 4/ 2067 - 2062 ح 2675 من وجوه بنحوه ومعناه.
وفي: 6 - باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى 4/ 2607 - 2068 من وجوه عن أبي هريرة مختصرًا وتامًا بنحوه، وأورد له شاهدًا من حديث أبي ذر، عقبه.
وأخرجه ابن حبان في الصحيح: كتاب الرقائق: باب الأذكار: ذكر الله عز وجل في ملكوته؛ من ذكره في نفسه من عباده، مع ذكره إياهم في المقربين من ملائكته عند ذكرهم إياه في خلقه 2/ 90 - 91 بروايتين عن أبي هريرة، وقد عقب على الأولى بقوله:
قال أبو حاتم: الله أجل وأعلى من أن ينسب إليه شيء من صفات المخلوق، إذ ليس كمثله شيء، وهذه ألفاظ خرجت من ألفاظ التعارف على حسب ما يتعارفه الناس مما بينهم، ومن ذكر ربه جل وعلا في نفسه بنطق أو عمل يتقرب به إلى ربه؛ ذكره الله في ملكوته بالمغفرة له تفضلًا وجودًا.
ومن ذكر ربه في ملأ من عباده ذكره الله في ملائكته المقربين بالمغفرة له وقبول ما أتى عبده من ذكره.
ومن تقرب إلى الباري جل وعلا بقدر شبر من الطاعات كان وجود الرأفة والرحمة من الرب منه له بقدر ذراع.
ومن تقرب إلى مولاه جل وعلا بقدر ذراع من الطاعات كانت مغفرته منه أقرب بباع.
ومن أتى في أنواع الطاعات بالسّرعة كالمشي أتته الوسائل ووجوه الرأفة والرحمة والمغفرة بالسرعة كالهرولة والله أعلى وأجل.
وعلق على الرواية الثانية بقوله:
قوله جل وعلا: إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، يريد به: إن ذكرني في نفسه بالدوام على المعرفة التي وهبتها له وجعلته أهلا لها ذكرته في نفسي، يريد به في ملكوتي بقبول تلك المعرفة منه مع غفران ما تقدمه من الذنوب.
ثم قال: وإن ذكرني في ملأ، يريد به: وإن ذكرني بلسانه يريد به الإقرار الذي هو علامة تلك المعرفة في ملأ من الناس ليعلموا إسلامه ذكرته في ملأ خير منه، يريد به: ذكرته في ملأ خير منه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة بما أتى من الإحسان في الدنيا الذي هو الإيمان إلى أن استوجب به التمكن من الجنان.
(2)
أخرجه ابن حبان في صحيحه في الموضع السابق: ذكر رجاء سرعة المغفرة لذاكر الله إذا تحركت به =
• وقال عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}
(1)
.
ولما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل وهم معه في سَفَر قالَ لهم: "إنَّكم لا تدعون أَصَمَّ ولا غائبًا إنَّكُم تَدْعُونَ سَمِيعًا قَريبًا وَهُوَ مَعَكُمْ"
(2)
.
= شفتاه 2/ 92 من حديث أبي هريرة.
والحاكم في المستدرك 1/ 496 من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يقول: "أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه".
وقد صححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي، والبخاري تعليقًا بصيغة الجزم في: 97 - كتاب التوحيد: 43 - باب قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي ثم ساقه باقي الترجمة فقال: وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: فذكره وفيه: "إذا ذكرني. . ." 13/ 499 - 500.
وقال ابن حجر - تعليقًا - قال ابن بطال: "معنى الحديث: أنا مع عبدي زمان ذكره لي" أي أنا معه بالحفظ والكلاءة، لا أنه معه بذاته حيث حل العبد، ومعنى قوله:"تحركت به شفتاه" أي تحركت باسمي، لا أن شفتيه ولسانه تتحرك بذاته تعالى، لاستحالة ذلك، انتهى ملخصًا".
ثم قال الكرماني: "المعية هنا معية الرحمة، وأما في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فهي معية العلم؛ يعني فهذه أخص من المعية التي في الآية".
يريد أن معية العلم عامة، ومعية الرحمة خاصة، لا تكون إلا لمن يستأهلها، ممن يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:
وانظر الإتحاف 5/ 5.
وابن كثير في تفسير قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 1/ 218.
(1)
سورة البقرة: 152.
(2)
أخرجه البخاري في: 56 - كتاب الدعوات: باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير 6/ 135 ح 2992 من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا، ارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يأيها الناس! اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا؛ إنه معكم! إنه سميع قريب، تبارك اسمه، وتعالى جده".
وفي: 64 - كتاب المغازي: 38 - باب غزوة خيبر 7/ 470 ح 4205 وفيه بين أن ذلك كان في غزوة خيبر وقول أبي موسى الأشعري إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك وأبو موسى خلف دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عليه السلام سمعه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله فقال لي: يا عبد الله بن قيس! قلت: لبيك رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله! فداك أبي وأمي قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
وفي: 80 - كتاب الدعوات: 50 - باب الدعاء إذا علا عَقَبَةً 11/ 187 ح 6384 بنحوه مختصرًا وفيه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر
…
ولكن تدعون سميعًا بصيرًا، ثم أتى عليّ وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: يا عبد الله قل لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة، أو قال: ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؟ "لا حول ولا قوة إلا بالله". =
• وفي رواية: "وهو أقرب إليكم من أعناق رواحلكم".
[والحب في الله والبغض في الله]:
• ومن ذلك محبة أولياء الله وأَحبائه
(1)
فيه، ومعاداة أعدائه فيه.
= وفي: 67 - باب قول لا حول ولا قوة إلا بالله 11/ 213 - 214 ح 6409 مختصرًا بنحوه، وفيه قول أبي موسى الأشعري.
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في عقبة أو قال: ثنية، قال: فلما علا عليها رجل؛ نادى فرفع صوته، لا إله إلا الله والله أكبر، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، قال: فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، ثم قال: يا أبا موسى! أو يا عبد الله! ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة
…
الحديث".
وفي: 82 - كتاب القدر: 7 - باب لا حول ولا قوة إلا بالله 11/ 500 ح 6610 وفيه قول أبي موسى: كنا مع رسول الله في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفا، ولا نعلو شرفا ولا نهبط في واد إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس!
…
الحديث وفي: 97 - كتاب التوحيد: 9 - باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} 13/ 372 ح 7386 تاما بنحو ما تقدم ح 6384 وفيه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا فقال: اربعوا على أنفسكم
…
تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا
…
الحديث".
قال ابن حجر: "وقوله: اربعوا بفتح الموحدة أي ارفقوا بضم الفاء، وحكى ابن التين أنه وقع في روايته بكسر الموحدة، وأنه في كتب أهل اللغة وبعض كتب الحديث بفتحها، وقوله: "فإنكم لا تدعون أصم" إلخ قال الكرماني: لو جاءت الرواية: "لا تدعون أصم ولا أعمى" لكان أظهر في المناسبة، لكنه لما كان الغائب كالأعمى في عدم الرؤية نفي لازمه ليكون أبلغ وأشمل، وزاد "قريبًا" لأن البعيد وإن كان ممن يسمع ويبصر لكنه لبعده قد لا يسمع ولا يبصر، وليس المراد قرب المسافة لأنه منزه عن الحلول كما لا يخفى، ومناسبة الغائب ظاهرة من أجل النهي عن رفع الصوت".
والحديث أخرجه مسلم في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 13 - باب استحباب خفض الصوت بالذكر 4/ 2076 - 2078 ح 44 - (2704)، 45 - 47 من حديث أبي موسى من وجوه عديدة بنحوه وعنده: إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم، قال: وأنا خلفه
…
الحديث.
وفي رواية: أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصعدون في ثنية. قال: فجعل رجل كلما علا ثنية نادى: لا إله إلا الله والله أكبر فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تنادون أصم ولا غائبًا .. الحديث".
وفي رواية: "والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
وفي رواية: "ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة؟ ".
فلفظ رواية ابن رجب مقارب لبعض روايات مسلم وهو عند أحمد في المسند 4/ 402، 417 - 418 (الحلبي) وفي الموضع الأول: فإنكم ما تدعون أصم ولا غائبًا إنما تدعون سميعًا بصيرًا إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. . .".
وفي الثاني: فإنكم لا تدعون
…
إنكم تدعون سميعًا قريبًا .. الحديث.
وأخرجه ابن كثير في التفسير 1/ 218 عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} عن أحمد والشيخين.
(1)
م: "أحبابه وأوليائه".
وفي سنن أبي داود عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
قال: "إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياءَ ولا شهداء، يَغبطهم الأنبياءُ والشهداء يوم القيامة
(2)
بمكانهم من الله تعالى، قالوا: يا رسول الله! تُخْبرُنا مَنْ هم؟ قال: "هم قوم تحابّوا برُوح الله من غير أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يَتَعاطَوْنَها، فوالله! إنَّ وُجُوهَهُم لنُور، وإنهم لعلى
(3)
نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزِنَ الناس".
ثم تلا هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
(4)
.
• ويروى نحوه من حديث أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم
(5)
.
(1)
سقطت من م.
(2)
م: "أناسًا
…
والشهداء بمكانهم" وما أثبتناه عن الأصول الخطية هو الموافق لما في السنن.
(3)
في إحدى نسخ أبي داود: "وإنهم على".
(4)
أخرجه أبو داود في السنن: 17 - كتاب البيوع: 78 - باب الرهن 3/ 799 ح 3527.
وقد قال الخطابي: قوله "تحابوا بروح الله" فسروه بالقرآن، وعلى هذا يتأول قوله:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وسماه روحًا والله أعلم لأن القلوب تحيا به كما تكون حياة النفوس والأبدان بالأرواح. وإسناده صحيح وانظر صحيح أبي داود 2/ 673.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 341، 343 (الحلبي) مختصرًا وضمن قصة طويلة وأول الحديث فيها: يأيها الناس! اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء .. الحديث.
وقد أخرجه أحمد عن قتادة، وعبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك.
وأخرجه الطبراني في الكبير 3/ 290 - 291 ح 3433 - 3436 من وجوه مختصرًا ومطولًا لكن دون القصة في سياق أحمد، ومن روايات ابن أبي حسين وشمر بن عطية، وأبي المنهال وليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب عن أبي مالك.
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 276 - 277 وقال: رواه كله أحمد والطبراني بنحوه ورجاله وثقوا. ثم أورد نحوه عن أبي يعلى من حديث شهر عن مالك أو ابن مالك وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير حوشب وقد وثقه غير واحد.
أقول: والحديث بهذا حسن.
وقد أخرجه البغوي في شرح السنة 13/ 50 - 51 من رواية ابن أبي حسين.
وأخرج الحاكم نحوه من حديث عبد الله بن عمر في المستدرك 4/ 170 - 171 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
ومضى لنا حديث عمر في سنن أبي داود.
وقد أخرج ابن حبان في صحيحه كتاب البر والإحسان: باب الصحبة والمجالسة: ذكر وصف المتحابين في الله يوم القيامة عند حزن الناس وخوفهم في ذلك اليوم 1/ 390 من حديث أبي هريرة نحو حديث أبي مالك، وفيه: تحابوا بنور الله.
فللحديث أكثر من شاهد.
• وفي حديثه: "يغبِطُهُم النبيّون بقُرْبِهِمْ ومقعَدِهمْ من الله تعالى
(1)
.
• وفي المسند
(2)
عن عمرو بن الجموح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يُحِقُ العبدُ حَقَّ صريحِ الإيمان حتّى يحبَّ لله، ويُبْغضَ للهِ، فإذَا أحَبَّ لله، وأَبْغَضَ لله، فقد استَحَقَّ الولايةَ من الله إنَّ أوليائي مِنْ عِبَادِي وأَحِبّائي مِنْ خَلْقي: الذينَ يذكرون بِذِكْرِي، وأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ".
• وسئل المرتعش بم تنال المحبة؟ قال: بموالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه. وأصله الموافقة.
• وفي الزهد للإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: قال موسى عليه السلام: يا رب! مَنْ هُمْ أهلك الذين تظلهم في
(3)
ظل عرشك؟ قال: يا موسى هم البريَّةُ أيديهم
(4)
، الطاهرة قلوبهم، الذيىن يَتَحابّونَ بجلَالي، الذين إذا ذُكِرْتُ ذُكِرُوا بي، وإذا ذُكِرُوا ذُكِرْتُ بذكرهم
(5)
، الذين يُسْبِغُونَ الوضوءَ في المكَارِه، ويُنيبُونَ إلى ذكري كما تُنِيبُ النُسُورُ إلى وكورها
(6)
، ويَكلفون بحبي كما يَكلف الصبي بحب الناس
(7)
ويغضبون
(8)
لمحارمي إذا استُحِلّت كما يَغْضَبُ النَّمِرُ إذا حوربَ
(9)
.
* * *
(1)
في مسند أحمد في الموضع الأول: "يغبطهم النبيون والشهداء لمقعدهم وقربهم من الله يوم القيامة وفي الموضع الثاني: بنحوه.
وعند الطبراني ح 3433 يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله عز وجل يوم القيامة.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 430 (الحلبي) من طريق الهيثم بن خارجة، عن رشدين بن سعد، عن عبد الله بن الوليد، عن أبي منصور مولى الأنصار، عن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحق العبد حق صريح الإيمان .. الحديث.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 89 وقال: رواه أحمد وفيه رشدين بن سعد وهو منقطع ضعيف.
وفي المطبوع والمخطوط: "لا يجد العبد صريح الإيمان" وفيه تحريف ونقص، وفي المسند: فقد استحق الولاء.
وفي الأصول والمجمع: "الولاية".
(3)
م: "تحت".
(4)
م: "البريئة أيديهم" وما أثبتناه عن أ هو الموافق لما في الزهد وإن يكن كلاهما صحيحًا.
(5)
م: "بهم".
(6)
م: "أوكارها" وما أثبتناه عن أ هو الموافق لما في الزهد.
(7)
"ا": "بالناس".
(8)
م: "ويبغضون" وهو تحريف.
(9)
م: "حورب" وما أثبتناه عن أ هو الموافق لما في الزهد.
والأثر في الزهد لأحمد بن حنبل ص 95 من رواية عبد الرحمن عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم بن عطاء، والأولياء لابن أبي الدنيا ص 53 ح 37 من رواية الحسين بن حفص، عن هشام بن سعد - به - بنحوه.
[فإذا أحببته كنت سمعه. . . إلخ]:
• قوله "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمعُ به، وبَصَرَه الذي يُبْصِرُ به، ويدَه التي يَبْطِشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها".
• وفي بعض الروايات:
"وقلبه الذي يَعْقِل به، ولسانه الذي ينطق به".
المراد بهذا الكلام: أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنّوافل قرّبه الله إليه، ورقَّاه من درجه الإيمان إلى درجة الإحسان؛ فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة، كأنه يراه فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته وعظمته، وخوفه ومهابته، وإجلاله والأنس به، والشوق إليه؛ حتى يصيرَ هذا الذي في قلبه من المعرفة مُشَاهَدًا له بعين البصيرة كما قيل:
ساكنٌ في القلب يَعْمُرُهُ
…
لَسْتُ أَنْسَاهُ فأَذْكُرُهُ!؟
غَابَ عَنْ سَمعي وعَنْ بَصَرِي
…
فَسُوَيَدا القلب تُبْصِرُهُ!؟
(1)
• قال الفضيل بن عياض: إن الله تعالى يقول: كذَب مَن ادّعى محبتي ونام عني
(2)
أليس كل مُحِبِّ يحب خلوة حبيبه
(3)
ها أنا مطلع على أحبائي، وقد مثَّلوني بين أعينهم، وخاطبُوني على المشاهدة، وكلّموني بحضور
(4)
غدًا أقر أعينهم في جِناني.
ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبين المقربين يَقْوَى حتى تمتلئَ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيرُه، ولا تستطيعُ جوارحُهُم أن تَنْبَعِثَ إلا بموافقة ما في قلوبهم، ومَنْ كانَ حاله هذا قيل فيه ما بقي في قلبه إلا الله.
والمراد معرفته ومحبته وذكره.
• وفي هذا المعنى: الأثر الإسرائيلي المشهور يقول الله عز وجل: "ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن"
(5)
.
(1)
م: "فسويد القلب يبصره" وفيه خطأ بين.
(2)
م: "من ادعى محبتي ونام عني" ل: "فإذا جنه الليل نام عني" وضرب عليها.
(3)
م: "محبوبه".
(4)
"ا": "بحضوري".
(5)
قال ابن تيمية: هو مذكور في الإسرائيليات وليس له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: وسع قلبه الإيمان بي ومحبتي ومعرفتي وإلا فمن قال إن الله يحل في قلوب الناس فهو أكفر من النصارى الذين خصوا ذلك بالمسيح وحده". =
• وقال بعض العارفين: احذروه، فإنه غيُورٌ، لا يحبُّ أن يَرَى في قلب عبدِه غَيْرَهُ.
• وفي هذا المعنى
(1)
يقول بعضهم:
ليسَ للنَّاسِ مَوْضِعٌ في فُؤَادِي
…
زادَ فيه هواك حتّى امتلا
* * *
قال آخر:
قد صيغ قلبي على مقدارِ حُبّهمُ
…
فما لِحُبِّ سِوَاهُمْ فيه مُتّسَعُ
• وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته لما قدم المدينة فقال: "أحبُّوا الله مِن كل قلوبكم".
كما ذكره ابن إسحاق في سيرته:
(2)
.
فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كُلَّ ما سواه، ولم يبق للعبد شيءٌ من نفسه وهواه، ولا إرادةٌ إلا لما يريدُه منه مولاه؛ فحينئذ لا ينْطِقُ العبد إلا بذكره، ولا يتحركُ إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بَطَشَ بَطَش به.
= قال العجلوني: وكأنه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: "إن الله فتح السماوات لحزقيل حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما أعظمك يا رب! فقال الله: إن السماوات والأرض ضعفن عن أن يسعنني ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين".
وقال الزركشي: وضعه الملاحدة.
فهو إذًا حديث موضوع راجع إتحاف السادة المتقين 7/ 234، والمقاصد الحسنة ص 373 ح 990، وكشف الخفاء 2/ 273، وشذرات من علوم السنة 1/ 62 للمحقق، والأحاديث المشكلة الرتبة ص 227 - 228 والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص:310.
(1)
ليست في "ا".
(2)
أورده ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 1/ 142 - 143 ضمن خطبة خطبها صلى الله عليه وسلم بعد خطبته الأولى بالمدينة، قال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى فقال: إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله، أحبّوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسو عنه قلوبكم؛ فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، وقد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام؛ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم" لكن الرواية مرسلة.
فهذا هو المراد بقوله: كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها.
• ومن أشار إلى غير هذا؛ فإنما يُشِيرُ إلى الإلحاد من الحلول، أو الاتحاد، والله ورسوله بريئان منه.
[من مأثور السلف]:
• ومن هنا كان بعض السلف كسليمان التيمي يقولون: إنه لا يَحْسُن أن يُعْصَى الله.
• وأوصت امرأة من السلف أولادها فقالت لهم: تعوَّدوا حُبَّ الله وطاعتَه؛ فإن المتقين ألِفُوا الطاعةَ فاسْتَوحشت جوارحُهم من غيرها؛ فإن عرض لهم الملعون بمعصية مرّت المعصيةُ بهم محتشمةً؛ فهم لها مُنْكِرُونَ.
• ومن هذا المعنى قولُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن كنا لنَرى أنَّ شيطانَ عمرَ ليهَابُه أن يأمره بالخطيئة".
[وهذا من أسرار التوحيد]:
• وقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذا من أسرار التوحيد الخاصة؛ فإن معنى: "لا إله إلا الله: أنه لا يُؤلَّهُ غيره: حُبًّا ورجاءً وخوفًا وطاعةً فإذا تحَقَّق القلبُ بالتوحيد التام لم يبق فيه محبة لغير ما يحبّه الله، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله.
ومن كان كذلك لم تَنْبعِثْ جَوَارِحُه؛ إلا بطاعة الله.
وإنما تنشأ الذنوبُ من محبة ما يكرهه الله، أو كَراهَةِ ما يحبّه الله.
وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس
(1)
على محبة الله تعالى، وخشيته، وذلك يقدح في كمال التوحيد الواجب، فيقعُ العبدُ بسبب ذلك في التفريط في بعض الواجبات، أو ارتكاب بعض المحظورات.
فأما من تحقق قلبه بتوحيد الله فلا يبقى له هَمٌّ إلا في الله وفيما يرضيه به.
• وقد ورد في الحديث مرفوعًا: "من أصبح وهمه غيرُ الله؛ فليس من الله"
(2)
.
(1)
"ا": "النفوس".
(2)
رواه الحاكم في المستدرك 4/ 320 من طريق إسحاق بن بشر، عن مقاتل بن سليمان ومن حديث ابن مسعود مرفوعًا وسكت عنه وعقب الذهبي بقوله:"إسحاق ومقاتل ليسا بثقتين ولا صادقين". وله وجوه أخرى ضعيفة وغير محفوظة في الحلية 3/ 48 والكامل 7/ 67 والإتحاف 8/ 84.
وخرجه الإمام أحمد من حديث أبيِّ بن كعب موقوفًا قال: "من أصبح وأكبر همه غير الله فليس من الله
(1)
.
قال بعض العارفين: "منْ أخبرَك أن وليه له هم
(2)
في غيره فلا تصدقه".
• وكان داود الطائي ينادي بالليل: [اللهم!] هَمّك عَطّل عليّ الهموم، وحالف
(3)
بيني وبين السهاد! وشوقي إلى النظر إليك أوثَقَ مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب!؟.
* * *
• وفي هذا يقول بعضهم:
قالوا تشاغلَ عنا واصطفَى بدلًا
…
منَّا وذاك فعلُ الخائن السَّالِي!؟
وكيف أَشْغَلُ قَلْبِي عن مَحبَّتِكُم
…
بغير ذكركُم يا كلَّ أَشغَالي؟!
[ولئن سألني لأعطينّه]:
• قوله "ولئن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه".
• وفي رواية أخرى: "إن دعاني أجبتُه، وإن سأَلَني أعطيتُه".
يعني أن هذا المحبوبَ المقربَ له عند الله منزلة خاصة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئًا أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء أعاذه منه، وإن دعاه أجابه؛ فيصير مجابَ الدعوة لكرامته على ربِّه تعالى.
وقد كان كثير من السلف الصالح معروفًا بإجابة الدعوة.
[ممن أُجيبت دعواتهم]:
وفي الصحيح أن الرُّبَيِّعَ بنتَ النضر كَسرت ثنيَّةَ جاريةٍ، فعرضوا عليهم الأرشَ فأبَوْا، فطَلبوا منهم العفو، فأبَوا، فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
لم أجده في مسند أحمد موقوفًا؛ فلعله في موضع آخر؛ لكن ابن رجب حين يذكر إخراج أحمد للحديث مطلقًا يعني المسند أما هذا الحديث مرفوعًا فهو موضوع، راجع ما كتبه عنه، وعن طرقه الشيخ ناصر الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 309، 310، 311.
(2)
م: "أن وليه لهم".
(3)
م والحلية: "وحال" وهو خطأ بين. وما بين المعكوفين من الحلية وانظره بسياقه فيها 7/ 356 - 357 وفيها أيضًا: "وشوقي إلى النظر إليك منع مني اللذات والشهوات".
بالقصاص، فقال أنس بنُ النضر: أتكسر ثنية الرُّبَيِّع؟ والذي بعثك بالحق! لا تُكْسَرُ ثَنيّتُها، فرضي القوم وأخذوا الأرش، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم:"إن مِنْ عِبَادِ الله مَنْ لَو أقسَمَ علَى الله لأبره"
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه في: 28 - كتاب القسامة: 5 - باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها 3/ 1302 ح 24 - (1675) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان بن مسلم، عن حماد، عن ثابت، عن أنس: أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانًا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"القصاص القصاص" فقالت أم الربيع: يا رسول الله! أيقتص من فلانة؟ والله! لا يقتص منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! يا أم الربيع! "القصاص كتاب الله" قالت: لا والله! لا يقتص منها أبدًا، قال: فما زالت حتى قبلوا الدِّية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
وأخرجه أحمد في المسند 3/ 218 بنحو ما أورده ابن رجب وفي 3/ 167 بأوضح وأتم عن أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا، وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فقال: يا رسول الله! أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس! كتاب الله القصاص! قال: فعفا القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وفي 3/ 284 بنحو ما عند مسلم.
وأخرجه البخاري في 53 - كتاب الصلح: 8 - باب الصلح في الدية 5/ 306 ح 2703 من رواية محمد بن عبد الله الأنصاري، عن حميد، عن أنس: أن الربيع وهي ابنة النضر كسرت ثنية جارية فذكره مختصرًا: بنحو ما عند أحمد في الموضع الثاني.
وفي: 56 - كتاب الجهاد: 12 - باب قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 6/ 21 بنحوه مختصرًا ح 2806.
وفي: 65 - كتاب التفسير سورة البقرة 23 - باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ - إلى قوله - عَذَابٌ أَلِيمٌ} 8/ 177 - ح 4499 مختصرًا 4500 بنحو ما تقدم للبخاري وفيه: فرضي القوم فعفوا: سورة المائدة: 6 - باب {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 8/ 274 ح 4611 بنحوه، وفيه عن أنس أن الربيع عمته .. فرضي القوم وقبلوا الأرش.
وفي: 87 - كتاب الديات: 19 باب السِّنِّ بالسِّنِّ 12/ 223 ح 6894 مختصرًا وفيه أن ابنة النضر.
قال ابن حجر: وفي رواية مروان بن معاوية: عن حميد عند الإسماعيلي: فرضي أهل المرأة بأرش أخذوه فعفوا، فعرف أن قوله:"فعفوا" أي على الدية، زاد معتمر: فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" أي لأبر قسمه.
ووجه تعجبه أن أنس بن النضر أقسم على نفي فعل غيره مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك الفعل، فكان قضية ذلك أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو فبر قسم أنس، وأشار بقوله "إن من عباد الله" إلى أن هذا الاتفاق؛ إنما وقع إكرامًا من الله لأنس ليبر يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم، ويعطيهم أربهم".
وفيما يتعلق بإنكار أنس بن النضر كسر سن الربيع مع سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالقصاص، وقوله: أتكسر سن الربيع وإقسامه أنها لا تكسر، فهذا أمر قد يبدو مستغربًا، كيف وهو من المؤمنين الذين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم فالشأن فيهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا؟. =
وفي صحيح الحاكم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
قال: كم مِنْ ضَعِيفٍ متضعِّفٍ ذي طِمْرَيْنِ لو أقسمَ على الله لأبرَّه، منهم البراءُ بنُ مالك، وإنَّ البراءَ لَقِي زَحْفًا من المشركينَ فقال له المسلمون أَقسِمْ على ربك! فقال: أقسمتُ عليك يا رب! لما منحتنها أكتافهُم؛ فمنحُوا
(2)
أكتافَهُم، ثم التَقَوْا مرَّةً أُخْرَى فقالوا له: أقسم على ربّك! فقال: أقسمت عليك يا رب! لما منَحْتَنَا أكتافهم وألحقتني
(3)
بِنَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم فمنحوا أكتافهم وقتِل البراء
(4)
.
= وقد أجيب عن هذا - كما قال ابن حجر: بأنه أشار بذلك إلى التأكيد على النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الشفاعة إليهم أن يعفوا عنها، وقيل: لم يرد الإنكار المحض والرد؛ بل قاله توقعًا ورجاء من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش، قال: وبهذا جزم الطيبي. فقال: لم يقله ردًّا للحكم، بل نفي وقوعه، لما كان له عند الله من اللطف به في أموره، والثقة بفضله أن لا يخيبه، فيما حلف به، ولا يخيب ظنه فيما أراده بأن يلهمهم العفو، وقد وقع الأمر على ما أراد".
وقد بقي أمر الاختلاف في الرواية بين البخاري ومسلم وقد أجمله النووي في وجهين: أحدهما: أن في رواية مسلم: أن الجارية هي أخت الربَيِّع، وفي رواية البخاري: أنها الربيع بنفسها.
والثاني: أن في رواية مسلم أن الحالف لا تكسر ثنيتها هي: أم الرَّبيع بفتى الراء، وفي رواية البخاري أنه أنس بن النصر وقد أجاب النووي عن هذا بقوله.
قال العلماء: المعروف في الروايات رواية البخاري، وقد ذكرها من طرقه الصحيحة كما ذكرنا عنه، وكذا رواه أصحاب كتب السنن وعقب بقوله: قلت: إنهما قضيتان:
أما الرُّبيع - الجارحة - في رواية البخاري وأخت الجارحة في رواية مسلم: فهي بضم الراء وفتح الباء، وتشديد الياء.
وأما أم الربيع - الحالفة - في رواية مسلم؛ فهي بفتح الراء وكسر الباء وتخفيف الياء".
والحديث أخرجه البيهقي 8/ 25 نحو رواية البخاري.
وفي 8/ 64 نحو روايتي مسلم من حديث ثابت عن أنس، ونحو رواية البخاري من حديث حميد، عن أنس، ثم قال: ظاهر الخبر يدل على كونهما قصتين، وإلا فثابت أحفظ.
وهو هنا يرجح رواية مسلم بثابت.
وسبق للنووي أنه أومأ إلى ترجيح رواية البخاري على أساس أن المعروف في الروايات رواية البخاري، فالله أعلم، سيما وعامة الروايات على ما عند البخاري.
والحديث عند البغوي في شرح السنة 10/ 166 بنحو ما عند البخاري وانظر الموسوعة 3/ 437.
(1)
ليست في "ا".
(2)
م: "فمنحهم".
(3)
م: "وألحقني".
(4)
الذي في المستدرك وتعليق الذهبي 3/ 291 - 292 من رواية عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبر قسمه منهم البراء بن مالك، فإن البراء لقي زحفًا من المشركين وقد أوجع المشركون في المسلمين، فقالوا: يا براء! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنك لو أقسمت على الله لأبرك فأقسم على ربك!؟ فقال: أقسمت عليك يا رب! لما منحتنا أكتافهم، ثم التقوا =
• وروى ابن أبي الدنيا بإسناد له أن النعمان بن قَوْقَل قال يوم أحدٍ: اللهم؛ إني أُقْسِمَ عليكَ أنْ أُقْتَل فأدخلَ الجنة؟ فقتل: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "إنّ النُّعْمَانَ أَقسَمَ عَلَى الله فأبرَّه"
(1)
.
* * *
• وروى أبو نُعيم بإسناده: عن سعد أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد: يا ربّ: إذا لقيتُ العدوّ غدًا فلقِّني رجلًا شديدًا بأسُهُ، شديدًا حَرَدُه، أقاتله فيك ويقاتلني
(2)
، ثم يأخذني فيجْدَعُ أنفي وأذني، فإذا لقيتُك غدًا قلتَ: يا عبدَ الله! مَنْ جدَع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيكَ وفي رسولك؟ فتقول: صدقت، قال سَعْد: فلقَدْ رأيته
(3)
آخر النَّهار وإنَّ أنفَهُ وأُذُنَهُ لمعلَّقتَانِ في خَيْط
(4)
.
* * *
• وكان سعد بن أبي وقاص مجابَ الدعوة فكذَب عليه رجلٌ فقال: "اللهم! إن كان كاذبًا فأَعْمِ بصَرَهُ وأطِل عُمرهُ، وعَرِّضْهُ للفتن". فأصابَ الرجلَ ذلك كُلُّه فكان يتعرَّضُ للجواري في السكك ويقول: "شيخ كبير فقير، مفتون! أصابتني دعوةُ سعد"
(5)
.
• ودعا على رجل سمعه يشتُم عليًّا؛ فما برحَ من مكانه حتى جاء بَعِيرٌ نادٌّ فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله
(6)
.
= على قنطرة السوس فأوجعوا في المسلمين، فقالوا له: يا براء! أقسم على ربك؟ فقال: أقسمت عليك يا رب! لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وسلم فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيدًا".
وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي وهكذا يستبين لنا وجه المخالفة بين ما في الحاكم وما عند ابن رجب سيما في النسخة التي مهرها بتوقيعه.
أفكانت هناك نسخة أخرى للمستدرك؟ أم أن ابن رجب الحافظ كان يملي من الذاكرة وَجَلَّ من لا يسهو؟!.
(1)
الحديث في "مجابو الدعوة" ص 62 ح 22 بإسناد حسن.
(2)
م: "سعيد" وهو تحريف. م: "ويقتلني" وما أثبتناه عن أ هو الموافق لما في الحلية.
(3)
م: "لقد لقيته".
(4)
رواه أبو نعيم في الحلية 1/ 108 - 109 من وجهين أولهما مثل ما أورده ابن رجب زاد في أوله: إن عبد الله بن جحش قال لسعد: ألا ندعو الله فخلوا في ناحية فدعا عبد الله بن جحش فقال: يا رب! فذكره. وثاني الوجهين بنحوه مختصرًا زاد في آخره: قال سعيد بن المسيب: فإني لأرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه ح 755 بسياقه مطولًا.
(6)
راجع ترجمته وأخبار إجابة دعوته ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له أن يكون مجاب الدعوة في الطبقات الكبرى 221 - 232 من العشرة المبشرين بالجنة، والاستيعاب لابن عبد البر 2/ 606 - 610.
• ونازعت
(1)
امرأةٌ سعيدَ بنَ زيد في أرض له، فادّعت أنه أخذ منها أرضها؛ فقال: اللهم! إن كانت كاذبة فأعْم بَصَرَها، واقتلها في أرضها، فعَميت. فبينما
(2)
هي ذاتَ ليلة تمشي في أرضها؛ إذ وقعت في بئر فيها؛ فماتت
(3)
.
* * *
• وكانَ العلاءُ بنُ الحضْرمي في سَريّة فعطِشُوا فصلى فقال: "اللهم
(4)
! يا عليمُ! يا حليم! يا عليّ! يا عظيم! إنا عبيدك، وفي سبيلك نقاتل عدُوَّك؛ فاسقنا غيثًا نشربْ منهُ ونتوضأ، ولا تجعل لأحد فيه نصيبًا غيرَنا" فسارُوا قليلًا، فوجَدُوا نَهَرًا من ماء السماء يتدفق فشربوا وملؤوا أوعيتهم، ثم ساروا فرجع بعضُ أصحابه إلى موضع النهر فلم ير شيئًا، وكأنه لم يكن في موضعه ماء قط.
• وشُكِيَ إلى أنس بن مالك عطشُ أرضه في البصرة فتوضأ وخرج إلى البَرِّية، وصلى ركعتين، ودعا فجاء المطر وسقا أرضه، ولم يجاوز المطر أرضه إلا يسيرًا
(5)
.
• واحترقت خِصَاصٌ بالبصرة في زمن أبي موسى الأشعري، وبقي في وسطها خُصٌّ لم يحترق، فقال أبو موسى لصاحب الخص: ما بال خُصّك لم يحترق؟ فقال: إني أَقْسَمْتُ على ربي أن لا يحرقه!؟ فقال أبو موسى: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "في أمتي رجال طُلْسٌ
(6)
رؤوسُهمْ دَنِسٌ ثيابهُم؛ لو أقسموا على الله لأبَرَّهُمْ".
• وكان أبو مسلم الخولاني مشهورًا بإجابة الدعوه فكان يمر به الظبْي فيقول له الصبيان: ادعُ الله لنا أن يَحْبِسَ علينا هذا الظّبْيِ؛ فيدعو الله فيحبِسه حتى يأخذوه
(1)
م: "ونازعته" وفيه تحريف.
(2)
"ا": "وبينا".
(3)
راجع هذا في صحيح مسلم: 22 - كتاب المساقاة: 30 باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها 3/ 1230 - 1231 ح 138، 139، وانظره والترجمة في طبقات ابن سعد 279 - 285 والاستيعاب 2/ 614 - 620 وفي "ا":"فأذهب بصرها" وما أثبتناه هو الموافق لما في مسلم.
(4)
م: "ثم قال". والخبر في الحلية 1/ 7 - 8 بنحوه مختصرًا وفي: "مجابو الدعوة" مطولًا.
(5)
مجابو الدعوة ح 44 مختصر تاريخ دمشق 5/ 72، السير 3/ 400 الطبقات الكبرى 7/ 21.
(6)
مغبرة: والأصل فيه: الطُّلْسة: الغُبْرة إلى السَّواد، والأطلس: الأسود والوسخ.
ومنه الحديث: "تأتي رجالًا طلسًا" أي مغبرة الألوان: جمع أطلس، راجع النهاية 3/ 132 ولم يشر ابن الأثير إلى الحديث الذي معنا. والخبر في الأولياء ح 42 بسند ضعيف.
بأيديهم
(1)
.
• ودعا على امرأة أفسدت عليه عشرة امرأة له بذهاب بصرها؛ فذهب بصرها في الحال؛ فجاءته، فجعلت تناشده الله وتطلب إليه، فرحمها ودَعَا الله تعالى، فردَّ عليها بَصَرَهَا، ورجَعَت امرأتُه إلى حَالها
(2)
معه.
* * *
• وكذب رجل على مطرّف بن عبد الله بن الشِّخِّير فقال له مطرف: إن كنت كاذبًا فعجل الله حتفك! فمات الرجل مكانه
(3)
.
• وكان رجل من الخوارج يغشى مجلس الحسن البصري فيؤذيهم، فلما زاد أذاه قال الحسن: اللهم! قد علمت أذاه لنا، فاكفناه بما شئت؛ فخر الرجل من قامته، فما حُمل إلى أهله، إلا ميتًا على سريره
(4)
.
* * *
• وكان صلة بنُ أشيم في سرية فذهبت بغلته بثقلها، وارتحل الناس، فقام يصلي،
(1)
الخبر أورده أبو نعيم في الحلية 2/ 129 من رواية محمد بن حيان، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد، عن أبيه، عن ضمرة، عن بلال بن كعب قال: كان الظبي يمر بأبي مسلم الخولاني فيقول له الصبيان: ادع الله يحبسه علينا، ونأخذه بأيدينا؟ فكان يدعو الله عز وجل فيحبسه حتى يأخذوه بأيديهم" ورواه ابن أبي الدنيا في "مجابو الدعوة" ح 84 بإسناد حسن. في م:"الضَّب" وفي أ: "يمر به الضبي" وفي كليهما تحريف.
(2)
أورد أبو نعيم القصة بتمام عناصرها في الحلية 2/ 129 - 130 من رواية محمد بن أحمد بن محمد، عن أبي زرعة، عن سعيد بن أسد، عن ضمرة، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه قال: كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف إلى منزله من المسجد كبر على باب منزله: فتكبر امرأته، فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته، وإذا بلغ باب بيته كبر فتجيبه امرأته، فانصرف ذات ليلة، فكبر عند باب داره، فلم يجبه أحد، فلما كان في الصحن كبر فلم يجبه أحد، فلما كان عند باب بيته كبر فلم يجبه أحد، وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه، ثم أتته بطعامه قال: فدخل البيت فإذا البيت ليس فيه سراج، وإذا امرأته جالسة في البيت منكسة تنكت بعود معها، فقال لها: مالك؟ قالت: أنت لك منزلة من معاوية وليس لنا خادم، فلو سألته فأخذ منا وأعطاك، فقال: اللهم من أفسد علي امرأتي فأعم بصرها، قال: وقد جاءتها امرأة قبل ذلك، فقالت لها زوجك له منزلة من معاوية، فلو قلت له: يسأل معاوية يخدمه ويعطيه عشتم، قال: فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذا أنكرت بصرها، فقالت: ما لسراجكم طفيء؟ قالوا: لا، فعرفت ذنبها، فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي وتسأله أن يدعو الله عز وجل لها أن يرد عليها بصرها. قال: فرحمها أبو مسلم فدعا الله لها فرد عليها بصرها".
وهو في "مجابو الدعوة" ح 85 وكلاهما ضعيف بعثمان بن عطاء وانظر التهذيب 7/ 138 - 139 والميزان 3/ 48.
(3)
مجابو الدعوة ح 92 بسياقه.
(4)
مجابو الدعوة 93 بسياقه أيضًا.
وقال: "اللهم إني أُقْسِمُ عليك أن تردَّ عليَّ بغلتي وثِقَلَها".
فجاءت حتّى قامت بين يديه.
• وكان مرة في بَرِّيَّةٍ فقراء فجاع، فاستطعم الله، فسمع وجبة
(1)
خلفه؛ فإذا هو بثوب أو منديل فيه دَوْخلَة
(2)
رُطَبٍ طريٍّ فأكل منه، وبقي الثوبُ عند امرأته معاذة العدوية، وكانت من الصالحات
(3)
.
• وكان محمد بن المنكَدر في غزاة، فقال له رجل من رفقائه: أشْتَهِي جُبْنًا رَطْبًا فقال ابن المنكدر: استطعِمُوا الله يُطْعِمْكُم؛ فإنه القادر فدعا القومُ فلم يسيروا إلا قليلًا حتى رأوا مِكْتَلًا مَخِيطًا؛ فإذا هو جُبنٌ رَطْبٌ، فقال بعض القوم: لو كان عَسلًا؟ فقال ابنُ المنكدر: إنَّ الذي أطعَمَكُم جُبْنًا
(4)
ها هنا قادر على أن يطعمكم عسلًا فاستطعِمُوه، فدعَوْا، فساروا قليلًا فوجدوا ظرف عَسَل على الطريق، فنزلُوا فأكلوا
(5)
.
• وكان حبيب العجمي أبو محمد معروفًا بإجابة الدعوة؛ دعا لغلام أقرعَ الرأس، وجعل يبكي ويمسح بدموعه رأس الغلام؛ فما قام حتى اسودّ شعر رأسه، وعاد كأَحْسَنِ الناس شَعرًا.
• وأُتي برجل زِمِنٍ
(6)
في محمل فدعا له، فقام الرجل على رجليه، فحمَل مَحْملَه على عنقه، ورَجَع إلى عياله.
• واشترى في مجاعة طعامًا كثيرًا فتصدّق به على المساكين، ثم خاط أكيسة فوضعها تحت فراشه، ثم دعا الله تعالى، فجاء أصحاب الطعام يطلبون ثمنه، فأخرج
(1)
قال في اللسان 6/ 4767 (معارف) أصل الوجوب: السقوط والوقوع، ووجب الميت إذا سقط ومات، والوجبة: السقطة مع الهدّة، ووجب وجبة سقط، وقال اللحياني: وجب البيت وكل شيء سقط، وجبًا، ووجبة وقوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} معناه سقطت جنوبها إلى الأرض، والوجبة صوت الشيء يسقط فيسمع له كالهدَّة.
(2)
الدَّوْخَلَّة والدَّوْخَلَة زَبيل أو زَنبيل "قفة" من خوص يجعل فيه التمر والجمع "دواخل" و"زبُل وزُبلان" و"زنابيل" على التوالي، وضبطت في أ: بضم الدال.
راجع المعجم الوسيط 1/ 275، 390.
(3)
هذا والذي قبله في "مجابو الدعوة" ح 55، 56 بسياقيهما.
(4)
م: "رطبًا جنيًا". والخبر في "في مجابو الدعوة" ح 67 بنحوه بإسناد ضعيف.
(5)
رواه أبو نعيم في الحلية 3/ 151 بنحوه.
(6)
يقال زمن زمنًا وزُمْنَةً وزمانة: مرض مرضًا يدوم طويلًا وضعف بكبر سنٍّ أو مطاولة علة، فهو زمن وزمين. المعجم الوسيط 1/ 403 والخبر في "مجابو الدعوة" ح 97.
تلك الأكيسة؛ فإذا هي مملوءةٌ دراهم، فوزنها - فإذا هي قدْرُ حقوقهم؛ فدفعها إليهم
(1)
.
• وكان رجل يعبث به كثيرًا فدعا عليه حبيب؛ فبَرِصَ.
• وكان مرَّة عند مالك بن دينار فجاء رجل فأغلظ لمالك من أجل دراهمَ قسَّمها مالك، فلما طال ذلك من أمره، رفع حبيب يديه إلى السماء فقال: اللهم إنّ هذا قد شَغَلَنَا عن ذِكْرِكَ؛ فأرِحْنا منه كيف شئتَ.
فسقط الرجل على وجهه ميتًا
(2)
.
• وخرج قوم غُزَاةً في سبيل الله، وكان لبعضهم حمار، فمات وارتحل أصحابه، فقام فتوضأ وصلَى وقال: "اللهم إني خَرجْتُ مجاهدًا في سبيلك، وابتغاءَ مرضاتك، وأشهد أنك تحيي الموتى، وتَبْعثُ مَن في القبور، فأحْي لي حماري؛ ثم قام إلى الحمار فضربه فقام الحمار، ينفض أذنيه، فركبه ولحقَ أصحابه، ثم باع الحمار بعد ذلك بالكوفة
(3)
.
• وخرجت سرِيَّةٌ في سبيل الله فأصابهم بَرْدٌ شديد، حتى كادوا أن يَهْلِكُوا، فدَعَوُا الله تعالى، وإلى جانبهم شجرةٌ عظيمة؛ فإذا هي تلتهب نارًا، فجففوا ثيابَهُم، ودَفئُوا بها حتى طلعت الشمس عليهم فانصرفوا، ورُدّت الشجرة على
(4)
هيئتها.
• وخرج أبو قلابة حاجًّا
(5)
فتقدم أصحابَه في يوم صائف؛ فأصابه عطش شديد؛ فقال: اللهم! إنك قادر على أن تُذهب عطشي من غير فِطر، فأظلّته سَحَابةٌ، فأمطَرَت عليه، حتى بلّت ثوبه، وذهبَ العطَشُ عنه، فنزل فحوّض حياضًا فملأَها، فانتهى إليه أصحابه فشَرِبوا وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شيءٌ
(6)
.
• ومثلُ هذا كثير جدًّا، ويطول استقصاؤه.
[من صبر مجابي الدعوة]:
وأكثرُ مَن كان مُجَابَ الدعوة من السلف كان يَصْبِر على البلاء، ويختار ثوابَهُ، ولا يدعو لنفسه بالفرج منه.
* * *
(1)
رواه أبو نعيم في الحلية 6/ 150 بنحوه، وهو في "مجابو الدعوة"99.
(2)
هذا والذي قبله في "مجابو الدعوة" 95، 124 بسياقيهما.
(3)
"مجابو الدعوة" 49 بسياقه كاملًا.
(4)
م: "إلى".
(5)
سقطت من ا، ب. وفي م:"صائمًا".
(6)
الأولياء لابن أبي الدنيا ص 68 ح 63.
• وقد رُوي أن سعدَ بن أبي وقاص كان يدعو للناس لمعرفتهم له بإجابة الدعوة، فقيل: لو دعوت الله لبَصَرِك؟ وكان قد أَضَرَّ؛ فقال: "قضاءُ الله أحبُّ إليّ من بصري! ".
* * *
• وابتلي بعضهم بالجذام، فقيل له: بلغنا أنك تَعْرف اسم الله الأعظم، فلو سألتَه أن يكشف ما بك؟ فقال: يا ابن أخي! إنه هو الذي ابتلاني وأن أكره أن أُرَادَّهُ!.
• وقيل لإبراهيم التيمي وهو في سجن الحجاج: لو دعوت الله تعالى؟ فقال: أكره أن أدعوه أن يفرِّج عني ما لي فيه أجر.
وكذلك سعيد بن جبير صبر على أذى الحجاج حتى قتله.
• وكان مجاب الدعوة، كان له ديكٌ يقوم بالليل بصياحه إلى الصلاة؛ فلم يَصْحُ ليلة في وقته، فلم يقم سعيد للصلاة
(1)
فشقّ عليه فقال: ماله! قطع الله صوته؟ فَمَا صاح الديك بعد ذلك، فقالت له أمه:"يا بني! لا تدعُ بعد هذا على شيء".
• وذُكر لرابعة رجل له منزلة عند الله وهو يقتات مما
(2)
يلتقطه من المنبوذات على المزابل، فقال رجل: ما ضر هذا أن يدعو الله أن يغنيه عن هذا؟! فقالت رابعة: إن أولياءَ الله إذا قضى الله لهم قضاء
(3)
لم يتسخَّطُوه.
* * *
• وكان حيوة بن شُريح ضيق العيش جدًّا فقيل له: لَوْ دعوتَ الله أن يوسِّعَ عليك؟ فأخذ حصاة من الأرض فقال: اللهم اجعلها ذهبًا؛ فصارت تبرة في كفه، وقال: ما خَيْرٌ في الدنيا؛ إلا الآخرة ثم قال: "هو أعلم بما يُصْلحُ عباده".
[وقد يدعو المؤمن فلا يجاب]:
وربما دعا المؤمن المجابُ الدعوة بما يعلم الله الخِيَرَةَ له في غيره عنه
(4)
فلا يُجِيبُه إلى سؤاله، ويُعَوِّضه عنه ما هو خير له؛ إما في الدنيا أو في الآخرة.
وقد تقدم في حديث أنس المرفوع: "أن الله يقول: إن من عبادي من يسألني بابا
(1)
م: "إلى الصلاة" والخبر في "مجابو الدعوة" 83 بسياقه.
(2)
م: "بما".
(3)
ا، ب:"إذا قضى لهم قضاء".
(4)
ليست في م.
من العبادة؛ فأكفه عنه كيلا يدخله العُجْب
(1)
".
• وخرج الطبراني من حديث سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إنّ من أمتي مَنْ لَو جَاء أحدكُم يَسْألُه دينارًا لم يعطه، ولو سأله درهمًا لم يعطه ولو سأله فِلْسًا لم يعطه، ولو سأل الله الجنة؛ لأعطاه إياها ذو طِمْرين لا يُؤْبه له لو أقسم على الله لأبره"
(2)
.
• وخرجه غيره من حديث سالم مرسلًا وزاد فيه: "ولو سأل الله شيئًا من الدنيا ما أعطاه الله تكرمة له".
* * *
[وما ترددت عن شيء ترددي عن قبض نفس المؤمن]:
• وقوله: وما ترددت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكرَهُ الموتَ، وأكره مَساءَته.
المراد بهذا أن الله تعالى قضى على عباده بالموت كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}
(3)
.
* * *
[الموت وكيف هو]:
والموت هو: مفارقة الروح للجسد.
ولا يحصل ذلك؛ إلا بألم عظيم جدًّا، وهو أعظم الآلام التي تصيب العَبْدَ في الدنيا.
قال عمر لكعب: أخبرني عن الموت؟ قال: يا أمير المؤمنين! هو مثل شَجَرَةٍ كثيرة الشَّوْك في جَوْفِ ابن آدم، فليس منه عِرْقٌ ولا مفصل؛ إلا ورجل شديد الذراعين؛ فهو يعالجها بنزعها؛ فبكى عمر
(4)
.
* * *
(1)
ص 560 وإسناده ضعيف وانظر الحلية 8/ 318 - 319 والأولياء (1).
(2)
حديث صحيح أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 264 عن الطبراني في الأوسط وقال: رجاله رجال الصحيح.
وفي الموسوعة 10/ 274 وهو خطأ.
(3)
سورة آل عمران: 185.
(4)
م: "وهو كرجل". والخبر في الحلية 5/ 365 بنحوه.
• ولما احْتُضِرَ عمرو بن العاص سأله ابنه عن صفة الموت فقال: والله لكأن جنبي في تخت
(1)
ولكأني أتنفس من سَمِّ إبرة، وكأن غُصْنَ شَوْكٍ يُجَرُّ بِهِ من قدمي إلى هامتي.
• وقيل لرجل عند الموت كيف تجدك. قال: أجدني أُجتذَب اجتذابًا، وكأن الخناجر مختلفة في جوفي، وكأن جوفي في تنُّورٍ محميٍّ يلتهب توقُّدًا.
• وقيل لآخر: كيف تجدك؟ قال: أجدني كأن السّماوات منطبقة على الأرض عليّ، وأجد نفسي كأنها تخرج من ثُقْب إبرة.
فلما كان الموت بهذه الشدة والله تعالى قد حتَّمه على عباده كُلِّهم، ولا بدّ لهم منه، وهو تعالى يكره أذى المؤمن ومساءته؛ سمى ذلك ترددًا في حق المؤمن. فأما الأنبياء عليهم السلام فلا يقبضون حتى يخيروا قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم بلقاء الله، وبكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة حتى إن نفس أحدهم تنزع من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له.
• وقد قالت عائشة: ما أغبط أحدًا يُهَوَّنُ عليه الموت
(2)
بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(3)
.
قالت: وكان عنده قدح من ماء فيدخل يدَه في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: اللهم! أعنّي على سَكرات الموت".
(1)
التخت وعاء أو صندوق تصان فيه الثياب. والخبر في الطبقات الكبرى 4/ 260 بنحوه.
(2)
م: "يهون الله عليه الموت".
(3)
أخرجه الترمذي في جامعه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في التشديد عند الموت 3/ 309 ح 979 من طريق الحسن بن الصباح البغدادي، عن معشر بن إسماعيل الحلبي، عن عبد الرحمن بن العلاء، عن أبيه، عن ابن عمر، وعن عائشة قالت: ما أغبط أحدًا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقب عليه بقوله:
سألت أبا زرعة عن هذا الحديث، وقلت له: مَنْ عبد الرحمن بن العلاء. فقال: هو العلاء بن اللجلاج، وإنما عرفه من هذا الوجه.
وأورده الزبيدي في الإتحاف عن الترمذي، وقال: هون: رفق.
وأخرجه النسائي في: 21 - كتاب الجنائز: 6 - باب شدة الموت 3/ 6 - 7 ح 1830 من وجه آخر عن عائشة قالت: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدًا بعد ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحاقنة هي الوهدة المنخفضة بين الترقوتين من الحلق، والذاقنة هي الذقن وقيل: هي طرف الحلقوم، وقيل ما يناله الذقن من الصدر (شرح السيوطي) وهو عند أحمد في المسند 6/ 64 (الحلبي) وابن الجوزي في الثبات عند الممات ص 64 وابن ماجه.
قالت: وجعل يقول: "لا إله إلا الله إن للموت لسكراتٍ
(1)
".
• وجاءَ في حديث مرسل أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم! إنك تأخذ الروح من بين العصَب، والقصَب، والأنامل، اللهم! فأَعِنِّي على الموت وهَوِّنْهُ عليّ
(2)
.
وقد كان بعض السلف يستحب أن يجهد عند الموت كما قال عمر بن عبد العزيز: "ما أحبُّ أن تُهوَّنَ عليّ سَكَرَاتُ الموت؛ إنه لآخر ما يكفَّرُ به عن المؤمن! ".
• وقال النخعي كانوا يستحبون أن يُجْهدُوا عند الموت، وكان بعضهم يخشى من تشديد الموت أن يفتتن
(3)
وإذا أرادَ الله أن يهون على العبد الموت هونه عليه.
• وفي الصحيح
(4)
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنَّ المؤمنَ إذا حضَره الموتُ بُشّر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحبَّ إليه مما أمامه؛ فأحب لقاءَ اللهِ وأحبَّ
(1)
أخرجه البخاري في: 81 - كتاب الرقاق: 42 باب سكرات الموت 11/ 361 ح 6510 من رواية عمر بن سعيد، عن ابن أبي مليكة، عن ذكوان مولى عائشة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة، أو علبة فيها ماء - يشك عمر - فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول:"لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض، ومالت يده".
والترمذي في: 8 - كتاب الجنائز؛ 8 - باب ما جاء في التشديد عند الموت 3/ 308 ح 978 من رواية موسى بن سرجس، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول:"اللهم أعني على غمرات الموت" أو "سكرات الموت".
وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب.
وأحمد في المسند 6/ 64، 70، 77، 150 (الحلبي) من رواية موسى بن سرجس بنحوه.
والحاكم في المستدرك 3/ 56 - 57 من رواية موسى بن سرجس بنحوه.
وابن الجوزي في الثبات عند الممات ص 63، 77 والسيوطي في الدر المنثور 6/ 105 من وجهين عن عائشة رضي الله عنها.
وابن ماجه في: 6 - كتاب الجنائز: 64 - باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 518 - 519 ح 1623.
(2)
أورده الزييدي في الإتحاف 10/ 260 وقال: قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت من حديث طعمة بن غيلان الجعفي وهو معضل سقط منه الصحابي والتابعي.
قال الزبيدي: رواه، عن محمد بن الحسين، قال: حدثنا حسين بن علي الجعفي، حدثنا طعمة بن غيلان الجعفي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره.
ثم نقل عن السيوطي قوله في أمالي الدرة الفاخرة: طعمة من طبقة أتباع التابعين، روى عن الشعبي وغيره. وعنه السفيانان، وذكره ابن حبان في الثقات.
قال الزبيدي: "هو كوفي روى له النسائي في مسند علي" والقصب من العظام: كل عظم أجوف فيه مخ، واحدته: قصبة، وكل عظم عريض. لوح. (النهاية) 4/ 67.
(3)
م: "يفتن" وانظر أثر النخعي بنحوه في الحلية 4/ 232 والأثر الذي قبله في 5/ 317.
(4)
م: "الصحيحين" وفيه تحريف.
الله لقاءَهُ
(1)
.
• قال ابن مسعود: إذا جاء مَلَكُ الموْت يقبض رُوحَ المؤمن قال له: "إنَّ رَبَّكَ يقرئُكَ السلام".
• وقال محمد بن كعب: يقول له ملك الموت: السلام عليك يا ولي الله! الله يقرأ عليك السلام ثم تلا: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ}
(2)
.
• وقال زيد بن أسلم تأتي الملائكة للمؤمن إذا احتُضر فتقول له: لا تَخَفْ مما أنت قادمٌ عليه، فيذْهِبُ الله خوفه، ولا تحزَنُ على الدنيا وأهلها، وأَبْشِرْ بالجنَّة، فيموتُ وقد جاءته البُشْرى.
• وخرج البزار من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم "إن الله أضنُّ بموتِ عبْدِهِ المؤمنِ مِنْ أَحَدِكُم بِكَرِيمة ماله حتى يقبضه على فراشه"
(3)
وقال زيد بن أسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لله عبادًا هم أهلُ المعافاة في الدنيا والآخرة
(4)
".
وقال ثابت البناني: "إن لله عبادًا يضنُّ بهم في الدنيا عن القتل والأوجاع، يطيل أعمارهم، ويحسّنُ
(5)
أرزاقَهُم، ويميتهم على فرشهم، ويطبعونهم بطبائع الشهداء
(6)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه في السنن: 37 - كتاب الزهد: 31 - باب ذكر الموت والاستعداد له 2/ 1422 - 1423 ح 4263 من حديث زرارة ابن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقيل له: يا رسول الله! كراهية لقاء الله في كراهية لقاء الموت، فكلنا يكره الموت؟ قال: لا؛ إنما ذاك عند موته، إذا بشر برحمة الله ومغفرته أحب لقاء الله؛ فأحب الله لقاءه، وإذا بشر بعذاب الله كره لقاء الله وكره الله لقاءه". وانظر ما رواه الحاكم في المستدرك 1/ 352 - 353 من وجوه عن أبي هريرة وصححه وأقره الذهبي. وهو عند البخاري في الرقاق: باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه 11/ 357 من حديث عبادة بن الصامت.
(2)
سورة النحل: 32.
(3)
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 82 عن البزار من حديث عبد الله بن عمرو وقال: فيه عبد الرحمن بن أنعم ضعفه أحمد وأكثر الناس، ورجحه بعضهم على ابن لهيعة.
وقد أخرجه البزار في كتاب الإيمان: باب كرم المؤمن على ربه 1/ 31 من الكشف من طريق سلمة بن شبيب، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الأولياء (24) وانظر الموسوعة 3/ 396.
(5)
م: "يطيل الله".
(6)
أخرجه الطبراني في الكبير 10/ 176 ح 10371 من طريق أحمد بن زهير التستري، عن جعفر بن محمد الوراق، عن عمرو بن طلحة القناد، عن حفص بن سليمان، عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الرحمن بن =
• وخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني مرفوعًا من وجوه ضعيفة.
• وفي بعض ألفاظها إن لله ضَنَائن
(1)
من خَلْقه يأبي بِهم عن البلاء؛ يحييهم في عافية، ويميتهم في عافية، ويدخلهم الجنة في عافية
(2)
.
• قال ابن مسعود وغيره: إن موتَ الفجأة تخفيفٌ عن المؤمن.
• وكان أبو ثعلبة الخشني يقول: إني لأرجو أن لا يخنقني الله، كما أراكم تخنقون عند الموت، فكان ليلةً في داره، فسمعوه ينادي يا عبد الرحمن! وكان عبد الرحمن قد قُتِل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أتى مسجدَ بيته، فصلَّى فقُبض وهو ساجد.
• وقُبِض جماعةٌ من السلف في الصلاة وهم سُجُودٌ.
• وكان بعضهم يقول لأصحابه: أنا
(3)
لا أموت مَوْتكم، ولكن أُدعي فأجِيبُ. فكان يومًا قاعدًا مع أصحابه فقال: لبيك ثم خرَّ ميتًا.
• وكان بعضهم جالسًا مع أصحابه فسمعوا صوتًا يقول: يا فلان! أجب؛ فهذه والله آخِرُ ساعتك من الدنيا فوثب وقال: هذا والله منادي
(4)
الموت فودَّع أصحابه
= عبد الله، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقد أورد محققه الأستاذ حمدي عبد المجيد السلفي قول الهيثمي في المجمع 10/ 203 - 204: وفيه جعفر بن محمد الواسطي الوراق ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات" ثم قال:
قلت: العجب من الحافظ الهيثمي كيف لم يعرف جعفرًا هذا وهو من رجال التهذيب؟
قال الحافظ: صدوق، وكيف خفى عليه علة الحديث الحقيقية وهو حفص بن سليمان الأسدي أو عمرو البزاز قال الحافظ: متروك، وقال ابن خراش: كذاب متروك يضع الحديث. فهذا هو علة الحديث فالحديث ضعيف جدًّا. وهو عند ابن أبي الدنيا في الأولياء ح 5 بإسناد رجاله ثقات. وفي هذا تأكيد لما ذكر ابن رجب عن الحديث سيما من رواية الطبراني.
(1)
قال في النهاية 3/ 104. الضنائن: الخصائص، واحدهم ضنينة، فعيلة بمعنى: مفعولة، من الضّن، وهو ما تختصه وتضن به، أي تبخل، لمكانه منك، وموقعه عندك، يقال: فلان ضني من بين إخواني، وضنّتي: أي أختص به، وأضن بمودته.
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير 12/ 385 ح 13425 من طريق محمد بن عمرو بن خالد الحراني، عن أبيه، عن إسماعيل بن عياش، عن مسلم بن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وهو عند ابن أبي الدنيا في الأولياء من أحاديث ابن عمر وأنس وأبي سعيد الخدري ح 2، 3، 4.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 266 عن الطبراني في الكبير والأوسط وقال: فيه مسلم بن عبد الله الحمصي ولم أعرفه، وقد جهله الذهبي وبقية رجاله وثقوا.
(3)
م: "إني".
(4)
"ا""جادى".
وسلّم عليهم ثم انطلق نحو الصوت، وهو يقول: سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، ثم انقطع عنهم الصوت فتتبّعوا أثرَهُ؛ فوجَدُوهُ ميتًا.
• وكان بعضهم جالسًا يكتبُ في مصحف، فوضع القلم من يده وقال: إن كان موتكم هكذا فوالله إنه لموت طيبٌ، ثم سقط ميتًا.
• وكان آخر جالسًا يكتب الحديث فوضع القلم من يده، ورفع يديه يدعو الله، فمات رحمه الله تعالى.
الحديث التاسع والثلاثون
عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال:
"إن اللّهَ تَجَاوَزَ لِي عَن أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ".
حَدِيثٌ حسنٌ رَوَاهُ ابْنُ ماجَهْ والبيْهقيُّ وَغَيْرُهُما.
* * *
[تخريج الحديث]:
هذا الحديث خرجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
.
• وخرجه ابن حبان في صحيحه
(2)
، والدارقطني،
(3)
وعندهما، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
• وهذا إسنادٌ صحيحٌ في ظاهر الأمر، ورواته كلهم محتجٌّ بهم في الصحيحين.
• وقد خرجه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما
(4)
كذا قال: ولكن له علة، وقد أنكره الإمام أحمد
(5)
جدًّا.
• وقال: ليس يُروى فيه؛ إلا عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا
(6)
.
(1)
في السنن: 10 - كتاب الطلاق: 16 - باب طلاق المكره والناسي 1/ 659 ح 2045 وعنده: إن الله وضع عن أمتي. . .".
قال البوصيري في الزوائد 1/ 353: هذا إسناد صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع؛ قال المزي في الأطراف: ورواه بشر بن بكر التنيسي، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس؛ وليس ببعيد أن يكون السقط من صنعة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس تدلس التسوية.
(2)
في صحيحه: كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة رجالها ونسائها: باب فضل الأمة: ذكر الإخبار عما وضع الله بفضله عن هذه الأمة 9/ 174.
(3)
في السنن: النذور 4/ 170 - 171.
(4)
أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 198 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
(5)
كما في العلل 1/ 227.
(6)
أورد العقيلي هذا القول في الضعفاء الكبير 4/ 145، والحديث أخرجه سعيد بن منصور في السنن 1/ 278 ح 1144، 1145، 1146 من طريق هشيم عن منصور وعوف عن الحسن، قال: إن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عن النسيان، والخطأ وما أكرهوا عليه هكذا مرسلًا. ومن طريق خالد بن عبد الله، عن هشام، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
ومن طريق إسماعيل بن عياش، عن جعفر بن حيان العطاردي، عن الحسن مرفوعًا بنحوه أيضًا.
• وقيل لأحمد: إن الوليد بنَ مسلم رَوَى عن مالك، عن نافعٍ، عن ابن عمر
(1)
مثلَه، فأنكره أيضًا.
• وذكر لأبي حاتم الرازي: حديث الأوزاعي، وحديث مالك:
وقيل له: إن الوليد رَوى أيضًا عن ابن لهيعة، عن موسى بن وَرْدان، عن عُقْبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِثْلَه
(2)
؟ فقال أبو حاتم: هذه أحاديثٌ منكَرة، كأنها موضوعة وقال: "لم يَسْمَع الأوزاعيُّ هذا الحديث من عَطَاء؛ إنما سمعه من رجل لم يُسمّه، أتوهَّم أنه عبد الله بنُ عامر أو إسماعيلُ بنُ مسلم، قال: ولا يصحُّ هذا الحديث ولا يثبتُ إسناده.
• قلت: وقد رُوي عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عُبيد بن عُمير مُرْسلًا من غير ذكر ابن عباس.
• وروى يحيى بنُ سليم عن ابن جُريج، قال عطاء: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهُوا عليه.
خرجه الجوزَجاني.
وهذا المرسل أشبه.
وقد رُوي من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعًا.
رواه مسلم بن خالد الزنجي، عن سعيد العلاف عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تجوِّز لأمتي عن ثلاث من الخطأ والنسيان، وما استُكْرِهوا عليه".
خرجه الجوزجاني.
• وسعيد العلاف، هو سعيد بنُ أبي صالح، قال أحمد: هو مكي قيل له: كيف حاله؟ قال: لا أدري، وما علمتُ أحدًا رَوَى عنه غيرَ مسلم بن خالد.
قال أحمد: وليس هذا مرفوعًا، إنما هو عن ابن عباس، قوله.
نقل ذلك عنه مهنا.
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 352 ولفظه عنده: إن الله وضع عن أمتي الخطأ .. الحديث وعقب عليه بقوله: غريب من حديث مالك تفرد به ابن مصفى، عن الوليد، والعقيلي في الضعفاء (4/ 145) وعقب عليه بقوله: وهذا يروى من غير هذا الوجه بإسناد جيد.
(2)
أورده الهيثمي في المجمع 6/ 253 عن الطبراني في الأوسط وقال: فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف.
ومسلم بن خالد ضعفوه.
• ورُوي من وجه ثالث من رواية بقية بن الوليد، عن علي الهمداني، عن أبي حمزة، عن ابن عباس مرفوعًا.
• خرجه حرب.
• وروايات بقية، عن مشايخه المجاهيل لا تساوي شيئًا.
• وروي من وجه رابع خرجه ابن عدي من طريق عبد الرحيم بن زيد العَميِّ
(1)
، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
• وعبد الرحيم هذا ضعيف
(2)
.
• وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر.
وقد تقدم أن الوليد بن مسلم رواه عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا.
وصححه الحاكم وغربه
(3)
.
وهو عند حذاق الحفاظ باطل على مالك.
كما أنكره الإمام أحمد، وأبو حاتم وكانا يقولان عن الوليد: إنه كثير الخطأ.
• ونقل أبو عبيد الآجري، عن أبي داود، قال: روى الوليد بن مسلم، عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، منها عن نافع أربعة.
• قلت: والظاهر أن منها هذا الحديث والله أعلم.
• وخرجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعت أبا الأشعث، يحدث عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي عن ثلاثة: الخطأ والنسيان، وما أكرهوا عليه".
(1)
م: "الأعمى" وهو تحريف. والحديث عند ابن عدي في الكامل 5/ 282 ت 452/ 1420 من الطريق المذكور وعقب بأنه عن أبيه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس منكر.
(2)
قال البخاري: تركوه وقال ابن معين: كذاب خبيث وقال أبو حاتم: كان يفسد أباه يحدث عنه بالطامات تهذيب 6/ 305.
(3)
قوله وصححه الحاكم وغربه يفهم منه أن الحاكم روى هذا الحديث من رواية ابن عمر وأنه حكم عليه بالصحة والغرابة. وهذا غير صحيح، فلم يروه الحاكم من حديث ابن عمر، وإنما رواه من حديث ابن عباس وصححه فقط، ولم يحكم عليه بالغرابة، وقد سبق أن أوردنا هذا أول الحديث.
والذي حكم بغرابة الحديث هو أبو نعيم في الموضع السابق وقد حكم بغرابة حديث ابن عمر فيبدو أن في الأصول خطأ تعاقب عليه النساخ، وربما كان المقصود هنا: ورواه أبو نعيم وغربه، فالتبس الأمر، وتتابع الخطأ.
• ويزيد بن ربيعة ضعيف جدًّا
(1)
.
• وخرج ابن أبي حاتم من رواية أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان، والاستكراه".
• قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن فقال أجل! أما تقرأ بذلك قرآنًا؟ {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ؟
(2)
.
وأبو بكر الهذلي متروك الحديث.
• وخرجه ابن ماجه ولكن عنده عن شهر، عن أبي ذرّ الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إن الله تبارك وتعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(3)
.
• ولم يذكر كلام الحسن.
• وأما الحديث المرسل عن الحسن فرواه عنه هشام بن حسان
(4)
.
• ورواه منصورٌ وعوفٌ عن الحسن من قوله لم يرفعه
(5)
.
ورواه جعفر بن جِسْر
(6)
بن فرقد، عن أبيه، عن الحسن، عن أبي بكرة
(1)
أورده في المجمع 6/ 253 وأشار إلى ضعفه.
(2)
من الآية (286) من سورة البقرة، والحديث: أورده السيوطي في الدر المنثور 1/ 376 عن ابن أبي حاتم من طريق أبي بكر الهذلي.
(3)
أخرجه ابن ماجه في السنن: 10 - كتاب الطلاق: 16 - باب طلاق المكره والناسي 1/ 659 ح 2043. وأورده البوصيري في الزوائد 1/ 353 ح 728 وقال: هذا إسناد ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف أبي بكر الهذلي وله شاهد من حديث أبي هريرة. رواه الأئمة الستة.
(4)
م: "حبان" وهو تحريف؛ فهو هشام بن حسان الأزدي، مولاهم الحافظ، يروي عن الحسن وابن سيرين وعنه القطان وأبو عاصم الأنصاري مات في صفر سنة 148.
كما ذكر الذهبي في الكاشف 3/ 231.
(5)
انظره في سنن سعيد بن منصور في الموضع السابق.
(6)
م: حبيش بن الحسن، وفي أ:"الحسين" وكلاهما تحريف كما في الذي قبله.
وهو جعفر بن جسر بن فرقد أبو سليمان القصاب بصري، ووالده جسر بن فرقد القصاب.
فأما جعفر بن جسر فقد قال العقيلي: في حفظه اضطراب شديد، كان يذهب إلى القدر وحدث بمناكير وقال ابن عدي: ولجعفر مناكير ولعل ذلك من قبل أبيه، فإنه مضعف وترجمته في اللسان 2/ 111 - 112 والكامل 2/ 150 - 151، والضعفاء الكبير 1/ 187 وتنزيه الشريعة 1/ 45.
وأما جسر بن فرقد فقد وهاه البخاري وابن معين والنسائي، ونسبه ابن عدي إلى الوضع وقال ابن حبان =
مرفوعًا
(1)
.
وجعفر وأبوه ضعيفان.
قال محمد بن نصر المروزي: ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به، حكاه البيهقي
(2)
.
= ضعيف، وقال مرة: يعتبر حديثه إذا روى عن غير أبيه، وقال أبو حاتم: كان رجلًا صالحًا وليس بالقوي، وترجمته في الضعفاء الكبير 1/ 202 - 203، ولسان الميزان 2/ 104 - 105.
(1)
الحديث في الكامل 2/ 150، واللسان 2/ 111.
(2)
هذا الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 356 - 357 من حديثي ابن عباس وعقبة بن عامر.
فأما حديث ابن عباس فرواه عن أبي ذر بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكر، وأبي عبد الله: إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي في آخرين عن أبي العباس: محمد بن يعقوب، عن الربيع بن سليمان، عن بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عُمير، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
وقد عقب عليه البيهقي بقوله:
جود إسناده بشر بن بكر، وهو من الثقات.
ورواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير.
وساق إسناده من رواية محمد بن المصفى، عن الوليد بن مسلم. فذكره، وقال عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ومعنى هذا أن الطريق الأول وهو الطريق المتصل: طريق جيد الإسناد عند البيهقي.
فكيف نسب إليه محمد بن نصر أن يحكي أن ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به وهذا قوله فيه؟!.
وهذا أول تعليق من البيهقي على هذا الحديث.
وسيأتي لنا تعليقه الثاني مع تعليقه على حديث عقبة.
وأما حديث عقبة فقد رواه البيهقي من طريق أبي الحسين بن الفضل القطان، عن عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن سفيان، عن محمد بن المصفي، عن الوليد، عن ابن لهيعة، عن موسى بن وردان عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
وقد وسم البيهقي هذين الحديثين بالحفظ في مقابل حديث ابن عمر مرفوعًا: "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
وقد رواه في السنن الكبرى 6/ 84 من طريق أبي عبد الله الحافظ، عن أبي سعيد: محمد بن يعقوب الثقفي، عن أبي العباس بن الصقر السكري، عن محمد بن المصفى، عن الوليد بن مسلم، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وقال: وكذلك رواه عمر بن سعيد المنيحي، عن محمد بن المصفى.
ثم قال البيهقي والمحفوظ: عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس وعن الوليد، عن ابن لهيعة، عن موسى بن مروان، عن عقبة بن عامر.
كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه تزكية من البيهقي لهذين الحديثين، يضاف معها التزكية السابقة للحديث الأول.
وله تزكية ثالثة لحديث ابن عباس سنوردها وشيكا - بإذن الله.
فقد أورد البيهقي في الكبرى كذلك 10/ 60 - 61 حديث ابن عباس من وجوه متصلًا ومنقطعًا ثم روى عقبه =
• وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: "لما نزل قوله تعالى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله تعالى: قد فعلت
(1)
.
وعن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنها لما نزلت قال: نعم
(2)
.
وليس واحد منهما مُصَرِّحًا برفعه
(3)
.
= حديث أبي هريرة في رفع الإكراه من رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها وما أكرهوا عليه إلا أن يتكلموا به أو يعملوا به".
ثم قال البيهقي: كذا قال عن أبي هريرة، والظاهر أن عطاء سمعه من الوجهين جميعًا، وهما حديثان يؤدي كل واحد منهما ما قصد به من المعنى، وفيهما جميعًا طرح الإكراه.
وهذا تعليق ثالث على حديث ابن عباس في إطار تعليقه على الحديثين معًا.
إنه يريد ليقول:
• إن حديثي ابن عباس وأبي هريرة المتصلين مقبولان، وبشر بن بكر الذي جود إسناد حديث ابن عباس به، معنا في الوجوه المتصلة.
• معنى هذا أن حديث ابن عباس المتصل - هنا - جيد الإسناد.
• أن عطاء الذي روى عن ابن عباس هو هو الذي روى عن أبي هريرة وأن هاتين الروايتين تضافر كل منهما الأخرى؛ وقد استظهر البيهقي أن يكون عطاء قد سمعه على الوجهين.
• وإذا كان الأمر كذلك، ورواة الإسنادين مقبولون من البيهقي في مستوى الجودة؛ فكل من الروايتين تشتد بها الأخرى - خاصة في جزئية رفع الإكراه.
• إن هذه الدراسة التحليلية من البيهقي لحديثي ابن عباس، وأبي هريرة - تؤكد مدى قبول البيهقي لكل من الحديثين فيما يشير إليه من جزئيات.
فكيف يقال بعد هذا وذاك إن البيهقي حكى أن هذا الحديث ليس له إسناد يصح؟!
ولئن صح إنه حكى ذلك فلماذا لم يرد على هذا الذي حكاه بهذا الذي حكيناه نحن عنه؟!
(1)
الذي في صحيح مسلم: - كتاب الإيمان: 57 - باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق 1/ 116 ح 200 - (126) من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [سورة البقرة: 284] قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: قد فعلت.
{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلت {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال: قد فعلت [سورة البقرة: 286].
وإذًا فقد اختصر ابن رجب: النَّصَّ عن مسلم اختصارًا أدَّى إلى أن يَرْوِيَ حديثَ مسلم بمعنى شطر منه. ولهذا روينا النص بسياقه كاملًا؛ حتى يتضح سياقه ومساقه.
(2)
هذا معطوف على قوله: عن سعيد بن جبير، أي أن هذا مما رواه مسلم في صحيحه أيضًا. وهو كما قال فقد رواه مسلم في الموضع السابق، قبل الحديث السابق لكن بسياقه كاملًا أيضًا.
(3)
كيف وهذا هو نص رواية مسلم للحديث من رواية العلاء، عن أبيه عن أبي هريرة؛ قال: لما نزلت على =
• وخرج الدارقطني من رواية ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إن الله تَجَاوز عن أمتي ما حدّثَتْ به أنفسَها وما أُكْرِهُوا عليه، إلا أن يتكلموا به، أو يعملوا"
(1)
.
وهو لفظ غريب.
• وقد خرجه النسائي ولم يذكر الإكراه
(2)
.
• وكذا رواه ابن عُيَيْنَة عن مِسْعَر، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن أبي هريرة،
= رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة: 284] قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [سورة البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (قال: نعم){رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (قال: نعم){وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (قال: نعم)[سورة البقرة: 286] فأي تصريح برفع الحديث وإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أظهر من هذا؟.
وقد ألمح إلى ذلك الحاكم والنووي والسيوطي وغيرهم. قال الحاكم في معرفة علوم الحديث ص 20: فأما ما نقول في تفسير الصحابي مسند فإنما نقوله في غير هذا النوع؛ فإنه كما أخبرناه أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسحاق بن أبي أويس، حدثني مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال:
كانت اليهود تقول: "من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول" فأنزل الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} .
قال الحاكم: هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة؛ فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل؛ فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا: فإنه حديث مسند.
وانظر قول النووي في التقريب: "وأما قول من قال: تفسير الصحابي مرفوع؛ فذاك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية أو نحوه وغيره موقوف".
وراجع أيضًا ما علق به السيوطي على هذا في التدريب 1/ 192 - 193.
(1)
أخرجه الدارقطني في السنن 4/ 171 من طريق أبي بكر النيسابوري، عن يوسف بن سعيد، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريح - به - وفيه:"إلا أن يتكلموا له ويعملوا به".
(2)
أخرجه النسائي في السنن: 27 - كتاب الطلاق: 22 - باب من طلق في نفسه 6/ 156 - 157 من وجوه ح 3433 - 3435.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزاد فيه: "وما اسْتُكرهوا عليه".
خرجه ابن ماجه
(1)
وقد أنكرت هذه الزيادة على ابن عُيَيْنَة، ولم يتابعه عليها أحد.
والحديث مخرج من رواية قتادة في الصحيحين والسنن والمسانيد بدونها
(2)
.
[شرح الحديث]:
ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع.
[التجاوز عن الخطأ والنسيان]:
فقوله "إن الله تَجَاوز لي عن أُمْتي الخطأ .. إلى آخره" تقديره: إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ أو ترك ذلك عنهم، فإنَّ "تجاوز" لا يتعدى بنفسه.
• وقوله الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
فأما الخطأ والنسيان فقد صرّح القرآن بالتجاوز عنهما قال الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
(3)
.
وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}
(4)
.
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص سمع النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إذا حَكم الحاكِم فاجتهد فأخطأ فله أجر وإذا حكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران
(5)
".
(1)
أخرجه ابن ماجه في السنن: كتاب الطلاق: باب طلاق المكره والناسي 1/ 659 ح 2044 وفيه: "إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم به. . .".
(2)
راجع ما أخرجه البخاري في: 49 - كتاب العتق: 6 - باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى - وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لكل امرئ ما نوى" ولا نية للناسي والمخطئ 5/ 160 ح 2528. وفي: 68 - كتاب النكاح: 11 - باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى" إلخ 9/ 388 ح 5269.
وفي: 83 - كتاب الأيمان والنذور: 15 - باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان 11/ 548 - 549 ح 6664.
ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 85 - باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر 1/ 116 - 117 من وجوه عن قتادة. ح 201 - (127)، 202 - (. . .).
وأبو داود في: 7 - كتاب الطلاق: 15 - باب في الوسوسة بالطلاق 2/ 657 - 658 ح 2209.
(3)
سورة البقرة: 286.
(4)
سورة الأحزاب من الآية: 5.
(5)
أخرجه البخاري في: 96 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: 21 - باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 13/ 318 ح 7352.
ورواه مسلم في: 30 - كتاب الأقضية: باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 3/ 1342 ح 15 - (1716). وعندهما معًا: "وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" وفي م: إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فأصاب" وما أثبتناه عن ا، ب هو الموافق لما في الصحيحين.
• وقال الحسن: لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين يعني داود وسليمان؛ لرأيت أن القضاة قد هلكوا؛ فإنه أثنى على هذا بعلمه وعَذَر
(1)
هذا باجتهاده يعني قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}
(2)
الآية.
• وأما الإكراه فصرح القرآن أيضًا بالتجاوز عنه قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}
(3)
.
(4)
.
ونحن نتكلم - إن شاء الله - في هذا الحديث في فصلين.
• أحدهما: في حكم الخطأ والنسيان.
• والثاني: في حكم الإكراه.
الفصل الأول في حكم الخطأ والنسيان
الخطأ هو: أن يقصد بفعله شيئًا؛ فيصادفَ فعلُه غيرَ ما قصدَه؛ مثل أن يقصد قتل كافر؛ فيصادف قتله مسلمًا.
• والنسيان: أن يكون ذاكرًا لشيء فينساه عند الفعل.
وكلاهما معفوٌّ عنه بمعنى
(5)
أنه لا إثم فيه؛ ولكن رفع الإثم لا ينافي أن يترتب على نسيانه حكم، كما أن من نسي الوضوء وصلى ظانا أنه متطهر؛ فلا إثم عليه بذلك، ثم إن تبين أنه كان قد صَلّى مُحْدثًا؛ فإن عليه الإعادة.
ولو ترك التسمية على الوضوء نسيانًا، وقلنا بوجوبها فهل يجب عليه إعادة الوضوء؟.
فيه روايتان عن الإمام أحمد.
• وكذا لو ترك التسمية على الذبيحة نسيانًا.
فيه عنه روايتان.
• وأكثر الفقهاء على أنها تؤكل ولو ترك الصلاة نسيانًا ثم ذكر؛ فإن عليه القضاء، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا
(1)
م: "وعلى" وهو تحريف.
(2)
سورة الأنبياء: 78.
(3)
سورة النحل: 106.
(4)
سورة آل عمران: 28.
(5)
م: "يعني".
ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك ثُم تلا:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}
(1)
.
ولو صَلَّى حاملًا في صلاته نجاسةً لا يعفى عنها، ثم علم بها بعد صلاته أو في أثنائها فأزالها، فهل يُعِيد صلاته أم لا؟ فيه قولان.
وهما روايتان عن أحمد.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(2)
أنه خَلَع نعليه في صلاته، وأتمها وقال:"إن جبرائيل أخبرني أن فيهما أذى" ولم يعِدْ صلاته
(3)
.
• ولو تكلم في صلاته ناسيًا لأنه في صلاةٍ ففي بطلان صلاته بذلك قولان مشهوران، هما روايتان عن أحمد.
ومذهب الشافعي أنها لا تبطل بذلك.
ولو أكل في صومه ناسيًا فالأكثرون على أنه لا يبطل صيامه؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أكل أو شرِبَ ناسيًا فليتمَّ صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه".
• وقال مالك: عليه الإعادة؛ لأنه بمنزلة من ترك الصيام
(4)
ناسيًا.
والجمهور يقولون: أتى بنية الصيام، وإنما ارتكب بعض محظوراته ناسيًا فيعفى عنه.
• ولو جامع ناسيًا: فهل حكمه حكم الآكل نسيانًا؟ أم لا؟ فيه قولان:
(1)
البخاري في مواقيت الصلاة ح 597 ومسلم في المساجد ح 684 من حديث أنس رضي الله عنه والآية رقم 14 من سورة طه.
(2)
صحيح أبي داود 1/ 128 وذكر الشيخ أن إسناده صحيح وهو من رواية أبى سعيد رضي الله عنه.
(3)
م: "الصلاة".
(4)
حديث الآكل في صومه ناسيًا رواه الدارقطني بنحوه من وجوه ضعيفة وأورده بمعناه من وجهين صحيحين راجع سنن الدارقطني 2/ 178 - 180.
وأورده الترمذي بمعناه من حديث أبي هريرة في: 6 - كتاب الصوم: 26 - باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسيًا 3/ 100 من وجهين ح 721، 722 وقال: وفي الباب عن أبي سعيد، وأم إسحاق الغنوية.
وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقال مالك بن أنس: إذا أكل في رمضان ناسيًا فعليه القضاء.
والقول الأول أصح.
وهو عند البخاري في: 30 - كتاب الصوم: 26 - باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا 4/ 155 ح 1933 بنحوه وطرفه 6669.
وفي: 83 - كتاب الأيمان والنذور: 15 - باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان 11/ 549 ح 6669 ولفظ هذا الموضع: "من أكل ناسيًا وهو صائم فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه".
ومسلم في: 13 - كتاب الصيام: 33 - باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر 2/ 809 ح 171 - (1155) بنحوه.
• أحدهما: وهو المشهور عن أحمد: أنه يبطل صيامه بذلك وعليه القضاء.
وفي الكفارة عنه روايتان:
• والثاني: لا يبطل صَوْمه
(1)
بذلك كالأكل، وهو مذهب الشافعي.
وحُكي روايةً عن أحمد.
• وكذا الخلاف في الجماع في الإحرام ناسيًا هل يبطل به النسك أم لا؟.
[لو حلف أن لا يفعل ففعل ناسيًا؟]:
• ولو حلف لا يفعل شيئًا ففعله ناسيًا ليمينه أو مخطئًا ظانًّا أنه غيرُ المحلوف عليه، فهل يحنثُ في يمينه أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: هي ثلاث روايات عن أحمد.
• أحدها: لا يحنث بكل حال ولو كانت اليمين بالطلاق والعتاق.
وأنكر هذه الرواية عن أحمد: الخلَّالُ، وقال: هي سهو من ناقلها، وهو قولا الشافعي في أحد قوليه، وإسحاق وأبي ثور وابن أبي شيبة، وروى عن عطاء، قال إسحاق: ويُسْتَحْلَفُ أنه كان ناسيًا ليمينه.
• والثاني: يَحْنثُ بكلِّ حالٍ.
وهو قول جماعة من السلف، ومالك.
• والثالث: يُفَرَّق بين أن يكون يمينه بطلاق، أو عتاق، أو بغيرهما وهو المشهور عن أحمد رحمه الله وهو
(2)
قول أبي عبيد.
• وكذا قال الأوزاعي في الطلاق، قال: وإنما الحديث الذي جاء في العفو عن الخطأ والنسيان ما دام ناسيًا، وأقام على امرأته فلا إثم عليه؛ فإذا ذكر فعليه اعتزال امرأته. فإن نسيانه قد زال.
وحكى إبراهيم الحربي إجماع التابعين على وقوع الطلاق بالناسي.
* * *
[لو قتل خطأ]:
ولو قتل مؤمنًا خطأ؛ فإن عليه الكفارة والدية بنص الكتاب.
(1)
م: "صيامه".
(2)
"ا": "عن أحمد وقول أبي عبيد".
• وكذا لو أتلف مال غيره خطأ يَظُنّهُ أنه لنفسه
(1)
.
وكذا قال الجمهور في المحرم يَقْتُل الصيدَ خطأ أو ناسيًا لإحرامه: أنّ عليه جزاءه.
• ومنهم من قال: لا جزاء عليه. إلا أن يكون متعمدًا لقَتله؛ تمسكًا بظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}
(2)
الآية، وهو رواية عن أحمد.
• وأجاب الجمهور عن الآية: بأنه رُتِّبَ على قتله
(3)
متعمدًا - الجزاءُ وانتقامُ الله تعالى.
ومجموعهما يختص بالعامد.
فإذا انتفى العمدُ انتفى الانتقام، وبقي الجزاء ثابتًا بدليل آخر.
والأظهر والله أعلم؛ أن الناسي والمخطئ إنما عُفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما؛ لأن الإثم مرتبٌ على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصدَ لهما؛ فلا إثم عليهما.
وأما رفع الأحكام عنهما فليس مرادًا من هذه النصوص فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر.
* * *
(1)
م: "أنه مال لنفسه".
(2)
سورة المائدة 95.
(3)
م: "قاتله".
والفصل الثاني في حكم المكْرَه وهو نوعان
• أحدهما: من لا اختيار له بالكلية، ولا قدرة له على الامتناع؛ كمن حُمل كَرْهًا، وأدخل إلى مكان حلف على الامتناع من دخوله، أو حمل كرهًا، وضرب به غيره؛ حتى مات ذلك الغير، ولا قدرة له على الامتناع أو أضجعت المرأة ثم زني بها من غير قدرة لها على الامتناع، فهذا لا إثم عليه بالاتفاق، ولا يترتب عليه حنث في يمينه عند جمهور العلماء.
وقد حُكي عن بعض السلف كالنخعي فيه خلافٌ، ووقع مثله في كلام بعض أصحاب الشافعي وأحمد.
والصحيح عندهم: أنه لا يَحنثُ بحال.
وروي عن الأوزاعي في امرأة حلفت على شيء، وأحْنَثَها زوجُها كَرهًا أنَّ كفارتها عليه.
وعن أحمد رواية كذلك فيما إذا وطئ امرأته مُكْرَهةً في صيامها أو إحرامها أنّ كفارتها عليه.
والمشهور عنه أنه يفسد بذلك
(1)
صومها وحجها.
• النوع الثاني: من أكره بضرب أو غيره حتى فعل.
فهذا الفعل يتعلق به التكليف؛ فإنه يمكنه
(2)
أن لا يفعل، فهو مختار للفعل، لكن ليس غرضه نفس الفعل، بل دفع الضرر عنه، فهو مختار من وجه، غير مختار من وجه آخر
(3)
، ولهذا اختلف الناس: هل هو مكلف أم لا؟ واتفق العلماء على أنه لو أكره على قتل معصوم لم يُبَحْ
(4)
له أن يقتله؛ فإنه إنما يقتله باختياره؛ افتداءً لنفسه من القتل.
هذا إجماع من العلماء المعتدّ بهم.
• وكان في زمن الإمام أحمد يخالف فيه من لا يعتد به.
فإذا قتله
(5)
في هذه الحال، فالجمهور على أنهما يشتركان في وجوب القوَد: المكرِه والمكرَه، لاشتراكهما في القتل، وهو قول مالك والشافعي في المشهور عنه وأحمد.
(1)
"ا": "صومها".
(2)
م: "فإن أمكنه".
(3)
ليست في "ا"، ولا في ب.
(4)
م: "لم يصح".
(5)
"ا": "وإذا".
وقيل: يجب على المكرِه وحده؛ لأن المكره صار كالآلة، وهو قول أبي حنيفة، وأحدُ قولي الشافعي.
• وروي عن زفر كالأول.
• وروي عنه أنه: يجب على المكرَه لمباشرته، وليس هو كالآلة؛ لأنه آثم بالاتفاق.
• وقال أبو يوسف: لا قود على واحد منهما.
• وخرجه بعض أصحابنا
(1)
وجهًا لنا من الرواية التي
(2)
لا توجب فيها قتلَ الجماعة بالواحد وأولى ولو أكره
(3)
بالضرب ونحوه على إتلاف مال الغير المعصوم فهل يباح له ذلك؟ فيه وجهان لأصحابنا:
• فإن قلنا: يباح له ذلك فضمنه المالك، رجع بما ضمنه على المكره.
• وإن قلنا: لا يباح له ذلك فالضمان عليهما معًا كالقَود، وقيل: على المكرَه المباشر وحده وهو ضعيف.
• ولو أكره على شُرب
(4)
الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة؛ ففي إباحته بالإكراه
(5)
قولان، أحدهما: يباح له
(6)
ذلك استدلالًا بقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(7)
وهذه نزلت في عبد الله بن أبي بن سَلُول كانت له أمتان يُكْرِهُهُمَا على الزنا، وهما يأبيان
(8)
ذلك.
وهذا قول الجمهور: كالشافعي وأبي حنيفة، وهو المشهور عن أحمد.
• وروي نحوه: عن الحسن، ومكحول، ومسروق.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يدل عليه.
وأهل هذه المقالة اختلفوا في إكراه الرجل على الزنا: فمنهم من قال: يصح إكراهه
(1)
م: "وجهان".
(2)
ليست في م.
(3)
م: "لو أكره".
(4)
"ا": "شراب".
(5)
سقطت من م.
(6)
"ا": "بذلك".
(7)
سورة النور: 33.
(8)
في تفسير ابن كثير 3/ 288 أنه كان لعبد الله بن أُبيّ إماء فكان يكرههن على البغاء طلبًا لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه فيما يزعم. ثم أورد الروايات في ذلك وانظره في مسلم من حديث جابر في التفسير ح 26 - 3029 و 27 - (. . .).
عليه ولا إثم عليه.
وهو قول الشافعي، وابن عقيل من أصحابنا.
ومنهم من قال: لا يصح إكراهه عليه، وعليه الإثم والحد.
وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ومنصوص أحمد، وروي عن الحسن.
• والقول الثاني أن التَّقية
(1)
إنما تكون في الأقوال ولا تقية
(2)
في الأفعال ولا إكراه عليها.
روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأبي العالية، وأبي الشعثاء، والربيع بن أنس، والضحاك.
وهو رواية عن أحمد، وروي عن سُحنون أيضًا.
وعلى هذا - فلو
(3)
شرب الخمر أو سرق مكرهًا حُدّ.
وعلى الأول لو شرب الخمر مكرهًا ثم طلّق أو أعتق فهل يكون حكمه حكم المختار لشربها أم لا؛ بل يكون طلاقه وعتاقه لغوًا؟
فيه لأصحابنا وجهان:
• وروي عن الحسن فيمن قيل له: اسجد لصنم؛ وإلا قتلناك؟ قال: إن كان الصنم تجاه القبلة فليسجد، ويجعل نيَّتَه لله، وإن كان إلى غير القبلة؛ فلا يفعل وإن قتلوه.
• قال ابن حبيب المالكي: وهذا قول حسن.
قال ابن
(4)
عطية: وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير القبلة.
وفي كتاب الله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
(5)
.
وفي الشرع إباحة التنفل
(6)
للمسافر إلى غير القبلة.
[الإكراه على الأقوال]:
وأما الإكراه على الأقوال فاتفق العلماء على صحته وأن من أُكْرِه على قول محرَّم
(1)
م: "التقاة".
(2)
م: "تقاة".
(3)
م: "لو".
(4)
م: "أبو" وهو تحريف.
(5)
سورة البقرة: 115.
(6)
"ا": "النفل".
إكراهًا معتبرًا: أن له أن يفتديَ نفسه به، ولا إثم عليه، وقد دلَّ عليه قول الله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}
(1)
.
• وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمّار: "إن عادوا
(2)
فعُد".
وكان المشركون قد عذبوه حتى يوافقهم على ما يريدونه من الكفر؛ ففعل.
وأما ما ورد
(3)
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه وصَّى طائفة من أصحابه فقال:
"لا تشركوا باللّه شيئًا وإن قطعتم وحرِّقتُم"
(4)
فالمراد الشرك بالقلوب كما قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}
(5)
، وقال تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ}
(6)
.
• وسائر الأقوال يتصور عليها الإكراه.
فإذا أكره بغير حق على قول من الأقوال لم يترتب عليه حكم من الأحكام، وكان لغوًا، فإن كلام المُكْرَهِ صدر منه وهو غير راضٍ به فلذلك عُفي عنه، ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة.
• وبهذا فارق الناسي والجاهل.
وسواء في ذلك العقود: كالبيع، والنكاح، أو الفسوخ: كالخُلْع، والطلاق، والعِتاق، وكذلك: الأيمان والنذور.
وهذا قول جمهور العلماء، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
(1)
سورة النحل: 106.
(2)
راجع ما أورده السيوطي في الدر المنثور 4/ 132 وابن كثير في التفسير 2/ 346 - 348 من المختصر.
(3)
"ا": "روى".
(4)
ورواه ابن ماجه في السنن: 36 - كتاب الفتن: 23 - باب الصبر على البلاء 2/ 1339 ح 4034 من طريق الحسين بن الحسن المروزي، عن ابن أبي عدي، ومن طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن عبد الوهاب بن عطاء كلاهما عن راشد الحماني، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: أوصاني خليلي أن لا تشرك بالله شيئًا وإن قطعت وحرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة، متعمدًا، فمن تركها متعمدًا؛ فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر".
وأورده البوصيري في الزوائد 2/ 304 - 305 وعقب عليه بقوله: هذا إسناد حسن؛ شهر مختلف فيه.
(5)
سورة لقمان: 15.
(6)
سورة النحل: 106.
• وفرق أبو حنيفة بين ما يقبل الفسخ عنده ويثبت فيه الخيار كالبيع ونحوه فقال: لا يلزم مع الإكراه، وما ليس كذلك، كالنكاح والطلاق والعتاق والأيمان فَألزم بها مع الإكراه.
[الإكراه في الأفعال]:
ولو حلف لا يفعل شيئًا ففعله مُكْرَهًا، فعلى قول أبي حنيفة يحنَثُ، وأمّا على قول الجمهور ففيه قولان:
• أحدهما: لا يحنث كما لا يحنث إذا فُعل به ذلك كرهًا، ولم يقدر على الامتناع كما سبق، وهذا قول الأكثرين منهم.
• والثاني: يحنَثُ ها هنا؛ لأنه فعله باختياره بخلاف ما إذا حُمِلَ ولم يمكنه الامتناع، وهو رواية عن أحمد وقولٌ للشافعي.
• ومن أصحابه وهو القفال مَنْ فرَّق بين اليمين والطلاق والعتاق وغيرهما كما قلنا نحن في الناسي.
• وخرجه بعض أصحابنا وجهًا لنا.
ولو أكره على أداء ماله بغير حق فباع عقاره؛ ليؤدي ثمنه فهل يصح الشراء منه أم لا؟
فيه روايتان عن أحمد.
• وعنه رواية ثالثة: إن باعه بثمن المثل اشْتُري منه، وإن باعه بدونه لم يُشْتَر منه.
ومتى رضي المكرَه بما أكره عليه لحدوث رغبة له فيه بعد الإكراهِ والإكراهُ قائم - صحَّ ما صدر منه من العقود وغيرها بهذا القصد.
هذا هو المشهور عند أصحابنا.
وفيه وجه آخر: أنه لا يصح أيضًا وفيه بُعْد.
وأما الإكراهُ بحق فهو غير مانع من لزوم ما أُكْرِه عليه، فلو اُكْرِهَ الحربي على الإسلام فأسلم؛ صحَّ إسلامه.
• وكذا لو أكره الحاكم أحدًا على بيع ماله ليوفي دينه، أو أكره المؤْلِي
(1)
- بعد مدة
(1)
م: "موليا".
الإيلاء وامتناعه من الفيئة - على الطلاق.
ولو حلف لا يوفي دينه فأكرهه الحاكم على وفائه؛ فإنه يحنَث بذلك، لأنه فعل ما حلف عليه حقيقة على وجه لا يُعذر فيه.
ذكره أصحابنا.
بخلاف ما إذا امتنع من الوفاء فأدى عنه الحاكم؛ فإنه لا يحنَث؛ لأنه لم يوجد منه فعلُ المحلوف عليه.
* * *
الحديث الأربعون
عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكبي فَقَالَ:
"كُنْ في الدُّنْيَا كأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِر سَبِيل".
وكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ". رَوَاهُ البُخَارِي.
* * *
[تخريج الحديث]:
هذا الحديث خرجه البخاري
(1)
، عن علي بن المديني، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطُّفَاوي، حدثنا الأعمش، حدثني مجاهد، عن ابن عمر فذكره.
• وقد تكلم غير واحد من الحفاظ في قوله: حدثنا
(2)
مجاهد وقالوا: هي غير ثابتة، وأنكروها على ابن المديني، وقالوا: لم يسمع الأعمش هذا الحديث عن مجاهد؛ إنما سمعه من ليث بن أبي سُليم عنه.
• وقد ذكر ذلك العُقَيْليُّ وغيره
(3)
.
• وأخرجه الترمذي من حديث ليث، عن مجاهد، وزاد فيه:"وعد نفسك من أهل القبور"، وزاد في كلام ابن عمر:"فإنك لا تدري يا عبد الله! ما اسمك غدًا"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في: 81 - كتاب الرقاق: 3 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" 11/ 233 ح 6416.
وقد علق ابن حجر على هذه الترجمة فقال: هكذا ترجم ببعض الخبر إشارة إلى ثبوت رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن من رواه موقوفًا قصَّر فيه.
(2)
الذي ذكر في الإسناد: حدثني مجاهد، وليس حدثنا، وهكذا جاء بصيغة المتكلم المفرد في صحيح البخاري.
(3)
رد هذا ابن حجر في الفتح تعليقًا على الحديث وعلى ما أثير حوله، وذلك بما أورده عن ابن حبان في روضة العقلاء من قوله: مكثت مدة أظن أن الأعمش دَلَّسَهُ عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، وإنما سمعه من ليث، حتى رأيت علي بن المديني رواه عن الطفاوي فصرح بالتحديث، يشير إلى رواية البخاري التي في الباب ثم قال:"وللحديث طريق أخرى، أخرجه النسائي من رواية عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر مرفوعًا، وهذا مما يقوي الحديث المذكور لأن رواته من رجال الصحيح، وإن كان اختلف في سماع عبدة من ابن عمر". وانظر إيراد الشيخ ناصر الألباني للحديث في الأحاديث الصحيحة رقم 1157، 1473.
(4)
أخرجه الترمذي في: 37 - كتاب الزهد: 25 - باب قصر الأمل 4/ 567 - 568 ح 2333.
• وخرجه ابن ماجه ولم يذكر قول ابن عمر
(1)
.
• وخرج الإمام أحمد
(2)
والنسائي
(3)
من حديث الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر قال: أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببعض جسدي فقال: "اعبدِ الله كأنك تراه، وكن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سَبِيل".
وعبدة بن أبي لبابة أدرك ابنَ عمر، واختلف في سماعه منه.
* * *
[هذا الحديث أصل في قصر الأمل]:
وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن
(4)
المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيئ
(5)
جهَازَه للرحيل.
وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم.
* * *
[وصايا الأنبياء وأَتباعهم]:
• قال تعالى، حاكيًا عن مؤمنِ آلِ فِرْعَوْنَ أنه قال:{يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}
(6)
.
• وكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "مالي وللدّنيا؟ إنما مثَلي وَمثَلُ الدنيا
(1)
في السنن: 37 - كتاب الزهد: 3 - باب مثل الدنيا 2/ 1378 ح 4114.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 24 (الحلبي) وزاد في آخره: واعدد نفسك في الموتى. وصحح الشيخ أحمد شاكر إسناده 6/ 343.
(3)
ذكر المزي في التحفة 5/ 481 أن النسائي رواه في الرقائق في الكبرى، عن محمد بن علي، عن محمد بن يوسف، عن الأوزاعي عنه.
وذكر المستدرِك: أنه ليس في الرواية ولم يذكره أبو القاسم.
والحديث رواه أبو نعيم في الحلية 3/ 301 من رواية أحمد بن جعفر بن حمدان، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي - شيخ شيخ البخاري - عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - بنحوه ثم قال: هذا حديث صحيح متفق عليه من حديث الأعمش، ورواه ليث بن أبي سليم، عن مجاهد.
(4)
م: "فإن".
(5)
م: "يعني" وهو تحريف.
(6)
سورة المؤمن: 39.
كمثل راكبٍ قال في ظل شجرة ثم راح وتركها
(1)
".
• ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنه قال لهم: "اعْبُرُوهَا ولا تعْمُروها".
• وروى عنه أنه قال: "مَنْ ذا الذي يبني على مَوْج البحر دارًا؟ تلكم الدنيا، فلا تتخذوها قرارًا
(2)
".
* * *
ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلّبُ بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر! أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتًا نتوجه
(3)
إليه قال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت ها هنا؟
فقال: إنّ صاحبَ المنزل لا يدَعُنا فيه
(4)
.
* * *
ودخلوا على بعضِ الصالحين فقلّبوا بصَرَهم في بيته، فقالوا له: إنا نرى بيتَك بيت رجل مرتحل فقال: أَمُرْتَحِلٌ؟ لا: ولكني
(5)
أُطْرَدُ طَرْدًا.
• وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكلٍّ منهما بنون، فكونُوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليومَ عملٌ ولا حسَابَ، وغدًا حسابٌ ولا عملَ! ".
* * *
قال بعض الحكماء: "عجبتُ مِمَّن الدنيا مولّية عنه، والآخرة مقبلة إليه، يشتغل بالمدبِرة، ويُعرِض عن المقبلة؟! ".
• وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إنَّ الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله
(1)
أخرجه الترمذي في السنن: 37 - كتاب الزهد: 44 - باب حدثنا موسى بن عبدة (4/ 588) ح 2377 من رواية إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال: مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا؛ إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها، وعقب عليه بقوله: وفي الباب عن عمر وابن عباس.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الحاكم في المستدرك: 4/ 309 - 310 من حديث ابن عباس بنحوه وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي ثم روى شاهدًا له من حديث ابن مسعود عقبه، وسكت عنه هو والذهبي.
وانظر باقي تخريجه في الموسوعة 9/ 319.
(2)
الخبر رواه أحمد في الزهد 1/ 172 بنحوه.
(3)
"ا": "نوجه".
(4)
م: "ها هنا".
(5)
م: "لا أرتحل ولكنني".
عليها الفناءَ وكتب على أهلها منها الظَّعْنَ
(1)
، فكم من عامر مُؤنق
(2)
عن قليل
(3)
يخرب! وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن! فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
[واجب المؤمن بالنسبة للدنيا]:
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطنًا؛ فينبغي للمؤمن
(4)
أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غُربةٍ همّه التزوّد للرجوع إلى وطنه، أو يكونَ كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليلَه ونهارَه يسير إلى بلد الإقامة.
[لهذا كانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمر]:
• فلهذا وصَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنَ عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين:
[الحال الأول]:
• فأحدهما: أن ينزل المؤمنُ نفسَه كأنه غريبٌ في الدنيا فيتخيل الإقامة ولكن في بلد غُرْبة؛ فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلِّقٌ بوطنه الذي يرجع إليه. وإنما هو مقيم في الدنيا ليقضي مرمَّة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه.
[من مأثورات السلف]:
قال الفضيل بن عياض: المؤمن في الدنيا مهمُوم حزين همه مرمة جَهَازِه ومن كان في الدنيا كذلك فلا همة له
(5)
إلا في التزوّد بما ينفعه عند عوده
(6)
إلى وطنه ولا
(7)
ينافس أهلَ البلد الذي هو غريبٌ بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم.
• قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافِس في عزّها؛ له شأن وللناس شأن!!.
(1)
الظعْن: الرحيل والسفر، وقد قوبل في القرآن بالإقامة، قال تعالى:{يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} سورة النحل: 80.
(2)
أنق أنقًا وأناقة: راع حسنه وأعجب فهو أنيق، وآنقه الشيء إيناقًا: أعجبه؛ فهو مؤنق وأنيق. راجع المعجم الوسيط 1/ 30.
(3)
ب: عن "قريب" والخبر في الحلية 5/ 292 بسياقه مطولًا بنحوه.
(4)
ليست في "ا".
(5)
م: "فلا همّ له".
(6)
م: "العود".
(7)
م: "فلا".
لما خلق الله آدم عليه السلام أُسْكِن هو وزَوْجُه الجنة، ثم أهبطَا منها، ووُعِدَا الرجوعَ إليها، وصالح ذريتهما.
فالمؤمن أبدًا يحنُّ إلى وطنه الأول، وحبُّ الوطن من الإيمان وكما قيل:
وكم منزل للمرء يألفه الفتى
…
وحنينه أبدًا لأول منزلٍ
ولبعض شيوخنا:
فحيَّ على جنات عدن فإنَّها
…
منازلكَ الأولى وفيها المخيَّمُ!
ولكننا سَبْيُ العدوِّ فهل تُرى
…
نعودُ إلى أوطاننا ونُسَلِّمُ؟
وقد زعموا أنَّ الغريب إذا نأى
…
وشطَّتْ به أوطانُه فهو مغْرَمُ
وأيّ اغترابٍ فوق غُرْبتنا التي
…
لها أضحت الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ؟!
• وكان عطاء السَّلِيمي يقول في دعائه: "اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر
(1)
وحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يديك".
* * *
[مثل الدنيا]:
• قال الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه: إنما مثلي ومثلُكم ومثلُ الدنيا كقوم
(2)
سلكُوا مفازة غبراء
(3)
حتى إذا لم يدْرُوا ما سلَكُوا منها أكثر، أو ما بقى، أنفدُوا الزادَ وحسَرُوا
(4)
الظهرَ، وبَقُوا بين ظهراني المفازَةِ، لا زادَ ولا حَمُولة، فأيقنوا بالهلَكة، فبينما
(5)
هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حُلّةٍ
(6)
يقطُرُ رأسه
(7)
فقالوا: إن هذا قريبُ عهدٍ بريفٍ
(8)
وما جاءكم هذا
(9)
؛ إلا من قريبٍ
(1)
"ا": "القبور" وفي الحلية: "قبري"، والخبر فيها في ترجمته 6/ 215 - 226 بنحوه.
(2)
عند ابن أبي الدنيا: "كمثل قوم".
(3)
الغبراء: الأرض؛ لغبارها وترابها، والمفازة الغبراء: هي التي لا يهتدي للخروج منها. نهاية 3/ 337 - 338.
(4)
حسروا الظهر: أتعبوا الدواب التي يمتطون ظهورها، وأعيوها. نهاية 1/ 384.
(5)
في ذم الدنيا: "فبينا".
(6)
سقطت من م.
(7)
م: "يقطر رأسه ماء" والكلمة الأخيرة ليست في شيء من الأصول.
(8)
في هامش م: الريف: أرض فيها زرع وخصْب والجمع أرياف. أهـ مختار.
(9)
في ذم الدنيا: "وما جاءهم".
قال
(1)
: فلما انتهى إليهم قال: عَلامَ أنتم
(2)
؟ قالوا: على ما ترى، قال: أرأيتكم إن هدَيتُكم إلى ماءٍ رَوَاءٍ ورياض خضر
(3)
ما تعملون؟، قالوا: لا نَعْصِيكَ شيئًا، قال
(4)
: عهودَكم ومواثيقكم بالله، قال: فأعطَوْه عهودَهُمْ ومواثيقَهُم بالله لا يَعْصُونه شيئًا، قال: فأورَدَهم ماءً ورياضًا خُضْرًا، قال: فمكثَ فيهم ما شاء الله ثم قال: يا هؤلاء! الرحيل
(5)
قالوا: إلى أينَ؟ قال: إلى ماءٍ ليسَ كمائِكُم، وإلى رِياضٍ ليست
(6)
كرياضِكُم، فقال جُلُّ القوم، وهم أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتَّى ظننا أن لَن نَجِدَهُ ومَا نصنع بعيشٍ خيرٍ من هَذا؟ قال: وقالت طائفة وهم أقلّهُمْ: ألم تُعْطُوا هذا الرجُلَ عُهُودَكُم ومَوَاثيقَكم بالله لا تَعصُونَهُ شيئًا وقد صَدَقَكُم في أول حديثه؟ فوالله ليصدقنكم في آخره؛ قال: فراح فيمن اتبعه وتخلفَ بقيتُهم فَنذِرَ
(7)
بهم عدُوٌ فأَصْبَحُوا ما بين أسيرٍ
(8)
وقتيلٍ.
خرجه ابن أبي الدنيا
(9)
.
(1)
سقطت هذه الكلمة من الأصول وهي في "ذم الدنيا".
(2)
في ذم الدنيا: فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء! قالوا: يا هذا! قال: علام أنتم؟.
(3)
في ذم الدنيا "أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رِوَى" بوزان إلى، ويقال: بوازن غَنِيّ وسماء؛ قاموس 1665.
(4)
م: "أعطوني عهودكم" والكلمة الأولى ليست في شيء من الأصول.
(5)
في ذم الدنيا: "ثم قال: يا هؤلاء! قالوا: يا هذا! قال: الرحيل".
(6)
"ا": "ليس".
(7)
"ا": "فندر" م: "فنزل" وفي القاموس 619: "نَذِرَ بالشيء علمه فحذره وأنذره بالأمر أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه".
(8)
م: "فأصبحوا بين""ا""فأصبحوا من بين" وما أثبتناه هو الموافق لما في: "ذم الدنيا".
(9)
أخرجه ابن أبي الدنيا في: "ذم الدنيا" ص 37 ح 88 من رواية إسحاق بن إسماعيل، عن روح بن عبادة، عن هشام بن حسان، عن الحسن.
وهو هكذا مرسل.
وقد أورده الغزالي في الإحياء 8/ 115 من الإتحاف، وقال الزبيدي: قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا هكذا بطوله، ولأحمد والطبراني والبزار من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان الحديث، فقال، أي أحد الملكين: إن مثل هذا ومثل أمته مثل قوم سَفْرٌ انتهوا إلى مفازة فذكر نحوه، وأخصر منه، وإسناده حسن أهـ.
وقد عقب الزبيدي بقوله: قلت: وبخط الحافظ ابن حجر إسناده صحيح.
واللفظ الذي ساقه المصنف وهو سياق حديث الحسن عند ابن أبي الدنيا.
وقد روى نحوه ابن عساكر، عن ابن المبارك، قال: بلغنا عن الحسن. قال ابن عساكر: وهذا مرسل، وفيه انقطاع بين ابن المبارك والحسن، وهو في الزهد لابن المبارك (507) فحديث ابن أبي الدنيا - إن يكن ضعيفًا، فإن له شاهدًا من الصحيح، هو حديث ابن عباس على ما حكى الزبيدي عن ابن حجر. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولم أقف على ما أشار إليه الزبيدي من تصحيح ابن حجر للحديث بخطه؛ لكني وقفت على تضعيف ابن حجر للحديث بعلي بن زيد؛ فقد أورد الحديث في الفتح 13/ 257 عن أحمد والبزار والطبراني من طريق علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس نحو حديث الحسن مختصرًا ثم قال: وهذا إن كان محفوظًا قوى الحمل على التعدد، إما للمنام، وإما لضرب المثل، ولكن عليّ بن زيد ضعيف من قبل حفظه". ومع هذا وذاك؛ فقد صحح الشيخ أحمد شاكر حديث ابن عباس الذي رواه أحمد من طريق على بن زيد هذا. واعتمد في هذا على أن عليًّا عنده ثقة.
وأشار إلى علة حكم الهيثمي على الحديث بالحسن: أن عليًّا هذا مختلف فيه.
ولئن لم ينزل عن درجة الحسن؛ فهو لا يرقى إلى درجة رجال الصحيح.
ولهذا يترجح لنا حكم الهيثمي على حكم الشيخ شاكر بشأن هذا الحديث.
فعلي بن زيد: هو ابن جدعان وكما نعته الذهبي؛ فهو الإمام العالم الكبير أبو الحسن القرشي التيمي البصري الأعمى.
أصله من مكة.
روى عن: أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وابن المنكدر، ويوسف بن مهران، وخيرة أم الحسن البصري، وغيرهم.
وروى عنه: قتادة، والسفيانان، والحمادان، وابن عون، وابن علية وغيرهم.
قال الذهبي: ولد أعمى كقتادة، وكان من أوعية العلم على تشيع قليل فيه، وسوء حفظ يغضه من درجة الإتقان.
وهذا القول من الذهبي هو مفتاح شخصية علي بن زيد؛ بل أساس الحكم العادل غير الغالي، له أو عليه. ضعفه جمهرة المحدثين كالبخاري، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والدارمي، والجوزجاني، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي، وحماد بن زيد، وغيرهم.
وترجم له العجلي وابن شاهين في الثقات، ووثقه حماد بن سلمة، ونفى ابن معين أن يكون قد اختلط. وممن توسط في الحديث عنه: الترمذي؛ حيث قال: صدوق؛ إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره، والساجي حيث قال: كان من أهل الصدق، ويحتمل لرواية الجلة عنه، وليس يجرى مجرى من أجمع على ثبته.
أما ابن حبان فقال: يهم ويخطئ فكثر ذلك منه، فاستحق الترك - فكيف - بعد هذا - يقال إنه من رجال الصحيح؟.
وقد روى مسلم له لكن مقرونًا بغيره وهو ما يتفق مع ما انتهى إليه الهيثمي بشأنه أن حديثه حسن.
وترجم له الذهبي في ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق ص 140 ت 253 وأشار إلى الاختلاف فيه فقال: صويلح الحديث، قال أحمد ويحيى: ليس بشيء، وقواه غيرهما.
وفي التذكرة 1/ 140 - 141 ذكر عن الترمذي بشأنه قوله: صدوق، ربما رفع الموقوف، ثم قال الذهبي: لم يحتج به الشيخان لكن قرنه مسلم بغيره.
وقد ذكر في السير - كما تقدم - أنه كان من أوعية العلم على تشيع قليل فيه.
ومعنى هذا - أنه لم يكن غاليًا في تشيعه.
وقد أورد السيوطي في التدريب 1/ 324 عن شيخ الإسلام ابن حجر قوله: والمعتمد أن الذي ترد روايته: من أنكر أمرًا متواترًا من الشرع معلومًا من الدِّين بالضرورة أو اعتقد عكسه، وأما من لم يكن كذلك وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه، مع ورعه وتقواه؛ فلا مانع من قبوله. =
• وخرجه الإمام أحمد من حديث على بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه مختصرًا.
فهذا المثل في غاية المطابقة لحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أمته. فإنه أتاهم والعرب؛ حينئذ
(1)
أذل الناس، وأقلّهم وأسوؤُهم عيشًا في الدنيا، وحالًا في الآخرة؛ فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة، وظهر لهم من براهين صدقه كما ظهر من صدق الذي
(2)
جاء إلى القوم الذين في المفازة، وقد نَفِدَ ماؤُهُمْ وهلك ظهرُهم؛ برؤيته في حلة مترجلًا
(3)
يقطرُ رأسُه ماء، ودلّهم على الماء والرياض المعْشِبة، فاستدلوا بهيئته وحاله
(4)
على صدق مقاله؛ فاتبعوه. وَوَعدَ من اتبعه بفتح بلاد فارس والروم، وأخذ كنوزهما، وحذرهم من الاغترار بذلك، والوقوف معه، وأمرهم بالتجزي من الدنيا بالبلاغ، وبالجد والاجتهاد في طلب الآخرة، والاستعداد لها، فوجدُوا ما وعَدَهم به كلَّه حقًّا، فلما فتحت عليهم الدنيا - كما وعدهم بها - اشتغل أكثر الناس بجمعها، واكتنازها، والمنافسة فيها، ورَضُوا بالإقامة فيها، والتمتع بشهواتها، وتركُوا الاستعدادَ للآخرة التي أمَرَهُمْ بالجد والاجتهاد في طلبها، وقَبِلَ قليلٌ من الناس وصيتَه في الاجتهاد في طلب الآخرة، والاستعداد لها.
• فهذه الطائفة القليلة نجت ولحقت نبيها صلى الله عليه وآله وسلم في الآخرة؛ حيث سلكت طريقته في الدنيا، وقبلت وصيته، وامتثلت ما أمر به.
وأما أكثرُ الناس فلم يزالوا في سكرة الدنيا، والتكاثر فيها، فشغلهم ذلك عن الآخرة، حتى فاجأهُم الموتُ بغتة على هذه الغِرَّة؛ فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير.
• وما أحسن قولَ يحيى بن معاذ
(5)
: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها، لم يفق؛ إلا في عسكر الموتى، نادمًا مع الخاسرين.
= أما الضبط فحسبنا تحوط مسلم في الرواية له مقرونًا بغيره، وأما الورع والتقوى فحسبنا شهادة من شهد له بالصدق كالترمذي والساجي.
توفي سنة 129 وقيل 131.
راجع ترجمته أيضًا في: سير أعلام النبلاء 5/ 206 - 207، والتاريخ الكبير للبخاري 3/ 2/ 275.
وتهذيب التهذيب 7/ 322 - 324 والتقريب 2/ 37 والثقات للعجلي ص 346 ت 1186، وأحوال الرجال للجوزجاني ص 114 ت 185 والجرح والتعديل 3/ 1/ 186 - 187.
(1)
م: "إذ ذاك".
(2)
م: "صدق أمر الذي".
(3)
م: "رجلًا".
(4)
م: "بهيئته وجماله وحاله".
(5)
م: "يحيى بن معاذ الرازي".
[الحال الثاني]:
• الحال الثاني: أن ينزل المؤمن نفسَه في الدنيا كأنه مسافر غيرُ مقيم ألبتة؛ وإنما هو سائر في قَطْع منازل السفر؛ حتى ينتهي به السفر إلى آخره: وهو الموت.
• ومن كانت هذه حالَه في الدنيا؛ فهمته تحصيلُ الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من
(1)
متاع الدنيا؛ ولهذا وصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب.
[مما أثر عن السلف]:
• قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: "ما ظنُّك برجل يرتحل إلى الآخرة كل يوم مرحلة؟ "
(2)
.
• قال الحسن: "إنما أنتَ أيام
(3)
كلما محضى يومٌ مضى بعضُك".
وقال: "ابنَ آدم! إنما أنتَ بين مطيتين يوضعانك: يوضعك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار؛ حتى يسلمانك إلى الآخرة - فمن أعظم منك يا ابنَ آدم خطرًا؟! ".
• وقال: "الموت معقود بنواصِيكم، والدنيا تطوى من ورائكم".
* * *
• قال داود الطائي
(4)
: "إنما الليل والنهار مراحل يَنْزلها الناس مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادًا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو والأمر أعجلُ من ذلك، فتزوّد لسفرك، واقضِ ما أنت قاصت من أمرك، فكأنك بالأمر قد بَغَتَكَ!؟ ".
* * *
• وكتب بعض السلف إلى أخ له:
يا أخي! يخيَّل لك أنكَ مقيم؟ بل أنت دائب السير تُساق مع ذلك سوقًا حثيثًا، الموت مُوجَّه إليك، والدنيا تُطوى من ورائك، وما مضى من عمرك فليس بكارّ عليك؛
(1)
م: "من طلب متاع".
(2)
الحلية 2/ 348 بنحوه.
(3)
م: "أيام مجموعة" والخبر في الحلية 2/ 152 بنحوه.
(4)
الخبر في الحلية 7/ 345 - 346 وتتمته فيها: "إني أقول هذا وما أعلم أحدًا أشد تضييعًا مني لذلك ثم قام". وكان يحدث بذلك قريبًا له، سأله أن يوصيه.
حتى يكر عليك يوم التغابن، كما قيل
(1)
:
سبيلكَ في الدنيا سَبِيلُ مسافرٍ
…
وَلا بدَّ من زادٍ لكلِّ مُسَافِرِ
ولا بدَّ للإنسانِ من حَمْل عُدّةٍ
…
وَلا سيّما إن خافَ صولة قَاهِرِ
* * *
• قال بعض الحكماء: كيف يفرح مَنْ يَومُه يهدِمُ شهرَه؟ وشهرُه يهدِم سنَته؟ وسنتُه تهدِمُ عُمُرَهُ؟ كيف يفرح من يقوده عُمُرُهُ إلى أجَلِه؟ وتقودُه حياتُه إلى موته؟.
* * *
وقال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتَتْ عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنتَ منذ ستين سنة تسير إلى ربك! يوشك أن تبلغ؟ فقال الرجل: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
(2)
فقال الفضيل: أتعرف تفسيره؟ تقول: أنا لله عبدٌ وإليه راجع
(3)
- فمن عَلِمَ أنه لله عبدٌ، وأنه إليه راجع. فليعلم أنه موقوفٌ، ومَنْ عَلم أنه موقوف؛ فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول؛ فليعدَّ للسؤال جوابًا.
فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحْسنُ فيما بقى يُغْفَرْ لك ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقى؛ أُخِذْت بما مضى وبما
(4)
بقى، وفي هذا المعنى
(5)
يقول بعضهم:
وإن امْرَأً قد سارَ ستِّينَ حجَّةً
…
إلى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِه لقريبُ
قال بعض الحكماء: "من كانت الأيامُ والليالي مطاياه سارت به وإن لم يسر".
• وفي هذا قال بعضهم:
وما هذه الأيامُ إلا مراحِلٌ
…
يحثُ بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجب شيءٍ لو تأملتَ أنها
…
منازلُ تُطوَى والمسَافِر قَاعِدٌ!؟
* * *
وقال آخر:
(1)
ليست في "ا".
(2)
سورة البقرة: 156.
(3)
م: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .
(4)
م: "وما".
(5)
ليست في "ا" ولا ب.
أيا ويحَ نفسي من نهارٍ يقودُها
…
إلى عسكر الموتى وليلٍ يذودُها
* * *
قال الحسن: لم يزل الليلُ والنهارُ سريعين في نقص الأعمار، وتقريب الآجال، هيهات؛ قد صحبا نوحًا وعادًا وثمودَ وقرونًا بين ذلك كثيرًا فأصبحوا قد
(1)
قدموا على ربهم، ووردوا
(2)
على أعمالهم، وأصبح الليل والنهار غَضَّين جديدين لم يُبْلِهِمَا ما مرَّا به مستعدين لمن بقى بمثل ما أصابه من مضى.
* * *
• وكتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد! فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يُسَارُ بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به والسلام
(3)
.
نسيرُ إلى الآجال في كُلِّ لحظةٍ
…
وأيامنا تُطْوَى وهُنَّ مَرَاحِلُ؟!
ولم أر مثلَ الموتِ حقًّا كَأنَّهُ
…
إذا ما تخطّته الأمانيّ باطلُ؟!
وما أقبَح التفريطَ في زمنِ الصِّبا
…
فكيفَ به والشَّيْبُ للرأس شامِلُ؟!
ترحَّلْ مِنَ الدنيا بزادٍ من التقى
…
فعُمْرُك أيامٌ وهنَّ قلائلُ!
* * *
[وصية ابن عمر]:
• وأما وصية ابن عمر رضي الله عنه فهي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه، وهي متضمنة لنهاية قِصَرِ الأمل، وأن الإنسانَ إذا أمسى لم ينتظر الصباح، وإذا أصبحَ لم ينتظرِ المساء؛ بل يظن أن أجلَه يدركُهُ قبل ذلك؛ وبهذا فسر غير واحد من العلماء الزهدَ في الدنيا.
[الزهد في أقوال السلف]:
• قال المروزي: قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد - أي شيء الزهد في الدنيا؟
(1)
ليست في "ا".
(2)
ب: "وردوا".
(3)
م: "شاغل" وأورده أبو نعيم في الحلية 6/ 140.
قال: قصر الأمل من إذا أصبح يقول: لا أمسي قال: وهكذا قال سفيان.
• قيل لأبي عبد الله
(1)
: بأي شيء نستعين على قصر الأمل؟ قال: ما ندري؛ إنما هو توفيق.
* * *
• قال الحسن: اجتمع ثلاثة من العلماء فقالوا لأحدهم: ما أَمَلُكَ؟ قال: ما أتى عليّ شهرٌ؛ إلا ظننتُ أني سأموتُ فيه، قال: فقال صاحباه: إن هذا هو
(2)
الأمل، فقال لأحدهم:
(3)
فما أملك؟ قال: ما أتت علي جمعة؛ إلا طننت أني سأموت فيها، قال: فقال صاحباه: إن هذا هو الأمل، فقالا للآخر: فَمَا أملك؟ قال: ما أمَلُ مَنْ نَفْسُهُ في يدِ غيره؟!.
* * *
• قال داود الطائي: سألتُ عطوان بن عمرو التميمي قلت: ما قِصَرُ الأملِ؟ قال: ما بين تَردُّدُ النفس، فحدّث بذلك الفضيلَ بنَ عياض؛ فبكى، وقال: يقول: يتنفس، فيخافُ أن يموتَ قبل أن ينقطع نفَسه:
لقد كان "عطوان" من الموت على حذر
(4)
.
• وقال بعض السلف: ما نمتُ نومًا قط فحدثت نفسي أني أستيقظ منه.
وكان حبيبٌ أبو محمد يوصى كل يوم بما يوصى به المحتضِر عند موته مِن تغسيله ونحوه.
وكان يبكي كلما أصبح أو أمسى، فسئلت امرأتُه عن بكائه فقالت: يخاف والله إذا أمسى أن لا يُصْبِحَ، وإذا أصبح أن لا يمسى.
* * *
• وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودِعُكُمْ الله؛ فلعلها أن
(1)
"ا": "عبيد الله".
(2)
ليست في "ا"، ولا في ب والخبر عند ابن المبارك في الزهد باختلاف يسير ص 85 - 86 ح 253 عن مبارك بن فضالة، عن الحسن.
(3)
م: "له".
(4)
أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 127) وفيه:
…
ما بين تردد النفس قال رستم: فحدثت بذلك الفضيل. . .".
تكون منيتي التي لا أقوم منها؛ فكان هذا دأبَه إذا أراد النوم.
* * *
• وقال بكر المزني: إن استطاع أَحَدُكم أن لا يبيتَ؛ إلا وعهدُه عند رأسه مكتوبٌ فليفعل؛ فإنه لا يدري لعله أن يبيتَ في أهل الدنيا، ويصبحَ في أهل الآخرة.
* * *
• وكان أويسٌ
(1)
إذا قيل له: كيف الزمان؟ قال: كيف الزمانُ على رَجُل إن أمسى ظن أنه لا يُصْبِح، وإن أَصْبَحَ ظن أنه لا يُمسي، فَمُبَشَّرٌ بالجنة أو النار؟.
• وقال عون بن عبد الله: ما أنزل الموتَ كنه منزلته مَنْ عَدَّ غدًا من أجله؟!.
كَمْ من مستقبل يومًا لا يستكمله! وكم من مؤمِّلٍ لغدٍ لا يدْرِكه! إنكم لو رأيتم الأجل ومسيرَه؛ لأبغضتم الأملَ وغروره.
وكان يقول: إن مِنْ أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنه لا يدرك آخره.
* * *
• وكانت امرأة متعبدة بمكة إذا أمست قالت: يا نفسُ! الليلة ليلتك لا ليلة لك غيرها، فاجتهدت، فإذا أصبَحَت قالت: يا نفسُ! اليوم يومكِ لا يوم لكِ غيره، فاجتهدت.
* * *
• وقال بكر المزني: إذا أردتَ أن تنفعَك صلاتُكَ فقل: لَعَلِّي لا أصلي غيرَها وهذا مأخوذ مما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "صلّ صلاة
(2)
مودّع".
(1)
رواه أبو نعيم - تامًا - في الحلية 2/ 83.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 412 (الحلبي) وابن ماجه في السنن: 37 - كتاب الزهد: 15 - باب الحكمة 2/ 1396 ح 4171.
كلاهما من رواية عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عثمان بن جبير، عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عظني وأوجز؛ فقال: إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدًا، وأجمع الإياس [اعزم واعتقد] مما في أيدي الناس.
وقد علق البوصيري على الحديث في الزوائد 2/ 332 فقال: هذا إسناد ضعيف؛ عثمان بن جبير قال الذهبي في الطبقات: مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري وأبو حاتم: روى عن أبيه، عن جده، عن أبي أيوب [و] رواه أحمد بن منيع في مسنده، ثنا علي بن عاصم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، =
• وأقام معروف الكرخي الصلاة ثم قال لرجل: تقدَّم فَصَلِّ بنا؟ فقال الرجل: إني إن صليتُ بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرَها؟ فقال معروف: وأنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى، نعوذ بالله من طول الأمل، فإنه يمنع خير العمل
(1)
.
* * *
• وطرق بعضهم باب أخ له فسأل عنه فقيل له: ليس هو في البيت، فقال: متى يرجع؟ فقالت له جارية من البيت: مَنْ كانت نفسه في يد غيره مَنْ يَعلم متى يرجع؟
• ولأبي العتاهية:
وما أدري وإن أملت عمرًا
…
لعلي حين أصبح لست أمسي
ألم تر أن كل صباح يوم
…
وعمرك فيه
(2)
أقصر منه أمس
وهذا البيت الثاني أخذه مما روى عن أبي الدرداء والحسن أنهما قالا: ابنَ آدم! إنك لما تزل في هَدْمِ عُمُرِك منذ سقطت من بَطْنِ أُمّكَ.
* * *
• ومما أنشده بعض السلف:
إنا لنفرحُ بالأيام نقطعها
…
وكلُّ يَومٍ مضَى يُدْنِي مِنَ الأجَل
= ثنا عثمان بن جبير، عن أبيه أو جده، شك عثمان، عن أبي أيوب فذكره بتمامه ورواه أبو الشيخ في الأمثال ص 266 ح 226 والبيهقي في الزهد الكبير ص 87 - 88 ح 102.
وقد قال أبو نعيم: غريب من حديث أبي أيوب، لم يروه إلا عبد الله بن عثمان بن خثيم.
ورواه أبو نعيم في الحلية 1/ 362 من رواية ابن جبير. وقد قال أبو نعيم: غريب من حديث أبي أيوب، لم يروه إلا عبد الله بن عثمان بن خثيم.
وروى ابن عمر نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن رواية عثمان بن جبير أيضًا رواه الطبراني في الكبير 4/ 154 - 155 من وجهين ح 3987، 3988 بيد أن لهذا الحديث شاهدًا من رواية سعد بن أبي وقاص أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 326 - 327 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي هكذا في المطبوع لكن قال المناوي: وتعقبه الذهبي بأن فيه محمد بن سعد المذكور وهو مضعف، ثم أشار إلى تضعيف السخاوي له أيضًا بمحمد بن أبي حميد، والحديث عند البيهقي في الزهد ح 101 وانظر فيض القدير 4/ 329 والمقاصد الحسنة ص 225 فقد أشار إلى شواهده.
وقد أورده الشيخ ناصر الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1 - 4 وأشار إلى تصحيح الحاكم والذهبي، وإلى شاهد آخر له من حديث ابن عمر أخرجه الضياء في المختارة.
(1)
الخبر أورده أبو نعيم في الحلية 8/ 361.
(2)
سقطت من "ا".
فاعْمَلْ لنفسك قبلَ الموت مجْتهِدًا
…
فإنما الربحُ والخسرَان في العمَلِ
* * *
[وخذ من صحتك]:
• وقوله "وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك" يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السُّقْم، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت.
وفي رواية: فإنك يا عبد الله! لا تدري ما اسمك غدًا؟
يعني لعلك غدًا من الأموات دون الأحياء.
• وقد روى معنى هذه الوصية عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، ففي صحيح البخاري عن، ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ"
(1)
.
[اغتنم خمسًا]:
• وفي صحيح الحاكم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال - لرجل وهو يعظه -: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هَرَمِكَ، وصحتَك قَبْل سُقْمِك، وغناك قبل فقرك، وفراغَكَ قبل شُغْلِك، وحياتَك قبل مَوْتِكِ
(2)
".
• وقال غنيم بن قيس: "كنا نتواعَظُ في أول الإسلام: ابن آدم! اعمل في فَراغك قبل شُغْلِك، وفي شبابك لكبرك، وفي صحتك لمرضك، وفي دنياك لآخرتك، وفي حياتك لموتك
(3)
".
* * *
[بادروا ستًّا]:
• وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(1)
أخرجه البخاري في: 81 - كتاب الرقاق: 1 - باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش؛ إلا عيش الآخرة 11/ 229 ح 6412 بهذا اللفظ.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك أوائل كتاب الرقاق 4/ 306 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
(3)
أورده أبو نعيم في الحلية 6/ 200.
"بادروا بالأعمال ستًّا؛ طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصَّةَ أحدكم، أو أمرَ العامة"
(1)
.
* * *
[سبعًا]:
• وفي الترمذي، عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "بادروا بالأعمال سبعًا؛ هل تنظرون
(2)
إلا إلى فقرٍ منس، أو غنىً مُطِغٍ، أو مرضٍ مُفْسِدٍ، أو هَرَمٍ مُفْنِدٍ
(3)
أو موت مُجْهِزٍ، أو الدجال فشرُّ غائبٍ منتظر، أو الساعةِ؛ فالساعةُ أدْهَى وأمرّ؟ "
(4)
.
والمراد من هذا: أن هذه الأشياء كلّها تعوِّق عن الأعمال، فبعضُها يشغل عنه إما في خاصّة الإنسان كفقرِه، وغناه ومرضِهِ، وهَرَمِه وموته.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه: 52 كتاب الفتن: 25 - باب في بقية من أحاديث الدجال 4/ 2267 ح 128 - (2947) وفي "ا": "ستة".
(2)
في م: "تنتظرون" وما أثبتناه عن الأصول هو الموافق لما في الترمذي (الهندية) وفي المصرية: هل تنتظرون إلا فقرًا .. إلخ، وهو مخالف لما في الهندية.
(3)
قال ابن الأثير: الفَنَد في الأصل: الكذب، وأفند: تكلم بالفند، ثم قالوا للشيخ إذا هرم: قد أفند؛ لأنه يتكلم بالمحرف من الكلام عن سنن الصحة، وأفنده الكبر إذا أوقعه في الفند.
والمفَنَّد هو: الذي لا فائدة في كلامه لكبر أصابه.
والهرم المفند يمكن إذًا أن يكون مأخذه عن الإفناد أو من التفنيد فيضبط بالوجهين.
راجع النهاية 3/ 474 - 475 وقد ضبط في أ بتشديد النون مع فتحها وكسرها.
(4)
أخرجه الترمذي في: 37 - كتاب الزهد: 3 - باب ما جاء في المبادرة بالعمل 4/ 552 ح 2306.
وفي الأصول والمطبوعة: والساعة أو هي، وما أثبتناه؛ فهو عند الترمذي في النسختين وانظر الهندية 3/ 257 وقد عقب الترمذي بقوله:
هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث الأعوج عن أبي هريرة؛ إلا من حديث محرز بن هارون.
وقد روى بشر بن عمر وغيره عن محرز بن هارون هذا.
وقد روى معمر هذا الحديث، عمن سمع سعيدًا المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال:"تنتظرون".
أقول: وهذا مما يؤكد أنها في الرواية: "تنظرون".
وأن ما ذكره في المطبوعة والمصرية "تنتظرون" تحريف.
بقى أن نقول: إن قوله: "وقال: تنتظرون" ليس في الهندية، ولم يشر إليه في التحفة. وأما محرز بن هارون فقد ضبطه المباركفوري بضم الميم، سكون الحاء المهملة، وكسر الراء، وبالزاي، وذكر عن الخلاصة ما ضبطه به عبد الغني، وابن أبي حاتم، وأن البخاري ضبطه بمهملتين براءين وزن محمد على الصحيح، وأن ابن حجر في التقريب والتهذيب ذكر عن البخاري والنسائي أنه منكر الحديث ثم قال: متروك من السابعة. ولعل تحسين الترمذي لحديثه مؤسس على أمرين:
الأول: ما ثبت من أن الثقات كبشر بن عمر وغيره قد رووا عن محرز بن هارون الذي يعل الحديث به.
والثاني: أن للحديث شاهدًا من حديث أبي هريرة، رواه معمر، عَمَّن سمع سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
[وفتنًا كقطع الليل]:
وبعضها عام كقيام الساعة، وخروج الدجّال، وكذلك الفتن المزعجة كما جاء في حديحث آخر:"بادروا بالأعمال فتنًا كَقِطع الليل المظْلِم"
(1)
.
* * *
[ما لا ينفع بعده عمل]:
وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل كما قال تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}
(2)
.
وفي الصحيحين
(3)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"لا تقوم الساعةُ حتى تطلع الشمسُ من مَغْرِبها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنُوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنتْ مِن قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خيرًا".
(1)
كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: 1 - كتاب الإيمان: 51 - باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن 1/ 110 ح 186 - (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسى مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا".
ومن حديث أبي هريرة أخرجه أحمد في المسند 2/ 303 - 304، 523 (الحلبي) وفي آخره في الموضعين:"بعرض من الدنيا قليل".
والترمذي في السنن: 34 - كتاب الفتن: 30 - باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم 4/ 487 ح 2195 بنحو ما عند مسلم وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
سورة الأنعام: 158.
(3)
أخرجه البخاري في: 65 - كتاب التفسير: 9 - باب (قل هلم شهداءكم 8/ 296 - 297 ح 4635). و: 10 - باب لا ينفع نفسًا إيمانها 8/ 297 ح 4636.
وفي: 81 - كتاب الرقاق: 40 - باب حدثنا أبو اليمان 11/ 352 - 6506.
وفي الموضع الأول رواه مختصرًا إلى قوله: "إيمانها" وفي الموضع الثاني زاد قوله: ثم قرأ الآية، وفي الثالث روى الحديث تامًا عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا، ولَتَقُومَنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه؛ فلا يسقى فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها".
ورواه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 72 - باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان 1/ 137 ح 248 - (157) من حديث أبي هريرة بنحو شطره الأول إلى آخر الآية.
وأشار إلى روايته من وجوه أخرى عديدة.
وفي صحيح مسلم عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
• "ثلاث إذا خرجْنَ لم ينفعْ نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبتْ في إيمانِهَا خيرًا: طلوعُ الشمس من مغربها، والدَّجالُ، ودابةُ الأرض"
(1)
.
• وفيه أيضًا عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
• "من تابَ قبلَ أن تطلُعَ الشمسُ من مغربها؛ تابَ الله عليه"
(2)
.
• وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إن الله عز وجل يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها"
(3)
.
* * *
وخرج الإمام أحمد
(4)
والنسائي
(5)
والترمذي
(6)
وابن ماجه
(7)
من حديث صفوان بن عسال، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله فتح بابًا قِبَلَ المغرب
(1)
أخرجه مسلم بهذا النص عقب الحديث السابق، من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 12 - باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه 4/ 2076 ح 43 - (2703) من رواية هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، بالنص المذكور.
(3)
أخرجه مسلم في: 49 - كتاب التوبة: باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة 4/ 2113 ح 31 - (2759) من حديث أبي موسى بالنص المذكور.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 240 (الحلبي) رواية عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرته سبعون سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه".
وأخرجه عقبه من وجهين آخرين ولفظ الأول: إن من قبل الغرب لبابًا مسيرة عرضه سبعون أو أربعون عامًا فتحه الله عز وجل للتوبة يوم خلق السماوات والأرض ولا يغلقه حتى تطلع الشمس منه. ولفظ الثاني: إن الله عز وجل جعل بالمغرب بابًا مسيرة عرضه سبعون عامًا للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله عز وجل:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} .
(5)
في التفسير في الكبرى كما في التحفة 4/ 192.
(6)
في السنن: 49 - كتاب الدعوات: 99 - باب فضل التوبة وما ذكر من رحمة الله بعباده 5/ 545 ح 3535 بسياقه مطولًا من رواية ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، ومن رواية أحمد بن عبدة الضبي كلاهما، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن صفوان.
وفي آخر كل منهما حديث التوبة بنحو ما تقدم.
وقد عقب على كل منهما: أنه حديث حسن صحيح.
(7)
أخرجه ابن ماجه في السنن: 36 - كتاب الفتن: 32 - باب طلوع الشمس من مغربها 2/ 1353 ح 4070 بنحو ما عند أحمد في الموضعين الأخيرين.
عرضه سبعون عامًا للتوبة، ثم لا يغلق حتى تطلع الشمس منه".
• وفي المسند
(1)
عن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو ومُعاوية، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا تزالُ التوبةُ مقبولةً حتى تَطْلُعَ الشمسُ من المغربِ فإذا طلعت طُبِعَ على كل قلب بما فيه، وكُفِي الناسُ العمل".
• ورُوي عن عائشة قالت: "إذا خرج أول الآيات طُرِحت الأقلام، وحُبِست الحفَظة، وشهدت الأجساد على الأعمال".
• خرجه ابن جرير الطبري
(2)
.
وكذا قال كثير بن مرة ويزيد بن شريح وغيرهما من السلف: "إذا طلعت الشمس من مغربها طبع على القلوب بما فيها، وترفع الحفظة الأعمال، وتؤمر الملائكة أن لا يكتبوا عملًا".
• وقال سفيان الثوري: "إذا طلعت الشمس من مغربها طوَت الملائكة صحائفَها، ووضعت أقلامَها".
* * *
[وجوب المبادرة بالأعمال الصالحة]:
• فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدَر عليها، ويحالَ بينه وبينها؛ إما بمرض أو موت أو بأن يدركه بعضُ هذه الآيات التي لا يُقْبلُ معها عملٌ.
قال أبو حازم: "إنّ بضاعة الآخرة كاسدة يوشك أن تنفَق، فلا يوصَل منها إلى قليل ولا كثير".
* * *
(1)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 133 - 134 (المعارف) من رواية الحكم بن نافع، عن إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، يرده إلى مالك بن يُخامِر، عن ابن السعدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل، فقال معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى: أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة
…
الحديث".
وذكر محققه الشيخ أحمد شاكر أن إسناده صحيح وأورد رواية الهيثمي للحديث في مجمع الزوائد 5/ 250 - 251 عن أحمد والطبراني في الأوسط والصغير من غير ذكر حديث ابن السعدي، ثم ذكر أن رجال أحمد ثقات.
(2)
في التفسير 12/ 265 ح 14246 بإسناد صحيح كما ذكر محققه.
ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له؛ إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكَّن فيها من العمل؛ فلا تنفعه الأمنية.
(1)
(2)
(3)
.
• وفي الترمذي، عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من ميت يموتُ إلا ندم قالوا: وما نَدَامَتُه؟ يا رسول الله!
(4)
قال: إنْ كان مُحسِنًا ندمَ
(5)
أن لا يكونَ ازدادَ، وإن كان مسيئًا ندم
(6)
أن لا يكون استعتب"
(7)
.
فإذا كان الأمر على هذا فيتعين على المؤمن اغتنام ما بقى من عمره.
ولهذا قيل: إن بقية عمر المؤمن لا قيمة له.
• وقال سعيد بن جبير: "كُلُّ يومٍ يعيشُه المؤمنُ غَنيمَةٌ".
• وقال بكر المزني: مَا مِنْ يومٍ أخرجَهُ الله إلى الدنيا؛ إلا يقول: يا ابنَ آدم! اغتنمني
(1)
سورة الزمر: 54 - 58.
(2)
سورة المؤمنون: 99 - 100.
(3)
سورة المنافقون 10 - 11. وانظر الحجة في القراءات ص 710 فقد قرئ قوله تعالى: (وأكون) بالجزم أيضًا.
(4)
من الترمذي.
(5)
ليست في "ا".
(6)
ليست في "ا".
(7)
أخرجه الترمذي في السنن: 37 - كتاب الزهد: 58 - باب حدثنا محمد بن حميد الرازي 4/ 604 ح 6403 من رواية سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن يحيى بن عبيد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول:، فذكره وفي آخره: ندم أن لا يكون نزع.
قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه، ويحيى بن عبيد الله قد تكلم فيه شعبة، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب، مدني.
وهذا - إذًا - إشارة إلى ضعف إسناد الحديث.
وقد أورده الشيخ ناصر الألباني في ضعيف الجامع الصغير 5/ 109.
لعله لا يومَ بَعْدِي، ولا ليلة؛ إلا تُنادي: ابنَ آدم! اغتنمني لعله لا ليلةَ لكَ بعْدِي.
ولبعضهم
(1)
:
اغتنم في الفراغ فضلَ ركوعٍ
…
فعسى أن يكونَ موتُكَ بغتهْ
كم صحيح رأيت من غَيْرِ سُقْمٍ
…
ذَهَبَتْ نفسُه الصحيحة فَلْتَهْ؟!
ولمحمود الوراق.
مضى أمسُك الماضي شهيدًا معدَّلًا
…
وأَعقبه يومٌ عليكَ جديدُ
فإن كنتَ بالأمس اقترفتَ إساءةً
…
فثنِّ بِإحْسَانٍ وأنتَ حَمِيدُ
فيومُك إنْ أَعتَبتَهُ عادَ نفعُه
…
عليكَ وماضي الأمس لَيْسَ يعودُ
ولا تُرْجِ فِعْلَ الخيرِ يَوْمًا إلى غَدٍ
…
لَعَلّ غَدًا يأتِي وَأنْتَ فَقِيدُ
* * *
(1)
هو أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح، قال السبكي في طبقات الشافعية 2/ 235: قال الحاكم أبو عبد الله ومن شعر البخاري، قرأت بخط أبي عمر والمستملي، وأنشد البخاري: وساق البيتين.
الحديث الحادي والأربعون
عَنْ أَبِي مُحمَّدٍ: عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"لا يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ".
قال الشيخ رحمه الله حديث حَسَنٌ صَحِيحٌ رُوِّيْنَاهُ في كِتَابِ الحُجَّةِ بإسْنَادٍ صَحِيحٍ.
* * *
[تخريج الحديث]:
• يريد بصاحب كتاب الحجة: الشيخ أبا الفتح: نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد، نزيل دمشق. وكتابه هذا هو كتابُ "الحجة على تارك المحجة" يتضمن ذِكْر أصول الدين، على قواعد أهل الحديث والسنة.
• وقد خرّج هذا الحديثَ الحافظُ أبو نُعيم في كتاب "الأربعين" وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار، وجياد الآثار، مما أجمع الناقلونَ على عدالة ناقليه، وخرَّجته الأئمة في مسانيدهم، ثم خرجه عن الطبراني:
• حدثنا أبو زيد: عبد الرحمن بن حاتم المرادي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عُقْبةَ بنِ أوس، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به، لا يزيغ عنه
(1)
".
• ورواه الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم الأصبهاني، عن ابن واره، عن نعيم بن حماد، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا بعض مشيختنا: هشام أو غيره، عن ابن سيرين فذكره وليس عنده:"لا يزيغ عنه".
• قال الحافظ أبو موسى المديني: هذا الحديث مختلَف فيه على نُعيم، وقيل فيه:
(1)
أورده ابن أبي عاصم في السنة 1/ 12 ح 15 من طريق نعيم بن حماد - به - وضعفه الشيخ ناصر محققه بنعيم وانظر تخريجه بهامشه. لكن أورده الحافظ ابن حجر في الفتح 13/ 289 من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح وقال: "أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات، وصححه النووي في آخر الأربعين" وهو يعني هذا الموطن.
وستأتي الإشارة إلى هذا.
حدثنا بعض مشيختنا، حدثنا هشام أو غيره.
• قلت: تصحيح هذا الحديث بعيدٌ جدًّا من وجوه، منها:
أنه حديث يتفرد به نعيم بن حماد المروزي، ونعيم هذا - وإن كان وثقه جماعة من الأئمة وخرّج له البخاري، فإن أئمةَ الحديث كانوا يحسنون به الظن؛ لصلابته في السنة، وتشدّده في الرد على أهل الأهواء، وكانوا يَنْسُبونه إلى أنه يهم، ويُشَبَّه عليه في بعض الأحاديث، فلما كثر عثُورهم على مناكيره، حكموا عليه بالضعف. فروى صالح بن محمد الحافظ، عن ابن معين؛ أنه سُئِل عنه فقال: ليس بشيء، ولكنه صاحب سنة.
قال صالح: وكان يحدِّث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يتابَع عليها.
وقال أبو داود: عند نُعيم نحوُ عشرين حديثًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس لها أصل.
وقال النسائي: ضعيفٌ، وقال مرة: ليس بثقة، وقال مرة: قد كثر تفرّده عن الأئمة المعروفين في أحاديث كثيرة؛ فصار في حَدِّ مَنْ لا يُحْتَجُّ به.
وقال أبو زرعة الدمشقي: يصل أحاديث يوقفها الناس.
يعني أنه يرفع الموقوفات.
وقال أبو عروبة الحرّاني: هو مظلم الأمر.
• وقال أبو سعيد بن يونس: روى أحاديث مناكير عن الثقات.
ونسبه آخرون إلى أنه كان يضعُ الحديث
(1)
وأين كان أصحابُ عبد الوهاب
(1)
روى ابن عدي في الكامل 7/ 16 أنه كان يضع الحديث في تقوية السنة.
وليس هذا مبررًا للوضع، لكن كانت هذه هي دائرة وضعه للحديث.
ثم أخذت عليه أحاديث ذكرها ابن عدي في ترجمته في الموضع السابق ليس هذا الحديث منها، ثم عقب عليها بقوله: ولنعيم بن حماد غير ما ذكرت، وقد أثنى عليه قوم، وضعفه قوم. وكان ممن يتصلب في السُّنة، ومات في محنة القرآن في الحبس، وعامةُ ما أنكر عليه هو هذا الذي ذكرته، وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيمًا.
ولعله لهذا روى عنه البخاري مقرونًا بغيره، وروى له الباقون سوى النسائي بواسطة الحسن بن علي الحلواني، ويحيى بن معين، وأبو زرعة الدمشقي وغيرهم.
وقد وثقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ ووهم. =
الثقفي، وأصحاب هشام بن حسان، وأصحاب ابن سيرين عن هذا الحديث حتى يتفرد
(1)
به نعيم؟!
• ومنها أنه قد اختلف على نُعيم في إسناده:
• فروى عنه، عن الثقفي، عن هشام.
• وروى عنه عن الثقفي: حدثنا بعض مشيختنا: هشام أو غيره.
وعلى هذه الرواية فيكون الشيخ الثقفي غيرَ معروف عَيْنُه
(2)
.
• وروى عنه عن الثقفي: حدثنا بعض مشيختنا، حدثنا هشام أو غيره.
وعلى هذه الرواية، فالثقفي رواه عن شيخ مجهول، وشيخه رواه عن غير معين، فتزداد الجهالة في إسناده.
• ومنها أن في إسناده عقبة بن أوس السَّدوسِي البصري.
ويقال: فيه يعقوب بن أوس أيضًا.
• وقد خرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، حديثًا عن عبد الله بن عمرو.
= وقد أورد ابن حجر أقوال الموثقين له، والمجرحين فيه، ثم قال: وأما نعيم، فقد ثبتت عدالته وصدقه، ولكن في حديثه أوهام معروفة، وقد قال فيه الدارقطني:
إمام في السنة، كثير الوهم.
وقال أبو أحمد الحاكم: ربما يخالف في بعض حديثه.
وقد مضى أن ابن عدي يتتبع ما وهم فيه.
فهذا فصل القول فيه.
وقد عثرت على نص صريح من ابن حجر بشأن درجة الحديث أورده في فتح الباري 13/ 289 قال رحمه الله: "وأخرج البيهقي في المدخل، وابن عبد البر في بيان العلم عن جماعة من التابعين كالحسن، وابن سيرين، وشريح، والشعبي، والنخعي، بأسانيد جياد ذم القول بالرأي المجرد.
ويجمع ذلك كله حديث أبي هريرة: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به".
أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين".
وكانت وفاة نعيم عام 229.
وانظر ترجمة نعيم في الثقات للعجلي ص 451 ت 1695، والجرح والتعديل 4/ 1/ 463 - 464، والكامل لابن عدي 7/ 16 - 19، وتهذيب التهذيب 10/ 458 - 463 والتقريب 2/ 305، والتاريخ الكبير 4/ 2 / 100، وتاريخ بغداد 13/ 306 - 314، وسير أعلام النبلاء 10/ 595 - 216، والكاشف 3/ 207، وذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق للذهبي أيضًا ص 184 - 185، وتذكرة الحفاظ 2/ 418.
(1)
م: "ينفرد".
(2)
م: "يكون الشيخ الثقفي غير معروف عنه" وفيها تحريف واضح.
ويقال: عبد الله بن عُمَر.
وقد اضطرَب في إسناده، وقد وثَّقه العجلي، وابنُ سعد وابنُ حبان.
• وقال ابن خزيمة: روى عنه ابنُ سيرين مع جلالته.
وقال ابن عبد البر: هو مجهول.
وقال الغلابي في تاريخه: يزعمون أنه لم يسمع من عبد الله بن عمرو، وإنما يقول: قال عبد الله بن عَمرو فعلى هذا تكون رواياته عن عبد الله بن عمرو منقطعة، والله أعلم.
* * *
[معنى الحديث]:
وأما معنى الحديث فهو أن الإنسان لا يكونا مؤمنًا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر
(1)
والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكْرَهُ ما نَهَى عنه.
• وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع.
(2)
.
(3)
.
وذم سبحانه من كره ما أحبه الله، وأحبَّ ما كَرهَهُ الله؛ قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
(4)
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
(5)
فالواجب على كل مؤمن أن يحبَّ ما أحبه الله محبةً توجِبُ له الإتيانَ بما وَجَب عليه منه؛ فإن زادت المحبةُ حتى أتى بما نُدب إليه منه كان ذلك فضلًا، وأن يكره ما كرهه الله تعالى كراهةً توجبُ له الكفَّ عما حَرَّم عليه منه.
(1)
في م: "وأما معنى الحديث من الأوامر" وفيها سقط زهاء سطرين.
(2)
سورة النساء: 65.
(3)
سورة الأحزاب: 36.
(4)
سورة محمد: 9.
(5)
سورة محمد: 28.
فإن زادت الكراهة حتى أوجبت
(1)
الكف عما كرهه تنزيهًا كان ذلك فضلًا.
* * *
• وقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا يؤمنُ أحَدُكُم حتى أكونَ أحبَّ إليه مِن نفْسِه وَوَلَدِهِ وأهلِهِ والناس أجمعين"
(2)
.
فلا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يقدمَ محبةَ الرسول على محبة جميع الخلق، ومحبةُ الرسول تابعةٌ لمحبّة مرسله عز وجل.
والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعةَ والموافقة في حُبِّ المحبوبات، وبُغْضِ المكروهات؛ قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}
(3)
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}
(4)
.
قال الحسن: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إِنا نحب ربَّنا حبًّا شديدًا؛ فأَحب الله أن يجعل لحبه عَلَمًا، فأنزل الله هذه الآية
(5)
.
• وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ثلاثٌ منْ كُنَّ فيهِ وجد حلاوَة الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحب إليه مما سِوَاهُمَا، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبّهُ إلا لله وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن
(6)
أنقذه الله منه كما يكرهُ أن يُلْقَى في
(1)
"ا": "أوجب".
(2)
أخرجه البخاري في: 2 - كتاب الإيمان: 8 - باب حب الرسول من الإيمان 1/ 58 ح 15.
ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 16 - باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة 1/ 67 ح 69 - (44)، 70 - (. . .). كلاهما من حديث أنس رضي الله عنه.
ولفظ البخاري: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
وعند مسلم:
…
من ولده ووالده. . .".
وعنده كذلك: .. من أهله وماله .. ".
وليس في أي منهما: "من نفسه" فلْيتأمَّل.
(3)
سورة التوبة: 24.
(4)
سورة آل عمران: 31.
(5)
وعند ابن كثير 1/ 358: وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية.
(6)
"ا": "بعد إذ أنقذه". وكلاهما في الصحيحين.
النَّار"
(1)
.
[حب الله ورسوله وماذا يقتضيه؟]:
فمن أحب الله ورسولَه محبةً صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحبَّ بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكرَهَ ما يكرهه الله ورسولُه، ويَرْضَى بما يرضى به الله ورسولُه، ويسخطَ ما يَسْخَطُه الله ورسوله، وأن يعملَ بجوارحه بمقتضى هذا الحبِّ والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك بأن ارتكبَ بعضَ ما يكرهه الله ورسوله، أو تركَ بعضَ ما يحبّه الله ورسولُه، مع وجوبه والقدرة عليه، دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوبَ من ذلك ويرجعَ إلى تكميل المحبة الواجبة.
* * *
(1)
أخرجه البخاري في: 2 - كتاب الإيمان: 9 - باب حلاوة الإيمان 1/ 60، وباب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان 1/ 72 ح 16، 21 وفي: 78 - كتاب الأدب: 42 - باب الحب في الله 10/ 463 ح 6041 وفي: 89 - كتاب الإكراه: 1 - باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر 12/ 315 ح 6941.
ولفظ الموضع الأول:
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
وفي الموضع الثاني:
…
من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار".
وفي الموضع الثالث: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وفي الرابع: بمثل الموضع الأول إلا أنه رواه في الأول عن محمد بن المثنى، وفي الرابع عن محمد بن عبد الله بن حوشب؛ كلاهما عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس.
ورواه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 15 - باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان 1/ 66 ح 67 - (43)، 68 - (. . .) من وجوه عن أنس.
ولفظ الأول:
"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
ولفظ الثاني:
"ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان: من كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان أن يبقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه".
ولفظ الثالث:
بنحوه غير أنه قال في آخره: "من أن يرجع يهوديًّا أو نصرانيًّا".
وكلها في الصحيحين من حديث أنس.
قال أبو يعقوب النهرجوري
(1)
: "كُلُّ مَن ادّعى محبةَ الله تعالى، ولم يوافق الله في أمره؛ فدعواه باطل، وكل محب ليس يخاف الله؛ فهو مغرور".
وقال يحيى بنُ معاذ: "ليس بصادقٍ من ادَّعى محبةَ الله عز وجل، ولم يحفظ حدوده".
* * *
• وسئل رُوَيْمٌ عن المحبة فقال: الموافقة في جميع الأحوال، وأنشد:
ولو قلتَ لي متْ متُّ سمعًا وطاعةً
…
وقلتُ لداعي الموتِ أهلًا ومرحبًا!!
ولبعض المتقدمين
(2)
.
تعصي الإله وأنتَ تزعمُ حبَّهُ
…
هذا لعمري في القياس شنيعُ؟!
لو كان حبُّكَ صادقًا لأطعتَهُ
…
إنَّ المحِبَّ لمن يُحِبُّ مطيعُ؟!
* * *
[منشأ المعاصي]:
فجميع المعاصي، إنما
(3)
تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضعَ من كتابه فقال تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}
(4)
.
وكذلك البدع: إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع. ولهذا يسمى أهلُها أهلَ الأهواء.
• وكذلك المعاصي: إنما تقعُ من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله ومحبة
(5)
ما يحبه.
* * *
[واجب المؤمن في المحبة]:
• وكذلك حب الأشخاص: الواجبُ فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم.
(1)
ترجم له أبو نعيم في الحلية 10/ 356 لكن لم يورد فيها هذا الأثر.
(2)
م: "ولبعضهم".
(3)
ليست في "ا".
(4)
سورة القصص: 50.
(5)
"ا": "محبة الله ومحبة ما يحبه".
فيجب على المؤمن محبة الله، ومحبةُ مَنْ يحبُّه الله من الملائكة، والرسل، والأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين عمومًا.
ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان؛ أن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وتحرم موالاة أعداء الله، ومن يكْرهه الله عمومًا.
وقد سبق ذكر ذلك في موضع آخر.
وبهذا يكون الدين كله لله.
ومن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان.
[حين تكون العلاقات على أساس الهوى]:
• ومن كان حبُّه وبغضُه وعطاؤهُ ومنعُه لهوى نفسه؛ كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب، فتجب
(1)
عليه التوبة من ذلك، والرجوعُ إلى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من تقديم محبة الله ورسوله، وما فيه رضا الله ورسولِه، على هوى النفس ومراداتها كلها.
• قال وهيب بن الورد: "بلغنا - والله أعلم - أن موسى عليه السلام قال: يا ربّ! أوصني، قال: أوصيك بي، قالها ثلاثًا، حتى قال في الآخرة: أوصيك بي أن لا يَعْرِضَ لك أمرٌ إلا آثرتَ فيه محبتي على ما سواها.
فمن لم يفعل ذلك لم أزكّه ولم أرحمه
(2)
".
[معنى الهوى أظنها: عند الإطلاق]:
• والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق أنه الميل إلى خلاف الحق كما في قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
(3)
.
(4)
.
• وقد يطلق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقًا فيدخل فيه الميلُ إلى الحق وغيره. وربما استعمل بمعنى محبة الحق خاصة والانقياد إليه.
(1)
ب: م: "فيجب".
(2)
رواه أحمد في الزهد 1/ 127 بنحوه، وأبو نعيم في الحلية 8/ 141 - 142 بمثله.
(3)
سورة ص: 26.
(4)
سورة النازعات: 40، 41.
• وسئل صفوان بن عسال: هل سمعت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الهوى؟ فقال: سأله أعرابي عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم فقال: "المرء مع منْ أَحبَّ
(1)
".
ولما نزل قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}
(2)
قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك
(3)
.
* * *
• وقال عمر رضي الله عنه: في قصة المشاورة في أسارى بدر فهوِيَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت
(4)
.
[الهوى في الحديث]:
• وهذا الحديث مما جاء استعمال الهوى فيه بمعنى المحبة المحمودة.
• وقد وقع مثل ذلك في الآثار الإسرائيلية كثيرًا.
• وكلام مشايخ القوم وإشاراتهم نظمًا ونثرًا يكثر فيها هذا الاستعمال.
* * *
ومما يناسب معنى هذا الحديث من ذلك قول بعضهم.
إن هواكَ الذي بقلبي
…
صَيَّرني سامعًا مطيعَا
أخذت قلبي وغَمْضَ عيني
…
سلَبتنِي النومَ والهجوعَا
فَذْر فؤادي وخُذْ رُقادِي
…
فقال؛ لا بلْ هُمَا جميعَا
(5)
.
(1)
رواه ابن حبان في صحيحه ح 1321 وفيه ذكر الهوى بسياق أتم ورواه الترمذي كذلك بإسناد حسن صحيح ح 3529.
(2)
سورة الأحزاب: 51.
(3)
أخرجه البخاري في: 65 - كتاب التفسير: 7 - باب {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} 8/ 524 - 525 ح 4788 بالنص المذكور.
وفي 67 - كتاب النكاح: 29 - باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد 9/ 164 ح 5113 بهذا النص؛ لكن شطر حديث فيه حديث عائشة عمن تهب نفسها.
وأخرجه مسلم في: 17 - كتاب الرضاع: 14 - باب جواز هبتها نوبتها لضرتها 2/ 1085 ح 49 - (1464) نحو الموضع الثاني عند البخاري.
(4)
رواه مسلم في الجهاد والسير: باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم 3/ 1383 ح 58 - (1763) بسياقه تامًّا.
(5)
ليست في ب.
الحديث الثاني والأربعون
عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِك رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"قالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ مِنْكَ وَلا أُبَالي. يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ [ولا أبالي]
(1)
يَا ابْن آدَمَ! إنَّكَ لَوْ أَتَيْتَني بِقُرَابِ الأَرْضِ خطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لأَتَيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُ وَقالَ: حَديثٌ حَسَنٌ [غريب]
(2)
.
* * *
[تخريج الحديث]:
• هذا الحديث تفرد به الترمذي
(3)
.
• خرجه من طريق كثير بن فائد، حدثنا سعيد بن عُبَيد، سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول: حدَّثنا أنس، فذكره، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه انتهى.
• وإسناده لا بأس به.
• وسعيد بن عبيد هو الهنائي، قال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات. ومن زعم أنه غير الهنائي؛ فقد وهم.
• وقال الدارقطني: تفرّد به كثير بن فائد عن سعيد مرفوعًا.
ورواه سَلْمُ بن قتيبة، عن سعيد بن عبيد، فوقفه على أنس.
• قلت: قد روي عنه مرفوعًا وموقوفًا وتابعه على رفعه أيضًا أبو سعيد، مولى بني هاشم؛ فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعًا أيضًا.
وقد روى أيضًا من حديث ثابت، عن أنس مرفوعًا، ولكن قال أبو حاتم: هو منكر.
(1)
من الترمذي وفي "ا": "ابن آدم
…
أتيتك".
(2)
"ا"، ب: حديث حسن، م حديث حسن صحيح، وما أثبتناه من الترمذي، النسخة الهندية والتركية، وفي المصرية: هذا حديث غريب، وسيأتي من كلام ابن رجب ما يعضّد ما آثرناه.
(3)
وهو في سننه: 49 - أبواب الدعوات: 106 باب غفران الذنوب مهما عظمت 9/ 194 - 195 ح 3534 وعقب عليه بما ذكر.
• وقد روى أيضًا من حديث أبي ذر، خرجه الإمام أحمد من رواية شهر بن حوشب، عن معد يكرب، عن أبي ذرّ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرويه عن ربِّه تعالى؛ فذكره بمعناه
(1)
.
• ورواه بعضهم: عن شهر، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي ذر، وقيل: عن شهر، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح هذا القول.
وروى من حديث ابن عباس، خرجه الطبراني من رواية قيس بن الربيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(2)
.
• وروى بعضه من وجوه أخر.
فخرج مسلم في صحيحه من حديث معرور بن سويد، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله تعالى: "من تقرَّب مني شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، ومن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبْتُ منه باعًا، ومن أتاني يمشى أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يُشْرك بِي شيئًا لقيتُه بِقُرَابِها مغفرةً"
(3)
.
• وخرجه الإمام أحمد من رواية أخشن السدوسي قال: "دخلت على أنس فقال: سمعتُ رسولَ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: والذي نفسي بيده لو أخطأتُم حتى تملأَ خطاياكُم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتُم الله لغَفَر لكم
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 172 (الحلبي).
(2)
أورده الهيثمي في المجمع 10/ 218 - 219 عن الطبراني في الثلاثة وقال: فيه إبراهيم بن إسحق الصيني وقيس بن الربيع وكلاهما مختلف فيه وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3)
أخرجه مسلم في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 6 - باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى 4/ 2068 ح 22 (2687) من حديث المعرور، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها، أو أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض [ما يقارب ملأها بضم القاف أو كسرها] خطيئة لا يشرك بي شيئًا، لقيته بمثلها مغفرة.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 238 (الحلبي) من رواية سريج بن النعمان، عن أبي عبيدة السدوسي، عن أخْشَن السدوسي، قال: دخلت على أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفسي بيده أو قال: والذي نفس محمد بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله عز وجل لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده أو والذي نفسي بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم".
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 215 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات.
[أسباب المغفرة]:
وقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة.
• أحدها: الدعاء مع الرَّجَاء؛ فإن الدعاءَ مأمورٌ به، ومَوْعُودٌ عليه بالإجابة كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
وفي السنن الأربعة عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الدُّعاءَ هو العبادة" ثم تلا هذه الآية.
وفي حديث آخر
(1)
خرجه الطبراني مرفوعًا: "من أُعْطِيَ الدعاءَ أعْطِيَ الإجابة؛ لأن الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(2)
.
وفي حديث آخر: "ما كان الله ليَفتحَ عَلَى عَبْدٍ بابَ الدّعاءِ، ويغلقَ عنه بابَ الإجابة"
(3)
.
لكن الدعاءَ سببٌ مقتضٍ للإجابة مع استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه.
وقد تتخلّف إجابته
(4)
لانتفاءِ بعض شروطه أو وجود بعض موانعه
(5)
.
وقد سبق ذكر بعض شرائطه وموانعه وآدابه في شرح الحديث العاشر
(6)
.
[شرائط إجابة الدعاء]:
• ومن أعظم شرائطه حضورُ القلب، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى؛ كما خرجه
(1)
ليست في "ا"، ولا في ب.
(2)
أورده الهيثمي في المجمع 10/ 152 من حديث ابن مسعود وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه محمود بن العباس وهو ضعيف والآية رقم 60 من سورة غافر.
(3)
أورده الفتني في تذكرة الموضوعات ص 56 وقال: لا أصل له وهو من رواية البلخي.
وكذلك قال العقيلي في الكبير 1/ 241 وذكر أنه منكر الحديث وأورد له حديثين هذا أحدهما وقال: جميعًا غير محفوظين لا يتابع عليهما.
والعلة في الحديث من الحسن بن محمد البلخي؛ حيث يروى عنه، عن حميد الطويل، عن أنس.
والحسن البلخي وضَّاع وعامة أحاديثه مناكير.
وهكذا أورد ابن عدي هذا الحديث ضمن أحاديث منكرة للحسن البلخي في ترجمته في الكامل 2/ 322 - 323 ثم قال: والحسن بن محمد البلخي - هذا - لا أدري هل له من الحديث غير ما ذكرت أم لا؟ وإن روى عنه غير ما ذكرته؛ فإنه يكون قليلًا وكلها مناكير.
ولست أدري كيف أورد ابن رجب هذا الحديث الموضوع دون أن ينبه على وضعه أو نكارته؟!.
وانظر في تنزيه الشريعة 2/ 321.
(4)
م: "الإجابة".
(5)
م: "موانعه وآدابه" وذكر الكلمة الثانية لغو.
(6)
ص 273.
الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ادعُوا الله وأنتم مُوقِنُونَ بالإجابة؛ فإن الله تعالى لا يقبل دعاءً من قلبٍ غافلٍ
(1)
لاهٍ".
• وفي المسند عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ هذه القلوبَ أوعية فبعضُها أَوْعَى من بَعْضٍ، فإذا سألتم الله فاسألوهُ وأنتم موقنونَ بالإجابة؛ فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء من ظهر قلب غافل
(2)
".
• ولهذا نُهي العبد أن يقول في دعائه: "اللهم اغفر لي إن شئت" ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مُكرهَ له
(3)
، ونُهي أن يستعجل، ويترك الدعاء؛ لاستبطاء الإجابة، وجُعِل ذلك من موانع الإجابة؛ حتى لا يقطع العبد رجاءَهُ من إجابة دعائه، ولو طالت المدة؛ فإنه سبحانه يحبُّ الملحِّينَ في الدعاء.
• وجاء في الآثار أن العبدَ إذا دعا ربَّه، وهو يحبه قال: يا جبريل! لا تعجل بقضاء حاجة عبدي؛ فإني أحب أن أسمع صوته، وقال تعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
(4)
فما دام العبد يلح في الدعاء، ويطمعُ في الإجابة من غير قطع الرجاء، فهو قريبٌ من الإجابة.
• ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يُفتح له.
• وفي صحيح الحاكم عن أنس مرفوعًا "لا تَعْجِزُوا عن الدعاء؛ فإنه لن يَهْلِكَ مع الدُّعاءِ أحدٌ
(5)
".
(1)
أخرجه الترمذي في السنن: 49 - كتاب الدعوات: 66 - باب حدثنا عبد الله بن معاوية 5/ 517 - 518 ح 3479، من رواية عبد الله بن معاوية الجمحي، قال الترمذي وهو رجل صالح: عن صالح المرى، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وفيه: " .. واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه".
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه؛ إلا من هذا الوجه، سمعت عباسًا العنبري يقول: اكتبوا عن عبد الله بن معاوية الجمحي؛ فإنه ثقة.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 10/ 140 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر وإن كان قد نقل عن الهيثمي في المجمع 10/ 148 أنه حسن إسناده، ويبدو أن هذا الاختلاف في الحكم مأتاه بكر بن عمرو المعافري، وابن لهيعة، وهما من رواة الحديث، وقد اعتمد الشيخ شاكر توثيقهما؛ أما الهيثمي فراعى الخلاف فيهما، وانظر ما علق به الشيخ أحمد شاكر في هذا الموضع.
(3)
حديث النهي المذكور رواه البخاري 6339، 7477، ومسلم 2678، 2679 من حديثي أنس وأبي هريرة.
(4)
سورة الأعراف: 56.
(5)
ضعيف جدًّا: فهو من رواية عمر بن محمد بن صهبان الأسلمي، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول =
• ومن أهم ما يَسأل العبد ربّه مغفرةُ ذنوبه، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار، ودخول الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
، "حولها نُدَنْدِن".
يعني حول سؤال الجنة والنجاة من النار.
• قال أبو مسلم الخولاني: "ما عرضت لي دعوةٌ فذكرت النارَ؛ إلا صرفتُها إلى الاستعاذة منها".
• ومن رحمة الله تعالى بعبده أن العبدَ يدعوه بحاجةٍ من الدنيا، فيصرفُهَا عنه، ويعوضه خيرًا منها، إما أن يصرف عنه بذلك سوءًا أو يدخرها
(2)
له في الآخرة، أو يغفر له بها ذنبًا؛ كما في المسند والترمذي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من أحد يدعو بدعاء؛ إلا آتاه الله ما سأل أو كفّ عنه من السوء مثلَه، ما لم
= الله صلى الله عليه وسلم: لا تعجزوا في الدعاء .. الحديث.
وآفته من عمر بن محمد المذكور.
هكذا ضعفه الشيخ ناصر الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ح 843 ورد تصحيح الحاكم وابن حبان له.
وأورده ابن عدي في الكامل 5/ 13 - 14 وذكر أن عمر بن محمد هذا متروك الحديث وأن عامة أحاديثه مناكير. والعقيلي في الكبير 3/ 188 - 189 وقال: عمر بن محمد، عن ثابت ولا يتابع عليه ولا يعرف إلا به.
وقد أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 493 - 494 من رواية عمر بن محمد الأسلمي، عن ثابت - به - بمثله. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورده الذهبي فقال: "لا أعرف عمرًا؛ تعبت عليه".
وعمرو: هو عمرو بن محمد وليس عمرًا، وهو الذي ضعف الشيخ الحديث به تبعًا للعقيلي وابن عدي.
(1)
أخرجه أبو داود في السنن: 2 - كتاب الصلاة 127 - باب تخفيف الصلاة 1/ 501 ح 792 من حديث أبي صالح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: "كيف تقول في الصلاة؟ " قال: أتشهد وأقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"حولها ندندن".
وأخرجه ابن ماجه في: 5 - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها: 26 - باب ما يقال في التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 295 من رواية يوسف بن موسى القطان: عن جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: فذكره بمثله ح 910.
وقد أورده البوصيري في مصباح الزجاجة 1/ 183 وقال هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
وأخرجه أحمد في المسند 3/ 474 بمثل رواية أبي داود وإسناده، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصلاة: باب مسألة الله الجنة بعد التشهد وقبل التسليم والاستعاذة بالله من النار 1/ 358 - 359 ح 725 من رواية جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"حولهما ندندن" بالتثنية كما أوردها ابن رجب، وقد عقب ابن خزيمة بقوله: الدندنة: الكلام الذي لا يفهم".
(2)
ب: "أو أن يدخرها".
يَدْعُ بإثْمٍ أو قطيعةِ رحم"
(1)
.
• وفي المسند وصحيح الحاكم عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"مَا مِنْ مُسْلمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ ليس له فيها إثمٌ أو قطيعةُ رَحِمٍ؛ إلا أعطاهُ الله بها إحْدَى ثَلاث: إما أن يُعجِّلَ له دعوتَهُ، وَإما أن يدَّخِرَهَا له في الآخرة، وإما أن يكْشِفَ عنه من السوءِ مثلَها" قالوا: إذًا نُكْثِر؟ قال: "الله أَكْثَرُ
(2)
".
وخرجه الطبراني.
وعنده:
"أو يغفر له بها ذنبًا قد سلف" بدل قوله: "أو يكشفَ عنه من السوء
(3)
مثلَها".
وخرج الترمذي من حديث عبادة مرفوعًا نحو حديث أبي سعيد
(4)
أيضًا.
وبكل حال فالإلحاح بالدعاء بالمغفرة مع رجاء الله تعالى موجب للمغفرة والله تعالى يقول: "أنا عند ظن عبدي بي فَلْيَظُنَّ بِي ما شَاء".
وفي رواية "فلا تَظُنّوا بالله إلَّا خيْرًا
(5)
".
(1)
أخرجه الترمذي في: 49 - كتاب الدعاء: 9 - باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة 5/ 462 ح 3381 وعقب عليه بقوله: وفي الباب عن أبي سعيد وعبادة بن الصامت، وأخرجه أحمد في المسند 3/ 360 (الحلبي) وكلاهما من رواية قتيبة بن سعيد، عن ابن لهيعة، عن أبي الزيير، عن جابر، ولعل سكوت الترمذي عنه لوجود ابن لهيعة، وقد أورده الشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير وزيادته 2/ 991 وحسنه.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 18 (الحلبي) من رواية أبي عامر، عن علي بن عليّ، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد فذكره بنحوه.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 493 من رواية أبي عبد الله الصفار، عن ابن أبي الدنيا، عن محمد بن يزيد، عن علي بن علي - به - بنحوه أيضًا وليس بنصه وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
(3)
أخرجه الطبراني في الصغير 2/ 364 ح 1000 بنحو ما في المسند والمستدرك، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 148 من حديث أبي سعيد وقال: رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة.
(4)
أخرجه الترمذي في: 49 - كتاب الدعوات: 116 - باب انتظار الفرج وغير ذلك 5/ 566 - 567 ح 3573 من رواية عبد الله بن عبد الرحمن، عن محمد بن يوسف، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير: أن عبادة بن الصامت حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة؛ إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم" فقال رجل من القوم: إذًا نكثر؟ قال: "الله أكثر". وعقب الترمذي بقوله: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وابن ثوبان: هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العابد الشامي.
وحديث عبادة؛ هو ما أشار إليه الترمذي في الموضع السابق مع حديث جابر.
(5)
متفق عليه أخرجه البخاري في: 97 - كتاب التوحيد 15 - باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ =
ويروى من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر مرفوعًا "يأتي الله تعالى بالمؤمن يوم القيامة، فيقرّبُهُ حتى يجعله في حِجَابِهِ مِنْ جميع الخلق، فيقول له: اقرأ فيعرّفُه ذَنْبًا ذَنْبًا أتعرف؟ أتعرف؟ فيقول: نعم! نعم! ثم يلتفتُ العبدُ يمنةً ويَسْرَةً فيقولُ الله تعالى: "لا بأسَ عليك يا عبدي! أنتَ في سِتْرِي من جميع خَلْقِي، ليس بيني وبينك اليومَ
= نَفْسَهُ} [سورة آل عمران: 28] وقوله جل ذكره: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [سورة المائدة: 116] 13/ 384 ح 7405 من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل:
"أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
وانظر طرفيه رقم 7505، 7537.
وقد أخرجه مسلم في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 4/ 2061 ح - 2 (2675) بنحوه، وقد مضى ص 1156.
وانظره في المقاصد السنية في الأحاديث الإلهية لابن بلبان المقدسي ح 31 ص 217 - 218 بتحقيق محيي الدين مستو، والدكتور محمد العيد الخضراوي وانظر باقي تخريجه بهامشه.
واللفظ المذكور لفظ حديث أبي هريرة وفيه الشطر الأول فحسب مما ساقه ابن رجب.
أما نص ابن رجب الأول؛ فقد أورده ابن حبان في صحيحه كتاب الرقاق: باب حسن الظن بالله تعالى: ذكر الإخبار عما يجب على المرء من مجانبة سوء الظن بالله عز وجل وإن كثرت حياته في الدنيا 2/ 15 من رواية واثلة بن الأسقع فذكره.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 240 أول كتاب التوبة والإنابة وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي على شرط مسلم.
وأحمد في المسند 3/ 491 (الحلبي) من رواية الوليد بن مسلم، عن الوليد بن سليمان، عن حبان أبي النضر قال: دخلت مع واثلة بن الأسقع على أبي الأسود الجرشي في مرضه الذي مات فيه؛ فسلم عليه وجلس، قال: فأخذ أبو الأسود يمين واثلة فمسح بها على عينيه ووجهه لبيعته بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له واثلة: واحدة أسألك عنها؟ قال: وما هي؟ قال: كيف ظنك بربك؟ قال: فقال أبو الأسود وأشار برأسه، أي حسن! قال واثلة: أبشر؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل؛ فذكره.
وأخرجه في 4/ 106 من وجه آخر عن واثلة بمثله.
ورواه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله تعالى ص 16 - 17 رقم 2 من وجه آخر عن واثلة وفيه: أن واثلة قال: ألا تخبرني عن شيء أسألك عنه؟ كيف ظنك بالله؟ قال: اعترتني ذنوبي وأشفيت على هلكتي؛ ولكني أرجو لرحمة الله عز وجل.
قال: فكبر واثلة، وكبر أهل البيت بتكبيره، قال: الله أكبر؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. فذكره وذكر محققه أن إسناده صحيح.
وانظر فيه باقي تخريجه، وفي الإتحاف 9/ 169 و 10/ 277 وفيها وفي الإتحاف 67 - 73 إشارة إلى معنى الجزء الثاني من نص ابن رجب.
أحدٌ يطَّلعُ علَى ذنوبك غيري، اذْهَبْ فقد غفرتُها لك بحرفٍ واحد من جميع ما أتيتني به قال: ما هو يا رب؟!! قال: كُنْتَ لا ترجُو العفوَ مِنْ أحَدٍ غيري"
(1)
.
فمن أعظم أسباب المغفرة: أن العبد إذا أذنبَ ذنبًا لم يرجُ مغفرته من غير ربه، ويعلم أنه لا يغفر الذنوبَ، ويأخذ بها غيرُه.
وقد سبق ذكر ذلك في شرح حديث أبي ذرّ: "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي
…
الحديث.
* * *
[إنك ما دعوتني ورجوتني]:
وقوله: "إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي".
يعني على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك، ولا أسْتَكْثِرُه.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا دعا أحدكم فلْيُعْظِمْ الرغبةَ؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء
(2)
.
فذنوبُ العبادِ
(3)
وإن عظمتْ؛ فإن عفوَ الله ومغفرته أعظمُ منها وأعظم، فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته.
وفي صحيح الحاكم عن جابر أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: واذُنُوبَاهُ! مرتين أو ثلاثًا فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قل: اللهم مغفرتُكَ أوسعُ من ذنوبي، ورحمتُك أرجَى عندي مِنْ عَمَلي" فقالها، ثم قال له:"عُد" فعاد، ثم قال له:"عد" فعاد، فقال له: "قم؛ فقد غفر الله لك
(4)
".
* * *
(1)
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 37 بنحوه عن الطبراني من حديث ابن عمر، وقال: فيه القاسم بن بهرام، وهو ضعيف.
(2)
أخرجه ابن حبان في صحيحه: كتاب الرقائق: باب الأدعية ذكر العلة التي من أجلها أمر المرء بتفويض الأمور كلها إلى بارئه مع سؤاله إياه الدِّق والجل من أسبابه 2/ 127، من حديث أبي هريرة بالنص المذكور.
(3)
م: "العبد".
(4)
أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 543 - 544 من حديث جابر، وفيه:"فقالها ثم قال: عد فعاد، ثم قال: عد فعاد، فقال: قم؛ فقد غفر الله لك".
وعقب الحاكم بقوله: حديث رواته عن آخرهم مدنيون ممن لا يعرف واحد منهم بجرح ولم يخرجاه.
وعلق الذهبي بقوله: سمعه إبراهيم بن المنذر منه، وهم مدنيون لم يجرحوا.
وفي هذا المعنى
(1)
يقول بعضهم:
يا كَبيرَ الذنب عفو
…
الله من ذنبك أكبر
ذنبك أعظم الأشياء في
…
جَانب عفو الله يَصْغُر
وقال آخر:
يا ربّ! إن عظمت ذنوبي كثْرةً
…
فلقد علمتُ بأنَّ عفوَك أعظمُ
إن كَانَ لا يَرْجُوكَ إلا مُحْسِنٌ
…
فمن الذي يدعو ويرجُو المجرمُ؟
مالي إليكَ وسيلةٌ إلا الرجَا
…
وجميل عفوك، ثم أَنِّيَ مُسْلِمُ؟
• السبب الثاني للمغفرة:
الاستغفار:
ولو عظمت الذنوب، وبلغت الكثرة عَنَانَ السماء، وهو السحاب وقيل ما انتهى إليه البصر منها، وفي الرواية الأخرى: لو أخطأتم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم.
والاستغفار طلبُ المغفرة.
والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها.
وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار.
• فتارة يؤمر به.
كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2)
، وقوله:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}
(3)
.
• وتارة يُمدحُ أهلُه.
كقوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}
(4)
{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
(5)
.
(6)
.
(1)
ليست في "ا"، ولا في ب.
(2)
سورة البقرة: 199.
(3)
سورة هود: 3.
(4)
سورة آل عمران: 17.
(5)
سورة الذاريات: 18.
(6)
سورة آل عمران: 135.
• وتارة يُذكَر أن الله يغفر لمن استغفره.
كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
(1)
.
وكثيرًا ما يُقْرَن الاستغفارُ بذكر التوبة؛ فيكون الاستغفار حينئذ عبارةً عن طلب المغفرة باللسان، والتوبةُ عبَارةً عن الإقلاع عن الذنوب بالقلبِ والجوارح.
• وتارة يفرد الاستغفار ويرتب عليه المغفرة.
كما ذكر في هذا الحديث وما أشبهه؛ فقد قيل: إنه أريد به الاستغفار المقتَرنُ بالتوبة.
وقيل: إن نصوص الاستغفار المفردة كلها مطلقة تقيد بما ذكر في آية آل عمران من عدم الإصرار؛ فإن الله عز وجل وعد فيها بالمغفرة لمن استغفره من ذنوبه، ولم يُصرَّ على فعله.
فتحمل النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا المقيد.
ومجرد قول القائل: اللهم اغفر لي طلب منه للمغفرة ودُعَاءٌ بها، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء، فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، لا سيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنب
(2)
أو صادف ساعة من ساعات الإجابة؛ كالأسحار وأدبار الصلوات.
• ويروى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: "يا بنيَّ! عوِّد لسانك: اللهم! اغفر لي؛ فإن لله ساعات لا يردُّ فيها سائلًا
(3)
".
• وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، وأينما كنتم؛ فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة.
• وخرّج ابن أبي الدنيا في كتاب "حُسْنُ الظَّنِّ" من حديث أبي هريرة مرفوعًا
(4)
بينما رجل مستلق إذ نظر إلى السماء
(5)
وإلى النجوم فقال: إني لأعلم
(6)
أن لكِ ربًّا خالقًا اللهم! اغفر لي؛ فغفر له
(7)
.
• وعن مورق قال: كان رجلٌ يعمل السيئاتِ فخرج إلى البَرِّيَة، فجمع ترابًا،
(1)
سورة النساء: 110.
(2)
م: "بالذنوب".
(3)
حسن الظن بالله ص 93 ح 119.
(4)
م: "بينما" وما أثبتناه عن "ا" هو الموافق لما عند ابن أبي الدنيا.
(5)
سقطت من ب.
(6)
في حسن الظن: "أعلم".
(7)
أخرجه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله ص 87 ح 107 عن يحيى بن يوسف الزَّمي عن عبد الله بن جعفر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة.
وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن جعفر، ضعفه النسائي ويحيى بن معين، والعقيلي، وقال ابن حبان: كان ممن يهم في الأخبار حتى يأتي بها مقلوبة، ويخطئ في الآثار حتى كأنها معمولة، وقد كتبنا نسخته =
فاضطجع مستلقيًا عليه فقال: ربِّ! اغفر لي ذنوبي، فقال: إن هذا ليعرف أن له ربًّا يغفر، ويعذب، فغفر له
(1)
.
• وعن مغيث بن سُمَيّ قال: بينما رجلٌ خبيثٌ فتذكر يومًا فقال: اللهم! غفرانك، اللهم! غفرانك، اللهم! غفرانك، ثم مات فغفر له
(2)
.
• ويشهد لهذا ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: ربِّ! أذنبتُ ذَنْبًا فاغفر لي، قال الله تعالى: علم عبدي أن له رَبًّا يغفرُ الذَّنْبَ، ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله تعالى ثم أذنبَ ذنبًا آخر فذكر مثل الأوّل مرتين أُخْرَيَيْنِ".
• وفي رواية لمسلم أنه قال في الثالثة "قد غفرتُ لعبدي فليعمل ما شاء"
(3)
.
والمعنى ما دام على هذه الحال كلما أذنب استغفر، والظاهر أن مراده؛ الاستغفار المقرون بعدم الإصرار.
ولهذا في حديث أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة".
خرّجه أبو داود
(4)
والترمذي
(5)
.
= وأكثرها لا أصول لها.
من الثامنة توفى عام 178 هـ.
وترجمته في التقريب 1/ 406 - 407 والتهذيب 5/ 174 - 176.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله ص 87 ح 108 - من طريق الربيع بن ثعلب، عن أبي موسى المؤدب، عن عاصم الأحول، عن مورق فذكره بمثله؛ إلا أنه قال:"وإنه خرج".
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الموضع السابق عقب حديث مورق، من رواية خلف بن هشام، عن أبي شهاب، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن مغيث بن سمي.
وفيه: "فتذكر يومًا أن قال".
(3)
أخرجه البخاري في: 97 - كتاب التوحيد: 35 - باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} ح 13/ 466 ح 7507.
ومسلم في: 49 - كتاب التوبة: 5 - باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة 4/ 2112 ح 29 - (2758) - 30 - (. . .) من وجوه عديدة وفي أ: "آخرتين".
(4)
أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة: 361 - باب الاستغفار 2/ 177 ح 1514 من رواية النفيلي عن مخلد بن يزيد، عن عثمان بن واقد العمري، عن أبي نُضَيرة، عن مولى لأبي بكر الصديق، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(5)
أخرجه الترمذي في: 49 - كتاب الدعوات: 107 - باب حدثنا حسين بن يزيد 5/ 558 عن حسين بن =
[الاستغفار مع الإصرار]:
• وأما استغفار اللسان مع إصرار القلب على الذنب فهو دعاء مجرد، إن شاء الله أجابه، وإن شاء ردّه.
• وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة.
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "ويل للذين يصرون على ما فَعَلُوا وهُم يعلَمون"
(1)
.
= يزيد الكوفي، عن أبي يحيى الجماني، عن عثمان بن واقد - به.
وقد عقب الترمذي بقوله:
هذا حديث غريب؛ إنما نعرفه من حديث أبي نُضَيرة، وليس إسناده بالقوي.
وأورده السخاوي في المقاصد الحسنة ص 359 عن أبي داود والترمذي وأبي يعلي والبزار من طريق عثمان بن واقد مرفوعًا وذكر تعقيب الترمذي ثم أورد عن البزار قوله: لا نحفظه؛ إلا من حديث لأبي بكر بهذا الطريق وأبو نضيرة وشيخه لا يعرفان.
ثم قال: وله شاهد عند الطبراني في الدعاء من حديث ابن عباس.
وأورده الشيخ ناصر الألباني في ضعيف الجامع الصغير ح 5006 وأحال إلى المشكاة، وضعيف أبي داود. لكن أورده الزبيدي في الإتحاف 5/ 59 وشرحه وحكى قول العراقي: رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر وقال: غريب وليس إسناده بالقوي، وعقب بقوله: قلت: قال الزيلعي: إنما لم يكن قويًّا لجهالة مولى أبي بكر الراوي عنه، لكن جهالته لا تضر؛ إذ تكفيه نسبته إلى الصديق.
ثم حكى قول المناوي: وفيه أيضًا عثمان بن واقد، ضعفه أبو داود نفسه.
وعلق الزبيدي بقوله: عثمان بن واقد لم أر له ذكرًا في كتاب الضعفاء للذهبي ولا في ذيله. ولعله عثمان بن فائد فلينظر ذلك.
وقد أورده ابن كثير في التفسير 1/ 407 - 408 عن أبي يعلى ثم قال: ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى بن معين - به - وشيخه أبو نصير المقاسطي واسمه سالم بن عبيد وثقه الإمام أحمد وابن حبان.
ثم وضح أساس تضعيف الترمذي وابن المديني للحديث ورد على ذلك واستحسن القول بحسن الحديث؛ حيث قال: وقول علي بن المديني والترمذي ليس إسناد هذا الحديث بذاك؛ فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر؛ لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر؛ فهو حديث حسن والله أعلم. وبهذا يلتقي ابن كثير إلى حد كبير مع الزبيدي في الحكم على الحديث.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 10/ 51 - 52 (المعارف) ح 6541 من طريق يزيد بن هارون، عن حريز بن عثمان الرحبي، عن حبان الشرعبي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر:"ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون".
وقد صحح الشيخ أحمد شاكر إسناده لما ذكره عن رواته أنهم رواة الصحيح، ولما أورده عن الهيثمي في المجمع 10/ 191 من أن رجال أحمد في هذا الحديث رجال الصحيح غير حبان بن زيد الشرعبي، وقد وثقه ابن حبان. =
• وخرّج ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "التائبُ من الذنب كمن لا ذنبَ له، والمستغفر من ذنبٍ وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربِّه".
ورفعه منكر، ولعله موقوف
(1)
.
• قال الضحاك: "ثلاثة لا يستجاب لهم؛ فذكر منهم: رجل مقيم على امرأة زنا، كلما قضى منها
(2)
شهوته قال: رب! اغفر لي ما أصبت من فلانة، فيقول الرب: تحول عنها وأغفر لك، وأما ما دمت عليها مقيمًا؛ فإني لا أغفر لك".
"ورجُلٌ عنده مالُ قوم يرى أهلَه فيقول: رب اغفر لي ما آكلُ من مال فلان، فيقول تعالى: رُدَّ إليهم مالَهم، وأَغْفِر لك، وأما ما لم تردَّ إليهم؛ فلا أغفرُ لك".
• وقول القائل: أستغفرُ الله معناه: أطلبُ مغفرتَه، فهو كقوله: اللهم! اغْفِرْ لي، فالاستغفار التام الموجبُ للمغفرة: هو ما قارنَ عدَم الإصرار كما مدح الله تعالى أهله، ووعدهم المغفرة
(3)
.
• قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرةُ استغفاره تصحيحَ توبته؛ فهو كاذب في استغفاره.
وكان بعضهم يقول: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير.
وفي ذلك يقول بعضهم:
أستغفر الله من: "أستغفرُ اللهَ"
…
من لفظة بَدَرَتْ خَالفْتُ مَعْنَاهَا؟!
= وأخرجه عقبه 6542 من رواية ابن القاسم عن حريز - به بمعناه وفي 12/ 8 من رواية حسن بن موسى، عن حريز، وإسناده صحيح أيضًا كالإسنادين السابقين، كما ذكر محققه.
أما الأقماع فقد قال ابن الأثير في النهاية 4/ 109: "الأقماع جمع قِمَع كضلع بكسر الضاد وفتح اللام وهو الإناء الذي يترك في رءوس الظروف لتملأ بالمائعات من الأشربة والأدهان.
شبه أسماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ويحفظونه ويعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئًا يفرغ فيها؛ فكأنه يمر عليها مجازًا، كما يمر الشراب في الأقماع اجتيازًا".
(1)
أورده الزبيدي في الإتحاف 8/ 506 عن ابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي والديلمي من حديث ابن عباس: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه، ومن آذى مسلمًا كان عليه من الذنوب مثل منابت النخل".
ثم قال الزبيدي: قال الذهبي: إسناده مظلم، وقال الحافظ في الفتح: الراجح أن قوله: والمستغفر إلخ موقوف. وأورده الشيخ ناصر الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 616 وذكر أنه ضعيف لضعف أحد رواته وهو سلم بن سالم البلخي، ولجهالة راوٍ آخر وهو سعيد الحمصي.
(2)
ليست في "ا"، ولا في ب.
(3)
م: "بالمغفرة".
وكيف أرجو إجاباتِ الدعاء وقد
…
سدَدْتُ بالذنب عندَ الله مَجْرَاهَا؟!
فأفضل الاستغفار ما اقترن
(1)
به ترك الإصرار، وهو حينئذ
(2)
توبةٌ نصوحٌ.
• وإن قال بلسانه: أستغفر الله، وهو غير مقلع بقلبه؛ فهو داع لله بالمغفرة كما يقول: اللهم! اغفر لي وهو حسن، وقد يرجى له الإجابة.
• وأما من قال: هو توبة الكذابين
(3)
.
فمراده أنه ليس بتوبة كما يعتقده بعضُ الناس.
وهذا حق؛ فإن التوبة لا تكون مع الإصرار.
وإن قال: "أستغفر الله وأتوب إليه" فله حالتان:
• إحداهما:
أن يكون مصرًّا بقلبه على المعصية؛ فهذا كاذب في قوله: "وأتوب إليه"؛ لأنه غير تائب، فلا يجوز له أن يخبر عن نفسه بأنه تائب، وهو غير تائب.
• والثانية: أن يكون مقلعًا عن المعصية بقلبه.
• فاختلف الناس في جواز قوله: وأتوبُ إليه فكرهه طائفة من السلف، وهو قول أصحاب أبي حنيفة؛ حكاه عنهم الطحاوي.
• وقال الربيع بن خُثَيم: يكون قوله "وأتوب إليه" كذبة وذنبًا، ولكن ليقل:"اللهم تب عليّ" أو يقول: "اللهم! إني أستغفرك؛ فتب عليّ".
وهذا قد يحمل على من لم يقلع بقلبه وهو بحاله أشبه.
• وكان محمد بن سوقة يقول في استغفاره: "أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ وأسأله توبةً نصوحًا".
• وروى عن حذيفة أنه قال: بحسب المرء
(4)
من الكذب أن يقول: "أستغفر الله" ثم يعود.
وسمع مطرف رجلًا يقول: أستغفر الله وأتوب إليه فتغيظ عليه وقال: لعلك لا تفعل.
وهذا ظاهره يدل على أنه إنما كره أن يقول: وأتوب
(5)
إليه؛ لأن التوبة النصوح أن
(1)
م: قرن.
(2)
سقطت من "ا"، ب.
(3)
م: "تاب توبة الكذابين".
(4)
ليست في م.
(5)
"ا": "أتوب".
لا يعود إلى الذنب أبدًا فمتى عاد إليه؛ كان كاذبًا في قوله: "وأتوب إليه".
• وكذلك سئل محمد بن كعب القُرظي عمن عاهد الله أن لا يعود إلى معصية أبدًا فقال: مَنْ أعظَمُ منه إثمًا؟ يتألّى على الله أن لا ينفذ فيه قضاؤه؟!.
• ورجح قوله في هذا أبو الفرج بن الجوزي.
• وروى عن سفيان بن عيينة نحو ذلك.
• وجمهور العلماء على جواز أن يقول التائب: أتوب إلى الله، وأن يعاهد العبد ربه على أن لا يعود إلى المعصية؛ فإن العزم على ذلك واجب عليه؛ فهو مخبر على ما عزم عليه
(1)
في الحال؛ ولهذا قال: "ما أصَرَّ مَن استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرة"
(2)
وقال في المعاود
(3)
للذنب: "قد غفرتُ لعبدي؛ فليعمل ما شاء".
• وفي حديث كفارة المجلس: أستغفرك اللهم وأتوب إليك!
(4)
.
• وقطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سارقًا ثم قال له: "اسْتَغْفِرِ اللهَ وتُبْ إليه" فقال: أستغفر الله وأتوبُ إليه فقال: "اللهم تب عليه".
(1)
م: "واجب عليه في الحال".
(2)
مضى الحديث ص 1165.
(3)
مضى الحديث ص 1165.
(4)
هذا جزء حديث أخرجه الترمذي في: 49 - كتاب الدعوات: 39 - باب ما يقول إذا قام من المجلس 5/ 494 ح 3433 من رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك".
قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي برزة وعائشة [و] هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه لا نعرفه من حديث سهيل؛ إلا من هذا الوجه.
وأخرجه أبو داود في: 35 - كتاب الأدب: 32 - باب كفارة المجلس 5/ 181 - 182 ح 4857 - 4859 موقوفًا على عبد الله بن عمرو ومرفوعًا من حديث أبي هريرة وأبي برزة الأسلمي رضي الله عنهم بنحوه.
وهو عند أحمد في المسند 2/ 369 (الحلبي) من حديث أبي هريرة: مرفوعًا: كفارة المجالس أن يقول العبد: "سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك".
وفي 2/ 494 (الحلبي) من حديثه أيضًا بنحو ما عند الترمذي، وأخرجه الدارمي في 19 - كتاب الاستئذان: 29 - باب كفارة المجلس 2/ 367 ح 2658 من حديث أبي برزة الأسلمي، قال: لما كان بآخرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المجلس، فأراد أن يقوم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقالوا: يا رسول الله! إنك لتقول الآن كلامًا ما كنت تقوله فيما خلا؟ فقال: "هذا كفارة لما يكون في المجلس".
وانظر الأذكار للنووي: 15 - كتاب الأذكار المتفرقة: 4 - باب ما يقوله عند القيام من المجلس ص 314 وعمل اليوم والليلة للنسائي ح 426، 427، 428، 429، 430.
خرجه أبو داود
(1)
.
• واستحب جماعة من السلف الزيادة على قوله: أستغفر الله وأتوب إليه.
• فروى عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال له: قل يا حُميق! قل توبة من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
• وسئل الأوزاعي عن الاستغفار أيقول: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه؟ فقال: إن هذا لَحَسَنٌ ولكن يقول: رب! اغفر لي حتى يتم الاستغفار.
[أفضل أنواع الاستغفار]:
• وأفضل أنواع الاستغفار:
أن يبدأ العبدُ بالثناء على ربه.
ثم يثنّى بالاعتراف بذنبه.
ثم يسأل الله المغفرة.
كما في حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "سيّد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم! أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت".
خرجه البخاري
(2)
.
• وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله!
(1)
أخرجه أبو داود في السنن: 32 - كتاب الحدود: 8 - باب التلقين في الحد 4/ 542 - 544 ح 4380 من حديث أبي أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد أعترف اعترافًا، ولم يوجد معه متاع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما إخالك سرقت؟ " قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فأمر به فقطع وجيء به، فقال: استغفر الله وتب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم تب عليه" ثلاثًا. وإسناده ضعيف، وانظر ضعيف أبي داود 943. وانظره عند النسائي ح 4877 وابن ماجه ح 2597 وأحمد في المسند 5/ 293 (الحلبي).
(2)
أخرجه البخاري في: 80 - كتاب الدعوات: 2 - باب أفضل الاستغفار 11/ 97 - 98 ح 6306 من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه بالنص المذكور زاد في آخره:
قال: ومن قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي؛ فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح؛ فهو من أهل الجنة".
وأخرجه كذلك في: 16 - باب ما يقول إذا أصبح 11/ 130 ح 6323.
علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل: اللهم! إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم
(1)
".
• ومن أنواع الاستغفار أن يقول العبد: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ وأتوبُ إليه".
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ من قاله غفر له وإن كان فر من الزحف.
خرجه أبو داود والترمذي
(2)
.
• وفي كتاب اليوم والليلة للنسائي عن خَبَّاب بن الأرَتّ، قال: قلتُ: يا رسول الله! كيف نستغفر!؟ قال: "قل: اللهم! اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك التواب الرحيم"
(3)
.
• وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال.
"ما رأيت أحدًا أكثر أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(4)
".
• وفي السنن الأربعة عن ابن عمر قال:
"إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس الواحد مائة مرة يقول:
(1)
أخرجه البخاري في: 10 - كتاب الأذان: 149 - باب الدعاء، قبل السلام 2/ 317 ح 834 بالنص المذكور. وطرفاه في 6326، 7388.
وأخرجه مسلم في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 13 - باب استحباب خفض الصوت بالذكر 4/ 2078 ح 48 - (2705).
كلاهما من حديث أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم.
وعند مسلم في إحدى رواياته: "ظلمًا كبيرًا".
(2)
أخرجه أبو داود في: 2 - كتاب الصلاة: 361 - باب الاستغفار 2/ 178 ح 1517.
والترمذي في: 49 - كتاب الدعوات: 118 - باب دعاء الضيف 5/ 568 ح 3577.
كلاهما من حديث بلال بن يسار بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف". وعقب الترمذي بقوله: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 511 - 512 و 2/ 117 - 118 بنحوه، وصححه على شرط الشيخين ورده الذهبي في شرط البخاري وأقره على شرط مسلم.
(3)
أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 332 ح 461.
(4)
ص 330 ح 454.
"رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التوابُ الغفور"
(1)
.
• وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"والله! إني لأستغفر الله وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"
(2)
.
• وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنه ليُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"
(3)
.
• وفي المسند عن حذيفة قال: قلت: يا رسول الله! إني ذَرِبُ اللسان، وإن عامّة ذلك على أهلي؟ فقال:"أين أنتَ من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرّة"
(4)
.
• وفي سنن أبي داود، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من أكثر من الاستغفار جعلَ الله له من كلِّ همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب"
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود في: 2 - الصلاة: 361 - باب الاستغفار 2/ 178 ح 1516 بهذا اللفظ والترمذي في: 49 - كتاب الدعوات: 39 - باب ما يقول إذا قام من المجلس 5/ 494 ح 3434 من حديث ابن عمر قال: كان يُعَدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد. . .".
وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن صحيح غريب وابن ماجه في: 33 - كتاب الأدب: 57 - باب الاستغفار 2/ 1253 ح 3814 نحو حديث أبي داود.
والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 148 ح 462 نحوه.
كلهم من رواية محمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر.
(2)
في: 80 - كتاب الدعوات: 3 - باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة 11/ 101 ح 6307.
(3)
في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 12 باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه 4/ 2075 ح 71 (2702).
وقوله: "ليغان على قلبي" قال في النهاية 3/ 403: الغين: الغيم، وغينت السماء تغان: إذا أطبق عليها الغيم، وقيل: الغين شجر ملتف.
أراد ما يغشاه صلى الله عليه وسلم من السهو الذي لا يخلو منه البشر؛ لأن قلبه أبدًا كان مشغولًا بالله تعالى؛ فإن عرض له وقتًا ما عارض بشرى يشغله من أمور الأمة والملة ومصالحهما عدَّ ذلك ذنبًا وتقصيرًا، فيفزع إلى الاستغفار.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 394، 396، 402 (الحلبي) بنحوه.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 510، 511 من وجهين وصححه على شرط البخاري ومسلم وأقره الذهبي. وانظر الإتحاف 5/ 57.
واللسان الذرب: هو الحاد السليط الفاحش كما أفاده الزبيدي.
(5)
أخرجه أبو داود في السنن: 2 - كتاب الصلاة: 361 - باب الاستغفار 2/ 178 - 179 ح 1518 لكن بلفظ: "من لزم الاستغفار
…
الحديث وهو في الضعيف من سنن أبي داود ح 327 وضعيف الجامع الصغير 5829.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كلَّ يوم ألف مرة". وذلك على قدر ديتي.
• وقالت عائشة رضي الله عنها: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا".
قال أبو المنهال: "ما جاور عبد في قبره مِنْ جَارٍ أحبَّ إليه من استغفار كثير".
* * *
[الاستغفار دواء الذنوب]:
• وبالجملة فدواء الذنوب الاستغفار.
• ورُوّينا من حديث أبي ذر مرفوعًا.
"إن لكل داء دواءٌ، وإن دواءَ الذنوب الاستغفار"
(1)
.
قال قتادة: إنَّ هذا القرآن يدلّكم على دَائِكم ودوائِكُم؛ فأما دَاؤكُم: فالذنوب، وأما دواءكم: فالاستغفار".
[و] قال بعضهم: "إنما معوّل المذنبين البكاءُ والاستغفارُ؛ فمن أهمته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار".
قال رياح القيسي: "لي نيف وأربعون ذنبًا؛ قد استغفرت الله لكل ذنب مائة ألف مرة".
[من أحوالهم في الاستغفار]:
• وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه، فإذا زلاته لا تجاوز ستًا
(2)
وثلاثين، فاستغفر لكل زلة مائة ألف مرة، وصلى لكل زلة ألف ركعة، وختم في كل ركعة منها ختمة، قال: ومع ذلك؛ فإني غيرُ آمن من سطوة ربي أن يأخذني بها وأنا على خَطَر عظيم من قبول التوبة.
ومن زاد أهتمامه بذنوبه؛ فربما تعلق بأذيال مَنْ قلّت ذنوبه يلتمس منهم الاستغفار.
• وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار ويقول: "إنكم لم تذنبوا".
• وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكتَّاب: "قولوا: اللهم! اغفر لأبي هريرة" فيؤَمِّن
(1)
أورده الديلمي في الفردوس 5/ 336 ح 5011 من حديث جابر. وانظر ضعيف الجامع الصغير 4720. ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 241 - 242 بسياقه عن أبي ذر - قوله - وصحح الحاكم والذهبي وقفه.
(2)
ا، ر:"ستة" وفيها خطأ نحوي بيّن.
على دعائهم.
قال بكر المزني: لو كان رجل يطوف على الأبواب كما يطوف المسكين يقول: استغفروا لي: لكان نوْلُه أن يُفْعلَ
(1)
.
ومن كثرت ذنوبه وسيئاته حتى فاقت العدد، والإحصاء فليستغفر الله مما علم الله؛ فإن الله قد علم كلَّ شيء وأحصاه، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}
(2)
وفي حديث شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أسألك من خير ما تَعْلَم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستَغْفِرُكَ لما تعلم؛ إنكَ أنْتَ عَلَّام الغُيُوبِ
(3)
".
• وفي هذا يقول بعضهم:
أستغفر الله مما يعلم اللّهُ
…
إن الشقي لَمَنْ لا يَرْحَمُ اللّهُ
مَا أحلم اللّهَ عمّن لا يراقبُهُ
…
كلٌّ مُسِيءٌ ولكنْ يَحْلُم اللّهُ
فَاسْتغِفرِ الله مما كانَ من زَلَلٍ
…
طُوبَى لمن كفَّ عما يكرهُ اللّهُ
طُوبَى لمن حَسُنَتْ منه سَرِيرَتهُ
…
طُوبَى لمن ينْتَهِى عما نَهَى اللّهُ
* * *
(1)
م: "قبوله" وهو تحريف.
(2)
سورة المجادلة: 6.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 7/ 123 (الحلبي) من رواية روح، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال: كان شداد بن أوس في سفر فنزل منزلًا، فقال لغلامه: ائتنا بالسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه، فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت؛ إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا كلمتي هذه فلا تحفظوها عليَّ، واحفظوا مني ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إذا كنز الناس الذهب والفضة فأكثروا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب" وأخرجه من وجه آخر في 4/ 125 بنحوه.
وأورده السيوطي في الدر المنثور 1/ 154 عن ابن سعد وابن أبي شيبة والخرائطي في الشكر.
وأبو نعيم في الحلية 1/ 266 - 267 من طرق ووجوه عديدة ورواه في 6/ 77 - 78 بسياق تامًا على نحو ما عند أحمد والسيوطي والطبراني في الكبير 7/ 279 ح 7135 و 287 - 288 ح 7157 و 293 - 294 ح 7175 - 7180 من وجوه عدة تامًا ومختصرًا والترمذي في السنن ح 4004.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 508 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي على شرط مسلم. وابن حبان في صحيحه 3/ 214 ح 1971
[السبب الثالث]:
• السبب الثالث
(1)
من أسباب المغفرة: التوحيد.
وهو السبب الأعظم.
فمن فقده؛ فقد المغفرة، ومن جاء به؛ فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
(2)
فمن جاء مع التوحيد بقُراب الأرض - وهو ملؤها، أو ما يقارب ملأها - خطايا؛ لقيه الله بقُرابها مغفرة لكنَّ هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاءَ غفر له، وإن شاء أخذَه بذُنُوبه، ثم كان عاقبته أن لا يُخَلَّد في النار، بل يُخْرَجُ منها ثم يُدْخَل الجنة.
قال بعضهم: الموحد لا يُلقى في النار كما يُلقى الكفار، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار.
فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلِّها، بقلبه ولسانه، وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرةَ ما سلَف من الذنوب كُلِّها، ومنْعَعُه من دخول النار بالكلية.
فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أَخرجت منه كُلَّ ما سوى الله محبةً، وتعظيمًا، وإجلالًا، ومهابةً، وخشيةً، ورجاءً، وتوكلًا.
وحينئذ تُحرَق ذنوبُه وخطاياه كُلُّها ولو كانت مثل زَبَد البحر، وربما قَلَبَتْهَا حَسَنَاتٍ كما سبق ذكره في تبديل السيئات حسنات؛ فإن هذا التوحيدَ هو الأُكسير الأعظم، فلو وُضع ذرة منه على جبال الذنوب والخطايا؛ لقلبها حسنات، كما في المسند وغيره، عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا إله إلا الله لا تترك ذنبًا ولا يسبقها عمل"
(3)
.
• وفي المسند عن شداد بن أوس وعبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه: "ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله" فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده، ثم قال:"الحمد لله، اللهم! بعثتني بهذه الكلمة، وأمَرْتَني بها، ووعدتني الجنة عليها، وإنك لا تخلف الميعاد"، ثم قال:
(1)
ب: "الثاني".
(2)
سورة النساء: 112.
(3)
ضعيف سنن ابن ماجه ص 306 ح 127.
"أبشروا؛ فإن الله
(1)
قد غَفَر لَكُم".
• قال الشبلي:
مَنْ ركن إلى الدنيا؛ أحرقته بنارها فصار رمادًا تذْرُوه الرياح!
ومن ركن إلى الآخرة؛ أحرقته نورها فصار ذهبًا أحمر يُنتفَع به!
ومن ركن إلى الله؛ أحرقه نور التوحيد فصار جوهرًا لا قيمة له!
إذا عَلِقَتْ نارُ المحبة بالقلب أحرقت منه كل شيء ما سوى الرب عز وجل، فطهُرَ القلب - حينئذ - من الأغيار، وصلح غَرسًا للتوحيد.
ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن
(2)
.
غَصَّني الشوقُ إليهم بريقي
…
وا حريقي في الهوى وا حريقي!
قد رماني الحب في لُج بَحْرٍ
…
فخذوا باللّه كفّ الغريقِ
حلَّ عندي حُبّكُم في شَغَافِي
…
حلَّ مني كلَّ عَقْدٍ وَثِيقِ
* * *
• فهذا آخر ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى من الأحاديث في هذا الكتاب.
ونحن بعون الله ومشيئته نذكر تتمة الخمسين حديثًا من الأحاديث الجامعة لأنواع العلوم، والحكم، والآداب، الموعود بها في أول الكتاب، واللّه الموفق للصواب، [وهو حسبنا ونعم الوكيل وإليه المآب].
* * *
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 124 (الحلبي) من طريق الحكم بن نافع أبو اليمان. عن إسماعيل بن عياش عن راشد بن داود، عن يعلي بن شداد بن أوس وعبادة بن الصامت حاضر يصدقه قال:
كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل فيكم غريب؟ - يعني أهل الكتاب -، فقلنا: لا يا رسول الله! فأمر بغلق الباب وقال: ارفعوا أيديكم
…
الحديث.
وأورده الهيثمي في المجمع 10/ 81 من حديث شداد وعبادة وقال: رواه أحمد، وفيه راشد بن داود وقد وثقه غير واحد، وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات.
يشير إلى أن الحديث حسن.
(2)
هذا نص حديث موضوع وقد تقدم ص 1087.
الحديث الثالث والأربعون
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتِ الفَرَائِضُ فلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ".
خَرَّجَهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
[تخريج الحديث]:
هذا الحديث الذي زعم بعض شرَّاح هذه الأربعين أن الشيخ رحمه الله تعالى أغفله فإنه مشتمل على أحكام المواريث، وجامعٌ لها.
وهذا الحديث خرجاه من رواية وُهَيْب، ورَوْح بن القاسم، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس
(2)
.
• وخرجه مسلم من رواية معمر، ويحيى بن أيوب، عن ابن طاوس، أيضًا
(3)
.
وقد رواه الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وغيرهم، عن ابن طاوس، عن أبيه مرسلًا من غير ذكر ابن عباس.
(1)
أخرجه البخاري في: 85 - كتاب الفرائض: 5 - باب ميراث الولد من أبيه وأمه 12/ 11 ح 6732 من رواية موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس وفيه:"فما بقي فهو. . .". وفي: 7 - باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن 12/ 16 ح 6735 من رواية مسلم بن إبراهيم، عن وهيب - به - بالنص السابق.
وفي: 9 - باب ميراث الجد مع الأب والإخوة 12/ 18 ح 6737 من رواية سليمان بن حرب عن وهيب - به - بالنص الذي أورده ابن رجب.
وفي: 15 - باب ابني عم أحدهما أخ للأم، والآخر زوج وقال علي: للزوج النصف وللأخ من الأم السدس وما بقي بينهما نصفان 12/ 27 ح 6745 من رواية أمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم العنبري، عن عبد الله بن طاوس - به - وفيه:"فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر".
وأخرجه مسلم في صحيحه: 23 - كتاب الفرائض: 1 - "باب ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر 3/ 1233 ح 2 - (1615) من رواية عبد الأعلى بن حماد النرسي، عن وهيب - به - بنص الموضع الأول عند البخاري.
ومن رواية أمية بن بسطام العيشي - به - بنص الموضع الأخير عند البخاري.
(2)
قد بينا تفصيل هذا.
(3)
عقب الروايتين السابقتين، ونص رواية معمر:"اقسموا المال بين أهل الفرائض، على كتاب الله، فما تركت الفرائض. . .".
ورجح النسائي إرساله
(1)
.
وقد اختلف العلماء في معنى قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها".
فقالت طائفة: المراد بالفرائض: الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى، والمراد: أعطوا الفرائضَ المقدرة لمن سماها الله لهم، فما بقى بعد هذه الفروض فيستحقه أَوْلَى الرجال.
• والمراد بالأولى:
الأقرب؛ كما يقال: هذا يلي هذا، أي: يقرب منه، فأقرب الرجال هو: أقرب العصبات؛ فيستحق الباقي بالتعصيب.
وبهذا المعنى فسر الحديثَ جماعةٌ من الأئمة منهم: الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه نقله عنهما إسحَق بنُ منصور.
وعلى هذا: فإذا اجتمع بنتٌ وأختٌ وعمٌّ أو ابنُ عم أو ابن أخ فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت: العصبة.
وهذا قول ابن عباس وكان يتمسك بهذا الحديث ويُقرّ بأن الناس كُلّهم على خلافه.
• وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضًا.
وقال إسحاق: إذا كان مع البنت والأخت عصبة؛ فالعصبة أولى، وإن لم يكن معها أحد؛ فالأخت لها الباقي.
وحكى عن ابن مسعود أنه قال: البنت عصبة من لا عصبة له.
وردّ بعضهم هذا وقال: لا يصحّ عن ابن مسعود.
وكان ابن الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس، ثم رجعا عنه.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الأخت مع البنت عَصَبة لها ما فضل، منهم: عمر، وعليّ، وعائشة، وزيد، وابنُ مسعود، ومعاذ بن جبل: وتابَعهُم سائر العلماء.
• وروى عبد الرزاق:
(2)
أنبأنا ابن جريج: سألت ابن طاوس، عن ابنة وأخت، فقال: كان أبي يذكر عن ابن عباس، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها شيئًا، وكان طاوس لا يرضى بذلك الرجل، قال: "وكان أبي يشكّ فيها، ولا
(1)
في الكبرى 4/ 71 - 72 ح 6331 و 6332.
(2)
في المصنف 10/ 260 ح 19038.
يقول فيها شيئًا، وقد كان يسئل عنها".
[مراد طاووس]:
• والظاهر - واللّه أعلم - أن مراد طاووس هو هذا الحديث؛ فإن ابن عباس لم يكن عنده نص صريح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميراث الأخت مع البنت، إنما كان يتمسك بمثل عموم هذا الحديث. وما ذكره طاووس أن ابن عباس رواه عن رجل، وأنه لا يرضاه، فابن عباس أكثر رواياته للحديث عن الصحابة، والصحابة كلهم عدول قد رضي الله عنهم، وأثنى عليهم؛ فلا عبرة بعد ذلك بعدم رضا طاووس.
[قضاء أبي موسى في بنت وبنت ابن وأخت]:
• وفي صحيح البخاري، عن أبي قيس الأودي، عن هُزَيْل بن شرحبيل قال:"جاء رجلٌ إلى أبي موسى، فسأله عن ابنة، وابنة ابن، وأختٍ لأب وأم"، فقال:"للابنة النصف، وللأخت ما بقي" وائت ابن مسعود فسيتابعني؛ فأتى ابنَ مسعود، فذكر ذلك له، فقال: "لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السُّدُس تكملةَ الثُّلُثينِ، وما بقي فللأخت، قال: فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحَبْرُ
(1)
فيكُم".
[قضاء معاذ في بنت وأخت]:
وفيه أيضًا: عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد قال:"قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: النصف للابنة، والنصف للأخت".
ثم ترك الأعمش ذكر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يذكره
(2)
.
• وخرجه أبو داود من وجه آخر عن الأسود، وزاد فيه: "ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ حي
(3)
".
(1)
أخرجه البخاري في 85 - كتاب الفرائض: 8 - باب ميراث ابنة ابن مع ابنة 12/ 17 ح 6736 بألفاظ مقاربة.
وفي: 12 - باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة 12/ 24 ح 6742 شطره الأخير.
(2)
رواه البخاري في الموضع السابق قبل الحديث المذكور بنحوه أيضًا.
(3)
أخرجه أبو داود في: 13 - كتاب الفرائض: 4 - باب ما جاء في ميراث الصلب 3/ 316 ح 2893 بإسناد صحيح وانظر صحيح سنن أبي داود 2/ 561 ح 2516.
[استدلال ابن عباس بآية الكلالة]:
• واستدل ابن عباس لقوله بقول الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (1)، وكان يقول: أأنتم أعلم أم الله؟ يعني أن الله لم يجعل لها النصفَ؛ إلا مع عدم الولد، وأنتم تجعلون لها النصفَ مع الولد وهو البنت.
[والصواب]:
• والصواب قول عمر والجمهور، ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك؛ لأن المراد بقوله:{فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} بالفَرْضِ، وهذا مشروطٌ بعدم الولد بالكلية؛ ولهذا قال بعده:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (2) يعني بالفرض والأخت الواحدة؛ إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى، وكذلك الأختان فصاعدًا، إنما يستحقون الثلثين مع عدم وجود الولد: الذكر والأنثى.
• فإن كان هناك ولد؛ فإن كان ذكَرًا؛ فهو مقدَّمٌ على الأخوة مطلقًا ذكورهم وإناثهم.
• وإن لم يكن هناك ولد ذكر بل أنثى؛ فالباقي بعد فَرْضِهَا يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق.
• فإذا كانت الأختُ لا يسقطها أخوها فكيف يسقطها من هو أبعد منه من العصبات كالعم وابنه؟.
• وإذا لم يكن العصبة الأبعد مُسقِطًا لها فيتعين تقديمُها عليه؛ لامتناع مشاركته لها.
• فمفهوم الآية: أن الولدَ يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض، وهذا حق؛ ليس مفهومها أن الأخت تسقط بالبنت، ولا تأخذُ ما فضَلَ من ميراثها؛ يدُلُّ عليه قوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (3).
وقد أجمعت الأمة على أن الولد الأنثى لا يمنع الأخ أن يرث من مال أخيه (4) ما فضل عن البنت أو البنات. وإنما وجود الولد، والأنثى يمنع أن يحوز الأخُ ميراثَ أخيه (5) كلَّه.
(1 - 3) سورة النساء: 176.
(4 - 5) م: "أخته".
• فكما أن الولَد إنْ كان ذكرًا منع الأخَ من الميراث، وَإِن كان أنثى لم يمنعه الفاضل عن ميراثها، وإن منعه حيازةَ الميراث، فكذلك الولد إن كان ذكرًا، منع الأختَ الميراثَ بالكليّة، وإن كان أنثى منعت الأخت أن يفرض لها النصف، ولم تمنعها أن تأخذ ما فضَل عن فرضها والله أعلم.
* * *
[فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر]:
وأما قوله: "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر".
• فقد قيل: إن المرادَ به العصبةُ البعيدُ خاصة كبني الإخوة، والأعمام، وبنيهم، دون العصبة القريب، بدليل أن الباقي بعد الفروض يشترك فيه الذكر والأنثى، إذا كان العصبةُ قريبًا كالأولاد والإخوةِ بالاتفاق، فكذلك الأخت مع البنت بالنص الدال عليه.
وأيضًا؛ فإنهُ يُخَضُّ منه هذه الصورة بالاتفاق، وكذلك يُخَصُّ منه المعتقَة مولاة النعمة بالاتفاق، فتُخَصُّ منه صورةُ الأخت مع البنت بالنص.
* * *
• وقالت طائفة آخرون
(1)
.
المراد بقوله: "ألحقوا الفرائضَ بأهلها" ما يستحقه ذوو الفروض في الجملة، سواء أخذوه بفرض أو بتعصيب طرأ لهم.
والمراد بقوله: "فما بقى فلأولى رجل ذكر": العصبةُ الذي ليس له فرض بحال ويدل عليه أنه قد رُوِيَ الحديثُ بلفظ آخر وهو: "أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله"
(2)
؛ فدخل في ذلك كل من كان من أهل الفروض بوجه من الوجوه.
وعلى هذا - فما تأخذه الأخت مع أخيها، أو ابن عمها، إذا عصَّبها هو داخلٌ في هذه القسمة؛ لأنها من أهل الفرائض في الجملة.
فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت.
* * *
(1)
م: "أخرى".
(2)
كما سبق أن أشرنا إلى هذه الرواية في صحيح مسلم ص 1177.
• وقالت فرقة أخرى:
المراد بأهل الفرائض في قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، وقوله:"اقسموا المالَ بين أهل الفرائض" جملة من سمّاه الله في كتابه من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلّهم؛ فإن كل ما يأخذه الورثة؛ فهو فرضٌ فرضَهُ الله لهم، سواء كان مقدَّرًا أو غَيْرَ مقدّر؛ كما قال بعد ذكر ميراث الوالدين والأولاد:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}
(1)
وفيهم ذو فرض وعصبة، وكما قال:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}
(2)
. وهذا يشملُ العصبات وذوي الفروض؛ فلذلك قوله: "اقسموا الفرائض بين أهلها على كتاب الله" يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على ما في كتاب الله.
فإن قسم على ذلك ثم فضل منه شيء فيخْتَصُّ
(3)
بالفاضل؛ أقرب الذكور من الورثة.
ولذلك - إن لم يوجد في كتاب الله تصريحٌ بقسمته بين من سماه الله من الورثة: فيكون؛ حينئذٍ المال لأَوْلَى رجل ذكر منهم.
* * *
[هذا الحديث بيّن قسمة المواريث]:
• فهذا الحديث مبيّن لكيفية قسمة المواريث المذكورة في كتاب الله بين أهلها، ومبيّن لقسمة ما فضل من المال عن تلك القسمة مما لم يُصَرِّحْ به في القرآن من أحوال أولئك الورثة وأقسامهم، ومبين أيضًا لكيفية توريث بقية العصَبات الذين لم يُصَرَّح بتسميتهم في القرآن.
[وإذا ضم إلى آيات القرآن في ذلك]:
• فإذا ضُمَّ هذا الحديث إلى آيات القرآن انتظم في
(4)
ذلك كله معرفة قسمة المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات.
• ونحن نذكر حكم توريث الأولاد والوالدين، كما ذكره الله تعالى في أول
(5)
(1)
سورة النساء 11.
(2)
سورة النساء: 7.
(3)
م: "فنخص".
(4)
ليست في م.
(5)
ليست في ب.
سورة النساء، وحكم توريث الإخوة من الأبوين أو من الأب، كما ذكره الله تعالى في آخر السورة المذكورة.
* * *
[توريث الأولاد]:
• فأما الأولاد؛ فقد قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(1)
فهذا حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم: أنه يكون للذكر مثلُ حظ الأنثيين، ويدخلُ في ذلك: الأولادُ وأولاد البنين باتفاق العلماء، فمتى اجتمع من الأولاد إخوة وأخوَات، اقتسموا الميراثَ على هذا الوجه عند الأكثرين.
[بنت أو أكثر مع ابن ابن وأخته]:
• فلو كان هناك بنتٌ للصلب أو ابنتان وكان هناك ابنُ ابنٍ مع أخته اقتسما الباقي أثلاثًا؛ لدخولهم في هذا العموم.
هذا قول جمهور العلماء، منهم عمر رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه، وزيدٌ رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنه.
• وذهب إليه عامةُ العلماءِ والأئمةُ الأرْبعة.
• وذهب ابنُ مسعودٍ إلى أن الباقي بعد استكمال بنات الصلب الثلثين كلُّه لابن الابن، ولا يعصّبُ أختَه، وهو قول علقمة، وأبي ثور، وأهل الظاهر، فلا يعصِّب الولدُ عندهم أُخْتَه؛ إلا أن يكون لها فريضةٌ لو انفردتْ عنه.
• وكذلك قالوا فيما إذا كان هناك بنتٌ وأولادُ ابنٍ ذكور وإناث: "إن الباقي لجميع ولد الابن: للذكر منهم مثلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ".
• وقال ابن مسعود في بنت وبنات ابن وبني ابن: للبنت النصف، والباقي بين ولد الابن للذكر مثل حظ الأنثيين؛ إلا أن تزيد المقاسمة بناتِ الابن على السُّدُس فيفرضُ لهن السُّدُسُ، ويجعل الباقي لبني الابن وهو
(2)
قول أبي ثَوْر
(3)
وأما الجمهور فقالوا: النصف الباقي لولد الابن؛ للذكر مثلُ حظ الأنثيين عملًا بعموم الآية.
• وعندهم أن الولد وإن نزل يعصب من في درجته بكل حال، سواء كان للأنثى
(1)
سورة النساء: 11.
(2)
م: "وهذا".
(3)
م: "أبي ذر".
فرضٌ بدونه أو لم يكنْ.
ولا يعصّب من هو
(1)
أعلى منه من الإناث؛ إلا بشرط أن لا يكون لها فرض بدونه، ولا يعصِّبُ مَن [هو] أسفل منه بكل حال، ثم قال تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}
(2)
فهذا حكم انفراد الإناث من الأولادِ: أنَّ للواحدة النصفَ، ولا فوق الاثنتين الثلثان.
• ويدخل في ذلك بنات الصُّلب، وبناتُ الابن عند عدَمهِنّ، فإن اجتمعن، فإن استكملَ بناتُ الصُّلْبِ الثلثين، فلا شيء لبنات الابن المنفردات، وإن لم يستكمل البناتُ الثلثين، بل كان ولدُ الصلب بنتًا واحدة
(3)
ومعها بنات ابن؛ فللبنت النصف؛ ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين، لئلا يزيد فرضُ البنات على الثلثين.
• وبهذا قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره
(4)
.
وهو قول عامة العلماء؛ إلا ما روي عن أبي موسى، وسلمان بن ربيعة، أنه لا شيء لبنات الابن.
• وقد رجع أبو موسى إلى قول ابن مسعود لمَّا بلغه قولُه في ذلك
(5)
.
• وإنما أشكل على العلصاء حكم ميراث البنتين؛ فإن لهما الثلثين بالإجماع كما حكاه ابن المنذر وغيره.
• وما حكى فيه عن ابن عباس: أن لهما النصف؛ فقد قيل: إن إسناده لا يصح، والقرآن يدل على خلافه، حيث قال تعالى:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}
(6)
.
فكيف تورَّثُ أكثر من واحدة النصف؟.
[بنت وبنت ابن وبنتان]:
• وحديث ابن مسعود في توريث البنت النصفَ، وبنتِ الابن السدُسَ، تكملةَ الثلثين يدل على توريث البنتين الثلثين بطريق الأولى.
(1)
ليس في "ا" ولا في ب.
(2)
سورة النساء: 11.
(3)
ليست في ب.
(4)
ص: 1179.
(5)
راجع البخاري ح 6736 وأبا داود ح 2890 وابن ماجه 2721.
(6)
سورة النساء: 11.
• وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورَّث ابنتي سعد بن الربيع الثلثين
(1)
.
ولكن أشكل فهم ذلك من القرآن لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}
(2)
.
فلهذا اضطرب الناس في هذا.
• وقال كثير من الناس فيه أقوالًا مستبعدة
(3)
.
• ومنهم من قال: استُفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين؛ فإنه قال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}
(4)
.
• واستفيد حكم ميراث أكثر من الأُختين من حكم ميراث ما فوق الاثنتين.
• ومنهم من قال: البنت مع أخيها لها الثلث بنص القرآن، فلأن يكونَ لها الثُّلُثُ مع أختها أولى.
• وسلك بعضهم مسلكًا آخر:
وهو أن الله تعالى ذكر حُكْمَ توريثِ اجتماع الذكور والإناث من الأولاد، وذكر حكم توريث الإناث إذا انفردن عن الذكور، ولم ينصَّ على حكم انفراد الذكور منهم عن الإناث، وجعل حكم الاجتماع أن الذكر له مثلُ حظ الأنثيين، فإن اجتمع مع الابن ابنتان فصاعدًا؛ فله مثل نصيب اثنتين منهن.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 352 (الحلبي) من طريق زكريا بن عدي، عن عبيد الله، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال:
"جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا ولا ينكحان؛ إلا ولهما مال، قال: فقال: يقضي الله في ذلك؛ فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقى؛ فهو لك".
وأخرجه الترمذي في: 30 - كتاب الفرائض: 3 - باب ما جاء في ميرات البنات 4/ 414 ح 2092 من طريق عبد بن حميد، عن زكريا بن عدي - به - بنحوه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه؛ إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل. وقد رواه شريك أيضًا، عن عبد الله بن محمد بن عقيل. ورواه أبو داود في 13 - كتاب الفرائض: 4 - باب ما جاء في ميراث الصلب 3/ 316 ح 2891، 2892 من طريق ابن السرح، عن ابن وهب، عن داود بن قيس وغيره من أهل العلم، عن عبد الله بن محمد بن عقيل - به - نحوه وابن ماجه في: 23 - الفرائض: 2 - فرائض الصلب 2/ 908 - 909 ح 2720.
(2)
سورة النساء: 11.
(3)
م: "متعددة".
(4)
سورة النساء: 176.
وإن لم يكن معه إلا ابنة واحدة؛ فله الثلثان ولها الثلث.
وقد سمى الله ما يستحقه الذكر حظ الأنثيين مطلقًا، وليس الثلثان حظّ الأنثيين في حال اجتماعهما مع الذكر؛ لأن حظَّهُمَا؛ حينئذ النِّصْفُ، فتعين أن يكون الثلثان حَظَّهُمَا حالَ الانفراد.
* * *
[انفراد الذكور]:
• وبقى ها هنا قسم ثالث لم يصرح القرآن بذكره وهو حكم انفراد الذكور من الولَدِ.
وهذا مما يمكن إدخاله في حديث ابن عباس: "فما بقي فلأَوْلَى رَجُلٍ ذكر" فإن هذا القسم قد بقي، ولم يصرح بحكمه في القرآن؛ فيكون المال حينئذٍ لأقرب الذكور من الولد.
والأمر على هذا؛ فإنه لو اجتمع ابنٌ وابنُ ابنٍ؛ لكانَ المالُ كُلُّه للابن.
ولو كان ابن ابن وابن ابن ابن؛ لكان المال كله لابن الابن على مقتضى حديث ابن عباس رضي الله عنهما والله أعلم.
* * *
[ميراث الأبوين]:
ثم ذكر تعالى حكم ميراث الأبوين فقال تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}
(1)
.
فهذا حكم ميراث الأبوين إذا كان للولد المتوفي ولدٌ، وسواء في الولد الذكر والأنثى، وسواء فيه ولد الصلب، وولد الابن، هذا كالإجماع من العلماء.
وقد حكى بعضهم عن مجاهد فيه خلافًا.
• فمتى كان للميت ولد أو ولدُ ابن وله أبوان، فلكل واحد من أبويه السدس، فرضًا، ثم إن كان الولد ذكرًا، فالباقي بعد سُدُسَيِ الأبوين له.
وربما دخل هذا في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألحقوا الفرائضَ بأهْلِهَا فَمَا بَقِي فلأولى رَجُلٍ ذَكَرٍ".
(1)
سورة النساء: 11.
• وأقرب العصبات: الابن.
• وإن كان الولد أنثى، فإن كانتا اثنتين فصاعدًا فالثلثان لهن، ولا يَفضلُ من المال شيء.
• وإن كانت بنتًا واحدةً؛ فلها النصف، ويفضُلُ من المال سُدُسٌ آخر؛ فيأخذُه الأب بالتعصيب؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"ألْحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر".
فهو أولى رجل ذكر عند فقد الابن؛ إذ هو أقرب من الأخ وابنه، والعم وابنه.
* * *
• ثم قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}
(1)
يعني إذا لم يكن للميت ولد وله أبوان يرثانه، فلأمه الثلث.
فيفهم من ذلك: أن الباقي بعد الثلث للأب؛ لأنه أثبَتَ ميراثه لأبويه، وخَصَّ الأمَّ من الميراث بالثلث؛ فعلم أن الباقي للأب ولم يقل: فللأب مِثْلا ما
(2)
لِلأُم؛ لئلا يوهم أن اقتسامهما المال هو بالتعصيب، كالأولاد والإخوة إذا كان فيهم ذكور وإناث.
[العمريتان]:
• وكان ابن عباس يتمسك بهذه الآية بقوله في المسألتين الملقبتين بالعمريتين؛ وهما زوج وأبوان وزوجة؛ فإن عمر قضى: أن الزوجين يأخذان فرضهما من المال، وما بقي بعد فرضهما في المسئلتين فللأم ثلُثٌ والباقي للأب.
وتابعه على ذلك جمهور الأمة.
[رأي ابن عباس]:
وقال ابن عباس: بل للأم الثلث كامِلًا تَمسّكًا بقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}
(3)
.
[وقد يجاب عن ذلك]:
• وقد قيل في جواب هذا: إن الله إنما جعل للأم الثلث بشرطين.
(1)
سورة النساء: 11.
(2)
ب: "مثل ما للأم" وفيه تحريف واضح. وقد ضبطت في أ، ل بكسر الميم وسكون المثلثة كما ضبطناها.
(3)
سورة النساء: 11.
• أحدهما: أن لا يكون للولد المتوفي ولد.
والثاني: أن يرثه أبواه، أي أن ينفرد أبواه بميراثه، فما لم ينفرد أبواه بميراثه فلا تستحق الأم الثلث؛ وإن لم يكن للمتوفي ولد.
* * *
[ابن رجب وجواب لم يسبق به]:
• وقد يقال - وهو أحسن -: إن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي مما ورثه الأبوان، ولم يقل:"فلأمه الثلث مما ترك" كما قال في السدس، فالمعنى: أنه إذا لم يكن له ولد وكان لأبويه من ماله ميراثٌ؛ فللأم ثُلُثُ ذلك الميراث الذي يختص به الأبوان، ويبقى الباقي للأب.
ولهذا السر - والله أعلم - حيث ذكر الله الفروضَ المقدرةَ لأهلها قال فيها: مما ترك أو ما يدل على ذلك كقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
(1)
ليبين أن ذا الفرض حقه ذلك الجزء المفروض المقدّر له من جميع المال بعد الوصايا والديون.
وحيث ذكر ميراث العصبَات أو ما يقتسمه
(2)
الذكور والإناث على وجه التعصيب، كالأولاد والإخوة لم يقيِّدْهُ بشيء من ذلك؛ ليبين أن المال المقتسَمَ بالتعصيب ليس هو المالَ كُلّه، بل تارة يكون جميعَ المال، وتارةً يكون هو الفاضل عن الفروض المفروضة المقدَّرة، وهنا لما ذكر ميراثَ الأبوين من ولدهما الذي لا ولد له، ولم يكن اقتسامهما المال بالفرض المحض كما في ميراثها مع الولد، ولا كان بالتعصيب المحض الذي يُعَصِّبُ فيه الذكرُ الأنثى، ويأخذ مثلي
(3)
ما تأخذه الأنثى؛ بل كانت الأم تأخذ ما تأخذُه بالفرض، والأبُ يأخذ ما يأخذُه بالتعصيب:
• وقال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}
(4)
يعني أن القدْر الذي يستحقه الأبوان من ميراثه تأخذ الأم ثلثه فرضًا، والباقي يأخذه الأب بالتعصيب.
وهذا مما فتح الله به، ولا أعلم أحدًا سبق إليه ولله الحمد والمنة.
* * *
(1)
سورة النساء: 12.
(2)
م: "تقتسمه".
(3)
"ا": "مثلًا" وهو خطأ نحوي.
(4)
سورة النساء: 11.
[فإن كان له إخوة فلأمه السدس]:
• ثم قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
(1)
.
يعني: للأمّ السدُس مع الإخوة من جميع التركة الموروثة التي تقتسمها الورثة، ولم يذكر هنا ميراث الأب مع الأم، ولا شك أنه إذا اجتمع أم وإخوة ليس معهم أب؛ فإن للأم السُّدُسَ، والباقي للإخوة، ويحجبها الأخوان فصاعدًا عند الجمهور.
• وأما إن كان مع الأم والأخوة أب؛ فقال الأكثرون: يحجُبُ الإخوة الأمّ
(2)
ولا يرثون.
وروي عن ابن عباس: أنهم يرثون السدُس الذي حَجبُوا عنه الأم بالفرض، كما يرث ولد الأم مع الأم بالفرض.
• وقد قيل: إن هذا مبني على قوله: إن الكلالة من لا ولد له خاصة، ولا يشترط للكلالة فَقْدُ الوالد؛ فيرثُ الإخوة مع الأب بالفرض.
ومن العلماء المتأخرين من قال: "إذا كان الإخوه محجوبين بالأب؛ فلا يحجبون الأم عن شيء، بل لها حينئذٍ الثلث".
ورجحه الإمام أبو العباس بن تيمية [رحمة الله عليه].
وقد يؤخذ من عموم قول عمر وغيره من السلف من لا يرث لا يحجب
(3)
.
• وقد قال نحوه أحمد والخرقي، لكن أكثر العلماء يحملون ذلك على أن المراد: مَنْ ليس له أهلية الميراث بالكية كالكافر والرقيق، دون من لا يرث لِانْحِجَابِةِ بمن هو أقرب منه والله أعلم.
• وقد يشهد للقول بأن الإخوةَ إذَا كانوا محجُوبِين لا يَحْجُبُون الأُمَّ: أنَّ الله تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}
(4)
ولم يذكر الأب؛ فدل على أن ذلك حكم انفراد الأم مع الإخوة، فيكون الباقي بعد السدس كُلُّه لهم.
وهذا ضعيف؛ فإن الإخوة قد يكونون من أم؛ فلا يكون لهم سوى الثلث والله أعلم.
(1)
سورة النساء: 11.
(2)
م: "الأب"، ب:"الأخوة تحجب الأم".
(3)
م: "من لا يرث عولًا لا يحجب".
(4)
سورة النساء: 11.
[الجد والجدة]:
واعلم أن الله تعالى ذَكَر حُكْم ميراثِ الأبوين، ولم يذكر الجدّ ولا الجدّة.
فأمّا الجدّة:
فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنه ليس لهما في كتاب الله شيء.
وقد حكى بعضُ العلماء الإجماعَ على ذلك، وأن فرضَها إنما ثبت بالسنة.
• وقيل: إن السدسَ طُعْمَةٌ أطعمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس بفرض.
وكذا روي عن ابن مسعود، وسعيد بن المسيب.
• وقد روي عن ابن عباس من وجوه فيها ضعف، أنها بمنزلة الأم عند فقد الأم، ترث ميراث الأم؛ فترث الثلث تارة، والسدس أخرى.
وهذا شذوذ.
ولا يصح إلحاق الجدّة بالجدّ؛ لأن الجدّ عصبة يدلى بعصبة، والجدة ذات فرض؛ تدلى بذات فرض؛ فضعفت.
• وقد قيل: إنه ليس لها فرضٌ بالكلية وإنما السُّدُسُ طُعْمَةٌ أطعمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا قالت طائفة ممن يرى الردّ على ذوي الفروض: إنه لا يُرَدُّ على الجدّة؛ لضعف فرضها، وهو رواية عن أحمد.
• وأما الجد: فاتفق العلماء على أنه يقوم مقام الأب في أحواله المذكورة من قبل، فيرث مع الولد السُّدُسَ بالفرض، ومع عدم الولد يرث بالتعصيب، وإن بقى شيءٌ مع إناث الولد أخذه بالتعصيب أيضًا؛ عملًا بقوله:"فما أبقت الفرائض فلأولى رَجُلٍ ذَكر" ولكن اختلفوا إذا اجتمع أم وجد مع أحد الزوجين، فروِي عن طائفة من الصحابة، أن للأم ثلثَ الباقي كما لو كان معها الأبُ كما سبق، روى ذلك عن عمر وابن مسعود - كذا نقله بعضهم.
• ومنهم من قال: إنما رُوي عن عمر، وابن مسعود في زوج وأم وجدّ: أن للأم ثلثَ الباقي.
• وروي عن ابن مسعود رواية أخرى: أن النصف الفاضل بين الجدّ والأم نصفان.
• وأمّا في زوجة وأم وجد؛ فروي عن ابن مسعود رواية شاذة أن للأم ثلث الباقي.
• والصحيح عنه كقول الجمهور، أن لها الثلث كاملًا.
وهذا يشبه تفريق ابن سيرين في الأم مع الأب؛ أنه إن كان معهما زوج؛ فللأم ثلث الباقي، وإن كان معهما زوجة؛ فللأم الثلث.
• وجمهور العلماء على أن الأم لها الثلُث مع الجد مطلقًا، وهو قول على وزيدٍ وابنِ عباس.
* * *
[الأم مع الأب والجد]:
• والفرق بين الأم مع الأب ومع الجد: أنها مع الأب يشملهما اسم واحد، وهما في القرب سواء إلى الميت؛ فيأخذ الذكر منهما مثل حظ الأنثى مرتين
(1)
، كالأولاد والإخوة.
• وأما الأم مع الجد فليس يشملها اسمٌ واحدٌ، والجد أبعد من الأب؛ فلا يلزم مساواته به في ذلك.
[الجد والإخوة]:
• وأما إن اجتمع الجدّ مع الإخوة فإن كانوا لأمٍّ سقطوا به؛ لأنهم إنما يرثون من الكَلالة، والكَلالة "مَنْ لا وَلد له ولا والد"؛ إلا روايةً شذت عن ابن عباس.
وأما إن كانوا لأبٍ أو لأبوين، فقد اختلف العلماء في حكم ميراثهم قديمًا وحديثًا.
فمنهم من أسقط الإخوة بالجد مطلقًا، كما يسقطون بالأب؛ وهذا قولُ الصِّدِّيق رضي الله عنه، ومعاذٍ، وابن عباسٍ وغيرهم.
واستدلوا بأن الجد أبٌ في كتاب الله عز وجل؛ فيدخل في مسمى الأب في المواريث، كما أن ولد الولد ولد، ويدخل في مُسَمَّى الولد عند عدم الولد بالاتفاق، وبأن الإخوة؛ إنما يرثون مع الكلالة فيحجبهم الجدّ كالإخوة من الأب
(2)
؛ وبأن الجد أقوى من الإخوة؛ لاجتماع الفرض والتعصيب له من جهة واحدة، فهو كالأب، وحينئذ فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"فما بقي فلأَوْلى رجلٍ ذكر"
(1)
م: "الأنثيين".
(2)
"ا": "الأبوين"، م:"من الأم".
ومنهم من شَرَّكَ بين الإخوة والجدّ، وهو قول كثير من الصحابة، وأكثر الفقهاء بعدهم على اختلاف طويل بينهم في كيفية التشريك بينهم في الميراث.
• وكان من السلف مَنْ يتوقف في حكمهم، ولا يُجيبُ فيهم بشيء؛ لاشتباه أمرهم، وإشْكاله.
ولولا خشية الإطالة؛ لبسطنا القول في هذه المسئلة، ولكن ذلك يؤدي إلى الإطالة جدًا.
* * *
[ميراث الإخوة والكلالة]:
• وأما حكم ميراث الإخوة للأبوين، أو للأب؛ فقد ذكره الله تعالى في آخر سورة النساء في قوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}
(1)
والكلالة مأخوذة من تَكَلُّل النسَب، وإِحاطته بالميت، وذلك يقتضي انتفاءَ الانتساب مطلقًا من العمودين: الأعلى والأسفل.
• وتنصيصه سبحانه وتعالى على انتفاء الولد، تنبيه على انتفاء الوالد بطريق الأَولى؛ لأن انتسابَ الولد إلى والده أظهر من انتسابه إلى ولده؛ فكان ذكر عدم الولد تنبيهًا على عدم الوالد بطريق الأولى.
• وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الكَلالَة: مَنْ لا ولد له ولا والد. وتابعه جمهور الصحابة، والعلماء بعدهم.
وقد روى ذلك مرفوعًا من مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
خرجه أبو داود في المراسيل
(2)
.
• وخرجه الحاكم من رواية عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا وصححه
(3)
.
(1)
سورة النساء: 176.
(2)
المراسيل ص 341 ط. الأزهر، 58 - باب الكلالة ص 194 ط. بيروت.
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 336 من رواية أبي النضر الفقيه، عن أحمد بن نجدة، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن يحيى بن آدم، عن عمار بن زريق، عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن،
وَوَصْلُهُ بذكر أبي هريرة ضعيف.
فقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}
(1)
:
يعني إذا لم يكن للميت ولد بالكلية، لا ذكر ولا أنثى؛ فللأخت حينئذ: النصف مما ترك فَرْضًا.
ومفهوم هذا: أنه إذا كان له وَلَدٌ فليس للأخْتِ النِّصْفُ فرضًا.
ثم إنما كان الولد ذكرًا؛ فهو أولى بالمال كله لما سبق تقريره في ميراث الأولاد الذكور إذا انفردوا؛ فإنهم أقربُ العصبات، وهم يُسْقِطُون الإخوة، فكيف لا يُسْقِطُون الأخَوَاتِ؟.
وأيضًا فقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(2)
وهذا يدخل فيه ما إذا كان هناك ذو فرض كالبنات وغيرهنّ.
فإذا استحق الفاضلَ ذكورُ الإخوة مع الأخوات، فإذا انفردوا فكذلك يستحقونه، وأولى.
وإن كان الولد أنثى؛ فليس للأخت هنا النصف بالفرض؛ ولكن لها الباقي بالتعصيب عند جمهور العلماء.
وقد سبق ذكر ذلك والاختلاف فيه
(3)
.
* * *
[ميراث الابن والأخ]:
فلو كان هناك ابن لا يستوعب المال كله
(4)
وأخت مثل ابن نصفه حر عند من يورثه نصف الميراث، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء، فهل يقال: إن الابن هنا يُسقط نصفَ فرض الأخت فترث معه الربع فرضًا؟ أم يقال: إنه يصير كالبنت؛ فتصيرُ
= عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله! ما الكلالة؟ قال: "أما سمعت الآية التي نزلت في الصيف {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} والكلالة: من لم يترك ولدًا ولا والدًا".
وصححه على شرط الشيخين ورده الذهبي فقال: الحماني ضعيف.
والحماني قال عنه البخاري: يتكلمون فيه وثقه يحيى بن معين وغيره وكذبه أحمد والنسائي، وقال ابن عدي: لم أر في مسنده وأحاديثه أحاديث مناكير، وأرجو أنه لا بأس به، وقال الذهبي: إلا أنه شيعي بغيض. راجع ترجمته في الضعفاء للبخاري ص 124 - 125 ت 398 والتاريخ الكبير له 4/ 2/ 291، والكامل في الضعفاء لابن عدي 7/ 237 - 239.
(1)
سورة النساء: 176.
(2)
سورة النساء: 176.
(3)
ص 1178 وما بعدها.
(4)
ليست في "ا" ولا في ظ.
الأخْتُ معه عصبة كما تصير مع البنت؟
(1)
، لكنه يُسْقِطُ نصفَ تَعْصِيبها فتأخذ معه النصف الباقي بالتعصيب؟. هذا محتمل.
وفي هذه المسألة لأصحابنا وجهان.
[ميراث الأخ من الأخت]:
وقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}
(2)
.
يعني أن الأخ يستقل بميراث أخته إذا لم يكن لها ولد ذكر أو أنثى، فإن كان لها ولد ذكر فهو أولى من الأخ بغير إشكال؛ فإنه أولى رجل ذكر.
وإن كان أنثى؛ فالباقي بعد فرضها يكون للأخ؛ لأنه أولى رجل ذكر، ولكن لا يستقل بميراثها حينئذ
(3)
؛ كما إذا لم يكن لها ولد.
[الأختان]:
• وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}
(4)
.
يعني أنَّ فرض البنتين: الثلثان، كما أن فرض الواحدة: النصف؛ فهذا كله في حكم انفراد الإخوة والأخوات.
[الإخوة]:
• وأما حكم اجتماعهم فقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(5)
فدخل في ذلك ما إذا كانوا منفردين.
• وأما إذا كان هناك ذو فرض من الأولاد أو غَيرهم كأحد الزوجين، أو الأم، أو الإخوة من الأم؛ فيكون الفاضل عن فروضهم للإخوة والأخوات بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
فقد تبين بما ذكرناه: أن وجود الولد؛ إنما يُسْقِطُ فرضَ الأَخَوَاتِ من الأبوين أو الأب، ولا يُسْقِطُ توريثَهنّ بالتعصيب مع أخوَاتِهِنّ بالإجماع، ولا تعصِيبهن
(6)
بانفرادهنّ مع البنات عند الجمهور، فالكلالة شرط لثبوت فرض الأخوات؛ لا لثبوت ميراثهنّ، كما أنه ليس بشرط لميراث ذكورهم بالإجماع.
وهذا بخلاف ولد الأم، فإن انتفاء الكلالة أسقطت فروضهم، وإذا أسقطت
(1)
في الأصول: "الأخت" والتصويب من "ل" فقد ضرب على "الأخت" وكتب الصواب في الهامش.
(2)
سورة النساء: 176.
(3)
م: "حينئذ، لأنه كما إذا".
(4)
،
(5)
سورة النساء: 176.
(6)
ل: "يعصبهن".
فروضهم؟ سقطت مواريثهم. لأنه لا تعصيب لهم بحال؛ لإدلائهم بأنثى، والأخواتُ للأبوين أو للأب يُدْلون بذكر فيرثن بالتعصيب مع إخواتهن بالاتفاق، وبانفرادهن مع البنات عند الجمهور.
وإذا كان الولد مسقطًا لفرض ولد الأبوين أو للأب دون أصل توريثهم بغير الفرض فقد يقال: إن الله تعالى إنما خص انتفاء الولد في قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ولم يذكر انتفاء الوالد أو الأب؛ لأنه كان يدخل فيه الجدّ، والجدّ لا يُسْقِطُ ميراثَ الإخْوة بالكلية، وإنما يشتركون معه في الميراث تارة بالفرض، وتارة بغيره.
وهذا على قول من يقول: إن الجد لا يُسْقِطُ الإِخوة - وهم الجمهور - ظاهر، وهذا كله في انفراد ولد الأبوين أو الأب، فإن اجتمعوا فإن العصباتِ من ولد الأبوين يُسْقِطون ولدَ الأب كلَّهم بغير خلاف حتى في الأخت من الأبوين مع البنت عند مَنْ يجعلها عَصَبَةً يَسْقُطُ بها الأخُ من الأبوَيْنِ.
• وفي المسند
(1)
والترمذي
(2)
وابن ماجه
(3)
عن عليٍّ رضي الله عنه قال: قَضَى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنَّ أعيان بني الأم يرثون دون بني العَلَّات؛ يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه".
وقال عمرو بن شعيب: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن الأخ للأب والأم أولى الكلالة بالميرات، ثم الأخ للأب.
(1)
أخرجه أحمد في المسند 2/ 33، 247، 293 (المعارف) ح 595، 1091، 1221 من رواية الحارث الأعور، عن علي وقد ضعف محققه إسناده بضعف الحارث.
(2)
أخرجه الترمذي في: 30 - كتاب الفرائض: 5 - باب ما جاء في ميراث الإخوة من الأب والأم 4/ 416 ح 2094، 2095 تامًّا ومختصرًا من رواية الحارث، عن علي كذلك، وقد عقب الترمذي بقوله:
هذا حديث لا نعرفه؛ إلا من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.
وقد تكلم بعض أهل العلم في الحارث.
والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم.
(3)
أخرجه ابن ماجه في 22 - كتاب الوصايا: 7 - باب الدين قبل الوصية 2/ 906 - ح 2715. وفي: 23 - كتاب الفرائض: 10 - باب ميراث العصبة 2/ 915 ح 2739.
وبنو الأعيان: هم الأخوة الأشقاء مأخوذ من عين الشيء وهو النفيس منه.
وبنو العلّات: هم الأخوة لأب واحد من أمهات شتى، مأخوذ من العَلَّة وهو ما يتلهى به، وهو أيضًا الضرة التي تكون زوجة أخرى للرجل، ومنه الحديث:"الأنبياء أولاد عَلَّات" إيمانهم واحد، وشرائعهم شتى ويقابلهم بنو الأخياف؛ وهم بنو الأم الواحدة من آباء شتى.
وانظر المعجم الوسيط 2/ 630.
وهذا أيضًا مما يدخل في قوله عليه السلام: "فما بقى؛ فلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ".
• والتحقيق في ذلك: أن كل ما دل عليه القرآن ولو بالتنبيه، فليس هو مِمَّا أبقته الفرائض، بل هو من إلحاق الفرائض المذكورة في القرآن بأهلها، كتوريث الأولاد: ذكورهم وإناثِهم الفاضلَ عن الفروض: للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين، وتوريثِ الإخوة: ذكورِهِم وإناثهم كذلك.
ودل ذلك بطريق التنبيه على أن الباقي يأخذه الذكر منهم عند الانفراد بطريق الأوْلَى، ودل أيضًا بالتنبيه على أن الأختَ تأخذُ الباقي مع البنت؛ كما كانت تأخذهُ مع أخيها، ولا يقدَّم عليها من هو أبعدُ منها كابن الأخ، والعم، وابنه؛ فإن أخاها إذا لم يُسْقطْهَا فكيف يُسْقِطُها مَنْ هُوَ أَبْعَد منه؟
• فهذا كله من باب إلحاق الفرائض بأهلها، ومن باب قسمة المال بين أهل الفرائض على كتاب الله.
* * *
[أولو الأرحام]:
• وأما من لم يذكر باسمه من العصبات في القرآن كابن الأخ والعم، وابنه؛ فإنما دخل في عمومات مثل قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(1)
، وقوله:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}
(2)
؛ فهذا يُحتاج في توريثهم إلى هذا الحديث، أعني حديث ابن عباس.
فإذا لم يوجد للمال وارث غيرهم، انفردوا به، ويقدَّمُ منهم الأقربُ فالأقربُ؛ لأنه أولى رجلٍ ذكر.
وإن وجدت فروضٌ لا تستغرق المال كأحد الزوجين أو الأم، أو ولد الأم، أو بنات منفردات، أو أخوات منفردات؛ فالباقي كله لأولى ذَكَرٍ من هؤلاء.
ولهذا لو كان هؤلاء إخوة رجالًا ونساء؛ لاختص به رجالهم دون نسائهم، بخلاف الأولاد والإخوة؛ فإنه يشترك في الباقي، أو في المال كُلِّهِ ذُكُورُهم وإناثهم بنص القرآن. والحديث إنما دل على توريث العصبات الذين يختص ذكورهم دون إناثهم؛ وهم مَنْ عدا الأولاد والإخوة.
(1)
سورة الأنفال: 75.
(2)
سورة النساء: 33.
فهذا حكم العصبات المذكورين في كتاب الله تعالى، وفي حديث ابن عباس.
• وأما ذوو الفرض فقد ذكرنا حكم مواريثهم، ولم يبق منهم؛ إلا الزوجان والإخوة للأم.
* * *
[الزوجان]:
• فأما الزوجان، فيرثان
(1)
بسبب عقد النكاح.
ولما كان بين الزوجين من الألفة، والمودة والتناصر، والتعاقب، ما بين الأقارب؛ جُعل ميراثُهُمَا كميراث الأقارب، وجُعل للذكر منهما مثلا ما للأنثى، لامتياز الذكر على الأنثى بمزيد النفع بالإنفاق، والنُّصْرة.
* * *
[الإخوة لأم]:
• وأما ولد الأم؛ فإنهم ليسوا من قبيلة الرجل، ولا عشيرته؛ وإنما هم في المعنى من ذوي رحمه؛ ففرض الله لواحدهم السُّدس، ولجماعتهم الثُّلُث؛ صلةً، وسوَّى فيه بين ذُكُورِهِمْ وإناثهم، حيث لم يكن لذكرهم زيادةٌ على أنثاهم في الحياة
(2)
من المعاضدة والمناصرة، كما بين أهل القبيلة والعشيرة الواحدة؛ فسوَّى بينهم في الصلة.
ولهذا لم تُشرع الوصية للأجانب بزيادة على الثلُث، بل كان الثُّلُثُ كثيرًا في حقهم؛ لأنهم أبعدُ من ولد الأم؛ فينبغي أن لا يُزادُوا على ما يُوصَل به ولدُ الأم؛ بل يُنقصون منه.
واستدلّ بعضهم بقوله: "فما بقى فلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" على أن لا ميراث لذوي الأرحام؛ لأنه لم يجعل حق الميراث لمن لم يذكر في القرآن؛ إلا لأقرب الذكور، وهذا الحكم يختص بالعصبات دون ذوي الأرحام؛ فإن من وَرَّث ذوي الأرحام ورث ذكورهم وإناثهم.
وأجاب
(3)
من يرى توريثَ ذوي الأرحام، بأن هذا الحديث دلَّ على توريث العصبَات لا على نفي توريث غيرهم.
(1)
م: "فأما الزوجان فيرثن" وفيها تحريف واضح.
(2)
ليست في م.
(3)
م: "فأجاز" وهو تحريف.
وتوريث ذوي الأرحام مأخوذ من أدلة أخرى؛ فيكون ذلك زيادة على ما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
* * *
[وصف الرجل بالذكورة]:
• وأما قوله فلأولى
(1)
رجل ذكر مع أن الرجل لا يكون إلا ذكَرًا؛ فالجواب الصحيح عنه؛ أنه قد يُطلق الرجل، ويراد به الشخص كقوله:"مَنْ وُجِد مالُه عند رجل قد أفلس" ولا فرق بين أن يجده عند رجل أو امرأة، فتقييده بالذكر ينفي هذا الاحتمال، ويُخلصه للذكر دون الأنثى، وهو المقصود.
وكذلك الابن لما كان قد يطلق ويراد به أعمُّ من الذكر، كقوله: ابن السبيل؛ جاء تقييد ابن اللَّبُون في نصب الزكاة بالذكر.
وللسهيلي كلام على هذا الحديث فيه تكلّف وتعسّف شديد، ولا طائل تحته، وقد رده عليه جماعة ممن أدركناهم. والله أعلم.
* * *
(1)
"ا": "لأولى".
الحديث الرابع والأربعون
عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ:
"الرَّضَاعَة تحَرِّمُ ما تُحَرِّمُ الْوِلادَةُ". خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمسْلِمٌ.
* * *
[تخريج الحديث]:
• هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية عمرة، عن عائشة
(1)
.
• وخرج مسلم أيضًا من رواية عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يحرُم من الرضاعة ما يحرمُ من النسب
(2)
.
• وخرجاه أيضًا من رواية عروة، عن عائشة من قولها
(3)
.
• وخرجاه من حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في 67 - كتاب النكاح: 20 - باب (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب 9/ 139 - 140 ح 5099 من حديث عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها، وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، قالت: فقلت: يا رسول الله! هذا رجل يستأذن في بيتك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أراه فلانًا - لعم حفصة من الرضاعة - قالت عائشة: لو كان فلان حيًّا؟ - لعمها من الرضاعة - دخل عليّ" - فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم؛ الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة". وانظر طرفيه في 2646، 3105.
وأخرجه مسلم في 17 - كتاب الرضاع: 1 - باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. 2/ 1068 ح 1 - (1444) من رواية مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة.
(2)
أخرجه مسلم في باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل ح 9 من حديث عروة، عن عائشة أنها أخبرته، أن عمها من الرضاعة يسمى أفلح، استأذن عليها فحجبته، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لها:"لا تحتجبي منه؛ فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب".
(3)
أخرجه مسلم في الباب السابق ح 5 وفيه قول عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: "حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب".
وأخرجه البخاري في: 65 - كتاب التفسير: 9 - باب {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} 8/ 531 - 532 ح 4796 وفيه قول عروة: "فلذلك. . .".
(4)
أخرجه البخاري في: 52 - كتاب الشهادات: 7 - باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض 5/ 253 ح 2645 من رواية جابر بن زيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: "لا تحل لي؛ يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب؛ هي ابنة أخي من الرضاعة" وانظر طرفه في: 5100. ومسلم في: 3 - باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة 2/ 1071 ح 12 - (1447) من حديث جابر، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة فقال: إِنها لا تحل لي
…
الحديث بنحوه.
• وخرجه الترمذي من حديث عليّ
(1)
، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
[الإجماع على العمل بهذه الأحاديث]:
• وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة، وأن الرضاعَ يحرِّم ما يحرِّمه النسب.
* * *
[المحرمات من النسب قسمان]:
ولنذكر المحرمات من النسب كلَّهن حتى يعلم بذلك ما يحرم من الرضاع فنقول:
الولادة والنسب قد يؤثران التحريم في النكاح، وهو على قسمين:
[القسم الأول]:
• تحريم مؤبد على الانفراد.
وهو نوعان:
• أحدهما: ما يحرِّم بمجرد النسب؛ فيحرّم على الرجل أصولَه وإن علون، وفروعَه وإن سَفَلْنَ.
وفروعَ أصلهِ الأدنى وإن سَفَلن، وفروع أصوله البعيدة دون فروعهن.
فدخل في أصوله أمهاتُه وإن عَلَوْن من جهة أبيه وأمه، وفي فروعه بناتُه وبناتُ أولاده وإن سَفَلن.
وفي فروع أصله الأدنى: أخواته من الأبوين أو من أحدهما؛ وبناتُهن وبنات الإخوة وأولادهم وإن سَفَلن.
ودخل في فروع أصوله البعيدة: العماتُ والخالاتُ وعماتُ الأبوين وخَالاتُهما، وإن عَلَوْن.
(1)
في: 10 - كتاب الرضاع: 1 - باب ما جاء يحرّم من الرضاع ما يحرّم من النسب 3/ 452 ح 1146 من رواية علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرّم من الرضاعة ما حرم من النسب".
وعقب بقوله: وفي الباب عن عائشة وابن عباس وأم حبيبة.
[و] حديث علي حسن صحيح، والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لا نعلم بينهم في ذلك اختلافًا.
فلم يبق من الأقارب حلالًا للرجل سوى فروع أصوله البعيدة، وهن بنات العم، وبنات العمات، وبنات الخال، وبنات الخالات.
* * *
• والنوع الثاني: ما يحرم من النسب مع سبب آخر، وهو المصاهرة فيحرم على الجل حلائل آبائه، وحلائل أبنائه، وأمهات نسائه، وبنات نسائه الدخول بهن.
فيحرم على الرجل أم امرأته وأمهاتها من جهة الأم والأب وإن علون، ويحرم عليه بنات امرأته وهن الريائب وبناتهن وإن سفلن، وكذلك بنات بَني زوجته وهن بنات الربائب.
نص عليه الشافعي رحمه الله، وأحمد رحمه الله، ولا يعلم فيه خلاف.
ويحرم عليه أن يتزوّج بامرأة أبيه وإن علا، وبامرأة (1) ابنه وإن سفل.
ودخول هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهر؛ لأن تحريمهن من جهة نسب الرجل بسبب المصاهرة.
وأما أمهات نسائه وبناتُهُنَّ فتحريمهن مع الصاهرة، بسبب نسب المرأة.
فلم يخرج التحريم بذلك عن أن يكون بالنسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة؛ فإن التَّحريم بالنَّسب المجرد والنسب المضاف إلى المصاهرة، يشترك فيه الرجال والنساء.
فيحرم على المرأة أن تتزوّج أصولها وإن عَلَوْا، وفروعَها وإن سَفَلُوا، وفروعَ أصلِها الأدنى، وإن سَفَلُوا من أخواتها، وأولاد الإخوة وإن سفلوا، وفروعَ أصولها البعيدة، وهم الأعمام والأخوال، وإن علوا دون أبنائهم.
فهذا كله بالنسب المجرد؛ وأما بالنسب المضاف إلى المصاهرة؛ فيحرم عليها نكاح أبي زوجها وإن علا، ونكاحُ ابنه وإن سَفَل بمجرد العقد.
ويحرم عليها زوج ابنتها وإن سفلت بالعقد، وزوج أمها وإن علت لكن بشرط الدخول بها.
* * *
[والقسم الثاني]:
• والقسم الثاني: التحريم المؤبد على الاجتماع دون الانفراد.
وتحريمه يختص بالرجال، لاستحالة إباحة جمع المرأة بين زوجين؛ فكل امرأتين بينهما رحم محرم، يحرم الجمع بينهما بحيث لو كانت إحداهما ذكرًا لم يجز له التزوّج بالأخرى، فإنه يحرم الجمع بينهما بعقد النكاح.
• قال الشعبى: كان أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: "لا يجمع الرجل بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلًا لم يصلح له أن يتزوجها".
وهذا إذا كان التحريم لأجل النسب.
وبذلك فسره سفيان الثوري، وأكثر العلماء.
فلو كان لغير النسب مثل أن يجمع بين زوجة رجل وابنتِه من غيرها؛ فإنه يباح عند الأكثرين، وكرهه بعض السلف.
فإذا عُلم ما يحرم من النسب فكل ما يَحْرُمُ منه، فإنه يَحْرُم من الرضاع نظيره.
• فيحْرُمُ على الرجل أن يتزوج أمهاتِه من الرضاعة وإن علَوْن، وبناتِه من الرضاعة، وإن سَفَلن، وأخواتِه من الرضاعة، وبناتِ أخواته من الرضاعة، وعماتِه وخالاتِه من الرضاعة، وإن علون دون بناتهن.
• ومعنى هذا: أن المرأة
(1)
إذا أرضعت طفلًا: الرضاعَ المعتبر في المدة المعتبرة، صارت أُمًّا له بنص كتاب الله فتَحْرُم عليه هي وأمهاتها، وإن علون من نسب أو رضاع، وتصير بناتها كُلُهنَّ أخواتٍ له من الرضاعة، فيَحْرُمْن عليه بنص القرآن.
[بقية التحريم من الرضاعة استفيد من السنة]:
• وبقيةُ التحريم من الرضاعة استفيد من السنة، كما استفيد من السنة أن تحريم الجمع لا يختص بالأختين، بل المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها كذلك.
• وإذا كان أولادُ المرضِعَةِ من نسب أو رضاع إخوةً للمرتضع؛ فيحرم عليه بناتُ إخوته أيضًا.
(1)
م: "المراد" وهو تحريف.
• وقد امتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تزويج ابنة عمه حمزة، وابنة أبي سلمة، وعلّل بأن أبويهما كانا أخوين له من الرضاعة
(1)
.
• ويَحْرُمُ عليه أيضًا أخواتُ المرضِعة؛ لأنهن خالاتُه، وينتشر التحريم أيضًا إلى الفحل صاحب اللبن، الذي ارتضع منه الطفل؛ فيصير صاحبُ اللبن أبا الطفل، وتصير أولاده كلّهم من المرضعة أو من غيرها من نسب أو رضاع إخوةً للمرتضِع، ويَصير إخوتُه أعمامًا للطفل المرتضِع.
وهذا قول الجمهور من السلف.
وأجمع عليه الأئمة الأربعة، ومَنْ بعدهم.
• وقد دل على ذلك من السنة ما روت عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليها بعد ما أنزل الحجاب، قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: والله لا آذن حتى أستأذنَ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أبا القُعَيْس ليس هو أرضَعَني، ولكن أرضعتني امرأتُه، قالت: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرتُ ذلك له فقال: "ائذني له" فإنه عمك تَرِبَتْ يمينُكِ! ".
• وكان أبو القعيس زوجَ المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها.
خرجاه في الصحيحين بمعناه
(2)
.
(1)
حديث ابنة حمزة متفق عليه وقد مضى قريبًا، وقد روى مسلم في صحيحه قبل حديثه السابق أن علي بن أبي طالب قال: قلت: يا رسول الله! مالك تنوّق في قريش (تتخير) وتدعنا؟ فقال: "وعندكم شيء؟ " قلت: نعم؛ بنت حمزة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي هن الرضاعة". وحديث ابنة أبي سلمة متفق عليه كذلك.
أخرجه البخاري في 67 - كتاب النكاح: 25 - باب {وربائبكم اللاتي في حجوركم} " 9/ 157 - 158. ومسلم في: 17 - كتاب الرضاع: 4 - باب تحريم الربيبة وأخت المرأة 2/ 1072 ح 15 - (1449) وفيهما قول أم حبيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك في أختى بنت أبي سفيان؟ فقال: أفعل ماذا؟ قالت: تنكحها. قال: أو تحبين ذلك؟ قالت: ليست لك بمخلية وأحب من شركني في الخير أختى، قال: "فإنها لا تحل لي" قال: فإني أخبرت أنك تخطب درة بنت أبي سلمة؟ قال: بنت أم سلمة؟ قالت: نعم. قال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأباها ثويبة؛ فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن". وفي ب: "ابنة حمزة" وفي أ: "وعلل بأن أباهما كانا. . .".
(2)
أخرجه البخاري في: 65 - كتاب التفسير: 9 - باب {إن تبدوا شيئًا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليمًا} 8/ 531 - 532 ح 4796.
ومسلم في: 17 - كتاب الرضاع: 2 - باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل 2/ 1069 - 1071 ح 3 - (1445)، 4 - 10 من وجوه عديدة من حديث عائشة.
• وسئل ابن عباس عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما جارية، والأخرى غلامًا أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ فقال: لا؛ اللقاح واحد.
* * *
[لو كانت مرضعة من غير زواج]:
• ولو كان اللبن الذي ارتضع به الطفل قد ثاب للمرأة من غير وطْءِ فحل بأن تكون امرأةً لا زوجَ لها قد ثاب لها لبن أو هي بكر أو آيسة؛ فأكثر العلماء على أنه يَحْرُمُ الرضاع به وتصير المرضعة أمًّا للطفل.
وقد حكاه ابنُ المنذر إجماعًا عمّن يُحْفَظ عنه من أهل العلم.
وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحق وغيرهم.
وذهب الإمام أحمد في المشهور المنصوص عنه إلى أنه لا ينتشر التحريم به بحال حتى يكون له فحلٌ يدر اللبن من رضاعه.
وحكى عن الشافعي قول مثله.
* * *
[لو انقطع النسب من جهة صاحب اللبن]:
• ولو انقطع نسبه من جهة صاحب اللبن كولد الزنا، فهل تنتشر الحرمة إلى الزاني صاحب اللبن؟ هذا ينبني على أن البنت من الزنا هل تحرم على الزاني أم لا
(1)
.
• ومذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك في رواية عنه تحريمها عليه خلافًا للشافعي.
• وبالغ الإمام أحمد في الإنكار على من خالف في ذلك.
فعلى قولهم: هل ينتشر التحريم إلى الزاني: صاحب اللبن فيكون أبًا للمرتضع أم لا؟ فيه قولان هما وجهان لأصحابنا.
• واختار ابنُ حامد أن التحريم لا ينتشر إليه.
• واختار أبو بكر والقاضي أبو يعلي أن التحريم ينتشر إلى الزاني.
وهو نص أحمد، وحكاه عن ابن عباس، وهو قول إسحق بن راهويه نقله عنه حرب.
(1)
ليست في "ظ"، ولا "د".
[امتداد التحريم بالرضاع]:
• وينتشر التحريم بالرضاع إلى ما حرم بالنسب مع الصهر إما من جهة نسب الرجل كامرأة أبيه وابنه، أو من جهة نسب الزوجة كأمها وابنتها، وإلى ما حرم جمعه لأجل نسب المرأة أيضا كالجمع بين الأختين والمرأة وعمتها أو [و] خالتها، فيحرم ذلك كله من الرضاع، كما يحرم من النسب لدخوله في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
• وتحريمُ هذا كله للنسب، فبعضه لنسب الزوج، وبعضُه لنسب الزوجة.
وقد نص على ذلك أئمة السلف، ولا يُعلم بينهم اختلاف، ونص عليه الإمام أحمد واستدل بعموم قوله:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
[وحلائل الأبناء]:
• وأما قوله عز وجل: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}
(1)
فقالوا: لم يُردْ بذلك أنه لا يحرم حلائلُ الأبناء من الرَّضَاع، إنما أرادَ إخراجَ حلائلِ الذين تُبُنُّوا ولم يكونوا أبناءً من النَّسب، كما تزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم زوجةَ زيدِ بْنِ حارثة بعد أن كان قد تبنَّاه.
[التحريم بالرضاع وإلى من ينتشر؟]:
• وهذا التحريم بالرضاع يختص بالمرتضِع نفسِه، وينتشِر إلى أولاده، ولا ينتشر تحريمه إلى من في درجة المرتَضَع من إخوته وأخواته، ولا إلى مَن هو
(2)
أعلى منه من آبائه، وأمهاتِه وأعمامِه وعماتِه وأخوالِه وخالاتِه، فتباحُ المرضِعَةُ نَفْسُها لأبي المرتضَع من النسب ولأخيه، وتباح أم المرتضع من النسب وأخته منه لأبي المرتضَع من الرضاع، ولأخيه.
هذا قول جمهور العلماء وقالوا: يباح أن يتزوج أخت أخيه، من الرضاعة، وأختَ ابنتِه من الرضاعة، حتى قال الشعبي: هي أحل من ماء قدس.
(1)
سورة النساء: 23.
(2)
ليست في "ا"، ولا في ب.
وصرح بإباحتها حبيب بن أبي ثابت وأحمد
(1)
.
وروى أشعث
(2)
عن الحسن أنه كره أن يتزوج الرجل بنت ظئر ابنه، ويقول أخت ابنه، ولم ير بأسًا أن يتزوج أمها؛ يعني ظئر
(3)
ابنه.
وروى سليمان التيمي، عن الحسن أنه سئل عن رجل يتزوج أختَ أخيه من الرضاعة، فلم يقل فيه شيئًا، وهذا يقتضي توقّفه فيه.
ولعل الحسن إنما كان يكره ذلك؛ تنزيهًا لا تحريمًا لمشابهته للمحَرَّم بالنسب في الاسم.
وهذا بمجرده لا يوجب تحريمًا.
[ما يستثنى مما يحرم بالنسب]:
• وقد استثنى كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرِهم مما يَحْرُمُ من النسب صورتين فقالوا: لا يَحْرُم نظيرها من الرضاع.
• إحداهما: أم الأخت، فتحْرُم من النسب، ولا تحرم من الرضاع.
• والثانية أخت الابن فتحرم من النسب دون الرضاع ولا حاجة إلى استثناء هذين ولا أحدهما.
أما أم الأخت، فإنما تحرُم من النسب؛ لكونها أمًا أو زوجة أب لا لمجرد كونها أم أخت، فلا يعلّق التحريم بما لم يعلّقه الله به.
وحينئذٍ فيوجد في الرضاع من هي أم أخت
(4)
ليست أمًا ولا زوجة أب فلا تحرم؛ لأنها ليست نظيرًا لذات النسب.
وأما أخت الابن فإن الله تعالى إنما حرم الربيبة المدخول بأمها، فتحرم لكونها ربيبة دخل بأمها لا لكونها أخت ابنه، والدخول في الرضاع منتف؛ فلا تحرم به أولاد المرضِعة.
(1)
ليست في "أ".
(2)
م: "الأشعث".
(3)
ظأرت المرأة والناقة على ولد غيرها ظأرا، وظئارًا؛ عطفت عليه.
والظِّأر: كل شيء مع مثله.
والظَّئْر: المرضعة لغير ولدها، ويطلق على زوجها أيضًا.
راجع المعجم الوسيط 2/ 580.
(4)
"ا"، ب:"أخ".
[وما الذي يدخل في عموم الحديث؟]:
• ومما قد يدخل في عموم قوله "يحرمُ من الرضاع ما يحرمُ من النسب" لو ظاهر من امرأته فشبهها بمحرمة من الرضاع فقال لهات أنتِ على كأمي من الرضاع، فهل يثبت بذلك تحريم الظهار أم لا؟
فيه قولان:
أحدهما: أنه يثبت به تحريم الظهار وهو قول الجمهور ومنهم: مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والحسن بن صالح وعثمان البَتِّي
(1)
.
وهو المشهور عن أحمد.
والثاني: لا يثبت به التحريم، وهو قول الشافعي، وتوقف فيه أحمد في رواية ابن منصور.
(1)
م: "التيمي" وهو تحريف؛ فهو عثمان البتي، وفي هامش ب: البتّ: الكساء، جمعه بتوت. وعثمان هذا كان يبيعُ البتوت.
الحديث الخامس والأربعون
عَنْ جابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بمَكَّةَ يَقُولُ:
"إِنَّ الله عز وجل وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْع الْخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالْخَنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الجلودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذلِكَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ! إِنَّ الله حَرَّمَ عَلَيهِمْ الشُّحُومَ فَأَجْمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ". خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
[تخريج الحديث]:
• هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من حديث يزيد بن أبي حبيب عن عطاء عن جابر
(1)
.
• وفي رواية مسلم أن يزيد قال: كتب إليَّ عطاء فذكره
(2)
.
ولهذا قال أبو حاتم الرازي
(3)
: "لا أعلم يزيد بن أبي حبيب، سمع من عطاء شيئًا" يعني: أنه إنما يروي عنه كتابه.
وقد رواه أيضًا يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد بن عبدة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحوه
(4)
.
• وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: "بلغ عمر أن رجلًا باع خمرًا" فقال: قاتله الله! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "قاتل الله اليهود! حرمت
(1)
أخرجه البخاري في: 34 كتاب البيوع: 102 - باب بيع الميتة والأصنام 4/ 424 ح 2236، وانظر طرفيه في 4296، 4633.
ومسلم في: 22 - كتاب المساقاة: 13 - باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام 3/ 1207 ح 71 - (1581).
(2)
عقب الرواية السابقة.
(3)
في العلل 1/ 382.
(4)
انظر ما رواه أحمد في المسند 11/ 202 (المعارف) بإسناد صحيح من رواية أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، من جده عبد الله بن عمرو.
ومن حديث عبد الله بن عمرو أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 90 - 91 وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط؛ إلا أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وثمن الخنزير، وعن مهر البغي، وعن عسب الفحل، ورجال أحمد ثقات، وإسناد الطبراني حسن.
عليهم الشحوم فجملوها فباعوها؟ "
(1)
.
• وفي رواية: "وأكلوا أثمانها"
(2)
.
• وخرجه أبو داود
(3)
من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وزاد فيه: "وإن الله إذا حرّم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"
(4)
.
• وخرجه ابن أبي شيبة ولفظه: إن الله إذا حَرّم شيئًا حرم ثمنه
(5)
.
• وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله وآله وسلم قال: "قاتلَ الله اليهودَ حُرّمتْ عليهم الشّحُومُ فباعُوها وأكلوا ثمنَها
(6)
.
• وفي الصحيحين عن عائشة قالت: "لما أنزلت الآيات من آخر سورة البقرة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاقترأهُنَّ على الناس ثم نَهَى عن التجارة في الخمر"
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري في: 34 - كتاب البيوع: 103 - باب لا يذاب شحم الميتة، ولا يباع ودكه - رواه جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم 4/ 414.
وفي: 60 - كتاب أحاديث الأنبياء: 50 - باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/ 496 ح 3460 ومسلم في الموضع السابق عقب حديث جابر ح 72 - (1582) وفيه: ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم؛ فجملوها فباعوها.
(2)
أخرجه البخاري عقب حديث ابن عباس في الموضع الأول ح 2224.
ومسلم في الموضع السابق عقب حديث ابن عباس ح 73 - (1583)، 74 - (. . .) كلاهما من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه أبو داود في: 17 - كتاب البيوع والإجارات: 66 - باب في ثمن الخمر والميتة 3/ 758 ح 3488 وانظره في صحيح سنن أبي داود 2/ 667 ح 2978.
(4)
الذي في السنن:. . . حرم على قوم. . .".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 100 - 101، ح 422 من رواية عبد الأعلى، عن خالد، عن أبي الوليد، عن ابن عباس رفعه قال:
"إن الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه".
وانظر أطرافه في أحاديث 427، 1656، 2286، 18791 من المصنف.
(6)
أخرجه البخاري في: 34 - كتاب البيوع: 103 - باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه 4/ 414 ح 2224 باللفظ المذكور.
ومسلم في: 22 - كتاب المساقاة: 13 - باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام 3/ 1208 ح 74 - (. . .).
(7)
أخرجه البخاري في: 8 - كتاب الصلاة: 73 - باب تحريم تجارة الخمر في المسجد 1/ 553 - 554 ح 459.
وأطرافه في: 2084، 2226، 4540، 4541، 4542، 4543.
قال ابن حجر في الموضع الأول: قال القاضي عياض: كان تحريم الخمر قبل نزول آية الربا بمدة طويلة؛ فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بتحريمها مرة بعد أخرى تأكيدًا، قال ابن حجر: قلت: ويحتمل أن يكون تحريم التجارة فيها تأخر عن وقت تحريم عينها، والله أعلم.
والحديث أخرجه مسلم في: 22 - كتاب المساقاة: 12 - باب تحريم الخمر 3/ 1206 ح 69 - (1580) باللفظ المذكور؛ إلا أن فيه: "لما نزلت" وعند البخاري في الموضع الأول: "لما أنزلت الآيات. . . الحديث بنحوه.
• وفي رواية لمسلم: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد؛ فحرم التجارة في الخمر
(1)
.
• وخرج مسلم من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشربْ ولا يبعْ" قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها
(2)
.
• وخرج أيضًا من حديث ابن عباس أن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راويةَ خمرٍ؛ فقال له رسولُ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "هل عَلِمتَ أن اللّه قد حَرّمها؟ "، قال: لا، قال: فَسَارَّ إنسانًا، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"بم سَاررتَه"؟ قال: أمَرْته ببيعها؟ قال: "إنَّ الذي حَرّم شُرْبَهَا حَرّم بيعَه" قال: "ففتح المزادة
(3)
حتى ذَهَبَ ما فيها"
(4)
.
* * *
[وحاصل هذه الأحاديث]:
• فالحاصل من هذه الأحاديث كلها أن ما حرم اللّه الانتفاع به؛ فإنه يحرُم بيعُه وأكلُ ثمنه؛ كما جاء مصرّحًا به في الرواية المتقدمة: "إن اللّه إذا حَرّم شيئًا حرَّم ثمنَه".
* * *
[ما يحرم الانتفاع به قسمان]:
• وهذه كلمة عامة جامعة تطّرد في كل ما كان المقصودُ من الانتفاع به حرامًا، وهو قسمان:
(1)
أخرجه مسلم عقب الرواية السابقة، بهذا اللفظ؛ إلا أن في أوله: "لما أنزلت
…
".
(2)
أخرجه مسلم أول الباب السابق ح 67 - (1578) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب بالمدينة، قال:"يأيها الناس! إن اللّه تعالى يعرض بالخمر، ولعل اللّه سينزل فيها أمرًا؛ فمن كان عنده منها شيء فليبعه به ولينتفْع به" قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرم الخمر
…
الحديث.
(3)
ا، ب:"المزاد" وهما روايتان بمعنى وكلاهما صحيح.
انظر هامش مسلم وشرح النووي.
(4)
أخرجه مسلم عقب الحديث السابق ح 68 - (1579) باللفظ المذكور وفيه: أن عبد الرحمن بن وعلة - من أهل مصر - سأل عبد اللّه بن عباس عما يعصر من العنب؟ فقال ابن عباس: إن رجلًا أهدى لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم راوية خمر
…
الحديث.
[القسم الأول: ما ينتفع به مع بقاء عينه]:
• أحدهما: ما كان الانتفاع به حاصلًا مع بقاء عينه كالأصنام؛ فإن منفعَتها المقصودَةَ منها: الشركُ
(1)
باللّه، وهو أعظم المعاصي على الإطلاق.
ويلتحق بذلك:
ما كانت منفعته محرمة؛ ككتب الشرك والسحرِ والبدعِ والضلالِ.
وكذلك الصور المحرمة، وآلاتُ الملاهي المحرمة كالطنبور، وكذلك شراء الجواري للغناء.
وفي المسند عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن اللّه بعثني رحمةً وهُدىً للعالمين، وأمرَني أن أمحَقَ المزامير والكَنَّارات يعني البَرَابِط
(2)
، والمعازِفَ والأوثانَ التي كانت تُعْبَدُ في الجاهلية، وأقسم ربي بعزته لا يشرب عبدٌ من عبيدي جُزعةً من خمر إلا سقيتُه مكانَها من حَمِيم جهنَّم مُعَذَبًا أو مغفورًا له، ولا يُسْقاها صبيًّا صغيرًا؛ إلا سقيتُه مكانَها من حَمِيم جهنم معذبًا أو مغفورًا له".
"ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيتها إياه في حظيرة القدس، ولا يحل بيعهنّ ولا شراؤُهُنَّ ولا تعليمهن، ولا تجارةٌ فيهن، وأثمانُهنَّ حَرَامٌ: للمغنيات"
(3)
.
*وخرجه الترمذي
(4)
.
(1)
ا، ب:"هو الشرك".
(2)
الكنارات: جمع كنارة بفتح الكاف وكسرها العود أو الدف الذي تضرب به النساء، أو الطنبور، أو الطبل، والجمع كنانير.
معجم وسيط 2/ 806.
والبرابط: جمع بَرْبَط: العود من آلات الموسيقا، ومعناه: صدر البط معرب.
معجم وسيط 1/ 46.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 257 (حلبي) وفيه الكفارات وهو تحريف.
وأورده الهيثمي في المجمع 5/ 69 من حديث أبي أمامة وقال:
رواه كله أحمد والطبراني وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف.
(4)
في: 48 - كتاب تفسير القرآن: 32 - باب ومن سورة لقمان 5/ 345 - 346 ح 3195 من رواية قتيبة بن سعيد، عن بكر بن مضر، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام، في مثل ذلك أنزلت عليه هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . إلى آخر الآية. =
ولفظه: "لا تبيعوا القَيْنَات، ولا تشتروهن، ولا تعملوهن ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام".
وفي مثل ذلك أنزل اللّه -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} - الآية وخرجه ابن ماجه أيْضًا
(1)
.
وفي إسناد الحديث مقال
(2)
.
وقد روي نحوه من حديث عمر رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه، بإسنادين فيهما ضعف
(3)
أيضًا.
= قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما يروى من حديث القاسم، عن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث، قال:
سمعت محمدًا يقول: القاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف.
(1)
أخرجه ابن ماجه في 13 - كتاب التجارات:11 - باب ما لا يحل بيعه 2/ 733 ح 2168 من طريق أبي المهلب، عن عبيد الله الأفريقي، عن أبي أمامة قال:"نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع المغنيات، وعن شرائهن، وعن كسبهن، وعن أكل أثمانهن".
(2)
وعبيد اللّه الأفريقي؛ هو عبيد اللّه بن زَحْر الضمري الأفريقي، ودخل العراق في طلب العلم. روى عن علي بن يزيد الألهاني نسخة والأعمش وجماعة. وأرسل عن أبي أمامة، وأبي العالية. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وضمام بن إسماعيل وغيرهما.
ضعفه أحمد، ويحيى بن معين، والدارمي، وابن المديني، والدارقطني.
أما أحمد بن صالح فوثقه، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال الخطيب: كان رجلًا صالحًا وفي حديثه لينِ.
وأما ابن المديني فكان يقول: منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروى الموضوعات عن الأثبات، فإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر: عبيد اللّه بن زحر وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن لم يكن من ذلك الخبر؛ إلا مما عملته أيديهم وليس في الثلاثة من اتهم؛ إلا علي بن زيد؛ وأما الآخران فهما في الأصل صدوقان، وإن كانا يخطئان، ولم يخرج البخاري من رواية ابن زحر، عن علي بن يزيد شيئًا فإذا أضفنا إلى هذا ما قال ابن عدي في ترجمة علي بن يزيد بعد أن أورد أحاديث منكرة له:"ولعلي بن يزيد أحاديث ونسخ غير ما ذكرت وهو في نفسه صالح؛ إلا أن يروى عنه ضعيف فيؤتى من قبل ذلك الضعيف".
فسواء أكان الطعن في الإسناد من قبل علي هذا أو من قبل عبيد الله ذاك فقد تبين ما يشير إليه ابن رجب: أن في الحديث مقالًا.
راجع الكامل 5/ 178 - 179، والتهذيب 7/ 12 - 13.
وقد أورد ابن كثير في هذا الحديث في التفسير 3/ 442 عن الترمذي وذكر تعقيبه ثم قال: علي وشَيْخه والراوي عنه كلهم ضعفاء، والله أعلم.
(3)
أوردهما الهيثمي في المجمع 4/ 91 فقال:
وعن عمر بن الخطاب أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "القينة سحت، وغناؤها حرام، والنظر إليها حرام، وثمنها مثل ثمن الكلب، وثمن الكلب سحت، ومن نبت لحمه على السحت فالنار أولى به". =
ومن يحرم الغناء كأحمد ومالك فإنهما يقولان: إذا بيعت الأمة المغنية، تباع على أنها ساذجة، ولا يؤخذ لغنائها ثمن، ولو كانت الجارية ليتيم، ونص على ذلك أحمد.
ولا يَمنع الغناء من أصل بيع العبد والأمة؛ لأن الانتفاعَ به في غير الغناء حاصل بالخدمة وغيرها.
وهو من أعظم مقاصد الرقيق.
نعم لو علم أن المشتري لا يشتريه إلا للمنفعة المحرمة منه، لم يجز بيعه له عند الإمام أحمد، وغيره من العلماء، كما لا يجوز بيعُ العَصير ممن يتخذه خمرًا، ولا بيع السلاح في الفتنة، ولا بيعُ الرياحين والأقداح لمن يعلم أنه يشرب عليها الخمر، أو الغلام لمن يعلم منه الفاحشة.
* * *
[والقسم الثاني ما ينتفع به مع إتلاف عينه]:
• القسم الثاني: ما
(1)
ينتفع به مع إتلاف عينه.
فإذا كان المقصود الأعظم منه محرمًا فإنه يحرم بيعه كما يحرم بيع الخنزير والخمر والميتة مع أن في بعضها منافع غير محرمة؛ كأكل الميتة للمضطر، ودفع الغصة بالخمر، وإطفاء الحريق به، والخرْز بشعر الحرير عند قوم، والانتفاع بشعره وجلده عند من يرى ذلك؛ ولكن لما كانت هذه المنافع غير مقصودة لم يعبأ بها، وحرم البيع؛ لكون المقصود الأعظم من الخنزير والميتة أكلهما. ومن الخمر شربها، ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك، وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى لما قيل له: أرأيت شحوم الميتة؛ فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال:"لا؛ هو حرام"
(2)
.
* * *
= رواه الطبراني وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو متروك، ضعفه جمهور الأئمة، ونقل عن ابن معين في رواية: لا بأس به، وضعفه في أخرى.
وعن علي قال: نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع المغنيات والنواحات وشرائهن وبيعهن، وقال:"كسبهن حرام".
رواه أبو يعلى وفيه ابن نبهان وهو متروك.
(1)
م: "لا ينتفع".
(2)
هو حديث جابر (الخامس والأربعون)، والذي تقدم سياقه ص 1209.
[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: هو حرام]:
• وقد اختلف الناس في تأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "هو حرام":
• فقالت طائفة: أراد: أن هذا الانتفاع المذكور بشحوم الميتة حرام.
وحينئذ فيكون ذلك تأكيدًا للمنع من بَيْع الميتة؛ حيث لم يجعل شيئًا من الانتفاع بها مباحًا.
• وقالت طائفة: بل أراد أن بيعها حرام، وإن كان قد يُنتفع بها بهذه الوجوه.
لكن المقصود من الشحوم، هو الأكل؛ فلا يباح بيعها لذلك.
* * *
[الانتفاع بشحوم الميتة]:
• وقد اختلف العلماء في الانتفاع بشحوم الميتة.
• فرخص فيها عطاء، وكذلك نقل ابن منصور عن أحمد وإسحق؛ إلا أن إسحاق قال: إذا احتيج إليه.
وأما إذا وجد عنه مندوحة فلا.
• وقال أحمد: يجوز إذا لم يمسه بيده.
• وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وهو قول مالك والشافعي، وأبي حنيفة.
وحكاه ابن عبد البر إجماعًا من غير عطاء.
[الأدهان الطاهرة إذا تنجست]:
• وأما الأدهان الطاهرة إذا تنجست بما وقع فيها من النجاسات؛ ففي جواز الانتفاع بها بالاستصباح ونحوه اختلاف مشهور في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
وفيه روايتان عن أحمد.
• وأما بيعها فالأكثرون على أنه لا يجوز بيعها.
وعن أحمد رواية بجواز بيعها من كافر، ويُعْلَم بنجاستها.
وهو مروي عن أبي موسى الأشعري.
• ومن أصحابنا من خرج جواز بيعها على جواز الاستصباح بها وهو ضعيف مخالف لنص أحمد بالتفرقة؛ فإن شحوم الميتة لا يجوز بيعها، وإن قيل بجواز الانتفاع بها.
• ومنهم من خرجه على القول بطهارتها بالغسل؛ فيكون - حينئذ - كالثوب المتضمخ بنجاسة.
وظاهر كلام أحمد منع بيعها مطلقًا؛ لأنه علل بأن الدهن المتنجس فيه ميتة والميتة لا يؤكل ثمنها.
* * *
[بقية أجزاء الميتة]:
وأما بقية أجزاء الميتة فَمَا حكم بطهارته منها جاز بيعه؛ لجواز الانتفاع به، وهذا كالشَّعَر، والقَرْن، عند من يقول بطهارتهما.
وكذلك الجلد عند من يرى أنه طاهر بغير دباغ.
كما حكي عن الزهري، وتبويب البخاري يدل عليه.
واستدل بقوله: "إنما حُرِّمَ من الميتة أكلُها".
• وأما الجمهور الذين يرون نجاسة الجلد قبل الدباغ؛ فأكثرهم منعوا من بيعه حينئذ؛ لأنه جزء من الميتة، وشذ بعضهم فأجاز بيعَه كالثوب النجس، ولكن الثوب طاهر طرأت عليه النجاسة، وجلد الميتة جزء منها، وهو نجس العين.
• وقال سالم بن عبد الله بن عمر: "هل بيع جلود الميتة إلا كأكل لحمها!؟ ".
وكرهه طاووس وعكرمة
(1)
.
• وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يبيعوها؛ فيأكلوا أثمانها
(2)
.
* * *
[وإذا دبغت؟]:
وأما إذا دبغت فمن قال بطهارتها بالدبغ أجاز بيعها.
(1)
كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 100 ح 430.
(2)
المصنف 6/ 101 ح 424 و 425.
ومن لم ير طهارتها بذلك لم يُجِزْ بيعَها.
• ونص أحمد على منع بيع القمح؛ إذا كان فيه بول الحمار حتى يُغْسَلَ.
ولعله أراد بيعه ممن لا يعلم بحاله خَشية أن يأكله، ولا يعلم نجاسته.
* * *
[ثمن الكلب]:
وأما الكلب؛ فقد ثبت في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري
(1)
أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم "نهى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ".
• وفي صحيح مسلم عن رافع بن خديج، سمع النبي - صلى اللّه وآله وسلم - يقول:"شَرُّ الكَسْبِ مَهرُ البغيّ، وثمنُ الكَلْب، وكَسْبُ الحجّام"
(2)
.
وفيه عن معقل الجزري، عن أبي الزبير قال: سألتُ جابرًا عن ثمن الكلب والسِّنَّور، فقال:"زَجَر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك"
(3)
.
وهذا إنما يعرف عن أبي لهيعة عن أبي الزبير.
• وقد استنكر الإمام أحمد روايات معقل عن أبي الزبير، وقال: هي تشبه أحاديثَ ابن لهيعة.
قد تُتُبِّعَ ذلك فوُجد كما قاله أحمد رحمه الله.
وقد اختلف العلماء في بيع الكلب؛ فأكثرهم حرموه؛ منهم: الأوزاعي، ومالك في المشهور عنه، والشافعي، وأحمد، وإسحق وغيرهم.
• وقال أبو هريرة هو سُحت
(4)
.
• وقال ابن سيرين: هو أخبث الكسب
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في: 34 - كتاب البيوع: 113 - باب ثمن الكلب 4/ 426 ح 2237.
وأطرافه في: 2282، 5346، 5761.
وأخرجه مسلم في: 22 - كتاب المساقاة: 9 - باب تحريم ثمن الكلب، وحلوان الكاهن، ومهر البغيِّ والنهي عن بيع السنّور 3/ 1198، ح 39 - (1567) من حديث أبي مسعود أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغيّ [جُعل الزانية] وحلوان الكاهن [أجر الكاهن على كهانته].
(2)
عقب روايات حديث أبي مسعود.
(3)
عقب روايات حديث رافع بن خديج.
(4)
المصنف 6/ 243 ح 947.
(5)
المصنف 6/ 245 - 246 ح 954.
• وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ما أبالي ثمن كلب أكلت أو ثمن خنزير
(1)
.
• وهؤلاء لهم مآخذ.
• أحدها: أنه إنما نهى عن بيعها لنجاستها، وهؤلاء التزموا تحريمَ بيع كل نجس العين.
وهذا قول الشافعي وابن جرير الطبري، ووافقهم جماعة من أصحابنا كابن عقيل في "نظرياته" وغيره والتزموا: أن البغل والحمار إنما نجيز بيعَهُما إذا لم نقل بنجاستهما.
وهذا مخالف للإجماع.
• والثاني: أن الكلب لم يُبَحْ الانتفاعُ به وافتناؤُه مطلقًا كالبغل والحمار، وإنما أبيحَ اقتناؤُه لحاجاتٍ مخصوصة؛ وذلك لا يبيح بيعه؛ كما لا تُبيحُ الضرورة إلى الميتة والدم بيعهما.
وهذا مأْخذ طائفة من أصحابنا وغيرهم.
• والثالث: أنه إنما نهى عن بيعه لخسَّتِهِ، ومهانته؛ فإنه لا قيمة له إلا عندَ ذوي الشُّحِّ والمهانة، وهو متيسر الوجود، فنهى عن أخذ ثمنه ترغيبًا في المواساة بما يفضل منه عن الحاجة. وهذا مأخذ الحسن البصري وغيره من السلف.
وكذا قال بعض أصحابنا في النهي عن بيع السّنَّور.
* * *
[كلب الصيد]:
ورخصت طائفة في بيع ما يباح اقتناؤه من الكلاب ككلب الصيد وهو قول عطاء والنخعي وأبي حنيفة رحمه اللّه تعالى وأصحابه، ورواية عن مالك.
وقالوا: إنما نُهِيَ عن بيع ما يَحْرُمُ اقتناؤهُ منها.
ورَوَى حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كَلْبَ صيد.
خرجه النسائي، وقال: هو حديثٌ مُنْكَر، وقال أيضًا: ليس بصحيح
(2)
.
(1)
المصنف 6/ 245 ح 955.
(2)
أخرجه النسائي في السنن: 42 - كتاب الصيد والذبائح: 16 - الرخصة في ثمن كلب الصيد 7/ 190 - 191 ح 4295 رواية عن إبراهيم بن الحسن المقَسَمي عن حجاج بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور والكلب. =
• وذكر الدارقطني أن الصحيح وقفه على جابر
(1)
.
• وقال أحمد: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم رخصة في كلب الصيد
(2)
.
وأشار البيهقي
(3)
وغيره إلى أنه اشتبه على بعض الرواة هذا الاستثناء فظنه من البيع وإنما هو من الاقتناء.
وحماد بن سلمة في رواياته عن أبي الزبير ليس بقوي.
ومن قال: إن هذا الحديث على شرط مسلم كما ظنه طائفة من المتأخرين فقد أخطأ؛ لأن مسلمًا لم يخرّج لحماد بن سلمة عن أبي الزبير شيئًا، وقد بين في كتاب "التمييز"
(4)
أن رواياته عن كثير من شيوخه أو أكثرهم غير قوية.
* * *
[بيع الهر]:
• فأما بيع الهر فقد اختلف العلماء في كراهته:
فمنهم من كرهه، وروي ذلك عن أبي هريرة، وجابر، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، والأوزاعي، وأحمد في رواية عنه، وقال: هو أهونُ من جلود السباع.
وهذا اختيار أبي بكر من أصحابنا، ورخص في بيع الهر ابن عباس، وعطاء في رواية الحسن، وابن سيرين، والحكم، وحماد
(5)
وهو قول الثوري، وأبي حنيفة رحمه الله
= وقد عقب أبو عبد الرحمن بقوله:
وحديث حجاج عن حماد بن سلمة ليس هو بصحيح.
أما الحكم على الحديث بالنكارة فلم يرد في المجتبى.
(1)
راجع سنن الدارقطنيّ 3/ 73 ح 274 - 278 والتعليق المغني ففيهما تأكيد ذلك.
(2)
أي في البيع والشراء وأخذ البائع الثمن من المشتري لا في الاقتناء فقد صحت به الأحاديث في الصحاح والسنن وراجع صحيح مسلم، فقد روي من حديث ابن عمر وأبي هريرة، وأبي سفيان بن أبي زهير الترخيص في اقتناء كلب الصيد والحراسة.
ونص حديث ابن عمر في إحدى رواياته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتنى كلبًا؛ إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان".
22 -
كتاب المساقاة: 10 - باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه، وبيان تحريم اقتنائها؛ إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك 3/ 1200 - 1204 ح 43 - (1570) إلى ح 61 - (1576).
(3)
في السنن 6/ 7.
(4)
التمييز لمسلم ص 170 - 171.
(5)
م: "وهناد".
تعالى، ومالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه.
• وعن إسحاق روايتان.
• وعن الحسن أنه كره بيعَها، ورخّص في شرائها للانتفاع بها.
وهؤلاء منهم من لم يصحح النهي عن بيعها؛ قال أحمد: ما أعلم فيه شيئًا يثبت أو يصح.
وقال أيضًا: الأحاديث فيه مضطربة.
• ومنهم من حمل النهي على ما لا نفع فيه كالبرّي ونحوه.
• ومنهم من قال: إنما نُهي عن بيعها؛ لأنه دناءة، وقلةُ مروءة؛ لأنها متيسرة الوجود والحاجة إليها داعية؛ فهي من
(1)
مرافق الناس التي لا ضرر عليهم في بذل فضلها.
فالشحُّ بذلك من أقبح الأخلاق الذميمة، فلذلك زجر عن أخذ ثمنها.
* * *
[حكم بقية الحيوانات التي لا تؤكل كالحشرات]:
• وأما بقية الحيوانات التي لا تؤكل؛ فما لا نفع فيه كالحشرات ونحوها، لا يجوز بيعُه، وما يُذْكَر من نفع في بعضها فهو قليل، فلا يكونُ مبيحًا للبيع، كما لم يبح النبي صلى الله عليه وسلم بيع الميتة؛ لما ذكر له ما فيها من الانتفاع.
ولهذا كان الصحيح أنه لا يباح بيع العَلُق
(2)
لمصّ الدم، ولا الديدان للاصطياد، ونحو ذلك.
* * *
[ما يستخدم في الاصطياد]:
• وأما ما فيه نفع للاصطياد منها؛ كالفهد والبازي والصقر؛ فحكى أكثر الأصحاب في جواز بيعها، روايتين عن أحمد.
(1)
ليست في م.
(2)
العلق: جمع علقة، والمراد بها هنا دودة في الماء تمص الدم.
مختار: (علق).
ومنهم من أجاز بيعها، وذكر الإجماع عليه، وتأول رواية الكراهة كالقاضي أبي يعلى في "المجرد".
ومنهم من قال: لا يجوز بيع الفهد والنسر.
وحكى فيه وجهًا آخر بالجواز، وأجاز بيعَ البزاة والصقور، ولم يحك فيه خلافًا.
وهو قول أبي موسى وأجاز بيعَ الصقر والبازي والعُقَابِ ونحوهِ أكثرُ العلماء؛ منهم: الثوريُّ، والأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وإسحقُ.
والمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات عنه جوازُ بيعها.
وتوقف في رواية عنه في جوازه إذا لم تكن مُعَلّمةً.
* قال الخلال: العمل على ما رواه الجماعة: أنه يجوزُ بيعُها بكل حال.
وجعل بعض أصحابنا الفيلَ حكمه حكم الفهد ونحوه وفيه نظر.
* والمنصوص عن أحمد في رواية حنبل؛ أنه لا يحل بيعه، ولا شراؤه وجعلَه كَالسَّبُع.
* وحُكي عن الحسن أنه قال: لا يركب ظهره وقال: هو مسخ.
وهذا كله يدل على أنه لا منفعة فيه.
* * *
[بيع الدب]:
ولا يجوز بيع الدب؛ قاله القاضي في "المجرد".
وقال ابن أبي موسى: لا يجوز بيعُ القرد.
قال ابن عبد البر: لا أعلم في ذلك خلافًا بين العلماء.
وقال القاضي في "المجرد": إن كان يُنتفع به في موضع؛ لحفظ المتاع؛ فهو كالصقر والبازي، وإلا؛ فهو كالأسد.
لا يجوز بيعه.
والصحيح: المنع مطلقًا، وهذه المنفعة يسيرة، وليست هي المقصودةَ منه؛ فلا يبيح البيع كمنافع الميتة.
ومما نهي عن بيعه: جِيفُ الكفار إذا قُتلوا.
خرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "قتل المسلمون يوم الخندق رجلًا من المشركين، فأُعْطُوا بجيفته مالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ادفعوا إليهم جيفته؛ فإنه خبيثُ الجيفة، خبيثُ الدية" فلم يقبل منهم شيئًا
(1)
.
* وخرجه الترمذي ولفظه: "إن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجلٍ من المشركين؛ فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم [إياه] "
(2)
.
وخرجه وكيع في كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلًا.
ثم قال وكيع: الجيفةُ لا تُباع.
وقال حرب: قلت لإسحاق: ما تقول في بيع جيف المشركين من المشركين؟ قال: لا.
وروى أبو عمر الشيباني: أن عليًّا أتي بالمستورد العجلي وقد تنصر، فاستتابه؛ فأبى أن يتوب؛ فقتله فطلبت النصارى جيفته بثلاثين ألفًا؛ فأبى عليّ فأحرقه
(3)
.
* * *
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 53 (المعارف) ح 2230 بإسناد صحيح كما ذكر محققه.
(2)
أخرجه الترمذي في: 24 - كتاب الجهاد: 35 - باب ما جاء لا تفادى جيفة الأسير 4/ 214 ح 1715 وقد عقب أبو عيسى بقوله:
هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الحكم.
ورواه الحجاج بن أرطأة أيضًا عن الحكم. وقال أحمد بن حنبل: ابن أبي ليلى لا يحتج بحديثه.
وقال محمد بن إسماعيل: ابن أبي ليلى صدوق، ولكن لا نعرف صحيح حديثه من سقيمه، ولا أروي عنه شيئًا، وابن أبي ليلى صدوق فقيه، وإنما يهم في الإسناد وما بين القوسين من الترمذي.
(3)
رواه عبد الرزاق في المصنف 10/ 170 ح 18710 وبلغ ذلك عن علي في مثله: ابنَ عباس فقال - كما روى البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم: باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم 12/ 267 ح 6922: "لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" أقول: فالتحريق اجتهاد من الإمام علي، وليس باتجاه إسلامي.
الحديث السادس والأربعون
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيه أبِي مُوسى الأشْعَرِيٍّ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَسَأَلَة عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصنَعُ بِهَا
(1)
، فَقَالَ:"وَمَا هِيَ؟ " قَالَ: الْبِتْعُ وَالمزْرُ، فَفِيلَ لِأَبِي بُرْدَةَ: ما الْبِتْعُ؟ قالَ: نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَالمِزْرُ: نَبِيذُ الشَّعِيرِ.
فَقَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ".
* * *
[تخريج الحديث]:
خَرَّجَه الْبُخَارِيُّ
(2)
.
• وخرجه مسلم ولفظه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا ومعاذَ بنَ جبل إلى اليمن فقلت: يا رسول الله! إنّ شرابًا يُصنَعُ بأرضنَا يقالُ له: المزْرُ، من الشعير، وشرابٌ يقال له: البِتْعُ، من العسل؟ فقال:"كلّ مسكرٍ حرام"
(3)
.
• وفي رواية لمسلم فقال: "كلُّ ما أسكَر عن الصلاة فهو حرام".
وفي رواية له قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أُعطي جوامعَ الكلم بخواتمه فقال: "أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة"
(4)
.
(1)
م: "الأشربة" وما أثبتناه عن "ا" هو الموافق لما في البخاري.
(2)
أخرجه البخاري في: 64 - كتاب المغازي: 60 - باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن؛ قبل حجة الوداع 8/ 62 ح 4343 من حديث سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها، فقال: وما هي؟ قال: البتع والمزر، فقلت لأبي بردة: ما البِتْعُ؟ قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير، فقال:"كل مسكر حرام".
وأخرجه عقبه ح 4344، 4345 بنحوه. وفيه أن أبا موسى قال: يا نبي الله! إن أرضنا بها شراب من الشعير: المزر، وشراب من العسل: البِتْع؟ فقال: "كل مسكر حرام
…
" الحديث.
(3)
أخرجه مسلم في: 36 - كتاب الأشربة: 7 - باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام 3/ 1586 ح 70 - (1733).
(4)
كلا الروايتين في صحيح مسلم في الموضع المذكور عقب الحديث السابق.
ومعنى قوله: أعطي جوامع الكلم بخواتمه كما قال النووي: أنه عليه السلام أوتي إيجاز اللفظ مع تناوله المعاني الكثيرة جدًّا، بخواتمه؛ أي كأنه يختم على المعاني الكثيرة التي تضمنها اللفظ اليسير؛ فلا يخرج منها شيء عن طالبه ومستنبطه؛ لعذوبة لفظة وجزالته. نووى 13/ 170.
[هذا الحديث أصل في تحريم كل مسكر]:
• فهذا
(1)
الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات المغطية للعقل.
[العلة المحرمة للمسكر]:
• وقد ذكر الله تعالى في كتابه العلَّة المقتضية لتحريم المسكرات.
[هذا الحديث أصل]:
• وكان أول ما حرمت الخمر عند حضور وقت الصلاة لما صلى بعض المهاجرين وقرأ في صلاته فخلط في قراءته؛ فنزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}
(2)
.
• وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي: لا يقرب الصلاةَ سكران. ثم إن الله حرمها على الإطلاق بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
(3)
فذكر سبحانه علة تحريم الخمر والميسر - وهو القمار - وهو أن الشيطان يُوقعُ بينهم العدواةَ والبغضاء؛ فإن من سَكِرَ اختلَّ عقلُه، فربما تسلَّط على أذى الناس في أنفسهم وأموالهم، وربما بَلَغ إلى القتل، وهي أم الخبائث؛ فمن شربها قتل النفس، وزنى، وربما كفر.
• وقد رُوي هذا المعنى عن عثمان وغيره
(4)
.
(1)
"ا": "هذا".
(2)
سورة النساء: 43.
(3)
سورة المائدة: 90، 91.
(4)
كما روى ابن حبان في صحيحه: (7/ 367) من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه: عبد الرحمن بن الحارث قال: سمعت عثمان بن عفان خطيبًا، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اجتنبوا أم الخبائث؛ فإنه كان رجل ممن قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فعلقته امرأة فأرسلت إليه خادمًا فقالت: إنا ندعوك لشهادة، فدخل، فطفقت كلما يدخل بابًا أغلقته دونه حتى أفضى إِلى امرأة وضية جالسة وعندها غلام وباطية (وعاء كبير) فيها خمر، فقالت: إنا لم ندعك لشهادة، ولكن دعوتك لتقتل هذا الغلام، أو تقع عليّ، أو تشرب كأسًا هذا الخمر، فإن أبيت صحت بك وفضحتك، قال: فلما رأى أنه لا بد له من ذلك قال: اسقيني كأسًا من هذا الخمر، فسقته كأسًا من الخمر، فقال: زيديني، فلم يزل حتى وقع عليها، وقتل النفس؛ فاجتنبوا الخمر؛ فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر في صدر رجل أبدًا، ليوشكن أحدهما يخرج صاحبه. وقد أورده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 258 - 259 وزاد نسبته إلى البيهقي مرفوعًا مثله، وموقوفًا، قال: وذكر [البيهقي] أنه المحفوظ.
• وروي مرفوعًا
(1)
أيضًا.
• ومن قامر، فربما قُهِر، وأُخذِ مالُه قهرًا فلم يبق له شيء، فيشتدّ حقدُه على مَن أخذ مالَه.
• وكل ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حرامًا، وأخبر سبحانه أن الشيطان يصد بالخمر واليسر عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فإن السكرانَ يزولُ عقله، أو يختلّ؛ فلا يستطع أن يذكر الله ولا أن يصلي.
• ولهذا قالت طائفة من السلف: إن شاربَ الخمر تمرُّ عليه ساعةٌ لا يعرف فيها ربَّه، والله سبحانه تعالى إنما خلق الخلق ليعرفوه، ويذكروه، ويعبدوه، ويطيعوه، فما أدى إلى الامتناع من ذلك، وحالَ بين العبد وبينَ معرفة ربه وذِكْرِه ومُنَاجَاتِهِ؛ كان محرَّمًا وهو السكر.
* * *
• وهذا بخلاف النوم؛ فإن الله تعالى جَبَلَ العباد عليه واضطرَّهُمْ إليه، ولا قوامَ لأبدانهم إلا به، إذ هو راحة لهم من السعي والنَّصَب؛ فهو من أعظم أَنْعُمِ الله علَى عباده؛ فإذا نامَ المؤمنُ بقدر الحاجة، ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته، ودعائه؛ كان نومُه عونًا له على الصلاة والذكر.
ولهذا قال مَن قال مِنَ الصحابة: إني أحتسبُ نَوْمَتِي كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي
(2)
.
• وكذلك الميسر يَصُدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة؛ فإن صاحبَه يعكُف بقلبه عليه، ويشتغلُ به عن جميع مصالحه ومُهماته، حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه.
ولهذا قال عليّ رضي الله عنه لما مرّ على قوم يلعبون بالشَّطرنج: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ فشبّههم بالعاكفين على التماثيل.
(1)
وانظر أيضًا ما أورده الحاكم في المستدرك 4/ 147 والمنذري في الترغيب والترهيب 3/ 258 من حديث عبد الله بن عمرو وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلًا فخيره بين أن يشرب الخمر، أو يقتل نفسًا، أو يزني، أو يأكل لحم خنزير، أو يقتلوه؛ فاختار الخمر، وأنه لا شرب الخمر؛ لم يمتنع من شيء أرادوه منه
…
الحديث.
وقد ذكر المنذري أن الطبراني رواه بإسناد صحيح وأن الحاكم قال: على شرط مسلم.
أقول: وقد سكت عنه الذهبي.
(2)
القائل هو معاذ بن جبل راجع صحيح البخاري 8/ 62 ح 4344، 4345.
[مدمن الخمر كعابد الوثن]:
• وجاء في الحديث أن "مُدْمِنَ الخمر كعابد وثن"
(1)
؛ فإنه يتعلق قلبه بها، فلا يكاد يمكنه أن يدعها كما لا يدع عابد الوثن عبادته.
• وهذا كله مضاد لما خلق الله العبادَ لأجله من تفريغ قلوبهم لمعرفته، ومحبته، وخشيته، وذكرِه، ومُنَاجاته، ودعائه، والابتهال إليه. فما حال بين العبد وبين ذلك، ولم يكن بالعبد إليه ضرورةٌ بل كان ضررًا محضًا عليه كان محرَّمًا.
• وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لمن رآهم يعلبون الشطرنج: "ما لهذا خلقتم".
• ومن هنا يعلم أن الميسر محرم سواء كان بعِوَض أو بغير عِوَض، وأن الشطرنج كالنَّرد أو شرٌّ منه؛ لأنها تشغل أصحابَها عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النّرد.
• والمقصود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كلّ مُسْكِرٍ حرامٌ، وكُلُّ ما أسكَر عن الصلاة فهو حَرَام".
• وقد تواترت الأحاديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فخرّجا في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كلّ مسكر خمر، وكلّ خَمْرٍ حرام"
(2)
.
ولفظ مسلم: "وكُلّ مسكرٍ حرام"
(3)
.
وخرجا أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
رواه ابن حبان في صحيحه 7/ 367 من رواية العوام بن حوشب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن".
قال أبو حاتم: يشبه أن يكون معنى هذا الخبر: من لقي الله مدمن خمر مستحلا لشربه كعابد وثن لاستوائهما في حالة الكفر.
(2)
هذه الرواية عن ابن عمر ليست في البخاري؛ وإنما هي في صحيح مسلم: 36 - كتاب الأشربة: 7 - باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام 3/ 1587 - ح 73 - (2003) من حديث أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة" و 74 - (
…
) من طريق موسى بن عقبة عن نافع
…
بلفظ: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".
و 75 - (
…
) من طريق عبيد الله، عن نافع
…
بلفظ: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام".
(3)
هذا يفيد أن اللفظ الأول ليس لمسلم، وقد علمت أن مسلمًا هو الذي روى الصيغتين جميعًا.
وانظر الإرواء 8/ 40 ففيه جميع طرق حديث ابن عمر في هذا وليس منها البخاري.
سئل عن البتع، فقال:"كل شراب أسكر فهو حرام". وفي رواية لمسلم: "كل شراب مسكر حرام"
(1)
.
وقد صحح هذا الحديث أحمد ويحيى بن معين وأصحابه واحتجَّا به.
ونقل ابن عبد البر إجماعَ أهل العلم بالحديث على صحته، وأنه أثبت شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحريم المسكر.
وأما ما نقله بعض فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه فلا يثبت ذلك عنه.
وخرج مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام"
(2)
.
* * *
[إلى هذا ذهب الجمهور]:
وإلى هذا القول ذهب جمهور من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم من علماء الأمصار.
وهو مذهب مالك، والشافعي، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وإسحق، ومحمد بن الحسن، وغيرهم.
وهو مما أَجْمَعَ على القول به أهلُ المدينة كلُّهم.
وخالف فيه طوائفُ من علماء أهل الكوفة، وقالوا: إن الخمر إنما هو خَمْرُ العنب خاصة، وما عاداها؛ فإنما يَحْرُم منه القدرُ الذي يُسْكِرُ، ولا يَحْرُمُ ما دونه.
وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين، مغفورًا لهم، وفيهم خَلْقٌ من أئمة العلم والدين.
• قال ابن المبارك: ما وجدتُ في النبيذ رُخْصَة عن أحد صحيح؛ إلا عن إبراهيم،
(1)
رواه مسلم في صحيحه في الموضع السابق ح 68 - (
…
) و 69 (
…
) وهو عند البخاري ح 242 وطرفاه في 5585، 5586.
(2)
هذا جزء حديث أخرجه مسلم في الباب المذكور ح 72 - (2002) من حديث عمارة بن غزية، عن أبي الزبير، عن جابر أن رجلًا قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المِزْرُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو مسكر هو؟ " قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال": قالوا: يا رسول الله! وما طينة الخبال؟: قال: "عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار".
يعني النخعي.
• ولذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيءٌ يصحّ.
• وقد صنف كتابَ الأشربة ولم يذكر فيه شيئًا من الرخصة.
• وصنف كتابًا في المسح على الخفين، وذكر فيه عن بعض السلف إنكارَه، فقيل له: كيف لم تجعلْ في كتاب الأشربة الرخصة كما جعلتَ في المسح؟ فقال: ليس في الرخصة في السكر حديث صحيح.
* * *
[دليل على أن كل مسكر خمر]:
• ومما يدلّ على أن كل مسكر خمر أن تحريمَ الخمر إنما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عما عندهم من الأشربة، ولم يكن بها خمر العنب، فلو لم تكن آية تحريم الخمر شاملة لما عندهم؛ لما كان فيها بيانٌ لما سألوا عنه، ولكان محملُ السبب خارجًا من عموم الكلام، وهو ممتنع.
ولما نزل تحريم الخمر أراقُوا مَا عندهم من الأشربة؛ فدلّ على أنهم فهموا أنه من
(1)
الخمر المأمور باجتنابه.
• وفي صحيح البخاري عن أنس قال: حرمت علينا الخمر حين حرمت، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلًا، وعامة خَمْرِنَا البُسْر
(2)
والتمر.
وعنه أنه قال: إني لأَسقي أبا طلحة، وأبا دُجَانة، وسُهَيْلَ بنَ بيضاء، خليط بسر وتمر إذ حرمت الخمر؛ فقذفتها وأنا ساقيهم وأصْغَرُهم، وإنا لنعدها حينئذٍ الخمر
(3)
.
• وفي الصحيحين عنه قال: "ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ"
(4)
.
• وفي صحيح مسلم عنه قال: لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر وما بالمدينة
(1)
ليست في ب.
(2)
أخرجه البخاري في: 74 - كتاب الأشربة: 2 - باب الخمر من العنب وغيره 10/ 35 ح 5580.
(3)
راجع ما أخرجه مسلم في: 36 - كتاب الأشربة: 1 - باب تحريم الخمر 3/ 1571 - 1572.
(4)
أخرجه البخاري: 65 - كتاب التفسير: 10 - باب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان 8/ 277 ح 4617 ومسلم 3/ 1570 - 1571 ح 3 - 1980.
شراب يشرب إلا من تمر
(1)
.
• وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما فيها شراب العنب
(2)
.
• وفي الصحيحين عن الشعبي، عن ابن عمر قال: قام عمر رضي الله عنه على المنبر فقال: أما بعد؛ نزل تحريم الخمر وهي من خمس: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر: ما خامر العقل
(3)
.
وخرجه الإمام أحمد
(4)
وأبو داود
(5)
والترمذي
(6)
من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكر الترمذي أن قول من قال: عن الشعبي، عن ابن عمر، عن عمر أصح.
وكذا قال ابن المديني.
(1)
مسلم 3/ 1572 ح 10 - 1982، والفضيخ: عصير العنب، وشرابٌ يُتخذ من البُسْر: البلح قبل أن يرطب فيكسر وينقع من غير أن تمسَّه النار، فإن كان مع البُسْر تمر؛ فهو الذي يسمى الخليطين.
المعجم الوسيط 2/ 699، وغريب الهروي 2/ 302 - 303.
(2)
صحيح البخاري: الموضع السابق ح 4616 قبل الحديث المذكور.
(3)
أخرجه البخاري في الموضع السابق ح 4616 وأطرافه في 5581، 5588، 5589، ومسلم في: 54 - كتاب التفسير: 6 - باب نزول تحريم الخمر 4/ 2322 ح 32 - (3032)، 33 - (
…
).
(4)
في المسند 4/ 273 (الحلبي) من رواية يُونس عن ليث، عن يزيد بن أبي حبيب. عن خالد بن كثير الهمداني، عن السرى بن إسماعيل، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا، وأنا أنهى عن كل مسكر".
(5)
في السنن: 20 - كتاب الأشربة: 4 - باب الخمر مم هو؟ 4/ 83 - 84 من رواية الحسن بن علي، عن يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن الشعبي - به: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من البُر خمرًا، وإن من الشعير خمرًا".
(6)
في السنن: 27 - كتاب الأشربة: 8 - باب ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر 4/ 297 ح 1872 من رواية محمد بن يحيى، عن محمد بن يوسف، عن إسرائيل - به بمثل ما عند أحمد، بتقديم وتأخير. قال: وفي الباب عن أبي هريرة.
[و] هذا حديث غريب.
وأورده عقبه من وجه آخر عن يحيى بن آدم - به - وقال: وروى أبو حيان التيمي هذا الحديث، عن الشعبي، عن ابن عمر، عن عمر قال: إن من الحنطة خمرًا؛ فذكر هذا الحديث، وإسناده ثم قال: وهذا أصح من حديث إبراهيم بن مهاجر، وقال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: لم يكن إبراهيم بن مهاجر بالقوى الحديث، وقد روي من غير وجه أيضًا عن الشعبي، عن النعمان بن بشير.
وروى أبو إسحق عن أبي بُردة
(1)
قال: قال عمر: ما خمرته فَعَتَّقْتَهُ: فهو خمر، وأَنَّى كانت لنا الخمر خَمْرَ العنب؟
[ما أسكر كثيرة فقليله حرام]:
• وفي مسند الإمام أحمد، عن المختار بن فلفل قال: سألت أنس بن مالك عن الشّرب في الأوعية قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المزفتة فقال: "كُلّ مسكرٍ حرام" قلت له: صدقت، السَّكَر حرام فالشربة والشربتان على طعامنا؟ قال: المسكر قليلُه وكَثِيرُه حرام، وقال: الخمر من العِنَبِ، والتَمْرِ، والعَسَلِ، والحِنْطَة، والشعير والذرة؛ فما خمرت من ذلك؛ فهو الخمر
(2)
.
خرجه أحمد، عن عبد الله بن إدريس، سمعت المختار يقول
…
فذكره.
وهذا إسناد على شرط مسلم.
• وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الخمر من هاتين الشَّجَرَتَيْن: النَّخْلة
(3)
والعِنَبة".
وهذا صريح في أن نبيذ التمر خمر.
• وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، كما خرجه أبو داود
(4)
وابن ماجه
(5)
(1)
م: "هريرة".
(2)
نص الحديث في مسند أحمد 3/ 112 (الحلبي) من حديث المختار بن فلفل قال: سألت أنس بن مالك عن الشرب في الأوعية، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفتة، وقال:"كل مسكر حرام" قال: قلت: وما المزفتة؟ قال: "المقيرة" قال: قلت؛ فالرصاص والقارورة؟ قال: "ما بأس بهما"، قال: قلت: فإن ناسًا يكرهونها؟، قال:"دع ما يريبك إلا ما لا يريبك؛ فإن كل مسكر حرام"، قال: قلت له: صدقت، السكر حرام؛ فالشربة والشربتان على طعامنا؟، قال:"ما أسكر كثيره فقليله حرام" وقال: "الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة فما خمرت من ذلك؛ فهي الخمر".
وإذًا فقد اختصره ابن رجب.
ورواه أحمد مختصرًا في 3/ 119.
وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 56 عن أحمد والبزار وقال: رجال أحمد رجال الصحيح.
وفي المطبوعة: "صدقت فالشربة" وما ذكرناه من الأصول الخطية.
(3)
أخرجه مسلم في: 36 - كتاب الأشربة: 4 - باب بيان أن جميع ما ينبذ مما يتخذ من النخل والعنب يسمى خمرًا، 3/ 1573 - 1574 ح 13 - (1985) و 14، 15 من وجوه عن أبي هريرة، والوجهان الأولان بالنص المذكور.
(4)
أخرجه أبو داود في: 20 - كتاب الأشربة: 5 - باب النهي عن المسكر 4/ 87 ح 3681.
(5)
أخرجه ابن ماجه في: 10 - كتاب الأشربة: 10 باب ما أسكر كثيره فقليله حرام 2/ 1125.
والترمذي
(1)
وحسنه، من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"ما أسكر كثيرُه فقليله حرام".
وخرج أبو داود
(2)
والترمذي
(3)
وحسنه من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرْقُ فمِلْءُ الكَفِّ منه حَرَام".
وفي رواية: "الحَسْوَةُ منه حرام".
• وقد احتج به أحمد وذهب إليه.
وسئل عن قال إنه لا يصح فقال: هذا رجل مُغْلٍ يعني: أنه قد غلا في مقالته.
• وقد خرّج النسائي هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
.
• وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه كثيرة يطول ذكرها.
• وروى ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، حدثني أبو وهيب الجيشاني، عن وفد أهل اليمن، أنهم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن أشربة تكون باليمن قال: فَسَمَّوْا له البِتْعَ من العَسَل، والمِزْرَ من الشعير، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"هل تَسْكَرُونَ منها "؟ قالوا: إن أكثرنا منها
(5)
سكرنا، قال:"فحرام قليل ما أسكَرَ كَثيرُه".
خرجه القاضي إسماعيل.
• وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم تحتج بقول النبي صلى الله عليه وآله
(1)
في: 27 - كتاب الأشربة: 3 - باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام 4/ 292.
قال أبو عيسى: وفي الباب عن سعد وعائشة، وعبد الله بن عمرو وابن عمر وخوات بن جبير.
[و] هذا حديث حسن غريب من حديث جابر.
(2)
أبو دارد في الباب السابق ح 3687 والفرق بفتح الراء وسكونها مكيال مدني سعته 16 رطلًا - قاموس.
(3)
أخرجه الترمذي في الموضع السابق ح 1866 من طريقين وأشار عقب الحديث إلى الرواية الأخرى التي أشار إليها ابن رجب ثم قال:
هذا حديث حسن وقد رواه ليث بن أبي سليم، والربيع بن صبيح .. إلخ.
(4)
أخرجه النسائي في السنن: 51 - كتاب الأشربة: 25 - تحريم كل شراب أسكر كثيره (8/ 300 - 301) ح 5607 - 5609 من حديثهما بنحوه، وهما في صحيح السنن 3/ 137، وذكر الشيخ أن أولهما حسن صحيح وإن ثانيهما صحيح.
(5)
ليست في "ا"، ولا في ب.
وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " على تحريم جميع أنواع المسكرات، ما كان موجودًا منها على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما حَدَث بعده، كما سئل ابنُ عباس عن الباذَقِ؟ فقال:"سبق محمد صلى الله عليه وسلم الباذَقَ؛ فما أسكر فهو حرام"
(1)
.
خرجه البخاري.
يشير إلى أنه إن كان مُسْكِرًا، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة.
* * *
[السكر نوعان]:
• واعلم أن المسكر المزيل للعقل نوعان:
• أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، فهذا هو الخمر المحرَّم شربُه.
وفي المسند عن طلق الحنفي، أنه كان جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: يا رسول الله! ما ترى في شراب نصنعه بأرضنا من ثمارنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سائلٌ عن المسكر؟ فلا تشربْه ولا تَسْقِهِ أخاكَ السلم؛ فوالذي نفسي بيده - أو بالذي يحلف به - لا يشربه رجلٌ ابتغاءَ لذةٍ مُسْكِرَةٍ؟ فيسقيَه الله الخمر يوم القيامة"
(2)
.
قالت طائفة من العلماء: وسواء كان هذا المسكر جامدًا أو مائعًا.
وسواء كان مطعومًا أو مشروبًا.
وسواء كان من حب أو تمر أو لبن أو غير ذلك.
وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل هن ورق القنَّب
(3)
وغيرها مما يؤكل لأجل
(1)
أخرجه البخاري في: 74 - كتاب الأشربة: 10 - باب الباذَق ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة 10/ 62 ح 5598 من حديث أبي الجويرية، قال: سألت ابن عباس عن الباذَق؛ فقال: سبق محمد الباذق، فما أسكر فهو حرام، قال: الشراب الحلال الطيب؛ قال: ليس بعد الحلال الطيب، إلا الحرام الخبيث.
والباذق ضبط بفتح المعجمة، وقيل: بكسرها، هو الخمر إذا طبخ، فارسي معرب، وقيل: هو المطبوخ من عصير العنب إذا أسكر، أو إذا طبخ بعد أن اشتد.
(2)
أورده الهيثمي في المجمع 5/ 73 عن أحمد والطبراني، وقال: رجال أحمد ثقات، ولم أجده في المطبوع من المسند، وفي المجمع: "
…
ابتغاء سكره" وفي بعض الأصول "لذة سكر" وفي بعضها "سكره".
(3)
القُنَّب: نبات حولي زراعي ليفي من الفصيلة القنبية، تفتل لحاؤه حبالًا، والقنب الهندي نوع من القنب يستخرج منه المخدر الضار المعروف بالحشيش والحشيشة. المعجم الوسيط 2/ 767 وفي القاموس: القنب كَدِنَّم وسُكّر: نوع من الكتان.
لذته وسكره، وفي سنن أبي داود من حديث شهر بن حوشب، عن أم سلمة قالت:
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومُفْتِر"
(1)
.
والفْتِر! هو الخدر للجسد وإن لم ينته إلى حد الإسكار.
* * *
[التداوي بالسكر غير الملذ]:
• والثاني: ما يزيل العقل ويسكره، ولا لذّة فيه ولا طرب، كالبنج ونحوه.
فقال أصحابنا: إنْ تناولَه لحاجة التداوي به، وكان الغالب منه السلامة جاز.
وقد روي عن عروة بن الزبير أَنه لما وقعت الأكِلَة في رجله، وأرادوا قطعها، قال له الأطباء: نسقيك دواءً حتى يغيب عقلك، ولا تُحِسَّ بألم القطع؟ فأبى وقال: ما ظننت أن خلقًا يشرب شرابًا يزول منه عقله حتى لا يعرف ربه!!.
وروي عنه أنه قال: لا أشرب شيئًا يحول بيني وبين ذكر ربي عز وجل.
[تناول السكر الذي لا لذة فيه لغير التداوي]:
• وإن تناول ذلك لغير حاجة التداوي، فقال أكثر أصحابنا: كالقاضي، وابن عقيل، وصاحب المغني: إنه محرم؛ لأنه تسبب إلى إزالة العقل لغير حاجة؛ فحرم كشُرْب المسكر.
• وروي حَنَش الرحبي - وفيه ضعف - عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا:"من شرب شرابًا يذهب بعقله؛ فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر"
(2)
.
• وقالت طائفة منهم ابن عقيل في فنونه: لا يحرم ذلك؛ لأنه لا لذة فيه، والخمر
(1)
أخرجه أبو داود في الباب السابق ح 3886 وفي النهاية 3/ 408 أنه من أفتر: صار فيه فتور وضعف.
(2)
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 70 من حديث ابن عباس، وقال: رواه أبو يعلى الطبراني، وفيه حسين بن قيس الرحبي، وهو ضعيف.
وقد حرف حنش بن قيس إلى حسين بن قيس وقد رواه ابن عبد البر في التمهيد 5/ 77 من طريق حنش بن قيس الرحبي به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر، ومن شهد شهادة فاجتاح بها مال مسلم؛ فقد تبرأ مقعده من النار، ومن شرب شرابًا حتى يذهب عقله الذي رزقه الله؛ فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر".
قال ابن عبد البر:
وهذا حديث وإن كان في إسناده من لا يحتج بمثله أيضًا من أجل حنش؛ فإن معناه صحيح من وجوه.
إنما حرمت لما فيها من الشدة المطربة، ولا إطرابَ في البنج ونحوه ولا شدة.
* * *
[وماذا لو طلق في هذه الحال؟]:
• فعلى قول الأكثرين: لو تناول ذلك لغير حاجة وسَكِرَ به فطلّق فحكم طلاقه حُكْم طلاق السكران.
قاله أكثر أصحابنا كابن حامد، والقاضي، وأصحاب الشافعي.
• وقالت الحنفية: لا يقع طلاقه.
وعللوا بأنه ليس فيه لذة.
وهذا يدلّ على أنهم لم يُحَرّمُوه.
• وقالت الشافعية: هو محرم، وفي وقوع الطلاق معه وجهان.
وظاهر كلام أحمد: أنه لا يقع طلاق بخلاف السكران.
• وتأوله القاضي وقال: إنما قال ذلك إلزامًا للحنفية لا اعتقادًا له.
وسياق كلامه محتمل لذلك.
[عقوبة المسكر]:
وأما الحد؛ فإنما يجب بتناول ما فيه شدة وطرب من المسكرات، لأنه هو الذي تدعو النفوس إليه؛ فجعل الحدَّ زاجرًا عنه.
فأما ما فيه سكر بغير طرب، ولا لذة؛ فليس فيه سوى التعزير؛ لأنه ليس في النفوس داعٍ إليه حتى يحتاج إلى حدّ مقدّر زاجر عنه؛ فهو كأكل الميتة، ولحم الخنزير، وشرب الدم.
وأكثر العلماء الذين يرون تحريمَ قليل ما أسكر كثيرُه، يرَوْنَ حدّ مَنْ شَرِب ما يُسكر كثيره، وإن اعتقد حِلّه متأولًا - وهو قول الشافعي، وأحمد، خلافًا لأبي ثور، فإنه قال: لا يُحَدُّ، لتأوُّلِه فهو كالناكح بلا وليّ.
[والناكح بغير ولي]:
وفي حد الناكح بغير وليٍّ خلافٌ أيضًا.
لكن الصحيح أنه لا يحدّ.
• وقد فرّق مَنْ فرّق بينه وبين شرب النبيذ متأولًا بأن شرب النبيذ المختلف فيه داع إلى شرب الخمر المجمعِ على تحريمه، بخلاف النكاح بغير ولي؛ فإنه مغن عن الزنا المجمع على تحريمه، وموجبٌ للاستعفاف عنه.
• والمنصوص عن أحمد: أنه إنما حَدَّ شاربَ النبيذ متأوّلًا لأن تأويله ضعيف لا يُدرأ عنه الحدُّ به؛ فإنه قال في رواية الأثرم: "يحدّ مَنْ شَرِب النبيذَ متأولًا".
ولو رُفع إلى الإمام مَن طلّق ألبتة، ثم راجعها متأولًا: أن طلاق ألبتة واحدة والإمام يرى أنها ثلاث؛ لا يفرق بينهما.
وقال: هذا غيرُ ذاك، أمْرُه بين في كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيخ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر".
فهذا بيِّن، وطلاق ألبتة إنما هو شيء اختلف الناس فيه.
* * *
الحديث السابع والأربعون
عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مُعْدِ يكَرِبَ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"ما مَلأَ ابْنُ
(1)
آدَمَ وِعاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحِسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ
(2)
يُقِمْنَ صلْبَهُ، فَإِنْ كانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ". رَوَاهُ الإِمامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ
(3)
حَسَنٌ.
* * *
[تخريج الحديث]:
هذا الحديث خرجه الإمام أحمد
(4)
والترمذي
(5)
من حديث يحيى بن جابر الطائي، عن المقدام، وخرجه النسائي من هذا الوجه
(6)
، ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن
(7)
جدّه.
وخرجه ابن ماجه من وجه آخر عنه
(8)
.
(1)
"ا""آدمي" كما في الترمذي وابن ماجة، وما أثبتناه كما في المسند.
(2)
في سنن ابن ماجة و "م": "لقيمات" وكلها مروي صحيح.
(3)
ليست في "ا".
(4)
في المسند 4/ 132 (الحلبي) من رواية أبي المغيرة، عن سليمان بن سليم الكناني، عن يحيى بن جابر الطائي، عن المقدام.
(5)
في السنن: 37 - كتاب الزهد: 47 - باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل 4/ 590 ح 2380 من رواية سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن عياش، عن أبي سلمة الحِمصي وحبيب بن صالح، عن يحيى بن جابر، عن المقدام، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
…
فذكره.
ومن رواية الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عياش نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه "سمعت". وعقّب أبو عيسى بقوله:
هذا حديث حسن صحيح.
وذكر ابن رجب أنه عقب بالحسن فقط، وذلك راجع إلى اختلاف النسخ كما في التحفة 8/ 512.
(6)
في الكبرى في الوليمة (99: 2) عن عمرو بن عثمان، عن بقية بن الوليد، عن أبي سلمة: سليمان بن سليم و (3:99) عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح كلاهما عنه - به كما في التحفة في الموضع السابق.
(7)
في الكبرى أيصا في الوليمة (99: 1) عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن حرب، عن أبي سلمة بن سليم، عن صالح بن يحيى، عن جده المقدام بن معد يكرب كما في التحفة 8/ 509.
(8)
في: 29 - كتاب الأطعمة: 50 - باب الاقتصاد في الأكل 2/ 1111 ح 3349 من رواية هشام بن عبد الملك الحمصي، عن محمد بن حرب، عن أمه، عمن أمها، أنها سمعت المقدام بن معد يكرب يقول
…
فذكره.
وله طرق أُخر
(1)
.
وقد روى هذا الحديث مع ذكر سببه.
فروى أبو القاسم البغوي في معجمه من حديث عبد الرحمن بن المرقَّع، قال: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وهي مخضرة من الفواكه؛ فوقع الناس في الفاكهة فَغَشِتتْهُم الحمّى، فَشَكوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما الحمّى رائدُ الموت، وسجْنُ الله في الأرض، وهي قطعة من النار، فإذا أخذتكمْ فَبَرِّدُوا الماءَ في الشِّنَانِ، فصبّوها عليكم بين الصلاتَين يعني المغرب والعشاء"، قال: ففعلوا ذلك؛ فذهبَتْ عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يخلق الله وعاءً إذا مُلِئَ شَرًّا من بطن، فإن كان لابد، فاجعلوا ثلثًا للطعام، وثلثًا للشراب، وثلثًا للريح"
(2)
.
* * *
[هذا الحديث أصل جامع في الطب]:
وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها، وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا
(3)
من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات
(4)
، ودكاكين الصيادلة.
[التخمة أصل الداء]:
وإنما قال هذا لأن أصل كل داء التُّخَم كما قال بعضهم: "أصل كل داء: البَرَدَةُ".
وروي مرفوعًا ولا يصح رفعه
(5)
.
(1)
وانظر التحفة 8/ 509، 512، 513، والموسوعة 9/ 225.
(2)
وأورده الهيثمي في المجمع 5/ 97 - 98 وقال: رواه الطبراني: وفيه المحبر بن هارون ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. ثم أورده عقبه من طريق فريح بن عبيد والمحبر وقال: لم أعرفهما وبقية رجاله ثقات.
(3)
"ا": "سلموا".
(4)
م: "المارشايات" وهو تحريف.
(5)
أورده العجلوني في كشف الخفاء 1/ 146 - 147 وقال: "رواه أبو نعيم المستنفري، والدارقطني في العلل بسند فيه تمام بن نجيح ضعفه الدارقطني، ووثقه ابن معين وغيره عن أنس رفعه.
وفى رواية عند المستغفري: أصل كل داء البردة.
ولأبي نعيم - أيضًا - عن ابن عباس مرفوعًا مثله.
ومن حديث عمرو بن الحارث، عن أبي سعيد رفعه:"أصل كل داء من البردة".
ومفرداتها ضعيفة. =
[والحمية رأس الدواء]:
• وقال الحارث بن كَلَدَة طبيب العرب: "الحِمْيَةُ رأسُ الدواء، والبِطْنَةُ رأس الداء".
ورفعه بعضهم ولا يصح أيضًا
(1)
.
• وقال الحارث أيضًا: "الذي قتل البَرِية، وأهلك السِّبَاعَ في البرِّية، إدخال الطعام على الطعام، قبل الانهضام".
وقال غيره: "لو قيل لأهل القبور: ما كان سبب آجالكم؛ لقالوا: التخم".
فهذا بعض منافع تقليل الغذاء، وترك التملي من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته.
[صلاح القلب في قلة الغذاء]:
• وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه؛ فإن قلة الغذاء تُوجب رِقَّةَ القلب، وقوة الفهم، وانكسارَ النفس، وضعفَ الهوى والغضب.
وكثرةُ الغذاء توجب ضدَّ ذلك.
[من المأثور في ذلك]:
• قال الحسن: يا ابن آدم! كُلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودعْ ثُلُث بطنك يتنفس؛ لتتفَكّر
(2)
.
* * *
= وقال الدارقطني - كغيره -: الأشبه بالصواب؛ أنه من قول الحسن البصري.
وحكاه في الفائق من كلام ابن مسعود.
أما عن تفسير الكلمة؛ فقد نقل العجلوني، عن الدارقطني شرحها وضبطها فقال: قال الدارقطني: "المحدثون يروونه بسكون الراء؛ ولذلك ضم إليه بعضهم: "والحر".
والصواب فتحها بمعنى التخمة؛ لأنها تبرد حرارة الشهوة؛ أو لأنها ثقيلة على المعدة، بطيئة الذهاب، من برد إذا ثبت وسكن".
وهكذا خطَّأ العسكري في التصحيفات: (1/ 155) القول بسكون الراء وصوَّب فتحها بمعنى التخمة وقال: "هكذا سمعته من أبي بكر بن دريد وغيره"، ورواه الأعمش عن خيثمة، عن عبد الله؛ أنه قال:"أصل كل داء البَرَدَة".
ثم قال: قال الأعمش: "سألت أعرابيًّا من كَلْب عن البَردة؟! فقال: هي التخمة، وسميت التخمة بردة؛ لأنها تبرد حرارة الجوف
…
إلخ.
(1)
وراجع كشف الخفاء 2/ 214 ح 2320. والمقاصد 388 ومختصر المقاصد 206 ح 952 والتمييز 245 ح 1276 والدرر المنتثرة 372 ح 370 والكشف الإلهي 2/ 734 ح 1066/ 297 والتذكرة للزركشي 145 وهوامشها.
(2)
م: "ويفكر".
وقال المروزي: جعل أبو عبد الله - يعني الإمام أحمد - يعظم أمر
(1)
الجوع والفقر؛ فقلت له: يُؤْجَرُ الرجل في ترك الشهوات؟ فقال: وكيف لا يؤجر؟ وابن عمر يقول: ما شبعت منذ أربعة
(2)
أشهر!.
• قلت لأبي عبد الله: يجد الرجل من قلبه رقة وهو شبع
(3)
؟ قال: ما أرى.
وروى المروزي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه.
فروى بإسناده عن ابن سيرين قال: "قال رجل لابن عمر: ألا أجيئك بجوارش؟ قال: وأي شيء هو؟ قَال: شيءٌ يهضمُ الطعام إذا أكلته. قال: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وليس ذاك أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقوامًا يجوعون أكثر مما يشبعون"
(4)
.
• وبإسناده عن نافع قال: "جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر فقال: ما هذا؟ قال: شيء
(5)
يهضم به الطعام قال: ما أصنع به؟ إني ليأتي
(6)
عليَّ الشهرُ ما أشبع فيه من الطعام".
• وبإسناده عن رجل قال: قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن! رقت مَضغَتُك، وكَبِر سنُّك، وجُلَسَاؤك لا يعرفون لك حقَّك، ولا شرفَك؟ فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئًا يُلْطِفُوكَ إذا رجعتَ إليهم؟ قال: ويحك! والله ما شبعتُ منذ إحدى عشرة سنة، ولا اثنتي عشرة سنة، ولا ثلاث عشرة سنة، ولا أربع عشرة سنة، مرة واحدة، فكيف بي وإنما بقي مني كَظِمْءِ الحمار
(7)
.
وبإسناده عن عمرو بل الأسوِد العنَسي أنه كان يدع كثيرًا من الشِّبع مخافة الأشر
(8)
.
• وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الجوع" بإسناده عن نافع، عن ابن عمر قال:"ما شبعتُ منذ أسلمتُ"
(9)
.
• وروى بإسناده عن محمد بن واسع قال: "من قل طُعْمُه، فَهِم وأفهَمَ، وصفا
(1)
م: "من".
(2)
م: "ثلاثة".
(3)
"ا": "يشبع".
(4)
أورده أحمد في الزهد 2/ 121 بنحوه.
(5)
"ا": "جوارش".
(6)
"ا": "إنه".
(7)
م: "بقي مني ما بقي" وهو تحريف والتصويب من "ا".
وهو من الظّمء: ما بين الشربين، وفي المثل:"لم يبق منه إلا قدر ظمء الحمار": لم يبقَ من عمره إلا اليسير، لأن الحمار قليل الصبر على الظمأ.
المعجم الوسيط 2/ 583، والخبر في الزهد لأحمد 2/ 126 وفيه: "يلطفونك به
…
" والحلية 1/ 229 كذلك.
(8)
الحلية 5/ 156.
(9)
الخبر في الحلية 1/ 299.
ورقّ، وإنَّ كثرةَ الطَّعام؛ لتثْقِلُ صاحبه عن كثير مما يريد
(1)
".
• وعن أبي عبيدة الخواص قال: حَتفُك في شبعك، وحَظّك في جوعك، إذا أنتَ شبعتَ ثَقُلْتَ فنمتَ، استمكن منك العدو، فجثَم عليك، وإذا أنتَ، تجوّعتَ، كنتَ للعدو بمرصد.
• وعن عمرو بن قيس قال: إياكم والبطنة؛ فإنها تُقْسِي القلبَ.
• وعن سلمة بن سعيد قال: إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعمله.
• وعن بعض العلماء قال: إذا كنتَ بطينًا؛ فاعْدُدْ نَفْسَك زَمِنًا حتى تَخْمَصَ.
• وعن ابن الأعرابي قال: كانت العرب تقول: ما بات رجل بطينًا فتم عزمه.
• وعن أبي سليمان الداراني قال: إذا أردتَ حاجة من حوائج الدنيا والآخرة، فلا تأكل حتى تقضيها؛ فإن الأكل يغيّر العقل.
• وعن مالك بن دينار قال: "ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبرَ همه، وأن تكون شهوته هي الغالبة عليه
(2)
".
قال: وحدّثني الحسين
(3)
بن عبد الرحمن، قال: قال الحسن أو غيره: كانت بلية أبيكم آدم عليه السلام أكلة، وهي بليتكم إلى يوم القيامة.
قال: وكان يقال: مَنْ ملك بطنَه ملَكَ الأعمالَ الصالحة كلّها.
• وكان يقال: لا تسكن الحكمة معدةً ملأى.
• وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان يُقال: قِلة الطعم عونٌ على التسرُّع إلى الخيرات.
• وعن قثم العابد قال: كان يُقال: ما قلَّ طعمُ امرئٍ قطُّ إلا رقَّ قلبه، ونديت عيناه.
• وعن عبد الله بن مرزوق قال: لم نَرَ للأشِر مثلَ دوام الجوع، فقال له أبو عبد الرحمن العمري الزاهد: وما دوامه عندك؟ قال: دوامُه أن لا تشبع أبدًا. قال: وكيف يقدر مَنْ كان في الدنيا على هذا؟ قال: ما أيسرَ ذلك يا ألا عبد الرحمن! على أهل ولايته، ومن وفَّقه لطاعته، لا يأكل إلا دونَ الشبع وهو دوامُ الجوع.
ويشبه هذا قولُ الحسن لما عرض الطعامَ على بعض أصحابه، فقال له: أكلتُ حتى لا
(1)
الخبر في الحلية 2/ 351.
(2)
سقطت من م.
(3)
م: "الحسن" وفيه تحريف.
أستطع أن آكل، فقال الحسن: سبحان اللّه! ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل؟!.
• وروى أيضًا إسناده عن أبي عمران الجوني، قال: كان يقال: من أحبّ أن يُنوَّرَ له قلبه، فليُقِلَّ طُعمَه.
• وعن عثمان بن زائدة قال: كتب إليَّ سفيان الثوري: إن أردت أن يصحَّ جسمك، ويَقِلَّ نومك، فأقلَّ من الأكل.
• وعن ابن السماك قال: خلا رجل بأخيه، فقال: أي أخي، نحن أهونُ على اللّه من أن يُجيعنا، إنَّما يُجيع أولياءَه.
• وعن عبد اللّه بن الفرج
(1)
قال: قلت لأبي سعيد التميمي: الخائف يشبع؟ قال: لا، قلت: المشتاق يشبع؟ قال: لا.
• وعن رياح القيسي أنه قرب إليه طعام، فأكل منه، فقيل له: ازدد، فما أراك شبعت، فصاح صيحة وقال: كيف أشبع أيام الدنيا، وشجرةُ الزّقوم طعامُ الأثيم بين يديّ؟ فرفع الرجل الطعام من بين يديه، وقال: أنت في شيء، ونحن في شيء
(2)
.
• قال المروزي: قال لي رجل: كيف ذاك المتنعم يعني أحمد؟ قلت له: وكيف هو متنعم؟ قال؟ أليس يجد خبزًا يأكل، وله امرأة يسكن إليها، ويطؤها، فذكرتُ ذلك لأبي عبد اللّه فقال:"صدق" وجعل يسترجع وقال: "إنا لنشبع! ".
• وقال بشر بن الحارث: ما شبعتُ منذ خمسين سنة.
• وقال: "ما ينبغي للرجل أن يشبعَ اليومَ من الحلال، لأنه إذا شبع من الحلال، دعته نفسه إلى الحرام، فيكُفّ
(3)
من هذه الأقذار".
• وعن إبراهيم بن أدهم قال: "من ضَبَطَ بطنه، ضبط دينَه، ومَنْ مَلَك جُوعَه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية اللّه بعيدة من الجائع، قريبةٌ من الشَّبعان، والشِّبَعُ يميت القلبَ، ومنه يكون الفرحُ والمرحُ والضحك".
• وقال ثابت البُنَاني: "بلغنا أن إبليسَ [لعنه اللّه] ظهر ليحيى بن زكريا عليهما
(1)
م: "بن أبي الفرج" وهو تحريف.
وأخبار عبد اللّه بن الفرج في الحلية 6/ 239 و 7/ 355.
(2)
الخبر في الحلية 6/ 194 وفيها أن الذي قرب إليه الطعام هو عبد المؤمن الصائغ حيث كان مضيفًا له في منزله.
(3)
م: "فكيف".
السلام، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال له يحيى عليه السلام: يا إبليس! ما هذه المعاليق التي أرى عليك؟ قال: هذه الشهوات التي أصيبُ من بني آدم؟ قال: فهل لي فيها شيء؟ قال: ربما شبعتَ فثقّلناك عن الصلاة، وعن الذكر. قال: فهل غيرُ هذا؟ قال: لا، قال: للّه على أن لا أملأ بطي من الطعام أبدًا، قال: فقال إبليس - لعنه اللّه -: للّه علي أن لا أنصح مسلمًا أبدًا"
(1)
.
• وقال أبو سليمان الداراني: "إن النفس إذا جاعت وعطشت، صفَا القلبُ ورَقّ، وإذا شبعت ورويت، عَمِيَ القلبُ".
• وقال: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة: الخوف من اللّه عز وجل، وإن اللّه ليعطي
(2)
الدنيا مَن يحبّ ومن لا يحبّ، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة، فلا يُعْطِي إلا مَنْ أحبّ خاصة، ولأن أدع من عَشَائي لُقْمَةً أَحَبُّ إليَّ من أَنْ آكلها، ثم أقومَ من أول الليل إلى آخره".
• وقال الحسن بن يحيى الخشني: "من أراد أن تَغْزُرَ دموعُه، ويرقَّ قلبُه، فليأكل وليشرب في نصف بطنه"
(3)
.
• وقال أحمد بن أبي الحواري، فحدثتُ بهذا أبا سليمان، فقال:"إنما جاء الحديث: ثلث طعام، وثلث شراب، وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم فربحوا سُدُسًا".
• وقال محمد بن النضر الحارثي: "الجوعُ يَبْعثُ على البر كما تبعث البطنة على الأشر"
(4)
.
• وعن الشافعي قال: "ما شبعتُ منذ ستة عشر سنة، إلا شَبْعَةً أطرحُها؛ لأن الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة".
وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام وقال: "حسب ابن آدم لقيماتٌ يقمْن صُلْبه"
(5)
.
• وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمنُ يأكل في معيٍّ واحد، والكافر يأكل
(1)
الخبر في الحلية 6/ 328 - 329 وفي إحدى نسخها: أن لا أنصح إنسائا.
(2)
"1": "يعطي" والخبر في الحلية 9/ 259 أتم من هذا وباختلاف يسير في التقديم والتأخير.
(3)
الخبر في الحلية 8/ 318 بنحوه.
(4)
الخبر في الحلية 8/ 222 وفيه تحريف مطبعي بيّن.
(5)
الذي ساقه وشرحه من ص 1237.
في سبعة أمعاء"
(1)
والمراد أن المؤمن يأكل بآداب الشرع؛ فيأكل في معي واحد، والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشرَه
(2)
والنهم فيأكل في سبعة أمعاء، وندب صلى الله عليه وسلم مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه فقال:"طعامُ الواحد يكفي الاثنين، وطعامُ الاثنين يكفي الثلاثة، وطعامُ الثلاثة يكفي الأربعة"
(3)
.
* * *
[أحسن ما أكل المؤمن]:
فأحسنُ ما أكل المؤمن في ثلث بطنه، وشرب في ثلث، وترك للنفس ثلثًا، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المقدام؛ فإن كثرةَ الشرب تجلبُ النوم، وتُفسد الطعام.
• قال سفيان: كلْ ما شئت، ولا تشرب؛ فإذا لم تشرب لم يجئك النوم
(4)
.
• وقال بعض السلف: كان شباب يتعبدون في بني إسرائيل؛ فإذا كان عيد فطرهم قام عليهم قائم فقال: لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فتناموا كثيرًا، فتخسروا كثيرًا.
• وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يجوعون كثيرًا
(5)
، ويتقللون من أكل الشهوات، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام؛ إلا أن اللّه تعالى لا يختار لرسوله إلا أكملَ الأحوال وأفضلَها
(6)
.
ولهذا كان ابن عمر يتشبه بهم في ذلك
(7)
، مع قدرته على الطعام، وكذلك أبوه
(8)
(1)
أخرجه البخاري في: 70 - كتاب الأطعمة: 12 - باب المؤمن يأكل في معي واحد 9/ 536 ح 5393، 5394، 5395، 5396، 5397.
ومسلم في: 36 - كتاب الأشربة: 34 - باب المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء 3/ 1631، 1632 ح 182 - 186 كلاهما من حديثي ابن عمر وأبي هريرة.
وروى مسلم في هذا حديث أبي موسى كذلك.
(2)
م: "والشدة" وهو تحريف.
(3)
أخرجه البخاري في: 70 - كتاب الأطعمة: 11 - باب طعام الواحد يكفي الاثنين 9/ 535 ح 5392 من حديث أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: 36 - كتاب الأشربة: 33 - باب فضيلة المواساة في الطعام القليل، وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة ونحو ذلك 3/ 1630 ح 178 - (2058)، 179 - (2059)، 180 - (
…
)، 181 - (
…
) من أحاديث أبي هريرة وجابر، ومن وجوه عديدة.
(4)
أورده أبو نعيم في الحلية 7/ 18.
(5)
في م: "يجوعون كثيرًا ولا يشربون كثيرًا ويتقللون".
(6)
راجع في هذا ص 223 وما بعدها من كتابنا "منهج السنة في الزواج".
(7)
"ا": "يتشبه بهم مع قدرته".
(8)
ليست في م.
من قبله.
• ففي الصحيحين عن عائشة قالت: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من خبز برّ ثلاث ليال تباعًا، حتى قبض"
(1)
.
• ولمسلم قالت: "ما شبع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين؛ حتى قبض"
(2)
.
وخرج البخاري عن أبي هريرة قال: "ما شبع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام؛ حتى قبض"
(3)
.
• وعنه قال: "خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير"
(4)
.
وفي صحيح مسلم عن عمر: أنه خطب فذكر ما أصابَ الناسُ من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دَقَلًا يملأ به بطنه
(5)
.
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وآله وسلم، قال:"لقد أوذيتُ في اللّه وما يؤذَى أحد، ولقد أُخِفْتُ في اللّه وما يُخَافُ أحد، ولقد أتتْ عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي الطعام؛ إلا مَا وارَاهُ إبِطُ بِلالٍ"
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري في: 70 - كتاب الأطعمة: 23 - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون 9/ 749 ح 5416 وانظر طرفه في 6454 وأخرجه مسلم في: 53 - كتاب الزهد والرقائق:1 - 2281 ح 20 - (2970)، 21 - 24 من وجوه، كلاهما عن عائشة.
(2)
في الموضع السابق ح 22.
(3)
أخرجه البخاري في: 70 - كتاب الأطعمة: 1 - باب قوله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} 9/ 517 ح 5374.
وهو عند مسلم أيضًا في الموضع السابق ح 32 (2976)، 33.
(4)
البخاري في 70 - كتاب الأطعمة: 23 - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون 9/ 549 ح 5414 وقد سقطت كلمة: "من الدنيا"، من أ.
(5)
مسلم في الموضع السابق: الزهد ح 36 - 2978 (4/ 2285).
والدقل: رديء التمر.
والجملة الأخيرة ليست في م.
(6)
أخرجه الترمذي في: 38 - كتاب صفة القيامة: 34 - باب حدثنا هرون (4/ 645) ح 2472.
وعقب عليه بقوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
ومعنى هذا الحديث: حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم هاربًا من مكة ومعه بلال، إنما كان مع بلال من الطعام ما يحمله تحت إبطه، وكلمة صحيح في بعض نسخ الترمذي على ما في طبعة إستامبول 7/ 174.
وأخرجه ابن ماجه في مقدمة السنن 1/ 54 ح 151.
• وخرَّج ابن ماجه بإسناده عن سليمان بن صرد قال: "أتانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَمَكَثْنَا ثلاث ليال لا نقدر - أو لا يقدر - على طعام"
(1)
.
وبإسناده عن أبي هريرة قال: "أُتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بطعامٍ سُخْنٍ، فأكل؛ فلما فرغَ قال: الحمد للّه ما دخل بطني طعامٌ سُخْنٌ منذ كذا وكذا"
(2)
.
[ذم القرآن من اتبع الشهوات]:
• وقد ذم اللّه ورسوله من اتبع الشهوات قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ}
(3)
. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيرُ القُرون قَرْني، ثم الذين يلُونَهُم ثم الذين يلونَهُمْ، ثم يأتي قوم يَشْهدون ولا يُسْتَشْهَدُون، وَيَنذِرُون ولا يُوفونَ، ويظهرُ فيهم السِّمَنُ"
(4)
.
• وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا سمينًا فجعل يومئ بيده إلى بطنه ويقول: "لو كان هذا في غير هذا؛ لكان خيرًا لك"
(5)
.
• وفي المسند عن أبي بَرْزَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم؛ شهواتُ الغَيِّ في بطونكم وفروجكم ومُضِلَّاتُ الهوى"
(6)
.
• وفي مسند البزَّار وغيره عن فاطمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شرار أمتي الذين غذُّوا
(1)
أخرجه ابن ماجه في: 37 - كتاب الزهد: 15 - باب معيشة آل محمد صلى الله عليه وسلم 2/ 1389 ح 4149، وأورده البوصيري في الزوائد 2/ 330 ح 1472، وقال: هذا إسناد ضعيف لجهالة التابعي، ولم أرَ مَن صنف في المبهمات ذكره وما علمته؛ وهو في ضعيف السنن ص 341.
(2)
أخرجه ابن ماجه عقب الحديث السابق ح 4150، وأورده البوصيري في الزوائد عقب الحديث السابق وقال: هذا إسناد حسن.
(3)
سورة ص مريم: 59، 60.
(4)
انظر في هذا ما رواه مسلم في صحيحه: 44 - كتاب فضائل الصحابة: 52 - باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم 4/ 1962 - 1965 ح 208 - 216 (2532 - 2536). والبخاري ح 3650، 2651، 6428، 6695 من حديث عبد الله بن مسعود وغيره.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 339 (الحلبي) من رواية وكيع، عن شعبة، عن أبي إسرائيل الجشمي، عن شيخ لهم يقال له: جعدة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى لرجل رؤيا، قال: فبعث إليه، فجاء، فجعل يقصها عليه، وكان الرجل عظيم البطن، قال: "فجعل يقول: بإصبعه في بطنه: لو كان
…
".
أورده الهيثمي في المجمع 5/ 31 عن الطبراني وأحمد، وقال: رواه كله الطبراني، ورواه أحمد، ورجال الجميع رجال الصحيح، غير أبي إسرائيل الجشمي، وهو ثقة.
أي فالحديث حسن. وقد صححه الحاكم في المستدرك 4/ 121 - 122 وأقره الذهبي.
(6)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 420، 423 (الحلبي) من وجوه، عن أبي برزة بنحوه. وقد أورده الهيثمي في المجمع 1/ 193 وقال: رواه أحمد، والبزار، والطبراني في الثلاثة، ورجاله رجال الصحيح.
بالنعم، الذين يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام"
(1)
.
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر قال: "تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كُفَّ عنَّا جُشَاءَكَ؛ فإن أكثَرَهُمْ شِبَعًا في الدُّنْيَا أطولُهم جوعًا يوم القيامة"
(2)
.
• وخرجه ابن ماجه من حديث سلمان أيضًا بنحوه
(3)
.
(1)
قال الزبيدي في الإتحاف 7/ 412:
أي يتوسعون فيه من غير تحرز ولا احتياط. قال العراقي: رواه ابن عدي في الكامل من طريق البيهقي في الشعب من حديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى من حديث فاطمة بنت الحسين مرسلًا، قال الدارقطني في العلل: إنه أشبه بالصواب، ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث عائشة بإسناد لا بأس به. اهـ.
قلت: وكذلك رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة، وابن عساكر، كلهم من رواية عبد الله بن الحسن عن أمه، عن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولفظ حديثهم: شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يأكلون أنواع الطعام، ويلبسون ألوان الثياب! ويتشوقون في الكلام.
وقال البيهقي بعد أن أورده: تفرد به علي بن ثابت، عن عبد الحميد الأنصاري. اهـ.
وعلي بن ثابت ساقه الذهبي في الضعفاء، وقال: ضعفه الأزدي، قال: وعبد الحميد ضعفه القطان، وهو ثقة. اهـ.
وجزم المنذري بضعفه وقد روي هذا الحديث أيضًا عن عبد اللّه بن جعفر، وعن ابن عباس فحديث عبد اللّه بن جعفر لفظه: شرارُ أمَّتى الذين ولدوا في النعيم وغذوا به .. يأكلون من الطعام ألوانًا، ويلبسون في الثياب ألوانًا، ويركبون من الدواب ألوانًا، يتشدقون في الكلام. رواه الحاكم والبيهقي في الشعب، وقال الحاكم: صحيح، وتعقبه الذهبي؛ بأن فيه أصرم بن حوشب، وهو ضعيف.
وأما لفظ حديث ابن عباس: شرارُ أمتى الذين غذوا بالنعيم وغذوا فيه؛ الذين يأكلون طيب الطعام، ويلبسون لين الثياب، هم شرار أمتي حقًّا حقًّا. فقد رواه الديلمي في مسند الفردوس.
والحديث عند ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة" ص 32 - 33 ح 10 وفي "الصمت" ص 109، 110 ح 150 وكلا الموضعين من رواية إسماعيل بن إبراهيم الترجماني، عن علي بن ثابت، عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، عن عبد اللّه بن حسن، عن أمه، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وعند الحاكم في المستدرك 3/ 568 من رواية عبد اللّه بن جعفر، ولم يكتف الذهبي بتضعيف الحديث.
كما يذكر الزبيدي؛ وإنما قال: أظنه مرفوعًا، فإسحاق، متروك وأصرم متهم بالكذب.
وأفاض الشيخ ناصر الألباني في ذكر طرقه المرسلة والموصُولة، وأن مراسيله صحاح وجياد، وإِن طرقه الموصُولة المختلفة والمروية من أحاديث البراء، وأبي أمامة، وعائشة رضي الله عنهم، وإن تكن ضعافًا فإنها بمجموعها ترقى بالحديث إلى الحسن لغيره.
وانظر - إذًا - ما أورده في الصحيحة 4/ 512 - 515 ح 1891، وصحيح الجامع الصغير وزيادته 1/ 630 ح 3705. وقد أورده ابن عدي في الكامل 5/ 319 من حديث فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ومن طريق علي بن ثابت، عن عبد الحميد بن جعفر، مع أحاديث أخرى لعبد الحميد بن جعفر. ثم قال: ولعبد الحميد غير ما ذكرت روايات، وأرجو أنه لا بأس به، وهو ممن يكتب حديثه، وانظر هامشي الصمت وذم الغيبة. ولم يعزه أحد إلى البزار كما رأيت وإنما هو فيه من مسند أبي هريرة ح 3616.
(2)
أخرجه ابن ماجة في السنن: 29 - كتاب الأطعمة: 50 - باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع 2/ 112 ح 3350. وهو عند الترمذي في السنن 2480 بإسناد حسن غريب كما في إحدى نسخ طبعة إستامبول.
(3)
عقب الحديث السابق من رواية داود بن سليمان العسكري، ومحمد بن الصباح، عن سعيد بن محمد=
وخرجه الحاكم من حديث أبي جحيفة
(1)
وفي أسانيدها كلها مقال واللّه أعلم.
[ثلث للطعام]:
• وروى يحيى بن منده في كتاب مناقب الإمام أحمد بإسناد له عن الإمام أحمد أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلثٌ للطعام، وثلثٌ للشراب، وثلثٌ للنفَس" فقال: "ثلُث للطعام هُوَ القُوت، وثُلُث للشَّرَاب هو القُوَى، وثُلُث للنَّفَس هو الروح".
* * *
= الثقفي، عن موسى الجهني، عن زيد بن وهب، عن عطية بن عامر الجهني قال: سمعت سلمان وأكره على طعام يأكله فقال: حسبي؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أكثر الناس شبعًا في الدنيا، أطولهم جوعًا يوم القيامة".
وقد عقب البُوصيري على الحديث في الزوائد بقوله: "هذا إسناد فيه مَقال؛ سعيد بن محمد الوراق ضعفه ابن معين، وأبو حاتم، وابن سعد، وأبو داود، والنسائي، وابن عدي والدارقطي، ووثقه ابن حبان والحاكم، وقال المزي في الأطراف:
رواه سعيد بن عنبسة الرازي وهو ضعيف، عن سعيد بن محمد.
وقال عامر بن عطية:
رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من رواية سعد بن محمد، عن موسى، عن زيد، عن عطية بن عامر به - فذكره بزيادة.
وله شاهد من حديث ابن عمر، رواه الترمذي ورواه الحاكم من حديث أبي جحيفة.
(1)
في المستدرك 4/ 121، وفي إسناده فهد بن عوف، وعمر بن موسى، قال الذهبي: فهد، قال المديني: كذاب، وعمر هالك.
الحديث الثامن والأربعون
عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرو عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كانَ مُنَافِقًا وَإِن
(1)
كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عاهَدَ غَدَرَ". خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
* * *
[تخريج الحديث]:
• هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية الأعمش، عن عبد اللّه بن مرة، عن مسروق، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص
(2)
.
• وخرجاه في الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان"
(3)
.
• وفي رواية لمسلم: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.
وفي رواية له أيضًا: "من علامات المنافق ثلاثة
…
".
وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر.
[تأويل الحديث]:
• وهذا الحديث قد حمله طائفة ممن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم حدثوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكذَبوه، وائتمنهم على سره؛ فخانوه،
(1)
م: "ومن" وهو موافق لإحدى روايتي مسلم.
(2)
أخرجه البخاري في 2 - كتاب الإيمان: 24 - باب علامة المنافق 1/ 89 ح 23.
وفي: 46 - كتاب المظالم: 17 - باب إذا خاصم فجر 5/ 107 ح 2459.
وفي: 58 - كتاب الجزية والوادعة: 17 - باب إثم من عاهد ثم غدر 6/ 279 ح 3178.
وفي هذا الموضع: "من إذا حدث كذب".
وأخرجه مسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 25 - باب بيان خصال المنافق 1/ 78 ح 106 - (58).
من وجهين في الثاني منهما: "وإن كانت فيه خصلة منهن".
(3)
في البخاري في الموضع الأول وأطرافه في أحاديث 2682، 2749، 6095.
وفي مسلم عقب حديث عبد اللّه بن عمرو ومن وجوه عديدة، فيها الروايات التي أشار إِليها ابن رجب وفي ا، ر:"وخرجا في الصحيحين".
ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو؛ فأخلفوه.
وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء، وأنه قال: حدثني به جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن الحسن رجع إلى قول عطاء هذا لما بلغه عنه، وهذا كذب والمحرم هذا: شيخ كذاب معروف بالكذب.
وقد روي عن عطاء من وجهين آخرين ضعيفين؛ أنه أنكر على الحسن قوله: ثلاث من كن فيه؛ فهو منافق، وقال: قد حدث إخوة يوسف فكذَبوا، ووعدوا فأخلفوا، وائتمنوا فخافوا، ولم يكونوا منافقين.
وهذا لا يصح عن عطاء، والحسنُ لم يقل هذا من عنده، وإنما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالحديث ثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، لا شك في ثبوته وصحته.
[بماذا فسر النفاق؟]:
والذي فسره به أهل العلم المعتبرون: أن النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان خلافه.
وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين:
• أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أن يُظْهِرَ الإنسانُ الإيمان باللّه وملائِكَتِهِ وكُتُبِه ورُسُلِهِ واليوم الآخِر، ويُبْطِنَ ما يناقض ذلك كُلّه أو بعضَه.
وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذم أهله، وَبكُفرِهم
(1)
، وَأَخْبَر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.
• والثاني: النفاق الأصغر، وهو نِفَاقُ العمَل، وهو أن يظهر الإنسانُ علانيةً صالحةً، ويبطنَ ما يُخَالِفُ ذلك.
[أصول النفاق]:
وأصولُ هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث وهي خَمْسَة:
• أحدها: أن يحدّث بحديث لمن يصدقه به، وهو كاذب له.
وفي المسند
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كَبُرَتْ خِيَانةً أن تحدِّثَ أخاكَ حديثًا هُوَ لَكَ
(1)
ر: "وتكفيرهم".
(2)
في المسند 4/ 183 (الحلبي) من حديث النواس بن سمعان. وضعفه الهيثمي في المجمع 8/ 101 بعمر بن هارون وهو في ضعيف الجامع 4162 والضعيفة 1251 وفي بعض النسخ: أشد الخلف.
مُصَدّق، وأنت به كاذب".
قال الحسن: كان يقال: النفاق اختلاف السرِّ والعلانية، والقولِ والعمل، والمدخلِ والمخرج، وكان يقال: أسُّ النفاق الذي بنى عليه النفاق: الكذب.
* * *
• الثاني: إذا وعد أخلف.
وهو على نوعين:
أحدهما: أن يعد، ومن نيته أن لا يفي بوعده، وهذا أشرُّ الخُلف.
ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى، ومن نيته أن لا يفعل؛ كان كذبًا وخلفًا.
قاله الأوزاعي.
والثاني: أن يَعِدَ ومن نيته أن يفي، ثم يبدو له فيُخلفُ من غير عذر له في الخُلف.
وخرج أبو داود
(1)
والترمذي
(2)
من حديث زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا وعَدَ الرَّجُلُ ونَوى أن يفي به، فلم يف؛ فلا جُنَاحَ عليه".
وقال الترمذي: ليس إسناده بالقوي.
وخرجه الإسماعيلي وغيرُه من حديث سَلْمَان أن عليًّا لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: ما لي أَرَاكُما ثقيلين؟ قالا: حديث سمعناه من النبي صلى الله عليه وسلم ذكر خلالَ المنافق، "إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذَب، وإذا ائتُمِنَ خان" فأينا ينجُو من هذه الخصال. فدخل عليٌّ على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال:"قد حدَّثْتُهُمَا ولم أضَعْه على الموضع الذي تضعونه، ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسَهُ أن يكذب، وإذا وعَد وهو يحدِّثُ نفسَه أن يُخلف، وإذا ائتُمِنَ وهو يحدّث نفسه أن يخون".
(1)
أخرجه أبو داود في: 35 - كتاب الأدب: 90 - باب في العدة 5/ 268 ح 4995،
رواية محمد بن المثني، عن أبي عامر، عن إبراهيم بن طهمان، عن علي بن عبد الأعلى، عن أبي النعمان، عن أبي وقاص، عن زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفى له فلم يف ولم يجئ للميعاد؛ فلا إثم عليه".
(2)
أخرجه الترمذي في 41 - كتاب الإيمان: 14 - باب ما جاء في علامة النفاق 20/ 5 ح 2633 من رواية محمد بن بشار، عن أبي عامر - به - بنحوه.
وعقب أبو عيسى بقوله: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوى، علي بن عبد الأعلى ثقة، ولا يعرف أبو النعمان، ولا أبو وقاص، وهما مجهولان.
وقال أبو حاتم الرازي: هذا الحديث من رواية سلمان، وزيدِ بن أرقم: الحديثان مضطربان، وفي الإسناد مجهولان
(1)
وقال الدارقطني
(2)
: "الحديث مضطرب غير ثابت" والله أعلم.
وخرج الطبراني والإسماعيلي من حديث عليّ مرفوعًا: "العِدَةُ دَيْنٌ. وَيْلٌ لمن وَعَدَ ثم أخلَفَ" قالها ثلاثًا.
وفي إسناده جهالة
(3)
. ويروى من حديث ابن مسعود قال: لا يعد أحدكم صبيه، ثم لا ينجز له فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العدة عطية" وفي إسناده نظر.
وَأوله صحيح عن ابن مسعود من قوله.
وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العدة هبة" وفي سنن أبي داود، عن مولى لعبد الله بن عامر بن ربيعة، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صَبيٌّ فخرجت لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعالَ أعطك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أردت أن تعطيه؟ " قلت: أردت أن أعطيه تمرا، فقال:"إن لم تفعلي كتبت عليك كَذْبَة".
وفي إسناده من لا يعرف
(4)
.
وذكر الزهري عن أبي هريرة قال: "من قال لصبيّ تعالَ هاك تمرًا ثم لا يعطيه شيئًا فهي كذبة".
وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعد، فمنهم من أوجبه مطلقًا.
وذكر البخاري في صحيحه أن ابن أشوع قضى بالوعد
(5)
، وهو قول طائفة من أهل
(1)
كذا قال الهيثمي في المجمع 1/ 113 إذْ أورده عن الطبراني، وقال الحافظ في الفتح 1/ 90 إسناده لا بأس به ليس فيهم من أجمع على تركه.
(2)
في العلل 1/ 185 - 186 س 11.
(3)
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 166 من حديث علي وابن مسعود عن الطبراني في الأوسط، والصغير ثم قال: وفيه حمزة بن داود ضعفه الدارقطني.
(4)
أخرجه أبو داود في: 35 - كتاب الأدب: 88 - باب في التشديد في الكذب 5/ 265 ح 4991 رواية عن قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن رجل من موالى عبد الله بن عامر - به. وإسناده ضعيف للجهالة بهذا المولى. لكن أورده الشيخ ناصر الألباني في صحيح أبي داود 3/ 942، 943 وحسن إسناده وأحال على الصحيحة 748.
(5)
ابن الأشوع كما في الفتح وعمدة القارى: هو سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني، قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وذلك بعد المائة، مات في ولاية خالد، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يحيى بن معين: مشهور يعرفه الناس. وقضاؤه في الصحيح 5/ 289 من الفتح.
الظاهر وغيرهم.
ومنهم من أوجبَ الوفاءَ به إذا اقتضى تغريمًا للموعود وهو المحكي عن مالك.
وكثيرٌ من الفقهاء لا يوجبونه مطلقًا
* * *
• والثالث: إذا خاصم فجر.
ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدًا حتى يصير الحق باطلًا، والباطل حقًّا.
وهذا مما يدعو إليه الكذب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار"
(1)
.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أبغضَ الرجال إلى الله الألدّ الخَصِمُ"
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتختصمون إليَّ ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أن يكونَ ألحنَ بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"
(3)
.
(1)
انظر في هذا ما رواه مسلم في صحيحه: 45 - كتاب البر والصلة: 29 - باب قبح الكذب، وحسن الصدق وفضله 4/ 2012 - 2013 ح 103 - (2607) وما بعده من حديث عبد الله.
ومعنى قضائه بالوعد: حكمه بوجوب إنجاز الوعد، وقد روي ذلك عن سمرة بن جندب.
وكان إسحاق بن راهويه - كما ذكر البخاري يحتج بحديث ابن الأشوع عن سمرة في القول بوجوب إنجاز الوعد؛ ولما كان من صفات المنافقين خلف الوعد؛ كان من صفات المؤمنين إنجاز الوعد؛ ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد.
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعد أحدًا شيئا إلا وفي له به.
وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال: حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي.
راجع تفسير ابن كثير 3/ 125، وعمدة القاري 13/ 258، وفتح الباري 5/ 289 - 290.
(2)
أخرجه البخاري في: 46 - كتاب المظالم: 15 - باب قول الله تعالى: {وهو ألد الخصام} 5/ 106. وطرفاه في ح 4523، 7188.
قال ابن حجر: الألد: الشديد اللَّدَد أي الجدال مشتق من اللديدين؛ وهما صفحتا العنق، والمعنى أنه من أي جانب أخذ في الخصومة قوي.
والخصم: الشديد الخصومة في الباطل، وبالباطل ولو في إثبات حقٍّ.
ومسلم في 47 - كتاب العلم: 2 - باب في الألد الخصم 4/ 2054 ح 5 (2668) من حديث عائشة.
(3)
راجع في هذا ما أخرجه البخاري في: 46 كتاب الظالم: 16 - باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه 5/ 107 ح 2458 وأطرافه في أحاديث: 2680، 6967، 7169، 7181، 7185.
ومسلم في: 30 - كتاب الأقضية: 3 - باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة 3/ 1337 - 1338 ح 4 - (1713)، 5، 6 من حديث أم سلمة من وجوه عديدة. وفي بعض النسخ:"مما أسمع".
وقال صلى الله عليه وسلم
(1)
: "إن من البيان سِحْرًا".
فإذا كان الرجلُ ذا قدرةٍ عند الخصومة سواء كانت خصومتُه في الدين، أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل، ويخيل للسامع أنه حق، ويوهن الحقّ، ويخرجه في صورة الباطل كان ذلك من أقبح المحرمات، ومن أخبث خصال النفاق.
وفي سنن أبي داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من خاصمَ في باطلٍ وهو يعلمه لم يزل في سَخَطِ الله حتى يَنْزِعَ"
(2)
.
وفي رواية له أيضًا: "ومَنْ أعان على خُصُومَةٍ بظُلْمٍ فقد بَاءَ بغضَبٍ من الله"
(3)
.
* * *
• الرابع إذا عاهد غدر ولم يف بالعهد.
وقد أمر الله بالوفاء بالعهد، فقال:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}
(4)
.
(1)
راجع في هذا ما أخرجه مالك في الموطأ 986 وأبو داود في السنن: 35 - كتاب الأدب: 95 - باب ما جاء في الشعر 5/ 276 - 279 ح 5009 - 5112 من حدَيثي ابن عباس وبريدة رضي الله عنهما.
وأحمد في المسند 4/ 263 (الحلبي) من حديث قريش بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر، عن أبيه، عن واصل بن حيان، قال أبو وائل: خطبنا عمار؛ فأبلغ وأوجز، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان! لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست! قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، فإن من البيان لسحرا".
والمئنة: هي الأمارة والعلامة، وأخرجه مسلم في صحيحه: 7 - كتاب الجمعة: 13 - باب تخفيف الصلاة والخطبة 2/ 594 ح 47 - (869) من رواية سريج بن يونس، عن عبد الرحمن بن عبد الملك - به - بمثله؛ إلا أنه قال:"وإن من البيان سحرًا".
وعن طريق مسلم أخرجه البيهقي في السنن 3/ 208 وأخرجه من وجوه أخرى مرفوعًا وموقوفًا، من قول ابن مسعود.
وانظره من وجهين آخرين في المستدرك 3/ 613، ومن وجوه عديدة عن ابن عمر وابن عباس، وبريدة وغيرهم في شرح السنة للبغوي 12/ 362 - 365.
وباقي مصادره في الموسوعة 3/ 425.
(2)
ليس هذا أول الحديث كما يتبادر.
فقد رواه أبو داود في سننه: 18 - كتاب الأقضية: 14 - باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها 4/ 23 ح 3597 من رواية أحمد بن يونس، عن زهير، عن عمارة بن غزية، عن يحيى بن راشد، قال: جلسنا لعبد الله بن عمر، فخرج إلينا فجلس، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه؛ لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه؛ أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال".
(3)
عقب الرواية السابقة في السنن ح 3598.
(4)
سورة الإسراء: 34.
(1)
.
(2)
.
وفي الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لكُلِّ غادِرٍ لواءٌ يومَ القيامة يُعْرَفُ به"
(3)
.
وفي رواية: "إن الغادرَ يُنْصبُ له لواءٌ يومَ القيامةِ فيقالُ: ألا! هذه غَدْرةُ فلان"
(4)
.
وخرجاه من حديث أنس
(5)
بمعناه.
وخرج مسلم من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل غادر لواءٌ عندَ اسْتِه يوم القيامة"
(6)
.
والغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهَد كافرًا، ولهذا في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من قتل نفسًا معاهدًا بغير حقه لم يُرِحْ رائحةَ الجنة وإِن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا".
خرجه البخاري
(7)
.
• وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عُهُودهم، ولم
(1)
سورة النحل: 91.
(2)
سورة آل عمران: 77.
(3)
أخرجه البخاري بهذا النص في: 90 - كتاب الحيل: 9 - باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت 12/ 338 ح 6966.
وأطرافه في: 3188، 6177، 7111،6178.
وأخرجه مسلم في: 32 - كتاب الجهاد والسير: 4 - باب تحريم الغدر 3/ 1360 ح 11 - (1735) بمثله وليس فيه قوله: "يعرف به".
(4)
البخاري في: 78 - كتاب الأدب: 99 - باب ما يدعي الناس بآبائهم 10/ 563 ح 6177، 6178 ومسلم في الموضع المذكور قبل الحديث السابق ح 9 - - (1735)، 10 (
…
).
(5)
البخاري في: 58 - كتاب الجزية: 22 باب إثم الغادر للبر والفاجر 6/ 283 ح 3187.
ومسلم في الموضع السابق عقب روايات ابن عمر.
(6)
في صحيح مسلم عقب حديث أنس 3/ 1361 ح 15 - (1738).
ومعنى قوله: "عند استه" خلف ظهره، قال النووي: لأن لواء العزة ينصب تلقاء وجهه؛ فناسب أن يكون علم المذلة فيما هو كالمقابل له.
(7)
أخرجه البخاري في: 58 - كتاب الجزية: 5 - باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم 6/ 269 - 270 ح 3166 وفي: 87 - كتاب الدِّيات: 30 - باب إثم من قتل ذميًّا بغير جرم (12/ 259) ح 6914، وليس في الموضعين "بغير حقه" بل هي في غير البخاري كما أشار ابن حجر في الموضع الأول.
ينقضوا منها شيئًا.
أما عهود المسلمين فيما بينهم فالوفاء بها أشدّ، ونقضها أعظم إثمًا.
ومن أعظمها نقضُ عهد الإمام علَى من بايعه، ورضي به.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلّمهم الله يومَ القيامة ولا يزكيهم وله عذاب أليم، فذكر منهم: "ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه ما يريد وفَى له، وإلا لم يف له"
(1)
.
ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها ويحرم الغدر فيها جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها.
وكذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل مما يُعَاهِدُ العبد ربَّه عليه من نذر التبرّر
(2)
ونحوه.
* * *
• والخامس الخيانة في الأمانة، فإذا اؤتُمن الرجل أمانة فالواجب عليه أن يردها، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
(3)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنَكَ"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في: 42 - كتاب المساقاة: 5 - باب إثم من منع ابن السبيل من الماء (5/ 34) ح 2358 ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 46 - باب غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. وعنده:"فإن أعطاه منها وفَى، وإن لم يعطه لم يف". كلاهما من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر؛ فقال: والله الذي لا إله غيره؛ لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل، ثم قرأ هذه الآية:{إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا} لفظ البخاري وأطرافه في: 2369، 2672، 7212، 7446.
(2)
هو نذر التقرب المحض لله تعالى وصاحبه بر، وبارٌّ أي صادق وناءٍ عن الآثام في نذره كقولك: "لله عليَّ أن أتصدق بكذا، ويقابله نذر المجازاة وهو المكروه كقولك: لله عليّ كذا إن شفى الله مريضى، وانظر الفتح 11/ 578.
(3)
سورة النساء: 58.
(4)
أخرجه أبو داود في: 17 - كتاب البيوع: 81 - باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده 3/ 804 - 805 ح 3534، 3535 من حديث أبي هريرة وغيره.
والترمذي في: 12 - كتاب البيوع: 38 - باب حدثنا أبو كريب 3/ 564 - 565 ح 1246 من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك".
وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب، وانظر باقي تخريجه في الموسوعة 1/ 189.
وقال في خطته في حجة الوداع: "من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى ما ائتمنه عليها"
(1)
.
وقال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(2)
فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق.
وفي حديث ابن مسعود من قوله وروي مرفوعًا: "القتل في سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الأمانةَ؛ يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أدّ أمانتك فيقول: من أينَ يا ربِّ! وقد ذهبت الدنيا فيقال: اذهبوا به إلى الهاوية فيُهْوى به حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هناك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عنقه فيصعد بها في نار جنهم حتى إذا رأى أنه قد خرج منها زلت فهوت فيُهْوى هو في أَثَرِهَا أبَدَ الآبدين".
قال: "والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشدّ من ذلك الودائع"
(3)
.
وقد روي عن محمد بن كعب القُرَظي أنه استنبط ما في هذا الحديث أعني حديث "آية المنافق ثلاث من القرآن".
وقال: مصداقُ ذلك في كتاب الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}
(4)
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}
(5)
وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} إلى قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ}
(6)
وروي عن ابن مسعود نحو ذلك الكلام. ثم تلا قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ
…
} الآية
(7)
.
(1)
مسند أحمد 5/ 72 - 73 (الحلبي) من حديث أبي حرة الرقاشي، عن عمه. وأورده الهيثمي في المجمع 3/ 265 - 266 وقال: رواه أحمد، وأبو حرة الرقاشي وثقه أبو داود، وضعفه ابن معين، وفيه علي بن زيد وفيه كلام.
(2)
سورة الأنفال: 27.
(3)
أورده أبو نعيم في الحلية 4/ 201 من حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا من قوله.
وأورده الهيثمي في المجمع 5/ 292 - 293 من حديث ابن مسعود مرفوعًا وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات، كما أورده ابن كثير في التفسير 1/ 488 و 3/ 502 عن ابن أبي حاتم وابن جرير.
(4)
سورة المنافقون: 1.
(5)
سورة التوبة: 75 - 77.
(6)
سورة الأحزاب: 72 - 73. وخبر محمد بن كعب في مكارم الأخلاق للخرائطي ل 22 خط ومساوئها له ح 303 مرسلًا لكن له شواهد موصولة.
(7)
سورة التوبة: 77. وخبر ابن مسعود في الزهد لوكيع 400، 472 وصفة المنافق للفريابي ص 47 ح 10، وانظر هوامشهما.
وحاصل الأمر:
أن النفاق الأصغر كلَّه يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن.
• وقال الحسن أيضًا:
من النفاق اختلافُ القلب واللسان، واختلافُ السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج.
• وقال طائفة من السلف: "خشُوعُ النفاقِ أن تَرى الجسَدَ خاشعًا والقلبَ ليس بخاشع".
وقد روي معنى ذلك عن عمر.
وروي عنه أنه قال على المنبر: "إن أخوفَ ما أخافُ عليكم: المنافق العليمُ" قالوا: كيف يكون المنافق عليمًا؟ قال: "يتكلم بالحكمة، ويعمل بالجَوْر أو قال: المنكر؟ ".
• وسئل حذيفة عن المنافق فقال: الذي يصف الإيمانَ ولا يعملُ به.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أنه قيل له: إنا نَدْخُل على سلطاننا فنقول له بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عنده قال: "كنا نعد هذا نفاقًا"
(1)
.
• وفي المسند عن حذيفة قال: "إنكم لتكلّمون كلامًا إن كنَّا لنعدُّهُ علَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم النفاقَ"
(2)
.
وفي رواية قال: إن كان الرجُل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقًا وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم أو في المجلس عشر مِرار"
(3)
.
• قال بلال بن سعد: "المنافق يقول ما يُعْرَف، ويعمل ما يُنْكَر".
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه: 93 - كتاب الأحكام: 27 - باب ما يكره من ثناء السلطان.
وإذا خرج قال غير ذلك 13/ 170 ح 7178.
وقد اختلفت روايات البخاري في لفظ ابن عمر؛ فرواية أبى ذر: "كنا نعدها" وهى التي جاءت في الصلب وله عن الكشميهني: "نعد هذا".
وعند ابن بطال: "ذلك" بدل: "هذا".
وعند الإسماعيلي: "من النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". راجع الفتح 13/ 170 - 171.
(2)
أورده الهيثمي في المجمع 10/ 297 عن أحمد في المسند من حديث حذيفة وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات؛ إلا أن ليث بن أبي سليم مدلس.
(3)
أورده الهيثمي في الموضع السابق عقب الرواية المذكورة وقال: رواه أحمد، وفيه أبو الرقاد الجهني؛ ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
[خوف الصحابة من النفاق]:
ومن هنا كان الصحابة يخافون على أنفسهم، وكان عمر يسأل حذيفة عن نفسه.
وسئل أبو رجاء العُطَارِدي: هل أدركتَ من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق؟ فقال: نعم، إني أدركت منهم بحمد الله صدرًا حسنًا، نعم شديدًا، نعم شديدًا
(1)
.
وقال البخاري في صحيحه: وقال ابنُ أبي ملكية: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه
(2)
.
ويذكر عن الحسن قال: "ما خافه؛ إلا مؤمن، ولا أمنه؛ إلا منافق". انتهى.
وروي عن الحسن أنه حلف: ما مضى مؤمن قط ولا بقي؛ إلا وهو من النفاق مشفق
(3)
، وما مضى منافق قط ولا بقي؛ إلا وهو من النفاق آمن.
وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق.
وسمع رجل أبا الدرداء يتعوّذ من النفاق في صلاته فلما سلم قال له: ما شأنك وشأن النفاق؟ فقال: "اللهم
(4)
اغفر لي "ثلاثًا"؛ لا تأمن البلاء، واللهِ إن الرجلَ ليفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه".
والآثار عن السلف في هذا كثيرَة جدًّا.
• قال سفيان الثوري: خلافُ ما بيننا وبين المرجئة ثلاث: فذكر منها قال: نحن نقول: نفاق. وهم يقولون: لا نفاق.
• وقال الأوزاعي: قد خاف عمر النفاق على نفسه قيل له
(5)
: إنهم يقولون: إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقًا حتى سأل حذيفة، ولكن خاف أن يُبْتلى بذلك قبل أن يموت؟ قال: هذا قولُ أهلِ البدع، يشير إلى أن عُمرَ كان يخاف النفاق على نفسه في الحال.
(1)
صفة المنافق (81) والحلية 2/ 307.
(2)
أخرجه البخاري تعليقًا في: 2 - كتاب الإيمان: 36 - باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر 1/ 109 وتمامه في الترجمة: ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. وانظر صفة المنافق (82 - 86).
(3)
م: "إلا وهو من النفاق غير آمن". والخبر في صفة المناقق 87، 88.
(4)
م "اللهم غفرًا". والخبر في صفة المنافق للفريابي 73، 74.
(5)
م: "لهم".
والظاهر أنه أراد أن عمر كان يخاف على نفسه في الحال من النفاق الأصغر، والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة
(1)
إلى النفاق الأكبر - كما أن العاصي بريد الكفر، فكما
(2)
يُخْشَى على مَنْ أصَرّ على المعصية أن يسلب الإيمانَ عند الموت كذلك يخشى على من أصرّ على خصال النفاق أن يُسْلَبَ الإيمان؛ فيصيرَ منافقًا خالصًا
(3)
.
• وسئل الإمام أحمد: "ما تقولُ فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ قال؟ ومَنْ يأمَنُ على نفسه النفاق؟ ".
• وكان الحسن يسمي من ظهرت منه أوصافُ النفاق العملي: منافقًا.
وروي نحوه عن حذيفة.
• وقال الشعبي: "مَنْ كذب فهو منافق".
وحكى محمد بن نصر المروزي هذا القول عن فرقة من أهل الحديث.
[مرتكب الكبيرة وهل يسمى كافرًا؟]:
وقد سبق في أوائل الكتاب ذكر الاختلاف عن الإمام أحمد وغيره في مرتكب الكبائر هل يسمى كافرًا كُفْرًا لا ينقل عن الله أم لا؟ واسم الكفر أعظمُ من اسم النفاق، ولعل هذا هو الذي أَنَكَرَهُ عطاء على الحسنِ إن صح ذلك عنه.
* * *
[من أعظم خصال النفاق العملي]:
• ومن أعظم خصال النفاق العملي: أن يعمل الإنسان عملًا ويُظْهرَ أنه يقصد به الخير، وإنما عَمِله ليتوصل به إلى غرض له سَيِّيءِ، فيتم له ذلك، ويتوصَّلُ بهذه الخديعة إلى غَرَضه، ويفرح بمكره، وحَمْدِ الناس له على ما أظهره، وتوصُّلِه به إلى غَرَضِهِ السَّيِّئ الذي أبطنه.
* * *
(1)
سقطت من م.
(2)
"أ": "كما".
(3)
حوار عمر مع حذيفة في هذا أخرجه مسلم في صحيحه: 1 - كتاب الإيمان: 65 - باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين 1/ 128 - 130 ح 231 (144).
[ما حكاه عن المنافقين واليهود في هذا]:
وهذا وقد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود.
• فحكى عن المنافقين أنهم: {اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
(1)
.
(2)
.
* وهذه الآية نزلت في اليهود سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا وفد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفرحوا بما أتوا
(3)
من كتمانهم ما سئلوا عنه. قال ذلك ابن عباس، وحديثه مخرج في الصحيحين
(4)
.
• وفيهما
(5)
أيضًا عن أبي سعيد أنها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرِحُوا بمقْعَدِهِم خِلافَه، فإذا قَدِمَ رسولُ الله من الغزو اعتذرُوا إليه، وحلَفوا وأَحبُّوا أن يُحْمَدُوا بما لَم يَفْعَلوا
(6)
.
• وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غشَّنا فليس منا، والمكرُ والخديعةُ في النار"
(7)
.
(1)
سورة التوبة: 107.
(2)
سورة آل عمران: 188.
(3)
"ا": "أوتوا" ولا يستقيم.
(4)
رواه البخاري في: 65 - كتاب التفسير: 16 - باب {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} 8/ 233 ح 4568.
ومسلم في: 50 - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4/ 2143 ح - (2778).
(5)
"ا": "وفي الصحيحين أيضًا".
(6)
البخاري في الموضع نفسه ح 4567.
ومسلم في الموضع نفسه كذلك ح 7 - (2777).
(7)
رواه ابن حبان في صحيحه: كتاب الحظر والإباحة: ذكر الزجر عن أن يمكر المرء أخاه المسلم أو يخادعه في أسبابه 7/ 434 ح 5533.
والطبراني في الكبير والصغير كما أورده الهيثمي عنه في المجمع 4/ 78 - 79 وقال: ورجاله ثقات، وفي عاصم بن بهدلة كلام لسوء حفظه.
لكن ذكر الشيخ الألباني - تعليقًا على هذا: أن المتقرر عند أهل العلم أنه حسن الحديث يحتج به لا سيما إذا وافق الثقات وأكد هذا بقوله المنذري في الترغيب 3/ 22:
إسناده جيد، ورواه أبو داود في مراسيله عن الحسن مرسلًا مختصرًا: قال: "المكر والخديعة والخيانة في النار" وهذا الحديث المرسل في مراسيل أبي داود: كتاب البيوع ص 129 ح 4.
وفي الحلية 4/ 188 - 189 من رواية أبي أحمد: محمد بن أحمد الجرجاني، في جماعة، عن الفضل بن الحباب =
• وقد وصف الله المنافقين بالمخادعة، ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله:
لَيْسَ دُنْيَا إلا بِدينٍ وليس الدّ
…
ينُ إلا مكارمَ الأخلاقِ
إنَّمَا المَكْرُ والخدِيعةُ في النّا
…
رِ هُمَا مِنْ خِصَالِ أهْلِ النّفاقِ
• ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم: أنّ النفاقَ هو اختلافُ السّر والعلانية خَشِيَ بعضهم علَى نفسه أن يكون إذا تغير عليه حُضُورُ قلبه ورقَّتُه وخشُوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقًا، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأُسَيْدي أَنه مرَّ به أبو بكر
(1)
رضي الله عنه وهو يبكي فقال: ما لك؟. قال: نافق حنظلة يا أبا بكر! نكونُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا بالجنة والنار كأنّا رأيُ عَين، فإذا رجَعْنَا عافَسْنَا الأزواجَ والضيعة
(2)
فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لكذلك، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك يا حنظلة؟! قال: نافق حنظلة يا رسول الله! وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تدومون على الحال التي تقومُون بها من عندي لصَافحتكم الملائكة في مَجَالِسِكُم وفي طُرُقِكُم ولكن يا حنظلة! ساعةً وساعةً
(3)
.
= الجمحي، عن عثمان بن الهيثم، عن أبيه، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكره.
وعقب عليه أبو نعيم بقوله: غريب من حديث عاصم، تفرد به عثمان، ولم نكتبه؛ إلا من حديث الفضل بن الحباب.
وهو عند القضاعي في مسند الشهاب ح 253، 254 من رواية الفضل بن الحباب.
وقد أورده الشيخ الألباني في الصحيحة 3/ 48 - 49 والإرواء 5/ 164 واستظهر أن إسناده حسن، وأن جملتي الحديث لهما شواهد بمجموعها يرقى الحديث إلى الصحيح. وراجع الموسوعة 8/ 411، 412.
(1)
"ا": "مر بأبي بكر".
(2)
م: "والصبية" وكلاهما في الحديث؛ ففي صحيح مسلم: "عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات"؛ فالمحكي من ابن رجب على المعنى لا على اللفظ.
وعافسنا: أي مارسنا معايشنا وحظوظنا، والضيعة: معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة.
(3)
هذا معنى حديث رواه مسلم في: 49 - كتاب التوبة: 3 - باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة، وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات، والاشتغال بالدنيا 4/ 2106 - 2107 ح 12 - (2750)، 13 - (
…
).
وفي الرواية الأولى: "والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة" ثلاث مرات، وفي الثانية: يا حنظلة! ساعة وساعة، ولو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق".
• وفي مسند البزار عن أنس قال: قالوا: يا رسول الله! إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناكَ كُنّا على غيره؟ قال:"كيفَ أَنْتُم؟ " قالوا: الله ربُّنَا في السِّرِّ والعلانية، قال:"ليس ذَاكُمُ النفاق"
(1)
.
• وروي من وجه آخر عن أنس قال: غَدَا أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هَلَكْنَا. قال: "وما ذاك؟ " قالوا النفاق. قال: "ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ ". قالوا: بلى. قال: "فليس ذاك بالنفاق" ثم ذكر معنى
(2)
حديث حنظلة
(3)
كما تقدم.
* * *
(1)
أورده الهيثمي في المجمع 1/ 34 من حديث أنس وقال: رواه أبو يعلى والبزار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
وقد رواه البزار في مسنده (1/ 34 - 35) من الكشف، وفي آخره:"ليس ذلكم النفاق". من رواية طالوت بن عباد، عن الحارث بن عبيد، عن ثابت، عن أنس .. فذكره. وعقب عليه بقوله: لا نعلم رواه عن ثابت؛ إلا الحارث بن عبيد.
(2)
م: "يعني" وهو تصحيف.
(3)
حديث أنس أورده الهيثمي في المجمع 10/ 310 بسياقه كاملًا وعقب عليه بقوله: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير غسان بن بُرْزِين وهو ثقة.
الحديث التاسع والأربعون
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُم
(1)
تَوَكَّلونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوح بِطَانًا".
رَوَاهُ الإِمامُ أَحْمَدُ
(2)
وَالتِّرْمِذِيُّ
(3)
وَالنَّسَائِيُّ
(4)
وَابْنُ ماجَه
(5)
وَابْنُ حِبَّانَ
(6)
في صحيحه وَالحَاكِمُ
(7)
. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَصَنٌ صَحِيحٌ.
* * *
[تخريج الحديث]:
• هذا الحديث خرجه هؤلاء كلهم من رواية عبد الله بن هبيرة سمع أبا تميم الجيشاني، سمع عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه يحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو تميم، وعبد الله بن هُبيرة، خرّج لهما مسلم، ووثقهما غير واحد، وأبو تميم ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه.
(1)
سقطت من م، وغيرها وما أثبتناه عن "ا" هو الموافق لما في الترمذي.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 1/ 243 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه.
(3)
في السنن: 37 - كتاب الزهد: 33 - باب التوكل على الله 4/ 573 ح 2344 بنحوه.
وعقب أبو عيسى بقوله: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وأبو تميم الجيشاني اسمه عبد الله بن مالك. والحديث رواه الترمذي، عن علي بن سعيد الكندي، عن ابن المبارك، عن حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن عبد الله بن هبيرة، عن أبي تميم الجيشاني، عن عمر.
(4)
في الرقائق، في الكبرى، عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك - به، كما في التحفة 8/ 79 وذكر المستدرك أن حديث النسائي ليس في الرواية، ولم يذكره أبو القاسم.
(5)
في الزهد: (14: 1) عن حرملة بن يحيى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة - به 2/ 1394 ح 4164 بنحوه.
(6)
أخرجه ابن حبان في صحيحه: كتاب الرقاق: باب الورع والتوكل: ذكر الإخبار عما يجب على المؤمن قطع القلب عن الخلائق بجميع العلائق في أحواله وأسبابه 2/ 56 من الإحسان من طريق أحمد بن علي بن المثنى، عن أبي خيثمة، عن المقبري، عن حيوة بن شريح - به - بنحوه.
(7)
في المستدرك 4/ 318 من طريق أبي أحمد: بكر بن محمد الصيرفي، عن عبد الصمد بن الفضل، عن عبد الله بن يزيد المقري، عن حيوة بن شريح - به - بنحوه.
وصححه على شرط الشيخين وسكت عنه الذهبي.
• وقد روي هذا الحديث من حديث ابن عمر
(1)
، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن في إسناده من لا يعرف حاله، قاله أبو حاتم الرازي
(2)
.
وهذا الحديث أصل في التوكل؛ وأنه من أعظم الأسباب التي يُسْتَجْلَبُ بها الرزق، قال الله عز وجل:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}
(3)
. وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية على أبي ذرّ وقال له: "لو أن الناسَ كلَّهم أخذوا بها
(4)
لكَفتهم" يعني أنهم لو حققوا التقوى والتوكل لاكتفوا بذلك في مصالح دينهم ودنياهم، وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث ابن عباس: "احفظ الله يحفَظْك".
• قال بعض السلف: بحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حُسْنَ توكلك عليه، فكم من عبد من عباده قد فوَّض إليه أمره، فكفاه منه ما أهمّه تم قرأ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
(5)
.
وحقيقة التوكل:
• هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب الصالح، ودفع الضار، من أمور الدنيا والآخرة كلها، وَكِلَة
(6)
الأمور كُلِّها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضرُّ ولا ينفعُ سواه.
* * *
قال سعيد بن جبير: "التوكل جماع الإيمان"
(7)
.
• وقال وهب بن منبه: الغاية القصوى التوكل.
• قال الحسن: إن توكل العبد على ربه؛ أن يعلم أن الله هو ثقَتُه.
• وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سَرَّه أن يكونَ أقوى الناس
(1)
رواه أبو نعيم في: "ذكر أخبار أصبهان" 2/ 297 في ترجمة محمد بن بكر الغزّال.
(2)
في العلل 2/ 112.
(3)
سورة الطلاق: 2.
(4)
هذا جزء حديث أخرجه أحمد في المسند 5/ 178 - 179 (الحلبي) وابن حبان في صحيحه 8/ 234 من الإحسان وابن كثير في التفسير 4/ 379 عن أحمد في المسند.
(5)
سورة الطلاق: 2.
(6)
م: "ووكلت" وهو تحريف بيّن.
(7)
الحلية 4/ 274.
فلْيتوكّل على الله"
(1)
.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك صِدْقَ التوكل عليك"
(2)
.
وأنه كان يقول: "اللهمَّ اجعلني ممن توكَّل عليك فكفيتَه"
(3)
.
[التوكل لا ينافي السعي في الأسباب]:
واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السَّعْيَ في الأسباب التي قدّر الله سبحانه وتعالى
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التوكل ص 44 ح 9 رواية عن محمد بن الربيع الأسدي، عن عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعبد الرحيم بن زيد العمي منكر الحديث متروك مرمي بالضعف الشديد والكذب، وعامة رواياته لا يتابعه عليها الثقات. وقد قال أبو حاتم: يترك حديثه منكر الحديث، كان يفسد أباه، يحدث عنه بالطامات، وقال العقيلي: قال ابن معين: كذاب خبيث، وترجمته في الكامل 5/ 281 والتاريخ لابن معين 2/ 362، 4/ 217 والتهذيب 6/ 305 - 306، والتقريب 1/ 504 وفيه: أنه من الثامنة، مات سنة أربع وثمانين أي ومائة والضعفاء الكبير 3/ 78 - 79 وقال ابن حبان: يروي عن أبيه العجائب، لا يشك من الحديث، صناعته أنها معمولة أو مقلوبة كلها. وأورده الدارقطني في الضعفاء والمتروكين ت 342.
وحديثه إذًا بين الضعف الشديد كما يقول المحقق للتوكل أو الوضع.
والحديث روي من وجه آخر عن ابن عباس فقد رواه الحاكم في المستدرك 4/ 270، وأبو نعيم في الحلية 3/ 218 - 219 من طريق هشام بن زياد، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس وأخرجه الحاكم من وجه آخر فيه محمد بن معاوية، قال الذهبي: هشام متروك ومحمد بن معاوية كذبه الدارقطني؛ فبطل الحديث. وغريب - بعد هذا - أن يحكم المناوي في التيسير 2/ 422 بحسن الحديث مع أنه أورده عن ابن أبي الدنيا في التوكل، وقد علمت ما فيه من الطريقين، وليس في الطريقين ما يصح أن يكون جابرًا فضلًا عن أن يكون مجبورًا.
وقد حكم العراقي على الحديث بالضعف، وسايره الزبيدي حيث حكى هذا التضعيف دون أن يرده بل أكده بما نقل عن البيهقي من قوله: تكلموا في هشام بسبب هذا الحديث.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التوكل ص 37 ح 3 رواية عن إسحاق بن إبراهيم، عن الحسين بن علي الجعفي، عن يحيى بن عمر الثقفي، عن محمد بن النضر الحارثي، عن الأوزاعي، قال:
كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال، وصدق التوكل عليك، وحسن الظن بك".
وإسناده ضعيف معضل، كما ذكر محقق التوكل؛ وقد ذكر تخريج أبي نعيم له من وجه آخر وتعليقه عليه بما يؤكد غرابته. وهو يشير إلى رواية أبي نعيم له في الحلية 8/ 224.
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في التوكل ص 38 ح 4 عقب الحديث السابق رواية عن محمد بن إدريس الرازي، عن بشر بن محمد الواسطي، عن خالد بن محدوج - ويقال: ابن مقدوح، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "اللهم اجعلني ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته، واستنصرك فنصرته".
وهو حديث منكر أعله المحقق بخالد بن محدوج، وبشر بن محمد، وذكر براهين وهاء إسناده.
ولست أدري لِمَ لَمْ يبين ابن رجب ضعف الحديثين. وما في رواتهما من مقال؟!.
المقدورات بها، وجَرَت سنته في خلقه بذلك؛ فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل؛ فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمانٌ به: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}
(1)
وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
(2)
وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
(3)
.
قال سَهْلٌ التُّسْتَرِي
(4)
: "مَنْ طعنَ في الحركة يعني في السعي والكسب؛ فقد طعَنَ في السنة، ومَنْ طَعَن في التوكُّلِ؛ فقدْ طَعَنَ في الإيمان".
فالتوكل حالُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكَسْبُ سُنّته؛ فمن عَمل علَى حالِه فلا يتركَنَّ سُنتُه.
[الأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام]:
ثمَّ إن الأعمالَ التي يعملها العبد ثلاثة أقسام:
•
أحدها:
الطاعاتُ التي أمر الله عبادَه بها، وجعلها سببًا للنجاة من النار، ودخولِ الجنة، فهذا لابد من فعله مع التوكل على الله فيه، والاستعانة به عليه؛ فإنه لا حول ولا قوّة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فمن قصر في شيء مما وجب عليه من ذلك استحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعًا وقَدَرًا، قال يوسف بن أسباط:"كان يقال: اعْمَل عَمَلَ رجلٍ لا يْنجِيه إلا عملُه، وتوكلْ توكل رَجُلٍ لا يصيبُه إلا ما كُتِبَ له"
(5)
.
•
والثاني:
ما أجرى الله العادة به في الدنيا، وأمر عبادَه بتعاطيه، كالأكل عند الجوع، والشُّرْبِ عند العطش، والاستظلال من الحرّ، والتَّدَفيِّ من البرد، ونحو ذلك.
فهذا أيضًا واجبٌ على المرء تعاطى أسبابه.
(1)
سورة النساء: 71.
(2)
سورة الأنفال: 60.
(3)
سورة الجمعة: 10.
(4)
أورده أبو نعيم في الحلية 10/ 195 بنحوه وباختلاف في الترتيب.
(5)
أورده أبو نعيم في الحلية 8/ 239 - 240.
ومن قصر فيه حتى تضرّر بتركه مع القدرة على استعماله؛ فهو مفرِّطٌ يستحق العقوبة، لكن الله سبحانه وتعالى قد يُقوّي بعضَ عباده من ذلك على ما لا يُقوِّي عليه غيرَه، فإذا عمل بمقتضى قوّته التي اختُصَّ بها عن غيره؛ فلا حرج عليه.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُواصِلُ في صيامه، ويَنْهَى عن ذلك أصحابه، ويقول لهم:"إني لستُ كهيئتِكم إني أُطْعَم وأُسْقَى" وفي رواية: "إني أظلّ عندَ ربّي يُطْعِمُني، ويَسْقِيني". وفي رواية: "إن لي مُطْعِمًا يُطْعِمُني وساقيًا يَسْقِيني"
(1)
.
والأظهر أنه أراد بذلك أن الله يقوّيه ويغذيه بما يورده على قلبه من الفتوح القدسية، والمنَحِ الإلهية، والمعارف الربانية التي تُغْنِيه عن الطعام والشراب برهةً من الدهر؛ كما قال القائل:
لها أحاديثُ منْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلهَا
…
عن الشَّرَابِ وتُلْهِيهَا عَن الزَّادِ
لها بِوَجْهِكَ نورٌ تستضِيءُ بهِ
…
وقْتَ المسِيرِ وفي أعقابِها حادِي
إذا اشتكَتْ من كَلال السَّير أَوْ عَدَهَا
…
رَوْحَ القُدُوم فتحْيَا عندَ ميعادِ
وقد كان كثير من السلف لهم من القوّة على ترك الطعام والشراب ما ليس لغيرهم، ولا يتضرَّرُونَ بذلك.
فكان ابن الزبير يواصل ثمانية أيام.
وكان أبو الجوزاء يواصل في صومه بين سبعة أيام، ثم يقبِضُ، على ذراعِ الشابِّ
(2)
؛ فيكاد يحطمها.
وكان إبراهيم التيمي يمكث شهرين لا يأكل شيئًا، غير أنه يشرب شَرْبَة حلوى.
وكان حجاج بن فُرَافِصَةَ يبقى أكثرَ من عشرة أيام لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام.
وكان بعضهم لا يبالي بالحر، ولا بالبرد كما كان عليٌّ رضي الله عنه يلبس لباسَ
(1)
راجع في هذا ما أخرجه البخاري في 30 - كتاب الصوم: 48 - باب الوصال، ومن قال: ليس في الليل صيام؛ بقوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه رحمة لهم، وإبقاء عليهم، وما يكره من التعمق 4/ 202 ح: 1961، 1962، 1963، 1964، 49 - باب التنكيل لمن أكثر الوصال 4/ 205 ح 1965، 1966، 50 - باب الوصال إلى السحر 4/ 208 ح 1967.
من أحاديث أنس وطرفه في 7241، وعبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، وعائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهم وأطرافه في: 6851، 7242، 7299.
(2)
م: "الشاة" وهو تحريف.
الصيف في الشتاء، ولباسَ الشتاء في الصيف.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم دعا له أن يُذْهِبَ الله عنه الحرّ
(1)
والبرد.
فمن كان له قوّة على مثل هذه الأمور فعمل بمقتضى قوّته، ولم يضعفه عن طاعة الله؛ فلا حَرَجَ عليه.
ومن كلف نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات؛ فإنه يُنْكَرُ عليه ذلك.
وكان السلف ينكرون على عبد الرحمن بن أبي نُعْم
(2)
؛ حيث كان يترك الأكل مدة حتى يعاد من ضعفه.
•
القسم الثالث:
ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعم الأغلب، وقد يخرق العادة في ذلك لمن يشاء من عباده، وهو أنواع: منها ما يخرقه كثيرًا، ويُغني عنه كثيرًا من خلقه، كالأدوية بالنسبة إلى كثير من البلدان، وسكان البوادي ونحوها.
وقد اختلف العلماء هل الأفضل لمن أصابه المرض التداوي أم تركه لمن حقق التوكل على الله؟ فيه قولان مشهوران؛ وظاهر كلام أحمد أن التوكل لمن قوي عليه أفضل لا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يدخُلُ مِنْ أمتي الجنةَ سبعُون ألفًا بغير حِسَاب ثم قال: هُمُ الذينَ لا يتطيَّرُونَ ولا يستَرقُونَ ولا يكتوونَ وعلى ربهم يتوكلون"
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه في مقدمة السنن: 11 - باب فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل علي بن أبي طالب 1/ 43 - 44 ح 117 رواية عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان أبو ليلى يسمر مع علي؛ فكان يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف، فقلنا: لو سألته؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليّ وأنا أرمد العين، يوم خيبر، قلت: يا رسول الله! إني أرمد العين؟ فتفل في عيني ثم قال: اللَّهم أذهب عنه الحر والبر؛ فما وجدت حرًّا ولا بردًا بعد يومئذ، وقال، "لأبعثن رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ليس بفرار. فتشرف له الناس، فبعث إلى عليٍّ فأعطاها إياه".
وقد علق البوصيري على الحديث في الزوائد 1/ 60 فقال: هذا إسناد ضعيف؛ ابن أبي ليلى شيخ وكيع، هو: محمد؛ وهو ضعيف الحفظ، ولا يحتج بما ينفرد.
(2)
م: "بن غنم" وهو تحريف وترجمته في الحلية 5/ 69 - 73.
(3)
أخرجه البخاري في 76 - كتاب الطب: 17 - باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكو 10/ 155 ح 5705.
وأطرافه في: 5752، 6472، 6541.
ومسلم في: 1 - كتاب الإيمان: 94 - باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب 1/ 198 ح 371 - (218) كلاهما من حديث عمران بن حصين.
ومن رجح التداوي قال: إنه حالُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يداوم عليه، وهو لا لفعل إلا الأفضل، وحمل الحديث على الرقى المكروهة التي يخشى منها الشرك، بدليل أنه قرنها بالكيّ والتطير
(1)
، وكلاهما مكروه.
ومنها ما يخرقه لقليل من عباده
(2)
كحصول الرزق، لمن ترك السعي في طلبه.
فمن رزقه اللّه صدقَ يقين وتوكل، وعلم من اللّه أن يَخرقَ له العوائد، ولا يحوجَه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق ونحوه، جاز له تركُ الأساب، ولم ينكَر عليه ذلك؟ وحديث عمر هذا الذي نتكلم عليه يدل على ذلك، ويدلّ على أن الناسَ إنما يؤتَوْن مِن قلة تحقيق التوكل، ووقوفِهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم، ومُسَاكنتهم لها، فلذلك يُتْعِبون أنفسَهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد، ولا يأتيهم إلا ما قُدّر لهم.
[لو حقق العبد التوكل بالقلب]:
• فلو حققوا التوكل على اللّه بقلوبهم لساق اللّه إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقَها بمجرد الغدوّ والرواح، وهو نوعٌ من الطلب، والسعي، لكنه سعيٌ يسير.
وربما حرم الإنسان رزقه أو بعضه بذنب يصيبه، كما في حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ العَبْدَ ليحرم الرزق بالذنبِ يصيبه"
(3)
.
وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن نَفْسًا
(4)
لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه، وأجملوا في الطلب؛ خذوا ما حَلّ، ودعوا ما حَرُم"
(5)
.
(1)
م " الطيرة".
(2)
م: "العامة".
(3)
أخرجه أحمد في السند 5/ 280 (الحلبي) من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يردُّ القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
وأخرجه في 5/ 282 بنحوه بتقديم وتأخير، ومن حديث ثوبان أيضًا.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 493 من حديث ثوبان بنحوه وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي وانظر الإتحاف 5/ 30 والموسوعة 3/ 107.
(4)
سقطت من م.
(5)
أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 4 من وجهين عن جابر - بنحوه وابن حبان 5/ 98 بمعناه، والقضاعي في الشهاب 2/ 186 ح 1152.
وللحديث شواهد من أحاديث ابن مسعود، والمطلب بن حنطب، وأبي أمامة.
راجع عنها المستدرك في الموضع المذكور، والرسالة للشافعي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر؛ وسد أوسع وأوعب الكلام عن الحديث ورواياته وشرح السنة 14/ 302 - 305 والتمهيد لابن عبد البر 1/ 284، والشهاب للقضاعي 2/ 85 ح 1151.
• وقال عمر: "بين العبد وبين رزقه حجاب، فإن قَنِعَ ورَضِيت نفسُه آتاه اللّه رزقَه، وإن اقتحم وهتك الحجاب، لم يزد فوق رزقه".
• وقال بعض السلف: توكّل تُسَقْ إليك الأرزاقُ بلا تعب ولا تكلف.
• قال سالم بن أبي الجعد: حدثت أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يقول: "اعملوا للّه ولا تعملوا لبطونكم، وإياكم وفضولَ الدنيا؛ فإن فُضُولَ الدنيا عند اللّه رِجْز، هذه
(1)
طير السماء تغدو وتروح، ليس
(2)
معها من أرزاقها
(3)
شيء، لا تحْرث ولا تحصد؛ اللّه
(4)
يرزقها، فإن قلتم: إن بطوننا أعظم من بطون الطير، فهذه الوحوش من البقر
(5)
والحمير تغدو وتروح؛ ليس معها من أرزاقها شيء، لا تحرث ولا تحصد، اللّه يرزقها". خرجه ابن أبي الدنيا.
• وخرج بإسناده عن ابن عباس قال: كان عابد يتعبد في غار فَكان غراب يأتيه كل يوم برغيف يجد منه
(6)
طعم كل شيء؛ حتى مات ذلك العابد.
• وعن سعيد بن عبد العزيز، عن بعض مشيخة دمشق قال أقام إلياس هاربًا من قومه في جبل عشرين ليلة، أو قال: أربعين، تأتيه الغربان برزقه.
• وقال سفيان الثوري: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}
(7)
فقال: ألا إن رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خَرِبةً، فمكث ثلاثا لا يصيب شيئًا، فلما كان اليوم الرابع
(8)
إذا هو بدَوْخَلَة
(9)
من رُطَب، وكان له أَخٌ أحسنُ نيةً منه، فدخلَ معه فصارتَا دَوْخَلَتين، فلم يزلْ ذلك دأبَهُمَا، حتى فرق الموت بينهما.
• ومن هذا الباب مَنْ قَوِي توكلّه على اللّه ووثُوقُه به، فدخل المفاوز بغير زاد، فإنه يجوز لمن هذه صفته، دون من لم يبلغ هذه المنزلة.
وله في ذلك أسوة بإبراهيم الخليل عليه السلام حيث ترك هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع، وترك عندهما جرابًا فيه تمر، وسِقَاءً فيه ماء؛ فلما تبعته هاجر وقالت له:
(1)
م: "هذا".
(2)
م: "معه".
(3)
م: "أرزاقه".
(4)
م: "ويرزقه اللّه".
(5)
"ا": "الباقر".
(6)
م: "فيه".
(7)
سورة الذاريات: 22.
(8)
"أ": "الثالث" وهو خطأ.
(9)
الدوخلة كما تقدم سفرة من خوص يوضع عليها التمر.
"إلى مَنْ تدعنا "؟ قال لها: إلى اللّه، قالت: رضيت باللّه.
[التوكل والصدق]:
وهذا كان يفعله بأمر اللّه ووحيه، فقد يقذف اللّه تعالى في قلوب بعض أوليائه من الإلهام الحق ما يعلمون أَنه حق، ويثقون به.
قال المروزي: قيل لأبي عبد اللّه: أي شيء صدق التوكل على اللّه؟ قال: أن يتوكلَ على اللّه، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء، فإذا كان كذا
(1)
، كان اللّه يرزقه، وكان متوكلًا.
• قال: وذكرت لأبي عبد اللّه التوكل؛ فأجازه لمن استعمل فيه الصدق.
[بين الجلوس في البيت وعدم الحاجة إلى الخلق]:
• قال: وسألت أبا عبد اللّه عن رجل جلس في بيته ويقول: أجلسُ وأصبرُ ولا أطلِعُ على ذلك أحدًا، وهو يقدر أن يحترف؟ قال: لو خرج فاحترف كان أحبّ إليّ، وإذا جلس خفت أن يحوجه
(2)
إلى أن يكون يتوقع أن يُرْسَلَ
(3)
إليه بشيء.
• قلت: فإذا كان يبعث إليه بشيء فلا يأخذ
(4)
؟ قال: هذا جيّد. قلت لأبي عبد اللّه: إن رجلًا بمكة، قال: لا آكل شيئًا حتى يطعمني ربي
(5)
ودخل في جبل أبي قبيس، فجاء إليه رجلان وهو متزر
(6)
بخرقة فألقيا
(7)
إليه قميصًا وأخذا بيديه
(8)
فألبساه القميص، ووضعا بين يديه شيئًا
(9)
، فلم يأكل حيّ وضعا مفتاحًا
(10)
حديدًا في فيه، وجعلا يدسّان في فمه؛ فضحك أبو عبد اللّه وجعل يتعجب.
• قلت لأبي عبد اللّه: إن رجلًا ترك البيع والشراء، وجعل على نفسه أن لا يقع في يديه ذهب ولا فضة، وترك دُورَهُ، فلم
(11)
يأمر فيها بشيء وكان يمر في الطريق، فإذا رأى شيئًا مطروحًا أخذه
(12)
مما قد ألقي؟ قال المروزي: فقلت للرجل: ما لك حجة
(1)
م "كذلك".
(2)
م: "يحوجه" والضمير المنصوب يعود إلى الجالس وضمير الفاعل يعود على الجلوس والتقدير: يحرجه أو يحوجه إلى أن يتوقع أن يرسل إليه شيء، وفي ب:"يخرجه".
(3)
"يرسلوا".
(4)
م: "يأخذه".
(5)
"ا""تطعموني" ب "يطعموني".
(6)
"ا"، ب:"موتزر".
(7)
"ا"، ب:"فألقى".
(8)
"ا": "وأخذوا" م: "بيده".
(9)
"ا" وضع بين يديه شيء".
(10)
"ا": "وضع مفتاح حديد".
(11)
"ا": لم.
(12)
"أخذ بيده".
على هذا غير أبي معاوية الأسود؟ قال: بل أويس القرني، وكان يمر بالمزابل، فيلتقط الرقاع. قال: فصدقه أبو عبد اللّه وقال: قد شدَّد على نفسه. ثم قال: قد جاءني البقلي ونحوه فقلت لهم: لو تعرضتم للعمل تُشْهِرُونَ أنفسَكم. قال: وإيش نُبَالي
(1)
من الشهرة.
• وروى أحمد بن الحسين بن حسان، عن أحمد: أنه سئل عن رجل يخرج إلى مكة بغير زاد فقال
(2)
: إن كنتَ تُطِيق، وإلا فلا تخرج إلا بزادٍ وراحلة، لا تخاطر.
• قال أبو بكر الخلال: يعني إن أطاق وعلم أنه يقوى على ذلك، ولا يسأل ولا تستشرف نفسُه لأن يأخذ أو يعطي فيقبَل؛ فهو متوكل على الصدق.
وقد أجاز العلماء التوكلَ على الصدق.
• قال: وقد حج أبو عبد اللّه، وكفاه في حجته أربعة عشر درهمًا.
• وسئل إسحق بن راهويه: هل للرجل أن يدخل المفازة بغير زاد؟ فقال: إن كان الرجل مثلَ عبد اللّه بن مُنِيْر
(3)
، فله أن يدخل المفازة بغير زاد، وإلا لم يكن له أن يدخل.
* * *
[متى تعرض العبد لسؤال الخلق لم يجز له ترك الكسب]:
ومتى كان الرجل ضعيفًا، وخَشِيَ على نفسه أن لا يصبر، أو يتعرضَ للسؤال، أو أن يقعَ في الشك والتّسخُّط، لم يجز له ترك الأسباب حينئذ، وأُنكِرَ عليه غايةَ الإنكار، كما أنكر الإمام أحمد وغيره على من ترك الكسب، وعلى من دخل المفازة بغير زاد، وخُشي عليه التعرض للسؤال.
• وقد روي عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزودُون، ويقولون:
(1)
م: "ينالني" من الشهرة، ب:"بنا" من الشهرة؟.
(2)
"ا": "قال".
(3)
م: "جبير". وهو تحريف؛ فهو عبد الله بن منير المروزي الإمام القدوة الحجة أبو عبد الرحمن الحافظ روى عن النضر بن شميل، وعبد الرزاق، ويزيد بن هارون، كان واسع الرحلة، كثير الحديث والفضل روى عنه البخاري وقال: لم أر مثله والترمذي والنسائي ووثقه وقال الفربري: توفي 241 هـ ترجم له ابن الجوزي في صفة الصفوة 4/ 149 - 150 والذهبي في السير 12/ 360 - 361 والمزي في التهذيب 3593 والخزرجي في الخلاصة 216 وانظر هامشه.
نحن متوكلون فيحجون فيأتون مكة فيسألون الناس، فأَنزل اللّه هذه الآية:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(1)
.
• وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والنخعي، وغير واحد من السلف، فلا يرخص في ترك السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية؛ وقد روي عن أحمد أنه سئل عن التوكل فقال: قَطعُ الاستشراف باليأس من الخلق. فسئل عن الحجة في ذلك، فقال: قول إبراهيم عليه السلام لما عرض له جبريل وهو يُرْمَى في النار، فقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا
(2)
.
[الكسب أفضل]:
وظاهر كلام أحمد: أن الكسب أفضلُ بكل حال، فإنه سُئِل عمن يقعد ولا يكتسب ويقول: توكلتُ على اللّه فقال: ينبغي للناس كلِّهم؛ يتوكلّون على اللّه، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب.
• وروى الخلال بإسناده عن الفضيل بن عياض: أنه قيل له: لو أن رجلًا قعد في بيته زعم أنَّه يثق باللّه؛ فيأتيه برزقه؟ قال: إذا وثق باللّه حتى يعلم منه أنه قد وثق به لم يمنعه شيء أراده، لكن لم يفعل هذا الأنبياء، ولا غيرهم.
وقد كانت الأنبياء يؤجرون أنفسهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤجّر نفسه، وأبو بكر، وعمر ولم يقولوا: نقعد، حتى يرزقنا اللّه عز وجل.
• وقال اللّه عز وجل: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
(3)
ولابد من طلب المعيشة.
(1)
الآية: 97، من سورة البقرة.
وانظر في خبر ابن عباس أسباب النزول للواحدي ص 55 وصحيح البخاري ح 1523.
(2)
هذا أثر لا أصل له، بل هو موضوع، وهو مروي عن كعب الأحبار، أن إبراهيم عليه السلام لما رموا به في المنجنيق إلى النار استقبله جبريل فقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال جبريل:"فسل ربك" فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه حديث موضوع.
وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ح 21 وتنزيه الشريعة 1/ 250 وقد أفاض الشيخ في نقد هذا المتن من حيث موضوعه، ومن حيث ثبوته. وصحيح البخاري: كتاب التفسير: باب {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} الآية وفيه حديث ابن عباس: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل) 8/ 229 ح 4564.
(3)
سورة الجمعة: 10.
• وقد روي عن بشر ما يشعر بخلاف هذا، فروى
(1)
أبو نعيم في الحلية
(2)
: أن بشرًا سئل عن التوكل فقال: اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب فقال له السائل: فسره لنا حتى نفقه؟ قال بشر: اضطراب بلا سكون، رجل يَضْطَرب
(3)
بجوارحه وقلبه ساكن إلى اللّه، لا إلى عمله، وسكون بلا اضطراب، فرَجُلٌ
(4)
ساكن إلى اللّه بلا حركة.
وهذا عزيز، وهو من صفات الأبدال.
* * *
[من لم يصل إلى المقامات العالية]:
وبكل حال، فمن لم يصل إلى هذه المقامات العالية، فلابد له من معاناة الأسباب لا سيما مَن له عيال لا يصبرون؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت"
(5)
.
• وكان بشر يقول: لو كان لي عيالٌ؛ لعملتُ واكتسبتُ.
[من ضيع بترك الأسباب حقًّا]:
وكذلك من ضيّع بتركه للأسباب
(6)
حقًّا له، ولم يكن راضيًا بفوات حقه، فإن هذا عاجزٌ مفرط.
• وفي مثل هذا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمنُ القويّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللّه من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، وأحرصْ علَى ما ينفَعُك واستعِنْ باللّه ولا تعجِز؛ فإن أصابك شيء فلا تقل
(7)
: لو أني فعلت كذا لكان كذا
(8)
ولكن قُلْ: قَدّر اللّه وما شَاءَ
(1)
"ا": "روى".
(2)
في ترجمته لبشر بن الحارث 8/ 336 - 360 والرواية المشار إليها ص 351.
(3)
م: "تضطرب جوارحه".
(4)
م: "رجل".
(5)
رواه أحمد في المسند 9/ 257 (المعارف) بإسناد صحيح كما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر. وأبو داود في السنن: 3 - كتاب الزكاة: 45 - باب في صلة الرحم 2/ 321 ح 1692.
والحاكم في المستدرك 1/ 415 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
والبيهقي في السنن 7/ 467.
كلهم من حديث عبد اللّه بن عمرو.
وأخرجه البيهقي من حديث جابر في السنن 9/ 25.
(6)
ظ: "بتركه الأسباب".
(7)
"ا": "تقولن" وما أثبتناه هو الموافق لما في مسلم.
(8)
"ا": "لو أني فعلت كذا" وفي صحيح مسلم: "لو أني فعلت كان كذا وكذا".
فَعَلَ، فإن لو
(1)
تفتحُ عملَ الشيطان".
خرجه مسلم بمعناه من حديث أبي هريرة
(2)
.
• وفى سنن أبي داود، عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبنا اللّه ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي اللّه ونعم الوكيل
(3)
.
وخرج الترمذي من حديث أنس قال: قال رجل: يا رسول الله! أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: "أعقلها
(4)
وتوكل".
وذكر عن يحيى القطان أنه قال: هو عندي حديث منكر.
(1)
"ا": "فإن اللو" وما أثبتناه هو الموافق لما في صحيح مسلم.
(2)
أخرجه مسلم في: 46: كتاب القدر: 8 - باب الأمر بالقوة، وترك العجز، والاستعانة باللّه، وتفويض المقادير لله 4/ 2052.
(3)
أخرجه أبو داود في: 18 - كتاب الأقضية: 28 - باب الرجل يحلف على حقه 4/ 44 - 45 ح 3627 رواية عن عبد الوهاب بن نجدة، وموسى بن مروان الرقي، قالا: حدثنا بقية بن الوليد، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن سيف، عن عرف بن مالك
…
فذكره.
"والعجز: ترك ما يجب فعله بالتسويف، وهو عام في أمور الدنيا والدين.
والكيس في الأمرر يجري مجرى الرفق والفطنة، والكيس العقل" منذري بهامش السنن.
(4)
أخرجه الترمذي في: 38 - كتاب صفة القيامة: 60 - باب حدثنا عمرو بن علي 4/ 668 وعقب عليه بما ذكره ابن رجب عن يحيى ثم قال:
وهذا حديث غريب من حديث أنس لا نعرفه؛ إلا من هذا الوجه.
وقد روي عن عمرو بن أمية الضمري، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا.
وحديث عمرو بن أمية أخرجه ابن حبان في صحيحه: كتاب الرقائق: باب الورع والتوكل: ذكر الإخبار؛ بأن المرء يجب عليه مع توكل القلب والاحتراز بالأعضاء ضد قول من كرهه 2/ 56 ح 729 رواية عن الحسين بن عبد الله القطان، عن هشام بن عمار، عن حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب بن عبد الله، عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه - بنحوه.
ثم عقب عليه بقوله: يعقوب هذا: هو يعقوب بن عمرو بن عبد اللّه بن عمرو بن أمية الضمري من أهل الحجاز مشهور مأمون.
وقد أقر الزبيدي في الإتحاف 9/ 507 ما ذكره العراقي عن رواية عمرو بن أمية الضمري، وأن الطبراني رواها بإسناد جيد، وكذلك ابن خزيمة في التوكل، وقال: إنما أنكره القطان من حديث أنس.
فالحديث إذا ثابت من رواية عمرو بن أمية.
وهو شاهد من الصحيح لرواية أنس يرتقي به حديثه إلى الحسن.
وهذا ما نحا إليه الأستاذ جاسم الفهيد في تحقيقه للتوكل لابن أبي الدنيا تعليقًا على رواية أنس في هذا الكتاب ح 11 حيث ذكر رواياته، وطرقها، ومصادرها، ودرجة رواتها.
وانظر أيضًا: الإتحاف في الموضع المذكور والموسوعة 2/ 26.
وخرجه الطبراني من حديث عمرو بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ورَوَى الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن ابن عابد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن التوكُّل بعد الكَيْسِ".
وهذا مرسل.
ومعناه أن الإنسان يأخذ بالكيس والسعي في الأسباب الباحة، ويتوكل على اللّه بعد سعيه.
* * *
[التوكل لا ينافي الأسباب]:
وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب، بل قد يكون جمعهما أفضل.
• قال معاوية بن قرة: "لقي عُمَرُ بنُ الخطاب ناسًا من أهل اليمن، فقال: مَنْ أنتم؟ قالوا: نحن المتوكّلُونَ. قال: بل أنتم المتأكّلون، إنما المتوكل الذي يُلْقي حَبَّه في الأرض، ويتوكّل على اللّه عز وجل".
[التوكل الحقيقي]:
• قال الخلال: أخبرنا محمد بن أحمد
(2)
بن منصور قال: سأل المازني بِشْرَ بنَ الحارثَ عن التوكل فقال: "التوكل لا يتوكل على اللّه ليُكفَى، ولو حلت هذه القصة في قلوب المتوكِّلة
(3)
؛ لضجوا إلى اللّه بالندم والتوبة، ولكنَّ المتوكلّ يحلّ بقلبه الكفايةُ من اللّه تبارك وتعالى، فيصدِّق اللّه عز وجل فيما ضمن".
ومعنى هذا الكلام، أن المتوكل على اللّه حقّ التوكل، لا يأتي بالتوكل ويجعله سببًا لحصول الكفاية له من اللّه بالرزق وغيره؛ فإنه لو فعل ذلك لكان كمن أتى بسائر
(4)
الأسباب؛ لاستجلاب الرزق، والكفاية بها.
[بين التوكل لطلب الرزق والتوكل ثقة باللّه]:
وهذا نوعُ نقص في تحقيق التوكل، وإنما المتوكِّل
(5)
حقيقةً مَنْ يعلم أن اللّه قد ضمنَ
(1)
قد علمت ما قاله العراقي بشأنه.
(2)
م: "محمد بن منصور".
(3)
م: "المتوكلين".
(4)
م: "سائر".
(5)
م: "التوكل" وفيه تحريف.
لعبده رزْقَه
(1)
وكفايته، فيصدق اللّه فيما ضمنه، ويثق به بقلبه، ويحقق الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرزق، من غير أن يخرج التوكل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به، والرزق مقسوم لكل أحد، من برٍّ وفاجرٍ، ومؤمنٍ وكافرٍ، كما قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}
(2)
هذا مع ضعف كثير من الدواب وعجزها عن السعي في طلب الرزق، قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}
(3)
فما دام العبدُ حَيًّا فرزقهُ على الله، وقد ييسره اللّه له بكسب، وبغير كسب؛ فمن توكل على الله لطلب الرزق، فقد جعل التوكل سببًا وكَسْبًا، ومن توكّلَ عليه لثقته بضمانه؛ فقد توكَّل عليه ثقة به وتصديقًا بوعده
(4)
وما أحسن قول المثني
(5)
الأنباري، وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد: "لا تكونوا بالمضمون مهْتَمّين، فتكونُوا للضامن متَّهِمين، وبرِزْقِه
(6)
غير راضين".
* * *
[ثمرة التوكل: الرضا بالقضاء]:
واعلما أن ثمرة التوكل الرضا بالقضاء؛ فمن وكَل أمورَه إلى اللّه ورَضِي بما يقضيه له، ويختَارُه؛ فقد حقق التوكل عليه
(7)
ولذلك كان الحسَنُ والفُضَيل وغيرُهما يفسرون التوكل على اللّه بالرضا.
[التوكل ثلاث درجات]:
قال ابنُ أبي الدنيا: بلغني عن بعض الحكماء قال: التوكل على ثلاث درجات:
• أولها ترك الشكاية.
• والثانية الرضا.
• والثالثة المحبة.
• فترك
(8)
الشكايةِ درجةُ الصبر.
• والرضا سكونُ القلب بما قَسَم اللّه له، وهي أرفع من الأولى.
(1)
م: "يرزقه" وهو تحريف.
(2)
سورة هود: 6.
(3)
سورة العنكبوت: 60.
(4)
ليست في "ا".
(5)
م ت "المثنى".
(6)
م: "وبرقه" وفيه تحريف بين.
(7)
ليست في م.
(8)
م: "بترك" وهو تحريف.
• والمحبة أن يكون حُبه لما يَصنع اللّه به.
• فالأولى للزاهدين.
• والثانية للصادقين.
• والثالثة للمرسلين. انتهى.
[المتوكل]:
فالمتوكل
(1)
على اللّه، إن صبر على ما يقدره اللّه له من الرزق أو غيرِه؛ فهو صابر.
وإن رضي بما يقدر له بعد وقوعه، فهو الراضي.
وإن لم يكن له اختيار بالكلية، ولا رضًا؛ إلا فيما يقدر له فهو درجة المحبين العارفين، كما كان عمر بن عبد العزيز يقال: أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع
(2)
القضاء والقدر.
* * *
(1)
م: "المتوكل".
(2)
م: "مواضع".
الحديث الخمسون
عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ
(1)
قالَ: أَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقالَ:
يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنَّ شَرَائِعَ الإِسلَامِ قَدْ كثُرتْ عَلَيْنَا
(2)
فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ، قال:"لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ عز وجل". خَرَّجَهُ الإِمامُ أَحْمَدُ بِهذَا اللَّفْظِ
(3)
.
* * *
[تخريج الحديث]:
• وخرجه الترمذي
(4)
.
وابن ماجه
(5)
وابن حبان في صحيحه
(6)
بمعناه، وقال الترمذي: حسن غريب.
(1)
م: "بشر" وهو تحريف؛ فهو عبد الله بن بسر المازني القيسي أبو بسر، ويقال: أبو صفوان له ولأبيه صحبه.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبيه - إن كان محفوظًا - هكذا قال ابن حجر، وروى عن أخته وعمته، وقيل: خالته.
روى عنه أبو الزاهرية وخالد بن معدان وسليم بن عامر، وعمرو بن قيس السكوني الذي روى عنه هذا الحديث.
وهو آخر من مات بالشام من الصحابة سنة ثمان وثمانين وهو ابن أربع وتسعين سنة وترجمته في التهذيب 5/ 159 والإعلام بوفيات الأعلام ص 50 وتاريخ ابن زبر 1/ 215.
(2)
م: "عليّ" وما أثبتناه عن أ هو الموافق لما في المسند في الموطن الأول منه.
(3)
في المسند 5/ 188 (الحلبي) رواية عن علي بن عياش، عن حسان بن نوح، عن عمرو بن قيس، عن عبد الله بن بسر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيان فقال أحدهما: من خير الرجال يا محمد!؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: من طال عمره وحسن عمله، وقال الآخر: إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا .. الحديث.
وأخرجه من وجه آخر عقبه ص 190 بمثله إلا أنه قال: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فمرني بأمر أتثبت به
…
الحديث، وذلك رواية عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن عمرو بن قيس - به.
(4)
في السنن: 49 - كتاب الدعاء: 4 - باب ما جاء في فضل الذكر 5/ 458 ح 3375 رواية عن أبي كريب، عن زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح - به: أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به
…
الحديث، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
(5)
في السنن: 33 - كتاب الأدب: 53 - باب فضل الذكر 2/ 1246 ح 3773 عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب - به - بنحو حديث الترمذي.
(6)
في الصحيح: كتاب الرقائق: باب الأذكار: ذكر الاستحباب للمرء دوام ذكر الله عز وجل في الأوقات والأسباب 2/ 92 ح 811 رواية عن ابن قتيبة، عن يزيد بن موهب، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح - به - بنحو حديث أحمد شطره الثاني وذكر عن الأعرابيين.
• وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي، عن عبد الله بن بُسْرِ.
وخرج ابن حبان في صحيحه وغيره من حديث معاذ بن جبل قال: آخرُ ما فارقْتُ عليه رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أن قلت له: أيُّ الأعمال خيرٌ وأقربُ إلى اللّه؟
(1)
قال: "أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل".
وقد سبق في هذا الكتاب مفرقًا ذكرُ كثيرٍ من فضائل الذكر، ونذكر هنا فضلَ إدامته والإكثارِ منه.
* * *
[مقاصد الحديث]:
• قد أمر الله المؤمنين
(2)
بأن يذكروه ذكرًا كثيرًا، ومدح مَنْ ذكره كذلك؛ قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
(3)
وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(4)
. وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
(5)
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}
(6)
.
[الذاكرون]:
• وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على جبل يُقال له جُمْدَان فقال: "سيرُوا، هذا جُمْدَان سبق المفَرِّدُونَ" قالوا: ومن المفرّدون؟ يا رسولَ الله! قال: "الذاكرونَ الله كثيرًا والذاكراتُ"
(7)
.
* * *
(1)
في الصحيح عقيب الحديث السابق في ذكر البيان بأن المداومة للمرء على ذكر الله من أحب الأعمال إلى الله جل وعلا 2/ 93 ح 815 - عن محمد بن عبد الله بن عبد السلام، عن محمد بن هاشم البعلبكي عن الوليد، عن ابن ثوبان عن أبيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل
…
فذكره بنحوه.
وانظر الموسوعة 7/ 397.
(2)
"ا": "أمر سبحانه المؤمنين".
(3)
سورة الأحزاب: 41.
(4)
سورة الجمعة: 10.
(5)
سورة الأحزاب: 35.
(6)
سورة آل عمران: 191.
(7)
أخرجه مسلم في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 1 - باب الحث على ذكر اللّه تعالى 4/ 2062 ح 2676.
[والمهترون]:
• وخرجه الإمام أحمد ولفظه: "سبق المفرّدون". قالوا: وما المفردون؟ قال: "الذين يهترون في ذكر الله عز وجل"
(1)
. وخرجه الترمذي، وعنده: قالوا: يا رسول اللّه! وما المفرِّدون؟ قال: "المستهترون في ذكر الله تعالى"، يضع الذكر، عنهم أثقالَهم؛ فيأتون يومَ القيامة خِفَافًا
(2)
.
وروى موسى بن عبيدة، عن أبي عبد اللّه القَرَّاظ
(3)
، عن معاذ بن جبل قال: بينما نحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نسير بالدَّفِّ
(4)
من جُمْدان إذ استنبه
(5)
فقال: يا معاذ! أينَ السابقون؟ فقلت: قَدْ مَضَوْا وتخلّف أُناس
(6)
، فقال:"يا معاذ! إنَّ السابقين: الذينَ يُسْتَهْتَرون بذكر اللّه عز وجل!؟ ".
خرجه جعفر الفريابي
(7)
.
ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث؛ فإنه لما سبق الركبَ، وتخلف بعضهم، نبّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أن السابقين على الحقيقة؛ هم الذين يُدْمِنُونَ ذِكْرَ الله عز وجل ويولعونَ به، فإن الاستهتارَ بالشيء؛ هو الْوَلُوعُ به والشغَف حتى لا يكاد يفارق ذكره.
وهذا على رواية من رواه: المسْتَهْتَرون.
(1)
في المسند 2/ 323 (الحلبي) بهذا اللفظ وفي ص 411 من وجه آخر؛ وفيه: وما المفردون؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا" ثم قال: "اللهم اغفر للمحلقين". قالوا: والمقصرين؟ قال: "والمقصرين".
(2)
في: 49 - كتاب الدعوات: 129 - باب العفو والعافية 5/ 577 ح 3596 وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب.
(3)
م: "القراط".
(4)
م "بالقريب" والدَّف هو الجنب ومعنى الكلمتين متقارب؛ وراجع اللسان 2/ 1395 (المعارف).
(5)
"ا": "إذا ستنبه" وفي إذا تحريف.
(6)
م: "أناس".
(7)
هذا حديث ضعيف جدًّا من هذا الطريق والعلة فيه من موسى بن عبيدة، قال أحمد بن حنبل: لا يكتب حديثه، وحديثه منكر، وقال ابن معين: لا يحتج بحديثه، ضعيف، إلا أنه يكتب من أحاديثه الرقاق، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث جدًّا وليس بحجة، وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ضعيف الحديث جدًّا، ومن الناس من لا يكتب حديثه لوهائه وضعفه وكثرة اختلاطه.
قيل: توفي 152، وقيل:153.
راجع في ترجمته الضعفاء الكبير للعقيلي 4/ 160 - 162، والكامل لابن عدي 6/ 333 - 337 وتهذيب التهذيب 10/ 356 - 360.
وقد أورد الزبيدي في الإتحاف 7/ 254 حديث أبي هريرة في مسلم، وحديث معاذ من طريق موسى بن عبيده عن أبي عبيدة القراظ، ومن رواية إسحق بن راهويه في مسنده وقال: وموسى ضعيف لكن يقوى بحديث أبي هريرة السابق.
ورواه بعضهم فقال فيه
(1)
: "الذين أُهْتِرُوا في ذكر اللّه، وفسر ابن قتيبة الهتْرَ
(2)
؛ بالسَّقَطِ في الكلام، كما في الحديث:"المستبَّان شيطانَان يتكاذَبانِ ويتهاتَران"
(3)
.
قال: والمراد من هذا الحديث من عُمِّر وخَرِفَ في ذكر اللّه وطاعته.
* * *
[والمفردون]:
قال: والمراد بالمفردين على هذه الرواية، من انفرد بالعمر عن القَرْن الذي كان فيه.
وأما على الرواية الأولى قال
(4)
: فالمراد بالمفردين المتخلون
(5)
من الناس بذكر اللّه تعالى، كذا قال.
ويحتمل وهو الأظهر أن المراد بالانفراد على الروايتين الانفراد بهذا العمل، وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي، إما عن القَرْن، أو عن المخالطة واللّه أعلم.
ومن هذا المعنى، قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة: ليسَ السابقُ اليومَ مَن سَبق بعيرُه؛ وإنما السابق من غُفِر له.
(1)
في رواية إسحق بن راهويه: "الذين يهترون بذكر الله عز وجل".
(2)
في الغريب 1/ 103.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 162 (الحلبي) من حديث عياض بن حمار قال: قلت: يا رسول الله! رجل من قومي يشتمني وهو دوني؛ عليّ بأس أن أنتصر منه؟ قال: "المستبان شيطانان يتهاذيان ويتكاذبان".
وأخرجه عقيبه في الصحيفة ذاتها من وجه آخر عن عياض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران".
وفي ص 266 من الجزء ذاته من وجه ثالث أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "أثم المستبان ما قالا، على البادئ ما لم يعتد المظلوم والمستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران" وهو عند الطبراني في الكبير 17/ 311 من وجهين عن عياض بنحوه.
وقد أورده الهيثمي في المجمع 8/ 75 من حديث عياض ثم قال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح.
ورواه ابن حبان في الصحيح 7/ 492 من وجهين عن عياض بنحو ما عند أحمد في الموضع الأول.
وقد عقب أبو حاتم بقوله:
أطلق صلى الله عليه وسلم اسم الشيطان على المستب على سبيل المحاورة؛ إذ الشيطان دلَّه على ذلك الفعل حتى تهاتر وتكاذب، لا أن المستبين يكونان شيطانين.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 10/ 235 بنحوه.
(4)
ليست في م.
(5)
ا، ب:"المتخلين".
[من أحب أن يَرتع في الجنة]:
وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يَرتعَ في رياض الجنة؛ فليكثِرْ ذكرَ اللّه عز وجل"
(1)
.
وخرج الإمام أحمد
(2)
والنسائي
(3)
وابن حبان في صحيحه
(4)
، من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"استكثِرُوا من الباقياتِ الصالحات. قيل: وما هُنَّ؟ يا رسول اللّه!؟ قال: "التكبير والتسبيح والتهليل، والحمد للّه، ولا حول ولا قوّة إلا باللّه".
[الترغيب في الذكر]:
• وفي المسند
(5)
وصحيح ابن حبان
(6)
عن أبي سعيد الخدري أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا ذكر الله حتى يقولوا: مجنون".
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 10/ 302 رواية عن يحيى بن واضح، عن موسى بن عبيدة، عن أبي عبد الله القراظ، عن معاذ بن جبل
…
فذكره.
وهو إذًا ضعيف، والعلة فيه من موسى بن عبيدة، وقد علمت ما فيه من قريب.
وعن ابن أبي شيبة أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 6/ 58 وشاهده حديث أنس أخرجه الترمذي في: 49 - كتاب الدعوات: 83 - باب حدثنا يوسف بن حماد البصري (5/ 532 - 533 ح 3510) رواية عن محمد بن ثابت البناني، عن أبيه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قال: وما رياض الجنة؟ قال "حِلَقُ الذكر".
وعقب عليه بقوله: هذا حسن غريب من هذا الوجه، من حديث أنس.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 75 (الحلبي) من رواية ابن لهيعة عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي؟ يا رسول اللّه! قال: الملة، قيل: وما هي؟ يا رسول اللّه! قال: "الملة"، قيل: وما هي؟ يا رسول اللّه! قال: "الملة" قيل: وما هي؟ يا رسول الله! قال: "التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا باللّه".
(3)
في عمل اليوم والليلة عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، كما في التحفة 3/ 362 ح 4066.
(4)
أخرجه ابن حبان في صحيحه: كتاب الرقاق: باب الأذكار: ذكر البيان بأن الكلمات التي ذكرناها مع التبري من الحول والقوة إِلا بالله من الباقيات الصالحات 2/ 102 من الإحسان ح 837 عن ابن أسلم، عن حرملة، عن ابن وهب - به - بالنص المذكور. وضعف بدراج.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 68، 71 (الحلبي) الأول من رواية سريج عن ابن وهب - به - والثانى من رواية ابن لهيعة، عن دراج - به بالنص المذكور في الموضعين.
(6)
أخرجه في الصحيح: في الباب السابق: ذكر استحباب الاستهتار للمرء بذكر ربه جل وعلا، عن عمر بن محمد الهمداني، عن أبي الطاهر - به - بمثله. وهو مضعف بدراج عن أبي الهيثم أيضًا.
• وروى أبو نعيم في الحلية، من حديث ابن عباس مرفوعًا "اذكُرُوا اللهَّ ذكرًا؛
(1)
يقول المنافقون: إنكم تُراؤُونَ".
• وخرج الإمام أحمد
(2)
، والترمذي
(3)
من حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا". قيل: يا رسول الله! ومِنْ الغازي في سبيل الله؟ قال: "لَوْ ضَرَبَ بسيف في الكفار والمشركين، حتى ينكسر، ويتخضَّب دمًا؛ لكان الذاكروان لله عز وجل أفضل منه درجة".
• وخرج الإمام أحمد، من حديث سهل بن معاذ، [عن أبيه]
(4)
، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا سأله فقال: أيُّ الجهاد أعظم أجرًا؟ يا رسول الله! قال: "أكثرهم للّه ذكرًا". قال: "فأي الصائمين أعظم؟ قال: "أكثرهم للّه ذكرًا" ثم ذكَر لنا الصلاةَ، والزكاةَ، والحجَّ، والصدقة، كل ذلك
(5)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكثَرُهُم للهِ ذِكْرًا" فقال أبو بكر: يا أبا حفص!
(6)
ذهب الذاكرون بكل خير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل! ".
• وقد خرجه ابن المبارك، وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه.
• وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: "كان رسول صلى الله عليه وسلم يذكر اللّه على كل أحيانه"
(7)
.
(1)
في م: "أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون" وفيه تحريفات بينة.
والحديث رواه أبو نعيم في الحلية 3/ 80 - 81 من رواية سليمان بن أحمد، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن عقبة بن مكرم، عن سعيد بن سفيان الجحدري، عن الحسن بن أبي جعفر، عن عقبة الراسبي، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - مرفوعًا .. فذكره ثم قال:
غريب من حديث أبي الجوزاء له يوصله إلا سعيد عن الحسن.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 75 (الحلبي) من رواية ابن لهيعة عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، بمثله إلا أن فيه:"ويختضب".
(3)
أخرجه الترمذي في السنن: 49 - كتاب الدعاء: 5 - باب حدثنا قتيبة 5/ 458 ح 3376 من رواية قتيبة بن سعيد، عن ابن لهيعة - له بمثله.
وعقب عليه بقوله: "هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث دراج". فأومأ - بهذا - لضعفه.
(4)
زيادة واجبة.
(5)
م: "كلا ورسول اللّه" وفي أولها تحريف واضح.
(6)
في المسند: "فقال أبو بكر - رضي الله تعالى عنه لعمر رضي الله عنه: يا أبا حفص! ".
(7)
أخرجه مسلم في: 3 - كتاب الحيض: 30 - باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها 1/ 282 ح 117 - (373) بمثله وهو عند ابن المبارك في الزهد 1429.
وقال أبو الدرداء: الذين لا تزال ألسنتهم رطبةً من ذكر اللّه، يدخل أحدُهما الجنةَ وهو يَضحَكُ
(1)
.
وقيل له: إن رجلًا أعتق مائة نَسمَة، فقال: إن مائة نسمة من مال رجلٍ كثيرٌ، وأَفْضَلُ من ذلك إيمانٌ ملْزومٌ بالليل والنهار، وأن لا يزالَ لسانُ أحدكم رَطْبًا من ذكر اللّه عز وجل
(2)
.
وقال معاذ: لأن أَذْكُرَ اللّه من بُكْرَةٍ إلى اللَّيل أحبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أَحْمِلَ على جِيادِ الخيل في سبيل الله، من بكرة إلى الليل
(3)
.
• وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
(4)
قال: "أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى، ويُذْكَرَ فلا ينسى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر".
خرجه الحاكم مرفوعًا وصححه
(5)
.
والمشهور وقفه.
[من المأثور في الذكر]:
• وقال زيد بن أسلم: قال موسى عليه السلام: يا رب! قد أنعمتَ عليّ كثيرًا فدلني على
(6)
أن أشكرك كثيرًا، قال: اذكرني كثيرًا فإذا ذكرتَنِي كثيرًا؛ فقد شكرتَنِي، وإذا نسيتَني فقد كفرتَني.
• وقال الحسن: "أحب عباد اللّه إلى الله أكثرهم له ذكرًا، وأتقاهم قلبًا"
(7)
.
• وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثني أبو المخارق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررتُ ليلةَ أسْرِيَ بي برجُلٍ مُغَيَّبٍ في نُورِ العرش، فقلت: مَنْ هذا؟ مَلَك؟ قيل: لا، قلت: نبيٌّ؟ قيل: لا، قلت: مَنْ هو؟ قال: هذا رجل كان لسانه رَطْبًا من ذكر
(1)
الحلية 1/ 219 والزهد لأحمد 2/ 57 ولابن المبارك 1126.
(2)
الحلية عقب الحديث السابق والزهد لأحمد 2/ 57 - 58 بنحوه.
(3)
الحلية 1/ 235 والزهد لأحمد 2/ 117 - 118 بمعناه.
(4)
سورة آل عمران: 102.
(5)
أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 294 وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
(6)
ليست في "ا".
(7)
وروى الخرائطي في الشكر ح 25 من حديث أبي عمرو الشيباني قال: "بلغنا أن موسى صلى الله عليه وسلم سأل ربه: أي عبادنا أحب إليك؟ قال: أكثرهم ذكرًا".
الله، وقلبه معلق بالمساجد، ولم يَسْتَسِبَّ لِوالديه قط! "
(1)
.
• وقال ابن مسعود: قال موسى عليه السلام: رب! أيّ الأعمال أحبُّ إليك أن أعمل به؟ قال: تذكرني فلا تنساني.
• وقال أبو إسحق عن هيثم: بلغني أن موسى عليه السلام قال: يا رب! أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟
قال: "أكثرهم لي ذكرًا"
(2)
.
• قال كعب: "من أكثر ذكرَ الله برئ من النفاق".
ورواه مؤمِّل، عن حَمَّاد بن سلمة، عن سُهَيل، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا
(3)
.
• وخرج الطبراني بهذا الإسناد مرفوعًا: "من لم يكثر ذكرَ اللّه فقد برئَ من الإيمان"
(4)
.
ويشهد لهذا المعنى أن الله وصف المنافقين؛ بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلًا.
* * *
[بماذا نباين المنافقين]:
فمن أكثر ذكر الله فقد باينهم في أوصافهم؛ ولهذا خُتِمَتْ سورةُ المنافقين بالأمر بذكر اللّه، وأن لا يلهي المؤمنَ عن ذلكَ مالٌ، ولا ولدٌ، وأنّ مَنْ أَلْهَاهُ ذلك عن ذِكْرِ اللّهِ؛ فهوَ مِنَ الخَاسِرِينَ.
[علامة حب اللّه]:
• قال الربيع بن أنس عن بعض أصحابه: "علامةُ حُبِّ اللّه كَثْرةُ ذِكْرِه؛ فإنك لن تحبَّ شيئًا إلا أكثرت ذكره".
• قال فتح الموصلي: المحب للّه لا يغفُل عن ذكر اللّه طرفةَ عين.
وقال ذو النون: "من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر قذَفَ الله في قلبه نورَ الاشتياق إليه".
• قال إبراهيم الجنيد: "كان يقال: من علامة المحب لله دَوامُ الذكر بالقلب واللسان،
(1)
أورده الدمياطى في "المتْجر الرابح" ص 413 عن ابن أبي الدنيا في الذكر من حديث أبي المخارق مرسلًا أي لأن أبا المخارق تابعي؛ كما ذكر محققه.
(2)
راجع ما أوردناه لك عن الخرائطي في هذا.
(3)
حديث ضعيف راجع عنه سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/ 293.
(4)
حديث موضوع راجع السلسلة 2/ 292 - 293 ح 890.
وقلما وَلِعَ المرء بذكر اللّه؛ إلا أفاد منه حُبَّ اللّه عز وجل".
[المحبون وذكر اللّه]:
• وكان بعض عُبّادِ السلف يقول في مناجاته: "إذا سئم البطالون من بطالتهم؛ فلن يسأم محبّوك من مُنَاجَاتِكِ وذكرِكَ".
• وقال أبو جعفر المحوَّلي
(1)
: "وليُّ اللّه المحبُّ للّه، لا يخلو قلبُهُ مِنْ ذِكْرِ ربّه، ولا يسأمُ مِنْ خِدْمته".
وقد ذكرنا قولَ عائشة: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر اللّه على كل أحيانه
(2)
.
والمعنى: في حال قيامِه ومشيه وقعوده واضطجاعِه.
وسواء كان على طهارة أو على حدث.
• وقال مسعر: "كانت دوابُّ البحر في البحر تسكن، ويوسف عليه السلام في السجن لا يسكن عن ذكر الله عز وجل".
وكان لأبي هريرة خيط فيه ألف عقدة؛ فلا ينام حتى يسبِّحَ به
(3)
.
• وكان خالد بن مَعْدَان يسبّح كل يوم أربعين ألف تسبيحة، سوى ما يقرأ من القرآن، فلما مات وضع على سريره لِيُغَسَّل؛ فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح.
• وقيل لعمير بن هانئ: ما نرى لسانَك يفتُر؟؛ فكم تسبّح كُلَّ يوم؟ قال: مائة ألف تسبيحة، إلا أن تخطئ الأصابع. يعني أنه يعدّ ذلك بأصابعه.
• وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: كانت عندنا امرأة بمكة تسبّح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، فماتت؛ فلما بلغت القبر اختُلست من أيدي الرجال.
• وكان الحسن البصري كتيرًا ما يقول، إذا لم يحدّث، ولم يكن له شُغُل:"سبحان الله العظيم". فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة فقال: إن صاحبَكم لفقيه ما قالها أحد سبع مرات إلا بني له بيتٌ في الجنة
(4)
.
(1)
نسبة إلى مُحَوَّل، قرية بالعراق، على فرسخين من بغداد؛ الأنساب 5/ 221، ولب اللباب 2/ 241.
(2)
ص 1286.
(3)
الحلية 1/ 383 من حديث نعيم بن المحرر بن أبي هريرة عن جده.
(4)
هذا أمر لا يعتمد بدون نقل صحيح؟!.
• وكان عامة كلام ابن سيرين: "سبحان اللّه العظيم، سبحان اللّه وبحمده".
• وكان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون نزل إلى البحر، وقام في الماء يذكر الله مع دوابّ البحر.
• نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال: فكنت كلما استيقظت من الليل وجدتُه يذكر اللّه، فأغتمّ ثمَّ أعزّي نفسي بهذه الآية:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}
(1)
.
المحب: اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه، فلو كُلِّف أن ينسى ذكره لما قدر، ولو كلف أن يكفَّ عن ذكره بلسانه؛ لما صبر.
كيف ينسى المحبُّ ذكرَ حبيبٍ
…
اسمُه في فُؤادِهِ مَكْتُوبُ
• كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول: أَحَدٌ. أحَد!
فإذا قالوا له قل: واللاتِ والعزى قال: لا أُحْسِنُه.
يُرادُ من القلب نسيانُكُم
…
وتأبى الطباعُ عَلى النَّاقِلِ
* * *
كما قويت المعرفة، صار الذكر يجري على لسان الذاكر، من غير كُلْفة، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه: الله الله، ولهذا يُلْهَم أهلُ الجنة التسبيحَ، كما يلهَمُون النَّفَسَ، وتصير "لا إله إلا اللّه" لهم كالماء البارد لأهل الدّنيا.
كان النُّوري يُنْشِد:
لا لأني أنساك أُكْثِرُ ذِكْرَا
…
كَ لكن بِذاكَ يجرِي لسَانِي
* * *
إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره، زاد طرَبُه، وتضاعف قلَقُه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: اقرأ عَليَّ القرآن قال: أقرأُ عليك وعليك أنزِلْ؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عليه، ففاضت عيناه
(2)
.
(1)
سورة الحديد: 21.
(2)
أخرجه البخاري في 65 - كتاب التفسير: 4 - سورة النساء: 9 - باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} 8/ 250 ح 4582 وأطرافه 5049، 5050، 5055 ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها: باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظ للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر 1/ 551 ح 247 - (800)، (
…
)، 284 - (
…
).
سمع الشبلي قائلًا يقول: يا الله! يا جواد! فاضطرب.
وداعٍ دعا إذْ نَحْن بالخَيْفِ من مِنًى
…
فهيَّج أشْجَانَ الفؤاد وما يَدْرِي
دعا باسم لَيْلَى غيرَها فكأنما
…
أطارَ بلَيْلي طائرًا كانَ في صَدْرِي
* * *
النَّبْضُ يَنزعج عند ذكر المحبوب.
إذا ذُكِر المحبوبُ عندَ حبِيبِه
…
تَرَنَّحَ نشوانٌ وحَنَّ طَرُوبُ
ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
(1)
.
* * *
وإني لتَعْرُوني لذكراكِ هِزَّةٌ
…
كما انتفَضَ العُصْفُورُ بلَّله القَطْرُ
* * *
أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.
• قال أبو الجلد
(2)
: أوحى الله إلى موسى: إذا ذكرتَني، فاذكرني وأنت تنتفضُ أعضاؤك، وكنْ عندَ ذِكْرِي خاشعًا مطمئنًّا، وإذا ذكرتَني، فاجْعَل لسانَك مِن وَرَاءِ قَلْبِكَ.
* * *
وصف علي رضي الله عنه الصحابةَ فقال: كانوا إذا ذكروا الله مادُوا كما تميدُ الشجرة في اليوم الشديد الريح، وجَرَت دموعُهم على ثيابهم
(3)
.
* * *
• قال زهير البابي: إن للّه عبادًا ذكَرُوهُ، فخَرجَتْ نُفُوسُهُمْ إعظَامًا واشتياقًا، وقوم
(1)
سورة الأنفال: 2.
(2)
هو جيلان بن فروة، وخبره عند أحمد في الزهد 1/ 125 تامًّا؛ ففيه بعد هذا: وإذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذم نفسك؛ فهي أولى بالذم، وناجِني حين تناجيني بقلب وجل، ولسان صادق.
(3)
الحلية 1/ 76 بأتم من هذا بيد أن الإسناد فيه مجهول وضعيف جدًّا.
ذكروه، فوجلت قلوبهم فرقًا وهيبة، فلو حرقوا بالنار لم يجدوا مس النار، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده، فارفضُّوا عرفًا من خَوْفِهِ، وقوم ذكروه، فحالت ألوانُهم غِيَرًا، وقوم ذكروه، فَجفّتْ أعينُهم سَهَرًا.
* * *
• صلّى أبو يزيد الظّهر، فلَّما أراد أن يكبّر لم يقدِرْ إجلالًا لاسْمِ الله، وارتعدتَ فرائصه، حتى سُمِعَتْ قعقعةُ عِظَامِهِ.
* * *
كان أبو حفص النيسابوري، إذا ذكر الله تغيّرت عليه حاله، حتى يرى جميعَ ذلك مَنْ عنده.
وكان يقول: ما أظنّ أن مُحِقًّا يذْكُر الله عَن غير غفلة، ثم يبقى حيًّا إلا الأنبياءَ، فإنهم أُيدُوا بقوة النبوة، وخواصُّ الأولياء بقوةِ ولايتهم
(1)
.
* * *
إذا سَمِعَتْ باسْم الْحَبِيبِ تَقَعْقَعَتْ
…
مفاصِلُهَا مِنْ هَوْلِ ما تتَذكّرُ!؟
وقف أبو يزيد ليلة إلى الصباح يجتهد أن يقول: "لا إله إلا الله" فما قدر إجلالًا وهيبة، فلما كانَ عند الصباح نزل؛ فبال الدم.
* * *
وما ذكرتكُمُ إلا نَسيتُكُمُ
…
نِسيانَ إِجْلَالٍ لا نسيانَ إهْمَالِ
إذا تذكرتُ مَنْ أنتم وكَيفَ أنا
…
أجْلَلْتُ مِثْلَكُمُ يخطر علَى بَالي
* * *
الذكر لذةُ قلُوب العَارِفين؛ قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}
(2)
.
• قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذُونَ بمثل ذكرِ الله.
(1)
أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة بسياقه تامًّا 4/ 119 وفيه قبل هذا: "وقال مرة، وقد ذكر الله تعالى وتغيرت حاله، فلما رجع قال: ما أبعد ذكرنا عن ذكر المحققين؛ فما أظن أن محقًّا
…
".
(2)
سورة الرعد: 28.
• وفي بعض الكتب السَّالفة يقول الله: معشَرَ الصديقين، بي فافرحوا، وبذكري فتنعموا.
• وفي أثر آخر سبق ذكره: ويُنيبون إلى الذّكْرِ كما تُنيب النُّسُورُ إلَى وُكُورِهَا
(1)
.
* * *
• وعن ابن عمر قال: "أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحبّ الذكرَ كما تحبُّ الحمامة وَكْرها ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وِرْدِهَا يوم ظمئها.
قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره، وأرواحُ المشتاقين لا تسكن؛ إلا برؤيته".
قال ذو النون: ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة؛ إلا بعفوه، ولا طابت الجنة؛ إلا برؤيته
(2)
.
أبدا نفوسُ الطالبيـ
…
ـــن إلى طُلُولِكُم تحنُّ
وكذا القلوب بذكركم
…
بعد المخافة تطمئنُّ
جُنَّت بحبكمُ ومَنْ
…
يَهْوى الحبِيبَ ولا يُجَنُّ؟
بحياتكم يا سادتي
…
جودُوا بِوَصْلِكمُ ومُنّوا
قد سبق حديث: "اذكُروا الله حتّى يقولُوا مجنون"
(3)
.
ولبعضهم:
لقد أكثرتُ من ذكْرَا
…
كَ حتى قيل وَسْوَاسُ
• كان أبو مسلم الخولاني كثيرَ الذكر، فرآه بعضُ الناس، فأنكرَ حاله؛ فقال لأصحابه: أمجنونٌ صاحِبكم؟ فسمعه أبو مسلم فقال: لا يا أخي: ولكن هذا دواء الجنُون!؟.
وحرمةِ الودّ ما لي عنكُمُ عِوَضٌ
…
وليسَ لِي في سِوَاكُمْ سَادَتي غَرَضُ
وقد شرطتُ على قومٍ صَحِبتُهُمُ
…
بأَنَّ قلبي لَكُم مِنْ دُونِهِم فَرَضُوا
(4)
(1)
ص 1086.
(2)
الحلية: 9/ 372 وفيها: "طابت الجنان
…
".
(3)
انظر 1285.
(4)
م: "فرض" وهو تحريف.
ومن حديثي بِكُم قالوا: بِهِ مَرَضٌ
…
فقلتُ: لا زالَ عَنِّيَ ذَلكَ المرَضُ
* * *
المحبونَ يِسْتَوْحِشُونَ من كُلِّ شاغِل يَشْغَلُ عن الذكر، فَلَا شيءَ أحبُّ إليهم من الخلوة بحبيبهم.
* * *
• قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين! كلّموا الله كثيرًا، وكلّموا الناسَ قليلًا قالوا: كيف نكلم الله كثيرًا؟ قال: اخْلُوا بمناجاته، اخلُوا بدعائه.
• وكان بعض السلف يصلي كلّ يوم ألفَ ركعة حتى أُقعد من رجليه، وكان يصلي ألْفَ ركعة جالسًا، فإذا صلى العصر احْتَبَى
(1)
واستقبل القبلة ويقول: عجبتُ للخليقة كيف أَنِسَتْ بسواك؟ بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبُها بذكْرِ سِواك؟.
* * *
• وكان بعضهم يصوم الدهر، فإذا كان وقتُ الفطور قال: أخشى بنفسي تخرج لاشتغالي عن الذكر بالأكل.
* * *
قيل لمحمد بن النضر: أما تستوحش وحدك؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟
* * *
كتمتُ اسمَ الحبيبِ مِنَ العبادِ
…
وردَّدْتُ الصبابةَ في فؤادِي
فوا شوقًا إلى بلدٍ خَلِيٍّ
…
لعَلِّي باسْم مَنْ أَهْوَى أنَادِي
* * *
• فإذا قوي حال المحب ومعرفته، لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان شاغل؛ فهو بين الخَلْقِ بجسمه وقلبُه معلّقٌ بالمحلِّ الأعلى، كما قال علي رضي الله عنه في وصفهم:
(1)
م: "جثا" ومعنى "احتبى" جلس على أَلْيتيه وضم فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعيه ليستند، ويقال: احتبى بالثوب: أداره على ساقيه وظهره وهو جالس على نحو ما سبق ليستند، المعجم الوسيط 1/ 154.
صحبُوا الدنيا بأجسادٍ أرواحُها معلَّقةٌ بالمحل الأعلى.
* * *
وفي هذا المعنى قيل:
جسمي معي غَيْرَ أن الرُّوحَ عِنْدَكُمُ
…
فالجسمُ في غُرْبَةٍ والرُّوحُ في وَطَنِ
* * *
وقال غيره:
ولقد جَعَلْتُكَ في الفُؤَادِ مُحَدِّثِي
…
وأَبَحْتُ جِسمي مَنْ أرادَ جُلُوسِي
فالجسم مني للجليس مؤانسٌ
…
وحبيبُ قَلْبِي ففي الفؤادِ أَنيسِي
* * *
[كان هذا حال الأنبياء والصديقين]:
• وهذه كانت حالةَ
(1)
الرسل والصديقين
(2)
كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}
(3)
وفي الترمذي مرفوعًا يقول الله عز وجل: "إنَّ عبدي كلّ عبدي: الذي يذكُرني وهو مُلاقٍ قِرْنَه
(4)
".
• وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}
(5)
يعني الصلاة في حال الخوف.
• ولهذا قال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}
(6)
.
(1)
م: "حال".
(2)
ليست في "أ".
(3)
سورة الأنفال: 45.
(4)
الترمذي في: 49 - كتاب الدعوات: 119 - باب حدثنا محمود بن غيلان 5/ 570 ح 3580 من رواية أبي الوليد الدمشقي، عن أحمد بن عبد الرحمن بن بكار، عن الوليد بن مسلم، عن عفير بن معدان، عن أبي دوس اليحصبي، عن ابن عائذ اليحصبي، عن عمارة بن زعكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل يقول
…
فذكره، وفي آخره: يعني محمد القتال.
وعقب عليه بقوله: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ليس إسناده بالقوي، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد، ومعنى قوله: وهو ملاق قرنه، إنما يعني عند القتال، يعني أن يذكر الله في تلك الساعة.
(5)
سورة النساء: 103.
(6)
سورة النساء: 103.
• وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(1)
فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله، وكثرة ذِكره.
[فضل الذكر]:
ولهذا ورد فضلُ الذكر في الأسواق، ومواطن الغفلة كما في المسند، والترمذي وسنن ابن ماجه، عن ابن عمر مرفوعًا.
"من دخل سوقًا يُصَاحُ فيها، ويُباعُ فيها، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتَب الله له ألفَ ألفِ حسنةً، ومحا عنه أَلف ألفِ سيئةً، ورفع له ألفَ ألف دَرَجَة"
(2)
.
(1)
سورة الجمعة: 10.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 297 (المعارف) بإسناد ضعيف جدًّا كما ذكر محققه الشيخ شاكر؛ فالحديث من رواية حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار مولى آل الزبير، عن سالم، عن أبيه، عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرهُ.
والعلة فيه من عمرو بن دينار البصري الأعور قال أحمد: ضعيف منكر الحديث، وقال ابن حبان:"لا يحل كتب حديثه إلى على جهة التعجب، كان يتفرد بالموضوعات عن الأثبات".
قال: وهو غير عمرو بن دينار المكي الجمحي الإمام.
وأخرجه الترمزي في 49 - كتاب الدعوات: 36 - باب ما يقول إذا دخل السوق (5/ 491 - 492) ح 3429 من رواية عمرو بن دينار المذكور وعقب عليه بقوله: وعمرو بن دينار شيخ بصري، وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من غير هذا الوجه.
ورواه يحيى بن سليم الطائفي، عن عمران بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه عن عمر رضي الله عنه.
ورواه الترمذي في الموضع نفسه وقبل الحديث السابق برقم 3428 من وجه آخر عن عمر وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
ومن رواية عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جده أخرجه ابن ماجه في: 12 - كتاب التجارات: 40 - باب الأسواق ودخولها 2/ 752 ح 2235 ولفظ أحمد: من قال في سوق: لا إله إلا الله
…
روايتا الترمذي: من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله
…
، من قال في السوق: لا إله إلا الله .... ولفظ ابن ماجه: من قال حين يَدْخل السوق
…
وليس في شيء منها هذا اللفظ الذي عزاه ابن رجب إليها؛ وإنما هذا لفظ ابن عدي رواه في الكامل 5/ 135 - 136 في ترجمته لعمرو بن دينار هذا.
وقد أورد له هذا الحديث وحديثا آخر كلاهما من وجوه ثم قال:
وعمرو بن دينار قهرمان آل الزبير حدث بهذين الحديثين هكذا، وقد روي عنه ما ذكرت، وقد روي عن عمرو بن دينار، عن نافع، عن ابن عمر. =
وفي حديث آخر "ذاكر اللهِ في الغَافِلينَ كمَثل المقاتل عن الفارِّينَ، وذَاكِر الله في الغافلين، كشَجَرةٍ خضراءَ في وسَط شَجَرٍ يابس"
(1)
.
• قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود:
ما دام قلبُ الرجل يذكر الله، فهو في صلاةٍ، وإن كانَ في السوق، وإِن حَرَّكَ به شفتيه؛ فهو أفضل
(2)
.
• وكان بعضُ السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة.
والتقى رجلان منهم في السوق، فقال أحدهما لصاحبه: تعالى حتى نذكر الله في
= ولا يعرف هذان الحديثان عن سالم، ولا يرويهما عن سالم غير عمرو بن دينار هذا.
وله هذا من الحديث مما لم أذكره.
أقول: وإذا؛ فهو حديث منكر إن لم يكن موضوعًا.
وترجمة عمرو هذا في التاريخ الكبير 3/ 2/ 329، والجرح والتعديل 3/ 1/ 232، والضعفاء الكبير 3/ 269 - 270، والكامل 5/ 135 - 136.
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 181 عن أبيه، عن جعفر بن محمد بن يعقوب، وأبي محمد بن حيان، عن جعفر بن أحمد المهرجان كلاهما، عن الحسن بن عرفة، عن يحيى بن سليم، عن عمران القصير، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين، وذاكر الله في الغافلين؛ مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر، وذاكر اللّه في الغافلين يعرفه الله مقعده من الجنة، وذاكر الله في الغافلين يغفر الله له بعدد كل فصيح وأعجمي، فالفصيح: بنو آدم، والأعجمي: البهائم".
قال أبو نعيم: رواه محمد بن يزيد الآدمي، عن يحيى بن سليم مثله.
وقد أورده الشيخ ناصر الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 2/ 120، وذكر أنه ضعيف جدًّا وأن العلة فيه من عمران بن مسلم.
ورواه المنذري في الترغيب 2/ 532 من رواية مالك بلاغًا بنص ابن رجب ثم أورد له رواية ذكر فيها أن قوله "والفصيح بنو آدم، والأعجم: البهائم" ذكره رزين ولم يره المنذريُّ في شيء من نسخ الموطأ، إنما رواه البيهقي في الشعب، عن عباد بن كثير، وفيه خلاف عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكره بنحوه.
ثم روى من حديث ابن مسعود بنحوه وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط بإسناد لا بأس به.
وأورده الغزالي في الإحياء 5/ 5 من الإتحاف، وذكر الزبيدي قول العراقي بتضعيف الحديث بعمران بن مسلم القصير وقول الذهبي في الميزان: قال البخاري: منكر الحديث، ثم قال الزبيدي: لكن ذكر السيوطي في الجامع الكبير أنه رواه ابن صصرى في أماليه، وابن شاهين في الترغيب في الذكر وقال: حديث صحيح الإسناد حسن المتن، غريب الألفاظ.
ثم أورد قطعة منه: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل بين الفارين وعلق بنحو ما علق المنذري. وأعاد الكلام عليه ص 511 من الجزء نفسه. وأورده ابن عدي في الكامل 5/ 91.
(2)
الحلية 4/ 204 باختلاف يسير.
غفلة الناس، فخلوا في موضع، فذكرا الله ثم تفرقا، ثم مات أحدهما، فلقيه الآخر في منامه، فقال له:"أشعرتَ أن الله غَفَر لنا عشيةَ التقينا في السوق؟ ".
* * *
[وظائف الذكر في اليوم والليلة]:
(فصل) في وظائفِ
(1)
الذّكْرِ الموظَّفة في الْيَوْمِ وَاللّيلَة.
• معلوم أن الله فرضَ على المسلمين أن يَذْكروه كلّ يوم وليلة خمس مراتٍ، بإقامة الصلوات الخمس في مواقيتها المؤقتة، وشَرَع لهم مع هذه الفرائض الخمس أن يذكروه ذِكْرًا يكونُ لهم نافلةً، والنافلة: الزيادة؛ فيكون ذلك زيادةً على الصلوات الخمس، وهُوَ نوعان:
• أحدهما: ما هو من جنس الصلاة، فشرع لهم أن يصلّوا مع الصلوات الخمس قبلَها أو بعدَها، أو قبلها وبعدها، سُنَنًا؛ فتكونَ زيادةً على الفريضة، فإن كان في الفريضة نقصٌ جَبَر نَقْصَهَا بهذه النوافل، وإلا كانت النوافلُ زيادةً على الفرائض.
• وأطول ما يتخلل بين مواقيت الصلاة مما ليس فيه صلاة مفروضة: ما بين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، وما بين صلاة الفجر، وصلاة الظهر؛ فشرع ما بين كل واحدة من هاتين الصلاتين، صلاةً تكون نافلةً؛ لئلا يطولَ وقتُ الغفلة عن الذكر، فشرع ما بين صلاة العشاء، وصلاة الفجر: صلاةَ الوَتْر، وقيامَ الليل، وشرع ما بين صلاة الفجر، وصلاة الظهر: صلاةَ الضحى.
وبعضُ هذه الصلوات آكدُ من بعض، فآكدُها الوَتْرُ؛ ولذلك اختلف العلماء في وجوبه، ثم قيامُ الليل.
• وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يداوم عليه حضرًا وسفرًا، ثم صلاةُ الضحى.
وقد اختلف الناس فيها.
وفي استحباب المداومةِ عليها وفي الترغيبِ فيها أحاديث صحيحة
(2)
.
(1)
"ا": "وضايف".
(2)
من ذلك ما رواه الترمذي في السنن: أبواب الصلاة: 346 باب ما جاء في صلاة الضحى 2/ 340 ح 475 من رواية خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل، أنه قال:"ابن آدم اركع لي من أول النهار أربع ركعات أكفك آخره".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. =
وورد الترغيب أيضًا في الصلاة عقيب زوال الشمس
(1)
.
• وأما الذكر باللسان، فمشروع في جميع الأوقات، ويتأكد في بعضها.
فمما يتأكد فيه الذكر؛ عقيبَ الصلوات المفروضات، وأن يذكر الله عقيبَ كل صلاة منها مائةَ مرة ما بين تسبيحٍ وتحميدٍ وتكبيرٍ وتهليلٍ.
ويستحب أيضًا الذكر بعد الصلاتين اللتين لا تطوع بعدهما، وهما الفجر، والعصر، فيشرع الذكرُ، بعد صلاة الفجر إلى أن تطلعَ الشمس، وبعد العصر حتى تغربَ الشمس.
وهذان الوقتان - أعني: وقت الفجر، ووقت العصر - هما أفضلُ أوقات النهار للذكر.
• ولهذا أمر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن كقوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
(2)
وقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
(3)
وقوله: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}
(4)
وقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}
(5)
. وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}
(6)
وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}
(7)
(8)
وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}
(9)
.
• وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}
(10)
.
وأفضل ما فُعِلَ في هذين الوقتين من الذكر، صلاةُ الفجر، وصلاةُ العصر، وهما
= ومن طريق فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال:
"كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول: لا يدع، ويدعها حتى نقول: لا يصلي" ح 477 في الباب نفسه.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
(1)
كما روى الترمذي في الباب التالي للباب السابق 346 ج 2 ص 342 - 343 من حديث عبد الكريم الجزري، عن مجاهد، عن عبد الله بن السائب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعًا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال:"إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح".
قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن السائب حديث حسن غريب.
(2)
سورة الأحزاب: 42.
(3)
سورة الإنسان: 25.
(4)
سورة آل عمران: 41.
(5)
سورة مريم: 11.
(6)
سورة الروم: 17.
(7)
سورة غافر: 55.
(8)
سورة الأعراف: 205.
(9)
سورة طه: 130.
(10)
سورة ق: 39.
أفضل الصلوات.
• وقد قيل في كل منهما: إنهما الصلاة الوسطى، وهما البَرْدَان اللذان من حافظ عليهما دخل الجنة
(1)
.
ويليهما من أوقات الذكر الليل.
• ولهذا يذكر بعد هذين الوقتين في القرآن تسبيحُ الليل وصلاته.
والذكر المطلق يدخل فيه الصلاة، وتلاوة القرآن، وتعلّمه وتعليمه، والعلم النافع، كما يدخل فيه التسبيحُ والتكبيرُ والتهليل.
ومن أصحابنا من رَجَّحَ التلاوة على التسبيح ونحوه بعد الفجر والعصر.
• وسئل الأوزاعي عن ذلك فقال: كان هديُهم ذكرَ الله، فإن قرأ فحسَنٌ.
وظاهر هذا أن الذكر في هذا الوقت أفضل من التلاوة.
وكذا قال إسحاق في التسبيح عقيب المكتوبات مائة مرة أنه أفضلُ من التلاوة حينئذ.
• والأذكار والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء كثيرة جدًّا.
• ويستحب أيضًا إحياءُ ما بين العِشاءين بالصلاة والذكر وقد تقدم حديث أنس: أنه نزل في ذلك قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}
(2)
ويستحب تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره، حتى تُفْعلَ هذه الصلاةُ في أفضل وقتها، وهو آخره، ويشتغل منتظر هذه الصلاة في الجماعة في هذا الثلث الأول من الليل بالصلاة أو بالذكر، وانتظار الصلاة في المسجد، ثم إذا صلى العشاء وصلى بعدها ما يتبعها من سنتها الراتبة أو أوتر بعد ذلك إن كان يريد أن يوتر قبل النوم؛ فإذا أوى إلى فراشه بعد ذلك للنوم، فإنه يستحب له أن لا ينام إلا على طهارة، وذكر، فيسبح ويحمد ويكبر
(3)
تمام مائة،
(1)
إشارة إلى ما رواه مسلم في صحيحه 1/ 440 ح 215 - (635) من حديث أبي بكر عن أبيه أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى البَرْدين دخل الجنة" قال معلقه: أي من صلى صلاة الفجر والعصر، لأنهما في بردي النهار أي طرفيه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر وقال في النهاية 1/ 114: البرادان والأبردان: الغداة والعشي وقيل: ظلَّاهما: وقال في المعلم بفوائد مسلم، 1/ 290 قيل: المراد بهما الصبح والعصر، قال يعقوب بن السكيت: البردان: الغداة والعشي وهما الأبردان والقرّتان والكرتان والعصران والصرعان والردفان والفتيان.
(2)
سورة السجدة: 16 وقد مضى الحديث في شرح الحديث التاسع والعشرين.
(3)
في "ا": "ويكبر ويحمد".
كما علّم النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليًّا أن يفعلاه عند منامهما
(1)
، ويأتي بما قدر عليه من الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم عند النوم، وهي أنواع متعددة، من تلاوة القرآن، وذكر الله، ثم ينام على ذلك، فإذا استيقظ من الليل وتقلب على فراشه، فليذكر الله كُلَّمَا تقلب.
• وفي صحيح البخاري، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ تَعَارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: ربِّ! اغفر لي -أو قال: "ثم دعا- استجيبَ له؛ فإن عزمَ فتوضأ ثم صلَّى، قُبِلَتْ صلاته"
(2)
.
• وفي الترمذي، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أوى إلى فراشه طاهرًا يذكر الله حتى يدركه النعاس لم يتقلب ساعةً من الليل يسأل الله فيها شيئًا مِنْ خَيْرِ الدنيا والآخرة؛ إلا أعطاه إياه"
(3)
.
• وخرجه أبو داود بمعناه من حديث معاذ
(4)
.
وخرجه النسائي
(5)
من حديث عمرو بن عبسة، وللإمام أحمد من حديث عمرو
(1)
كما روى مسلم في صحيحه: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 19 - باب التسبيح أول النهار وعند النوم 4/ 2091 ح 80 - (2727) من حديث ابن أبي ليلى، عن علي، أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلقت فلم تجده، ولقيت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا؛ فذهبنا نقوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على مكانكما، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري، ثم قال:"ألا أعلمكما خيرًا مما سألتما؟ إذأ أخذتما مضاجعكما: أن تكبرا الله أربعًا وثلاثين، وتسبحاه ثلاثًا وثلاثين، وتحمداه ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم" وهو في البخاري 3113، 3705، 5361، 5362، 6318.
(2)
أخرجه البخاري في: 19 - باب التهجد: 21 - باب فضل من تعار من الليل فصلى 3/ 39 ح 1154، وانظر الفتح في هذا الموضع؛ ففيه روايات هذا الحديث في البخاري وغيره.
(3)
أخرجه الترمذي في 49 - كتاب الدعوات: 93 - باب حدثنا الحسن بن عرفة 5/ 540 ح 3526 وعقب عليه بقوله: هذا حديث حسن غريب.
وفي م: "لم تمض ساعة
…
خيري" وفي المصرية: "سأل" وكلها مخالف لما في السنن وانظر النسخة الهندية 4/ 268.
(4)
أخرجه أبو داود في: 35 - كتاب الأدب: 105 - باب النوم على طهارة (5/ 296 - 297) ح 5042 من رواية عاصم بن بهدلة، عن شهر بن حوشب، عن أبي ظبية، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يبيت على ذكر طاهرًا فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرًا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه". وهو في صحيح سنن أبي داود 3/ 951 ح 4216.
(5)
في عمل اليوم والليلة ح 808 و 809 من وجوه بنحوه.
ابن عبسة في هذا الحديث: "وكان أول ما يقول إذا استيقظ: سبحانك لا إله إلا أنت، فاغفر لي إلا انسلخ من خطاياه، كما تنسلخ الحية من جلدها"
(1)
.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظَ من مَنامِهِ يقول: "الحمدُ لله الذي أَحْيَاني بَعْدَ مَا أمَاتني وإليْهِ النشور"
(2)
.
ثم إذا قام إلى الوضوء والتهجد أتى بذلك كله على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويختم تهجده بالاستغفار في السحر، كما مدح الله المستغفرين بالأسحار.
وإذا طلع الفجر، صلى ركعتي الفجر، ثم صلى الفجر، ويشتغل بعد صلاة الفجر بالذكر المأثور، إلى أن تطلع الشمس على ما تقدم ذكره.
فمن كان حالُه على ما ذكرنا، لم يزل لسانُه رَطْبًا بذكر الله فيستصحب الذكر في يقظته، حتى ينام عليه ثم يبدأ به عند استيقاظه، وذلك من دلائل صدق المحبة كما قال بعضهم:
وآخر شيء أنت في كل هجْعةٍ
…
وأول شيء أنت وقت هُبُوبي
• وأما ما يفعله الإنسان في آناء الليل والنهار
(3)
من مصالح بدنه ودنْياه
(4)
، فعامة ذلك يشرع ذكر اسم الله عليه، فيشرع له ذكر اسم الله وحمده على أكله، وشربه، ولباسه، وجِماعه لأهله، ودخولِه منزله، وخروجه منه، ودخوله الخلاءَ، وخروجه منه، وركوبه دابّته، ويسمي على ما يذبحه من نسك وغيره.
• ويشرع له حمدُ الله على عُطاسه، وعند رؤية أهل البلاء في الدين أو الدنيا، وعند التقاء الإخوان وسؤال بعضهم بعضًا عن حاله، وعند تجدد ما يحبه الإنسان من النعم، واندفاع ما يكرهه من النقم، وأكمل من ذلك أن يحمد الله على السراء والضراء، والشدةِ والرخاء، ويحمدَه على كل حال.
• ويُشرع له دعاء الله عند دخول السوق، وعند سماع أصوات الدِّيكَة بالليل، وعند سماع الرعد، وعند نزول المطر، وعند اشتداد هبوب الرياح، وعند رؤية الأهلة،
(1)
الذي في المسند 4/ 113 من حديث عمرو بن عبسة بنحو ما عند النسائي.
(2)
أخرجه النسائي في عمل اليوم ح 856، 857، 858، 859، 860 بتمامه ومختصرًا من حديث حذيفة، ومن وجوه عديدة. وهو عند البخاري في الدعوات والتوحيد ح 6312، 6314، 6324، 7394 من حديث حذيفة و 7395 من حديث أبي ذر وعند مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ح 2711 من حديث البراء بن عازب.
(3)
م: "وأطراف النهار".
(4)
م: "دينه وبدنه ودنياه".
وعند رؤية باكورة الثمار.
• ويشرع أيضًا ذكر الله ودعاؤه عند نزول الكرْب، وحدوث المصائب الدنيوية، وعند الخروج للسفر، وعند نزول المنازل في السفر، وعند الرجوع من السفر، ويشرع التعوذ بالله عند الغضب، وعند رؤية ما يكره في منامه، وعند سماع أصوات الكلاب والحمير بالليل، ويشرع استخارة الله عند العزم على ما لا تظهر
(1)
الخِيَرَةُ فيه، وتجب التوبة إلى الله، والاستغفارُ من الذنوب كُلِّها صغيرِها وكبيرِها كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}
(2)
فمن حافظ على ذلك لم يزل لسانه رطبًا بذكر الله في كل أحواله.
* * *
[جوامع الكلم حتى في الذكر]:
(فصل) قد ذكرنا في أول الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
(3)
بجوامع الكلم فكان صلى الله عليه وسلم يعجبه جوامع الذكر، ويختاره على غيره من الذكر، كما في صحيح مسلم، عن ابن عباس، عن جويرية بنت الحارث، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بُكْرةً حين صلَّى الصّبح، وهي في مَسْجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال:"ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم فقال النبي: "لقد قلتُ بعدكِ أربعَ كلمات ثلاث مرات لو وزِنَتْ بما قُلْتِ منذُ اليوم لوزَنَتْهن: سبحان الله وبحمده عدَدَ خلِقهِ، ورضا نفسِه، وزنة عَرْشِه، ومدادَ كلماته"
(4)
.
• وخرجه النسائي
(5)
ولفظه: "سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله
(1)
م: "على ما تظهر".
(2)
سورة آل عمران: 135.
(3)
م: "قد بعث".
(4)
أخرجه مسلم في: 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: 19 - باب التسبيح أول النهار وعند النوم 4/ 2090 ح 79 - (2726).
(5)
أخرجه النسائي في السنن: 13 - كتاب السهو: 94 - باب نوع آخر من عدد التسبيح 3/ 77 ح 1352، من حديث كريب، عن ابن عباس، عن جويرية بنت الحارث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليها وهي في المسجد تدعو، ثم مر بها قريبًا من نصف النهار، فقال لها: ما زلت على حالك؟ قالت: نعم، قال: ألا أعلمك يعني كلمات تقولينهن؟ سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، سبحان الله مداد كلماته، سبحان الله مداد كلماته، وأخرجه في عمل اليوم والليلة ص 69، 71 ح 161 - 165 من وجوه عدة، بدون تكرار، وبعضها بالنص المذكور وبعضها بنحوه.
أكبر، عدَدَ خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته".
• وخرج أبو داود، والترمذي، والنسائي
(1)
من حديث سعد بن أبي وقاص أنه دَخَلَ مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يَديْها نواةٌ أو قال حصاةٌ تسبحُ به، فقال:"ألا أُخبركِ بما هو أيسر من هذا أو أفضل؟ سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحانَ الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحانَ الله عَدَد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر، مثلَ ذلك، والحمد لله، مثلَ ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك".
• وخرج الترمذي من حديث صفية قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح الله بها فقال: لقد سبَّحتِ بهذه فقال: ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به؟ فقلت: علمني، فقال:"قولي سُبْحَانَ الله عَدَد خَلْقِه"
(2)
.
• وخرج النسائي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة: أن النبي مر به وهو يحرك شفتيه فقال: ماذا تقول؟ يا أبا أمامة! قال: أذكرُ رَبِّي، قال: ألا أُخبرك بأكثَر وأفضلُ مِنْ ذِكْرِكَ الليلَ مع النّهارِ والنَّهارَ مع الليل؟ أن تقول: سبحانَ الله عدَدَ ما خلقَ، سبحان الله مِلء ما خَلَقَ، سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه، وسُبْحَانَ الله عددَ كلِّ شيء، وسبحانَ الله ملء كلِّ شيء، وتقول: الحمد لله مثلَ ذلك
(3)
.
(1)
أبو داود في السنن: في كتاب الصلاة: 359 - باب التسبيح بالحصى 2/ 169 - 170 ح 1500 بنحوه وفيه: فقال: "أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل؟
…
". والترمذي في السنن: 49 - كتاب الدعوات: 114 - باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذه دبر كل صلاة (5/ 562 - 563) ح 6568 بنحوه، وفيه: نوى أو قال: حصى تسبح به فقال: "ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا؟
…
". وعقب عليه بقوله: وهذا حديث حسن غريب من حديث سعد.
وهو في ضعيف أبي داود ص 147 ح 323. وقوله: "به" ليست في أ.
وأخرجه النسائي في اليوم والليلة على ما ذكر المزي في التحفة 3/ 325.
(2)
أخرجه الترمذي في: 49 - كتاب الدعوات: 104 - باب حدثنا موسى بن عبد الرحمن 5/ 555 ح 3554 من رواية هاشم بن سعيد الكوفي، عن كنانة مولى صفية عن صفية رضي الله عنها .. فذكره وفيه: ألا أعلمك بأكثر مما سبحت؟ فقلت .. الحديث.
وعقب عليه بقوله: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث صفية إلا من هذا الوجه، من حديث هاشم بن سعيد الكوفي، وليس إسناده بمعروف.
وفي الباب عن ابن عباس.
(3)
أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 71 - ح 166 بنحوه باختصار وزيادة. =
• وخرج البزار نحوه من حديث أبي الدرداء
(1)
.
وخرج أبن أبي الدنيا بإسناد له، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: يا معاذ! كم تذكر ربّك كلّ يوم؟ تذكره كلَّ يوم عشرة آلاف مرة قال: كل ذلك أفعل؟! قال؛ أفلا أدلك على كلمات هن أهون عليك من عشرة آلاف، وعشرة آلاف؟ أن تقول: لا إله إلا الله عدد ما أحصاه [علمه] لا إله إلا الله عدد كلماته، لا إله إلا الله عدَدَ خلقه، لا إله إلا الله زِنَة عَرْشِهِ، لا إله إلا الله ملء سمواته، لا إله إلا الله ملءَ أرضه، لا إله إلا الله مثلَ ذلك معه، والله أكبر مثل ذلك معه، والحمد لله مثلَ ذلك معه
(2)
.
• وبإسناده أن ابن مسعود ذكر له امرأة تسبح بخيوط معقدة فقال: ألا أدلكِ على ما هو خَيْرٌ لك منه؟ سبحانَ الله ملءَ البر والبَحْرِ، سبحان الله ملءَ السمواتِ والأَرَضِ، سبحان الله عددَ خَلْقِه، سبحان الله رضا نفسه، فإذا أنت قد ملأت البر والبحر والسماء والأرض.
• وبإسناده عن المعتمر بن سليمان التيمي
(3)
قال: كان أبي يحدث خمسة أحاديث، ثم يقول: أمهلوا؛ سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله عَدَد ما خلق وزنة ما خلق، وعدَد ما هو خالق، وزنةَ ما هو خالق، وملء ما خلق، وملء ما هو خالق، وملء سمواته، وملء أرضه، ومثْل ذلك وأضعافَ ذلك، وعدَد خلقهِ، وزنة عَرْشه، ومُنْتَهى رحمته، ومدادَ كلماته، ومبلَغَ رضاه، وحتى يرضى، وإذا رضي، وعددَ ما ذَكَرهُ به خَلقهُ في جميع ما مضى، وعدد ما هم ذاكروه
(4)
فيما بقي في كل سنة، وشهر، وجمعة، ويوم، وليلة، وساعةٍ من الساعات، وتنسُّم وتنفس من أبدٍ
(5)
إلى الأبد، أبد الدنيا والآخرة أمَدٌ
(6)
من ذلك لا ينقطع أولاه، ولا ينفد أخراه.
= وابن حبان في الصحيح 2/ 98 من الإحسان ح 827 بنحوه وليس فيه: "وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه" كما أن هذه الجملة ليست عند النسائي في الموضع المذكور.
(1)
راجع مختصر زوائد البزار 2/ 402 - 403 والمجمع 10/ 96 - 97.
(2)
وأخرجه الدولابي في الكنى 1/ 39 من رواية إبراهيم بن يعقوب، عن مسلم بن إبراهيم، عن واصل بن مرزوق، عن رجل من بني مخزوم يكنى أبا شبل، عن جده وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل
…
فذكره. وما بين المعكوفين ليس في أ.
وفي آخره: "لا يحصي محصٍ: ملك ولا غيره" وليس فيه "لا إله إلا الله مثل ذلك معه".
(3)
ليست في "ا".
(4)
م: "ذاكرونه" وفيها خطأ نحوي واضح.
(5)
م: "الأبد".
(6)
م: "أبدًا".
• وبإسناده عن المعتمر بن سلَيمانَ قال: رأيتُ عبدَ الملك بنَ خالد بعد موته فقلت: ما صنعت؟ قال: خيرًا، فقلتُ: ترجو للخاطئ شيئًا؟ قال: يلتمس عِلْم تسبيحات أبي المعْتَمِر، نِعمَ الشيء.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين
(1)
، حدّثني بعضُ البصريين، أن يُونس بنَ عُبيد رأَى رجُلًا
(2)
فيما يرى النائم كان قد أصيب ببلاد الروم، فقال: ما أفضلُ ما رأيتَ ثَمَّ منَ الأعمال؟ قال: رأيتُ تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان.
وكذلك
(3)
كان صلى الله عليه وسلم يعجبه من الدعاء جوامعه:
• ففي سنن أبي داود عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك
(4)
.
• وخرج الفريابي وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة! عليك بجوامع الدعاء، اللهم! إني أسألكَ من الخير كله عاجله وآجله: ما علمت منه وما لم أعلم: وأعوذ بك من الشر كلِّه عاجله وآجله: ما علمتُ منه، وما لم أعلم، اللهم! إني أسألك من خير ما سألكَ منه محمدٌ عبدُك ونبيك، وأعوذ بك من شرِّ ما عاذَ منه عبدُك ونبيك، اللهم! إني أسألك الجنة وما قربَ إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النَّار ومَا قرَّبَ إليها من قولٍ وعَمَلٍ، وأسألك ما قضيتَ لي من قضاء أن تجعلَ عاقبته رشدًا".
• وخرجه الإمام أحمد وابنُ ماجه وابنُ حبان في صحيحه والحاكم، وليس عندهم
(1)
م: "أبي الحسين".
(2)
م: "رآه رجل".
(3)
"ا": "ولذلك".
(4)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الصلاة: 358 - باب الدعاء 2/ 162 - 163 ح 1482 من حديث الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك".
فقد أورده ابن رجب بالمعنى.
وقد ذكر الصديقي في عون المعبود 1/ 552 أن هذا الحديث سكت عنه المنذري.
أقول: وسكت عنه أبو داود؛ فهو حسن.
وذكر محقق أبي داود عن هذا الحديث بهامش المنذري أنه حديث حسن.
وهو إذًا استنتاج من سكوت المنذري وأبي داود معًا، قيد على الهامش من قارئ النسخة ودارسها وانظره في صحيح أبي داود 1/ 278 ح 1315 وقد صححه الشيخ.
ذكر جوامع الدعاء
(1)
.
• وعند الحاكم: عليك بالكوامل وذكره.
• وخرجه أبو بكر الأثرم وعنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ما منعك أن تأخذي بجوامع الكلم وفواتحه؟ وذكر هذا الدعاء.
• وخرج الترمذي من حديث أبي أمامة
(2)
قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئًا، فقلنا: يا رسول الله! دعوتَ بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئًا، فقال: ألا أدلكم على ما يجمعُ ذلك كلَّه؟ تقول: اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذُ بك من شر ما استعاذَ منه نبيُّكَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأنت المستعانُ، وعليك البلاغُ، ولا حَول ولا قوة إلا بالله.
(1)
مسند أحمد 6/ 147 (الحلبي) من رواية محمد بن جعفر عن شعبة، عن جبر بن حبيب، عن أم كلثوم، عن عائشة، أنَّ أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يكلمه، وعائشة تصلي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بالكوامل، أو كلمة أخرى؛ فلما انصرفت عائشة، سألته عن ذلك فقال لها: قولي اللهم .. فذكره بنحوه وبتقديم وتأخير.
وأورده عقبه من حديث عبد الصمد، عن شعبة -به- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: عليك بالجوامع الكوامل
…
فذكره؛ فكيف قال ابن رجب: وليس عندهم ذكر جوامع الدعاء؟ وأخرجه ابن ماجه في: 34 - كتاب الدعاء: 4 - باب الجوامع من الدعاء (2/ 1264) ح 3846 من رواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن جبر بن حبيب -به-.
وليس فيه ذكر الجوامع من الدعاء.
وأورده البوصيري في الزوائد 2/ 268 - 269 وقال: هذا إسناد فيه مقال؛ أم كلثوم هذه لم أر من تكلم فيها، وعدها جماعة من الصحابة وفيه نظر؛ لأنها ولدت بُعيد موت أبي بكر، وباقي رجال الإسناد ثقات، ثم ذكر رواية أبي داود الطيالسي وابن حبان للحديث؛ وكأنه يريد أن يستأنس لصحة الحديث أو حسنه برواية ابن حبان له؛ سيما وهو يرويه من حديث حماد بن سلمة عن الجريري، عن أم كلثوم -به-.
وهو عند ابن حبان في: كتاب الرقاق: باب: الأدعية: ذكر الأمر للمرء أن يسأل ربه جل وعلا جوامع الخير، ويتعوذ به من جوامع الشر 2/ 115 ح 866 بنحوه.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 521 - 522 من رواية أحمد بن جعفر القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن محمد بن جعفر -به- أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه في شيء يخفيه عن عائشة، وعائشة تصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! عليك بالكوامل أو كلمة أخرى
…
الحديث بنحوه.
وقد صححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
(2)
أخرجه الترمذي في 49 - كتاب الدعوات: 89 - باب حدثنا محمد بن حاتم 5/ 537 - 538 ح 3521 بمثله وعقب عليه بقوله:
هذا حديث حسن غريب.
وفي م: "تقولون" وهو تحريف.
• وخرج الطبراني وغيره من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: في دعاءٍ له طويل: اللَّهم! إني أسألكَ فواتحَ الخير وخواتِمَهُ، وَجَوَامِعَه، وأولهَ وآخره، وظاهِرَه، وَباطنِه
(1)
.
• وفي المسند أن سعد بنَ أبي وقاص سمع ابنًا له يدعو ويقول: اللهم! إني أسألك
(2)
الجنة ونعيمَها وإستبرقها ونحوًا من هذا، وأعوذُ بكَ من النار وسَلاسِلها وأغلالِها، فقالت: لقد سألتَ اللهَ خيرًا كثيرًا وتعوذتَ بالله من شر كثير، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون قومٌ يعتدون في الدعاء وقرأ هذه الآية {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
(3)
وإن حسبك
(4)
أن تقول: اللهم! إني أَسْأَلُكَ الجنة وما قَرَّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قَرَّبَ إليها من قول وعمل"
(5)
.
• وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: كنّا نقولُ في الصلاة خلفَ رسول الله
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير 23/ 316 - 317 ح 717 ضمن حديث طويل عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: "اللهم أنت الأول لا شيء قبلك، وأنت الآخر لا شيء بعدك، أعوذ بك من كل دابة ناصيتها بيدك، وأعوذ بك من الإثم والكسل، ومن عذاب النار ومن عذاب القبر، ومن فتنة الغنى، وفتنة الفقر، وأعوذ بك من المأثم والمغرم، اللهم نقِّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهم بعِّد بيني وبين خطيئتي كما بعَّدت بين المشرق والمغرب، هذا ما سأل محمد ربه؛ اللهم إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبتني وثقل موازيني، وأحق إيماني، وارفع درجتي، وتقبل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين. اللّهم! إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأوله، وآخره، وظاهره وباطنه، والدرجات العلى من الجنة، آمين، اللهم! ونجني من النار، ومغفرة بالليل والنهار، والمنزل الصالح من الجنة آمين. اللهم! إني أسألك خلاصًا من النار سالمًا، وأدخلني الجنة آمنًا، اللهم! إني أسألك أن تبارك لي في نفسي، وفي سمعي، وفي بصري، وفي روحي، وفي خلقي، وفي خليقتي وأهلي، وفي محياي وفي مماتي، اللهم! وتقبل حسناتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين.
ورواه مختصرًا في الجزء نفسه رقم 825.
وقد أورده الهيثمي في المجمع 10/ 176 - 177 عن الطبراني في الكبير والأوسط وقال: أحد إسنادي الكبير، والسياق له رجال الأوسط ثقات.
ورواه الحاكم في المستدرك 1/ 520 وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
وأورده الغزالي في الإحياء 5/ 80 من الإتحاف، وذكر الزبيدي قول العراقي: فيه عاصم بن عبيد لا أعلمه روى عنه إلا موسى بن عقبة ثم ذكر رواية الحاكم له وتصحيحه.
(2)
في "ا": يدعو يقول: "اللهم أسألك
…
".
(3)
سورة الأعراف: 55.
(4)
"ا""بحسبك" وهو مخالف لما في المسند.
(5)
أخرجه أحمد في المسند 3/ 47، 89 ح 1483، 1584 (المعارف) بإسناد ضعيف في الموضعين كما ذكر محققه للجهالة براوٍ في الموضع الأول؛ هو مولى سعد بن أبي وقاص، وراو آخر في الموضع الثاني؛ هو ابن سعد. والإسناد الأول من رواية عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن زياد بن مخراق، قال: سمعت أبا عباية، عن مولى لسعد أن سعدا سمع ابنًا له يدعو ويقول
…
فذكره. =
- صلى الله عليه وسلم: السلامُ على الله، السلام على جبريل، وميكائيل، السلام، على فلان وفلان، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: إن الله هو السلامُ، فإذا قعدَ أحدكم في الصلاة فليقل: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ
(1)
السلامُ عليكَ أيها النبي ورحمةُ الله وبركاتهُ، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قالها أصابت كلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخير من المسألة ما شاء
(2)
.
وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عُلِّم فواتح
(3)
الخير أو جوامع الخير وفواتحه وخواتمه؛ وإن كنا لا ندري ما نقول في صلاتنا حتى علَّمنا فقال: قولوا التحيات لله؛ فذكره إلى آخره
(4)
. والله أعلم. [وأحكم وصلى الله على خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم]
(5)
.
= أما في الموضع الثاني؛ فهو من رواية أبي النصر، ومحمد بن جعفر، عن شعبة، عن زياد بن مخراق، عن قيس بن عباية، عن مولى لسعد، عن ابنٍ لسعد؛ أنه كان يصلي فكان يقول في دعائه .... فذكره.
(1)
م: "والطيبات لله" وهو مخالف لما في أ، والصحيحين.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: 10 - كتاب الأذان: 148 - باب التشهد في الآخرة 2/ 311 ح 831 وأطرافه في أحاديث: 835، 1202، 6230، 6265، 6328، 7381 وأخرجه مسلم في: 4 - كتاب الصلاة: 16 - باب التشهد في الصلاة 1/ 301 - 302 ح 55 - (402) وفي م: "ليتخير" وهو مخالف لما في الأصول.
(3)
م: "مفاتح" وهو مخالف لما في الأصول.
(4)
أخرجه أحمد بتمامه في المسند 5/ 336 (المعارف) ح 3877 وأطرافه في 3562، 3622، 3738. بإسناد صحيح كما ذكر محققه الشيخ أحمد شاكر.
(5)
بعد هذا في "ا":
وهذا آخر ما وقف عليه المصنف نفع الله به، وفسح في علمه، وأمتع بطول بقائه، علق ذلك لنفسه ولمن يشاء الله تعالى من بعده: العبد الفقير إلى الله تعالى، المقصر في شأنه، المعترف بذنبه. عبد القادر بن محمد بن علي الحجار الحنبلى مذهبًا المدني مولدًا؛ من خط مؤلفه.
وكان فراغه منه ضحى يوم الثلاثاء خامس شهر جمادى الأولى من سنة تسعين وسبعمائة بالمدرسة الصدرية بدمشق المحروسة، نفع الله بذلك كاتبه وقارئه والسامع له ومن دعا لهم بالمغفرة. آمين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا [توثيق المؤلف].
قابلت: على هذا الكتاب من جمعي وتأليفي وهو شرح الأربعين النووية مع ما أضيف إليها: كاتبها الشيخ العالم القدوة لصالح العلامة بقية السلف: محيي الدين أبو محمد عبد القادر بن محمد بن علي بن الحجار المدني الحنبلي نفعه الله ونفع به وقابل بنسخته على أصلي وأصلي بيدي أنظر إليه.
صحت على النسخة
…
العلّامة وأجزت له روايته عني مع رواية ما حرر من أصوله.
يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الأولى سنة تسعين وسبعمائة بدار الحديث السكرية بالقصاعين بدمشق المحروسة
…
وكتبه عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي عفا الله عنه، ورفق به، والحمد لله وحده وصلى الله على محمد عبده ورسوله النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.