الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقَدّمة النّاشر
إن إحياء بعض كتب التراث الهامة بإعادة نشرها أو تهذيبها واختصار بعضها الآخر اختصارًا غير مخل، إن هو إلَّا محاولة القصد منها إفادة القارئ ومساعدته بجعلها سهلة قريبة المأخذ، محببة إلى النفس، فضلًا عن إظهارها بالمظهر الجميل الذي يشعر بأهميتها بين المؤلفات.
ولقد عمل مكتب التحقيق في "مؤسسة الرسالة" جاهدًا على تبني هذه الفكرة وتنفيذها فعلًا فأصدر مجموعة من هذه الكتب، أحدها هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
وإن وجود الأستاذ الشيخ شعيب الأرنؤوط والأستاذ الشيخ نعيم العرقسوسي وغيرهما على رأس هؤلاء الذين يعملون بصمت، وبنفس رضية ولا يألون جهدًا في سبيل إنتاج تعتز به المؤسسة، يجعلنا نشعر باعتزاز بأن ما نقدمه لقرائنا هو مصدر اطمئنان وثقة نشكر الله عليه.
وأنا إذ أشكر العاملين في المؤسسة على ما يبذلونه من جهد أدعو الله العلي القدير أن يبارك لهم في أعمالهم وأن يوفقهم ويأخذ بأيديهم، فهم أهل فضل ومكرمة، وأن يجزيهم عن المؤسسة أحسن الجزاء.
إننا ندعو الله مخلصين أن يثيبنا على ما نقدم، آملين أن نوفق إلى خدمة القارئ، والله من وراء القصد.
رضوان دعبول
بسم الله الرَّحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي هدانا لدينِ الإِسلامِ، وأكرمنا بسنة خيرِ الأنامِ، ووفقنا لِطاعته ومرضاته، وصلى الله على سيدنا محمد النَّبيّ الأمي الذي يؤمن بالله وكَلِمَاتِه، بلغ الرِّسالةَ، وأدى الأمانةَ، ونَصَحَ للأُمَّةِ، وعلى آله وأصحابه الأخيار المُنْتَجَبِينَ، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
وبعد، فهذا كتابٌ عظيم حافِل، يتضمَّنُ شرحَ خمسين حديثًا منتقاةٍ من جوامع كلمِهِ صلى الله عليه وسلم، يَندرِجُ تحتها معانٍ كثيرةٌ في ألفاظٍ قليلة، وهي مما خصَّ الله به رسولَه صلى الله عليه وسلم.
وقد أشار الإِمامُ أبو سليمان حَمْدُ بن محمد بن إبراهيم الخطابي المُتوفَّى سنة (388) هـ إلى يسيرٍ من جوامع كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم في كتابه "غريب الحديث" 1/ 64 فقال: وقد أمدَّ اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بجوامع الكَلِمِ التي جعلها رِدْءًا لِنبوته، وعَلَمًا لرسالته، لينتظِمَ في القليل منها عِلْمُ الكثيرِ، فَيَسْهُلُ على السامعين حِفظُهُ ولا يؤوْدُهُم حَمْلُهُ، ومن تتبع الجوامع من كلامه، لم يَعْدَم بيانَها، وقد وصفتُ منها ضروبًا، وكتبتُ لك مِن أمثلتها حروفًا تدلُّ على ما وراءها من نظائرها وأخواتها، فمنها في القضايا والأحكام قولُه:"المؤمِنونَ تتكافؤُ دماؤُهم، ويَسعَى بِذِمَّتِهم أدناهُم، وهُمْ يَدٌ على من سِواهم" وقوله: "المنيحةُ مردودةٌ، والعارِيَّة مؤدَّاةٌ، والدَّين مَقضِي، والزَّعيمُ غارِم". فهذان الحديثان على خِفَّةِ ألفاظهما يتضمنان عامةَ أحكام الأنفس والأموال. ومنها قولُه صلى الله عليه وسلم: "سَلُوا الله اليقينَ والعافيةَ". فتأمَّل هذه الوصَيَّة الجامعة تجدها محيطةً بخير الدُّنيا والآخرة، وذلك أن مِلاك أمرِ الآخرةِ اليقينُ، وملاك أمر الدُّنيا العافيةُ، فكُلُّ طاعة لا يقين معها هَدَرٌ، وكل
نعمة لم تصحبها العافية كَدَرٌ، فصار هذا الكلام على وجازته وقِلَّة حروفه أحَدُ شطريه محيطًا بجوامع أمرِ الدين وشطره الآخر متضمنًا عامةَ مصالحِ الدُّنيا.
ثم أملى الإِمامُ الحافظُ المفتي شيخُ الإِسلام تقيُّ الدين أبو عمرو عثمانُ بنُ موسى الشَّهْرزُوري الشهير بابن الصَّلاح المتوفَّى 643 هـ مجلسًا سمَّاه: الأحاديث الكلية جمع فيه الأحاديثَ الجوامعَ التي يُقال: إن مدارَ الدين عليها، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة، وقد اشتمل مجلسُه هذا على ستة وعشرين حديثًا.
ثم إنَّ الفقيه الإِمامَ الزاهدَ القُدوةَ أبا زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفَّى سنة 676 هـ أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابنُ الصلاح، وزاد عليها تمامَ اثنين وأربعين حديثًا، وسمَّى كتابه بالأربعين، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها، وكَثُرَ حفظُها، ونفع اللهُ بها ببركةِ نيَّةِ جامعها وحُسْنِ قصده رحمه الله.
ثم إنَّ الحافظ ابن رجب ضَمَّ إلى ذلك كُلِّه ثمانية أحاديث أُخَرَ من جوامع الكلم الجامعة لأنواع العلومِ والحِكَمِ، فبلغت خمسين حديثًا. ثم استخارَ الله تعالى - إجابةً لجماعة من طلبة العلم - في جمع كتاب يتضمن شرح ما يَسَّرَ الله من معانيها، وتقييد ما يفتح به سبحانه من تبيين قواعدها ومبانيها.
وقد اعتنى في شرحه هذا بالتفقه بالأحاديث النبوية وتفسير غريبها، وشرحِ معانيها، وتأويلِ مختلفها، وبيان أحكامها، وما يَترتَّبُ عليها من الفِقه واختلاف العلماء، فكان من أَجَلِّ الشروح
(1)
التي انتهت إلينا، وأكثرِها أهميةً، وأحفلِها بالفوائد.
(1)
وقد تولى شرح الأربعين النووية غير واحد من الأئمة منهم:
1 -
أبو العباس أحمد بن فرج بن أحمد الإِشبيلي (ت 699) هـ.
2 -
والإِمام أبو الفتح تقي الدين محمد بن علي بن وهب الشهير بابن دقيق العيد (ت =
وقد بدأه بمقدمة موجزةٍ أبانَ فيها عن الطريقة التي اتبعها في الشرح، فقال: اعلم أنه ليس من غرضي إلَّا شَرْحُ الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث الكلية، فلذلك لا أتقيَّدُ بألفاظِ الشيخ رحمه الله في تراجم رواة هذه الأحاديث من الصحابة رضي الله عنهم، ولا بألفاظه في العزو إلى الكتب التي يعزو إليها، وإنَّما آتي بالمعنى الذي يدلُّ على ذلك، لأني قد أعلمتُك أنه ليس لي غرض إلا في شرح معاني كلمات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الجوامع، وما تضمنته من الآداب والحِكَمِ والمعارفِ، والأحكامِ والشرائع.
وأُشير إشارةً لطيفَة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده ليُعْلَمَ بذلك صحته وقوته وضعفه، وأذكرُ بعضَ ما رُوي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك
= 702) هـ وهو مطبوع.
3 -
والإِمام نجم الدين سليمان بن عبد القوي الحنبلي الطوفي (ت 710) هـ.
4 -
وتاج الدين عمر بن علي اللخمي الإسكندري الفاكهاني (ت 731) هـ.
5 -
وزين الدين سَرِيجا بن محمد المَلَطي (ت 788) هـ.
6 -
والعلامة سعد الدين سعد بن عمر التفتازاني (ت 791) هـ وهو مطبوع.
7 -
وجمال الدين يوسف بن الحسن التبريزي (ت 804) هـ.
8 -
والحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري المعروف بابن الملقن (ت 804) هـ.
9 -
والعلامة معين الدين عبد الرَّحمن بن صفي الدين (ت 905) هـ.
10 -
والحافظ جلال الدين عبد الرَّحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي (ت 911) هـ.
11 -
العلامة أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي الهيثمي (ت 973) هـ وهو مطبوع.
12 -
والعلامة مصلح الدين محمد السعدي العبادي (ت 979) هـ.
13 -
والعلامة نور الدين علي بن سلطان محمد القاري الهروي المكي (ت 1114) هـ وهو مطبوع.
الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ وإن لم يكن في الباب غيرُه أو لم يكن يَصِحُّ فيه غيره، نبهتُ على ذلك كُلِّهِ.
ويرى القارئ بإثر كل حديث تصدَّى المؤلفُ لشرحه جملةَ أشياء هي:
1 -
تخريج الحديث من الصِّحاح والمسانيد والسنن والمعاجم مما وعته ذاكرته، وإيرادُ طرقه وألفاظه، والمقارنة بينها، والتدقيق في صحتها، وبيانُ درجته من الصحةِ أو الحسن أو الضعف، والمؤلف رحمه الله إمامٌ في هذا الباب، فقد غلب عليه علمُ الحديث روايةً ودراية، وصرف مُعْظَمَ وقته فيه حتَّى صار لا يُعرف إلا به، ولم يُرَ أتقن منه فيه.
2 -
الاستشهادُ بالآيات القرآنية التي تجلو معنى الحديثِ الذي يَعْرِضُ له وتوضحه، ونقل ما هو مأثور عن السلف في بيان المراد منها، واحتفاله بذلك في إحلالها مرتبةَ الصدارةِ من شواهده.
3 -
إكثارُه من الاستشهادِ بالأحاديث النبوية مما ورد في المعنى الذي تضمنه الحديثُ الذي هو بصدد شرحه، يأتي بها على وجهها لا يَخْرِمُ منها حرفًا، وتخريجُها من مصادرها، وهو شيء كثير وعدد ضخم يدُلُّ على قوة حفظه، ودِقَّة فهمه، وسَعَةِ اطِّلاعه.
وهذه الأحاديث منها ما هو صحيح وهي الكثرة الكاثرة، وقد بين المؤلف درجتها إما بعزوها إلى مخرجيها من أصحاب الصحاح، وإما بالتنصيص على صحتها، ومنها ما فيه ضعفٌ خفيف وقد نبَّه على ضعفها في الأعم الأغلب، وهي من النوع الذي يصلح للمتابعات والشواهد، أو تكون واردة في غير العقائد والأحكام.
وقد ترخص غير واحدٍ من الأئمة ذوي التحقيق في رواية الأحاديث الضعيفة، وجواز العمل بها إذا كان ضعفُها غيرَ شديدٍ، وتَندَرِجُ تحتَ أصلٍ
عام في فضائل الأعمال وكرائم الأخلاق، والقصص والمواعظ، والترغيب والترهيب، وما إلى ذلك.
4 -
تفسيرُ غريب الحديث وشرح مضامينه بالاعتماد على الأحاديث التي ترد في موضوعه وفيها من التقييد والتخصيص والتوضيح وإزالة اللَّبس ما ليس في حديث الباب. وقد أسهب في الشرح إسهابًا مفيدًا ممتعًا، شحنه بالفوائد والفرائدِ مما تَمَسُّ حاجةُ الإِنسان إليه في شؤون دنياه وآخرته.
5 -
إيرادُ الأحكام الفقهية المستفادة من الحديث - وهي مما تشتد حاجةُ المكلف إليها - ونسبتُها إلى قائليها من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين مما يدل على اطلاعه الواسع على فتاوى السلف، وحفظِه لآثارهم العلمية، وما كانوا يجتهدون من مسائل، وتفهُّم لها، ومعرفةٍ بمراميها وغاياتها، وما اختلفوا فيه من هذه المسائل، فإنه يحتج لِكُلِّ قول منها بدليله، ثم يُرجح ما يراه أبلغَ في الحجة، وأوفق للنص.
6 -
ذكرُ طائفة من الحِكَمِ المأثورة عن السلف الصالح الذين وُصِفُوا بالعلم والتقوى والورع في نهاية شرحِ الحديث مما له صلة به، وهي حِكَمٌ مؤثِّرة تتغلغل إلى أعماقِ النفس، فتحدث فيها تغييرًا ملموسًا نحو الأفضل.
ويرى بعض أهل العلم أن هذا الكتاب بعامة، وفصول الأخلاقيات بخاصة تمثل الكثير من حياة ابن رجب، وأن هناك ترابطًا قويًا بين ما ذكره هو في كتابه، وما ذكره عنه من ترجموا له.
الطبعات السابقة لهذا الشرح:
وقد سبق لهذا الشرح أن طبع في الهند في بلدة (آمرتسر) ولم يرد وصفٌ للأصل المعتمدِ في الطبع، ولا السنةِ التي طُبِع فيها، وجاء في آخر صفحة منها بقلم مُصَحِّحَيْها عبد الغني وعبد الواحد الغزنوييْن ما نصه: ولما لم يَتَيَسَّرْ لنا
نسخةٌ صحيحة، فالمرجو من الناظزين أن يَعْذُرونَا في العثراتِ، ويرحم الله من عمَّا عن الخطأ والخطل، وسد ما رأى من الخلل.
ثم قامت بطبعه مكتبةُ مصطفى البابي الحلبي في مصر سنة (1346) هـ. معتمدةً على الطبعة الهندية، فجاءت صورةً مطابقة لها بتصحيفاتها وتحريفاتها التي تزيد على الألف كما تبين لنا في المقابلة على الأصول الخطية النفيسة التي اعتمدنا عليها في هذه الطبعة.
وعن هذه الطبعة - أعني طبعة مصطفى البابي الحلبي - صوَّر الوراقون الذين يطمعون بالربح المادي ولو بطريقة غير مشروعة، وعمَّموها في الأسواق.
وقد نشر المرحوم العلامة أحمد شاكر ثمانية أحاديث من هذا الشرح في أربع رسائل، اقتصر فيها على تحقيق النَّصِّ، مع تعليقات قليلة تناول فيها مباحث في اللغة والحديث.
ثم قام الشيخ محمدٌ الأحمدي أبو النور بتحقيق هذا الشرح معتمدًا على عدة نسخ موجودة في دار الكتب المصرية، فأصدر منه سنة (1388) هـ (1969) م جزأين يتضمنان شرح عشرين حديثًا، ثم توقف عن إصدار ما تبقّى منه وهو ثلاثة أخماسه إلى يومنا هذا
[*]
.
وكانت لي في أوائل انتحالي لهذه الصنعة رغبة قوية في تحقيق هذا الشرح الحافل الذي تتبدَّى منه وفرةُ محفوظِ المؤلف، ودِقَّةُ فهمه، واتساعُ دائرته في علوم السنة رواية ودراية وتفقهًا، وكان يَصرِفُنِي عن تحقيقه عدم وجود أصلٍ متقنٍ أعتمده، ثم شاء الله سبحانه وتعالى أن يُحقق لي هذه الرغبة بعد عشرين عامًا أو تزيد، فيسَّرَ لي عدةَ أصول خطية نفيسة مقابلة ومصححة، وكلها قريبةُ عهد بالمؤلف رحمه الله، فالحمد لله حق حمده، ونسأله التوفيق لرشده، ونرغب إليه في المزيد من فضله.
-
وصف الأصول المعتمدة:
- الأولى: نسخة مُصوَّرةٌ عن الأصل الخطي الموجودة في ظاهرية دمشق،
[*](تعليق الشاملة): ثم أتم الشيخ محمد الأحمدي أبو النور تحقيق الكتاب، وهو منشور تامًا بـ «الشاملة»
وقد أحضرها إلينا الأستاذ سليمان الحرش فجزاه الله خيرًا، ورمزنا لها بِـ (أ)، وعدد أوراقها (231) ورقة، في كلّ صفحة خمسة وعشرون سطرًا، وفي كلّ سطر اثنتا عشرة كلمة تقريبًا، وخَطُّهَا نَسخيٌ واضحٌ ومقروء، وقد كتبت الأحاديث المشروحة بالأحمر، وهي غاية في الجودة والنفاسة، والخطأ فيها نادرٌ، جاء في حواشيها تصحيحات واستدراكات جيدة تزيد من قيمتها وتُعلي من شأنها.
وجاء في لوحة العنوان ما نصّه:
1 -
كتاب شرح النواوية، تأليف الشيخ الإِمام العالم العلامة الرِّحْلَةِ محدث الشام الحافظ زين الدين أبو الفرج عبد الرَّحمن بن الشيخ الإِمام العالم العلامة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى ورضي عنه.
2 -
الحمد لله رب العالمين: وجدتُ بخط شيخنا العلامة الشيخ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل البقاعي الشافعي تغمده الله تعالى برحمته ما صورتُه: قال كاتبُ هذه الأحرف لَطَفَ الله تعالى به: نسختُ هذا الشرح، وقرأتُ منه على مصنفه قطعةً بدمشق وهو ممسك بأصله، ثم توفي إلى رحمة الله تعالى، ولم أعلم أنه خلَّف بعده مثلَه، ثم إنَّ صاحبنا الشيخ عبد القادر الحجازي المدني الشهير بالحجار نسخ الشرحَ، وقرأه على الشيخ رحمه الله، ثم بعد ذلك نظم بيتًا من الشعر في مدح الشرح، فتممتُ عليه أبياتًا، والبيتُ الذي هو قوله:
هذا كتابٌ لو يُباع بوزنه
…
ذهبًا لكان البائعُ المغبونا
بل لو يُباعُ بوزنه دُرًّا ويا
…
قُوتًا كذلك لؤلؤًا مكنونا
رَجَعَ الذي قد باعه إن كان ذا
…
عقلٍ بصفقة خاسرٍ محزونا
كم دُرّ علمٍ نافع أبدى به
…
للنَّاس كان بصدره مخزونا
ما باع جوهر علمه الباقي بغا
…
لي الدر إلا أحمقًا مفتونا
يا ربِّ فارحمه وكُلَّ شيوخنا
…
والوالدين وقائلًا: آمينا
قال ذلك وكتبهُ إسماعيل البقاعي ثم الدمشقي عفا الله تعالى عنه
…
وبمنه
في رابع شوال سنة أربع وثمانمئة.
وذا خطّ العبد الفقير الضعيف عبد الرَّحمن بن يوسف الحنبلي عمَّا الله تعالى عنه وغفر له ..
قلت: وإسماعيل البقاعي هذا ترجمه الحافظ في "إنباء الغمر" 5/ 165: فقال: إسماعيلُ بنُ علي بن محمد البقاعي ثم الدمشقي الناسخ، كان يشتغلُ بالعلم ويَصْحَبُ الحنابلة، ويميلُ إلى معتقدهم مع كونه شافعيًا، وكان يقرأ الحديثَ للعامة وينصحهم ويَعِظُهُم، ويكتب للنَّاس مع الدينِ والخير، وله نظم حسن أنشدني منه بدمشق، وقد كتب بخطه "صحيح البخاري" في مجلدة واحدة معدومة النظير، سلمت من الحريق إلا اليسير من حواشيها، فبيعت بأزيدَ من عشرين مثقالًا، وفرَّ في الكائنة إلى طرابلس، فأقام بها إلى آخر سنة خمس، ورجع فمات بدمشق في المحرم سنة (806) هـ.
وقد كتبت هذه النسخة سنة (852) هـ، أي: بعد وفاة المؤلف رحمه الله بسبع وخمسين سنة، فقد جاء في خاتمة الورقة الأخيرة ما نصه:
تم الكتاب المبارك على يد أضعف عباد الله وأحوجهم إلى رحمته وغفرانه العبد الحقير المعترف بالتقصير محمد بن أحمد بن أبي بكر الحنبلى عفا الله عنه، وذلك في عاشر رمضان المعظم سنة اثنتين وخمسين.
ثم قوبلت وصححت سنة (853) هـ. ففي الورقة الأخيرة أيضًا بخطٍّ مغاير ما نصه:
بلغ مقابلة وتصحيحًا بحمد الله تعالى وعونه حَسْبَ الطاقةِ في مجالس متفرقة آخِرُها السادسُ من شهرِ الله المحرم الحرام عامَ ثلاثة وخمسين وثمانمئة بمدرسة الضيائية تغمد الله تعالى واقفها بالرحمة والرضوان بسفح قاسيون بإمساك نسخة مع مالك هذه النسخة المباركة الفقير إلى الله تعالى شيخ
…
علاء الدين
البغدادي، والنسخة الممسكة مقابلة على قريبٍ من عشر نسخ، منها نسخة عليها خط المصنف تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه ومع ذلك:
إن تجد عيبًا فسُدَّ الخللا
…
جلَّ من لا عَيْبَ فيه وعلا
وكتب الفقير إلى الله تعالى سبحانه عبد الرَّحمن بن إبراهيم بن يوسف الحنبلي حامدًا لله ومصليًا على رسوله محمد
…
قلت: والمدرسةُ الضيائية هي بسفح جبل قاسيون شرقي الجامع المظفري، بناها واقِفُها من ماله بمعونة أهل الخير وجعلها دار حديث الحافظُ المتقنُ الثبتُ ضياءُ الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة (643) هـ، وأوقف فيها كتبه وأجزاءه، وكان بها كتب كثيرة نفيسة وأجزاء حديثية من وقف الشيخ موفق الدين، والبهاء عبد الرَّحمن، والحافظ عبد العزيز، وابن الحاجب، وابن سلام، وابن هامل، والشيخ علي الموصلي. وقد نُهبت في نكبة الصالح نوبة قازان التتري سنة (699) هـ، وراح منها شيء كثير، ثم تمايلت وتراجعت.
وقد درَّس بها واقفها وبعدَه جماعةٌ من أهل العلم، منهم الشيخ تقي الدين، وشمس الدين خطيب جبل الصالحية، وشمس الدين بن الكمال المقدسي، وأبو العباس السعدي، ومحمد بن إبراهيم بن عبد الله المقدسي، وزين الدين الحراني، وشمس الدين القباقبي، وأحمد بن محمد بن عبد الرحيم.
قال الشيخ أحمد دهمان رحمه الله: أصبحت هذه المدرسة دارًا تستغل لمصالح الجامع المظفري (جامع الحنابلة) ولم يبق فيها من بنائها القديم إلَّا قوس إيوانها الشمالي.
قلتُ: وعبد الرَّحمن بن إبراهيم بن يوسف كان شيخًا ليوسف بن عبد الهادي، وقد ترجم له في "الجوهر المنضد" ص 64، فقال:
الشيخُ الإِمام العالم العلامة الزاهد العابد الورع القدوة الحجة ذو الفضل زين الدين أبو الفرج عبد الرَّحمن بن الحبال الحنبلي الفقيه المقرئ المحدث المتقن، كان يُقرئ بمدرسة شيخ الإِسلام في العلم والقرآن وغيرهما، وكان صاحبَ زهدٍ ورضًا وورع ودينٍ ونفس رضية طيبة، وكلام حسن، تابعًا للسنة والآثار، رفيقًا بالطلبة، شفيقًا عليهم، له معرفةٌ بالتفسير وكلام السلف، كتب القرآن مرارًا، حتَّى إنه كتب أكثر من مئة مصحف، وكانت معه مشيخة الضيائية، توفي سنة (866) هـ، وصلّي عليه عقب صلاة الجمعة بالجامع المظفري، ودُفِنَ تحت الروضة بسفح قاسيون، وكانت جنازته حافلة رفعت على الرؤوس.
وأما مالك النسخة علاء الدين البغدادي، فقد ترجم له السخاوي في "الضوء اللامع" 5/ 208 فقال: علي بن البهاء بن عبد الحميد بن البهاء بن إبراهيم بن محمد بن العلاء الزريراني بالنون، البغدادي الأصل العراقي المولد ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي، ويُعْرَفُ بالعلاء بن البهاء. وُلِدَ تقريبًا سنة ثمان عشرة وثمانمئة، وقَدِمَ الشام في سنة سبع وثلاثين، فتفقه بالتقي بن قندس، وبالبرهان بن مُفْلِح، وعنهما أخذ الأصول، وحجَّ وزار بيت المقدس مرارًا، ولقيتهُ بصالحية دمشق، فسمع معنا على كثيرين، بل قرأ "الصحيحين" على الشمس محمد بن أحمد بن معتوق والنظّام بن مفلح، وكذا سمع بعض "المسند" وغيره على ابن الطحان وابن ناظر الصاحبة وابن بردس، ومن مسموعه على ابن الطحان "مآخذ العلم" لابن فارس، وقَدِمَ القاهرة في سنة سبع وسبعين، وتردد لمدرسي الوقت لتمييز مراتبهم، وحضر عندي في مجالس الإِملاء، وسمع مني وعلى الشهاب الشاوي بعض "المسند" وأقام إلى أثناء ذي القعدة من التي تليها، ثم توجه بعد أن درّس جماعة من الطلبة كالتقي البسطي، والسيد عبد القادر القادري، وأذن لهما ولغيرهما، ونزل في صوفية الخانقاه الشيخونية، واستوحش من قاضي المذهب البدر السعدي ومن غيره، ولما رجع ناب فيما بلغني عن النجم بن البرهان بن مفلح في القضاء، وما أحببتُه له ولكن
الغالب عليه الصفاء والخير مع استحضارٍ للفقه ومشاركة، وكان مجاورًا بمكة في سنة تسعين، وأقرأ هناك الفقه.
وفي الورقة الأخيرة:
1 -
الحمد لله رب العالمين: أنهاه مطالعةً مالِكُه أفقرُ عبيد الله وأَحْوَجُهُم إلى غفران ربِّه الهادي أحمدُ بن علي بن البغدادي غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولمن دعا لهم بالمغفرة ولسائرِ المسلمين في مجالسَ آخِرُها ليلة الجمعة، حادي عشر ربيع الأول المشرف بالمولد الشريف سنة ثلاث وتسعمئة، والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين.
وأحمد بن علي هذا ترجم له نجم الدين الغزي في "الكواكب السائرة" 1/ 140 فقال: أحمدُ بن علي بن البهاء بن عبد الحميد بن إبراهيم الشيخ العلامة القاضي شهاب الدين ابن القاضي العلامة علاء الدين البغدادي الدمشقي الصالحي الحنبلي. وُلِد ليلة الاثنين عاشر ربيع الأول سنة سبعين وثمانمئة، وأخذ العلمَ عن أبيه وغيره، وكان من العلماء المتميزين في الفقه والفرائض، وانتهت إليه رئاسةُ مذهبه، وقُصِدَ بالفتاوى وانتفع النَّاسُ به فيها، وفي الاشتغال، وتعاطي الشهادة على وجهِ إتقانٍ لم يُسبَقْ إليه، وفوض إليه نيابة القضاء في الدولة العثمانية قاضي القضاة زينُ العابدين في ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وتسعمئة، ثم ترك القضاء وأقبل على العلم والعبادة. وكان من أخصِّ أصحاب شيخ الإِسلام الجدِّ، وله على الوالد مشيخة، وللوالد عليه مشيخة أيضًا، أخذ عنه كثيرًا مِن نظمه وتأليفه، وهو الذي أشار إليه بالكتابة على الفتوى بمحضر من والده شيخ الإِسلام رضي الدين الغزي، وكان يمنعه أولًا من الكتابة في حياة شيوخه، فاستأذنه له في الكتابة صاحب الترجمة، فأَذِنَ له فيها، وكتب ليلة عيد الأضحى سنة ثمانٍ وعشرين وتسعمئة كما استوفيت القصة في كتاب "بلغة الواجد في ترجمة الوالد" ثم كانت وفاةُ الشيخ شهاب الدين البغدادي بكرةَ النَّهار
يومَ الجمعة حادي عشر رجب سنة تسع وعشرين وتسعمئة، ودُفِن بتربة باب الفراديس.
2 -
طالع فيه العبد الحقير راجي عفو ولطف ربه القدير إسماعيل بن عبد الباقي اليازجي الواعظ والمدرس بالجامع الشريف الأموي غفر الله له وأحسن عاقبته، آمين.
قلت: وإسماعيل هذا ترجم له المرادي في "سلك الدرر" 1/ 255، فقال: إسماعيل بن عبد الباقي بن إسماعيل اليازجي الحنفي الدمشقي الشيخُ الإِمامُ العالم الفقيه الواعظ. كان من العلماء الأجِلَّاء البارعين في الفنون، وُلِدَ بعد الخمسين وألف تقريبًا، ونشأ بدمشق، واشتغل بطلب العلم على جماعة من الشيوخ
…
، واشتهر بالفضل، ودرسَ وأفاد بالجامع الأموي، ووعظ به، وله شرحٌ على "الهداية" بالفقه، وصل فيه إلى ربع العبادات في مجلد كبير، وكتب شرحًا على "الجلالين" بالتفسير جزأين ولم يتم، توفي سنة (1121) هـ، واليازجي لفظة تركية معناها: الكاتب.
3 -
استوعب مطالعته
…
بما فيه العبدُ الفقيرُ
…
القادري المجاور في مدرسةِ العمرية عفا الله عنه وسامحه، آمين، سنة (1047) هـ.
النسخة الثانية المرموز لها بـ (ب):
عَدَدُ أوراقها (230) ورقة، في كُلِّ صفحة (25) سطرًا، وفي كل سطر (17) كلمة تقريبًا، وهي نسخةٌ جيدة يَنْدُرُ وقوعُ الخطأ فيها، وفي حواشيها تصويبات واستدراكات قيمة، وخطها نسخي مقروء واضح.
وجاء العنوانُ في اللوحة الأولى منه هكذا:
كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم تأليف الشيخ الإِمام العامل العلامة المحدّث المفسِّر الأصولي العابد
الزاهد، الرباني، بقية السلف الصالحين زين الدين أبو الفرج عبد الرَّحمن بن الشيخ أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي.
وقد كتبت سنة (838) هـ، فقد جاء في نهاية الورقة الأخيرة ما نصه: وافق الفراغ من تعليقه في مستهل رجب الفردِ من شهور ثمانية وثلاثين وثمانمئة، عَلَّقَهُ العبدُ الفقير إلى الله تعالى الراجي عفو ربه وغفرانه يوسف بن يوسف بن محمد بن خضر التُّجيبي الصفدي الشافعي غفر الله له ورَحِمَ سلفه، وكُتِبَ برسم الأخ العزيز غرس الدين خليل بن علي بن عبد الواحد متَّع الله بطول بقائه، ولطف به في الدارين، وجعلنا وإيَّاه من خير الفريقين، ورَحِمَ سلفه وسَلَفَ من قرأ فيه، ودعا لكاتبه بالمغفرة ولجميع المسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وجاء في هامش الورقة الأخيرة ما نصه:
بلغ مقابلةً بحسب الطاقةِ على نسخة قُوبِلَ بَعْضُها على مؤلفه، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.
وقد تملَّك هذه النسخة الشيخُ العلامة شمس الدين محمد بن علي بن محمد الشهير بابنِ طولون الصالحي الحنفي المتوفى سنة (953) هـ، مؤلف "القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية"، وقد أوقفها على المدرسة العمرية الكائنة بصالحية دمشق كما جاء في لوحة العنوان، وفي رأس الورقة الأولى منه وجه ثان.
النسخة الثالثة المرموز لها بِـ (ج):
وهي مصورة عن الأصل الموجود في الظاهرية رقم (1298) عام 676 حديث.
عنوان هذه النسخة: جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم. وعدد أوراقها (155) ورقة، في كل صفحة ثلاثون سطرًا، في
كل سطر (22) كلمة تقريبًا، الخطُّ نسخي مقروء، تاريخ النسخ (828) هـ، الناسخ إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر الشافعي، فقد جاء في الورقة الأخيرة منه:
وكان الفراغ من تعليقه ليلة الاثنين تاسع عشر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثمانمئة من الهجرة النبوية، علقه لنفسه بسرعة على ضوءِ السراج إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر الشافعي غفر الله له ولمن قرأ فيه ولجميع المسلمين، ويغلب على الظن أن هذه النسخة لم تقابل، فليس في الحواشي أيَّة تصحيحات.
وقد ترجم للناسخ السخاوي في "الضوء اللامع" 1/ 166 فقال:
إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر برهان الدين الحلبي الأصل الدمشقي القبيباتي الشَّافعي، ويُعرف بالناجي - بالنون والجيم - لكونه كان فيما قبل حنبليًا ثم تشفع، وربما قيل له: المحدث. ولد في أحد الربيعين سنة عشر وثمانمئة بدمشق وقال: إنه سَمِعَ على شيخنا وابن ناصر الدين والفخر عثمان بن الصَّلِف والعلاء بن بردس، والشهاب أحمد بن حسن بن عبد الهادي، والزين عبد الرَّحمن بن الشيخ خليل والأريحي، ومما سمعه على العلاء "الشمائل" و"مشيخة الأشرف الفخر" و"السنن" لأبي داود و"الترمذي"، وعلى الأخير "صحيح البخاري" وكذا سمع على عبد الله وعبد الرحمن ابني زريق، بل قال: إنه أجازت له عائشة ابنة عبد الهادي ثم حُوقِقَ حتَّى بين أنها عامة، واختص بالعلاء بن زكنون، وقرأ عليه القرآن وغيره، وتزوج ابنته ثم فارقه وتحوَّلَ شافعيًا غَيْرَ مرة، وقد تكلم على النَّاس بأماكن، بل وخطب مع مزيد تحريه وشدة إنكاره على معتقدي ابن عربي ونحوه كابن حامد، محبًا في أهل السنة، منجمعًا عن بني الدُّنيا، قانعًا باليسير، والثناء عليه مستفيض، ووصفه الخضيري بأنَّه شيخ عالم فاضل محدث محرر مُتْقِن معتمد، خدم هذا الشأن بلسانه وقلمه، وطالع كثيرًا من كتبه. قلت: ويقال: إنه علق على "الترغيب" للمنذري شيئًا في مجلد
لطيف، وعمل مولدًا في كراريس وغير ذلك، وبلغني أنه كثيرًا ما يقرأ الفاتحة في جماعته ثم يدعو لي مع كونه لم أعلم اجتماعي به، وهو الآن في الأحياء. انتهى.
قلت: وترجم له ابن العماد في "شذرات الذهب" 7/ 365، وذكر وفاته سنة (900) هـ، وقال: توفي بدمشق عن أزيد من تسعين سنة.
النسخة الرابعة المرموز لها بِـ (د):
وقد أهدانا صورة عنها الأستاذ محمود الأرنؤوط نَجْلُ صاحبنا وأخينا العلامة الشيخ عبد القادر الأرنؤوط حفظه الله ورعاه، وسدد على الحق خطاه، إسهامًا منه في خدمة العلم، فجزاه الله خير الجزاء.
وتقع في (194) ورقة، وعددُ السطور في كل صفحة (27) سطرًا، وفي كل سطر (14) كلمة تقريبًا، وخطها نسخي واضح، وفي حواشيها تصويبات واستدراكاتٌ، وتفسيرٌ لبعض الكلمات، وتكاد تلحق بالنسخة الأولى في الجودَةِ والنفاسة.
وقد جاء في الورقة الأخيرة منها ما نصه:
تم الكتاب المبارك بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وعلقه لنفسه، ثم لمن شاء الله تعالى من بعدُ أقل عبيد الله وأحوجُهم إلى مغفرة ربه ورحمته أحمد بن إسماعيل بن خليل بن عثمان بن منصور بن عكاشة التروطي بلدًا، وهي ضيعة بالريف ببلاد مصر المحروسة، وكان الفراغُ من نسخه في يوم الأربعاء المبارك ثالث عشر ذي القعدة الحرام سنة .... وثمانمئة بطاحون الجركسية بمدينة دمشق المحروسة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قلت: طاحونة الجركسية تقع في صالحية دمشق مقابل مسجد محيي
الدين بن عربي، ولا تزال آثارها باقية إلى يومنا هذا.
وجاء اسم الشرح في لوحة العنوان هكذا:
كتاب جامع العلوم والحكم في شرح حديث سيد العرب والعجم
وفيها أيضًا ما نصه: تملكه العبد الفقير راجي عفو لطف ربه القوي إسماعيل بن عبد الباقي اليازجي الواعظ والمدرس بالجامع الشريف الأموي في سابع عشر شهر جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وألف أحسن الله ختامها، آمين.
قلت: وقد تقدمت ترجمته في النسخة الأولى.
وقد جاء في الورقة (11) وجه أول تعليقًا على قول المصنف من حديث العرباض بن سارية ما نصه:
قلتُ: كدا وقع هنا، وكذا في شرح الحديث الثامن عشر عند قوله "وأتبع السَّيِّئة الحسنة تمحها" قلت: هو في الورقة (72) وجه أول من هذه النسخة، وهو وهم بلا شك، وإنَّما هو النواسُ بن سمعان كما ذكره المصنف على الصواب في شرح الحديث الثلاثين عند قوله:"وحدّ حدودًا فلا تعتدوها".
وجاء في الورقة (13) وجه أول تعليقًا على قوله: "بعث سرية فغارت" ما نصه:
كذا وجد ثلاثيًا، وإنَّما هو بألف رباعي قال الله تعالى:{فَالْمُغِيرَاتِ} .
وجاء في الورقة (52) تعليقًا على قوله كما جاء التصريح بذلك في حديث عثمان ما نصه:
أقول: الأوجه عندي أن الاستثناء في الثلاث من جهة جنس الآدمية وإن اختلفت جهة الإِسلام والكفر، والله أعلم لمحرره إسماعيل اليازجي عفي عنه،
وتعقب اليازجي هذا محمد الحنبلي، فقال:
أقول: بل ما قاله بعيد جدًّا، والأوجه ما ذكره الحافظ رحمه الله، والذي زعمه لا يظهر إلا مع التكلف الشديد، والله ولي التسديد كاتبه محمد الحنبلي.
وجاء في الورقة (74) وجه أول تعليقًا على قوله: "لم تلفه إلا بغيضًا" نسخة: لم تلقه.
عمان في 22/ 10/ 1410 هـ
17/ 5/ 1990 م
ترجمة المؤلف
اسمه ونسبه وولادته:
هو الإِمام الحافظُ العلَّامةُ زينُ الدين عبدُ الرَّحمن بنُ أحمد بن عبد الرَّحمن بن الحسن بن محمد بن أبي البركات مسعود السَّلامي البغدادي، ثم الدمشقيُّ الحنبليُّ الشهير بابن رجب وهو لقبُ جده عبد الرَّحمن.
واتفقت المصادرُ التي ترجمت له على أنه وُلِدَ في بغداد سنة (736) هـ بعد انصرامِ ثمانين عامًا على سقوطِ بغداد حاضرة العلم بأيدي المغول.
وهو ينتمي إلى أُسرة عريقةٍ في العلم والفضلِ والصلاح، فجدُّه عبدُ الرَّحمن بن الحسن كانت له حلقةٌ في بغداد يُقرأ عليه فيها الحديثُ، وقد حضرها المؤلفُ غير مرة وهو في الثالثة والرابعة والخامسة
(1)
، وأبوه هو الشيخ المقرئُ المحدث شهاب الدين أحمد ولد ببغداد سنة (706) هـ ونشأ بها وسمع
(1)
قال المؤلف في "ذيل الطبقات" 2/ 213 - 214 قُرِئَ على جدي أبي أحمد رجب بن الحسن غير مرة ببغداد - وأنا حاضر - في الثالثة والرابعة والخامسة: أخبركم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزار - سنة ست وثمانين وستمئة - أخبرنا أبو الحسن محمدُ بنُ أحمد بن عمر القطيعي
…
أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى أخبرنا أبو الحسن الداوودي أخبرنا أبو محمد السرخسي أخبرنا أبو عبد الله الفربري، حدثنا البخاري حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يقل على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النَّار".
قلت: وله ترجمة في "الدرر الكامنة" 2/ 107، وجاء فيها أنه حدَّث ببغداد، وكان يقرئ حسبة، وإنَّما لقب برجب لأنه ولد فيه، ومات في خامس صفر سنة 742 هـ.
من مشايخها، وقرأ بالروايات، ثم رحل إلى دمشق بأولاده سنة (744) هـ، فسمع بها وبالحجاز وبالقدس، وجلس للإِقراء بدمشق، وانتفع به، وله معجم خاص بشيوخه نَقَل منه الحافظُ ابنُ حجر في "الدرر الكامنة" في أكثر من موضع.
بداية طلبه للعلم:
كان والده رحمه الله يَحْرِصُ على إسماعه الحديث من الشيوخ الثقات الذين لهم شهرة علمية في الرواية في مُخْتَلِفِ البلادِ الإِسلامية، ويأخذ له الإِجازاتِ منهم، لتكون له حافزًا على مواصلة الطلب والتحمل، فقد سمِعَ الحديث باعتناء والده ببغداد، ودمشق ومصر وغيرها على كثير من الشيوخ، وأجاز
(1)
له طائفة منهم.
شيوخه في الإِجازة:
1 -
زينبُ بنتُ أحمد بن عبد الرحيم المقدسية المتوفاة سنة (740) هـ "ذيل الطبقات" 1/ 53 و 82 و 155.
2 -
صفيُّ الدين أبو الفضائل عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله البغدادي الحنبلي. المتوفى سنة (739) هـ وقد أجازه بما تجوز له روايته غير مرة. "ذيل الطبقات" 2/ 430.
3 -
عبدُ الرحيم بن عبد الله الزريراتي المتوفى سنة (741) هـ المدرس بالمجاهدية في بغداد، وقد حضر درسه وهو صغير لا يُحِقُّه "ذيل الطبقات" 2/ 436.
4 -
أبو الربيع عليُّ بنُ عبد الصمد بن أحمد البغدادي الحنبلي المتوفى
(1)
الإِجازة: هي أن يأذن الشيخ لغيره بأن يروي عنه مروياته أو مؤلفاته، وكأنها تتضمن إخباره بما أذن له بروايته عنه، قال ابن الصلاح: ان الذي استقر عليه العمل، وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم القول بتجويز الإِجازة، وإباحة الرواية بها.
سنة (742) هـ سمع منه في الخامسة جزءًا فيه أربعون حديثًا أخرجها أبوه لنفسه بسماعه من أبيه، وحصل في سماع العشرة الأخيرة بُعْدٌ عن مجلسِ القراءة، فلم يَدْرِ أسمعها أم لا. "ذيل الطبقات" 1/ 67 و 2/ 176 و 192 و 293.
5 -
الحافظُ القاسمُ بنُ محمد البرزالي المتوفى سنة (739) هـ. "ذيل الطبقات" 2/ 184 و 192.
6 -
محمد بن أحمد بن حسان التلي الدمشقيّ المتوفى سنة (741) هـ وقد أجاز له ما تجوز روايته بخط يده. "ذيل الطبقات" 2/ 434.
وقد قَدِمَ به أبوه إلى دمشق سنة (744) هـ لِيَتِمَّ له بها وبغيرها سماع العوالي على مسندي أعصارهم، وليتخرج في الحديث وغيره بطائفةٍ من الشيوخ الكبار، وكانت دمشق يومئذ مركزًا هامًا من المراكز العلمية يؤُمُّها الطلبةُ من كل حدبٍ وصوب لتلقي المعارف الإِسلامية وما يمت إليها بسبب في مدارسها العامرة الكثيرة التي تمَّ إنشاؤها على يد الأمراء المسلمين الذين عُرِفوا بحب العلم، وتشجيع المشتغلين به، واحترامهم، وإيجاد الظروف الملائمة لهم - فسمع بها من:
1 -
قاضي القضاة أبو العباس أحمدُ بن الحسن بن عبد الله الشهير بابن قاضي الجبل المتوفى سنة (771) هـ. "ذيل طبقات الحنابلة" 2/ 453.
2 -
شهابُ الدين أبو العباس أحمد بنُ عبد الرَّحمن الحَريري المقدسي الصالحي المتوفى سنة (758) هـ. "ذيل طبقات الحنابلة" 2/ 286.
3 -
عمادُ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قُدامة المقدسي المتوفى سنة (754) هـ. "ذيل طبقات الحنابلة" 2/ 439.
4 -
تقي الدين أبو محمد عبدُ الله بن محمد بن إبراهيم بن نصر بن فهد
المعروف بابن قيم الضيائية، المتوفى سنة (761) هـ. "ذيل الطبقات" 1/ 321.
5 -
الإِمام العلامة عز الدين أبو يعلى حمزةُ بنُ موسى أحمد بن بدران المعروف بابن شيخ السلامية المتوفى سنة (769) هـ. "ذيل الطبقات" 2/ 443.
6 -
علاء الدين عليُّ بنُ زين الدين المنجا المتوفى سنة (750) هـ قرأ عليه جزءًا فيه الأحاديث التي رواها مسلم في "صحيحه" عن الإِمام أحمد. "ذيل الطبقات" 2/ 447.
7 -
مسند العصر عمر بن حسن بن فريد بن أميلة المراغي الحلبي ثم الدمشقيّ ثم المزي المتوفى سنة (778) هـ. "ذيل الطبقات" 1/ 98.
8 -
المسند المعمَّر شمسُ الدين محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن سالم الدمشقيّ الأنصاري العُبادي المعروف بابن الخباز، أكثر عنه جدًّا، وعلى ابن الخباز هذا قرأ والدُ المصنف أحمد مسندَ الإِمام أحمد بتمامه كما في "المنهج الأحمد" 2/ 157/ 2.
وجاء في "قواعد التحديث" للقاسمي ص 262: أن الحافظ أبا الفضل العراقي قرأ صحيح مسلم على محمد بن إسماعيل الخباز بدمشق في ستة مجالس متوالية قرأ في آخر مجلس منها أكثر من ثلث الكتاب، وذلك بحضور الحافظ زين الدين بن رجب وهو يُعارض بنسخته.
9 -
شمس الدين يوسف بن عبد الرَّحمن بن نجم الحنبلي المتوفى سنة (751) هـ، سمع منه جزء ابن زَبْرٍ الصغير، كان حضره على أبيه ومحمد بن الخباز، وأحمد بن عبد الرَّحمن الحريري. "ذيل طبقات الحنابلة" 2/ 286، و"المنهج الأحمد" ورقة 451.
10 -
الفقيه الفرضي جمال الدين يوسف بن عبد الله بن العفيف محمد النابلسي المتوفى سنة (754) هـ، قرأ عليه سنن ابن ماجه بسماعه من عبد الحافظ بن بدران. "ذيل الطبقات" 2/ 341، و"المقصد الأرشد" 3/ 141.
11 -
شمس الدين أبو عبد الله محمدُ بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الشهير بابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751) هـ لازم مجالسه قبل موته أزيدَ من سنة، وسَمِعَ عليه قصيدته النونية في السنة، وأشياءَ من تصانيفه وغيرها. "ذيل الطبقات" 2/ 448.
12 -
شهابُ الدين أحمدُ بن محمد بن عمر الصالحي المسند الشيرازي الأصل، ثم الدمشقيّ المتوفى سنة (771) هـ. "شذرات الذهب" 6/ 220.
13 -
ابن النباش - وكان من أصحاب صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق - قرأ عليه مختصر الخرقي من حفظه، وسمع عليه أجزاء كثيرة من مصنفاته، وصحبه إلى الممات. "ذيل الطبقات" 2/ 432.
14 -
عبد الرَّحمن بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي أبو الفرج زين الدين الزرعي ثم الدمشقيّ المتوفى سنة (769) هـ وهو أخو الشيخ شمس الدين بن القيم ذكره المؤلف في مشيخته وقال: سمعت عليه كتاب "التوكل" لابن أبي الدُّنيا بسماعه على الشهاب العابر، وتفرد بالرواية عنه. "الدارس في تاريخ المدارس" 2/ 90 - 91، و"شذرات الذهب" 6/ 216.
15 -
الشيخ الأصيل المعتبر شمس الدين أبو المحاسن وأبو المظفر يوسف بن يحيى بن الناصح عبد الرَّحمن بن الحنبلي الشيرازي الأصل الدمشقيّ ثم الصالحي المتوفى سنة 751 هـ. "المقصد الأرشد" 3/ 134 - 135.
ثم رحل إلى مصر قبل سنة (754) هـ فسمع بها من:
1 -
ناصر الدين محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عيسى بن أبي بكر الأيوبي المتوفى سنة (756) هـ أخذ عنه كثيرًا. "ذيل الطبقات" 1/ 24 و 41.
2 -
صدر الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي المتوفى سنة (754) هـ. "ذيل الطبقات" 1/ 118 و 137 و 138 و 140 و 177 و 180 و 182 و 187 و 189 و 196.
3 -
المسند فتح الدين أبو الحرم محمد بن محمد القلانسي الحنبلي المتوفى سنة (765) هـ.
4 -
عز الدين عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة قاضي الديار المصرية المتوفى سنة (767) هـ لقيه بمصر وبمكة، قال في "الذيل" 1/ 85: وكان شيخنا أبو عمر عبد العزيز
…
قاضي الديار المصرية وابن قاضيها يمنع النَّاس أن يخاطبوه بقاضي القضاة أو يكتبوا له ذلك، وأمرهم أن يبدلوا ذلك بقاضي المسلمين.
5 -
ورافق الحافظ الكبير زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة (806) هـ، وسمع معه كثيرًا. "إنباء الغمر" 3/ 175.
وسمع ببغداد وكان فيها سنة (748 هـ)
(1)
بعدما رحل عنها سنة (744 هـ) من:
1 -
جمال الدين أبو العباس أحمد بن عليّ بن محمد بن البابصري
(1)
قال في "ذيل الطبقات" 2/ 441 في ترجمة سليمان بن عبد الرَّحمن بن عليّ الشيباني النهرماري: توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبعمئة، وصُلِّي عليه بجامع قصر الخلافة، وحضرتُ الصلاة عليه، ودُفِنَ بمقبرة الإِمام أحمد بباب حرب.
قلت: وفي تلك السنة توجه إلى الحجاز بصحبة أبيه لأداء الحج كما في "الذيل" 2/ 263.
البغدادي المتوفى سنة (750) هـ حضر دروسه وإشغالَه غيرَ مرة، وسمع بقراءته الحديث "ذيل الطبقات" 2/ 446.
2 -
صفي الدين أبو عبد الله الحسين بن بدران البصري البغدادي المتوفى سنة (749) هـ قرأ عليه وحضر مجالسه كثيرًا، وسمع بقراءته صحيح البخاري على الشيخ جمال الدين مسافر بن إبراهيم الخالدي بسماعه من الرشيد بن أبي القاسم. "ذيل الطبقات" 2/ 444.
3 -
أبو العباس أحمد بن محمد بن سليمان الحنبلي البغدادي قراءة عليه. "ذيل الطبقات" 1/ 301.
4 -
تاج الدين عبد الله بن عبد المؤمن بن الوجيه الواسطي المقرئ المتوفى سنة (740) هـ.
5 -
سراج الدين أبو حفص عمر بن عليّ بن عمرو القزويني محدث العراق المتوفى سنة (750) هـ، ففي "ذيل الطبقات" 2/ 444: وقَدِمَ سراجُ الدين أبو حفص عمر بن عليّ البغدادي البزار في آخر عمره إلى بغداد، فأقام بها يسيرًا، ثم توجه إلى الحج سنة تسع وأربعين وسبعمئة، وحججتُ أنا تلك السنة أيضًا مع والدي، فقرأت على شيخنا أبي حفص ثلاثيات البخاري بالحلة اليزيدية.
وقد توالت رحلاتُه إلى القدس ونابلس ومصر والحجاز وغيرها في طلب الحديث، وكانت دمشق وطنَ إقامته ومستقره في أثناء ذلك، مِنها يرتحلُ، وإليها يعود، وقد امتدت رحلاتُه إلى سنة (763) هـ.
6 -
فسمع بالقدس من الحافظ صلاح الدين أبي سعيد خليل بن كيكلدي العلائي المتوفى سنة (761) هـ ذكر في "ذيل الطبقات" 2/ 365 أنه سمعه ببيت المقدس يقول: رحم الله شيخنا القاضي تقي الدين بن سليمان سمعته يقول: لم أصل الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلها قط.
7 -
وسَمعَ بمكة سنة (749) هـ من فخر الدين عثمان بن يوسف بن أبي بكر النُّويري الفقيه المالكي المتوفى سنة (756) هـ "ابن قاضي شهبة" ص 488.
ويؤخذ من ترجمة شمس الدين محمد بن الشيخ أحمد السقا في "ذيل الطبقات" 2/ 446 أنه حج سنة (763) هـ والتقى بمكة بالفضلاء من أهل العلم.
8 -
وسَمِعَ بالمدينة من حافظها ومؤرخها عفيف الدين أبي محمد عبد الله بن محمد بن محمد الخزرجي العُبادي المطري المتوفى سنة (765) هـ. "ذيل الطبقات" 2/ 370.
وبوفاة أبيه سنة (774) هـ كان قد فَرَغَ من سماع الشيوخ والتفقه، فأقبل على العلم ولازمه مطالعة وكتابة وتصنيفًا وتدريسًا واشتغالًا وإفتاءً إلى أن وافته المنية سنة (790) هـ رحمه الله.
فقد تولَّى التدريس بالمدرسة الحنبلية، وتُشتهر بالمدرسة الكبرى بعدَ وفاة القاضي شمس الدين بن التقي سنة (788) هـ وبقي يُدَرِّسُ فيها إلى سنة (791)، ثم أُخِذَتْ منه مع تَحَقُّقِ الأهلية فيه، وكانت هذه المدرسة عند القباقبية العتيقة شمال الجامع الأموي داخلَ باب الفراديس المعروف الآن بباب العمارة، وقد اندثرت ولم يبق لها أثر.
أوقفها الشيخُ شرفُ الإِسلام عبد الوهَّاب بن عبد الواحد بن محمد الأنصاري الشيرازي، ثم الدمشقيّ الحنبلي الفقيه الواعظ شيخ الحنابلة بالشام بعد والده ورئيسهم المتوفى سنة (536) هـ. قلتُ: وعبدُ الواحد والد شرف الإِسلام هو الذي نشر المذهب الحنبلي بين المقادسة والدمشقيين ولم يكن يُعرف قبله لا في بلاد القدس ولا في بلاد الشام.
وولي في حياة والده حلقةَ الثلاثاء التي كانت تُقام في جامع بني أمية الكبير - وهي خاصةٌ بكبار أصحاب مذهب الإِمام أحمد - بعد وفاة ابن قاضي الجبل سنة (771) هـ وذلك قبل وفاة والده.
وكان رحمه الله مجليًا في فن الوعظ، يَشُدُّ إليه انتباهَ مستمعيه، ويُوقِظُ فيهم الإِحساس النبيل، ويُفقههم في دين الله بما وهبه الله من علم نافع، وأسلوب ماتع، وقلب خاشع، ونية صادقة. وقد اجتمعت الفرق عليه، ومالت القلوب بالمحبة إليه.
وكان يسكن بدار الحديث السكرية، وهي بالقصاعين (وتعرف الآن بالخيضرية) داخل باب الجابية جنوب دار القرآن الخيضرية التي لا تزال قائمة إلى الآن، وقد ظَلَّ فيها إلى أن مات. ولم يُثْبِتْ أحد أنه تولَّى مشيختها ولم يَنْفِهِ مع أن الشروط التي ينبغي أن تُوجَدَ في من يتولى مشيخة التدريس فيها متحققةٌ فيه إذ لم يكن في عصره أتقن منه في علم الحديث رواية ودراية.
وفي مكتبة خدابخش بتنة بالهند نسخةٌ خطية من جامع العلوم والحكم، ومنها نسخة مصورة عنها في معهد المخطوطات العربية كتبها من نسخة المؤلف عبد القادر بن محمد بن علي الحجار الحنبلي مذهبًا، المدني مولدًا، وقد انتهى من كتابتها سنة (790) هـ ثم عرضها على المؤلف في عدة مجالس إلى تمام الأسبوع، وكتب له ابن رجب في الورقة الأخيرة منه بخطه: فأثنى عليه، وصحح نسخته، وأجاز له روايتها له في ثاني عشر جُمادى الأولى من السنة المذكورة أي سنة (790) هـ بدار الحديث السكرية بالقصاعين بدمشق المحروسة.
تلاميذه:
وقد تصدَّى الحافظُ ابنُ رجب للإِفادةِ، فأقبل عليه الطلبةُ يأخذون عنه، ويُفيدون من علومه، ويسمعون مروياته، وقد تخرَّج به غيرُ واحد منهم، فكانوا
فيما بعد علماءَ ثقات، نالوا مراتبَ عالية، وخلفوا آثارًا علمية نافعة، فممن أخذ عنه:
1 -
قاضي القُضاة شهابُ الدين أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن عليّ الحنبلي المعروف بابن الرسام المتوفَّى سنة (844) هـ، أجازه ابن رجب وكان يعمل المواعيدَ، وله كتابٌ في الوعظ على نَمَطِ كتاب شيخه ابن رجب المعروف بلطائف المعارف. "شذرات الذهب" 7/ 252 - 253.
2 -
محب الدين أبو الفضل أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر البغدادي، ثم المصري مفتي الديار المصرية (ت 844) هـ، سَمِعَ منه في دمشق، وأخذ عنه الفقه ولازمه. "الضوء اللامع" 2/ 233 - 239، "شذرات الذهب" 7/ 250.
3 -
داود بن سليمان بن عبد الله الزين المَوْصلي، ثم الدمشقيّ الحنبلي (ت 844) هـ سمع منه شرحه للأربعين النووية، ومجلسًا في فصل الربيع من لطائفه مع حضور مواعيده. "الضوء اللامع" 3/ 212.
4 -
عبد الرَّحمن بن أحمد بن محمد بن محمد بن يوسف الدمشقيّ الأصل المكي الشافعي المقرئ (ت 853) هـ سمع منه بدمشق.
5 -
الإِمام العلامة المفسر المحدث الفقيه زين الدين عبد الرَّحمن بن سليمان بن أبي الكرم الدمشقيّ الصالحي الحنبلي الشهير بأبي شعر (ت 844 هـ) قرأ عليه من أول المقنع لابن قدامة إلى أثناء البيع. "الضوء اللامع" 4/ 82، "شذرات الذهب" 7/ 253.
6 -
الفقيه أبو ذر عبد الرَّحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد المصري الحنبلي الشهير بالزركشي صنعة أبيه (ت 846 هـ)، ارتحل إلى دمشق قبل سنة (803) هـ فأخذ الفقه على ابن رجب "إنباء الغمر" 9/ 194، "الضوء اللامع" 4/ 136 - 137.
7 -
شيخ الحنابلة الإِمام العلامة الأصولي علاء الدين أبو الحسن عليّ بن محمد بن عباس البعلي الدمشقيّ الحنبلي الشهير بابن اللحام وهي صنعة أبيه (ت 803 هـ)، تتلمذ لابن رجب وتفقه به، وقد أذن له في الإِفتاء، ووعظ في الجامع الأموي في حلقته بعده. "إنباء الغمر" 4/ 301 - 302، "الضوء اللامع" 5/ 320 - 321، "شذرات الذهب" 7/ 31، "المقصد الأرشد" 2/ 237.
8 -
علاء الدين عليّ بن محمد بن عليّ الطرسوسي المزي (ت بعد 850 هـ بيسير) حضر على ابن رجب، وسمعه يقول: أرسل إليّ الزين العراقي يستعين بي في شرح الترمذي. "الضوء اللامع" 5/ 328.
9 -
عليُّ بنُ محمد بن إبراهيم الجعفري النابلسي الحنبلي ولد سنة (752 هـ) وقف السخاوي له على تصنيفين أحدهما في وصف الحَمام سماه "رشف المدام" نقل فيه عن ابن رجب فكأنه أخذ عنه الفقه. "الضوء اللامع" 5/ 279.
10 -
الشيخ الإِمام العلامة القاضي علاء الدين علي بن محمد بن أبي بكر السلمي الحموي الحنبلي (ت 828 هـ) تفقه بابن رجب في دمشق. "الضوء اللامع" 6/ 34، "المقصد الأرشد" 2/ 264 - 266.
11 -
أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي بكر بن محمد السراج الحلبي الأصل، الدمشقيّ الشافعي (ت 841 هـ) سمع منه بدمشق مجلس البطاقة. "الضوء اللامع" 6/ 120.
12 -
قاضي مكة شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي الأصل النابلسي، ثم الدمشقيّ الحلبي (ت 864 هـ) سمع منه بدمشق. "الضوء اللامع" 6/ 309.
13 -
شهاب الدين أحمد بن عليّ بن محمد الأنصاري الحلبي، ثم
الدمشقيّ الصالحي الحنبلي المؤذن بالجامع الأموي الشهير بابن الشحام (ت 864 هـ) حضر مواعيدَ ابن رجب في دمشق. "الضوء اللامع" 2/ 41، "شذرات الذهب" 7/ 303.
14 -
القاضي عز الدين محمد بن بهاء الدين عليّ المقدسي الحنبلي خطيب الجامع المظفري بصالحية دمشق وهو صاحبُ نظم مفردات الإِمام أحمد (ت 820 هـ) أخذ عنه في دمشق. "شذرات الذهب" 7/ 147.
15 -
قاضي حمص شمس الدين محمد بن خالد بن موسى الحمصي الشهير بابن زَهْرَة قرأ عليه في دمشق. "شذرات الذهب" 7/ 195.
16 -
شمس الدين أبو عبيد الله محمد بن خليل بن طوغان الدمشقيّ الحريري الحنبلي (ت 803) هـ تخرج به في دمشق. "شذرات الذهب" 7/ 35.
17 -
قاضي قضاة دمشق شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبادة السعدي الأنصاري (ت 820 هـ) أخذ عنه في دمشق.
18 -
محب الدين أبو الفضل بن الشيخ نصر الله المولود سنة (765 هـ) في بغداد أخذ عنه في دمشق. "المنهج الأحمد" الورقة 488.
19 -
الإِمام الواعظ قاضي القضاة صدر الدين أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح المتوفى سنة (825 هـ)"الدارس" 2/ 51.
وقد قال ابنُ حِجِّي فيما نقله عنه الحافظ في "الدرر الكامنة" 3/ 176: وتخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق.
-
ثناء أهل العلم عليه:
1 -
قال القاضي علاء الدين بنُ اللحام فيما نَقَلَهُ عنه يوسف بنُ عبد الهادي:
سيدُنا وشَيخُنا الإِمامُ العالِمُ العلَّامةُ الأَوْحَد الحافِظُ شيخ الإِسلام مُجلّي المشكلات وموضحُ المبهمات. "الجوهر المنضد" ص 47.
وقال أيضًا: شَيخُنا الإِمام العالمُ الحافظُ بقيةُ السلف الكرام، وحيدُ عصره، وفريدُ دهره شيخُ الإِسلام.
ونقل عنه أنه قال: ذكر لنا مرة الشيخُ مسألةً، فأطنبَ فيها، فعَجِبْتُ من ذلك ومن إتقانه لها، فَوَقَعَتْ بعد ذلك بمحضرٍ من أرباب المذاهب وغيرهم، فلم يتكلَّمْ فيها الكلمةَ الواحدةَ، فلما قام، قلتُ له: ألَيْسَ قد تكلمت فيها بذلك الكلام؟ قال: إنَّما أتكلم بما أرجو ثوابَه، وقد خِفْتُ من الكلام في هذا المجلس.
2 -
وقال حافظُ الشام، ومؤرخُ الإِسلام شهابُ الدين أحمد بن حِجّي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر: أتقن الفنَّ، وصار أعرفَ أهلِ عصره بالعلل وتتبع الطرق، تخرَّج به غالبُ أصحابنا الحنابلة بدمشق. "إنباء الغمر" 3/ 176.
3 -
وقال ابن ناصر الدين الدمشقيّ: الشيخُ الإِمامُ العلامةُ الزاهدُ القُدوةُ البركة الحافِظُ العُمْدَةُ الثقةُ الحجة، أوعظُ المسلمين، مفيدُ المحدثين
…
أحد الأئمة الزهاد، والعلماء العباد. "الرد الوافر" ص 176.
4 -
وقال ابن قاضي شهبة: الشيخُ الإِمامُ العلامةُ الحافظُ الزاهدُ الوَرِعُ، شيخ الحنابلة وفاضِلُهم، أوحدُ المحدثين
…
"ابن قاضي شهبة" 1/ 3/ 488.
5 -
وقال الحافظ ابن حجر: الشيخُ المحدث الحافظ، مهر في فنون الحديثِ أسماءً ورجالًا وطرقًا واطلاعًا على معانيه، وكان صاحبَ عبادة وتهجد.
"الدرر الكامنة" 2/ 322، و"إنباء الغمر" 3/ 176.
6 -
وقال تقي الدين محمد بن فهد: الإِمامُ الحافظُ الحجة، والفقيه العُمدة، أحدُ العلماء الزهاد والأئمة العباد، مفيد المحدثين واعظ المسلمين.
"لحظ الألحاظ" ص 180.
7 -
وقال ابنُ مفلح: الشيخُ العلامة الحافظ الزاهد شيخ الحنابلة.
"المقصد الأرشد" 2/ 81.
8 -
وقال يوسف بن عبد الهادي: الشيخُ الإِمام، أوحدُ الأنام، قدوةُ الحفاظ، جامعُ الشتات والفضائل، الفقيه الزاهد البارع الأصولي الفقيه المحدث.
وقال بعد أن ذكرَ طائفةً كبيرة من مؤلفاته: وغير ذلك من الكتب النافعة المفيدة التي لم نر مِثْلَها، وله تحقيقٌ في المسائل عن نصوصِ أحمد، وكلام الأصحاب، وله مسائلُ كثيرةٌ غريبةٌ، وأشياءُ حسنة يَعْجَزُ الإِنسانُ عن حصرها. "الجوهر المنضد" ص 46.
9 -
وقال السيوطي: الإِمام الحافظ المحدِّث الواعظ
…
"ذيل تذكرة الحفاظ" ص 367.
10 -
وقال النُّعيمي: الشيخ العلامة الحافظ الزاهد شيخُ الحنابلة
…
"الدارس" 2/ 76.
11 -
وقال العليمي: كان أحد الأئمة الحفاظ الكبار والعلماء الزُهَّاد الأخيار. "المنهج الأحمد" 2/ 174/ 1.
12 -
وقال ابنُ العماد: الشيخ الإِمام العالم العلامة الزاهد القدوة البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة. "شذرات الذهب" 6/ 339.
-
تصانيفُه:
يُعَدُّ الحافظُ ابن رجب من أقدرِ علماء عصره على التصنيف، وأمهرهم فيه، فقد ألف تآليف كثيرة مفيدة، وتصانيفَ عديدة ممتعة في التفسير والحديث والفقه
والتاريخ والرقائق، وهي تنبئ عن اتساع دائرته، وتعدد مواهبه، وإخلاصه وزهده.
ففي علوم القرآن:
1 -
تفسير سورة النصر.
2 -
تفسير سورة الإِخلاص، وقد تولَّت الدار السلفية بالكويت سنة (1989) م طبع هاتين السورتين في مجموع يشتمل على رسالة ثالثة للمؤلف نفسه هي "فضل علم السلف على الخلف" بتحقيق الأخ الفاضل الأستاذ محمد بن ناصر العجمي.
3 -
إعراب البسملة.
4 -
إعراب أم الكتاب.
5 -
تفسير سورة الفاتحة.
6 -
الاستغناء بالقرآن، ذكره في "هدية العارفين" 1/ 527.
وقد غني بتفسير طائفة غير قليلة استشهد بها في مواضعَ متعددة من كتبه الكثيرة، وهو يُفَسِّرُ القرآن بالقرآنِ، فإن ما أُجْمِلَ في مكانٍ قد فُسِّرَ في موضع آخر، فإن أعياه ذلك، عَوَّلَ على ما أُثِرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار، فإنها شارحة له، وموضحة له، ثمَّ على أقاويل الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولِمَا لهم من الفهم التامٍ، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، ثم على جِلَّة التابعين كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيِّب، وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم.
في الحديث:
1 -
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، كتب قطعة منه وصل فيه إلى كتاب الجنائز، ومنه استمد الحافظ ابنُ حجر اسمَ شرحه على البخاري، يُوجَدُ منه في المكتبة الظاهرية بدمشق مجلدان، الأول: يبدأ من كتاب الإِيمان الحديث العاشر، وينتهي بباب السمر في الفقه والخير بعد العشاء من كتاب الصلاة، وفيه خروم. والثاني يبدأ بباب السمر والضيف مع الأهل، وينتهي بباب الإِشارة في الصلاة، ويوجد في دار الكتب المصرية مجلد يبدأ بكتاب الصلاة، وينتهي بكتاب الكسوف وفي أوله خروم.
وإليك نموذجًا من هذا الشرح من كتاب الإِيمان: باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده:
فصلٌ: خرَّج البخاريُّ من حديث الشَّعبي، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"المُسلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسلِمُونَ مِنْ لِسانه ويده، والمهاجِرُ منْ هَجَرَ ما نهى الله عنه".
خرَّجه من رواية شعبة عن عبد الله بن أبي السفر، وإسماعيل بن أبي خالد، عن الشَّعبي عن عبدِ الله، ثم قال: وقال أبو معاوية: حدثنا داودُ، عن عامر قال: سمعتُ عبدَ الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم
…
، وقال عبد الأعلى: عن داود، عن عامر عن عبد الله.
ومقصودُ البخاري بهذا أن شعبة روى الحديثَ معنعنًا إسناده كله، وداودُ بن أبي هند رواه عن الشَّعبي، واختلف عليه فيه، فقال: عبدُ الأعلى عن داود كذلك، وقال: أبو معاوية عن داود عن عامر، قال: سمعتُ عبد الله، فذكر في حديثه تصريحَ الشَّعبي بالسماع له من عبد الله بن عمرو، وإنَّما احتاجَ إلى هذا، لأن البخاريَّ لا يرى أن الإِسنادَ يتَّصلُ بدون ثبوتِ لقي الرواة بعضِهم
لبعض، وخصوصًا إذا روى بعضُ أهل بلد عن بعض أهل بلدٍ ناءٍ عنه، فإن أئمة الحديث ما زالوا يستدلُّونَ على عَدَم السماع بتباعد بلدان الرواة، كما قالوا في رواية سعيد بن المسيب عن أبي الدرداء وما أشبه ذلك.
وهذا الحديثُ قد رواه الشَّعبي - وهو مِنْ أهل الكوفة - عن عبد الله بن عمرو - وهو حجازي ترك مصر، ولم يسكن العراقَ - فاحتاجَ أن يذكرَ ما يَدُلُّ على سماعه منه، وقد كان عبدُ الله بن عمرو قَدِمَ مع معاوية الكوفة عامَ الجماعة، فسمِعَ منه أهلُ الكوفة كأبي وائل، وزِرْ بن حُبيش، والشعبي.
وإنَّما خرج مسلم هذا الحديث من رواية المصريين عن عبد الله بن عمرو من رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير، سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن رجلًا سأَل النَّبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ المسلمين خير؟ قال: "مَنْ سَلِمَ المسلمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ"، وهذا اللفظ يُخالِفُ لفظ رواية البخاري.
وأما رواية "المسلم" فيقتضي حصر المسلم فيمن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمرادُ بذلك: المسلمُ الكاملُ الإِسلام، فمن لِم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فإنَّه ينتفي عنه كمالُ الإِسلام الواجب، فإنَّ سلامة المسلمين من لسانِ العبدِ ويده واجبة، فإنَّ أذى المسلم حرام باللسان وباليد، فأذى اليد الفعل، وأذى اللسان القول.
والظاهرُ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما وصف المسلم بهذا في هذا الحديث، لأن السائلَ كان مسلمًا قد أتى بأركانِ الإِسلام الواجبة لله عز وجل، وإنَّما يَجْهَلُ دخولَ هذا القدرِ الواجب من حقوقِ العباد في الإِسلام، فبيَّنَ له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ما جَهِلَهُ.
ويُشبه هذا أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما خطبَ في حجة الوداعَ وبَيَّنَ للنَّاس حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، أتبع ذلك بقوله: "سأُخبركم من المسلم؟ مَنْ سَلِمَ
المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَهُ النَّاسُ على أموالهم وأنفسهم".
خرَّجه ابنُ حبان في "صحيحه"(رقم 4862) من حديث فضالة بن عبيد.
وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يجمع لمن قَدِمَ عليه يريدُ الإِسلامَ بين ذكر حق الله وحقِّ العباد كما في "مسند الإِمام أحمد" عن عمرو بن عبسة قال: قال رجلٌ: يا رسولَ الله ما الإِسلام قال: "أنْ تُسلِمَ قلبك لله، وأن يَسْلَمَ المسلمون من لسانك ويدك". وفيه أيضًا عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده أنه أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم ليسلم، فقال له: أسْأَلُكَ بوجه الله بِمَ بعثك الله ربنا إلينا؟ قال: "بالإِسلام" قال: قلتُ: وما آيةُ الإِسلام؟ قال: "أن تقولَ: أسلمتُ وجهي لله، وتخليت، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكل مسلم على مسلم محرم" وذكر الحديث، وقال فيه: قلت: يا رسول الله هذا ديننا؟ قال: "هذا دينكم". وخرَّجه النسائي بمعناه.
وقوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" فأصلُ الهجرة هجرانُ الشَّرِّ ومباعدته لِطالب الخير، ومحبته والرغبة فيه، والهجرة عند الإِطلاق في الكتاب والسنة إنَّما تنصرِفُ إلى هجرانِ بلدِ الشرك إلى دار الإِسلام رغبة في تعلم الإِسلام والعمل به، وإذا كان كذلك، فأصلُ الهجرةِ: أن يَهْجُرَ ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيدخل في ذلك هجران بلدِ الشرك رغبة في دار الإِسلام، وإلا فمجردُ هجرةِ بلد الشرك مع الإِصرار على المعاصي ليس بهجرة تامة كاملة، بل الهجرة التامة الكاملة هجرانُ ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك هجرانُ بلد الشرك مع القدرة عليه.
2 -
شرح جامع الترمذي، وقد قالوا: إنه في نحو عشرين مجلدًا، وقد فُقِدَ في جملة ما فُقِدَ من كتب التراث في فتنة التتر سنة (803) هـ، ولم يبق سوى قطعة من كتاب اللباس تقع في عشر ورقات في المكتبة الظاهرية.
والطريقة التي اتبعها في شرحه هذا كما يتبين من الورقات المتبقية منه أنه يذكرُ أحاديثَ الباب من الترمذي، وكلامه الذي يذكره بإثره، ثم يأخذ في تخريج
الأحاديث من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم، ويُبيِّنُ طرقها، ويتكلم على أسانيدها، ثم يخرج الأحاديث التي يجملها الترمذي بقوله: وفي الباب
…
، ويسرد طرقها، ويُبين درجتها، ويكشف عن عللها، ويستدركُ على الترمذي ما ورد في الباب مما لم يذكره، ثم يفصل القول فيها، ثم يتكلم على فقه الحديث، وما يُستفاد منه، ويختم كلامه بأقاويل أهل العلم واختلافهم.
ولو سلم هذا الشرح من الضياع لكان فيه غناءٌ، أي غناء عن كل الشروح التي انتهت إلينا.
ويغلب على ظني أن السببَ في تولي الحافظ ابن رجب شرح هذين الكتابين أنهما يمتازان على غيرهما من الكتب التي ألفت في الموضوع نفسه، كونهما كتابي حديث وفقهٍ كما هو معلوم لكل من طالعهما، وأمعن النظر فيهما، وهو أهلٌ لأن يَنهَضَ بذلك، فقد جمع إلى معرفة الحديث ونقلته والعلم بالروايات وعللها علمًا بفقه النُّصوص والاستنباط منها واستثمار ما فيها.
4 -
مجموعة رسائل يتضمن كل واحدة منها شرح حديثٍ واحد، ومنها ما قد طُبِعِ ومنها ما لم يُطبع، فمما طُبِعَ:
1 -
الحِكَمُ الجديرةُ بالإِذاعة من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ بالسيف بَينَ يدي السَّاعة"، وهو شرحُ حديث ابن عمر:"بعثتُ بالسيفِ بَيْنَ يدي الساعة حتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له، وجُعِلَ رزقي تحت ظِلِّ رمحي، وجُعِلَ الذلةُ والصغارُ على مَنْ خالف أمري، ومن تشبَّه بقومٍ، فهو منهم".
2 -
شرح حديث كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ذئبان جائعان أُرسِلا في غنمٍ بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".
3 -
اختيار الأولى في "شرح اختصام الملأ الأعلى" وهو حديث مطول رواه أحمد والترمذيّ.
4 -
الكلام على كلمة الإِخلاص. وتحقيقها، وهي شرحُ حديث أنس: قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، فقال:"يامعاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال:"يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال:"يا معاذ"، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال:"ما مِنْ عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدُه ورسوله إلَّا حرمه الله على النَّار"، قال: يا رسولَ الله ألا أخبر بها النَّاسَ فيستبشروا؟ قال: "إذًا يتكلوا" فأخبر بها معاذٌ عند موته تأثّمًا.
5 -
بيان فضل علم السَّلف على الخَلَفِ. وهي رسالة نافعة في بابها وضح فيها العلم النافع: بأنَّه ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه أولًا، ثم الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيًا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشُغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل.
ثم قال: ومن وقف على هذا، وأخلص القصد فيه لوجه الله تعالى، واستعانه عليه، أعانه وهداه ووفقه وسدده، وفهمه وألهمه، وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به وهو خشية الله ومحبته والقرب منه والأنس به والشوق إليه.
6 -
غاية النفع في شرح حديث تمثيل المؤمن بخامة الزرع، وهو شرح حديث أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَثَلُ المؤمن كمثلِ خامةِ الزرع، من حيث أَتَتْها الريحُ كفأتها، فإذا اعتدلت تَكَفَّأُ بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتَّى يَقصِمَها اللهُ إذا شاء".
- نور الاقتباس في مشكاة وصية النَّبي لابن عباس، وهو شرحُ حديث ابن
عباس، قال: كنتُ رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا غلام - أو يا غُليم - ألا أُعلمك كلمات ينفعك الله بهنّ؟ " فقلت: بلى، فقال:"احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرَّخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يَقضِهِ اللهُ لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا".
8 -
كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة، وهو شرحُ حديث: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ
…
".
ومما لم يطبع
(1)
:
1 -
شرح حديث زيد بن ثابت أن النَّبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاءً وأمره أن يتعاهد به أهله كُلَّ يوم، قال: "قل حين تُصبح: لبيك لبيك وسعديك، والخيرُ في يديك ومنك وبك وإليك، اللهم ما قلتُ من قول، أو نذرت من نذر، أو حلفت من حلف، فمشيئتُكَ بين يديه، وما شئتَ كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك على كل شيء قدير.
اللهم وما صليتُ من صلاة، فعلى من صليت، وما لعنتُ من لعن فعلى من لعنتُ، أنت ولي في الدُّنيا والآخرة، توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين.
اللهم إنِّي أسألك الرضا بعدَ القضاء، وبَرْدَ العيش بعد الموت، ولذةَ
(1)
وهذه الرسائل التي لم تطبع موجودة عندنا في مجموع فيه عدة رسائل للمؤلف عدد أوراقه 275 ورقة، وقد صورناه من إحدى مكتبات استنبول، فرغ من كتابته سنة (893) هـ عيسى بن علي بن محمد الحوراني الشافعي.
النظر إلى وجهك، وشوقًا إلى لقائك من غير ضراء مُضِرَّة، ولا فِتنة مُضِلَّة، أعوذ بك اللهمَّ أن أَظلِمَ أو أُظلَمَ، أو أعتدي أو يُعتدى علي، أو أكتسب خطيئةً محبطة، أو ذنبًا لا تغفره.
اللهمَّ، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ذا الجلال والإِكرام، فإني أعهَدُ إليك في هذه الدُّنيا، وأُشهدك وكفى بك شهيدًا أني أشهدُ أنْ لا إله إلا أنتَ وَحْدَكَ لا شريك لك، لك الملكُ ولك الحمدُ وأنتَ على كل شيء قدير، وأشهدُ أن محمدًا عبدُك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّك تبعثُ من في القبور، وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة، وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك فاغفر لى ذنبي كُلَّه، إنه لا يغفر الذُّنوب إلا أنت، وتُبْ عليّ إنَّك أنتَ التوابُ الرحيم". من الورقة 17 - 42.
2 -
شرحُ حديث ابن عباس المرفوع: "الخمرُ أُمُّ الخبائث وأكبرُ الكبائر، من شربها وقع على أمه وعمته وخالته" من الورقة 98 - 104.
3 -
شرح حديث شداد بن أوس قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كنز النَّاسُ الذهب والفضة، فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات: اللهم إنِّي أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شُكْرَ نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذُ بك من شَرِّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب" من الورقة 105 - 121.
4 -
شرحُ حديث عمار بن ياسر: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الدعوات: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي. اللهم إنِّي أسألُكَ خشيتك في الغيب
والشهادة، وكلمة الحقِّ في الغضب والرضا، والقصدَ في الفقر والغنى، وأسألُك نعيمًا لا يَنفدُ، وقُرَّة عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبردَ العيش بعد الموت، وأسألُك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مُضِرَّةٍ ولا فِتنة مضلَّةٍ، اللهم زينا بزينة الإِيمان، واجعلنا هداة مهتدين" من الورقة 121 - 138.
5 -
مختصر فيما رُوي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم السارق.
6 -
شرح حديث أنس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَتْبَعُ الميتَ ثلاثٌ، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يتبعه أهلُه وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله". من الورقة 173 - 180.
7 -
رسالة في فضل صدقة السر من الورقة 180 - 181.
8 -
شرح حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجالُ، فاجعل لنا يومًا من نفسك، فواعدهن يومًا لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن:"ما منكن امرأة تقدِّم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابًا من النَّار" فقالت امرأة: واثنين؟ قال: "واثنين". من الورقة 182 - 198، واسمها: تسلية نفوس النساء والرجال عن فقد الأطفال.
9 -
شرح حديث أبي أمامة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أغبط أوليائي عندي لمؤمنٌ خفيف الحاذ، ذو حظٍّ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضًا في النَّاس، لا يُشار له بالأصابعِ، وكان رزقه كفافًا فصبر على ذلك" ثم نقر بيده فقال: "عجلت منيتُه قلَّت بواكيه قَلَّ تراثُه" من الورقة 199 - 211.
10 -
شرح حديث أبي أمامة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"الحُمَّى كيرٌ من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظّه من النَّار" من الورقة 212 - 220.
سماها البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النَّار الحمى.
5 -
شرح علل الترمذي:
تناول فيه كلام الإِمام الترمذي في "العلل الصغيرة" بالشرح والتوضيح والاستدلال والاعتراض، وهو كتاب عظيم النفع في بابه، غزير العلم جم الفوائد، ينبئ عن براعة المؤلف في فن العلل، واتساع دائرته فيه وإتقانه له، وهو الفن الذي لا يتقنه إلا القليل من الحفاظ المحدثين على توالي العصور.
طبع أولًا في مجلد واحد في بغداد سنة (1396) هـ بتحقيق السيد صبحي جاسم السامرائي.
ثم طبع ثانيًا في مجلدين في دمشق سنة (1398) هـ بتحقيق الدكتور الفاضل نور الدين عتر.
ثم طبع في عمان في مجلدين سنة (1407) هـ بتحقيق الدكتور الفاضل همام عبد الرحيم سعيد، مع الدراسة الحافلة لهذا الشرح التي حصل بها على درجة الدكتوراه.
في الفقه:
1 -
القواعد الفقهية "مطبوع": وهو كتاب غاية في النفاسة، ضمنه مئة وستين قاعدة، وأورد في آخره فصلًا أدرج فيه فوائد تلحق بالقواعد في مسائل مشهورة فيها اختلاف في المذهب، وتنبني على الاختلاف فيها فوائد متعددة بلغت إحدى وعشرين فائدة، معظمُها ذاتُ شأن في الفقه.
ومع أنه قد أجاد فيه كلَّ الإِجادة، وعَدَّهُ بعضهم من عجائب الدهر، فقد صنفه في أيام يسيرة، وهذا يدلك على أنه كانت له معرفة تامة بمذهب الإِمام أحمد.
يقول في مقدمته: فهذه قواعدُ مهمة، وفوائدُ جمة، تَضبِطُ للفقيه أصولَ المذهب، وتُطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيَّب، تَنْظِمُ له منثورَ المسائل في سِلْكٍ واحد، وتُقيد له الشواردَ، وتقرب عليه كُلَّ متباعد، فليمعن الناظر فيه النظر، وليوسع العذر، إن اللبيب مَنْ عذر، فلقد سنح بالبال على غايةٍ من الإِعجال كالارتجال أو قريبًا من الارتجال في أيام يسيرةٍ وليال.
2 -
الاستخراج في أحكام الخراج: ويقع في (124) صفحة، طبع في مصر بتحقيق عبد الله الصديق أحد علماء الأزهر، ثم قامت بتصويره دار المعرفة في بيروت.
وقد سبق إلي التأليف في هذا الموضوع عالمان كبيران الأول: القاضي أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم، صاحب الإِمام أبي حنيفة المتوفى سنة (183) هـ.
والثاني: الإِمام يحيى بن آدم بن سليمان القرشي الأموي المتوفى سنة (203) هـ، وكلاهما قد طبع.
3 -
كتاب أحكام الخواتيم وما يتعلق بها، وقد طبع في مطابع الرحاب بالمدينة المنورة سنة (1987) م بتحقيق الدكتور محمد بن حمود الوائلي.
ومما لم يطبع:
1 -
إزالة الشنعة عن الصلاة بعد النداء يوم الجمعة.
2 -
الإِيضاح والبيان في طلاق كلام الغضبان.
3 -
الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة.
4 -
القول المعذاب في تزويج أمهات أولاد الغياب.
5 -
الكشف والبيان عن حقيقة النذور والأَيمان.
6 -
نزهة الأسماع في مسألة السماع.
7 -
تعليق الطلاق بالولادة.
8 -
مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة:
وهذا الكتاب لم نقف عليه، وقد نقل منه يوسف بن عبد الهادي في كتابه "سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث" المطبوع بمطبعة السنة المحمدية بمصر سنة (1953) م.
وفي هذا الكتاب رد على شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في ما انتهيا إليه من القول بأن الطلاق الثلاثَ دفعة واحدة تقعُ طلقة واحدة رجعية، فقد قال فيه: اعلم أنه لم يثبت عن أحدٍ من الصحابةِ، ولا مِن التابعين، ولا مِنْ أئمةِ السلف المعتدِّ بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيءٌ صريحٌ في أن الطلاق الثلاث بعدَ الدخول يُحسَبُ واحدة إذا سيق بلفظ واحد. وأما حديثُ ابن عباسَ - وهو الذي اعتمده ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في هذه المسألة - فقد قال ابنُ رجب: فهذا الحديثُ لأئمة الإِسلام فيه طريقان، أحدهما: مسلكُ الإِمام أحمد ومَنْ وافقه، وهو يرجع إلى الكلام في إسنادِ الحديث لشذوذه، وانفرادِ طاووس به، فإنه لم يُتابَعْ عليه، وانفرادُ الراوي بالحديث مخالفًا للأكثرين هو علةٌ في الحديث يُوجب التوقف فيه، وأنه يكون شاذًا أو منكرًا إذا لم يرو معناه من وجه يصح، وهذه طريقةُ المتقدمين كالإِمام أحمد ويحيى القطان ويحيى بن معين، ثم قال ابنُ رجب: ومتى أجمع علماءُ الأمة على اطّراح العمل بحديث وجب اطّراحه، وترك العمل به.
ثم قال ابن رجب: وقد صح عن ابن عباس - وهو راوي الحديث - أنه أفتى بخلاف هذا الحديث، ولزوم الثلاث المجموعة، وقد علل بهذا أحمد والشَّافعي كما ذكره الموفق ابن قدامة في "المغني"، وهذه أيضًا علة في الحديث
بانفرادها، فكيف وقد انضم إليها علة الشذوذ والإِنكار وإجماع الأمة على خلافه؟.
في التراجم:
1 -
الذيل على طبقات الحنابلة، في جزأين، نشر منه الأول في دمشق سنة (1950) م بعناية سامي الدهان وهنري لاوست، ثم نشره بتمامه في جزأين في القاهرة الشيخ محمد حامد الفقي، وهوكتاب قيم ترجم فيه لأعلام المذهب ذيّل به على "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى.
2 -
مختصر سيرة عمر بن عبد العزيز. "مطبوع".
3 -
سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز. "مطبوع".
4 -
مشيخة ابن رجب.
5 -
وقعة بدر.
تصانيفه في الوعظ والفضائل والرقائق:
1 -
لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. "مطبوع".
2 -
فضل علم السلف على علم الخلف. "مطبوع".
3 -
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار. "مطبوع".
4 -
أهوال يوم القيامة.
5 -
أهوال القبور. "مطبوع".
6 -
الفرق بين النصيحة والتعيير. "مطبوع".
7 -
الذل والانكسار للعزيز الجبار: طبع بعنوان الخشوع في الصلاة.
8 -
فضائل الشام.
9 -
استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس. "مطبوع".
10 -
الإِلمام في فضائل بيت الله الحرام.
11 -
الاستيطان فيما يعتصم به العبد من الشيطان.
12 -
ذم الخمر.
-
وفاته:
توفي الحافظ ابن رجب سنة (795) هـ بدمشق، ودفن بمقبرة الباب الصغير جوار قبر الشيخ الفقيه الزاهد أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي، ثم المقدسي الدمشقي المتوفَّى في ذي الحجة سنة (486) هـ، وهو الذي نشر مذهب الإِمام أحمد ببيت المقدس، ثم بدمشق رحمه الله.
قال ابن ناصر الدين في "الرد الوافر" ص 178: ولقد حدثني من حفر لحدَ ابن رجب أن الشيخ زينَ الدين بن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام، فقال له: احفِرْ لي هاهنا لحدًا، وأشار إلى البُقعة التي دُفِنَ فيها، قال: فحفرتُ له، فلما فرغتُ، نزل في القبر، واضطجع فيه فأعجبه، وقال: هذا جيد، ثم خرج، قال: فوالله ما شعرتُ بعد أيام إلا وقد أتي به ميتًا محمولًا على نعشه، فوضعته في ذلك اللحد، وواريته فيه رحمه الله.
عمان في 22/ 10/ 1410 هـ
17/ 5/ 1990 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الَّذي أكملَ لنا الدِّين، وأتمَّ علينا النِّعمةَ، وجعل أُمَّتنا - ولله الحمد - خيرَ أمَّة، وبعث فينا رسولًا منَّا يتلو علينا آياتِه، ويزكِّينا ويعلِّمنا الكتابَ والحكمة.
أحمَدُه على نِعَمِهِ الجمَّة، وأشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تكونُ لمنِ اعتصمَ بها خيرَ عِصْمَة، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُهُ، أرسله للعالمين رحمة، وفوّض إليه بيانَ ما أُنزِلَ إلينا، فأوضحَ لنا كلَّ الأُمورِ المهمَّة، وخصَّه بجوامعِ الكلِمِ، فربَّما جمعَ أشتاتَ الحِكَم والعُلوم في كلمةٍ، أَوْ في شطرِ كلمة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاةً تكونُ لنا نورًا مِنْ كلِّ ظُلْمةٍ، وسلَّم تَسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ: فإنَّ الله سبحانه وتعالى بعثَ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بجوامعِ الكَلِمِ، وخصَّهُ ببدائع الحِكَمِ. كما في "الصَّحيحينِ" عن أبي هريرةَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"بُعِثْتُ بجوامِعِ الكَلِمِ"
(1)
. قال الزُّهري
(2)
: جوامِعُ الكَلِمِ - فيما بَلَغَنَا - أن الله يجمع له الأُمورَ الكثيرةَ التي كانت تُكْتَبُ في الكُتب قبلَه في الأمرِ الواحدِ والأمرينِ، ونحو ذلك.
(1)
البخاري (2977) و (6998) و (7013) و (7273)، ومسلم (523)، ورواه أيضًا أحمد 2/ 250 و 264، والترمذي (1553)، والنسائي 6/ 3 - 4.
(2)
قول الزهري هذا ذكره البخاري بإثر الحديث (7013).
وخرَّج الإمام أحمدُ من حديثِ عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: خرجَ علينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومًا كالمودِّع، فقال:"أنا محمَّدٌ النَّبيُّ الأُمِّيُّ". قالَ ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ. "ولا نَبيٍّ بعدي، أُوتِيتُ فواتِحَ الكَلِمِ وخَواتِمَهُ وجوَامِعَهُ"، وذكر الحديثَ
(1)
.
وخرَّج أبو يعلى المَوصلي
(2)
من حديثِ عمر بن الخطَّابِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنِّي أُوتيتُ جوامعَ الكَلِمِ وخواتِمَهُ، واختُصِرَ لي اختصارًا".
وخرَّج الدَّارقطنيُّ
(3)
من حديثِ ابن عبّاسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أُعطيتُ جوامعَ الكَلِمِ، واختُصِرَ لي الحَديثُ اختصارًا".
وروينا مِنْ حديث عبدِ الرَّحمنِ بن إسحاقَ القُرَشيّ، عن أبي بُردَةَ، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ فواتِحَ الكَلِمِ وخواتِمَهُ وجَوامِعَهُ"، فقلنا: يا رسول الله، علِّمنا ممَّا علَّمك الله عز وجل، قال: فعلَّمَنَا التَّشَهُّدَ
(4)
(1)
وتمامه: "وعلمت كم خزنة النار، وحملة العرش، وتُجُوِّز بي، وعُوفيتُ وعُوفِيَتْ أمتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دمتُ فيكم، فإذا ذُهِبَ بي، فعليكم بكتاب الله، أحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه" أخرجه أحمد 2/ 172 و 211، وفي سنده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 169.
(2)
في "مسنده الكبير" كما في "المطالب العالية" 4/ 28، وهذا المسند برواية الأصبهانيين لم يطبع، ورواه العقيلي في "الضعفاء" 2/ 21، وفي سنده خليفة بن قيس، ذكره البخاري في "تاريخه" 3/ 198، فقال: لم يصح حديثه.
(3)
في "السنن" 4/ 144 - 145، وفي سنده زكريا بن عطية. قال أبو حاتم: منكر الحديث.
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 1/ 294، وأبو يعلى رقم (7238) من طريقين عن هُشيم بن بشير، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق بهذا الإِسناد. وهذا سند قوي إن كان عبد الرحمن بن إسحاق هو القرشي كما قيده المؤلف، وإن كان الواسطي كما جزم به=
وفي "صحيح مسلم"
(1)
عن سعيد بن أبي بُردةَ بن أبي موسى، عن أبيه، عن جدِّهِ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ البِتْعُ والمِزْرِ
(2)
، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُعْطِي جوامع الكَلِم بخواتمه، فقال:"أنهى عَنْ كُلِّ مُسكرٍ أسكرَ عَنِ الصَّلاةِ".
وروى هشامُ بنُ عمَّارٍ في كتاب "المبعث"
(3)
بإسناده عن أبي سلَّام الحبشيِّ، قال: حُدِّثْتُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَان يقول: "فُضِّلْتُ على مَنْ قَبلِي بستٍّ ولا فخر"، فذكر منها: قال: "وأُعطِيتُ جَوامعَ الكَلِم، وكانَ أهلُ الكتابِ يجعلونها جزءًا باللَّيل إلى الصَّباح، فجمعها لي ربِّي في آيةٍ واحدةٍ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1] ".
فجوامعُ الكلم التي خُصَّ بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نوعان:
أحدهما: - ما هو في القُرآن، كقوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] قال الحسنُ: لم تترك هذه الآيةُ خيرًا إِلَّا أَمرت به، ولا شرًّا إلَّا نَهتْ عنه
(4)
.
والثَّاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو منتشرٌ موجودٌ في السُّنن المأثورةِ عنه
= الهيثمي في "المجمع" 8/ 263، فهو ضعيف.
(1)
رقم (1733)(71) ص 1587، وصححه ابن حبان (5376). وانظر الحديث السادس والأربعين من هذا الكتاب.
(2)
البتع: نبيذ يُصنع من العسل، والمِزر: يصنع من الذرة والشعير والحنطة.
(3)
أي: "مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهو غير مطبوع، وقد ذكره الوادي آشي في "برنامجه" ص 237 - 238، والسوسي في "صلة الخلف بموصول السلف" ورقة 112/ أ.
وأبو سلام الحبشي: اسمه ممطور الأسود الحبشي، ثقة من رجال مسلم، وخبره هذا مرسل.
(4)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" كما في "الدر المنثور" 5/ 160.
- صلى الله عليه وسلم. وقد جمع العُلماءُ جموعًا من كلماتِه صلى الله عليه وسلم الجامِعَةِ، فصنِّف الحافظُ أبو بكر بن السُّنِّيِّ كتابًا سماه:"الإِيجاز وجوامع الكلم مِنَ السُّنَن المأثورة"، وجمع القاضي أبو عبدِ الله القُضاعي مِنْ جوامع الكلم الوجيزة كتابًا سمَّاه:"الشهاب في الحِكَم والآداب"
(1)
، وصنَّفَ على مِنوالِه قومٌ آخرون، فزادُوا على ما ذكره زيادةً كثيرةً. وأشار الخطَّابيُّ في أوَّل كتابه "غريب الحديث"
(2)
إلى يسير من الأحاديث الجامعة.
وأملى الإِمامُ الحافظُ أبو عمرو بنُ الصَّلاح مجلسًا سمَّاه "الأحاديثَ الكلّيّة"، جمع فيه الأحاديثَ الجوامعَ الَّتي يُقال: إنَّ مدارَ الدِّين عليها، وما كان في معناها مِنَ الكلمات الجامعةِ الوجيزةِ، فاشتمل مجلسهُ هذا على ستَّةٍ وعشرين حديثًا.
ثمَّ إنَّ الفقيهَ الإمامَ الزَاهِدَ القُدوةَ أبا زكريا يحيى النَّوويَّ رحمةُ اللهِ عليهِ أخذَ هذه الأَحاديثَ التي أملاها ابنُ الصَّلاحِ، وزادَ عليها تمامَ اثنينِ وأربعينَ حديثًا، وسمى كتابه "بالأَربعين"؛ واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها، وكَثُرَ حفظُها، ونفع الله بها ببركة نيَّة جامِعِها، وحُسْنِ قصدِه رحمه الله.
وقد تكرَّر سؤالُ جماعةٍ مِنْ طلبةِ العلمِ والدِّينِ لتعليق شرحٍ لهذه الأحاديث المُشارِ إليها، فاستخرتُ الله سبحانه وتعالى في جمع كتاب يتضمَّنُ شرح ما يُيسِّرُه الله تعالى مِنْ معانيها، وتقييد ما يفتحُ به سبحانه من تبيين قواعدِها ومبانيها، وإيَّاه أسألُ العونَ على ما قَصَدْتُ، والتَّوفيقَ لصلاح النِّيَّةِ والقصد فيما أردتُ، وأُعَوِّلُ في أمري كلّه عليه، وأبرأ مِنَ الحَوْلِ والقُوَّةِ إلَّا إليه.
وقد كان بعضُ مَنْ شرحَ هذه الأَربعينَ قد تعقَّب على جامعها رحمه الله تركَه
(1)
وهو مطبوع في مؤسسة الرسالة بتحقيق الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي.
(2)
1/ 64 - 67.
لحديثِ: "أَلحِقُوا الفَرائِضَ بأهلها، فما أبقتِ الفرائِضُ، فلأَوْلَى رجُلٍ ذكرٍ"
(1)
، قال: لأنَّه جامعٌ لقواعدِ الفرائض التي هي نصفُ العلمِ، فكان ينبغي ذكرهُ في هذه الأحاديث الجامعة، كما ذكرَ حديثَ:"البيِّنَةُ على المُدَّعي، واليمينُ على من أنكر"
(2)
لجمعه لأحكامِ القضاء.
فرأيتُ أنا أن أضُمَّ هذا الحديثَ إلى أحاديثِ الأربعين التي جمعها الشيخُ رحمه الله، وأن أضُمَّ إلى ذلك كُله أحاديثَ أُخَرَ مِنْ جَوامعِ الكَلِمِ الجامِعَةِ لأنواعِ العُلوم والحِكَمِ، حتَّى تكمُلَ عدَّةُ الأحاديث كلّها خمسينَ حديثًا، وهذه تسميةُ الأحاديثِ المزيدة على ما ذكره الشيخُ رحمه الله في كتابه -:
حديث: "ألحِقوا الفَرائِضَ بأهلها"، حديث:"يحرُمُ مِنَ الرَّضَاع ما يَحْرُمُ من النَّسَب"، حديث:"إن الله إذا حرَّمَ شيئًا، حرَّم ثَمَنَهُ"، حديث:"كلُّ مُسكِرٍ حرامٌ"، حَديث:"ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطن"، حديث:"أَربَعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان مُنافِقًا"، حديث:"لو أَنَّكم توكَّلون على اللهِ حَقَّ توكُّلِهِ، لرَزَقَكُم كما يرزُقُ الطَّير"، حديث "لا يزالُ لسانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكر اللهِ عز وجل"
(3)
. وسمَّيته:
(1)
وهو الحديث الثالث والأربعون.
(2)
حديث حسن. رواه الترمذي (1341) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد ضعيف.
ورواه البيهقي 10/ 252 من حديث ابن عباس، وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 5/ 283، وانظر "تلخيص الحبير" 4/ 39.
وروى البخاري (2514) و (2668) و (4552)، ومسلم (1711)، وأبو داود (3619)، والترمذي (1343)، والنسائي 8/ 248، وابن ماجه (2321) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدَّعى عليه.
(3)
وهي من الحديث الثالث والأربعين إلى الحديث الخمسين.
جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم
واعلم أنه ليس غرضي إلَّا شرحُ الألفاظ النَّبويَّةِ التي تضمَّنَتْها هذه الأحاديثُ الكلِّية، فلذلك لا أتقيَّد بألفاظِ الشَّيخِ رحمه الله في تراجمِ رُواةِ هذه الأَحاديث مِنَ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، ولا بألفاظه في العَزْوِ إلى الكُتب التي يعزُو إليها، وإنَّما آتي بالمعنى الذي يدلُّ على ذلك، لأني قد أعلمتُك أنَّه ليس لي غرضٌ إلَّا في شرح معاني كلمات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الجوامع، وما تضمَّنَته مِنَ الآداب والحِكَمِ والمعارف والأحكام والشَّرائع.
وأشيرُ إشارةً لطيفةً قبلَ الكلامِ في شرح الحديث إلى إسناده، ليُعْلَمَ بذلك صحَّتُهُ وقوَّتُه وضعفُه، وأذكرُ بعضَ ما رُوي في معناه مِنَ الأحاديث إنْ كان في ذلك البابِ شيءٌ غير الحديث الذي ذكره الشيخ، وإنْ لم يكن في الباب غيرُه، أو لم يكن يصحُّ فيه غيره، نبَّهت على ذلك كلِّه، وباللهِ المستعان، وعليه التُّكلانُ، ولا حَولَ ولا قوَّة إلَّا باللهِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث الأول
عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّمَا الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امرئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ، فهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُها أو امرأةٍ يَنكِحُهَا، فهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إليهِ". رواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ
(1)
.
هذا الحديثُ تفرَّد بروايته يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ عن محمَّدِ بن إبراهيمَ التَّيميِّ، عن علقمة بن وقَّاصٍ اللَّيثيِّ، عن عُمَر بن الخطَّابِ رضي الله عنه،
(1)
البخاري (1) و (54) و (2529) و (3898) و (5070) و (6689) و (6953)، ومسلم (1907). ورواه أيضًا الحميدي (28)، والطيالسي ص 9، وأحمد 1/ 25 و 43، وابن المبارك في "الزهد"(88)، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)، والنسائي 1/ 58 - 60 و 6/ 158، وابن ماجه (4227)، ومالك في "الموطأ"(983) برواية محمد بن الحسن، وابن حبان (388) و (389)، وابن الجارود (64)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 96، والدارقطني في "السنن" 50/ 15، وفي "العلل" 2/ 194، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1171) و (1172)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 1/ 41 و 298 و 2/ 14، 4/ 112 و 235 و 5/ 39 و 6/ 331 و 7/ 341، وفي "المعرفة" ص 189 و 190، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 42، وفي "أخبار أصبهان" 2/ 115، والخطيب البغدادي في "تاريخه" 4/ 244 و 9/ 346، والبغوي في "شرح السنة"(1) و (206).
وليس له طريق تصحُّ غير هذه الطريق، كذا قاله عليُّ بنُ المدينيِّ وغيرُه. وقال الخطابيُّ
(1)
: لا أعلمُ خلافًا بين أهكِ الحديثِ في ذلك، مع أنَّه قد رُوِي من حديث أبي سعيدٍ
(2)
وغيره، وقد قيل: إنَّه رُوي من طُرقٍ كثيرةٍ، لكن لا يصحُّ من ذلك شيءٌ عندَ الحُفَّاظ.
ثمَّ رواهُ عن الأنصاريِّ الخلقُ الكثيرُ والجمُّ الغفيرُ، فقيل: رواهُ عنهُ أكثرُ مِن مئتي راوٍ، وقيل: رواه عنه سبعُ مئة راوٍ
(3)
، ومِنْ أعيانهم: مالكٌ، والثَّوريُّ،
(1)
انظر "الفتح" 1/ 11، و"طرح التثريب" 2/ 3، و"الترغيب والترهيب" 1/ 57.
(2)
قال الحافظ العراقي في "طرح التثريب" 2/ 4: حديث أبي سعيد رواه الخطابي في "معالم السنن"، والدارقطني في "غرائب مالك"، وابن عساكر في "غرائب مالك" من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روَّاد عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري. وهو غلط من ابن أبي روّاد.
وقال الدارقطني في "العلل" 2/ 193: رواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، ولم يتابع عليه.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" 1/ 131: سئل أبي عن حديث رواه نوح بن حبيب عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد. . . فذكره، وقال: قال أبي: هذا حديث باطل لا أصل له، إنما هو مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" 1/ 55: قال أبو إسماعيل الهروي: كتبت هذا الحديث عن سبع مئة نفرٍ من أصحاب يحيى بن سعيد، قلت (القائل ابن حجر): تتبعتُه من الكتب والأجزاء، حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزءٍ، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقًا. وقال في "الفتح" 1/ 11 بعد أن ذكر كلام أبي إسماعيل الهروي: وأنا أستبعد صحَّة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة، منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المئة.
والأوزاعيُّ، وابنُ المبارك، واللَّيثُ بنُ سعدٍ، وحمَّادُ بنُ زيدٍ، وشعبةُ، وابنُ عُيينةَ، وغيرُهم.
واتَّفقَ العُلماءُ على صحَّته وتَلَقِّيهِ بالقَبولِ، وبه صدَّر البخاريُّ كتابَه "الصَّحيح"، وأقامه مقامَ الخُطبةِ له، إشارةً مثه إلى أن كلَّ عملٍ لا يُرادُ به وجهُ الله، فهو باطلٌ، لا ثمرةَ له في الدُّنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ مهدي: لو صنَّفتُ الأبوابَ، لجعلتُ حديثَ عمرَ في الأعمالِ بالنِّيَّةِ في كلِّ بابٍ، وعنه أنَّه قال: مَنْ أَرادَ أنْ يصنِّفَ كتابًا، فليبدأ بحديثِ "الأعمال بالنِّيات"
(1)
.
وهذا الحديثُ أحدُ الأحاديثِ الَّتي يدُورُ الدِّين عليها، فرُويَ عن الشَّافعيِّ أنَّه قال: هذا الحديثُ ثلثُ العلمِ، ويدخُلُ في سبعينَ بابًا مِنَ الفقه
(2)
.
وعَن الإمام أحمدَ قال
(3)
: أصولُ الإِسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمرَ: "الأعمالُ بالنِّيَّات"، وحديثُ عائشة:"مَنْ أحدثَ في أمرِنا ما ليس مِنهُ، فهوَ ردٌّ" وحديثُ النُّعمانِ بن بشيرٍ: "الحلالُ بيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ". وقال الحاكمُ: حدَّثُونا عَنْ عبدِ الله بن أحمدَ، عن أبيه أنَّه ذكرَ قوله عليه الصلاة والسلام:"الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"، وقوله:"إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُم يُجْمَعُ في بطن أُمِّهِ أربَعِينَ يَومًا"، وقوله:"مَنْ أَحْدَث في دِيننا ما لَيْسَ منه فَهوَ ردٌّ" فقال: ينبغيَ أنْ يُبدأ بهذه الأحاديثِ في كُلِّ تصنيفٍ، فإنَّها أصولُ الحديث.
(1)
انظر "شرح مسلم" 13/ 53، و"شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد ص 12، و "الفتح" 1/ 11.
(2)
انظر "طرح التثريب" 2/ 5، و"شرح مسلم" 13/ 53، و"الفتح" 1/ 99، و"شرح الأربعين" لابن دقيق العيد ص 12.
(3)
انظر "طرح التثريب" 2/ 5، و"الفتح" 1/ 11.
وعن إسحاقَ بن راهَوَيْهِ، قال: أربعةُ أحاديث هي مِنْ أُصولِ الدِّين: حديث عُمَر: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات"، وحديث:"الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ"، وحديث "إنَّ خَلْقَ أَحدِكُم يُجْمَعُ في بطنِ أمّه"، وحديث "مَنْ صَنَعَ في أمرِنا شيئًا ليس منه، فهو رَدٌّ".
وروى عثمان بنُ سعيدٍ عن أبي عُبيدٍ، قال: جَمَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم جميعَ أمر الآخرةِ في كلمةٍ: "مَنْ أَحدثَ في أمرنا ما ليس منه، فهو رَدٌّ"، وجمع أمرَ الدُّنيا كلَّه في كلمةٍ:"إنَّما الأعمالُ بالنِّيات" يدخلان في كل باب.
وعن أبي داودَ، قال
(1)
: نظرتُ في الحديثِ المُسنَدِ، فإذا هو أربعةُ آلافِ حديثٍ، ثمَّ نظرتُ، فإذا مدارُ الأربعة آلافِ حديث على أربعةِ أحاديث: حديثِ النُّعمان بن بشيرٍ: "الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ"، وحديث عمر:"إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"، وحديثِ أبي هُريرة:"إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا، وإنَّ الله أمرَ المؤمِنين بما أمرَ به المُرسلين" الحديث، وحديثِ:"مِنْ حُسنِ إسلام المرءِ تَركُهُ ما لا يعنيه". قال: فكلُّ
(2)
حديثٍ مِنْ هذه ربعُ العلمِ.
وعن أبي داودَ أيضًا، قال: كتبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مئة ألف حديثٍ، انتخبتُ منها ما ضَمَّنْتُهُ هذا الكتاب - يعني كتابَ "السنن" - جمعت فيه أربعةَ آلاف وثمان مئة حديثٍ
(3)
، ويكفي الإِنسانَ لدينه مِنْ ذلك أربعةُ أحاديث: أحدُها: قولُه صلى الله عليه وسلم: "الأعمالُ بالنِّيَّات"، والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسنِ إسلام المرء تركُهُ ما لا يعنيه"، والثالث: قولُه صلى الله عليه وسلم: "لا يكونُ المُؤمِنُ مؤمنًا حتَّى لَا
(1)
انظر "التمهيد" لابن عبد البر 9/ 201، و"طرح التثريب" 2/ 5 - 6.
(2)
في (ج): "وكل".
(3)
عدد الأحاديث في المطبوع من "سنن أبي داود" برواية اللؤلؤي (5274) حديثًا.
يرضى لأخيه إلَّا ما يرضى لنفسه"، والرَّابع: قولُه صلى الله عليه وسلم: "الحلال بيِّنٌ، والحرامُ بيِّنٌ".
وفي رواية أخرى عنه أنه قال: الفقه يدورُ على خمسةِ أحاديث: "الحلال بَيِّنٌ، والحرامُ بيِّنٌ"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضَررَ ولا ضِرارَ"، وقوله:"الأَعمالُ بالنِّيَّات"، وقوله:"الدِّينُ النَّصيحةُ"، وقوله:"وما نهيتُكم عنه، فاجتنبُوه، وما أمرتُكم به، فائتُوا مِنهُ ما استطعتم".
وفي رواية عنه، قال: أصولُ السُّنن في كلِّ فنٍّ أربعةُ أحاديث: حديث عمر "الأعمال بالنِّياتِ"، وحديث:"الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّنٌ"، وحديث:"مِنْ حُسنِ إسلامِ المرء تَركُهُ ما لا يعنيه"، وحديث:"ازْهَدْ في الدُّنيا يحبَّكَ الله، وازهد فيما في أيدي النَّاس يُحِبَّك النَّاسُ".
وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوِّز المعافري الأندلسي
(1)
:
عُمْدَةُ الدِّينِ عندنَا كلماتٌ
…
أربعٌ مِنْ كلامِ خيرِ البريَّه
اتَّق الشُّبهَاتِ وازهَدْ ودَعْ ما
…
لَيسَ يَعْنِيكَ وأَعمَلَنَّ بِنِيَّه
فقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"، وفي رواية:"الأعمالُ بالنِّيَّات".
وكلاهما يقتضي الحصرَ على الصَّحيح، وليس غرضنا ها هنا توجيه ذلك، ولا بسط القولِ فيه.
وقد اختلف في تقدير قوله: "الأعمالُ بالنياتِ"، فكثير مِنَ المتأخِّرين يزعُمُ
(1)
هو الإمام الحافظ الناقد المجود: أبو الحسن طاهر بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري، تلميذ أبي عمر بن عبد البر وخصيصه. كان إمامًا، من أوعية العلم وفرسان الحديث، وأهل الإتقان والتحرير، مع الفضل والورع، والتقوى والوقار والسمت. توفي سنة 484 هـ. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 19/ 88. وانظر الأبيات في "الفتوحات الربانية" لابن علان 1/ 64، و"شرح النسائي" للسيوطي 7/ 242.
أن تقديرَه: الأعمالُ صحيحةٌ، أو معتَبَرةٌ، أو مقبولة بالنِّيَّاتِ، وعلى هذا، فالأعمالُ إنَّما أُرِيدَ بها الأعمالُ الشَّرعيَّةُ المفتَقِرةُ إلى النِّيَّة، فأمَّا ما لا يفتقِرُ إلى النيَّة كالعادات مِنَ الأكل والشُّرب، واللُّبسِ وغيرِها، أو مثلِ ردِّ الأماناتِ والمضمونات، كالودائعِ والغُصوب، فلا يَحتَاجُ شيءٌ من ذلك إلى نيَّةٍ، فيُخَصُّ هذا كلُّه من عمومِ الأعمال المذكورة ها هُنا.
وقال آخرون: بل الأعمال هنا على عُمومها، لا يُخَصُّ منها شيءٌ. وحكاه بعضُهم عن الجمهور، وكأنَّه يريدُ به جمهورَ المتقدِّمين، وقد وقع ذلك في كلام ابن جريرٍ الطَّبريِّ، وأبي طالبٍ المكِّيِّ وغيرِهما من المتقدِّمين، وهو ظاهرُ كلامِ الإمام أحمدَ.
قال في رواية حنبلٍ: أُحِبُّ لكلِّ مَنْ عَمِلَ عملًا مِنْ صلاةٍ، أو صيامٍ، أو صَدَقَةٍ، أو نوعٍ مِنْ أنواعِ البِرِّ أنْ تكونَ النِّيَّةُ متقدِّمَةً في ذلك قبلَ الفعلِ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"، فهذا يأتي على كل أمرٍ مِنَ الأُمورِ.
وقال الفضلُ بنُ زيادٍ: سألتُ أبا عبد الله - يعني أحمدَ - عَنِ النِّيَّةِ في العملِ، قلت: كيف النيةُ؟ قال: يُعابرُ نفسَه، إذا أراد عملًا لا يريدُ به النَّاس.
وقال أحمدُ بنُ داودَ الحربي: حدَّث يزيدُ بنُ هارونَ بحديثِ عمر: "الأعمالُ بالنياتِ" وأحمدُ جالسٌ، فقال أحمد ليزيدَ: يا أبا خالدٍ، هذا الخناقُ.
وعلى هذا القول، فقيل: تقديرُ الكلام: الأعمال واقعة أو حاصلة بالنِّيَّاتِ، فيكونُ إخبارًا عن الأعمالِ الاختيارية أنها لا تقعُ إلَّا عَنْ قصدٍ مِنَ العاملِ هو سببُ عملها ووجودِها، ويكونُ قولُه بعدَ ذلك:"وإنَّما لامرى ما نوى" إخبارًا عن حكمِ الشَّرع، وهو أن حظَّ العاملِ مِنْ عمله نيَّتُه، فإنْ كانت صالحةً، فعملُهُ صالحٌ، فله أجرُه، وإن كانت فاسدةً، فعمله فاسدٌ، فعليه وِزْرُهُ.
ويحتمل أن يكون التَّقدير في قوله: "الأعمال بالنيات": الأعمالُ صالحةٌ،
أو فاسدةٌ، أو مقبولةٌ، أو مردودةٌ، أو مثابٌ عليها، أو غير مثابٍ عليها؛ بالنِّيَّاتِ، فيكونُ خبرًا عن حكمٍ شرعي، وهو أن صلاحَ الأعمال وفسادَها بحسب صلاحِ النِّيات وفسادِها، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّما الأعمالُ بالخواتيم"
(1)
أي: إنَّ صلاحَها وفسادَها وقَبُولَها وعدمَه بحسب الخاتمة.
وقوله بعد ذلك: "وإنَّما لامرئٍ ما نوى" إخبارٌ أنَّه لا يحصلُ له مِنْ عمله إلَّا ما نواه به، فإنْ نَوى خيرًا، حصل له خير، وإنْ نَوى شرًا، حصل له شرٌّ، وليس هذا تكريرًا محضًا للجُملة الأولى، فإنَّ الجُملةَ الأولى دلَّت على أن صلاحَ العمل وفسادَه بحسب النِّيَّة المقتضيَةِ لإيجاده، والجملة الثَّانية دلَّت على أن ثوابَ العاملِ على عمله بحسب نيَّته الصَّالحة، وأنَّ عقابَه عليه بحسب نيَّته الفاسدة، وقد تكونُ نيَّتُهُ مباحة، فيَكونُ العملُ مباحًا، فلا يحصل له به ثوابٌ ولا عقابٌ، فالعملُ في نفسه صلاحُه وفسادُه وإباحَتُه بحسب النيَّة الحاملةِ عليه، المقتضية لوجودِهِ، وثوابُ العامل وعقابُه وسلامتُه بحسب نيَّته التي بها صار العملُ صالحًا، أو فاسدًا، أو مباحًا.
واعلم أن النيَّةَ في اللُّغة نوعٌ من القَصدِ والإرادة، وإن كان قد فُرق بينَ هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره.
والنِّيَّةُ في كلام العُلماء تقعُ بمعنيين:
أحدهما: بمعنى تمييز العباداتِ بعضها عن بعضٍ، كتمييزِ صلاة الظُّهر مِنْ صلاةِ العصر مثلًا، وتمييزِ صيام رمضانَ مِنْ صيام غيرِهِ، أو تمييزِ العباداتِ مِنَ العادات، كتمييزِ الغُسلِ من الجَنَابةِ مِنْ غسل التَّبرُّد والتَّنظُّف، ونحو ذلك، وهذه النيَّةُ هي التي تُوجَدُ كثيرًا في كلامِ الفُقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني: بمعنى تمييزِ المقصودِ بالعمل، وهل هو الله وحدَه لا
(1)
رواه من حديث سهل بن سعد البخاري (6493) و (6607).
شريكَ له، أم غيره، أم الله وغيرُه، وهذه النية هي الَّتي يتكلَّمُ فيها العارِفُونَ في كتبهم في كلامهم على الإِخلاص وتوابعه، وهي الَّتي تُوجَدُ كثيرًا في كلام السَّلَفِ المتقدِّمين.
وقد صنَّفَ أبو بكر بنُ أبي الدُّنيا مصنَّفًا سمَّاه: كتاب "الإخلاص والنية"، وإنَّما أراد هذه النية، وهي النيةُ التي يتكرَّر ذكرُها في كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم تارةً بلفظ النيةِ، وتارةً بلفظ الإِرادة، وتارةً بلفظٍ مُقارب لذلك، وقد جاء ذكرُها كثيرًا في كتابِ الله عز وجل بغيرِ لفظِ النِّيَّةِ أيضًا مِنَ الألفاظ المُقاربَةِ لها.
وإنَّما فرَّقَ مَنْ فَرَّق بين النيةِ وبينَ الإِرادة والقصدِ ونحوهما، لظنِّهم اختصاصَ النية بالمعنى الأوَّلِ الذي يَذْكُرُهُ الفقهاءُ، فمنهم من قال: النيةُ تختصُّ بفعلِ النَّاوي، والإرادةُ لا تختصُّ بذلك، كما يريدُ الإنسانُ مِنَ اللهِ أن يغفرَ له، ولا ينوي ذلك. وقد ذكرنا أن النيةَ في كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وسلفِ الأُمَّة إنَّما يُرادُ بها هذا المعنى الثَّاني غالبًا، فهي حينئذٍ بمعنى الإرادة، ولذلك يُعبَّرُ عنها بلفظِ الإِرادة في القرآن كثيرًا، كما في قوله تعالى:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، وقوله:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67]، وقوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، وقوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18 - 19]، وقوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16]، وقوله:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]، وقوله:{ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 38 - 39].
وقد يُعَبَّر عنها في القُرآن بلفظ "الابتغاء"، كما في قوله تعالى:{إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20]، وقوله:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 265]، وقوله:{وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272]، وقوله:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
فنفى الخيرَ عَنْ كثيرٍ ممَّا يتناجى به الناسُ إلَّا في الأمرِ بالمعروف، وخصَّ من أفراده الصَّدقةَ والإِصلاحَ بينَ النَّاس لعموم نفعهما، فدل ذلك على أن التَّناجي بذلك خيرٌ، وأمّا الثوابُ عليه مِنَ اللهِ، فخصَّه بِمَنْ فعله ابتغاءَ مرضاتِ اللهِ.
وإنما جَعَل الأمرَ بالمعروفِ مِنَ الصَّدقة، والإِصلاحَ بينَ النَّاس وغيرهما خيرًا، وإنْ لم يُبْتَغَ به وجهُ اللهِ، لما يترتَّبُ على ذلك مِنَ النَّفْعِ المُتعدِّي، فَيَحْصُلُ به للنَّاسِ إحسانٌ وخيرٌ، وأمَّا بالنِّسبة إلى الأمر، فإنْ قَصَدَ به وجهَ اللهِ، وابتغاءَ مَرضاته، كان خيرًا له، وأُثِيبَ عليه، وإنْ لم يقصدْ ذلك، لم يكن خيرًا له، ولا ثوابَ له عليه، وهذا بخلاف من صامَ وصلَّى وذكرَ الله، يَقصِدُ بذلك عَرَضَ الدُّنْيا، فإنَّه لا خيرَ له فيه بالكُلِّيَّة، لأنَّه لا نفع في ذلك لصاحبه، لما يترتب عليه من الإِثم فيه، ولا لغيره، لأنه لا يتعدَّى نفعُه إلى أحدٍ، اللَّهُمَّ إلَّا أن يحصُلَ لأحدٍ به اقتداءٌ في ذلك.
وأمّا ما ورد في السُّنَّةِ، وكلام السَّلفِ مِنْ تسمية هذا المعنى بالنيَّةِ، فكثيرٌ
جدًّا، ونحن نذكر بعضَه، كما خرَّج الإِمام أحمدُ والنَّسائيّ مِنْ حديثِ عُبادةَ بن الصَّامتِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"مَنْ غَزَا في سَبيلِ الله، ولم يَنْوِ إلَّا عِقالًا، فله ما نوى"
(1)
.
وخرَّج الإِمام أحمد من حديثِ ابن مسعودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ أكثرَ شُهداءِ أُمَّتي لأصْحَابُ الفُرُشِ، ورُبَّ قتيل بَيْنَ الصفَّين الله أعلم بنيَّته"
(2)
.
وخَرَّج ابنُ ماجه من حديث جابر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يُحْشَرُ النَّاسُ على نيَّاتِهم"
(3)
. ومن حديث أبي هريرة عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّما يُبْعَثُ النَّاسُ على نِيَّاتِهم"
(4)
.
وخَرَّج ابنُ أبي الدُّنيا
(5)
من حديثِ عمر، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّما يُبعَثُ المقتتلون على النِّيَّاتِ".
وفي "صحيح مسلم" عن أمِّ سلمةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يعوذُ عائذٌ بالبيتِ، فيُبعَثُ إليه بعثٌ، فإذا كانوا ببيداءَ مِنَ الأَرضِ، خُسِفَ بهم"، فقلت:
(1)
رواه أحمد 5/ 315 و 320، والنسائي 6/ 24. ورواه أيضًا الدارمي 2/ 208، وصححه ابن حبان (4638).
(2)
هو في "المسند" 1/ 397، وهو - على إرساله - فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.
(3)
هو في "سنن ابن ماجه"(4230)، وهو مع كون أحد رواته - وهو شريك القاضي - سيء الحفظ، صحيح بشواهده، وصححه الحاكم 2/ 452.
(4)
هو في "سنن ابن ماجه"(4229). ورواه أيضًا أحمد 2/ 392، وحسنه الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 1/ 57.
(5)
في كتاب "الإخلاص والنية". ورواه أيضًا أبو يعلى في "المسند الكبير" كما في "مجمع الزوائد" 10/ 332، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" كما في "الجامع الصغير" للسيوطي. وفي سنده عمرو بن شمر، كذبه غير واحد، واتُّهم بالوضع، وساق له الذهبي في "الميزان" 3/ 368 - 369 أحاديث منكرة، منها هذا الحديث.
يا رسولَ اللهِ، فكيف بمَنْ كان كارهًا؟ قال:"يُخْسَفُ به معهم، ولكنَّه يُبعَثُ يومَ القيامة على نيَّته"
(1)
.
وفيه أيضًا عَنْ عائشة، عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا الحديث، وقال فيه:"يهلِكون مَهْلِكًا واحدًا، ويَصدُرُونَ مصادرَ شتَّى، يبعثُهم الله على نيَّاتهم"
(2)
.
وخرّج الإمام أحمد وابنُ ماجه مِنْ حديث زيدِ بن ثابتٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ كانتِ الدُّنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره، وجَعَلَ فقرَه بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدُّنْيا إلَّا ما كُتِبَ له، ومَنْ كَانَتِ الآخرةُ نيَّتَه، جمَعَ الله له أمرَه، وجعل غِناه في قلبهِ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ". لفظُ ابن ماجه، ولفظُ أحمد:"مَنْ كانَ همُّه الآخرة، ومن كانت نيَّته الدُّنيا"
(3)
، وخرجه ابن أبي الدنيا، وعنده:"من كانت نيته الدنيا، ومن كانت نيته الآخرة".
وفي "الصَّحيحين" عن سعد بن أبي وقَّاصٍ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّكَ لن تُنفِقَ نفقةً تبتغي بِها وجهَ اللهِ إلَّا أُثِبْتَ عليها، حتَّى اللُّقمَة تجعلُها في في امرأتك"
(4)
.
وروى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادٍ منقطعٍ
(5)
عن عُمرَ، قال: لا عَمَلَ لِمَنْ لا نيَّةَ
(1)
هو في "صحيح مسلم"(2882)، ورواه الترمذي (1272).
(2)
هو في (صحيح مسلم)(2884)، ورواه البخاري (2118)، وأحمد 6/ 105 و 259، وابن حبان (6755).
(3)
صحيح. رواه أحمد 5/ 183، وابن ماجه (4105)، وصححه ابن حبان (680).
(4)
رواه البخاري (56) و (1295) و (2742) و (3936) و (4409) و (6733)، ومسلم (1628)، ومالك 2/ 763، وأحمد 1/ 179، رالترمذي (2116)، وابن حبان (4249) و (6026).
(5)
وهو من أقسام الضعيف.
له، ولا أجْرَ لمَنْ لا حِسْبَةَ لهُ يعني: لا أجر لمن لم يحتسبْ ثوابَ عمله عندَ الله عز وجل.
وبإسنادٍ ضعيفٍ عن ابن مسعودٍ، قال: لا ينفعُ قولٌ إلَّا بعمل، ولا ينفعُ قولٌ وعَملٌ إلَّا بنيَّة، ولا ينفعُ قولٌ وعملٌ ونيَّةٌ إلَّا بما وافق السُّنَّةَ.
وعن يحيى بن أبي كثير، قال: تعلَّموا النِّيَّة، فإنَّها أبلغُ من العَمَلِ
(1)
.
وعن زُبَيدٍ اليامي، قال: إنِّي لأحبُّ أن تكونَ لي نيَّةٌ في كلِّ شيءٍ، حتَّى في الطَّعام والشَّراب، وعنه أنه قال: انْوِ في كلِّ شيءٍ تريدُه الخيرَ، حتَّى خروجك إلى الكُناسَةِ.
وعن داود الطَّائيِّ، قال: رأيتُ الخيرَ كلَّه إنَّما يجمعُه حُسْنُ النِّيَّةِ، وكفاك به خيرًا وإن لم تَنْصَبْ. قال داود: والبِرُّ هِمَّةُ التَّقيِّ، ولو تعلَّقت جميع جوارحه بحبِّ الدُّنيا، لردَّته يومًا نيَّتُهُ إلى أصلِهِ.
وعن سفيانَ الثَّوريِّ، قال: ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي، لأنَّها تتقلَّبُ عليَّ
(2)
.
وعن يوسُفَ بن أسباط، قال: تخليصُ النِّيةِ مِنْ فسادِها أشدُّ على العاملينَ مِنْ طُولِ الاجتهاد
(3)
.
وقيل لنافع بن جُبير: ألا تشهدُ الجنازةَ؟ قال: كما أنتَ حتَّى أنوي، قال: ففكَّر هُنَيَّة، ثم قال: امض.
(1)
حلية الأولياء 3/ 70.
(2)
"حلية الأولياء" 7/ 5 و 62، وفيه:"نفسي" بدل "نيتي".
(3)
وفي "الحلية" 10/ 121 نحوه عن عبد الله بن مطرف.
وعن مطرِّف بن عبدِ الله قال: صلاحُ القلب بصلاحِ العملِ، وصلاحُ العملِ بصلاحِ النيَّةِ
(1)
.
وعن بعض السَّلَف قال: مَنْ سرَّه أن يَكْمُلَ له عملُه، فليُحسِن نيَّته، فإنَّ الله عز وجل يأجُرُ العَبْدَ إذا حَسُنَت نيَّته حتَّى باللُّقمة.
وعن ابن المبارك، قال: رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ، وربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ.
وقال ابن عجلان: لا يصلحُ العملُ إلَّا بثلاثٍ: التَّقوى لله، والنِّيَّةِ الحسنَةِ، والإصابة.
وقال الفضيلُ بنُ عياض: إنَّما يريدُ الله عز وجل منكَ نيَّتَك وإرادتَك.
وعن يوسف بن أسباط، قال: إيثارُ الله عز وجل أفضلُ من القَتل في سبيله.
خرَّج ذلك كلَّه ابنُ أبي الدُّنيا في كتاب "الإخلاص والنيَّة".
وروى فيه بإسنادٍ منقطع عن عُمَر رضي الله عنه، قال: أفضلُ الأعمال أداءُ ما افترضَ الله عز وجل، والورعُ عمَّا حرَّم الله عز وجل، وصِدْقُ النِّيَّةِ فيما عندَ اللهِ عز وجل.
وبهذا يعلم معنى ما رُوي عن الإِمامِ أحمدَ أن أُصولَ الإِسلام ثلاثةُ أحاديث: حديثُ: "الأعمال بالنِّيَّات"، وحديثُ:"مَنْ أحدثَ في أمرِنا ما ليس منه، فهو رَدٌّ"، وحديثُ:"الحلالُ بيِّنٌ والحَرامُ بيِّنٌ". فإنَّ الدِّين كلَّه يرجعُ إلى فعلِ الماموراتِ، وترك المحظورات، والتَّوقُف عن الشُّبُهاتِ، وهذا كلُّه تضمَّنه حديثُ النُّعمان بن بشيرٍ.
(1)
"حلية الأولياء" 2/ 199.
وإنَّما يتمُّ ذلك بأمرين:
أحدهما: أنْ يكونَ العملُ في ظاهره على موافقَةِ السُّنَّةِ، وهذا هو الذي تضمَّنه حديثُ عائشة:"مَنْ أحدَثَ في أمرنا ما ليس منه، فهو رَدٌّ".
والثاني أن يكونَ العملُ في باطنه يُقْصَدُ به وجهُ الله عز وجل، كما تضمَّنه حديث عمر:"الأعمالُ بالنِّيَّاتِ".
وقال الفضيلُ في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، قال: أخلصُه
(1)
وأصولُه. وقال: إنَّ العملَ إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا، لم يقبل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا، لم يقبل حتَّى يكون خالصًا صوابًا، قال: والخالصُ إذا كان لله عز وجل، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّة.
وقد دلّ على هذا الَّذي قاله الفضيلُ قولُ الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وقال بعضُ العارفينَ: إنَّما تفاضَلُوا بالإِرادات، ولم يتفاضَلُوا بالصَّوم والصَّلاة.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ كانت هجرتُهُ إلى اللهِ ورسوله، فهجرتُهُ إلى الله ورسولهِ، ومَنْ كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبُها، أو امرأة ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه".
لما ذكر صلى الله عليه وسلم أن الأعمالَ بحسبِ النِّيَّاتِ، وأنَّ حظَّ العاملِ من عمله نيَّتُه مِنْ خيرٍ أو شرٍّ، وهاتانِ كلمتانِ جامِعتانِ، وقاعِدَتانِ كلِّيَّتانِ، لا يخرُجُ عنهما شيءٌ، ذكر بعدَ ذلك مثالًا من أمثال الأعمال الَّتي صُورتُها واحدةٌ، ويختَلِفُ صلاحُها وفسادُها باختلافِ النِّيَّاتِ، وكأنَّه يقول: سائرُ الأعمالِ على حَذوِ هذا المثال.
وأصلُ الهجرة: هِجرانُ بلدِ الشِّرك، والانتقالُ منه إلى دارِ الإِسلام، كما
(1)
انظر: "تفسير البغوي" 4/ 369.
كان المهاجرونَ قبلَ فتحِ مكَّة يُهاجرون منها إلى مدينة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد هاجرَ مَنْ هاجَرَ منهم قبلَ ذلك إلى أرض الحبشة إلى النَّجاشيِّ.
فأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرةَ تختلفُ باختلافِ النيَّات والمقاصدِ بها، فمن هاجَرَ إلى دار الإسلام حُبًّا لله ورسوله، ورغبةً في تعلُّم دينِ الإِسلام، وإظهارِ دينِه حيث كان يعجِزُ عنه في دارِ الشِّركِ، فهذا هو المهاجِرُ إلى الله ورسوله حقًّا، وكفاه شرفًا وفخرًا أنَّه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله.
ولهذا المعنى اقتصرَ في جواب هذا الشرط على إعادتِهِ بلفظه، لأنَّ حُصولَ ما نواه بهجرته نهايةُ المطلوب في الدُّنيا والآخرة.
ومن كانت هجرتُهُ من دارِ الشِّرك إلى دارِ الإسلام لطَلَب دُنيا يُصيبها، أو امرأةٍ ينكِحُها في دارِ الإِسلام، فهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليه مِنْ ذلكَ، فالأوَّل تاجرٌ، والثَّاني خاطب، وليسَ واحد منهما بمهاجرٍ.
وفي قوله: "إلى ما هاجرَ إليه" تحقيرٌ لِمَا طلبه من أمر الدُّنيا، واستهانةٌ به، حيث لم يذكره بلفظه. وأيضًا فالهجرةُ إلى اللهِ ورسولهِ واحدةٌ فلا تعدُّد فيها، فلذلك أعادَ الجوابَ فيها بلفظ الشَّرط.
والهجرةُ لأمور الدُّنيا لا تنحصِرُ، فقد يُهاجِرُ الإِنسانُ لطلبِ دُنيا مُباحةٍ تارةً، ومحرَّمةٍ أخرى، وأفرادُ ما يُقصَدُ بالهجرةِ من أُمورِ الدُّنيا لا تنحصِرُ، فلذلك قال:"فهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليه"، يعني كائنًا ما كان.
وقد رُويَ عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} الآية [الممتحنة: 10]. قال: كانت المرأةُ إذا أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، حلَّفها بالله: ما خرجت من بُغضِ زوجٍ، وبالله: ما خرجت رغبةً بأرضٍ عنْ أرضٍ، وباللهِ: ما خرجت التماسَ دُنيا، وبالله: ما خرجت إلَّا
حُبًّا لله ورسوله. خرجهُ ابنُ أبي حاتم، وابنُ جريرٍ، والبزَّارُ في "مسنده"
(1)
، وخرَّجه الترمذي في بعض نسخ كتابه مختصرًا.
وقد روى وكيعٌ في كتابه عن الأعمش، عن شقيقٍ - هو أبو وائلٍ - قال: خطبَ أعرابيٌّ مِنَ الحيِّ امرأةً يقال لها: أمَّ قيسٍ، فابت أن تزوَّجهُ حتَّى يُهاجِرَ، فهاجَرَ، فتزوَّجته، فكُنَّا نُسمِّيه مهاجرَ أمِّ قيسٍ. قال: فقال عبدُ الله: يعني ابن مسعود: مَنْ هاجَر يبتغي شيئًا، فهو له
(2)
.
وهذا السِّياقُ يقتص أن هذا لم يكن في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنما كان في عهدِ ابن مسعودٍ، ولكن رُوي مِنْ طريقِ سفيانَ الثَّوريِّ، عَن الأَعمش، عن أبي وائلٍ، عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجلٌ خطبَ امرأةً يقال لها: أمَّ قيسٍ، فأبت أن تزوَّجَه حتَّى يهاجِرَ، فهاجرَ، فتزوَّجها، فكنَّا نسمِّيه مهاجرَ أمِّ قيسٍ. قال ابنُ مسعودٍ: مَنْ هاجرَ لشيءٍ فهو له
(3)
.
وقد اشتهرَ أن قصَّةَ مُهاجرِ أمِّ قيسٍ هي كانت سببَ قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكِحُها"، وذكر ذلك كثير من المتأخِّرين
(1)
رواه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" 67/ 28، والبزّار (2272)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 7/ 123، وقال: فيه قيس بن الرّبيع، وثّقه شعبة والثوري، وضعّفه غيرهما.
وأورده السّيوطي في "الدرّ المنثور" 8/ 137، ونسبه لابن أبي أسامة، والبزّار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وحسَّن إسناده.
(2)
ورواه سعيد بن منصور في "سننه" ومن طريقه الطبراني في "المعجم الكبير"(8540) عن أبي معاوية عن الأعمش بهذا الإسناد، وقال الهيثمي في "مجمع الزّوائد" 2/ 101: رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ ابن حجر: وهذا إسناد صحيح على شرط الشّيخين.
(3)
رجاله ثقات كما قال في "طرح التثريب" 2/ 25.
في كُتُبهم، ولم نر لذلك أصلًا بإسنادٍ يصحُّ، والله أعلمُ
(1)
.
وسائر الأعمال كالهجرةِ في هذا المعنى، فصلاحُها وفسادُها بحسب النِّيَّة الباعثَةِ عليها، كالجهادِ والحجِّ وغيرهما، وقد سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن اختلاف نيَّاتِ النَّاس في الجهاد وما يُقصَدُ به من الرِّياء، وإظهار الشَّجاعة والعصبيَّة، وغير ذلك: أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "مَنْ قاتَل لِتَكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا، فهو في سبيل الله" فخرج بهذا كلُّ ما سألوا عنه من المقاصد الدُّنيوية.
ففي "الصَّحيحين" عن أبي موسى الأشعريِّ أنَّ أعرابيًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: الرَّجُلُ يُقاتِلُ للمَغْنمِ، والرَّجلُ يُقاتِل للذِّكر، والرَّجُلُ يقاتِل ليُرى مكانُهُ، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قاتَلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا، فهو في سبيل الله".
وفي رواية لمسلم: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شجاعةً، ويقاتِلُ حميَّةً، ويقاتل رياءً، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فذكرَ الحديث.
وفي رواية له أيضًا: الرجُلُ يقاتِلُ غضبًا، ويُقاتلُ حَمِيَّةً
(2)
.
وخَرَّج النَّسائيُّ من حديث أبي أُمامة، قال: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمِسُ الأجرَ والذِّكْرَ، ما لَهُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا شيءَ له"، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله لا يَقبلُ من العمل إلَّا ما كانَ خالصًا، وابتُغي به وجهُهُ"
(3)
.
(1)
قال الحافظ في "الفتح" 1/ 10: لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التّصريح بذلك.
(2)
رواه البخاري (123) و (2810) و (3126) و (7458)، ومسلم (1904)، وأبو داود (2517)، والتّرمذي (1646)، والنسائي 6/ 23، وابن ماجه (2783).
(3)
رواه النّسائي 6/ 25، والطبراني (7628) وحسَّنه الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث =
وخرَّج أبو داود
(1)
من حديث أبي هريرة أن رجلًا قال: يا رسول اللهِ، رجلٌ يريدُ الجِهادَ وهو يبتغي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنيا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أجر له"، فأعاد عليه ثلاثًا، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول:"لا أجْرَ له".
وخَرَّج الإِمام أحمدُ وأبو داود مِنْ حديثِ مُعاذِ بن جبلٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الغزوُ غَزوانِ، فأمَّا من ابتغى وجهَ الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمةَ، وياسرَ الشَّريكَ، واجتنبَ الفسادَ، فإنَّ نومَهُ ونَبهَهُ أجرٌ كلُّه، وأمَّا مَنْ غَزا فخرًا ورياءً وسُمعةً، وعصى الإِمام، وأفسدَ في الأرض، فإنَّه لم يرجع بالكفاف"
(2)
.
وخرَّج أبو داود
(3)
من حديث عبدِ الله بن عمرٍو قال: قلتُ: يا رسول الله، أخبرني عن الجِهاد والغزو، فقال:"إن قاتلت صابرًا محتسبًا، بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإنْ قاتلتَ مُرائيًا مُكاثرًا، بعثكَ الله مُرائيًا مُكاثرًا، على أيِّ حالٍ قاتَلْتَ أو قُتِلْتَ بعثكَ الله على تِيك الحالِ".
= الإحياء" 4/ 384، وجود إسنادَه المصنفُ ص 14، والسيوطي في "الدر المنثور" 5/ 472.
(1)
برقم (2516)، وفي سنده رجل مجهول، ومع ذلك صححه الحاكم 2/ 85، ووافقه الذهبي!.
(2)
حديث صحيح رواه أحمد 5/ 234، وأبو داود (2515)، ورواه أيضًا النسائي 6/ 49 وصححه الحاكم 2/ 85 على شرط مسلم ووافقه الذهبي، ورواه مالك في "الموطأ" 2/ 466 - 467 موقوفًا على معاذ، وإسناده صحيح.
والكريمة: أي: أنفق الأموال الكريمة، وياسر الشريك، قال الباجي: يريد موافقتَه في رأيه مما يكون طاعةً، ومتابعته عليه، وقلَّة مشاحَّتِه فيما يُشاركه فيه من نفقة أو عمل.
(3)
برقم (2519)، وصححه الحاكم 2/ 85 - 86 و 112، ووافقه الذهبي، مع أن فيه رجلين مجهولين!.
وخرَّح مسلمٌ
(1)
من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى يومَ القيامةِ عليه رجلٌ استُشهِدَ، فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمَهُ، فعرفها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتَّى استُشْهِدتُ، قال: كذبتَ، ولكنَّكَ قاتلتَ، لأنْ يُقالَ: جَريءٌ، فقد قيل، ثمَّ أُمِرَ به، فسُحِبَ على وجهه، حتى أُلقي في النَّارِ، ورجلٌ تعلَّمَ العلمَ وعلَّمه، وقرأَ القُرآن، فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمَهُ فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيكَ القرآنَ. قال: كذبتَ، ولكنَّكَ تعلَّمت العلمَ، ليُقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القرآنَ ليقال: هو قارئٌ، فقد قيلَ، ثمَّ أُمِر به، فسُحِب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصنافِ المال كلِّه، فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمَهُ، فعرفها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تُحبُّ أن يُنفقَ فيها إلَّا أنفقتُ فيها لكَ. قال: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلتَ، ليُقالَ: هو جوادٌ، فقد قيلَ، ثمَّ أمِر به، فسُحب على وجهه، حتَّى أُلقي في النار".
وفي الحديث: إنَّ معاويةَ لمَّا بلغه هذا الحديثُ، بكى حتَّى غُشِي عليه، فلمَّا أفاق، قال: صدَقَ الله ورسولُه، قال الله عز وجل:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود: 15 - 16].
وقد وردَ الوعيدُ على تعلُّم العِلم لغيرِ وجه الله، كما خرجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود وابنُ ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تعلَّم عِلمًا مِمَّا يُبتَغى به وجهُ الله، لا يتعلَّمُه إلَّا لِيُصِيبَ به عرَضًا من الدُّنيا، لم
(1)
برقم (1905)، ورواه أيضًا أحمد 2/ 322، والنّسائي 6/ 23 بهذا اللفظ. ورواه بلفظ آخر - وفيه قصة معاوية - الترمذي (2382) وحسّنه، وصححه ابن حبان (408).
يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّة يومَ القِيامَةِ" يعني: ريحها
(1)
.
وخرَّج الترمذيُّ
(2)
من حديثِ كعبِ بن مالك، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ طَلَب العلمَ ليُمارِي به السُّفهَاء، أو يُجاري به العُلَماء، أو يَصرِفَ به وجُوهَ النَّاسِ إليه، أدخله الله النَّار"
(3)
.
وخرَّجه ابن ماجه بمعناه مِنْ حَديثِ ابن عمرَ، وحذيفةَ، وجابرٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولفظُ حديثِ جابرٍ:"لا تَعَلَّموا العِلمَ، لتُباهُوا به العُلَماءَ، ولا لِتُماروا به السُّفَهاءَ، ولا تَخَيَّروا به المجالس، فمَنْ فعل ذلك، فالنَّارَ النَّارَ".
وقال ابنُ مسعودٍ: لا تعلَّموا العِلمَ لثلاثٍ: لِتُماروا به السُّفَهاء، أو لتُجادِلوا به الفُقهاء، أو لتصرفوا به وُجُوهَ النَّاس إليكم، وابتغُوا بقولِكُم وفعلِكم ما عندَ اللهِ، فإنَّه يبقَى ويذهبُ ما سواهُ
(4)
.
وقد ورد الوعيدُ على العمل لغيرِ اللهِ عمومًا، كما خرَّجَ الإِمامُ أحمدُ
(5)
من حديثِ أبيّ بن كعبٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "بَشِّرْ هذه الأمَّةَ
(1)
حديث صحيح رواه أحمد 2/ 338، وأبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وصححه ابن حبان (78) والحاكم 1/ 85، ووافقه الذهبي.
(2)
برقم (265)، وقال: هذا حديث غريب، أي: ضعيف، ويشهد له حديث أبي هريرة السّابق والأحاديث الآتية.
(3)
حديث ابن عمر رواه ابن ماجه (253)، وإسناده ضعيف كما ذكر البوصيري في "زوائد ابن ماجه" لكنّه يتقوى بالأحاديث الأخرى، وحديث حذيفة عند ابن ماجه برقم (259) وضعفه البوصيري. وحديث جابر عند ابن ماجه (254)، وصححه ابن حبان (77)، والحاكم 1/ 86.
(4)
ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 1/ 176.
(5)
في "المسند" 5/ 134، وصححه ابن حبان (405).
بالسَّناء والرِّفْعَة والدِّين والتمكينِ في الأرض، فمن عَمِلَ منهُم عملَ الآخرةِ للدُّنْيا، لم يكنْ له في الآخرةِ نصيبٌ".
واعلم أن العمل لغيرِ اللهِ أقسامٌ: فتارةً يكونُ رياءً محضًا، بحيثُ لا يُرادُ به سوى مراآت المخلوقين لغرض دُنيويٍّ، كحالِ المنافِقين في صلاتهم، كما قال الله عز وجل:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 4 - 6].
وكذلك وصف الله الكفار بالرِّياء في قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47].
وهذا الرِّياءُ المحضُ لا يكاد يصدُرُ من مُؤمنٍ في فرض الصَّلاةِ والصِّيام، وقد يصدُرُ في الصَّدقةِ الواجبِة أو الحجِّ، وغيرهما من الأعمال الظاهرةِ، أو الَّتي يتعدَّى نفعُها، فإنَّ الإخلاص فيها عزيزٌ، وهذا العملُ لا يشكُّ مسلمٌ أنَّه حابِطٌ، وأنَّ صاحبه يستحقُّ المقتَ مِنَ اللهِ والعُقوبة.
وتارةً يكونُ العملُ للهِ، ويُشارِكُه الرِّياءُ، فإنْ شارَكَهُ مِنْ أصله، فالنُّصوص الصَّحيحة تدلُّ على بُطلانِهِ وحُبُوطه أيضًا.
وفي "صحيح مُسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يقولُ الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّركاءِ
(1)
عن الشِّرك، مَنْ عَمِل عملًا أشركَ فيه معي غيري، تركته وشريكَه"، وخرَّجه ابنُ ماجه، ولفظه: "فأنا منه بريءٌ، وهوَ لِلّذي أشركَ"
(2)
.
(1)
في الأصول: "الأغنياء"، والمثبت من "صحيح مسلم".
(2)
رواه مسلم (2985)، وابن ماجه (4202)، وأحمد 2/ 301 و 435، وصححه ابن حبان =
وخرَّج الإمام أحمد
(1)
عن شدّاد بن أوس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ صَلَّى يُرائِي، فقد أشرَكَ، ومنْ صَامَ يُرائِي، فقد أشرَكَ، ومن تَصدَّقَ يُرائِي، فقد أشرك، وإنَّ الله عز وجل يقولُ: أنا خيرُ قسيمٍ لِمَنْ أشرَكَ بي شيئًا، فإنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قليله وكثيره لشريكِهِ الَّذي أشركَ به أنا عنه غنيٌّ".
وخرَّج الإمام أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجه مِنْ حديث أبي سعيد بن أبي فضالةَ - وكانَ مِنَ الصَّحابة - قال: قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأوَّلين والآخِرين ليومٍ لا ريبَ فيه، نادَى مُنادٍ: مَنْ كانَ أشركَ في عمل عمِلَهُ للهِ عز وجل، فليَطلبْ ثوابَهُ من عند غيرِ الله عز وجل، فإنَّ الله أغنى الشُّركاءِ عن الشِّرك"
(2)
.
وخرَّج البزّار في "مسنده"
(3)
من حديثِ الضَّحَّاكِ بن قَيس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الله عز وجل يقول: أنا خيرُ شريكٍ، فمن أَشركَ معي شريكًا، فهو لشرِيكي. يا أيُّها النَّاسُ أَخلِصوا أعمالَكُم للهِ عز وجل، فإنَّ الله لا يقبَلُ مِنَ الأَعمالِ إلَّا ما أُخْلِصَ لَهُ، ولا تقولوا: هذا للهِ وللرَّحِمِ، فإنَّها للرَّحِم، وليس للهِ منها شيءٌ، ولا تقولوا: هذا للهِ ولوجُوهِكُم، فإنَّها لوجوهكم، وليس لله فيها شيءٌ".
= (395).
(1)
4/ 125 - 126، ورواه أيضًا الطيالسي (1120)، والطبراني في "الكبير"(7139)، والحاكم 4/ 329، وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف، وبعضهم حسّن حديثه، وانظر "مجمع الزّوائد" 10/ 221.
(2)
رواه أحمد 3/ 466 و 4/ 215، والترمذي (3154)، وقال: حسَن غريب - وابن ماجه (4203)، وصححه ابن حبان (404).
(3)
برقم (3567)، وقال الهيثمي في "المجمع": 10/ 221 رواه البزّار عن شيخه إبراهيم بن مجشر. وثقه ابن حبان وغيره، وفيه ضعف، وبقيّة رجاله رجال الصّحيح.
قلت: وقال الذهبي في إبراهيم بن مجشر: هو صويلح في نفسه. وأورده السّيوطي في "الدرّ المنثور" 5/ 472، وزاد نسبته لابن مردويه والبيهقي، وقال: إسناده لا بأس به.
وخَرَّج النَّسائيُّ
(1)
بإسنادٍ جيِّدٍ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ أن رجُلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ رجُلًا غزا يلتَمِسُ الأجْرَ والذِّكْر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا شَيءَ لهُ" فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا شيء له"، ثمَّ قال:"إنَّ الله لا يقبلُ منَ العَمَل إلَّا ما كانَ له خالِصًا، وابتُغِي به وجهُه".
وخَرَّج الحاكمُ
(2)
مِنْ حديث ابن عباس: قال رجل: يا رسول الله، إني أقف الموقف أُريد وجْه اللهِ، وأريدُ أنْ يُرى موطِني، فلم يردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا حتَّى نزلت:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وممَّن رُوي عنه هذا المعنى، وأنَّ العملَ إذا خالطه شيءٌ مِنَ الرِّياءِ كان باطلًا: طائفةٌ من السَّلفِ، منهم عبادةُ بنُ الصَّامتِ، وأبو الدَّرداءِ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ المسيِّبِ، وغيرُهم.
وفي مراسيلِ القاسم بن مُخَيمرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يَقبلُ الله عملًا فيه مثقالُ حبَّةِ خردلٍ مِنْ رياءٍ"
(3)
.
ولا نعرفُ عن السَّلفِ في هذا خلافًا، وإنْ كانَ فيه خلافٌ عَنْ بعضِ المتأخِّرينَ.
فإنْ خالطَ نيَّةَ الجهادِ مثلًا نيَّةٌ غيرُ الرِّياءِ، مثلُ أخذِ أجرة للخِدمَةِ، أو أخذ
(1)
تقدّم تخريجه، ص 25، ت (3).
(2)
2/ 111 من طريق عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن طاووس، عن ابن عبّاس مرفوعًا. وهو في كتاب "الجهاد" لابن المبارك (12) عن طاووس مرسلًا، وكذا رواه من طريق ابن المبارك عن طاووس مرسلًا: الطبري 16/ 40، والحاكم 4/ 329، وعبد الرزاق، وابن أبي الدنيا في "الإخلاص" وابن أبي حاتم، والطبراني، فيما ذكره السُّيوطي في "الدُّرِّ المنثور" 5/ 469.
(3)
ورواه أبو نعيم في "الحلية" 8/ 240 عن يوسف بن أسباط قولَه.
شيءٍ مِنَ الغنيمةِ، أو التِّجارة، نقصَ بذلك أجرُ جهادهم، ولم يَبطُل بالكلِّيَّة، وفي "صحيح مسلم" عن عبدِ اللهِ بن عمروٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الغُزَاةَ إذا غَنِموا غنيمةً، تعجَّلوا ثُلُثي أجْرِهِم، فإنْ لم يغنَمُوا شيئًا، تمَّ لهُم أجرُهم"
(1)
.
وقد ذكرنا فيما مضى أحاديثَ تدلُّ على أن مَنْ أراد بجهاده عَرَضًا مِنَ الدُّنيا أنه لا أجرَ له، وهي محمولةٌ على أنه لم يكن له غرَضٌ في الجهاد إلَّا الدُّنيا.
وقال الإمامُ أحمدُ: التَّاجِرُ والمستأجر والمُكاري أجرهم على قدر ما يخلُصُ من نيَّتهم في غزاتِهم، ولا يكونُ مثل مَنْ جاهَدَ بنفسه ومالِه لا يَخلِطُ به غيرَهُ.
وقال أيضًا فيمن يأخذُ جُعْلًا على الجهاد: إذا لم يخرج لأجلِ الدَّراهم، فلا بأس أن يأخذَ، كأنَّه خرجَ لدِينِه، فإنْ أُعطي شيئًا، أخذه.
وكذا رُوي عن عبد الله بن عمروٍ، قال: إذا أجمعَ أحدُكم على الغزوِ، فعوَّضَه الله رزقًا، فلا بأسَ بذلك، وأمَّا إنْ أَحدُكُم إنْ أُعطي درهمًا غزا، وإنْ مُنع درهمًا مكث، فلا خيرَ في ذلك.
وكذا قال الأوزاعي: إذا كانت نيَّةُ الغازي على الغزو، فلا أرى بأسًا.
وهكذا يُقالُ فيمن أخذَ شيئًا في الحَجِّ ليحُجَّ به: إمَّا عَنْ نفسه، أو عَنْ غيرِه، وقد رُويَ عنْ مُجاهد أنَّه قال في حجِّ الجمَّال وحجِّ الأجيرِ وحجِّ التَّاجِر: هو تمامٌ لا يَنقُصُ من أُجُورهم شيءٌ، وهو محمولٌ على أن قصدهم الأصليَّ كان هو الحجَّ دُونَ التَّكسُّب.
وأمَّا إنْ كان أصلُ العمل للهِ، ثم طرأت عليه نيَّةُ الرِّياءِ، فإنْ كان خاطرًا
(1)
رواه مسلم (1906)، ورواه أيضًا أحمد 2/ 169، وأبو داود (2497)، والنّسائي 6/ 17 - 18، وابن ماجه (2785).
ودفَعهُ، فلا يضرُّه بغير خلافٍ، وإن استرسلَ معه، فهل يُحبَطُ به عملُه أم لا يضرُّه ذلك ويجازى على أَصلِ نيَّته؟ في ذلك اختلافٌ بين العُلماءِ مِنَ السَّلَف قد حكاه الإِمامُ أحمدُ وابنُ جريرٍ الطَّبريُّ، ورجَّحا أن عمله لا يبطلُ بذلك، وأنَّه يُجازى بنيَّتِه الأُولى، وهو مرويٌّ عن الحسنِ البصريِّ وغيره.
ويُستدلُّ لهذا القولِ بما خَرَّجه أبو داود في "مراسيله"
(1)
عن عطاءٍ الخُراسانيِّ أن رجلًا قال: يا رسولَ الله، إنَّ بنِي سلِمةَ كُلَّهم يقاتلُ، فمنهم من يُقاتِلُ للدُّنيا، ومِنهم من يُقاتِلُ نَجدةً، ومنهم مَنْ يُقاتلُ ابتغاءَ وجهِ الله، فأيُّهُم الشَّهيد؟ قال:"كلُّهم إذا كان أصلُ أمرِه أن تكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا".
وذكر ابنُ جريرٍ أنَّ هذا الاختلافَ إنَّما هو في عمل يرتَبطُ آخرُه بأوَّلِه، كالصَّلاةِ والصِّيام والحجِّ، فأمَّا ما لا ارتباطَ فيه كالقراءةِ والذِّكر وإنفاقِ المالِ ونشرِ العلم، فإنَّه ينقطعُ بنيَّةِ الرِّياءِ الطَّارئةِ عليه، ويحتاجُ إلى تجديدِ نَيَّةٍ.
وكذلك رُوي عن سُليمانَ بن داود الهاشميّ
(2)
أنَّه قال: ربَّما أُحَدِّثُ بحديثٍ ولي نيَّةٌ، فإذا أتيتُ على بعصه، تغيَّرت نيَّتي، فإذا الحديثُ الواحدُ يحتاج إلى نيَّاتٍ.
ولا يَرِدُ على هذا الجهادُ، كما في مُرسل عطاءٍ الخراساني، فإنَّ الجهادَ يلزَم بحُضورِ الصَّفِّ، ولا يجوزُ تركُه حينئذٍ، فيصيرُ كالحجِّ.
فأمَّا إذا عَمِلَ العملَ للهِ خالصًا، ثم ألقى الله لهُ الثَّناء الحسنَ في قُلوبِ المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشَرَ بذلك، لم يضرَّه ذلك.
(1)
برقم (321)، وهو على إرساله ضعيف من جهة إسناده.
(2)
هو أبو أيوب سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عبّاس، الهاشمي. فقيه ثقة جليل، من رجال التهذيب، توفي سنة 219 هـ. وقوله هذا ذكره الخطيب البغدادي في "تاريخه" 9/ 31، والمزي في "تهذيب الكمال" 11/ 412، والذهبي في "السّير" 10/ 625.
وفي هذا المعنى جاء حديثُ أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه سُئِلَ عن الرَّجُل يعملُ العمَلَ لله مِنَ الخير ويحمَدُه النَّاسُ عليه
(1)
، فقال:"تلكَ عاجلُ بُشرى المؤمن" خرَّجه مسلم، وخرَّجه ابن ماجه، وعندَه: الرَّجُلُ يعمَلُ العملَ للهِ فيحبُّه النَّاسُ عليه. وبهذا المعنى فسَّره الإِمامُ أحمدُ، وإسحاقُ بن راهويه، وابنُ جريرٍ الطَّبريّ وغيرهم.
وكذلك الحديثُ الذي خرَّجه الترمذيُّ وابنُ ماجه مِنْ حديثِ أبي هريرةَ أن رجُلًا قال: يا رسول الله، الرَّجُلُ يعملُ العملَ، فيُسِرُّهُ، فإذا اطُّلع عليه، أَعجَبهُ، فقال:"له أجران: أجرُ السِّرِّ، وأجرُ العلانيَةِ"
(2)
.
ولنقتَصِر على هذا المقدار مِنَ الكلامِ على الإِخلاصِ والرِّياء، فإنَّ فيه كفايةً.
وبالجملةِ، فما أحسن قولٍ سهلِ بن عبد الله التُّستري: ليس على النَّفس شيءٌ أشقَّ مِنَ الإخلاصِ، لأنَّه ليس لها فيه نصيبٌ.
وقال يوسفُ بنُ الحسينِ الرازيُّ: أعزّ شيءٍ في الدُّنيا الإخلاصُ، وكم أَجتهد في إسقاطِ الرِّياءِ عَنْ قلبي، وكأنه ينبُتُ فيه على لون آخر.
وقال ابنُ عيينةَ: كان من دُعاءِ مطرِّف بن عبد الله: اللَّهمَّ إنِّي أستغفرُكَ ممَّا تُبتُ إليكَ منه، ثمّ عُدتُ فيه، وأستغفرُكَ ممَّا جعلتُهُ لكَ على نفسي، ثمَّ لم أَفِ لكَ به، وأستغفركَ ممَّا زعمتُ أنِّي أردتُ به وجهَك، فخالطَ قلبي منه ما قد علمتَ.
(1)
رواه مسلم (2642)، وابن ماجه (4225)، وأحمد 5/ 156 و 157 و 168، وصححه ابن حبان (366) و (367).
(2)
رواه الترمذي (2384)، وابن ماجه (4226)، وصححه ابن حبان (375) مع أن فيه حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلِّس، وقد عنعن.
فصل
وأمَّا النِّيَّةُ بالمعنى الَّذي يذكره الفُقهاءُ، وهو أن تمييزَ العبادات من العاداتِ، وتمييز العباداتِ بعضها مِنْ بعض، فإنَّ الإِمساكَ عن الأكلِ والشُّرب يقعُ تارةً حميةً، وتارةً لعدمِ القُدرةِ على الأكل، وتارةً تركًا للشهواتِ للهِ عز وجل، فيحتاجُ في الصِّيامِ إلى نيَّةٍ ليتميَّزَ بذلك عَنْ تركِ الطَّعامِ على غيرِ هذا الوجه.
وكذلك العباداتُ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ، منها فرضٌ، ومنها نفلٌ.
والفرضُ يتنوَّعُ أنواعًا، فإنَّ الصَّلواتِ المفروضاتِ خمسُ صلواتِ كلَّ يومٍ وليلةٍ، والصَّومُ الواجبُ تارةً يكونُ صيامَ رمضان، وتارةً صيامَ كفَّارةٍ، أو عن نذرٍ، ولا يتميَّزُ هذا كلُّه إلَّا بالنِّيَّةِ، وكذلك الصَّدقةُ، تكونُ نفلًا، وتكونُ فرضًا، والفرضُ منه زكاةٌ، ومنه كفَّارةٌ، ولا يتميَّزُ ذلكَ إلَّا بالنِّيَّةِ، فيدخلُ ذلك في عمومِ قوله صلى الله عليه وسلم:"وإنَّما لامرئٍ ما نَوى".
وفي بعضِ ذلك اختلافٌ مشهورٌ بينَ العُلماء فإنَّ منهم مَنْ لا يُوجِبُ تعيينَ النِّيَّةِ للصَّلاةِ المفروضَةِ، بل يكفي عندَه أن ينويَ فرضَ الوقتِ، وإنْ لم يستحضِرْ تسميتَه في الحال، وهو روايةٌ عن الإِمام أحمدَ. ويُبنى على هذا القولِ: أن منْ فاتَته صلاةٌ مِنْ يومٍ وليلةٍ، ونسيَ عينَها، أن عليه أن يقضي ثلاثَ صلواتٍ: الفجرَ والمغربَ ورُباعيَّةً واحدة
(1)
.
وكذلك ذهبَ طائفةٌ مِنَ العُلماءِ إلى أن صيامَ رمضانَ لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ تعيينية أيضًا، بل تُجزئُ بنيَّة الصِّيامِ مُطلقًا، لأنَّ وقتَه غيرُ قابلٍ لصيامٍ آخر،
(1)
قال صاحب "المبدع" 1/ 358: وإن نسي صلاة من خمس يجهل عينها صلّى خمسًا نصّ عليه بنيَّة الفرض، وعنه: فجرًا، ثمّ مغربًا، ثمّ رباعية.
وهو أيضًا روايةً عن الإمام أحمدَ
(1)
. وربَّما حُكِي عن بعضِهم أن صيامَ رمضانَ لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ بالكُلِّيَّةِ، لتعيينه بنفسه، فهو كردِّ الودائع، وحُكِي عن الأوزاعيِّ أن الزَّكاةَ كذلك. وتأوَّلَ بعضُهم قولَه على أنَّه أرادَ أنَّها تُجزئُ بنيَّةِ الصَّدقةِ المُطلَقَةِ كالحجِّ. وكذلك قال أبو حنيفة: لو تصدَّق بالنِّصاب كله مِنْ غيرِ نيَّةٍ، أجزأه عن زكاته.
وقد رُوي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه سَمع رجُلًا يُلبِّي بالحَجِّ عنْ رجُلٍ، فقال له: أحَجَجْت عن نَفسك؟ " قال: لا، قال: "هذه عَنْ نفسِك، ثمَّ حُجَّ عن الرَّجُلِ". وقد تُكُلِّم في صحَّةِ هذا الحديثِ، ولكنَّه صحيحٌ عن ابن عبَّاسٍ وغيره
(2)
. وأخذ بذلك الشَّافعيُّ وأحمدُ في المشهور عنه وغيرُهما، في أن حَجَّة الإسلام تسقطُ بنيَّةِ الحجِّ مطلقًا، سواءً نوى التَّطُّوعَ أو غيرَه، ولا يُشتَرطُ للحجِّ تعيينُ النِّيَّةِ، فمنْ حجَّ عنْ غيرِه، ولم يحجَّ عن نفسِهِ، وقع عنْ نفسه، وكذا لو حجَّ عَنْ نذرهِ، أو نفلًا، ولم يكن حجَّ حجَّةَ الإِسلام، فإنه ينقلِبُ عنها، وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه أمرَ أصحابَهُ في حجَّةِ الوداعِ بعدَ ما دخلُوا معه، وطافوا، وسعَوا أنْ يَفسَخُوا حجَّهم، ويجعلوها عمرةً، وكان منهم القارنُ والمفرِدُ
(3)
، وإنَّما كانَ طوافُهم عندَ قُدومهم طوافَ القدومِ وليسَ بفرضٍ، وقد أمرهم أن يجعلُوه
(1)
انظر: "المغني" 3/ 93.
(2)
رواه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وأبو يعلى (2440)، والدّارَقطني 2/ 270، وصححه ابن خزيمة (3039)، وابن حبان (3988).
(3)
رواه من حديث جابر البخاري (1568) و (1651) و (1785)، ومسلم (1213) - (1216)، وأبو داود (1785) - (1789)، والنسائي 5/ 178 - 179.
ورواه من حديث ابن عبّاس البخاري (1564)، ومسلم (1240)، وأبو داود (1987)، والنّسائي 5/ 180 - 181 و 201 - 202، وأحمد 1/ 252.
طوافَ عمرةٍ وهو فرضٌ، وقد أخذَ بذلكَ الإمامُ أحمدُ في فسخِ الحجِّ، وعملَ به، وهو مشكلٌ على أصلهِ، فإنَّه يُوجِبُ تعيينَ الطوافِ الواجب للحجِّ والعمرة بالنِّيَّةِ، وخالفَهُ في ذلك أكثرُ الفُقهاءِ، كمالكٍ والشَّافعيِّ وأبي حنيفةَ.
وقد يفرِّقُ الإمامُ أحمدُ بينَ أنْ يكونَ طوافُهُ في إحرامٍ انقلبَ، كالإِحرام الَّذي يفسخُه، ويجعلهُ عمرةً، فينقلبُ الطَّوافُ فيه تبعًا لانقلاب الإحرامِ، كما ينقلبُ الطَّوافُ في الإِحرامِ الَّذي نوى به التَّطوُّعَ إذا كان عليهَ حَجَّةُ الإسَلام، تبعًا لانقلاب إحرامهِ مِنْ أصَله، ووقوعِه عن فَرضِه، بخلاف ما إذا طافَ للزيارةِ بنيَّةِ الودَاعِ، أو التَّطُّوعِ، فإنَّ هذا لا يُجزئه لأنَّه لم يَنوِ به الفَرضَ، ولم ينقلبْ فرضًا تبعًا لانقلابِ إحرامِه، والله أعلمُ.
وممَّا يدخُلُ في هذا الباب: أن رجلًا في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كانَ قد وضعَ صدقتَه عندَ رجُلٍ، فجاءَ ابنُ صاحب الصَّدقَةِ، فأخذها ممَّن هي عنده، فعلم بذلكَ أبوهُ، فخاصمه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما إيَّاكَ أردتُ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للمتصدِّقِ:"لكَ ما نَويتَ"، وقال للآخِذِ:"لَك ما أخذْتَ" خرَّجه البخاريُّ
(1)
.
وقد أخذَ الإمامُ أحمدُ بهذا الحديثِ، وعملَ به في المنصوصِ عنه، وإنْ كان أكثرُ أصحابِهِ على خلافِه، فإنَّ الرَّجُلَ إنَّما يُمنعُ من دفعِ الصَّدقةِ إلى ولده خشيةَ أن يكونَ محاباةً، فإذا وصلتْ إلى ولده من حيثُ لا يشعر، فالمحاباةُ منتفيَةٌ، وهو مِنْ أهلِ استحقاقِ الصَّدقةِ في نفس الأمرِ، ولهذا لو دفعَ صدقَته إلى مَنْ يظنُّه فقيرًا، وكان غنيًّا في نفس الأمرِ، أجزَأتهُ على الصَّحيحِ، لأنَّه إنَّما دفَعَ إلى مَنْ يعتقدُ استحقاقَه، والفقرُ أمَرٌ خفيٌّ، لا يكادُ يُطَّلعُ على حقيقته.
وأمَّا الطَّهارةُ، فالخلافُ في اشتراطِ النِّيَّةِ لها مشهورٌ، وهو يرجعُ إلى أن الطَّهارةَ للصَّلاةِ هل هي عبادةٌ مستقلَّةٌ، أم هي شرطٌ من شروطِ الصَّلاةِ، كإزالةِ
(1)
برقم (1422).
النَّجاسةِ، وسَترِ العورةِ؟ فمن لم يشترِط لها النِّيَّةَ، جعلها كسائرِ شُروطِ الصَّلاةِ، ومَنِ اشترطَ لها النِّيَّةَ، جعلها عبادةً مُستقلَّةً، فإذا كانت عبادةً في نفسها، لم تصحَّ بدونِ نيَّةٍ، وهذا قولُ جمهور العلماءِ، ويدلُّ على صحَّةِ ذلك تكاثرُ النُّصوصِ الصَّحيحةِ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: بأنَّ الوُضوءَ يكفِّر الذُّنوبَ والخطايا، وأنَّ مَنْ توضَّأ كما أُمِرَ، كان كَفَّارةً لذُنوبه
(1)
.
وهذا يدلُّ على أن الوُضوءَ المأمورَ به في القرآنِ عبادةٌ مستقلَّةٌ بنفسها، حيث رتَّب عليه تكفيرَ الذنوبِ، والوضوءُ الخالي عن النِّيَّةِ لا يُكفرُ شيئًا من الذُّنوبِ بالاتِّفاقِ، فلا يكونُ مأمورًا به، ولا تصحُّ به الصَّلاةُ، ولهذا لم يَرِد في شيءٍ من بقيَّةِ شرائطِ الصَّلاةِ، كإزالةِ النَّجاسةِ، وسَترِ العورةِ ما ورد في الوُضوءِ مِنَ الثَّواب، ولو شَرَكَ بينَ نيَّةِ الوُضوءِ، وبينَ قصدِ التَّبرُّد، أو إزالةِ النَّجاسةِ أو الوسخَ، أجزأه في المنصوصِ عن الشَّافعيِّ، وهو قولُ أكثرِ أصحاب أحمدَ، لأنَّ هذا القصدَ ليسَ بمحرَّمٍ، ولا مَكروهٍ، ولهذا لو قصدَ مع رفعِ الحدَثِ تعليمَ الوضوءِ، لم يضرَّهُ ذلك. وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقصِدُ أحيانًا بالصَّلاةِ تعليمَها للنَّاس، وكذلك الحجُّ، كما قال:"خذوا عنِّي مناسِكَكُم"
(2)
.
وممَّا تدخُلُ النِّيَّةُ فيه مِنْ أبوابِ العلمِ: مسائلُ الأيْمان.
فلغوُ اليمينِ لا كفَّارةَ فيه، وهو ما جرى على اللِّسان منْ غيرِ قصدٍ بالقلبِ إليه، كقوله: لا والله، وبلى والله في أثناءِ الكلامِ، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ
(1)
رواه من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أحمد 1/ 66 و 69، والبخاري (160)، ومسلم (231)، والنّسائي 1/ 91، وابن ماجه (285) و (459)، وصححه ابن حبان (360).
ورواه من حديث عاصم بن سفيانَ أحمدُ 5/ 423، والدارمي 1/ 192، والنّسائي 1/ 90 - 91، وابن ماجه (1396)، وصححه ابن حبان (1042).
(2)
رواه من حديث جابر: مسلم (1297)، وأبو داود (1970)، والنّسائي 5/ 270.
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]
(1)
.
وكذلك يُرجَعُ في الأيمان إلى نيَّةِ الحالِف وما قصدَ بيمينه، فإنْ حَلَفَ بطلاقٍ أو عَتاقٍ، ثم ادَّعى أنَّه نوى ما يُخالِفُ ظاهرَ لفظه، فإنَّه يُدَيَّنُ فيما بينه وبينَ الله عز وجل.
وهل يُقبل منه في ظاهرِ الحُكم؟ فيه قولانِ للعُلماءِ مشهوران، وهما روايتانِ عَنْ أحمَدَ، وقد رُوي عَنْ عمرَ أنَّه رُفعَ إليه رجلٌ قالتْ له امرأته: شبِّهني، قال: كأنَّكِ ظبيةٌ، كأنَّك حمامةٌ، فقالت: لا أرضى حتَّى تقولَ: أنت خلِيَّةٌ طالِقٌ، فقال ذلك، فقال عمر: خذ بيدها فهي امرأتُك. خرَّجه أبو عبيد
(2)
وقال: أراد النَّاقةَ تكونُ معقولةً، ثم تُطْلَقُ من عِقالها ويُخلَّى عنها، فهي خَليَّةٌ مِنَ العِقالِ، وهي طالقٌ، لأنَّها قد طَلَقَت منه، فأرادَ الرَّجُلُ ذلك، فأسقطَ عنه عمرُ الطَّلاق لنيَّته. قال: وهذا أصلٌ لكلِّ مَنْ تكلَّم بشيءٍ يُشبه لفظَ الطَّلاق والعَتاق، وهو ينوي غيرَه أن القولَ فيه قولُه فيما بينَه وبينَ الله، وفي الحُكمِ على تأويلِ مذهب عمرَ رضي الله عنه.
ويُروى عن سُمَيطٍ السَّدوسيِّ، قال: خطبتُ امرأةً، فقالوا: لا نزوِّجُكَ حتَّى تُطلِّق امرأتَك، فقلت: إنِّي قد طلَّقتُها ثلاثًا، فزوَّجوني، ثمَّ نظروا، فإذا امرأتي عندي، فقالوا: أليسَ قد طلَّقتها ثلاثًا؟ فقلتُ: كان عندي فلانةٌ فطلقتُها، وفلانةٌ فطلَّقتُها، فأمَّا هذه، فلم أطلِّقْها، فأتيتُ شقيقَ بن ثورٍ وهو يريدُ الخروجَ إلى
(1)
روى أبو داود (3254)، وابن حبان من طريق إبراهيم بن الصائغ، قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن اللغو في اليمين، فقال: قالت عائشة: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل: كلّا واللهِ، وبلى واللهِ".
ورواه مالك 2/ 477، والبخاري (6663) عن عائشة موقوفًا. قال الحافظ في "تلخيص الحبير" 4/ 167: وصحح الدّارقطني الوقف.
(2)
في "غريب الحديث" 3/ 379 - 380.
عثمانَ وافدًا، فقلتُ: سل أميرَ المؤمنين عَنْ هذه، فخرج فسأله، فقال: نيَّتُه.
خرَّجه أبو عبيد في "كتاب الطَّلاق"، وحكى إجماعَ العُلماءِ على مِثلِ ذلكَ.
وقال إسحاقُ بنُ منصورٍ: قلتُ لأحمدَ: حديثُ السُّمَيطِ تَعرفُهُ؟ قال: نعم، السَّدوسيّ، إنَّما جعلَ نيَّته بذلك، فذكر ذلك شقيق لعثمان، فجعلها نيَّته.
فإن كانَ الحالِفُ ظالمًا، ونوى خِلافَ ما حلَّفه عليه غريمُه، لم تنفَعْه نيَّتُه، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هُريرة، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يمينُكَ على ما يُصدِّقُك عليه صاحبُك"
(1)
. وفي رواية له: "اليمينُ على نيَّةِ المُستحْلِفِ"
(2)
، وهذا محمولٌ على الظَّالم، فأمَّا المظلومُ، فينفعهُ ذلك. وقد خرَّج الإِمام أحمدُ، وابنُ ماجه مِنْ حديثِ سُويد بن حنظلةَ، قال: خرجنا نُريدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائلُ بنُ حُجْرٍ، فأخذه عدوٌّ له، فتحرَّجَ النَّاسُ أن يحلِفوا، فحلفتُ أنا إنَّه أخي، فخلى سبيلَه، فأتينا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُهُ أن القومَ تحرَّجُوا أن يحلفوا، وحلفتُ أنا إنَّه أخي، فقال:"صدقتَ، المسلمُ أخو المسلم"
(3)
.
وكذلك تدخلُ النِّيَّةُ في الطَّلاق والعَتاقِ، فإذا أتى بلفظٍ مِنْ ألفاظ الكناياتِ المحتملَةِ للطَّلاقِ أو العَتاقِ، فلا بُدَّ له من النِّيَّةِ.
وهل يقومُ مقامَ النِّيَّةِ دَلالةُ الحالِ مِنْ غضبٍ أو سُؤالِ الطَّلاقِ ونحوهِ أم لا؟
(1)
رواه مسلم (1653).
(2)
رواه مسلم (1653)، ورواه أيضًا أبو داود (3255)، والترمذي (1354)، وابن ماجه (2120).
(3)
رواه ابن ماجه (2119)، وأحمد 4/ 79، وأبو داود (3256) من طرق عن إسرائيل بن يونس بن إسحاق، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة.
ورجاله ثقات غير جدّة إبراهيم بن عبد الأعلى، فإنّها لا تعرف، لكن الحديث حسَن لغيره.
فيه خلافٌ مشهورٌ بينَ العلماءِ، وهل يقعُ بذلك الطَّلاق في الباطن كما لو نواهُ، أم يلزمُ به في ظاهر الحُكم فقط؟ فيه خلافٌ مشهورٌ أيضًا، ولو أوقعَ الطَّلاقَ بكنايةٍ ظاهرة، كالبَتَّةِ ونحوها، فهل يقعُ به الثَّلاثُ أو واحدةٌ؟ فيه قولان مشهوران، وظاهرُ مذهب أحمدَ أنَّه يقعُ به الثَّلاثُ مع إطلاقِ النِّيَّةِ، فإن نوى به ما دُونَ الثَّلاثِ، وقعَ به مَا نواه، وحُكِي عنه رواية أنَّه يلزمه الثَّلاثُ أيضًا.
ولو رأى امرأةً، فظنَّها امرأتهُ، فطلَّقها، ثم بانت أجنبيَّة، طلقَتِ امرأتُهُ، لأنَّه إنَّما قصدَ طلاقَ امرأتِهِ. نصَّ على ذلك أحمدُ، وحُكِي عنه رواية أخرى: أنَّها لا تطلُق، وهو قول الشَّافعيِّ، ولو كان العكس، بان رأى امرأةً ظنَّها أجنبيَّةً، فطلَّقها، فبانت امرأتُه، فهل تطلُق؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد، والمشهور مِنْ مذهب الشَّافعيِّ وغيره أنَّها تطلُق.
ولو كان له امرأتان، فنهى إحداهما عَن الخُروج، ثم رأى امرأةً قد خرجَتْ، فظنَّها المنهيَّةَ، فقال لها: فلانةُ خرجْتِ؟ أنَت طالقٌ، فقد اختلفَ العُلماء فيها، فقال الحسن: تطلُقُ المنهيَّةُ، لأنها هي الَّتي نواها. وقال إبراهيمُ: تطلقان، وقال عطاءٌ (7): لا تطلُق واحدةٌ منهما، ومذهبُ أحمد: أنَّه تطلُقُ المنهيَّةُ روايةً واحدةً، لأنه نوى طلاقَها. وهل تطلق المواجهة على روايتين عنه، واختلف الأصحاب على القولِ بأنَّها تطلُق: هل تطلق في الحُكم فقط، أم في الباطن أيضًا؟ على طريقتين لهم.
وقد استدلَّ بقولهِ صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيَّاتِ، وإنَّما لامرئٍ ما نوى" على أن العُقودَ الَّتي يُقصَدُ بها في الباطنِ التَّوصُّلُ إلى ما هو محرَّمٌ غيرُ صحيحةٍ، كعقودِ البُيوعِ الَّتي يُقصدُ بها معنى الرِّبا ونحوها، كما هو مذهبُ مالكٍ وأحمدَ وغيرهما، فإنَّ هذا العقدَ إنَّما نوي به الرِّبا، لا البيعَ، "وإنَّما لامرئٍ ما نوى".
ومسائلُ النِّيَّةِ المتعلِّقةُ بالفقه كثيرةٌ جدًّا، وفيما ذكرناه كفايةٌ.
وقد تقدَّم عنِ الشَّافعيِّ أنَّه قال في هذا الحديث: إنَّه يدخلُ في سبعينَ بابًا من الفقهِ، والله أعلمُ.
والنِّيَّةُ: هي قصدُ القلب، ولا يجبُ التَّلفُّظ بما في القَلب في شيءٍ مِنَ العباداتِ، وخرَّج بعضُ أصحاب الشَّافعيِّ له قولًا باشتراطِ التَّلفُّظ بالنِّيَّةِ للصلاةِ، وغلَّطه المحقِّقون منهم، واختلفَ المتأخِّرون من الفُقهاء في التَّلفُّظ بالنِّيَّة في الصَّلاة وغيرها، فمنهم مَن استحبَّه، ومنهم مَنْ كرهه.
ولا يُعلمُ في هذه المسائل نقلٌ خاصٌّ عن السَّلفِ، ولا عن الأئمَّةِ إلَّا في الحَجِّ وحدَهُ، فإنَّ مُجاهدًا قال: إذا أراد الحجَّ، يُسمِّي ما يُهلُّ به، ورُوي عنه أنَّه قال: يسمِّيه في التَّلبيةِ، وهذا ليس مِمَّا نحنُ فيه، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يذكرُ نُسُكَه في تلبيته، فيقول:"لَبَّيكَ عُمْرةً وحَجًّا"
(1)
، وإنَّما كلامُنا في أنَّه يقولُ عندَ إرادةِ عقدِ الإِحرام: اللَّهُمَّ إنِّي أُريدُ الحجَّ أو العمرةَ، كما استَحَبَّ ذلك كثيرٌ من الفُقهاءِ، وكلامُ مجاهدٍ ليس صريحًا في ذلك. وقال أكثر السَّلفِ، منهم عطاءٌ وطاووسٌ والقاسمُ بنُ محمَّدٍ والنَّخعيُّ: تجزئه النِّيَّةُ عندَ الإِهلالِ. وصحَّ عَنِ ابن عمرَ أنَّه سمعَ رجُلًا عندَ إحرامِهِ يقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أريدُ الحجَّ أو العمرةَ، فقال لهَ: أتعلمُ النَّاس؟ أوليسَ الله يعلمُ ما في نَفسكَ؟.
ونصَّ مالكٌ على مِثلِ هذا، وأنَّه لا يستحبُّ له أنْ يُسمِّيَ ما أحرمَ به. حكاه صاحب كتاب "تهذيب المدوَّنة" مِنْ أصحابه. وقال أبو داود
(2)
: قلتُ لأحمدَ: أتقولُ قبلَ التَّكبير - يعني في الصَّلاة - شيئًا؟ قال: لا. وهذا قد يدخُلُ فيه أنَّه لا يتلفَّظُ بالنِّيَّةِ. والله أعلم.
(1)
رواه مسلم (1232)، والنّسائي 5/ 150 من حديث أنسٍ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لبَّيك حجّة وعمرة".
(2)
في "مسائل الإمام أحمد" له ص 30.
الحديث الثاني
عَنْ عُمرَ بن الخَطَّاب رضي الله عنه، قالَ: بَينَمَا نَحْنُ عِندَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ، إذْ طَلَعَ علينَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَياضِ الثِّياب، شَدِيدُ سَوادِ الشَّعْرِ، لا يُرىَ عليهِ أثَرُ السَّفَر، ولا يَعرِفُهُ مِنَّا أحدٌ، حتَّى جَلَسً إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسنَدَ رُكْبَتَيهِ إلى رُكْبَتَيهِ، ووَضَعَ كَفَّيهِ على فَخِذيهِ، وقالَ: يا مُحَمَّدُ، أخبِرنِي عَنِ الإِسلامِ.
فقال رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِسلامُ: أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤْتِيِ الزَّكاةَ، وتَصومَ رمضَانَ، وتَحُجَّ البَيتَ إنِ استَطَعتَ إليهِ سَبيلًا". قال: صَدَقت، قال: فَعَجِبنا لَهُ يسأْلُهُ ويصدِّقُهُ.
قال: فأخْبرني عَنِ الإيمان. قالَ: "أنْ تُؤمِنَ باللهِ، وملائِكَته وكُتُبِه، ورُسُله، واليَومَ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدرِ خَيرِهِ وشَرِّهِ". قالَ: صَدَقتَ.
قالَ: فأخْبِرنِي عن الإِحْسَانِ، قال: "أنْ تَعبُدَ الله كَأَنَّكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ. فإنَّهُ يَراكَ.
قالَ: فأخبِرنِي عَنِ السَّاعَةِ؟.
قالَ: "مَا المَسؤُولُ عَنْهَا بأعلَمَ مِنَ السَّائِل".
قالَ: فأخبِرني عَنْ أمارَتِها؟.
قالَ: "أنْ تَلِد الأمَةُ رَبَّتَها، وأَنْ تَرى الحُفاةَ العُراةَ العَالةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتطاوَلونَ فِي البُنيانِ".
ثُمَّ انْطَلَقَ، فلبثْتُ مَليًّا، ثمَّ قالَ لي:"يا عُمَرُ، أتَدرِي مَنِ السَّائل؟ ".
قُلتُ: الله ورَسولُهُ أعلَمُ.
قالَ: "فإنَّهُ جِبريلُ أتاكُم يُعَلِّمُكُم دِينَكُم".
رواهُ مُسلِم
(1)
.
هذا الحديثُ تفرَّد مسلمٌ عن البُخاريِّ بإخراجِهِ، فخرَّجه مِنْ طريقِ كهمسٍ عَنْ عبد اللهِ بن بُريدةَ، عن يَحيى بن يَعْمَرَ، قال: كانَ أوَّلَ مَنْ قَالَ في القَدرِ بالبصرةِ معبدٌ الجهنيُّ
(2)
، فانطلقْتُ أنا وحميدُ بنُ عبد الرحمنِ الحِميريُّ حَاجَّين أو مُعتَمِرينِ، فقلنَا: لو لَقِينَا أَحدًا مِنْ أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسألناه عمَّا يقولُ هؤلاءِ في القدرِ، فوُفِّقَ لنا عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بن الخطَّاب داخلًا المَسجدَ، فاكتَنَفتُهُ أنا وصاحبي، أحدُنا عَنْ يمينه، والآخرُ عَنْ شِمالِهِ، فظننتُ أنَّ صاحبي سيَكِلُ الكلامَ إليَّ، فقلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، إنَّه قد ظهر قِبلَنا ناسٌ يقرؤون القُرآن، ويتقفَّرُونَ العلمَ
(3)
، وذكر مِنْ شأنهم، وأنَّهم يزعُمون أنْ لا قدرَ، وأنَّ الأمرَ أُنُفٌ
(4)
. فقال: إذا لقيتَ أولئِكَ، فأخبرهم أنِّي بريءٌ منهم، وأنهم بُرآءُ منِّي،
(1)
برقم (8). ورواه أيضًا أحمد 8/ 27 و 51 - 52 و 53، وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، النّسائي 8/ 97، وابن ماجه (63)، وابن منده في "الإِيمان"(1) - (14)، والطيالسي ص 24، وابن حبان (168) و (173)، والآجري في "الشريعة" ص 188 - 189، وأبو يعلى (242)، والبيهقي في "دلائل النبوة" 7/ 69 - 70، والبغوي في "شرح السنة"(2)، والمروزي في "تعظيم قدر الصّلاة"(363) - (367)، وعبد الله بن أحمد في "السنّة"(901) و (908).
(2)
هو معبد بن عبد الله بن عويمر، وقيل: ابن عبد الله - ابن عُكيم الجهني، كان ممن ثار مع ابن الأشعث، وقتله الحجاج سنة 80 هـ. انظر ترجمته في "السّيَر" 4/ 185.
(3)
أي: يتتبعونه، وقيل: يجمعونه. انظر "شرح مسلم" 1/ 155.
(4)
أي: مستأنف، لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى، وإنّما يعلمه بعد وقوعه. قاله =
والَّذي يحلفُ به عبدُ اللهِ بنُ عمرَ، لو أن لأحدهم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا، فأنفقه، ما قَبِلَ الله منه حتَّى يُؤْمِنَ بالقدرِ. ثمَّ قال: حدَّثني أبي عُمرُ بنُ الخطَّاب، قال: بينما نحنُ عند رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بطولهِ.
ثمَّ خرَّجه من طُرقٍ أُخرى، بعضُها يرجِعُ إلى عبدِ الله بن بريدةَ، وبعضُها يرجع إلى يحيى بن يعمر، وذكر أن في بعض ألفاظها زيادةً ونقصًا.
وقد خرَّجه ابنُ حبَّان في "صحيحه"
(1)
من طريق سليمانَ التَّيميِّ عن يحيى بن يعمَر، وقد خرَّجه مسلمٌ مِنْ هذه الطَّريق، إلَّا أنَّه لم يذكر لفظَه، وفيه زياداتٌ منها: في الإِسلام، قال:"وتحجَّ، وتعتمر وتغتسلَ مِنَ الجَنابةِ، وأنْ تُتمَّ الوُضوء، [وتصوم رمضان] " قال: فإذا أنا فعلتُ ذلكَ، فأنا مسلمٌ؟ قال:"نعم".
وقال في الإِيمان: "وتُؤمِن بالجَنَّةِ والنَّارِ والمِيزانِ"، وقال فيه: فإذا فعلتُ ذلك، فانا مؤمنٌ؟ قال:"نعم".
وقال في آخره: "هذا جبريلُ أتاكُم ليعلِّمكُم أمرَ دينكم، خذوا عنه، والَّذي نفسي بيده ما شُبِّه عليَّ منذُ أتاني قبل مرَّتي هذه، وما عرفتُه حتَّى ولَّى".
وخرَّجاه في "الصَّحيحينِ" من حديث أبي هُريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للنَّاسِ، فأتاهُ رجلٌ، فقال: ما الإِيمان؟ قال: "الإِيمانُ: أنْ تُؤمِنَ باللهِ وملائكتِهِ وكتابه، وبلقائه، ورُسله، وتُؤمِن بالبعثِ الآخِر".
قال: يا رسولَ اللهِ، ما الإِسلام؟ قال:"الإسلامُ: أنْ تعبدَ الله لا تشرِك به شيئًا، وتقيمَ الصَّلاةَ المكتوبةَ، وتُؤَدِّي الزَّكاةَ المفروضةَ، وتصومَ رمضان".
= النّووي في "شرح مسلم" 1/ 156.
(1)
برقم (173)، وقال بإثره: تفرّد سليمان التيمي بقوله: "خذوا عنه"، وبقوله:"تعتمر وتغتسل وتتمّ الوضوء".
قال: يا رسولَ اللهِ، ما الإِحسانُ؟ قال:"أن تَعبدَ الله كأنَّكَ تراهُ، فإنَّك إنْ لا تراه، فإنَّه يراكَ".
قال: يا رسولَ اللهِ، متى السَّاعةُ؟ قال: "ما المسؤولُ عنها بأعلمَ مِنَ السَّائِلِ، ولكِن سأُحدِّثكَ عَنْ أشراطِها: إذا وَلَدتِ الأَمَةُ ربَّتها، فذاك من أشراطها، وإذا رأيتَ
(1)
العُراة الحُفاة رُؤوسَ النَّاس، فذاك مِنْ أشراطِها، وإذا تطاولَ رِعاءُ البَهْم
(2)
في البُنيان، فذاك من أشراطِها في خمس لا يعلمُهُنَّ إلَّا الله، ثمَّ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
قال: ثمَّ أدبَرَ الرَّجُلُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليَّ بالرَّجُلِ"
(3)
، فأخذوا ليردُّوه، فلم يَروا شيئًا، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هذا جبريلُ جاءَ ليعلِّمَ النَّاس دينهم"
(4)
.
وخرَّجه مسلم
(5)
بسياقٍ أتمَّ مِنْ هذا، وفيه في خصال الإِيمان: "وتؤمِن
(1)
في "صحيح مسلم": "وإذا كانت".
(2)
البَهْمُ جمع بَهْمَة: وهي الصغيرُ من أولاد الضَّأن، وفي شعرِ المجنون:
تعشَّقْتُ ليلى وهْيَ غِرُّ صَغِيرَةٌ
…
ولَمْ يَبْدُ للأتراب من ثَديها حَجْمُ
صَغِيرين نرعى البَهْمَ يا لَيْتَ أننا
…
إلى اليومِ لم نَكْبَرْ ولم تَكْبَرِ البَهْمُ
(3)
في "البخاري": "ردُّوا علي"، وفي "مسلم":"ردُّوا عليَّ الرَّجل"، وفي (أ) و (ب):"عليَّ الرَّجل".
(4)
رواه البخاري (50) و (4777)، ومسلم (9) - واللفظ له، وابن أبي شيبة 11/ 5 - 6، وابن ماجه (9)، والنسائي 8/ 101، وابن منده في "الإِيمان"(15) و (16)، وابن حبان (159)، وأحمد 2/ 426، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(378) - (380).
(5)
برقم (10).
بالقَدرِ كلّه"، وقال في الإِحسان: "أنْ تخشى الله كأنَّكَ تراهُ".
وخَرَّجهُ الإمامُ أحمد في "مسنده"
(1)
من حديث شهر بن حوشب عن ابن عباس. ومِنْ حديث شهرِ بن حوشب أيضًا عن ابن عامرٍ أو أبي عامرٍ، أو أبي مالكٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه قال: ونسمع رَجْعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا نرى الَّذي يكلِّمُهُ، ولا نسمعُ كلامَه
(2)
، وهذا يردُّه حديثُ عمرَ الَّذي خرّجه مسلمٌ، وهو أصحُّ.
وقد رُوي الحديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حديثِ أنسِ بن مالكٍ
(3)
وجرير بن عبد الله البجليِّ
(4)
وغيرهما.
وهو حديثٌ عظيمٌ جدًّا، يشتملُ على شرحِ الدِّين كُلِّه، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخره:"هذا جبريلُ أتاكُم يعلِّمكم دينَكُم" بعد أنْ شرحَ درجةَ الإِسلامِ، ودرجةَ الإِيمانِ، ودرجة الإِحسانِ، فجعلَ ذلكَ كُلَّه دينًا.
واختلفتِ الرواية في تقديمِ الإِسلامِ على الإيمان وعكسه، ففي حديث
(1)
1/ 319، ورواه أيضًا البزّار (24).
(2)
"المسند" 4/ 129 و 164.
(3)
رواه البزّار (22)، والبخاري في "خلق أفعال العباد"(191)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(381).
وقال البزّار: غريب من حديث أنس، لا نَعلمُه إلّا بهذا الإسناد. والضحاك بن نَبَرَاس (أحد رواته) ليس به بأس، قد روى عن ثابت غير حديث.
وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 40: فيه الضحاك بن نبراس، قال البزّار: ليس به بأس وضعفه الجمهور.
قلت: وحسّن الحديث الحافظ بن حجر في "الفتح" 1/ 116.
(4)
رواه الآجري في "الشريعة" ص 189 - 195، وأبو عوانة في "صحيحه" كما في "الفتح" 1/ 116. وقال الحافظ: في إسناده خالد بن يزيد القسري، ولا يصلح للصحيح.
عمرَ الَّذي خرَّجه مسلمٌ أنَّه بدأ بالسُّؤال عن الإسلام، وفي التِّرمذي وغيره أنَّه بدأ بالسُّؤال عن الإيمان، كما في حديث أبي هريرة، وجاء في بعضِ روايات حديثِ عمرَ أنَّه سألَ عَنِ الإحسان بينَ الإِسلام والإيمان.
فأمَّا الإسلامُ، فقد فسَّره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأعمالِ الجوارح الظَّاهرة مِنَ القولِ والعملِ، وأوَّلُ ذلك: شهادةُ أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله، وهو عملُ اللِّسانِ، ثمَّ إقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وصومُ رمضانَ، وحجُّ البيت لمن استطاعَ إليه سبيلًا.
وهي منقسمةٌ إلى عمل بدنيٍّ: كالصَّلاةِ والصَّوم، وإلى عمل ماليٍّ: وهو إيتاءُ الزَّكاةِ، وإلى ما هو مركَّبٌ منهما: كالحجِّ بالنِّسبةَ إلى البعيدِ عَنْ مَكَّة.
وفي روايةِ ابن حبَّان أضاف إلى ذلك الاعتمارَ، والغُسْلَ مِنَ الجَنابةِ، وإتمامَ الوُضوءِ، وفي هذا تنبيهٌ على أن جميعَ الواجباتِ الظاهرةِ داخلةٌ في مسمَّى الإسلامِ.
وإنَّما ذكر هاهنا أصولَ أعمالِ الإسلام الَّتي ينبني الإسلام عليها كما سيأتي شرح ذلك في حديثِ ابن عمرَ: "بُنِي الإِسلامُ على خَمسٍ" في مَوضِعه إنْ شاءَ الله تعالى
(1)
.
وقوله في بعضِ الرِّوايات: فإذا فعلتُ ذلك، فأنا مسلمٌ؟ قال:"نعم" يدلُّ على أنَّ مَنْ كمَّلَ الإتيانَ بمباني الإسلام الخمسِ، صار مسلمًا حقًّا، مع أن مَنْ أقرَّ بالشَّهادتين، صار مسلمًا حُكمًا، فإذا دخلَ في الإسلام بذلك، أُلزم بالقِيام ببقيَّة خِصالِ الإسلام، ومَنْ تركَ الشَّهادتين، خرج مِنَ الإِسلام، وفي خُروجِه مِنَ الإسلام بتركِ الصَّلاةِ خلافٌ مشهورٌ بينَ العُلماء، وكذلك في ترك بقيَّة مباني الإسلام الخمس، كما سنذكُره في موضعه إنْ شاء الله تعالى.
(1)
وهو الحديث الثالث.
وممَّا يدلُّ على أن جميعَ الأعمالِ الظَّاهرةِ تدخُلُ في مسمَّى الإِسلام قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "المُسلم مَنْ سَلِمَ المُسلمُونَ من لِسانِه ويده"
(1)
.
وفي "الصَّحيحين" عن عبدِ اللهِ بن عمروٍ أن رجلًا سألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإِسلامِ خيرٌ؟ قال: "أنْ تُطعِمَ الطَّعامَ، وتقرأ السَّلام على مَنْ عرفت ومَنْ لم تعرف"
(2)
.
وفي "صحيح الحاكم"
(3)
عن أبي هريرةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ للإِسلام
(1)
رواه من حديث عبد الله بن عمرو: أحمد 2/ 163 و 192 و 205 و 212، والبخاري (10) و (6484)، ومسلم (40)، وأبو داود (2481)، والنسائي 8/ 105، والدارمي 2/ 300، وابن ماجه (196) و (230) و (399) و (400).
ورواه من حديث جابر: مسلم (41)، وابن حبان (197)، والحاكم 1/ 10.
ورواه من حديث أبي هريرة: الترمذي (2627) وقال: حسن صحيح، والنّسائي 8/ 104 - 105، وصححه ابن حبان (180)، والحاكم 1/ 10.
ورواه من حديث أبي موسى الأشعري: البخاري (11)، ومسلم (42).
ورواه من حديث فضالة بن عبيد: أحمد 6/ 21 و 22، وابن ماجه (3934)، والبغوي (14)، وصححه البوصيري، والحاكم 1/ 10 - 11.
ورواه من حديث أنس أحمد 3/ 154، وصححه ابن حبان (510)، والحاكم 1/ 11، ووافقه الذهبي.
(2)
رواه البخاري (12) و (28) و (6236)، ومسلم (1013)، وأحمد 2/ 169، وأبو داود (5194)، وابن ماجه (3253)، وصححه ابن حبان (505).
(3)
1/ 21. وإطلاق الصحة على مستدرك الحاكم تساهل غير مَرضيّ عند الحذّاق في هذا الفنّ، ولا يحسن من مثل الحافظ ابن رجب، فإنه القدوة في هذا الباب. ورواه أيضًا أبو عبيد في الإيمان (3)، وفي "غريب الحديث" 4/ 183، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 217 - 218، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(160)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(405).
صُوىً
(1)
ومنارًا كمنار الطَّريق من ذلك: أنْ تعبدَ الله ولا تشركَ به شيئًا، وتقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤْتِي الزَّكاةَ، وتصومَ رمضانَ، والأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكرِ، وتسليمُك على بَني آدم إذا لَقِيتَهم وتسليمُك على أهلِ بيتِكَ إذا دخلتَ عليهم، فمن انتقصَ منهنَّ شيئًا، فهو سَهمٌ من الإِسلام تركه، ومن يتركهُنَّ، فقد نبذَ الإِسلامَ وراءَ ظهره".
وخَرَّج ابن مردويه مِنْ حديثِ أبي الدَّرداءِ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"للإِسلام ضياءٌ وعلاماتٌ كمنارِ الطَّريقِ، فرأسُها وجِماعُها شهادةُ أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسولُه، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وتَمامُ الوُضوءِ، والحُكمُ بكتاب اللهِ وسُنَّةِ نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وطاعةُ وُلاة الأمر، وتسليمُكم على أنفُسِكُم، وتسليمُكم على أهليكُم إذا دخلتُم بيوتَكُم، وتسليمُكم على بني آدم إذا لقيتُموهُم" وفي إسناده ضعفٌ، ولعله موقوف
(2)
.
وصحَّ من حديثِ أبي إسحاق عَنْ صِلةَ بن زُفَرَ، عن حذيفةَ، قال: الإِسلامُ ثمانيةُ أسهُمٍ: الإِسلامُ سهمٌ، والصَّلاةُ سهمٌ، والزَّكاةُ سهمٌ، وحِجّ البيتِ سهمٌ، والجهادُ سهمٌ، وصومُ رمضانَ سهمٌ، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ، والنَّهيُ عَنِ المُنكرِ سهَمٌ، وخابَ مَنْ لا سَهمَ له. وخرَّجه البزَّارُ
(3)
مرفوعًا، والموقوفُ أصحُّ.
(1)
تحرفت في "الأصول" و"المستدرك" إلى "ضوءًا"، والصُّوى: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي المجهولة، فيستدلّ بتلك الأعلام على طرقها. واحدتها صُوَّة. قاله أبو عبيد.
(2)
وأورده الهيثمي في "المجمع" 1/ 38، ونسبه إلى الطبراني في "الكبير".
(3)
برقم (336) وأورده هو أيضًا (337)، والطيالسي (413) من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن صلة، عن حذيفة موقوفًا. وقال الطيالسي: وذكروا أن غير شعبة يرفعه. وأورده الهيثمي في "المجمع" 1/ 38، وقال: فيه يزيد بن عطاء، وثقه أحمد وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات.
وقال أيضًا في موضع آخر 1/ 292: حديثُ حذيفة حديثٌ حسن.
ورواهُ بعضهم عن أبي إسحاقَ، عن الحارثِ عن عليٍّ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم خرَّجه أبو يعلى الموصلي
(1)
وغيره، والموقوف على حذيفةَ أصَحُّ. قاله الدَّارقطنيُّ وغيره
(2)
.
وقوله: "الإسلام سهمٌ" يعني الشَّهادتين، لأنَّهما عَلمُ الإسلام، وبهما يصيرُ الإنسان مسلمًا.
وكذلك تركُ المحرمات داخلٌ في مُسمَّى الإسلام أيضًا، كما رُوي عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"مِنْ حُسنِ إسلامِ المَرءِ تركُهُ ما لا يعنيه" وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى
(3)
.
ويدلُّ على ذلك أيضًا ما خرجه الإمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ مِنْ حديثِ العِرباضِ بن ساريةَ
(4)
عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "ضربَ الله مثلًا صراطًا مستقيمًا،
(1)
برقم (523)، ومن طريقه ابن عدي في "الكامل" 2/ 821 في ترجمة حُبَيب بن أبي حبيب، وقال بعد أن روى له هذا الحديث وحديثًا آخر: وهما أنكر ما رأيت له من الرواية.
وأورده الهيثمي في "المجمع" 1/ 38، وقال: في إسناده الحارث، وهو كذاب!
قلت: والصواب أنه ضعيف.
(2)
وأورده الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 1/ 518 - 519 من رواية البزَّار مرفوعًا وقال: فيه يزيد بن عطاء اليشكري، ورواه أبو يعلى من حديث علي مرفوعًا أيضًا، وروي موقوفًا على حذيفة، وهو أصح. قاله الدارقطني وغيره.
(3)
وهو الحديث الثاني عشر.
(4)
هذا وهم من المصنف رحمه الله، فليس هو حديث العِرْباض بن سارية، إنّما هو حديث النوَّاس بن سمعان، فقد رواه أحمد 4/ 182 و 183، والترمذي (2859)، وقال: حسن غريب، والنسائي في التفسير من "السّنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" 9/ 61، وصححه الحاكم 1/ 73 على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وصححه أيضًا الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 1/ 28 - 29، وحسَّنه الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 243 - 244.
وعلى جَنَبتَي الصِّراط سُورانِ، فيهما أبوابٌ مفتَّحَةٌ، وعلى الأبواب ستورٌ مُرخاةٌ، وعلى باب الصِّراط داعٍ يقول: يا أيُّها النَّاس، ادخُلوا الصِّراطَ جميعًا، ولا تعوجوا، وداعٍ يدعو من جَوفِ الصِّراطِ، فإذا أرادَ أنْ يفتحَ شيئًا مِنْ تِلكَ الأبواب، قال: ويحكَ لا تَفتَحْهُ، فإنَّك إنْ تفتحه تَلِجْهُ. والصِّراطُ: الإسلامُ، والسُّورَانِ: حدودُ اللهِ، والأبوابُ المُفتَّحةُ: محارمُ اللهِ، وذلك الدَّاعي على رأس الصِّراط: كتابُ اللهِ، والدَّاعي من فوق: واعظُ اللهِ في قلب كلِّ مسلمٍ". زاد الترمذيُّ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].
ففي هذا المثلِ الَّذي ضربه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الإِسلامَ هو الصِّراطُ المستقيم الَّذي أمرَ الله تعالى بالاستقامةِ عليه، ونهى عن تجاوُزِ حدوده، وأنَّ مَنِ ارتكبَ شيئًا مِنَ المحرَّماتِ، فقد تعدَّى حدودَه.
وأمَّا الإيمانُ، فقد فسَّره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنَة، فقال:"أنْ تُؤمِن باللهِ، وملائكتِه، وكُتبِهِ، ورُسلِهِ، والبعثِ بعدَ الموتِ، وتُؤمِنَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّه".
وقد ذكرَ الله في كتابه الإيمانَ بهذه الأصولِ الخمسةِ في مواضع، كقوله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية [البقرة: 177]، وقال تعَالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3، 4].
والإيمان بالرُّسُلِ يلزمُ منهُ الإيمانُ بجميعِ ما أخبرُوا به من المَلائكةِ،
والأنبياءِ، والكتاب والبَعثِ، والقدرِ، وغير ذلكَ مِنْ تفاصيلِ ما أخبروا به، مِنْ صفاتِ اللهِ تعالى وصفاتِ اليومِ الآخرِ، كالميزانِ والصِّراطِ، والجنَّةِ، والنَّار.
وقد أُدخِلَ في الإيمان الإيمانُ بالقدرِ خيرهِ وشرِّهِ، ولأجلِ هذه الكلمةِ روى ابنُ عمرَ هذا الحديث محتجًّا به على مَنْ أنكَرَ القدرَ، وزعمَ أن الأمرَ أنفٌ: يعني أنَّه مستأنَفٌ لم يسبق به سابقُ قدرٍ مِنَ اللهِ عز وجل، وقد غلَّظ ابنُ عمرَ عليهم، وتبرَّأ منهم، وأخبرَ أَنَّه لا تُقبلُ منهم أعمالُهم بدونِ الإيمانِ بالقدر.
والإيمانُ بالقدرِ على درجتين:
إحداهما: الإيمان بأن الله تعالى سبقَ في علمه ما يَعمَلُهُ العبادُ من خَيرٍ، وشرٍّ، وطاعةٍ، ومعصيةٍ قبلَ خلقهم وإيجادهم، ومَنْ هُو منهم مِنْ أهلِ الجنَّةِ، ومِنْ أهلِ النَّارِ، وأعدَّ لهُم الثَّوابَ والعقابَ جزاءً لأعمالهم قبل خلقِهم وتكوينهم، وأنَّه كتبَ ذلك عندَه وأحصاهُ، وأن أعمالَ العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.
والدَّرجةُ الثانية: أنَّ الله تعالى خلقَ أفعالَ عبادِه كلَّها مِنَ الكُفر، والإِيمانِ، والطَّاعةِ، والعصيانِ، وشاءها منهم، فهذه الدَّرجةُ يُثبتُها أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، ويُنكرها القَدريَّةُ، والدرجةُ الأولى أثبتها كثيرٌ مِنَ القدريَّةِ، ونفاها غُلاتُهم، كمعبدٍ الجُهنيِّ، الذي سُئِلَ ابنُ عمرَ عنْ مقالتِهِ، وكعمرو بن عُبَيدٍ وغيره.
وقد قال كثيرٌ من أئمةِ السَّلفِ: ناظرُوا القدريَّةَ بالعلمِ، فإنْ أقرُّوا به خُصِمُوا، وإنْ جحدوه، فقد كفروا، يريدونَ أنَّ مَنْ أنكَرَ العلمَ القديمَ السَّابِقَ بأفعالِ العبادِ، وأن الله قَسمهم قبلَ خلقِهم إلى شقيٍّ وسعيدٍ، وكتبَ ذلك عندَه في كتابٍ حفيظٍ، فقد كذَب بالقُرآن، فيكفُرُ بذلك، وإنْ أقروا بذلك، وأنكروا أنَّ الله خلقَ أفعالَ عباده، وشاءَها، وأرادها منهم إرادةً كونيَّةً قدريَّةً، فقد خصمُوا، لأنَّ ما أقرُّوا به حُجَّةٌ عليهم فيما أنكروه. وفي تكفيرِ هؤلاءِ نزاعٌ مشهورٌ بينَ العُلماءِ.
وأمَّا من أنكرَ العلمَ القديمَ، فنصَّ الشافعيُّ وأحمدُ على تكفيرِهِ، وكذلك غيرُهما مِنْ أئمةِ الإسلام.
فإنْ قيل: فقدْ فرَّق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بينَ الإسلام والإيمانِ، وجعلَ الأعمالَ كلَّها من الإسلام، لا مِنَ الإيمانِ، والمشهورُ عَنِ السَّلفِ وأهلِ الحديثِ أن الإيمانَ: قولٌ وعمَلٌ ونيَّةٌ، وأنَّ الأعمالَ كلَّها داخلةٌ في مُسمَّى الإيمانِ. وحكى الشَّافعيُّ على ذلك إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابعين ومن بعدَهم ممَّن أدركهم.
وأنكرَ السَّلفُ على مَنْ أخرجَ الأعمالَ عَنِ الإِيمانِ إنكارًا شديدًا. وممَّن أنكرَ ذلك على قائله، وجعلَه قولًا مُحدَثًا: سعيدُ بنُ جبيرٍ، وميمونُ بنُ مِهرانَ، وقتادة، وأيوبُ السَّختيانيُّ، وإبراهيمُ النَّخعي، والزُّهريُّ، ويحيى بنُ أبي كثيرٍ، وغيرُهم. وقال الثَّوريُّ: هو رأيٌ محدَثٌ، أدركنا النَّاس على غيره. وقال الأوزاعيُّ: كان مَنْ مضى ممَّن سلف لا يُفرِّقون بين الإيمان والعمل.
وكتَب عمرُ بنُ عبد العزيزِ إلى أهلِ الأمصارِ: أمَّا بعدُ، فإن للإيمانِ فرائضَ وشرائعَ و [حدودًا] وسننًا، فمن استكملَها، استكملَ الإيمانَ. ومن لم يَستكْمِلها، لم يستكملِ الإيمانَ، ذكره البخاري في "صحيحه"
(1)
.
قيل: الأمر على ما ذكره، وقد دلَّ على دُخول الأعمالِ في الإيمانِ قولُه تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4].
(1)
تعليقًا في كتاب "الإيمان": باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس"، ووصله ابن أبي شيبة في "المصنف" 11/ 49.
وفي "الصَّحيحين"
(1)
عن ابن عبَّاسٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لوفدِ عبدِ القيسِ: "آمركُم بأربعٍ: الإيمانِ بالله، وهل تدرون ما الإيمانُ باللهِ؟ شهادةُ أنْ لا إله إلَّا الله، وإقام الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وصوم رمضانَ، وأنْ تُعطُوا من المَغنَمِ الخُمْسَ".
وفي "الصَّحيحين"
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الإيمانُ بضعٌ وسَبعونَ، أو بضعٌ وستُّون شُعبة، فأفضلُها: قولُ لا إله إلَّا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعبة من الإيمانِ" ولفظه لمسلم.
وفي "الصحيحين"
(3)
عن أبي هُريرة، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مُؤمنٌ، ولا يَسرقُ السَّارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمرَ حينَ يشربُها وهو مؤمنٌ". فلولا أن تركَ هذه الكَبائِرَ مِنْ مُسمَّى الإيمان، لما انتفى اسمُ الإيمانِ عن مرتكبِ شيءٍ منها؛ لأنَّ الاسمَ لا ينتفي إلَّا بانتفاءِ بعض أركانِ المسمَّى أو واجباتِه.
وأما وجهُ الجمعِ بينَ هذه النُّصوص وبينَ حديثِ سُؤال جبريلَ عليه السلام عَنِ الإسلامٍ والإيمانِ، وتفريق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بينهما، وإدخاله الأعمالَ في مُسمَّى الإسلامِ دون مُسمَّى الإيمانِ، فإنَّه يَتَّضِحُ بتقريرِ أصلٍ، وهو أن مِنَ الأسماءِ ما
(1)
البخاري (523)، ومسلم (17)، ورواه أيضًا أحمد 1/ 333، وأبو داود (3692)، والترمذي (2611)، والنّسائي 8/ 120، وابن حبان (157).
(2)
البخاري (9) ومسلم (35). ورواه أيضًا أحمد 2/ 414، وأبو داود (4676)، والترمذي (2614)، والنسائي 8/ 110، وابن ماجه (57)، وابن حبان (166) و (167) و (181) و (190) و (191).
(3)
البخاري (2475) و (5578) و (6772) و (6810)، ومسلم (57)، ورواه أيضًا أحمد 2/ 376، وأبو داود (4689)، والترمذي (2625)، والنّسائي 8/ 64 و 313، وابن ماجه (3936)، وابن حبان (186).
يكونُ شاملًا لمسمَّياتٍ مُتعدِّدةٍ عندَ إفرادِه وإطلاقه، فإذا قُرن ذلك الاسمُ بغيره، صار دالًا على بعضِ تلك المسمَّياتِ، والاسمُ المقرونُ به دالٌّ على باقيها، وهذا كاسم الفقيرِ والمسكين، فإذا أُفردَ أحدُهما، دخل فيه كلُّ مَنْ هو محتاجٌ، فإذا قُرن أحدُهما بالآخر، دل أحدُ الاسمين على بعضِ أنواع ذوي الحاجاتِ، والآخر على باقيها، فهكذا اسمُ الإسلام والإيمانِ: إذا أُفرد أحَدُهما، دخل فيه الآخر، ودلَّ بانفرادهِ على ما يدلُّ عليهَ الآخرُ بانفراده، فإذا قُرِنَ بينَهُما، دلَّ أحدهُما على بعض ما يدلُّ عليه بانفرادهِ، ودلَّ الآخر على الباقي.
وقد صرَّح بهذا المعنى جماعةٌ مِنَ الأئمَّةِ. قال أبو بكر الإسماعيليُّ
(1)
في رسالته إلى أهل الجبل: قال كثيرٌ مِنْ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة: إنَّ الإيمانَ قولٌ وعمل، والإسلام فعل ما فُرِضَ على الإنسان أنْ يفعَله إذا ذكر كلُّ اسمٍ على حِدَتِه مضمومًا إلى الآخر، فقيل: المؤمنونَ والمسلمونَ جميعًا مفردين، أُريدَ بأحدهما معنى لم يُرَدْ بالآخر
(2)
، وإذا ذُكِرَ أحدُ الاسمين، شَمِلَ الكُل وعمَّهم.
وقد ذكر هذا المعنى أيضًا الخطابيُّ في كتابه "معالم السنن"
(3)
، وتَبِعَهُ عليه جماعةٌ من العُلَمَاء من بعده.
ويدلُّ على صحَّةِ ذلك أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فسَّر الإيمانَ عند ذكرهِ مفردًا في حديث وفد عبدِ القيس بما فسَّر به الإسلامَ المقرونَ بالإيمانِ في حديث جبريلَ، وفسَّر في حديثٍ آخرَ الإسلامَ بما فسَّر به الإيمانَ، كما في "مسند الإمام أحمد"
(4)
عن
(1)
هو الإمام الحافظ، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العبّاس الجرجاني الإسماعيلي، كان شيخ المحدثين في عصره، له عدّة مصنفات منها:"المستخرج على الصحيحين". توفي سنة 371 هـ. انظر ترجمته في "السير" 16/ 292.
(2)
في هامش (ج)"به الآخر"(ظ).
(3)
4/ 313.
(4)
4/ 114، وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 59: رجاله ثقات.
عمرو بن عَبَسة، قال: جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما الإسلامُ؟ قال:"أنْ تُسلِمَ قلبَكَ للهِ، وأنْ يسلمَ المسلمونَ مِنْ لِسانِكَ ويَدكَ"، قال: فأيُّ الإسلام أفضلُ؟ قال: "الإيمان". قال: وما الإيمان؟ قال: "أن تُؤمِن باللهِ، وملائكته، وكُتبهِ، ورُسلِه، والبعثِ بعدَ الموتِ". قال: فأيُّ الإيمانِ أفضلُ؟ قال: "الهِجْرةُ". قال: فما الهجرةُ؟ قال: "أن تَهجُر السُّوءَ"، قال: فأيُّ الهِجرةِ أفضلُ؟ قال: "الجهادُ". فجعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الإيمانَ أفضلَ الإسلام، وأدخلَ فيه الأعمالَ.
وبهذا التَّفصيلِ يظهرُ تحقيقُ القولِ في مسألةِ الإسلامِ والإيمانِ: هل هما واحدٌ، أو هما مختلفان؟.
فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ والحديثِ مختلفون في ذلك، وصنَّفُوا في ذلك تصانيف متعدِّدةً، فمنهم من يَدَّعي أن جُمهورَ أهلِ السُّنَّةِ على أنَّهما شيءٌ واحدٌ: منهم محمَّدُ بن نصرٍ المروزيُّ، وابنُ عبد البَرِّ، وقد رُويَ هذا القولُ عَنْ سفيانَ الثَّوريِّ مِنْ رواية أيوبَ بن سُويدٍ الرَّمليِّ عنه، وأيُّوب فيه ضعف.
ومنهم من يحكي عن أهل السُّنَّةِ التَّفريقَ بينهما، كأبي بكر بنِ السَّمعانيِّ وغيره، وقد نُقِلَ التفريقُ بينهما عَنْ كثيرٍ من السَّلَفِ، منهم قتادةُ، وداودُ بنُ أبي هند، وأبو جعفر الباقر، والزُّهريُّ، وحمادُ بن زيد، وابن مهديٍّ، وشريكٌ، وابنُ أبي ذئب، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمةَ، ويحيى بنُ معينٍ، وغيرهم، على اختلافٍ بينَهم في صفة التفريق بينَهُما. وكان الحسنُ وابنُ سيرين يقولان:"مسلمٌ" ويهابان "مُؤمنٌ".
وبهذا التَّفصيل الَّذي ذكرناهُ يزولُ الاختلافُ، فيُقالُ: إذا أفردَ كلُّ مِنَ الإسلامِ والإيمانِ بالذِّكرِ، فلا فرقَ بينهما حينئذٍ، وإنْ قُرِنَ بين الاسمينِ، كان بينَهما فرقٌ.
والتَّحقيق في الفرق بينهما: أنَّ الإيمانَ هو تصديقُ القلب، وإقرارُهُ، ومعرفته، والإسلامُ: هو استسلامُ العبدِ للهِ، وخُضُوعُه، وانقيادهُ له، وذلك يكونُ بالعملِ، وهو الدِّينُ، كما سمَّى الله تعالى في كتابهِ الإسلامَ دينًا، وفي حديث جبريل سمَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الإسلامَ والإيمانَ والإحسان دينًا، وهذا أيضًا ممَّا يدلُّ على أن أحدَ الاسمينِ إذا أُفردَ دخلَ فيه الآخرُ، وإنَّما يفرَّقُ بينهما حيثُ قُرِنَ أحدُ الاسمين بالآخر. فيكونُ حينئذٍ المرادُ بالإيمانِ: جنسَ تصديقِ القلبِ، وبالإسلامِ جنسَ العمل.
وفي "مسند الإمام أحمد"
(1)
عَنْ أنسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الإِسلامُ علانِيَةٌ، والإيمانُ في القلب". وهذا لأنَّ الأعمالَ تظهرُ علانيةً، والتَّصديقُ في القلب لا يظهرُ. وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ في دعائه إذا صلَّى على الميِّت:"اللَّهُمَّ مَنْ أحَييْتَهُ منَّا، فأحيهِ على الإسلامِ، ومَن تَوفَّيتَهُ منَّا، فتوفَّه على الإيمان"
(2)
، لأنَّ العمل بالجوارحِ، إنَّما يُتَمكَّنُ منه في الحياةِ، فأمَّا عندَ الموتِ، فلا يبقى غيرُ التَّصديق بالقلبِ.
ومن هُنا قال المحقِّقونَ مِنَ العُلماءِ: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلمٌ، فإنَّ من حقَّق الإيمان، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنَّ في
(1)
3/ 143، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة 11/ 11، وأبو يعلى (2923)، والبزّار (20)، وأبو عبيد في "الإيمان" ص 5. وفي إسناده علي بن مسعدة، وهو ضعيف. وانظر "مجمع الزوائد" 1/ 52.
(2)
رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 368، وأبو داود (3201)، والترمذي (1024)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (1498)، والنَّسائي في "عمل اليوم والليلة"(179) و (1081) وصححه ابن حبان (3070)، والحاكم 1/ 358، ووافقه الذهبي.
وجاء عند ابن حبان وأبي داود وإحدى روايات النّسائي: "أحْيِهِ على الإيمان، وتَوفَّهُ على الإسلام".
الجَسَدِ مُضغةً، إذا صَلحَتْ، صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ، فسدَ الجَسَدُ كلُّه، ألا وهي القَلبُ"
(1)
، فلا يتحققُ القلبُ بالإيمان إلَّا وتنبَعِثُ الجوارحُ في أعمالِ الإسلامِ، وليس كلُّ مسلمٍ مؤمنًا، فإنَّه قد يكونُ الإيمانُ ضعيفًا، فلا يتحقَقُ القلبُ به تحققًا تامًّا مع عمل جوارحِهِ بأعمال الإسلام، فيكون مسلمًا، وليس بمؤمنٍ الإيمانَ التَّامَّ، كما قال تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، ولم يكونوا مُنافقينَ بالكُلِّيَّةِ على أصحِّ التَّفسيرينِ، وهو قولُ ابن عبَّاس وغيره
(2)
، بل
(1)
قطعة من حديث النعمان بن بشير: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن"، وهو الحديثُ السادس من هذا الكتاب.
(2)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية 7/ 367: يقول الله تعالى منكرًا على الأعراب الذين أوّل ما دخلوا في الإسلام ادّعَوْا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكَّن الإيمان في قلوبهم بعدُ:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} . وقد استفيد من هذه الآية الكريمة: أنّ الإيمان أخصُّ من الإسلام، كما هو مذهب أهل السنّة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعمِّ إلى الأخصِّ، ثمّ للأخصِّ منه، قال الإمام أحمد: حدثنا عبدُ الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزُّهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: أعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجالًا ولم يُعط رجلًا منهم شيئًا، فقال سعد: يا رسولَ الله، أعطيتَ فُلانًا وفلانًا ولم تُعطِ فلانًا شيئًا، وهو مؤمن؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أوْ مسلم" - حتى أعادها سعدٌ ثلاثًا، والنبيٌ صلى الله عليه وسلم يقول:"أو مسلم" - ثمَّ قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعطي رجالًا وأدع من هو أحبّ إليّ منهم فلا أعطيه شيئًا مخافة أن يُكبُّوا في النَّار على وجوههم". أخرجاه في "الصحيحين" من حديث الزّهري، به.
فقد فرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلم والمؤمن، فدل على أن الإيمان أخصّ من الإسلام، وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من "صحيح البخاري" ولله الحمد والمنّة، ودلّ ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلمًا ليس منافقًا، لأنّه تركه من العطاء،=
كان إيمانُهم ضعيفًا، ويدلُّ عليه قوله تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14]، يعني: لا ينقُصُكم من أجورِها، فدلَّ على أن معهم من الإِيمانِ ما تُقبَلُ به أعمالُهم.
وكذلك قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقَّاصٍ لمَّا قال له: لم تعطِ فلانًا وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أو مسلمٌ"
(1)
يُشيرُ إلى أنَّه لم يُحقِّق مقامَ الإيمانِ، وإنما
= ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام، فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنّما هم مسلمون لم يستحكم الإيمانُ في قلوبهم، فادّعوا لأنفسهم مقامًا أعلى مما وصلوا إليه، فأدِّبوا في ذلك، وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي، وقتادة، واختاره ابنُ جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهرون الإيمان وليسوا كذلك. وقد رُوي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد أنهم قالوا في قوله:{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي: استسلمنا خوف القتل والسِّباء. قال مجاهد: نَزَلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نزلت في قوم امتنّوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحيح الأول: أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يحصل لهم بعدُ، فأُدِّبُوا وأُعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعدُ، ولو كانوا منافقين لعُنِّفوا وفُضِحوا، كما ذُكر المنافقون في سورة براءة، وإنَّما قيل لهؤلاء تأديبًا:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، أي: لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد.
ثمّ قال: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} ، أي: لا ينقُصُكم من أجوركم {شَيْئًا} ، كقوله:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، أي: لمن ثاب إليه وأناب.
(1)
رواه البخاري (27) و (1478)، ومسلم (150)، وأحمد 1/ 167 و 182، وأبو داود (4683)، والنسائي 8/ 103 و 104، وابن حبان (163)، والحديث بتمامه: قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسْمًا، فقلت: يا رسولَ الله أعطِ فلانًا، فإنه مؤمن. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أوَ مسلم". أقولها ثلاثًا، ويرددها على ثلاثًا: "أو =
هو في مقام الإسلام الظَّاهِرِ، ولا ريبَ أنَّه متى ضَعُفَ الإيمانُ الباطنُ، لزمَ منه ضعفُ أعمالِ الجوارَحِ الظاهرةِ أيضًا، لكن اسم الإيمان يُنفى عمَّن تركَ شيئًا مِنْ واجباتِه، كما في قوله:"لا يزني الزَّاني حينَ يزني وهو مؤمنٌ"
(1)
.
وقد اختلف أهلُ السُّنَّة: هل يُسمَّى مؤمنًا ناقصَ الإيمانِ، أو يقال: ليس بمؤمنٍ، لكنَّهُ مسلمٌ، على قولين، وهما روايتانِ عَنْ أحمدَ.
وأما اسمُ الإسلام، فلا ينتفي بانتفاءِ بعض واجباتِهِ، أو انتهاكِ بعضِ محرَّماته، وإنما يُنفى بالإتيانِ بما يُنافيهِ بالكُلِّيَّةِ، ولا يُعرَفُ في شيءٍ من السُّنَّةِ الصَّحيحةِ نفيُ الإسلام عمَّن تركَ شيئًا من واجباتِهِ، كما يُنفى الإيمانُ عمَّن تركَ شيئًا من واجباتِهِ، وإنْ كَان قد وردَ إطلاقُ الكُفرِ على فعلِ بعض المحرَّماتِ، وإطلاقُ النِّفاقِ أيضًا.
واختلفَ العلماءُ: هل يُسمَّى مرتكبُ الكباثرِ كافرًا كفرًا أصغر أو منافقًا النِّفاق الأصغرَ، ولا أعلمُ أن أحدًا منهم أجاز إطلاقَ نفي اسمِ الإسلام عنه، ‘لَّا أنه رُوي عن ابن مسعودٍ أنَّه قال: ما تاركُ الزَّكاةِ بمسلمٍ
(2)
. ويُحتملُ أنَّه كان يراه كافرًا بذلك، خارجًا من الإسلام.
وكذلك رُوي عن عمر فيمن تمكَّن مِنَ الحجِّ، ولم يحجَّ أنهم ليسوا بمسلمينَ، والظَّاهرُ أنَّه كان يعتقدُ كفرَهم، ولهذا أراد أن يضربَ عليهمُ الجزيةَ
= مسلم"، ثم قال: "إنِّي لأعطي الرجل وغيرُه أحبُّ إلي منه، مخافة أن يكبّه الله في النّار" لفظ مسلم.
(1)
تقدم تخريجه ص 55.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 3/ 114 عن ابن إدريس، عن مطرف، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن أبي الأحوص، قال: قال عبد الله بن مسعود: ما مانعٌ الزّكاةَ بمُسلم.
يقول: لم يدخُلوا في الإسلامِ بعدُ
(1)
، فهم مستمرُّون على كتابيتهم.
وإذا تبيَّن أن اسمَ الإسلام لا ينتفي إلَّا بوجودِ ما ينافيه، ويُخرجُ عن المِلَّةِ بالكلِّيَّةِ، فاسمُ الإسلامِ إذا أُطلَقَ أو اقترنَ به المدحُ، دخل فيه الإيمانُ كلُّه مِنَ التَّصديقِ وغيره، كما سبق في حديثِ عمرو بن عبسَة
(2)
.
وخرَّج النَّسائيُّ
(3)
مِنْ حديثِ عقبة بن مالك: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ سريَّةً، فغارت على قومٍ، فقال رجلٌ منهم: إنِّي مُسلمٌ، فقتلهُ رجلٌ مِنَ السَّريَّةِ، فنُمي الحديثُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال فيه قولًا شديدًا، فقال الرجلُ: إنَّما قالها تعوذًا مِنَ القتل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله أبى عليَّ أن أقتل مؤمنًا" ثلاث مرَّاتٍ.
(1)
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 1/ 368: روى سعيد بن منصور في "سننه" عن الحسن البصري، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار، فينظروا إلى كلّ منْ له جِدَةٌ ولم يحجَّ، فيضربوا عليهم الجزية. ما هم بمسلمين. ما هم بمسلمين.
وأورده السّيوطي في "الدرّ المنثور" 2/ 275، وقال: إسناده صحيح! مع أن الحسَن البصري لم يسمع من عمر، فالإسناد منقطع.
وروى أبو بكر الإسماعيلي كما في "تفسير ابن كثير" 1/ 386، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة كما في "الدرّ المنثور" 2/ 275 عن عمر رضي الله عنه قال: من أطاق الحجَّ ولم يحجَّ، فسواءٌ عليه مات يهوديًا أو نصرانيًا. وقال الحافظ ابن كثير: وإسناده صحيح إلى - عمر رضي الله عنه.
(2)
تقدم ص 57.
(3)
في السِّيَر من "السنن الكبرى" كما في "التحفة" 7/ 342 - 343. ورواه أيضًا أحمد 4/ 110 و 5/ 288 - 289، والطبراني في "الكبير" 17/ (980) و (981)، وأبو يعلى (6829)، وسماه عقبة بن خالد. وذكره الهيثمي في "المجمع" 1/ 27، وقال: رجاله كلّهم ثقات.
فلولا أن الإسلام المطلق يدخُلُ فيه الإيمانُ والتَّصديقُ بالأصولِ الخمسةِ، لم يَصِرْ مَنْ قالَ: أنا مسلمٌ مؤمنًا بمجرَّدِ هذا القول، وقد أخبرَ الله عن مَلِكَةِ سبأ أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وأخبر عن يوسف عليه السلام أنه دعا بالموت على الإسلام. وهذا كلُّه يدلُّ على أن الإسلام المطلقَ يدخُلُ فيه ما يدخُلُ في الإيمان مِنَ التَّصديق.
وفي "سنن ابن ماجه"
(1)
عن عديِّ بن حاتِم؛ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عديُّ، أسلم تسلم"، قلت: وما الإسلام؟ قال: "تشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله، وتشهدُ أنِّي رسولُ الله، وتؤمن بالأقدارِ كلَّها، خيرها وشرِّها، حلوِها ومرِّها" فهذا نصٌّ في أن الإيمان بالقدرِ مِنَ الإسلامِ.
ثمَّ إنَّ الشهادتين مِنْ خصالِ الإِسلام بغيرِ نزاع، وليسَ المرادُ الإتيان بلفظهما دونَ التَّصديقِ بهما، فعُلِمَ أن التَّصدَيقَ بهما داخل في الإسلام، وقد فسَّرَ الإسلامَ المذكورَ في قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] بالتَّوحيد والتَّصديق طائفةٌ مِنَ السَّلف، منهم محمَّدُ بنُ جعفر بن الزُّبير
(2)
.
وأما إذا نُفي الإِيمانُ عَنْ أحدٍ، وأُثبتَ له الإِسلامُ، كالأعراب الَّذينَ أخبرَ الله عنهم، فإنه ينتفي رسُوخُ الإيمانِ في القلب، وتثبُت لهم المشاركَةُ في أعمالِ الإسلام الظَّاهرةِ مع نوعِ إيمانٍ يُصحِّحُ لهَمُ العملَ، إذ لولا هذا القدر مِنَ الإِيمانِ، لم يكونُوا مسلمين، وإنَّما نفي عنهُم الإيمان، لانتفاءِ ذوقِ حقائقِه، ونقصِ بعضِ واجباته، وهذا مبنيٌّ على أنَّ التَّصديقَ القائمَ بالقلوبِ متفاضل،
(1)
برقم (87)، وإسناده ضعيف.
(2)
انظر: "تفسير الطبري" 3/ 212.
وهذا هو الصَّحيحُ، وهو أصحُّ الرِّوايتين عَنْ أحمدَ، فإن إيمانَ الصِّدِّيقين الَّذين يتجلَّى الغيبُ لقلوبهم حتَّى يصيرَ كأنَّه شهادةُ، بحيث لا يقبلُ التَّشكيكَ ولا الارتيابَ، ليسَ كإيمانِ غيرِهم ممَّن لم يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شُكِّكَ لدخلهُ الشَّكُّ. ولهذا جعلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مرتبةَ الإحسانِ أنْ يعبُدَ العبدُ ربَّه كأنَّه يراهُ، وهذا لا يحصلُ لِعموم المؤمنينَ، ومن هنا قال بعضهم: ما سبقكم أبو بكرٍ بكثرةِ صوم ولا صلاةٍ، ولكن بشيءٍ وقرَ في صدره.
وسُئِلَ ابنُ عمرَ: هل كانتِ الصَّحابةُ يضحكون؟ فقال: نعم والإيمانُ في قلوِبهم أمثالُ الجبالِ. فأينَ هذا ممَّن الإيمانُ في قلبه يَزنُ ذرَّةً أو شعيرةً؟! كالَّذينَ يخرجونَ من أهلِ التَّوحيدِ مِنَ النَّارِ، فهؤلاء يصِحُّ أن يُقالَ: لم يدخُلِ الإيمانُ في قُلوبهم لضعفِهِ عندهم.
وهذه المسائلُ - أعني مسائلَ الإسلام والإيمانِ والكُفرِ والنِّفاقِ - مسائلُ عظيمةُ جدًّا، فإنَّ الله علّق بهذه الأسماءِ السَّعادةَ، والشقاوةَ، واستحقاقَ الجَنَّةِ والنَّار، والاختلافُ في مسمَّياتِها أوَّلُ اختلافٍ وقعَ في هذه الأُمَّةِ، وهو خلافُ الخوارجِ للصَّحابة، حيثُ أخرجُوا عُصاةَ المُوحِّدينَ مِنَ الإسلام بالكُلِّيَّةِ، وأدخلوهُم في دائرةِ الكُفرِ، وعاملوهم معاملةَ الكُفارِ، واستحلُّوا بذَلك دماءَ المسلمين وأموالهم، ثمَّ حدَث بعدَهم خلافُ المعتزلة وقولُهم بالمنزلةِ بينَ المنزلتين، ثمَّ حدثَ خلافُ المرجئةِ، وقولُهم: إن الفاسقَ مؤمنٌ كاملُ الإيمانِ
(1)
.
(1)
قال الشيخ أنور الكشميري في "فيض الباري على صحيح البخاري" 1/ 53 - 54: الإيمان عند السّلف عبارة عن ثلاثة أشياء: اعتقاد وقول وعمل. وقد مر الكلامُ - يعني في كتابه - على الأوّلين، أي: التصديق والإقرار، بقي العمل: هل هو جزء للإيمان أم لا؟.
فالمذاهبُ فيه أربعة، قال الخوارج والمعتزلة: أن الأعمال أجزاء للإيمان، فالتارك=
وقد صنَّفَ العلماءُ قديمًا وحديثًا في هذه المسائل تصانيفَ متعدِّدةً، وممَّن صنَّف في الإِيمانِ مِنْ أئمَّةِ السَّلفِ: الإمامُ أحمدُ، وأبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ، وأبو بكر بنُ أبي شيبةَ، ومحمَّدُ بنُ أسلمَ الطوسيُّ. وكثُرت فيه التَّصانيفُ بعدهم
= للعمل خارج عن الإيمان عندهما، ثم اختلفوا: فالخوارج أخرجوه عن الإيمان، وأدخلوه في الكفر، والمعتزلة لم يُدخلوه في الكفر، بل قالوا بالمنزلة بين المنزلتين.
والثالث: مذهب المرجئة، فقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط، فصار الأولون والمرجئة على طرفي نقيض.
والرابع: مذهبُ أهل السنة والجماعة، وهم بينَ بينَ، فقالوا: إنَّ الأعمال أيضًا لا بُدّ منها، لكن تاركها مُفسَّقٌ، لا مُكفَّر، فلم يُشَدِّدوا فيها كالخوارج والمعتزلة، ولم يُهَوِّنوا أمرها كالمرجئة.
ثم هؤلاء - أي أهل السنة والجماعة - افترقوا فرقتين، فأكثر المحدثين إلى أن الإيمان مركب من الأعمال، وإمامنا الأعظم - رحمه الله تعالى - وأكثرُ الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غيرُ داخلة في الإيمان، مع اتفاقهم جميعًا على أن فاقد التصديق كافر، وفاقد العمل فاسق، فلم يبق الخلاف إلَّا في التعبير، فإن السلف وإن جعلوا الأعمال أجزاء، لكن لا بحيث ينعدِمُ الكل بانعدامها، بل يبقى الإيمان معَ انتفائها.
وإمامنا أبو حنيفة وإن لم يجعل الأعمال جزءًا، لكنه اهتم بها، وحرَّض عليها، وجعلها أسبابًا ساريةً في نماء الإيمان، فلم يهدرها هدرَ المرجئة، إلَّا أن تعبير المحدثين القائلين بجزئية الأعمال، لما كان أبعد من المرجئة المنكرين جزئية الأعمال، بخلاف تعبير إمامنا الأعظم - رحمه الله تعالى - فإنه كان أقرب إليهم من حيث نفي جزئية الأعمال: رُمي الحنفية بالإرجاء، وهذا كما ترى جوز علينا، فالله المستعان.
ولو كان الاشتراك مع المرجئة بوجهٍ من الوجوه التعبيرية كافيًا لنسبة الإرجاء إلينا، لزم نسبةُ الاعتزال إليهم، أي: إلى المحدثين، فإنهم، أي المعتزلة، قائلون بجزئية الأعمال أيضًا كالمحدثين، ولكن حاشاهم من الاعتزال، وعفا الله عمّن تعصّب ونسب إلينا الإرجاء، فإنَّ الدين كلَّه نصح، لا مراماةٌ ومنابزة بالألقاب! ولا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم" انتهى.
مِنْ جميعِ الطوائفِ، وقد ذكرنا هاهنا نكتًا جامعةً لأصولٍ كثيرةٍ مِنْ هذه المسائلِ والاختلاف فيها، وفيه - إن شاء الله - كفايةٌ.
فصل
قد تقدَّم أنَّ الأعمالَ تدخُلُ في مُسمَّى الإسلامِ ومسمَّى الإيمانِ أيضًا، وذكرنا ما يدخلُ في ذلك مِنْ أعمالِ الجوارحِ الظَّاهرَةِ، ويدخلُ في مسمَّاها أيضًا أعمالُ الجوارحِ الباطنةِ.
فيدخل في أعمالِ الإسلام إخلاصُ الدِّينِ للهِ، والنُّصْحُ له ولعبادهِ، وسلامةُ القلبِ لهم مِنَ الغِشِّ والحسَدِ والحِقْدِ، وتوابعُ ذلك مِنْ أنواع الأذى.
ويدخُلُ في مسمَّى الإيمانِ وجَلُ القُلوب مِنْ ذكرِ اللهِ، وخشوعُها عندَ سماعِ ذكرهِ وكتابه، وزيادةُ الإيمانِ بذلك، وتحقيقُ التوكُّل على اللهِ، وخوفُ اللهِ سرًّا وعلانيةً، والرِّضا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رسولًا، واختيارُ تَلَفِ النُّفوسِ بأعظمِ أنواعِ الآلامِ على الكُفرِ، واستشعارُ قُرب الله مِنَ العَبدِ، ودوامُ استحضارِهِ، وإيثارُ محبَّةِ اللهِ ورسوله على محبَّةِ ما سواهمَا، والمحبةُ في اللهِ والبُغضُ في اللهِ، والعطاءُ له، والمنعُ له، وأن يكونَ جميعُ الحركاتِ والسَّكناتِ له، وسماحةُ النُّفوسِ بالطَّاعةِ الماليَّةِ والبدنيَّةِ، والاستبشارُ بعملِ الحسناتِ، والفرحُ بها، والمَساءَةُ بعملِ السَّيِّئاتِ والحزن عليها، وإيثارُ المؤمنينَ لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم، وكثرةُ الحياءِ، وحسنُ الخلقِ، ومحبَّةُ ما يحبُّه لنفسه لإِخوانه المؤمنين، ومواساةُ المؤمنينَ، خصوصًا الجيران، ومعاضدةُ المؤمنين، ومناصرتهم، والحزنُ بما يُحزنُهم.
ولنذكُرْ بعضَ النُّصوص الواردة بذلك:
فأمَّا ما ورد في دُخوله في اسم الإسلامِ، ففي "مسند الإمام أحمد"،
و"النَّسائيّ"
(1)
عن معاويةَ بن حَيْدةَ، قال: قلت: يا رسول الله، بالَّذي بعثكَ بالحقِّ، ما الَّذي بعثك به؟ قال:"الإسلامُ"، قلت: وما الإسلام؟ قال: "أن تُسلِمَ قلبَك للهِ، وأن توجه وجهَك إلى اللهِ، وتُصلِّي الصَّلاةَ المكتوبة، وتُؤدِّيَ الزَّكاة المفروضة"، وفي رواية له: قلت: وما آيةُ الإسلام؟ قال: "أن تقولَ: أسلمتُ وجهيَ للهِ، وتخلَّيتُ، وتقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتي الزَّكاةَ، وكلُّ مسلمٍ على مسلمٍ حرام".
وفي السُّنن
(2)
عن جُبير بن مُطعم، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في خُطبته بالخَيْفِ مِنْ مِنى:"ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم؛ إخلاصُ العملِ للهِ، ومُناصحةُ وُلاةِ الأمورِ، ولزومُ جماعةِ المسلمينَ، فإنَّ دعوتَهُم تُحيطُ مِنْ ورائهم"، فأخبرَ أن هذه الثَّلاثَ الخصالَ تنفي الغِلَّ عَنْ قلبِ المسلم.
وفي "الصَّحيحين"
(3)
عن أبي موسى، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه سُئِلَ: أيُّ المسلمين أفضلُ؟ فقال: "مَنْ سلمَ المسلمونَ مِنْ لسانِهِ ويده".
(1)
أحمد 5/ 3 و 4 و 5، والنسائي 4/ 5 و 82 - 83، ورواه أيضًا الطبراني في "الكبير 19/ 1036، وصححه ابن حبان (160).
(2)
قول المصنف: "وفي السّنن .. " يوهم أنه في السّنن الأربعة أو أحدها، وليس هو في شيء منها، إنما رواه أحمد 1/ 8 و 82، والدارمي 1/ 74 و 75، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 1/ 10، والطبراني في "الكبير (1541)، والحاكم 1/ 87، وفيه محمد بن إسحاق، وهو مدلِّس وقد عنعن.
إلَّا أن الحديث صحيح لغيره، فقد رواه من حديث زيد بن ثابت أحمد 5/ 183، وابن ماجه (230)، وصححه ابن حبان (67) و (680).
وله شواهد أُخر انظرها في "مجمع الزوائد" 1/ 137 - 139.
(3)
البخاري (11)، ومسلم (42)، ورواه أيضًا الترمذي (2504)، والنّسائي 8/ 106 - 107.
وفي "صحيح مسلم"
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"المسلمُ أخو المسلم، فلا يظلمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يحقرُه. بحسب امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يحْقِرَ أخاهُ المُسلمَ، كلُّ المسلمِ على المُسلمِ حرامٌ: دمُه، ومالهُ وعِرضهُ".
وأمَّا ما وردَ في دُخوله في اسمِ الإِيمانِ، فمثل قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، وقوله:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]. وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، وقوله:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقوله:{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
وفي "صحيح مسلم"
(2)
عن العباس بن عبد المطلب، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ذاقَ طعم الإيمان مَنْ رضيَ باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ رسولًا".
والرِّضا بربوبيَّة اللهِ يتضمَّنُ الرِّضا بعبادته وحدَه لا شريكَ له، وبالرِّضا بتدبيره للعبد واختيارهِ له.
والرِّضا بالإسلام دينًا يقتضي اختيارَه على سائر الأَديان.
والرِّضا بمحمَّدٍ لرسولًا يقتضي الرِّضا بجميع ما جاء به من عِندِ اللهِ، وقبولِ ذلك بالتَّسليمِ والانشراحِ، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
(1)
برقم (2564)، ورواه البغوي في "شرح السنة"(3549).
(2)
برقم (34). ورواه أحمد 1/ 208، والترمذي (2623)، والبغوي (25)، وصححه ابن حبان (1694).
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وفي "الصحيحين" عن أنسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجَدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمان: مَنْ كَانَ الله ورسولُهُ أحبَّ إليه ممَّا سِواهما، وأنْ يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلَّا للهِ، وأنْ يكره أن يرجعَ إلى الكُفرِ بعدَ إذْ أنقذهُ الله منه كما يكرهُ أنْ يُلقى في النارِ". وفي رواية: "وجد بهنَّ طعمَ الإيمانِ"، وفي بعض الرِّوايات:"طعمَ الإيمانِ وحلاوتَه"
(1)
.
وفي "الصحيحين"
(2)
عن أنسٍ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يؤمن أحدُكم حتَّى أكونَ أحبَّ إليهِ من ولدِهِ، ووالدهِ، والنَّاس أجمعينَ"، وفى رواية:"مِنْ أهلهِ، ومالهِ، والنَّاس أجمعينَ".
وفي "مسند الإمام أحمد"
(3)
عن أبي رزينٍ العُقيليّ قال: قلتُ: يا رسول الله، ما الإيمانُ؟ قال:"أن تشهدَ أنْ لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولهُ، وأن يكونَ الله ورسولُهُ أحبَّ إليكَ ممَّا سواهُما، وأنْ تحترِقَ في النَّارِ أحبُّ إليكَ مِنْ أنْ تُشرِكَ باللهِ، وأنْ تحبَّ غيرَ ذي نسبٍ لا تُحبُّهُ إلَّا للهِ، فإذا كُنتَ كذلك، فقد دخَلَ حبُّ الإيمانِ في قلبكَ كما دخلَ حبُّ الماءِ للظمآنِ في اليومِ القائظِ". قلت: يا رسول الله، كيف لي بأن أعلمَ أنِّي مؤمنٌ؟ قال:
(1)
رواه أحمد 3/ 103 و 113 و 172، والبخاري (16) و (21) و (6041) و (6941)، ومسلم (43)، والترمذي (2624)، والنسائي 8/ 94 و 96 و 97، وابن ماجه (4033)، وصححه ابن حبان (237) و (238).
(2)
البخاري (15)، ومسلم (44)، ورواه أيضًا أحمد 3/ 177 و 207 و 275 و 278، والنّسائي 8/ 114 و 115، وابن ماجه (67)، وصححه ابن حبان (179).
(3)
4/ 11 - 12. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 54: فيه سليمان بن موسى، وقد وثقه ابن معين وأبو حاتم، وضعفه آخرون.
"ما مِنْ أمَّتي - أو هذه الأمَّة - عبدٌ يعملُ حسنةً، فيعلم أنها حسنة، وأنَّ الله عز وجل جازيه بها خيرًا، ولا يعملُ سيِّئةٌ، فيعلم أنَّها سيِّئةٌ، ويستغفرُ الله منها، ويعلمُ أنه لا يغفر إلا هو، إلا وهو مؤمنٌ".
وفي "المُسند"
(1)
وغيره عن عمرَ بن الخطَّاب، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ سرَّته حسنتُه، وساءَتْهُ سيِّئَتُه فهو مؤمنٌ".
وفي "مُسندِ بقي بن مخلدٍ"
(2)
عنْ رجلٍ سمع رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "صريحُ الإيمان إذا أسأتَ، أو ظَلَمْتَ أحدًا: عبدَكَ، أو أَمَتَكَ، أو أحدًا مِنَ النَّاسِ، صُمتَ أو تَصدَّقتَ، وإذا أحسنتَ استبشرتَ".
وفي "مُسند الإمام أحمد"
(3)
عن أبي سعيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"المؤمنونَ في الدُّنيا على ثلاثةِ أجزاء: الَّذين آمنوا باللهِ ورسولهِ، ثم لم يَرتابُوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، والذي يأمنُهُ النَّاسُ على أموالهم وأنفسهم، ثمَّ الَّذي إذا أشرف على طمعٍ، تركه لله عز وجل".
(1)
1/ 18 و 26، والترمذي (2166)، وقال: حسَن صحيح، وصححه ابن حبان (4576)، والحاكم 1/ 114، ووافقه الذهبي.
(2)
هو الإمام القدوة الحافظ أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي المتوفى (276 هـ) و"مسنده" هذا - فيما قاله ابن حزم - روى فيه عن ألف وثلاث مئة صاحب ونيّف، ورتب حديث كلّ صاحب على أبواب الفقه، فهو مسند ومصنَّف، وما أعلمُ هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث. مترجم له في "السير" 3/ 285 - 296.
قلت: وهذا المسند على جلالته يُعد في جملة ما فقد من تراثنا العظيم، والحديث الذي نسبه المؤلف إليه لم نجده عند غيره في المصادر المتيسرة لنا.
(3)
3/ 8، وإسناده ضعيف، فيه رِشدين بن سعد، وهو ضعيف، ودراج أبو السَّمح ضعيف في روايته عن أبي الهيثم.
وفيه أيضًا
(1)
عن عمرو بن عبَسَة، قال: قلت: يا رسول، ما الإسلام؟ قال:"طيبُ الكلامِ، وإطعامُ الطعام". قلت: ما الإيمانُ؟ قال: "الصبرُ والسَّماحةُ". قلت: أيُّ الإسلام أفضلُ؟ قال: "مَنْ سلمَ المُسلمونَ مِنْ لسانِهِ ويدهِ". قلت: أيُّ الإيمانِ أفضلُ؟ قال: "خُلُقٌ حسنٌ".
وقد فسر الحسن البصريُّ الصبر والسماحةَ، فقال: هو الصَّبرُ عن محارمِ اللهِ، والسَّماحةُ بأداءِ فرائضِ الله عز وجل
(2)
.
وفي "الترمذي"
(3)
وغيره عن عائشةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهُم خُلُقًا"، وخرّجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة.
وخرَّج البزار في "مسنده"
(4)
من حديث عبد اللهِ بن معاويةَ الغاضِري، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ثلاثٌ مَنْ فعلهُنَّ، فقد طَعِمَ طعْمَ الإِيمانِ: مَنْ عَبَدَ الله وحدَهُ بأنَّه لا إله إلَّا الله، وأعطى زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه في كلِّ عام" وذكر الحديثَ، وفي آخره: فقال رجلٌ: وما تزكيةُ المرءِ نفسَه يا رسولَ الله؟ قال: "أنْ يعلمَ أن
(1)
4/ 385، وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف.
(2)
"حلية الأولياء" 2/ 156، ذكره أبو نعيم في ترجمة الحسن البصري.
(3)
برقم (2612) من طريق أبي قلابة عن عائشة، وقال الترمذي: ولا نعرف لأبي قلابة سماعًا عن عائشة.
ورواه أيضًا أحمد 6/ 47 و 99، وابن أبي شيبة 8/ 515، وصححه الحاكم 1/ 53، وردّه الذهبي بقوله: فيه انقطاع.
لكن يشهد له حديث أبي هريرة الذي أورده المؤلف بإثر هذا، وهو حديث حسن رواه أحمد 2/ 250 و 472، وابن أبي شيبة 8/ 515، وأبو داود (2682)، والترمذي (1162)، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم 1/ 3، ووافقه الذهبي.
(4)
ورواه أيضًا البخاري في "التاريخ الكبير" 5/ 31 - 32، والطبراني في "الصغير"(555)، وروى أوله أبو داود (1582) كما قال المصنّف. ورجاله ثقات.
الله معه حيث كانَ". وخرَّج أبو داود أول الحديثِ دونَ آخره.
وخرَّج الطَّبرانيُّ
(1)
من حديث عُبَادة بن الصَّامِتِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ أفضلَ الإيمانِ أنْ تعلمَ أن الله معكَ حيثُ كنتَ".
وفي "الصحيحين"
(2)
عن عبد الله بن عمرَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الحياءُ مِنَ الإيمانِ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، وابن ماجه مِنْ حديثِ العِرباضِ بن ساريةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّما المُؤمِن كالجملِ الأنِفِ، حيثما قِيدَ، انقادَ"
(3)
.
وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].
وفي "الصحيحين"
(4)
عَنِ النُّعمانِ بن بشيرٍ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مثلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مَثَل الجسدِ، إذا اشتكى منهُ عضوٌ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسَّهر". وفي رواية لمسلم: "المؤمنونَ كرجُلٍ
(1)
في "الكبير" و"الأوسط"، وقال: وقد تفرد به عثمان بن كثير، وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 60: ولم أر مَنْ ذكره بثقة ولا جرح.
ومن طريق عثمان هذا رواه نُعيم بن حماد كما في "تفسير ابن كثير" 6/ 548، وقال: غريب.
(2)
البخاري (24) و (6118)، وأخرجه أيضًا أحمد 2/ 9، والترمذي (2615)، وابن ماجه (58)، وأبو داود (4795)، وابن حبان (610).
(3)
رواه أحمد 4/ 126، وابن ماجه (43). وانظر الحديث الثامن والعشرين من هذا الكتاب.
(4)
البخاري (6011)، ومسلم (586)، ورواه أيضًا أحمد 4/ 268 و 270، وابن حبان (233).
واحدٍ". وفي رواية له أيضًا: "المسلمونَ كرجُلٍ واحد إن اشتَكى عينُه، اشتَكى كلُّهُ، وإنْ اشتَكى رأسُه، اشتكى كلُّه".
وفي "الصَّحيحين"
(1)
عن أبي موسى، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضًا"، وشبَّك بين أَصابعِه.
وفي "مسند الإمام أحمد"
(2)
عن سهلِ بن سعدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"المؤمن من أهلِ الإيمانِ بمنزلةِ الرَّأسِ مِنَ الجَسدِ، يألَمُ المؤمن لأهلِ الإيمانِ كما يألمُ الجَسَد لِما في الرَّأسِ".
وفي "سنن أبي داود"
(3)
عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"المؤمن مرآةُ المؤمِنِ، المؤمنُ أخو المؤمن، يكُفُّ عنه ضَيعَتَه، ويحوطُه من ورائه".
وفي "الصحيحين"
(4)
عن أنسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يُؤمنُ أحدُكم حتَّى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".
وفي "صحيح البخاري"
(5)
عن أبي شريحٍ الكعبيِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"والله لا يؤمِنُ، واللهِ لا يُؤمِنُ، واللهِ لا يُؤمِنُ" قالوا: مَنْ ذاك يا رسولَ اللهِ؟! قال:
(1)
البخاري (481) و (6026)، ومسلم (2585)، ورواه أيضًا أحمد 4/ 404، والنّسائي 5/ 79، وابن حبان (232).
(2)
5/ 340، ورجاله رجال الصحيح. ورواه أيضًا ابن المبارك في "الزهد"(693)، والطبراني في "الكبير"(5743)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(136).
(3)
برقم (4918)، ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(238) و (239)، والقضاعي (125)، وحسَّنه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" 2/ 182 والضيعة: الحرفة.
(4)
البخاري (13)، ومسلم (45). ورواه أيضًا أحمد 3/ 176 و 272، والترمذي (2515)، والنسائي 8/ 125، وابن حبان (234)، (235).
(5)
برقم (6016)، ورواه البخاري أيضًا (6016)، ومسلم (46) من حديث أبي هريرة.
"مَنْ لا يأمَنُ جارُهُ بوائِقَهُ".
وخرَّج "الحاكم"
(1)
من حديث ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ليسَ المؤمنُ الَّذي يَشبَعُ وجارُه جائعٌ".
وخرَّج الإمام أحمد والترمذيُّ من حديثِ سهل بن مُعاذٍ الجُهنيِّ عن أبيه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ أعطى للهِ، ومنع للهِ، وَأحَبَّ للهِ، وأبغضَ للهِ" زاد الإمام أحمد: "وأنكحَ للهِ، فقد استكملَ إيمانه"
(2)
. وفي رواية للإمام أحمد
(3)
: أنَّه سَألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أفضلِ الإيمانِ، فقال:"أنْ تُحبَّ للهِ، وتُبغضَ للهِ، وتُعمِلَ لِسانَكَ في ذكرِ اللهِ"، فقال: وماذا يا رسول الله؟ قال: "أن تُحبَّ للنَّاسِ ما تحبُّ لنفسكَ، وتكره لهمْ ما تكرهُ لنفسك"، وفي رواية له:"وأن تقولَ خيرًا أو تصمتَ".
وفي هذا الحديث أن كثرةَ ذكرِ اللهِ من أفضلِ الإِيمانِ.
وخرَّج أيضًا من حديثِ عمرو بن الجَموحِ أنَّه سمعِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يستحقُّ العبدُ صريحَ الإيمانِ حتَّى يحبَّ للهِ، ويُبغض للهِ، فإذا أحبَّ للهِ، وأبغضَ للهِ، فقد استحقَّ الولايةَ مِنَ اللهِ تعالى"
(4)
.
وخرَّج أيضًا من حديث البراءِ بن عازبٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ أوثقَ عُرى الإِيمانِ أنْ تُحبَّ في اللهِ، وتبغضَ في اللهِ"
(5)
.
(1)
في "المستدرك" 4/ 167، وصححه، ووافقه الذهبي.
(2)
رواه أحمد 3/ 440، والترمذي (2521)، وصححه الحاكم 1/ 164، ووافقه الذهبي.
وسنده قوي، وله شاهد من حديث أبي أمامة عند أبي داود (4681)، وسنده حسن.
(3)
5/ 247 من حديث معاذ بن جبل.
(4)
هو في "المسند" 3/ 430.
(5)
رواه أحمد 4/ 286.
وقال ابن عبَّاس: أحِبَّ في اللهِ، وأبغِضْ في اللهِ، ووالِ في اللهِ، وعادِ في اللهِ، فإنَّما تُنالُ ولايةُ اللهِ بذلك، ولن يَجِدَ عبدٌ طعمَ الإيمان - وإن كثُرَتْ صلاته وصومُه - حتَّى يكونَ كذلك، وقد صارَت عامَّةُ مُؤاخاة النَّاسِ على أمرِ الدُّنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا. خرجه ابنُ جريرٍ الطبري، ومحمَّدُ بنُ نصرٍ المروزي
(1)
.
فصل
وأمَّا الإحسانُ، فقد جاءَ ذكرُه في القُرآن في مواضعَ: تارةً مقرونًا بالإيمانِ، وتارةً مقرونًا بالإسلامِ، وتارةً مقرونًا بالتَّقوى، أو بالعمل.
فالمقرونُ بالإيمانِ كقولهِ تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]. وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
والمقرونُ بالإسلام: كقوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة: 112]، وكقوله تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].
والمقرونُ بالتقوى كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وقد يذكر مفردًا كقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقد ثبت في "صحيح مسلم"
(2)
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
في "تعظيم قدر الصلاة"(396) من طريق يحيى بن زكريا، عن ليث، عن مجاهد قال: قال لي عبد الله بن عباس
…
(2)
برقم (181) من حديث صهيب رضي الله عنه. ورواه أيضًا أحمد 4/ 332 و 333، والترمذي (2555) و (3104)، وابن ماجه (187).
تفسيرُ الزِّيادةِ بالنَّظرِ إلى وجهِ اللهِ عز وجل في الجنَّةِ، وهذا مناسبٌ لجعلهِ جزاءً لأهلِ الإحسانِ، لأنَّ الإحسانَ هو أن يَعبُدَ المؤمن ربَّه في الدُّنيا على وجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ، كأنَّهُ يراهُ بقلبِهِ وينظرُ إليه في حالِ عبادتهِ، فكانَ جزاءُ ذلك النَّظرَ إلى اللهِ عيانًا في الآخرة.
وعكس هذا ما أخبرَ الله تعالى به عَنْ جَزاءِ الكُفَّار في الآخرةِ: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وجعلَ ذلك جزاءً لحالهم في الدُّنيا، وهو تراكُم الرَّانِ على قُلوِبهم، حتَّى حُجِبَتْ عن معرفتِهِ ومُراقبته في الدُّنيا، فكان جزاؤُهم على ذلك أن حُجِبوا عن رُؤيته في الآخرة.
فقوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: "أنْ تعبدَ الله كأنَّكَ تراهُ إلخ" يشير إلى أن العبدَ يعبُدُ الله على هذه الصِّفة، وهي استحضارُ قُربِهِ، وأنَّه بينَ يديه كأنَّه يراهُ، وذلك يُوجبُ الخشيةَ والخوفَ والهيبةَ والتَّعظيمَ، كما جاء في رواية أبي هريرة:"أنْ تخشى الله كأنَّكَ تراهُ".
ويُوجِبُ أيضًا النُّصحَ في العبادة، وبذل الجُهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.
وقد وصَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جماعةً من أصحابهِ بهذه الوصيَّةِ، كما روى إبراهيمُ الهجريُّ
(1)
عن أبي الأحوصِ، عن أبي ذرٍّ، قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أنْ أخشى الله كأنِّي أراهُ، فإن لم أكن أراهُ، فإنَّهُ يراني.
ورُوي عن ابن عمرَ، قال: أخذَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، فقال:"اعبُدِ الله، كأنَّكَ تراهُ" خرَّجه النَّسائيُّ
(2)
ويُروى من حديث زيد بن أرقم مرفوعًا
(1)
هو إبراهيم بن مسلم العبدي المعروف بالهجري، ضعفه غير واحد من الأئمة، وقال ابن عدي: هو عندي ممن يُكتب حديثه يعني: يصلح حديثه للمتابعة والشواهد.
(2)
في الرقاق من "الكبرى" كما في "التحفة" 5/ 481، وأخرجه أيضًا أبو نعيم في "الحلية" =
وموقوفًا: "كُنْ كأنَّكَ ترى الله، فإنْ لم تكن تراه، فإنَّهُ يراكَ"
(1)
.
وخرَّج الطبراني
(2)
من حديث أنس أن رجلًا قال: يا رسول الله، حدثني بحديثٍ، واجعله موجزًا، فقال:"صلِّ صلاةَ مودِّعٍ، فإنَّكَ إنْ كنتَ لا تراهُ، فإنَّه يراكَ".
وفي حديث حارثة المشهور - وقد رُويَ من وجوه مرسلةٍ، ورُوي متصلًا، والمرسل أصحُّ - أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:"كيف أصبحت يا حارثة؟ " قال: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا، قال:"انظر ما تقولُ، فإنَّ لكلِّ قولٍ حقيقةً"، قال: يا رسول الله، عزفَتْ نفسي عَن الدُّنيا، فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ نهاري، وكأنِّي أنظرُ إلى عرش ربِّي بارزًا، وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ الجنَّةِ في الجَنَّةِ كيف يتزاورونَ فيها، وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ النَّارِ كيفَ يتعاوَوْنَ فيها. قال:"أبصرتَ فالزمْ، عبدٌ نوَّرَ الله الإيمانَ في قلبه"
(3)
.
= 6/ 115. وإسناده صحيح.
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 8/ 202 بلفظ: "عبد الله كأنك تراه
…
".
(2)
في "الأوسط" كما في "المجمع" 10/ 229. وهو من حديث ابن عمر، لا من حديث أنس كما قال الهيثمي وغيره، وقال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم.
(3)
رواه من حديث الحارث بن مالك الأنصاري: الطبراني في "الكبير"(3367)، والبيهقي في "شعب الإِيمان"(10591).
وذكره الهيثمي في "المجمع" 1/ 57، وقال: فيه ابنُ لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه.
ورواه ابن المبارك في "الزُّهد"(314) بإسناد معضل كما قال الحافظ في "الإصابة" 1/ 289.
ورواه من حديث أنس بن مالك البزار (32)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10590)، وقال البزار: تفرد به يوسف بن عطية، وهو لين الحديث، وقال الذهبي في "الميزان" 4/ 469: مجمع على ضعفه، وقال النسائي: متروك، وقال البخاري: منكر الحديث.
ويُروى من حديث أبي أمامة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وصَّى رجلًا، فقال له:"استحي مِنَ اللهِ استحياءَك مِنْ رجُلين مِنْ صالحي عشيرتك لا يفارقانك"
(1)
. ويُروى من وجهٍ آخرَ مرسلًا.
ويُروى عن معاذٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وصَّاه لمَّا بعثه إلى اليمن، فقال:"استحي مِنَ اللهِ كما تستحي رجلًا ذا هيبةٍ من أهلك"
(2)
.
وسئلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن كشف العورةِ خاليًا، فقال:"الله أحقُّ أن يُستحيا منه"
(3)
.
ووصَّى أبو الدَّرداء رجلًا، فقال له: اعبُدِ الله كأنكَ تَراه
(4)
.
وخطب عروة بنُ الزُّبير إلى ابن عمرَ ابنته وهما في الطَّوافِ، فلم يُجبه، ثم لقيَهُ بعدَ ذلك، فاعتذر إليه، وقال: كنَّا في الطوافِ نتخايلُ الله بين أعيننا.
أخرجه أبو نعيم وغيره
(5)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك".
قيل: إنَّه تعليلٌ للأوَّل، فإنَّ العبدَ إذا أُمر بمراقبة الله في العبادة،
(1)
أخرجه الطبراني (7897)، قال الهيثمي في "المجمع" 6/ 148: فيه علي بن زيد، وهو ضعيف.
(2)
أخرجه البزار (1972)، والمروزي في (الصَّلاة) (825). قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 23: وفيه ابن لهيعة، وفيه لين، وبقية رجاله ثقات.
قلت: وفيه أيضًا أبو الزبير، وهو مدلِّس، وقد عنعن.
(3)
حسَن، أخرجه من حديث معاوية بن حيدة أبو داود (4017)، والترمذي (2769) و (2794) وحسَّنه، وابن ماجه (1920)، وصححه الحاكم 4/ 180، ووافقه الذهبي.
(4)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 212.
(5)
في "الحلية" 1/ 309.
واستحضارِ قُربِهِ مِنْ عبده، حتَّى كأنَّ العبدَ يراه، فإنَّه قد يشقُّ ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله يراه، ويطَّلعُ على سرِّه وعلانيته وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمره، فإذا حقَّق هذا المقامَ، سهُل عليه الانتقالُ إلى المقام الثاني، وهو دوامُ التَّحديق بالبصيرة إلى قُرب اللهِ من عبدهِ ومعيَّته، حتَّى كأنَّه يراه.
وقيل: بل هو إشارةٌ إلى أن مَنْ شقَّ عليه أن يعبُد الله كأنَّه يراه، فليعْبُدِ الله على أن الله يراه ويطَّلع عليه، فليستحي مِنْ نظره إليه، كما قال بعضُ العارفين: اتَّق الله أنْ يكونَ أهونَ النَّاظرين إليك.
وقال بعضُهم: خفِ الله على قدر قُدرته عليك، واستحي منه على قدر قُربه منك.
قالت بعضُ العارفات من السلف: مَنْ عملَ للهِ على المُشاهدة، فهو عارفٌ، ومن عمل على مشاهدة الله إيَّاه، فهو مخلص. فأشارت إلى المقامين اللَّذين تقدَّم ذكرهُما:
أحدهما: مقام الإخلاص، وهو أن يعملَ العبدُ على استحضارِ مُشاهدةِ الله إياه، واطّلاعه عليه، وقُربه منه، فإذا استحضرَ العبدُ هذا في عمله، وعَمِلَ عليه، فهو مخلصٌ لله، لأنَّ استحضارَهُ ذلك في عمله يمنعُهُ من الالتفاتِ إلى غيرِ الله وإرادته بالعمل.
والثاني: مقام المشاهدة، وهو أن يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدته لله بقلبه، وهو أن يتنوَّرَ القلبُ بالإيمانِ، وتنفُذ البصيرةُ في العِرفان، حتَّى يصيرَ الغيبُ كالعيانِ.
وهذا هو حقيقةُ مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريلَ عليه السلام، ويتفاوت أهلُ هذا المقامَ فيه بحسب قوَّة نفوذ البصائرِ.
وقد فسَّر طائفةٌ مِنَ العُلماءِ المثل الأعلى المذكورَ في قوله عز وجل: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] بهذا المعنى، ومثلُه قولُه تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]، والمراد: مثل نورهِ في قلب المؤمن، كذا قاله أبيُّ بنُ كعبٍ وغيرُه مِنَ السَّلَف
(1)
.
وقد سبق حديث "أفضلُ الإيمانِ أن تعلمَ أنَّ الله معك حيثُ كنت"، وحديث: ما تزكيةُ المرءِ نفسه؟، قال:"أن يعلمَ أنَّ الله معه حيثُ كانَ".
وخرَّج الطبراني
(2)
من حديث أبي أُمامةَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثةٌ في ظلِّ الله يوم لا ظِلَّ إلَّا ظلُّه: رجلٌ حيثُ توجَّه عَلِمَ أنَّ الله معه"، وذكر الحديث.
وقد دلّ القرآنُ على هذا المعنى في مواضِعَ متعدَّدةٍ، كقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، وقوله:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]. وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]. وقوله: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108].
وقد وردت الأحاديثُ الصَّحيحةُ بالنَّدب إلى استحضارِ هذا القُرب في حال العباداتِ، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أحدَكم إذا قامَ يُصلِّي، فإنَّما يُناجِي ربَّه، أَو ربَّه بينه
(1)
انظر: "تفسير ابن كثير" 5/ 100، و "الدر المنثور" 6/ 197.
(2)
في "الكبير"(7935)، وفيه بشر بن نمير، قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 279: وهو متروك.
وبينَ القبلةِ"
(1)
، وقوله:"إنَّ الله قِبَلَ وجْهه إذا صلَّى"
(2)
، وقوله:"إنَّ الله ينصب وجهه لوجهِ عبدهِ في صلاتِهِ ما لم يلتفِت"
(3)
.
وقوله للَّذين رفعوا أصواتهم بالذِّكرِ: "إنَّكم لا تَدعُونَ أصمَّ ولا غائبًا، إنَّكُم تدعُونَ سميعًا قريبًا"، وفي رواية:"وهو أقربُ إلى أحدكم من عُنُقِ راحلتِهِ"، وفي رواية:"هو أقربُ إلى أحدكم من حبل الوريد"
(4)
.
وقوله: "يقولُ الله عز وجل: أنا مع عبدي إذا ذكرني، وتحرَّكت بي شفتاه"
(5)
.
وقوله: "يقولُ الله عز وجل: أنا مع ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حيث ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرتُهُ في نفسي، وإنْ ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خيرٍ منه، وإنْ تقربَ منِّي شبرًا، تقربتُ منه ذراعًا، وإن تقربَ مني ذراعًا، تقرَّبتُ منه باعًا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولةً"
(6)
.
ومن فهم من شيءٍ من هذه النصوص تشبيهًا أو حُلولًا أو اتِّحادًا، فإنَّما أُتِيَ
(1)
رواه من حديث أنسٍ أحمد 3/ 176، والبخاري (405)، ومسلم (551)، وابن حبان (2267).
(2)
رواه من حديث ابن عمر مالك 1/ 194، والبخاري (406)، ومسلم (547)، وأبو داود (479)، والنّسائي 2/ 51.
(3)
رواه من حديث الحارث الأشعري الترمذي (2863)، وقال: حسن صحيح غريب.
(4)
رواه من حديث أبي موسى الأشعري: البخاري (2992) و (4205) و (6384)، ومسلم (2074)، وأبو داود (1526) - (1528)، والترمذي (3374).
(5)
رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 540، والبخاري في "خلق أفعال العباد"(436)، وابن ماجه (3792)، وصححه ابن حبان (815)، والحاكم 1/ 496، ووافقه الذهبي.
(6)
رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 251 و 413، والبخاري (7405)، ومسلم (2675)، والترمذي (3603)، وابن ماجه (3822)، وصححه ابن حبان (811).
من جهله، وسُوء فهمه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واللُه ورسولُه بريئانِ من ذلك كلِّه، فسبحانَ مَنْ ليسَ كمثله شيءٌ، وهو السَّميعُ البصيرُ.
قال بكرٌ المزنيُّ: مَنْ مثلُك يا ابنَ آدم: خُلِّي بينَك وبينَ المحراب والماء، كلَّما شئتَ، دخلتَ على اللهِ عز وجل، ليس بينَكَ وبينَه تَرجُمان
(1)
.
ومن وصل إلى استحضارِ هذا في حال ذكره لله وعبادته، استأنسَ بالله، واستوحش مِنْ خلقه ضرورةً.
قال ثور بن يزيد: قرأتُ في بعضِ الكُتب أن عيسى عليه السلام قال: يا معشر الحواريِّين، كلِّموا الله كثيرًا، وكلِّموا الناسَ قليلًا، قالوا: كيف نكلِّمُ الله كثيرًا؟ قال: اخلُوا بمناجاته، اخلوا بدُعائه. خرجه أبو نعيم
(2)
.
وخرَّج أيضًا
(3)
بإسناده عن رياح، قال: كان عندنا رجلٌ يصلِّي كلَّ يومٍ وليلةٍ ألفَ ركعة، حتَّى أُقعِدَ من رجليه، فكان يصلِّي جالسًا ألف ركعة، فإذا صلى العصر، احتبى، فاستقبل القبلةَ، ويقول: عجبتُ للخليقةِ كيف أَنسَت بسواك، بل عجبتُ للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكرِ سواكَ.
وقال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النَّضر الحارثيِّ، فرأيتُه كأنه منقبضٌ، فقلت: كأنَّك تكره أن تُؤتى؟ قال: أجل، فقلت: أوَما تستوحشُ؟ فقال: كيف أستوحشُ وهو يقولُ: أنا جليسُ مَنْ ذكرني
(4)
.
(1)
ذكره أبو نعيم في "الحلية" 2/ 229.
(2)
في "الحلية" 6/ 195.
(3)
6/ 195، ورياح هو ابن عمروٍ القيسي.
(4)
أورد الخبر الذهبي في "السّيَر" 8/ 175، والبيهقي في "شعب الإيمان"(709) وعنه السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 96، وقوله:"أنا جليس من ذكرني" لا يصحّ. قال السخاوي: رواه الدّيلمي بلا سند عن عائشة مرفوعًا.
قلت: وفي البخاري (7505) ومسلم من حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم =
وقيل لمالك بن مِغول وهو جالسٌ في بيته وحده: ألا تستوحشُ؟ فقال: ويستوحشُ مع اللهِ أحدٌ؟.
وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته، ويقولُ: من لم تَقرَّ عينُه بكَ، فلا قرَّت عينُه، ومن لم يأنس بكَ، فلا أنِسَ.
وقال غزوان: إنِّي أصبتُ راحةَ قلبي في مُجالسة مَنْ لديه حاجتي.
وقال مسلم بنُ يسار: ما تلذَّذ المتلذِّذونَ بمثلِ الخَلْوة بمناجاةِ اللهِ عز وجل
(1)
.
وقال مسلم العابد: لولا الجماعة، ما خرجتُ من بابي أبدًا حتى أموت، وقال: ما يجدُ المطيعونَ لله لذَّةً في الدُّنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيِّدهم، ولا أحسب لهم في الآخرة مِنْ عظيم الثَّواب أكبرَ في صدورهم وألذَّ في قلوبهم مِنَ النَّظر إليه، ثم غُشي عليه.
وعن إبراهيم بن أدهم، قال: أعلى الدَّرجات أن تنقطعَ إلى ربِّك، وتستأنِسَ إليه بقلبك، وعقلك، وجميع جوارحك حتَّى لا ترجُو إلَّا ربَّك، ولا تخاف الَّا ذنبكَ، وترسخ محبته في قلبك حتَّى لا تُؤثِرَ عليها شيئًا، فإذا كنت كذلك لم تُبالِ في بَرٍّ كنت، أو في بحر، أو في سهلٍ، أو في جبلٍ، وكان شوقُك إلى لقاء الحبيب شوقَ الظَّمآن إلى الماء البارد، وشوقَ الجائعِ إلى الطَّعام الطيب، ويكونُ ذكر الله عندكَ أحلى مِنَ العسل، وأحلى من المَاء العذبِ الصَّافي عند العطشان في اليوم الصَّائف.
= أنه قال: "قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني" وقوله: "وأنا معه" أي بعلمه سبحانه كما في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} .
(1)
الخبر في "الحلية" 2/ 294.
وقال الفضيل: طُوبى لمن استوحش مِنَ النَّاسِ، وكان الله جليسَه
(1)
.
وقال أبو سليمان: لا آنسني الله إلَّا به أبدًا.
وقال معروف لرجلٍ: توكَّل على الله حتَّى يكونَ جليسَك وأنيسَك وموضعَ شكواكَ
(2)
.
وقال ذو النون: مِنْ علامة المحبِّين لله أن لا يأنَسُوا بسواه، ولا يستوحشُوا معه، ثم قال: إذا سكنَ القلبَ حبُّ اللهِ تعالى، أَنِسَ بالله، لأنَّ الله تعالى أجلُّ في صُدورِ العارفين أنْ يُحبُّوا سواه.
وكلامُ القوم في هذا الباب يطولُ ذكرهُ جدًّا، وفيما ذكرناه كفايةُ إنْ شاء الله تعالى.
فمن تأمَّل ما أشرنا إليه ممَّا دلَّ عليه هذا الحديثُ العظيم، علم أن جميعَ العُلوم والمعارف ترجعُ إلى هذا الحديث وتدخل تحته، وأنَّ جميع العلماء من فِرَقِ هذه الأمَّة لا تخرجُ علومهم التي يتكلَّمون فيها عن هذا الحديث، وما دلَّ عليه مجمَلًا ومفصَّلًا، فإنَّ الفُقهاءَ إنَّما يتكلَّمونَ في العبادات التي هي من جملة خصال الإِسلام، ويضيفون إلى ذلك الكلامَ في أحكام الأموالِ والأبضاعِ والدِّماءِ، وكلُّ ذلك من علمِ الإسلام كما سبق التنبيه عليه، ويبقى كثيرٌ من علم الإسلامِ مِنَ الآداب والأخلاقِ وغيرَ ذلك لا يَتكلَّمُ عليه إلَّا القليلُ منهم، ولا يتكلَّمون على معنىَ الشَّهادتين، وهما أصلُ الإسلام كلِّه.
والَّذين يتكلمون في أصول الدِّيانات، يتكلَّمون على الشَّهادتين، وعلى الإيمان باللهِ، وملائكته، وكتبه، ورسُله، واليومِ الآخر، والإِيمان بالقدر.
(1)
"الحلية" 8/ 108.
(2)
"الحلية" 8/ 360.
والَّذين يتكلَّمون على علم المعارف والمعاملات يتكلَّمون على مقام الإحسان، وعلى الأعمال الباطنة التي تدخلُ في الإيمان أيضًا، كالخشية والمحبَّة، والتوكُّلِ، والرِّضا، والصَّبر، ونحو ذلك، فانحصرت العلومُ الشَّرعية التي يتكلَّمُ عليها فِرَقُ المسلمين في هذا الحديث، ورجعت كلُّها إليه، ففي هذا الحديث وحدَه كفايةٌ، ولله الحمدُ والمنَّةُ.
وبقي الكلام على ذكر السَّاعة مِنَ الحَديث.
فقول جبريل عليه السلام أخبرني عن السَّاعة، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ما المسؤول عنها بأعلمَ من السَّائل" يعني أن علم الخلق كلَّهم في وقتِ السَّاعة سواءٌ، وهذا إشارةٌ إلى أن الله تعالى استأثر بعلمها، ولهذا في حديث أبي هريرة: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في خمسٍ لا يعلمهُنَّ إلَّا الله تعالى، ثم تلا:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، وقال الله عز وجل:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187].
وفي "صحيح البخاري"
(1)
عن ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ لا يعلمها إلَّا الله" ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية.
وخرَّجه الإمام أحمد، ولفظه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أوتيت مفاتيح كلِّ شيءٍ
(1)
برقم (1039) و (4627) و (4697) و (4778) و (7379)، ورواه أحمد 2/ 24 و 52 و 58 و 86، والنسائي في النعوت من الكبرى كما في "التحفة" 91/ 365، وصححه ابن حبان (70) و (71).
إلَّا الخمسِ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية"
(1)
.
وخرَّج أيضًا بإسناده عن ابن مسعود، قال: أوتي نبيُّكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كلِّ شيءٍ غير خمسٍ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية
(2)
.
قوله: فأخبرني عن أماراتها. يعني: عن علاماتها التي تدلُّ على اقترابها، وفي حديث أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم:"سأحدِّثُك عن أشراطها"، وهي علاماتها أيضًا.
وقد ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم للسَّاعة علامتين:
الأولى: "أن تلد الأمة ربَّتها"، والمراد بربَّتها سيِّدتُها ومالكتها، وفي حديث أبي هريرة "ربها"، وهذا إشارةٌ إلى فتح البلاد، وكثرة جلبِ الرَّقيق حتى تكثر السَّراري، ويكثر أولادهن، فتكون الأُم رقيقةً لسيِّدها، وأولادَه منها بمنزلته، فإن ولد السيد بمنزلة السيد، فيصير ولد الأمة بمنزلة ربها وسيدها.
وذكر الخطابي
(3)
أنه استدل بذلك من يقول: إن أم الولد إنما تعتق على ولدها من نصيبه من ميراث والده، وإنها تنتقل إلى أولادها بالميراث، فتعتق عليهم، وإنها قبل موت سيدها تُباع، قال: وفي هذا الاستدلال نظر.
قلت: قد استدل به بعضُهم على عكس ذلك، وعلى أن أم الولد لا تُباع، وأنها تعتق بموتِ سيِّدها بكل حال؛ لأنه جعل ولد الأمَةِ ربها، فكأن ولدها هو الذي أعتقها فصار عتقها منسوبًا إليه، لأنه سببُ عتقها، فصار كأنه مولاها. وهذا كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في أمِّ ولده ماريَّةَ لمَّا ولدت إبراهيمَ عليه
(1)
هو في "المسند" 2/ 85 - 86.
(2)
هو في "المسند" 1/ 438، وإسناده حسن.
(3)
في "معالم السنن" 4/ 322.
السلام: "أعتقها ولدها"
(1)
.
وقد استدلَّ بهذا الإمام أحمد، فإنه قال في رواية محمد بن الحكم عنه: تلد الأمةُ ربتها: تكثُر أمهَّاتُ الأولاد، يقول: إذا ولدت، فقد عتقت لولدها، وقال: فيه حجة أن أمهات الأولاد لا يُبعْنَ.
وقد فسر قوله: "تلدُ الأمةُ ربَّتها" بأنه يكثرُ جلبُ الرَّقيق، حتى تجلب البنت، فتعتق، ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بأنَّها أمها، وقد وقع هذا في الإسلام.
وقيل: معناه أن الإماء يَلِدنَ الملوكَ، وقال وكيع: معناه تلدُ العجمُ العربَ
(2)
، والعرب ملوك العجم وأربابٌ لهم.
والعلامة الثانية: "أن ترى الحُفاة العُراة العالة".
والمراد بالعالة: الفُقراء، كقوله تعالى:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8].
وقوله: "رعاء الشاء يتطاولون في البُنيان". هكذا في حديث عمر، والمراد: أنَّ أسافلَ الناس يصيرون رؤساءهم، وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه.
وفي حديث أبي هريرة ذكر ثلاثَ علامات: منها: أن تكون الحُفاة العراةُ رؤوسَ الناس، ومنها: أن يتطاول رِعاءُ البَهم في البنيان.
وروى هذا الحديث عبدُ الله بن عطاء، عن عبد الله بن بُريدة، فقال فيه:
(1)
ابن ماجه (2516)، والدارقطني 4/ 131، والحاكم 2/ 19، والبيهقي 10/ 346، وفي إسناده حسين بن عبد الله بن بن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، وهو متروك الحديث.
(2)
كلام وكيع هذا جاء في حديث عمر عند ابن ماجه (63).
"وأن تَرى الصمَّ البُكمَ العُمي الحفاةَ رعاءَ الشاء يتطاولون في البنيان ملوك الناس"، قال: فقام الرجُلُ، فانطلق، فقلنا: يا رسولَ الله، مَنْ هؤلاء الذين نَعتَّ؟ قال:"هم العُريب"
(1)
. وكذا روى هذه اللفظة الأخيرة عليُّ بنُ زيد، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر
(2)
.
وأمَّا الألفاظ الأُوَلُ، فهي في الصحيح من حديث أبي هريرة بمعناها.
وقوله: "الصمّ البكم العمي" إشارة إلى جهلهم وعدم علمهم وفهمهم. وفي هذا المعنى أحاديث متعددة، فخرَّج الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تقومُ السَّاعة حتى يكونَ أسعدُ النَّاسِ بالدُّنيا لكع بن لكع"
(3)
.
وفي "صحيح ابن حبان"
(4)
عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تنقضي الدنيا حتى تكونَ عندَ لكع بن لكعٍ".
(1)
هي رواية المروزي في "الصَّلاة"(367)، وعنده:"العرب" بدل "العُريْب".
(2)
رواه أحمد 2/ 107، والمروزي (371). وعلي بن زيد - وهو ابن جدعان -. فيه ضعف.
(3)
رواه أحمد 5/ 389، والترمذي (2209)، وحسّنه. وله شواهد يصحُّ بها. انظرها عند ابن حبان (6721).
قال ابن الأثير في "النهاية" 4/ 268: اللكع عند العرب: العبد، ثمّ استُعمل في الحمق والذَّم. يقال للرجل: لُكَع، وللمرأة: لَكاعِ. وقد لَكِعَ الرجلُ يَلْكَعُ لكعًا، فهو ألكع.
وأكثر ما يقع في النداء، وهو اللئيم. وقيل: الوسخ، وقد يطلق على الصغير. ومنه الحديث:"أنَّه عليه السلام جاء يطلب الحسَن بن علي قال: أثَمَّ لكع؟ " فإن أطلق على الكبير أريد به الصغيرُ العلم والعقل.
(4)
برقم (6721). وإسناده صحيح.
وخرّج الطبراني
(1)
من حديث أبي ذرٍّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقومُ الساعةُ حتى يغلبَ على الدُّنيا لكعُ بنُ لكع".
وخرّج الإمام أحمد والطبراني من حديث أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "بين يدي الساعة سِنُون خدَّاعةٌ، يُتَّهمُ فيها الأمينُ، ويؤتَمنُ
(2)
فيها المتَّهمُ، وينطق فيها الرُّويبضةُ"، قالوا: وما الرويبضة؟ قال: "السَّفيه ينطق في أمرِ العامَّة". وفي رواية: "الفاسق يتكلّم في أمر العامة". وفي رواية للإمام أحمد: "إن بين يدي الدجال سنين خداعة، يُصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق ويخوَّن فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن"، وذكر باقيه
(3)
.
ومضمونُ ما ذكر من أشراطِ الساعة في هذا الحديث يَرجِعُ إلى أن الأمور تُوَسَّدُ إلى غير أهلها، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الساعة:"إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"
(4)
، فإنه إذا صار الحفاةُ العراةُ رعاءُ الشاءِ، - وهم أهلُ الجهل والجفاء - رؤوسَ الناس، وأصحابَ الثروة والأموال، حتى يتطاولوا في البنيان، فإنه يفسد بذلك نظامُ الدين والدنيا، فإنه إذا رأسَ الناسَ مَنْ كانَ فقيرًا عائلًا، فصار ملكًا على الناسَ، سواء كان مُلكُه عامًا أو خاصًّا في بعض الأشياء، فإنه لا يكادُ يعطي الناسَ حقوقَهم، بل يستأثر عليهم بما استولى عليه من المال، فقد قال بعض السلف
(5)
: لأنْ تمدَّ يدكَ إلى فم التنّين، فيقْضَمها،
(1)
في "الأوسط": قال الهيثمي في "المجمع" 7/ 326: ورجاله وثقوا، وفي بعضهم ضعف.
(2)
في (أ) و (ب): "ويؤمن"، والمثبت من "المسند" وغيره.
(3)
رواه أحمد 3/ 220، والطبراني في "الأوسط"، وأبو يعلى (3715)، والبزار (3373)، وفيه محمد بن إسحاق، وقد صرَّح بالتحديث عند البزار، فانتفت شُبهة تدليسه. وجوَّد إسناده الحافظ في "الفتح" 13/ 84.
(4)
رواه البخاري (59) و (6496) من حديث أبي هريرة.
(5)
هو سُفيان الثوري. وقوله هذا رواه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 22 - 23.
خيرٌ لك من أن تمدَّها إلى يد غنيٌّ قد عالج الفقرَ. وإذا كان مع هذا جاهلًا جافيًا، فسد بذلك الدين، لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، بل هِمته في جباية المال واكتنازه، ولا يُبالي بما فسد من دينِ الناسِ، ولا بمن ضاعَ من أهل حاجاتهم.
وفي حديث آخر: "لا تقوم الساعةُ حتَّى يسودَ كُلَّ قبيلة منافقوها"
(1)
.
وإذا صار ملوكُ الناس ورؤوسهُم على هذه الحال، انعكست سائرُ الأحوال، فصُدِّقَ الكاذبُ، وكُذِّبَ الصادقُ، وائتُمِنَ الخائنُ، وخوِّنَ الأمينُ، وتكلَّمَ الجاهلُ، وسكتَ العالم، أو عُدِمَ بالكلية، كما صحَّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنَّ من أشراط الساعة أن يُرفَعَ العلمُ، ويظهر الجهلُ"
(2)
وأخبر: "أنه يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"
(3)
. وقال الشَّعبي: لا تقومُ السَّاعة حتَّى يصيرَ العلمُ جهلًا، والجهلُ علمًا.
وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور.
وفي "صحيح الحاكم"
(4)
عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "إن من أشراط
(1)
رواه الطبراني، والبزار (3416) من حديث أبي مسعود. قال الهيثمي في "المجمع" 7/ 327: فيه حسين بن قيس، وهو متروك.
ورواه الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي بكرة. قال الهيثمي 7/ 328: وفيه مبارك بن فضالة، وهو مدلِّس. وحبيب بن فروخ لم أعرفه.
(2)
رواه من حديث أنس: البخاري (80)، ومسلم (2671)، وأحمد 3/ 98.
(3)
رواه من حديث عبد الله بن عمرو أحمد 2/ 162 و 190، والبخاري (100)، و (7307)، ومسلم (2673)، وصححه ابن حبان (4571) و (6719) و (6723)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4)
4/ 554 - 555، وصححه ووافقه الذهبي. ورواه أيضًا الطبراني، قال الهيثمي في =
الساعة أن يُوضع الأخيارُ، ويُرفع الأشرارُ".
وفي قوله: "يتطاولون في البنيان" دليل على ذمِّ التباهي والتفاخر، خصوصًا بالتطاول في البنيان، ولم يكن إطالة البناء معروفًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل كان بنيانهم قصيرًا بقدر الحاجة، وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ السَّاعةُ، حتَّى يتطاول الناسُ في البنيان". خرّجه البخاري
(1)
.
وخرج أبو داود
(2)
من حديث أنسٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قُبَّةً مشرفة، فقال:"ما هذه"؟ قالوا: هذه لفلان، رجل من الأنصار، فجاء صاحبُها، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعرضَ عنه، فعلَ ذلك مرارًا، فهدمها الرجُلُ. وخرَّجه الطبراني من وجه آخر عن أنس أيضًا، وعنده، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"كلُّ بناءٍ - وأشار بيده هكذا على رأسه - أكثر مِنْ هذا، فهو وبالٌ".
وقال حريثُ بن السائب عن الحسن: كنتُ أدخلُ بيوتَ أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان رضي الله عنه فأتناولُ سقفَها بيدي.
ورُوي عن عمرَ أنه كتب: لا تُطيلوا بناءَكم، فإنه شرُّ أيامكم.
وقال يزيدُ بن أبي زياد: قال حذيفة لسلمان: ألا نبني لك مسكنًا يا أبا عبد الله؟ قال: لم لتجعلني ملكًا؟ قال: لا، ولكن نبني لك بيتًا من قصب ونَسقفه بالبواري، إذا قمت كاد أن يصيب رأسك، وإذا نمت كاد أن يمس طرفيك، قال: كأنك كنت في نفسي
(3)
.
= (المجمع) 7/ 326: ورجاله رجال الصحيح.
(1)
برقم (7121). ورواه أيضًا أحمد 2/ 530.
(2)
برقم (5237)، وإسناده حسن.
(3)
"الحلية" 1/ 202.
وعن عمار بن أبي عمار قال: إذا رفع الرجل بناءه فوق سبع أذرع، نودي يا أفسقَ الفاسقين، إلى أين؟.
خرّجه كله ابنُ أبي الدنيا.
وقال يعقوب بنُ شيبة في "مسنده": بلغني عن ابن عائشة حدثنا ابن أبي شُميلة قال: نزل المسلمون حولَ المسجد: يعني بالبصرةِ في أخبية الشَّعرِ، ففشا فيهم السَّرَقُ، فكتبوا إلى عمرَ، فأذن لهم في اليراع، فبنوا بالقصب، ففشا فيهمُ الحريقُ، فكتبوا إلى عمر، فأذن لهم في المدَرِ، ونهى أن يرفعَ الرجل سمكه أكثر من سبعة أذرع، وقال: إذا بنيتُم منه بيوتكم، فابنوا منه المسجدَ. قال ابن عائشة: وكان عتبة بن غزوان بنى مسجدَ البصرة بالقصب، قال: من صلى فيه وهو من قصب أفضلُ ممن صلى فيه وهو مِنْ لبن، ومن صلى فيه وهو من لبن خير، ممن صلَّى فيه وهو من آجُر.
وخرّج ابن ماجه من حديث أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تقومُ الساعةُ حتَّى يتباهى الناسُ في المساجد"
(1)
.
ومن حديث ابن عباس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أراكم ستُشرِّفون مساجدكم بعدي كما شرَّفتِ اليهود كنائسها، وكما شرَّفت النصارى بِيَعَها"
(2)
.
وروى ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن - رضي الله
(1)
هو في "سنن ابن ماجه"(739)، وصححه ابن حبان (1614)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه ابن ماجه (740)، وإسناده ضعيف. ورواه أبو داود (448) بلفظ:"ما أمرت بتشييد المساجد". قال ابن عبّاس: لتُزخرِفُنَّها كما زخرفتها اليهود والنصارى. وصححه ابن حبان (1615).
عنه، قال: قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، قال:"ابنوه عريشًا كعريش موسى". قيل للحسن: وما عريشُ موسى؟ قال: إذا رفع يَده بلغ العريش: يعني السقف
(1)
.
(1)
ورواه البيهقي من طريق ابن أبي الدنيا كما في "تاريخ ابن كثير" 3/ 214، وهو مرسل ضعيف، فيه إسماعيل بن مسلم - وهو البصري - ضعيف.
الحديث الثالث
عن عبد اللهِ بن عُمرَ رضي الله عنهما قالَ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "بُنِي الإسلامُ عَلى خَمْسٍ: شَهادةِ أنْ لا إِلهَ إلَّا الله، وأنَّ مُحمَّدًا عَبْدُه ورَسولُهُ، وإقام الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزّكاةِ، وحَجِّ البيتِ، وصَومِ رَمضانَ" رَواهُ البُخارِي ومُسلمٌ
(1)
.
هذا الحديثُ خرَّجاه في "الصحيحين" من رواية عكرمة بن خالد عن ابن عمر، وخرجه مسلم من طريقين آخرين عن ابن عمرَ، وله طرقٌ أخرى عنه
(2)
.
وقد روي هذا الحديث من رواية جريرِ بن عبدِ الله البجلي، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخرج حديثَه الإمام أحمدُ
(3)
.
وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكرُ الإسلام.
(1)
رواه البخاري (8)، ومسلم (16). ورواه أيضًا أحمد 2/ 26 و 93 و 120 و 143، والحميدي (703)، والترمذي (2609)، والنسائي 8/ 107، وصححه ابن حبان (158) و (1446). وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
انظرها في "صحيح ابن حبان"(158).
(3)
في "المسند" 4/ 363 و 364، ورواه أيضًا الطبراني في "الكبير"(2363) و (2364)، وفي "الصغير"(782)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(419) - (422).
وذكره الهيثمي في "المجمع" 1/ 47، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في "الكبير" و "الصغير". وإسناد أحمد صحيح.
والمرادُ من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه، وقد خرَّجه محمدُ بنُ نصر المروزي في "كتاب الصلاة"
(1)
، ولفظه:"بُني الإسلام على خمس دعائم" فذكره. والمقصودُ تمثيل الإسلام ببنيانه ودعائم البنيان هذه الخمس، فلا يثبت البنيانُ بدونها، وبقيةُ خصالِ الإسلام كتتمة البنيان، فإذا فقد منها شيء، نقص البنيانُ وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك، بخلاف نقضِ هذه الدعائم الخمس؛ فإن الإسلام يزولُ بفقدها جميعِها بغير إشكال، وكذلك يزولُ بفقدِ الشهادتين، والمرادُ بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله. وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقًا:"بني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله"
(2)
، وذكر بقية الحديث. وفي رواية لمسلم:"على خمس: على أن يُوحَّدَ الله" وفي رواية له: "على أن يُعبَد الله ويُكفَرَ بما دونه".
وبهذا يُعلم أن الإيمان باللهِ ورسوله داخل في ضمن الإسلام كما سبق تقريره في الحديث الماضي.
وأما إقام الصَّلاة، فقد وردت أحاديثُ متعددةٌ تدلٌ على أن من تركها، فقد خرج من الإسلام، ففي "صحيح مسلم"
(3)
عن جابر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"بَيْنَ الرجل وبَينَ الشِّركِ والكفرِ تركُ الصلاة"، ورُوي مثلُه من حديث بُريدة
(4)
(1)
برقم (413). وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(2)
البخاري (4514).
(3)
برقم (82). ورواه أيضًا أبو داود (4678)، والترمذي (2618)، وابن ماجه (1078)، وصححه ابن حبان (1453)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4)
رواه أحمد 5/ 346 و 355، والترمذي (2621)، والنسائي 1/ 231، وابن ماجه (1079)، وصححه ابن حبان (1554)، والحاكم 1/ 6، ووافقه الذهبي.
وثوبان
(1)
وأنس
(2)
وغيرهم.
وخرج محمد بنُ نصر المروزيُّ من حديث عُبادة بن الصامت، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتركِ الصَّلاةَ متعمدًا، فمن تركها متعمدًا، فقد خرج من الملة"
(3)
.
وفي حديث معاذ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاةُ"
(4)
فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاطُ ولا يثبتُ إلا به، ولو سقط العمودُ، لسقط الفسطاط، ولم يثبت بدونه.
وقال عمر: لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة
(5)
، وقال سعد
(6)
(1)
رواه اللَّالكائي في "أصول الاعتقاد"(1521)، وصححه على شرط مسلم، وذكره الحافظ المنذري 1/ 379، وقال: رواه هِبةُ اللهِ الطبري بإسناد صحيح.
(2)
رواه ابن ماجه (1080)، والمروزي (897) و (900)، وفي إسناده يزيد الرُّقاشي، وهو ضعيف.
(3)
هو في "تعظيم قدر الصلاة"(920)، ورواه اللالكائي في "أصول الاعتقاد"(1522)، وإسناده ضعيف، وله شاهد من حديث أميمة عند المروزي (912)، وعن أمِّ أيمن عند أحمد 6/ 421، والمروزي (913).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
رواه مالك 1/ 38 - 39، وابن سعد في "الطبقات" 3/ 351، والمروزي (923) و (929)، واللالكائي (1528) و (1529)، والآجري في "الشريعة" ص 134، وابن أبي شيبة 11/ 25.
(6)
يغلب على الظنّ أنه سعد بن عمارة أحد بني سعد بن بكر. ذكره البخاري في الصحابة، وروى محمد بن نصر (946) من طريق ابن إسحاق، قال: حدَّثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن سعيد الأنصاري أنَّه حدَّث عن سعد بن عُمارة أخي بني سعد بن بكر - وكانت له صحبة - أن رجلًا قال له: عِظْني في نفسي، رحمك الله! قال: إذا أنت قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوءَ، فإنَّه لا صلاة =
وعليُّ بنُ أبي طالبٍ
(1)
: من تركها، فقد كفر.
وقال عبد الله بنُ شقيق: كانَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَرَونَ من الأعمال شيئًا تركه كفر غير الصلاة
(2)
.
وقال أيوب السختياني: تركُ الصَّلاةِ كفرٌ، لا يُختَلَفُ فيه.
وذهب إلى هذا القول جماعةٌ من السلف والخلف، وهو قولُ ابن المبارك وأحمد وإسحاق، وحكى إسحاق عليه إجماعَ أهل العلم! وقال محمد بن نصر المروزي: هو قولُ جمهور أهل الحديث.
وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئًا من أركان الإِسلام الخمسة عمدًا أنه كافر بذلك، ورُوي ذلك عن سعيد بن جبير ونافع والحكم، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفةٌ من أصحابه وهو قول ابن حبيبٍ من المالكية.
وخرَّج الدَّارقطني وغيرُه من حديثِ أبي هريرة قال: قيل: يا رسولَ الله الحج في كلِّ عام؟ قال: "لو قلتُ: نعم، لوجب عليكم، ولو وجب عليكم، ما أطقتُموه، ولو تركتموه لكفرتُم"
(3)
.
= لمن لا وضوء له، ولا إيمان لمن لا صلاة له، ثمَّ إذا صليت، فصلِّ صلاةَ مودِّعٍ، واترك طلب كثير من الحاجات، فإنَّه فقر حاضر، واجمع اليأسَ مما عندَ الناس، فإنه هو الغِنى، وانظر إلى ما يُعتذر منه من القول والفعل، فاجتنبه.
وانظر "أسد الغابة" 2/ 362.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" 11/ 47، وفي "الإيمان"(126)، والمروزي (933)، والآجري ص 135، وفيه معقل الخثعمي، وهو مجهول.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 11/ 49، والترمذي (2622)، والمروزي (948)، وإسناده صحيح.
(3)
ورواه بهذا اللفظ عبد بن حميد في "مسنده" كما في "الدرّ المنثور" 2/ 273 عن الحسن مرسلًا. والحديث أصله في "صحيح مسلم"(1337) دون قوله: "ولو تركتموه لكفرتم". =
وخرّج اللالكائي
(1)
من طريق مؤمَّل، قال: حدثنا حمادُ بنُ زيد عن عمرو بن مالك النُّكري، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس، ولا أحسبه إلا رفعه قال:"عُرى الإسلام وقواعدُ الدِّين ثلاثةٌ، عليهن أُسِّسَ الإسلامُ: شهادةُ أن لا إله إلَّا الله، والصَّلاةُ، وصومُ رمضانَ. من ترك منهنَّ واحدةً، فهو بها كافرٌ، حلالُ الدَّمِ، وتجدُه كثير المال لم يحجَّ، فلا يزالُ بذلك كافرًا ولا يحلُّ دَمُهُ، وتجده كثيرَ المال فلا يزكِّي، فلا يزالُ بذلك كافرًا ولا يحلُّ دمه" ورواه قتيبة بنُ سعيدٍ عن حماد بن زيد موقوفًا مختصرًا، ورواه سعيدُ بنُ زيد أخو حماد، عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعًا، وقال:"من ترك منهنّ واحدةً، فهو باللهِ كافرٌ، ولا يُقبَلُ منه صرفٌ ولا عدلٌ، وقد حلَّ دمُه ومالهُ" ولم يذكر ما بعده.
وقد رُويَ عن عمر ضربُ الجزية على من لم يحجَّ، وقال: ليسوا بمسلمين
(2)
. وعن ابن مسعود أن تارك الزَّكاة ليس بمسلم
(3)
، وعن أحمد رواية: أن ترك الصلاة والزكاة خاصَّةً كفرٌ دونَ الصيام والحج.
وقال ابن عيينة: المرجئة سَمَّوا تركَ الفرائض ذنبًا بمنزلة ركوبِ المحارم، وليس سواء، لأنَّ ركوب المحارم متعمدًا من غير استحلالٍ معصيةٌ، وتركَ الفرائض من غير جهلٍ، ولا عذرٍ هو كفر. وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهودِ الذين أقرُّوا بنَعتِ النَّبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم، ولم يعملوا بشرائعه.
= وله شاهد من حديث أنس عند ابن ماجه (2885)، وفيه:"ولو لم تقوموا بها عذِّبتُم"، وصححه البوصيري في "الزوائد"، وقال الحافظ في "التلخيص" 2/ 220: رجاله ثقات.
(1)
في "أصول الاعتقاد"(1576)، ورواه أيضًا أبو يعلى (2349)، وإسناده ضعيف. مؤمَّل سيِّء الحفظ، وعمرو بن مالك النّكري صاحب أوهام.
(2)
تقدم تخريجه ص (62) ت (1).
(3)
تقدم تخريجه ص (61) ت (2).
وقد استدلَّ أحمد وإسحاق على كفرِ تاركِ الصَّلاةِ بكفر إبليسَ بترك السجودِ لآدمَ، وتركُ السُّجود لله أعظم.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا قرأ ابنُ آدم السَّجدةَ فسجدَ، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويلي أُمِرَ ابنُ آدْمَ بالسُّجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار"
(1)
.
واعلم أن هذه الدعائم الخمسَ بعضُها مرتبطُ ببعض، وقد روي أنه لا يُقبل بعضُها بدون بعض كما في "مسند الإمام أحمد"
(2)
عن زياد بن نُعيم الحضرمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ فرضهنّ الله في الإسلام، فمن أتى بثلاثٍ لم يُغنين عنه شيئًا حتى يأتي بهنّ جميعًا: الصَّلاةُ، والزكاةُ، وصومُ رمضان، وحَجُّ البيتِ" وهذا مرسل، وقد روي عن زياد عن عُمارةَ بن حزم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
ورُوي عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدِّين خمسٌ لا يقبلُ الله منهن شيئًا دون شيء: شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا عبدُه ورسوله، وإيمانٌ بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه، وبالجنة والنار، والحياةِ بعدَ الموتِ هذه واحدة، والصلواتُ الخمسُ عمود الدين لا يقبلُ الله الإيمان إلَّا بالصلاة، والزكاةُ طهور من الذنوب، ولا يقبلُ الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة، فمن فعل هؤلاء، ثم جاء رمضان فترك صيامَه متعمدًا،
(1)
هو في "صحيح مسلم"(81)، ورواه أحمد 2/ 443، وصححه ابن خزيمة (549)، وعنه ابن حبان (2759)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
4/ 200 - 201، وإسناده مرسل كما قال المصنِّف، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.
(3)
رواه أحمد والطبراني في "الكبير" كما في "المجمع" 1/ 47، وقال الهيثمي: وفي إسناده ابن لهيعة.
لم يقبل الله منه الإيمانَ، ولا الصلاةَ، ولا الزكاة، فمن فعل هؤلاء الأربع، ثم تيسَّر له الحجّ، فلم يحجّ، ولم يُوص بحجة، ولم يحجَّ عنه بعض أهله، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها" ذكره ابن أبي حاتم
(1)
، وقال: سألت أبي عنه فقال: هذا حديث منكر يُحتمل أن هذا من كلام عطاء الخراساني.
قلت: الظاهر أنَّه من تفسيرِهِ لحديث ابن عمرَ، وعطاءٌ من جلَّةِ عُلَماءِ الشَّام.
وقال ابنُ مسعود: من لم يزكِّ، فلا صلاةَ له. ونفيُ القبولِ هنا لا يُراد به نفيُ الصِّحَّةِ، ولا وجوب الإعادة بتركه، وإنما يُراد بذلك انتفاء الرِّضا به، ومدح عامله، والثناء بذلك عليه في الملإ الأعلى، والمباهاة به للملائكة.
فمن قام بهذه الأركان على وجهها، حصل له القبول بهذا المعنى، ومن قام ببعضها دُونَ بعضٍ، لم يحصل له ذلك، وإن كان لا يُعاقَبُ على ما أتى به منها عقوبةَ تاركه، بل تَبرَأَ به ذمته، وقد يُثابُ عليه أيضًا.
ومن هنا يُعلَمُ أن ارتكابَ بعضِ المحرماتِ التي ينقص بها الإيمانُ تكونُ مانعةً من قبول بعض الطاعات، ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ شرِبَ الخمرَ لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا"
(2)
، وقال:"مَنْ أتى عرَّافًا فصدَّقه بما يقولُ، لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا"
(3)
، وقال:"أيما عبدٍ أبقَ من مواليه، لم تُقبَلْ له صلاةٌ"
(4)
.
(1)
في "العلل" 1/ 294 و 2/ 156، ورواه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 201 - 202، وقال: غريب من حديث ابن عمر من هذا اللفظ.
(2)
رواه مسلم (2003) عن ابن عمر.
(3)
رواه مسلم (2230).
(4)
رواه مسلم (69) من حديث جرير.
وحديثُ ابن عمر يستدلُّ به على أن الاسمَ إذا شمل أشياءَ متعدِّدةً، لم يَلزم زوال الاسم بزوال بعضها، فيبطل بذلك قولُ من قال: إنَّ الإِيمانَ لو دخلت فيه الأعمال، للزم أن يزولَ بزوالِ عمل مما دخل في مسمَّاه، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جعل هذه الخمسَ دعائمَ الإِسلام ومبانيه، وفسر بها الإِسلام في حديث جبريل، وفي حديث طلحة بن عُبيد الله الذي فيه أن أعرابيًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الإِسلام، ففسره له بهذه الخمس
(1)
.
ومع هذا فالمخالفون في الإِيمان يقولون: لو زال من الإِسلام خَصلةٌ واحدةٌ، أو أربع خصالٍ سوى الشهادتين، لم يخرج بذلك من الإِسلام. وقد روى بعضهم أن جبريلَ عليه السلام سأَل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإِسلام، لا عن الإِسلام، وهذه اللفظة لم تصحَّ عندَ أئمَّة الحديثِ ونُقَّاده، منهم أبو زُرعة الرازي، ومسلم بن الحجاج، وأبو جعفر العُقيلي وغيرُهم.
وقد ضرب العلماءُ مثل الإِيمان بمثلِ شجرة لها أصلٌ وفروعٌ وشُعَبٌ، فاسمُ الشجرةِ يَشمَلُ ذلك كلَّه، ولو زال شيءٌ من شُعَبها وفروعها، لم يزُل عنها اسمُ الشجرة، وإنَّما يُقال: هي شجرة ناقصةٌ، أو غيرُها أتمُّ منها.
وقد ضربَ الله مثلَ الإِيمان بذلك في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24، 25]. والمرَاد بالكلمة كلمةُ التَّوحيد، وبأصلها التَّوحيد الثَّابت في القلوب، وأُكُلها: هو الأعمال الصالحة الناشئة منه.
وضرب النبيُّ صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمسلمِ بالنَّخلة
(2)
، ولو زال شيءٌ من فروع
(1)
رواه مالك 1/ 175، ومن طريقه أحمد 1/ 162، والبخاري (46)، ومسلم (11)، وابن حبان (1724)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
حديث حسن بشواهده، رواه من حديث أبي رزين العقيلي البخاري في "التاريخ" =
النخلة، أو من ثمرها، لم يزل بذلَك عنها اسمُ النخلة بالكلية، وإن كانت ناقصةَ الفروع أو الثَّمر.
ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا، مع أن الجهادَ أفضلُ الأعمال، وفي رواية: أن ابنَ عمر قيل له: فالجهاد؟ قال: الجهاد حسن، ولكن هكذا حدَّثنا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم. خرَّجه الإِمام أحمد.
وفي حديث معاذ بن جبل: "إنَّ رأسَ الأمرِ الإِسلامُ، وعمودهُ الصَّلاةُ، وذِروةُ سنامه الجهاد" وذروةُ سنامه: أعلى شيء فيه، ولكنه ليس من دعائمه وأركانه التي بُني عليها، وذلك لوجهين:
أحدهما: أن الجهادَ فرضُ كفاية عند جمهورِ العلماء، ليس بفرضِ عينٍ، بخلاف هذه الأركان.
والثاني: أن الجهاد لا يَستمِرُّ فعلُه إلى آخر الدَّهر، بل إذا نزل عيسى عليه السلام، ولم يبقَ حينئذٍ ملة غير ملةِ الإِسلام، فحينئذٍ تضعُ الحربُ أوزارَها، ويُستغنى عن الجهاد، بخلاف هذه الأركان، فإنَّها واجبةٌ على المؤمنين إلى أن يأتيَ أمرُ الله وهم على ذلك، والله أعلم.
= 7/ 248، والطبراني في "الكبير" 19/ (460)، والقضاعي (1353) و (1354)، وصححه ابن حبان (247).
ورواه أحمد 2/ 199، والرامهرمزي في "الأمثال" ص 64 - 65 من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه الحاكم 1/ 75 - 76، ووافقه الذهبي.
ورواه أبو الشيخ في "الأمثال"(353) و (354) من حديث ابن عمر.
الحديث الرابع
عَنْ عبدِ اللهِ بن مَسعودٍ رضي الله عنه قالَ: حَدَّثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ الصَّادِقُ المَصدوقُ: "إنَّ أحَدكُم يُجْمَعُ خَلقُهُ في بَطنِ أُمِّهِ أربعِينَ يَومًا نطفة، ثمَّ يكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثمَّ يَكونُ مُضغةً مِثلَ ذلكَ، ثمَّ يُرسَلُ الله إليه المَلَك، فيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ، ويُؤْمَرُ بأربَعِ كلِماتٍ: بِكَتْب رِزقه وعمله وأجَلِه، وشقيٌّ أو سَعيدٌ، فوالَّذي لا إله غيره إنَّ أحدكُم ليَعْمَلُ بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتَّى ما يَكونَ بينَهُ وبَينها إلَّا ذِراعٌ، فيَسبقُ عليهِ الكِتابُ فيَعمَلُ بعمَلِ أهل النَّارِ فيدخُلها، وإنَّ أحدكم ليَعمَلُ بعملِ أَهل النَّارِ حتَّى ما يَكونَ بينَهُ وبينَها إلَّا ذِراعٌ، فيسبِقُ عليه الكِتابُ، فيعمَلُ بعملَ أهل الجنَّةِ فيدخُلُها" رَواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ
(1)
.
هذا الحديث متفق على صحته، وتلقته الأمة بالقبول، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، ومن طريقه خرَّجه الشيخان في "صحيحيهما".
وقد رُوي عن محمد بن يزيد الأسفاطي، قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم، فقلتُ: يا رسول الله، حديث ابن مسعود الذي حدَّث عنك، فقال: حدثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق. فقال صلى الله عليه وسلم:"والذي لا إله إلا هو حدَّثته به أنا" يقولها ثلاثًا، ثم قال: غفر الله للأعمش كما حدَّث به، وغفر الله
(1)
رواه البخاري (3208) و (3332) و (6594) و (7454)، ومسلم (2643)، وأحمد 1/ 382 و 430، وأبو داود (4708)، والترمذي (2137)، وابن ماجه (76)، وابن حبان (6174). وانظر تمام تخريجه فيه.
لمن حدَّث به قبلَ الأعمش، ولمن حدَّث به بعده
(1)
.
وقد روي عن ابن مسعودٍ من وجوهٍ أخر.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطنِ أمِّه أربعين يومًا نُطفةً" قد روي تفسيرُه عن ابن مسعود؛ روى الأعمش عن خيثمَة، عن ابن مسعودٍ، قال: إن النطفَة إذا وقعت في الرحم، طارت في كلِّ شعرٍ وظُفر، فتَمكثُ أربعين يومًا، ثم تنحدِرُ في الرَّحم، فتكونُ علقةً. قال: فذلك جمعُها. خرَّجه ابن أبي حاتم وغيره
(2)
.
وروي تفسير الجمع مرفوعًا بمعنى آخر، فخرَّج الطبراني وابنُ منده في كتاب "التَّوحيد" من حديث مالك بن الحويرث أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله تعالى إذا أرادَ خلقَ عبدٍ، فجامعَ الرَّجُلُ المرأةَ، طار ماؤهُ في كلِّ عرقٍ وعضوٍ منها، فإذا كانَ يومُ السابع جمعه الله، ثم أحضره كلّ عرق له دونَ آدم: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} " وقال ابن منده: إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما
(3)
.
(1)
رواه اللالكائي في "الاعتقاد"(1043).
(2)
ورواه أيضًا الخطابي في "معالم السُّنن" 4/ 324، والبيهقي في "الأسماء والصِّفات" ص 387، وذكره ابن الأثير في "النهاية" 1/ 297. وقال الحافظ في "الفتح" 11/ 480: وقوله: "فذلك جمعها" كلام الخطابي، أو تفسير بعض رواة حديث الباب، وأظنُّه الأعمش، فظنَّ ابن الأثير أنه تتمة كلام ابن مسعود، فأدرجه فيه، ولم يتقدم عن ابن مسعود في رواية خيثمة ذكر الجمع حتَّى يفسِّره.
(3)
رواه الطبراني في "الكبير" 19/ (644)، وفي "الصغير"(106)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 387، وذكره الهيثمي في "المجمع" 7/ 134، وقال: رجاله ثقات، وجوَّد إسناده السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 439.
وخرَّج ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حاتم، والطبراني من رواية مُطَهَّرِ بن الهيثم، عن موسى بن عُلي بن رباح، عن أبيه، عن جدّه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لجدّه:"يا فلان، ما وُلِدَ لك؟ " قال: يا رسول الله، وما عسى أن يُولَدَ لي؟ إمَّا غلامٌ وإمَّا جاريةٌ، قال:"فمن يشبهُ؟ " قال: من عسى أن يُشبه؟ يشبه أمه أو أباه، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولن كذا. إن النطفة إذا استقرت في الرحم، أحضرها الله كلّ نسب بينها وبين آدم، أَمَا قرأت هذه الآية: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، قال: سلكك" وهذا إسناد ضعيف
(1)
. ومطهر بن الهيثم ضعيف جدًّا. وقال البخاري: هو حديث لم يصح وذكر بإسناده عن موسى بن عُلي عن أبيه أن أباه لم يُسلم إلا في عهد أبي بكر الصدّيق يعني: أنه لا صحبة له.
ويشهد لهذا المعنى قولُ النَّبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له: وَلَدتِ امرأتي غُلامًا أسودَ: "لعله نزعه عرق"
(2)
.
وقوله: "ثم يكون علقةً مثل ذلك" يعني: أربعين يومًا، والعلقة: قطعةٌ من دم.
"ثم يكون مضغةً مثلَ ذلك" يعني: أربعين يومًا. والمضغة: قطعة من لحم.
"ثمَّ يُرسلُ الله إليه المَلَك، فينفخ فيه الرُّوحَ، ويؤمر بأربع كلمات: بكتبِ رزقِه وعملهِ وأجلهِ وشقيّ أو سعيد".
فهذا الحديث يدلُّ على أنه يتقلب في مئة وعشرين يومًا، في ثلاثة أطوار، في كلّ أربعين منها يكون في طَوْرٍ، فيكون في الأربعين الأولى نطفةً، ثم في
(1)
رواه الطبري في "جامع البيان" 30/ 87، ورواه الطبراني في "الكبير"(4624)، وأورده ابن كثير من رواية الطبري وابن أبي حاتم والطبراني، وقال: إسناده ليس بالثابت.
(2)
رواه من حديث أبي هريرة البخاري (5305) و (6847)، ومسلم (1500).
الأربعين الثانية علقةً، ثم في الأربعين الثالثة مضغةً، ثم بعد المئة وعشرين يومًا ينفخ المَلَكُ فيه الرُّوحَ، ويكتب له هذه الأربع كلمات.
وقد ذكر الله في القرآن في مواضعَ كثيرةٍ تقلُّبَ الجنين في هذه الأطوار، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 5].
وذكر هذه الأطوار الثلاثة: النُّطفة والعلقةَ والمضغة في مواضع متعددةٍ من القرآن، وفي موضع آخر ذكر زيادةً عليها، فقال في سورة المؤمنين [12 - 14]:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .
فهذه سبعُ تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدمَ قبل نفخ الروح فيه. وكان ابنُ عباس يقول: خُلِقَ ابنُ آدمَ مِنْ سبع، ثم يتلو هذه الآية. وسئل عن العزل، فقرأ هذه الآية ثم قال: فهل يخلق أحد حتَّى تجري فيه هذه الصفة؟. وفي رواية عنه قال: فهل تموت نفس حتَّى تمر على هذا الخلق؟
(1)
.
ورُوي عن رفاعة بن رافع قال: جلس إليَّ عمر وعلي والزبير وسعد في نفر مِنْ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكَروا العزلَ، فقالوا: لا بأس به، فقال رجلٌ: إنَّهم يزعمون أنَّها الموؤودةُ الصُّغرى، فقال علي: لا تكون موؤودةً حتَّى تمرَّ على التَّارات السَّبع: تكون سُلالةً من طين، ثمَّ تكونُ نطفةً، ثم تكونُ علقةً، ثم تكون مضغةً، ثم تكونُ عظامًا، ثم تكون لحمًا، ثم تكون خلقًا آخرَ، فقال عمرُ: صدقتَ، أطالَ الله بقاءك. رواه الدارقطني في "المؤتلف والمختلف"
(2)
.
(1)
رواه عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، كما في "الدر المنثور" 1/ 91.
(2)
2/ 877، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.
وقد رخص طائفةٌ مِنَ الفقهاء للمرأةِ في إسقاط ما في بطنها ما لم يُنفخ فيه الرُّوحُ، وجعلوه كالعزلِ، وهو قولٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الجنين ولدٌ انعقدَ، وربما تصوَّر، وفي العزل لم يُوجَدْ ولدٌ بالكُلِّيَّةِ، وإنَّما تسبَّب إلى منع انعقاده، وقد لا يمتنع انعقادُه بالعزل إذا أراد الله خلقه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا سُئِلَ عن العزل:"لا عليكم أنْ لا تَعزِلُوا، إنَّه ليس مِن نفس منفوسة إلَّا الله خالقُها"
(1)
. وقد صرَّح أصحابنا بأنَّه إذا صار الولدُ علقةً، لم يجُز للمرأة إسقاطُه؛ لأنَّه ولدٌ انعقدَ، بخلاف النُّطفة، فإنَّها لم تنعقد بعدُ، وقد لا تنعقدُ ولدًا.
وقد ورد في بعض روايات حديث ابن مسعودٍ ذكرُ العظامِ، وأنَّه يكونُ عظمًا أربعين يومًا، فخرَّج الإِمام أحمد من رواية على بن زيدٍ سمعت أبا عبيدةَ يحدِّثُ قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ النُّطفةَ تكونُ في الرَّحمٍ أربعينَ يومًا على حالها لا تغيَّر، فإذا مضتِ الأربعونَ، صارت علقةً، ثمَّ مضغةً كذلك، ثم عظامًا كذلك، فإذا أراد الله أن يسوِّي خلقَه، بعث الله إليها ملكًا"، وذكر بقية الحديث
(2)
.
ويُروى من حديث عاصم، عن أبي وائل عن ابن مسعودٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ النطفةَ إذا استقرَّت في الرَّحمِ، تكونُ أربعينَ ليلةً، ثم تكونُ علقةً أربعينَ ليلةً، ثم تكونُ عِظامًا أربعين ليلةً، ثم يكسو الله العظامَ لحمًا"
(3)
.
ورواية الإِمام أحمد تدلُّ على أن الجنين لا يُكسى اللَّحمَ إلَّا بعد مئةٍ وستِّين
(1)
رواه من حديث أبي سعيد الخُدري البخاري (2542) و (5210)، ومسلم (1438)، وصححه ابن حبان (4191) و (4193)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه أحمد 1/ 374، وفيه علي بن زيد، وهو ابن جدعان، وهو ضعيف. وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، وانظر "المجمع" 7/ 192 - 193، و"الفتح" 11/ 481.
(3)
ورواه تمَّامٌ في "فوائده"(31) من طريق سليم بن ميمون الخواص (وهو ضعيف) عن يحيى بن عيسى (وهو ضعيف) عن الأعمش عن أبي وائل.
يومًا، وهذه غلطٌ بلا ريبَ، فإنَّه بعد مئة وعشرينَ يومًا يُنفخُ فيه الرُّوحُ بلا ريب كما سيأتي ذكره، وعلي بنُ زيدٍ: هو ابنُ جدعان، لا يحتجّ به. وقد ورد في حديث حذيفة بن أسيدٍ ما يدلّ على خلقِ اللّحمِ والعِظام في أوَّلِ الأربعين الثَّانية، ففي "صحيح مسلم"
(1)
عن حُذيفة بن أسيدٍ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مرَّ بالنُّطفة ثنتان وأربعون ليلةً، بعثَ الله إليها ملَكًا، فصوَّرها وخلق سمعها وبصرَها وجِلدَها ولحمَها وعِظامَها، ثم قال: يا ربِّ أذكرٌ أم أُنثى؟ فيَقضي ربُّك ما شاءَ، ويكتُب المَلَكُ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ أجلُه؟ فيقول ربُّك ما شاءَ، ويكتبُ الملَكُ، ثم يقول: يا ربِّ، رزقُه؟ فيقضي ربُّك ما شاء، ويكتُبُ الملَكُ، ثم يخرُجُ الملكُ بالصَّحيفة في يده فلا يزيد على ما أُمِرَ ولا ينقُصُ".
وظاهر هذا الحديث يدلُّ على أن تصويرَ الجنين وخلقَ سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أوَّل الأربعين الثانية، فيلزمُ من ذلك أنه يكون في الأربعين الثانية لحمًا وعظامًا.
وقد تأوَّل بعضهم ذلك على أن المَلَك يقسِمُ النُّطفةَ إذا صارت علقةً إلى أجزاء، فيجعلُ بعضَها للجلد، وبعضها للحم، وبعضها للعظام، فيقدِّر ذلك كلَّه قبل وجوده. وهذا خلافُ ظاهر الحديث، بل ظاهرُه أنَّه يصوِّرها ويخلُق هذه الأجزاء كلها، وقد يكونُ خلقُ ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وُجودِ اللحم والعظام، وقد يكون هذا في بعض الأجِنَّةِ دُونَ بعض.
وحديث مالكِ بن الحويرث المتقدِّم يدلُّ على أن التَّصويرَ يكونُ للنُّطفة أيضًا في اليوم السابع، وقد قال الله عز وجل:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] وفسَّرَ طائفةٌ مِنَ السَّلَف أمشاجَ النُّطفةِ بالعُروقِ الَّتي فيها. قال ابن مسعود: أمشاجها: عروقها
(2)
.
(1)
برقم (2645)، وصححه ابن حبان (6177)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه الطبري 29/ 205، وفيه المسعودي، وقد اختلط. وذكره السيوطي في "الدر =
وقد ذكر علماء أهل الطبِّ ما يُوافق ذلك، وقالوا: إنَّ المنيَّ إذا وقعَ في الرحم، حصل له زَبَديَّةٌ ورغوةٌ ستَّةَ أيَّامٍ أو سبعة، وفي هذه الأيام تصوَّرُ النطفةُ مِنْ غير استمداد من الرحم، ثم بعدَ ذلك تستمد منه، وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام، وقد يتقدَّم يومًا ويتأخَّر يومًا، ثم بعدَ ستة أيام - وهو الخامس عشر من وقت العلوق - ينفُذُ الدم إلى الجميع فيصير علقة، ثم تتميَّز الأعضاءُ تميزًا ظاهرًا، ويتنحَّى بعضُها عن مُماسَّةِ بعضٍ، وتمتدُّ رطوبةُ النُّخاع، ثم بعد تسعةِ أيام ينفصلُ الرأسُ عن المنكبين والأطراف عن الأصابع تميزًا يتبين في بعض، ويخفى في بعضٍ.
قالوا: وأقلّ مدَّة يتصوَّر الذكر فيها ثلاثون يومًا، والزمان المعتدل في تصوُّرِ الجنين خمسة وثلاثون يومًا، وقد يتصوَّر في خمسة وأربعين يومًا. قالوا: ولم وجد في الأَسقاط ذَكَرٌ تَمَّ قبل ثلاثين يومًا، ولا أنثى قبل أربعين يومًا، فهذا يوافق ما دلَّ عليه حديثُ حذيفةَ بن أسيدٍ في التخليق في الأربعين الثانية، ومصيره لحمًا فيها أيضًا.
وقد حَمل بعضُهم حديث ابن مسعود على أن الجنين يغلِبُ عليه في الأربعين الأولى وصفُ المنيّ، وفي الأربعين الثانية وصفُ العلقة، وفي الأربعين الثالثة وصفُ المضغة، وإن كانت خلقته قد تمَّت وتمَّ تصويرُهُ، وليس في حديث ابن مسعود ذكرُ وقتِ تصوير الجنين
(1)
.
وقد روي عن ابن مسعود نفسِه ما يدلُّ على أن تصويره قد يقعُ قبل الأربعين
= المنثور" 8/ 367، ونسبه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم.
(1)
انظر لزامًا فتاوى ابن الصَّلاح 1/ 164 - 167، وشرح مسلم 16/ 191، و"تُحفة المودود" لابن القيِّم ص 207 - 209 بعناية الأستاذ بسَّام الجابي، و"فتح الباري" 11/ 484.
الثالثة أيضًا، فروى الشَّعبي عن علقمة عن ابن مسعود قال: النُّطفة إذا استقرَّتْ في الرَّحم جاءها ملَكٌ فأخذها بكفه، فقال: أي ربِّ، مخلَّقة أم غير مخلّقة؟ فإن قيل: غير مخلَّقة، لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام، وإن قيل: مخلقة، قال: أي ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ شقيٌّ أم سعيد، ما الأجل وما الأثرُ، وبأيِّ أرضٍ تموتُ؟ قال: فيُقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، فيقال: اذهب إلى الكتاب، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة، قال: فتُخْلَق، فتعيش في أجلها وتأكل رزقها، وتطأ في أثرها، حتَّى إذا جاء أجلُها، ماتت، فدفنت في ذلك، ثم تلا الشَّعبي هذه الآية:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]. فإذا بلغت مضغة، نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة، فإن كانت غير مخلقة، قذفتها الأرحام دمًا، وإن كانت مخلقة نكست نسمة. خرَّجه ابن أبي حاتم وغيره
(1)
.
وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود أنْ لا تصويرَ قبل ثمانين يومًا، فروى السُّدِّيُّ عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرَّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6]، قال: إذا وقعتِ النطفة في الأرحام، طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكونُ علقةً أربعين يومًا، ثم تكونُ مضغةً أَربعين يومًا، فإذا بلغ أن تُخلَّق، بعث الله ملكًا يصوّرها، فيأتي الملَكُ بترابٍ بين أصبعيه، فيخلطه في المضغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّرها كما يؤمر فيقول: أذكرٌ أو أنثى؟ أشقيّ أو سعيد؟ وما رزقه، وما عمره، وما أثره وما مصائبه؟ فيقول الله تبارك وتعالى، ويكتب المَلَكُ، فإذا مات ذلك الجسدُ، دُفِنَ حيثُ
(1)
ورواه أيضًا الطبري 17/ 117، وإسناده صحيح.
أخذ ذلك التراب، خرَّجه ابن جرير الطبري في "تفسيره"
(1)
، ولكن السدي مختلف في أمره، وكان الإِمام أحمد ينكر عليه جمعهُ الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد، كما كان هو وغيرُه يُنكرون على الواقدي جمعه الأسانيدَ المتعددة للحديثِ الواحد.
وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية، وتأوَّلوا حديثَ ابن مسعود المرفوع عليها، وقالوا: أقلُّ ما يتبيَّن خلق الولد أحد وثمانون يومًا، لأنه لا يكون مُضغةً إلا في الأربعين الثالثة، ولا يتخلق قبل أن يكون مضغةً.
وقال أصحابُنا وأصحابُ الشافعي بناءً على هذا الأصل: إنَّه لا تنقضي العدّةُ، ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلَّقة، وأقلُّ ما يمكن أن يتخلق ويتصوَّر في أحد وثمانين يومًا.
وقال أحمد في العلقة: هي دم لا يستبين فيها الخلقُ، فإن كانت المضغةُ غيرَ مخلقة، فهل تنقضي بها العدّة، وتصيرُ أمُّ الولد بها مستولدةً؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، وإن لم يظهر فيها التخطيط، ولكن كان خفيًا لا يعرفه إلا أهل الخبرة مِنَ النِّساء، فشهِدْن بذلك، قُبلَت شهادتُهنَّ، ولا فرق بين أن يكونَ بعد تمام أربعة أشهر أو قبلها عند أكثر العلماء، ونصَّ على ذلك الإِمام أحمد في رواية خلق من أصحابه، ونقل عنه ابنه صالح في الطفل في الأربعة يتبين خلقه.
(1)
برقم (6569). وفي سنده أسباط بن نصر الهمداني ضعفه أحمد وأبو حاتم والنسائي، ووثقه ابن معين: والسدي - واسمه إسماعيل بن عبد الرَّحمن بن أبي كريمة - مُختَلفٌ فيه، قال يحيى القطان والنسائي: لا بأس به، وقال أحمد: ثقة، وقال ابن معين: في حديثه ضعف، وقال أبو حاتم: لا يحتجُّ به، ولينه أبو زُرعة، وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث صدوق لا بأس به.
قال الشَّعبي: إذا نُكِسَ في الخلق الرابع، كان مخلقًا، انقضت به العدة، وعَتَقَتْ به الأمةُ إذا كان لأربعة أشهر، وكذا نقل عنه حنبل: إذا أسقطت أمُّ الولدِ، فإنْ كان خِلقة تامة، عَتَقَت، وانقضت به العدةُ إذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح، وهذا يخالف رواية الجماعة عنه، وقد قال أحمد في رواية عنه: إذا تبين خلقُه، ليس فيه اختلاف أنها تعتق بذلك إذا كانت أمةً، ونقل عنه جماعة أيضًا في العلقة إذا تبيَّن أنَّها ولدٌ أن الأمةَ تُعتق بها، وهو قولُ النخعي، وحكي قولًا للشافعي، ومِنْ أصحابِنا من طرَّدَ هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدَّة به أيضًا. وهذا كلُّه مبنيٌّ على أنه يمكن التَّخليق في العلقة كما قد يستدلّ على ذلك بحديث حذيفة بن أسيد المتقدِّم إلا أن يقال: حديث حذيفة إنَّما يدلُّ على أنَّه يتخلَّق إذا صار لحمًا وعظمًا، وإنَّ ذلك قد يقع في الأربعين الثانية، لا في حالِ كونهِ علقةً، وفي ذلك نظر، والله أعلم.
وما ذكره الأطباء يدلُّ على أن العلقة تتخلق وتتخطَّط، وكذلك القوابِل مِنَ النِّسوة يشهدن بذلك، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال كون الجنين نطفة أيضًا، والله تعالى أعلم.
وبقي في حديث ابن مسعود أن بعدَ مصيره مضغةً أنَّه يُبعث إليه الملَكُ، فيكتب الكلمات الأربعَ، ويَنفُخُ فيه الروحَ، وذلك كلُّه بعد مئة وعشرين يومًا.
واختلفت ألفاظُ روايات هذا الحديثِ في ترتيب الكتابة والنفخ، ففي رواية البخاري في "صحيحه":"ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلماتٍ، ثم ينفخ فيه الروح" ففي هذه الرواية تصريحٌ بتأخُّر نفخ الرُّوح عن الكتابة، وفي رواية خرّجها البيهقي في كتاب "القدر"
(1)
: "ثم يُبعث الملكُ، فينفخ فيه الروحَ، ثم يُؤْمرُ بأربع كلمات"، وهذه الرواية تصرِّحُ بتقدم النفخ على الكتابة، فإما أن يكون
(1)
وفي "السنن" 7/ 461.
هذا مِنْ تصرُّف الرُّواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه، وإمَّا أن يكون المرادُ ترتيب الإِخبار فقط، لا ترتيبَ ما أخبر به.
وبكل حالٍ، فحديثُ ابن مسعود يدلُّ على تأخُّرِ نفخِ الرُّوح في الجنين وكتابة الملك لأمره إلى بعد أربعة أشهر حتَّى تتمَّ الأربعون الثالثة. فأمَّا نفخُ الرُّوح، فقد روي صريحًا عن الصَّحابة أنه إنَّما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهرٍ، كما دلّ عليه ظاهرُ حديث ابن مسعود. فروى زيدُ بنُ عليٍّ عن أبيه عن عليٍّ، قال: إذا تمَّتِ النُّطفة أربعة أشهر بُعِثَ إليها مَلَكٌ، فَنَفَخَ فيها الروح في الظُّلمات، فذلك قولُه تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14]، خرَّجه ابن أبي حاتم، وهو إسناد منقطع
(1)
. وخرَّج اللَّالكائي بإسنادهِ عن ابن عباس، قال: إذا وقعت النطفةُ في الرَّحم، مكثت أربعة أشهر وعشرًا، ثم نفخ فيها الروح، ثم مكثَت أربعينَ ليلةً، ثم بُعِثَ إليها ملكٌ، فنقفها في نُقرة القفا، وكتب شقيًا أو سعيدًا
(2)
، وفي إسناده نظر، وفيه أن نفخ الروح يتأخر عن الأربعة أشهر بعشرة أيام.
وبنى الإِمام أحمد مذهبه المشهور عنه على ظاهر حديثِ ابن مسعود، وأنَّ الطفل يُنفخ فيه الرُّوح بعد الأربعة أشهر، وأنَّه إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر، صُلِّي عليه؛ حيث كان قد نفخ فيه الروح ثم مات. وحكي ذلك أيضًا عن سعيد بن المسيب وهو أحد أقوال الشافعي وإسحاق، ونقل غيرُ واحدٍ عن أحمد أنه قال: إذا بلغ أربعة أشهر وعشرًا، ففي تلك العشر يُنفخ فيه الروح، ويُصلَّى عليه. وقال في رواية أبي الحارث عنه: تكون النَّسمةُ نطفةً أربعين ليلةً، وعلقةً
(1)
وأورده ابن كثير 5/ 461 من رواية ابن أبي حاتم.
(2)
رواه اللالكائي في "أصول الاعتقاد (1060)، وفي سنده محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف.
أربعين ليلةً، ومُضغةً أربعين ليلةً، ثم تكونُ عظمًا ولحمًا، فإذا تمَّ أربعة أشهر وعشرًا، نفخ فيه الروح.
فظاهر هذه الرواية أنَّه لا ينفخ فيه الرُّوح إِلَّا بعد تمام أربعةِ أشهر وعشر، كما رُوي عن ابن عباس والروايات التي قبل هذه عن أحمد إنَّما تدلُّ على أنَّه يُنفخ فيه الرُّوح في مدَّة العشر بعد تمام الأربعة، وهذا هو المعروف عنه، وكذا قال ابن المسيب لمَّا سُئِلَ عن عِدَّةِ الوفاة حيث جعلت أربعة أشهر وعشرًا: ما بال العشر؟ قال: ينفخ فيها الروح
(1)
.
وأما أهل الطب، فذكروا أن الجنين إن تصوَّر في خمسة وثلاثين يومًا، تحرَّك في سبعين يومًا، وولد في مئتين وعشرة أيام، وذلك سبعةُ أشهر، وربَّما تقدَّم أيامًا، وتأخر في التصوير والولادة، وإذا كان التصوير في خمسة وأربعين يومًا، تحرَّك في تسعين يومًا، ووُلد في مئتين وسبعين يومًا، وذلك تسعةُ أشهرٍ، والله أعلم.
وأما كتابة الملك، فحديث ابن مسعود يدلُّ على أنَّها تكونُ بعد الأربعة أشهر أيضًا على ما سبق، وفي "الصحيحين" عن أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"وكَّلَ الله بالرَّحِم مَلَكًا يقول: أي ربِّ نطفة، أي ربِّ علقة، أي ربِّ مضغة؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقًا، قال: يا ربِّ أذكر أم أنثى، أشقيٌّ أم سعيد؟ فما الرزقُ؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه" وظاهر هذا يُوافق حديث ابن مسعود لكن ليس فيه تقدير مدة، وحديث حذيفة بن أسيد الذي تقدم يدلُّ على أن الكتابة تكون في أوَّل الأربعين الثانية، وخرَّجه مسلم أيضًا بلفظٍ آخر من حديث حُذيفة بن أسيد يَبلُغُ به النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يدخلُ المَلَكُ على النطفة بعد ما تستقرُّ في الرَّحمِ بأربعين أو خمسة وأربعين ليلةً، فيقول: يا ربّ أشقيٌّ أو
(1)
البخاري (6595)، ومسلم (2646).
سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي ربِّ أذكر أو أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم تُطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا ينقص". وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا:"إن النطفة تَقَعُ في الرَّحِم أربعين ليلة ثم يتسوَّرُ عليها الملك فيقول: يا ربّ أذكر أم أنثى؟ " وذكر الحديثَ. وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا: "لبضع وأربعين ليلة".
وفي "مسند" الإِمام أحمد
(1)
من حديث جابر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استقرَّتِ النطفةُ في الرَّحم أربعين يومًا، أو أربعين ليلةً بُعِثَ إليها ملكٌ، فيقول: يا ربِّ، شقيٌّ أو سعيد؟ فيعلم".
وقد سبق ما رواه الشَّعبيُّ عن علقمة، عن ابن مسعودٍ من قوله، وظاهره يدلُّ على أن المَلَكَ يُبعثُ إليه وهو نطفة، وقد رُوي عن ابن مسعود من وجهين آخرين أنه قال:"إنَّ الله عز وجل تُعرَضُ عليه كلَّ يومٍ أعمالُ بني آدم، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ، ثمَّ يُؤتى بالأرحام، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ، وهو قوله: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6]، وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] الآية، ويُؤْتى بالأرزاق، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ، وتسبحه الملائكةُ ثلاث ساعاتٍ، قال: فهذا مِنْ شأنِكم وشأنِ ربِّكم" ولكن ليس في هذا توقيتُ ما يُنظر فيه مِنَ الأرحام بمدّة.
وقد رُوي عن جماعة من الصحابة أن الكتابة تكون في الأربعين الثانية؛ فخرج اللالكائي بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إذا مكثتِ النطفة في رحِم المرأة أربعين ليلةً، جاءها مَلَكٌ، فاختلَجَها، ثم عرجَ بها إلى الرَّحمن عز وجل، فيقول: اخلُق يا أحسنَ الخالقين، فيقضي الله فيها ما يشاءُ
(1)
3/ 297، وفيه خصيف بن عبد الرَّحمن، وهو سَيِّء الحفظ، وأبو الزبير مدلس، وقد عنعن.
مِنْ أمره، ثم تدفع إلى الملك عند ذلك، فيقول: يا ربّ أسَقْطٌ أم تام؟ فيبين له، ثم يقول: يا ربّ أناقصُ الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له، ويقول: يا ربِّ أواحد أم توأم؟ فيبين له، فيقول: يا ربّ أذكر أم أنثى؟ فيبين له، ثم يقول: يا ربِّ، أشقيٌّ أم سعيد؟ فيبين له، ثم يقول: يا ربّ اقطع له رزقه، فيقطع له رزقه مع أجله، فيهبط بهما جميعًا. فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدُّنيا إلا ما قسم له
(1)
.
وخرَّج ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي ذر، قال: إن المني يمكثُ في الرَّحم أربعينَ ليلةً، فيأتيه مَلَكُ النُّفوس، فيعرج به إلى الجبَّار عز وجل، فيقول: يا ربّ أذكرٌ أم أنثى؟ فيقضي الله عز وجل ما هو قاضٍ، ثم يقول: يا ربّ، أشقيٌّ أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاقٍ بين يديه، ثم تلا أبو ذرّ من فاتحة سورة التغابن إلى قوله:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3]
(2)
.
وهذا كله يوافق ما في حديث حذيفة بن أسيدٍ. وقد تقدم عن ابن عباس أن كتابة الملَكِ تكونُ بعدَ نفخِ الروح بأربعين ليلة وأن إسناده فيه نظر.
وقد جمع بعضُهم بين هذه الأحاديث والآثار، وبينَ حديث ابن مسعود، فأثبت الكتابة مرَّتين، وقد يقال مع ذلك: إن إحداهما في السماء والأخرى في بطن الأم، والأظهر - والله أعلم - أنها مرّة واحدة، ولعلَّ ذلك يختلف باختلاف الأجنَّة، فبعضهم يُكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة.
(1)
رواه اللالكائي في "أصول الاعتقاد"(1236)، وإسناده ضعيف جدًّا.
(2)
ورواه أيضًا الطبري في "جامع البيان" 8/ 119 - 120 عن أبي ذر موقوفًا، وفيه ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ، ورواه الدارمي في "الرد على الجهمية" ص 30 - 31 عن أبي ذرٍّ مرفوعًا، وفيه ابن لهيعة أيضًا.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 182 من رواية أبي ذر مرفوعًا، ونسبه لعبد بن حميد والطبرى وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه.
وقد يقال: إن لفظة "ثم" في حديث ابن مسعود إنَّما أريد به ترتيب الإِخبار، لا ترتيب المخبر عنه في نفسه، والله أعلم.
ومن المتأخرين من رجَّح أن الكتابة تكونُ في أوَّل الأربعين الثانية، كما دلَّ عليه حديث حذيفة بن أسيد، وقال: إِنما أخر ذكرها في حديث ابن مسعود إلى ما بعد ذكر المضغة وإن ذكرت بلفظ "ثم" لئلا ينقطع ذكرُ الأطوار الثلاثة التي يتقلب فيها الجنين وهي كونه: نطفة وعلقة ومضغة، فإن ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجبُ وأحسنُ، فلذلك أخر المعطوف عليها، وإن كان المعطوف متقدمًا على بعضها في الترتيب، واستشهد لذلك بقوله تعالى:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7 - 9]، والمراد بالإِنسان: آدم عليه السلام، ومعلومٌ أن تسويته، ونفخ الرُّوح فيه، كان قبل جعلِ نسلِهِ من سُلالة من ماء مهين، لكن لما كان المقصود ذكر قدرة الله عز وجل في مبدأ خلق آدم وخلق نسله، عطف ذكر أحدهما على الآخر، وأخَّر ذكرَ تسوية آدم ونفخ الرُّوح فيه، وإن كان ذلك متوسطًا بين خلق آدم من طين وبين خلق نسله، والله أعلم.
وقد ورد أن هذه الكتابة تكتب بين عيني الجنين، ففي "مسند البزار" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا خلَقَ الله النسمةَ، قال مَلَكُ الأرحام: أي ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ قال: فيقْضِي الله إليه أمره، ثم يقول: أي ربِّ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيقضي الله إليه أمره، ثم يكتب بَيْنَ عينيه ما هو لاقٍ حتَّى النَّكبة يُنكَبُها"
(1)
. وقد رُوي موقوفًا على ابن عمر غيرَ مرفوع، وحديثُ حذيفةَ بن أسيد المتقدم صريحٌ في أن الملك يكتبُ ذلك في صحيفةٍ، ولعلَّه يكتب في صحيفة، ويكتب بين عيني الولد.
(1)
رواه البزار (2149)، وأبو يعلى (5775)، وصححه ابن حبان (6178).
وقد روي أنه يقترِنُ بهذه الكتابة أنه يُخلق مع الجنين ما تضمنته من صفاته القائمة به، فرُوي عن عائشة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله إذا أراد أن يَخلُق الخلق، بعث مَلَكًا، فدخلَ الرَّحِمَ، فيقول: أي ربِّ، ماذا؟ فيقول: غلامٌ أو جاريةٌ أو ما شاء الله أن يخلُقَ في الرحم، فيقول: أي ربِّ، أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيقول ما شاء، فيقول: يا رب ما أجلُه؟ فيقول: كذا وكذا، فيقول: ما خلقه؟ ما خلائِقُه؟ فيقول: كذا وكذا، فما مِنْ شيءٍ إلا وهو يُخلَقُ معه في الرحم" خرَّجه أبو داود في كتاب "القدر" والبزار في "مسنده"
(1)
.
وبكل حال، فهذه الكتابةُ التي تُكتب للجنين في بطن أمِّه غيرُ كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائقِ المذكورة في قولهِ تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، كما في "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الله قدَّر مقاديرَ الخلائقِ قبل أن يَخلُقَ السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة"
(2)
. وفي حديث عُبادة بن الصَّامت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّل ما خَلَق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ"
(3)
.
وقد سبق ذكرُ ما رُوي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أن الملَكَ إذا سأَل عن حالِ النُّطفة، أُمِر أن يذهبَ إلى الكتاب السابق، ويقال له: إنَّكَ تجِدُ فيه قصَّةَ هذه النُّطفة، وقد تكاثرت النُّصوص بذكرِ الكتابِ السابق، بالسَّعادة والشقاوة،
(1)
رواه أبو داود في "القدر" و"البزّار"(2151) من طريق جعفر بن مصعب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. وجعفر بن مصعب لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير الزبير بن عبد الله بن أبي خالد. وقال البزار: لا نعلمه يُروى عن عائشة، إلَّا بهذا الإِسناد. وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 193: رواه البزار، ورجاله ثقات!.
(2)
رواه مسلم (2653)، وأحمد 2/ 169، والترمذي (2156).
(3)
حديث صحيح. رواه أحمد 5/ 317، وأبو داود (4700)، والترمذي (2155).
ففي "الصحيحين" عن عليّ بن أبي طالب عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما مِنْ نفسٍ منفوسةٍ إلَّا وقد كتب الله مكانَها من الجنَّة أو النَّار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة"، فقال رجل: يا رسولَ الله، أفلا نمكُثُ على كتابنا، وندعُ العمل؟ فقال:"اعملوا، فكلٌّ ميسَّر لِما خُلِقَ له، أمَّا أهلُ السَّعادة، فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهلُ الشقاوة، فييسرون لعمل أهل الشَّقاوة"، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآيتين [الليل: 5]
(1)
.
ففي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبقَ الكتابُ بهما، وأنَّ ذلك مُقدَّرٌ بحسب الأعمال، وأن كلًّا ميسر لما خُلق له من الأعمال التي هي سببٌ للسعادة أو الشقاوة.
وفي "الصحيحين" عن عمرانَ بن حُصينٍ، قال: قال رجل: يا رسول الله، أيُعرَفُ أهلُ الجَنَّةِ مِنْ أهلِ النَّارِ؟ قال:"نَعَمْ"، قال: فَلِمَ يعملُ العاملونَ؟ قال: "كلٌّ يعملُ لما خُلِقَ له، أو لما ييسر له"
(2)
.
وقد روي هذا المعنى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ كثيرةٍ، وحديث ابن مسعود فيه أن السعادة والشقاوة بحسب خواتيم الأعمال.
وقد قيل: إن قوله في آخر الحديث "فوالله الَّذي لا إله غيره، إنَّ أحدَكم ليَعمَلُ بعملِ أهل الجنَّة" إلى آخر الحديث مُدرَجٌ من كلام ابن مسعود، كذلك رواه سلمة بنُ كهيلٍ، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعودٍ من قوله
(3)
، وقد رُوي هذا المعنى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ متعددة أيضًا.
(1)
رواه البخاري (1362)، ومسلم (2647)، وصححه ابن حبان (334).
(2)
رواه البخاري (6596)، ومسلم (2649)، وصححه ابن حبان (333).
(3)
رواه أحمد 1/ 414، والنسائي في "الكبرى" كما في "التحفة" 7/ 29 من طريق فطر بن خليفة عن سَلمةَ بن كهيل به. وانظر لزامًا "الفتح" 11/ 486 - 487.
وفي "صحيح البخاري"
(1)
عن سهلِ بن سعدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّما الأعمال بالخواتيم".
وفي "صحيح ابن حبان"
(2)
عن عائشة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّما الأعمال بالخواتيم".
وفيه
(3)
أيضًا عن معاوية قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّما الأعمال بخواتيمها، كالوعاء، فإذا طابَ أعلاه، طاب أسفَلُه، وإذا خَبُثَ أعلاه، خَبُثَ أسفلُه".
وفي "صحيح مسلم"
(4)
عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الرَّجُل ليعمل الزمانَ الطويلَ بعملِ أهلِ الجنَّةِ، ثم يُختم له عملُه بعمل أهل النَّار، وإن الرجلَ ليعملُ الزمانَ الطويلَ بعمل أهل النَّارِ، ثم يُختم له عمله بعملِ أهل الجنَّةِ".
وخرَّج الإِمام أحمد من حديث أنسٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا عَلَيكُم أنْ لا تَعْجَبوا بأحدٍ حتَّى تنظروا بم يُختم له، فإن العاملَ يعملُ زمانًا من عمره، أو بُرهة من دهره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه، دخل الجنةَ، ثم يتحوَّلُ، فيعملُ عملًا سيِّئًا، وإن العبدَ ليعمل البُرهة من دهره بعملٍ سيِّئٍ، لو مات عليه، دخلَ النارَ، ثم يتحوَّل فيعملُ عملًا صالحًا"
(5)
.
وخرَّج أيضًا من حديث عائشة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الرجل ليعملُ بعملِ أهل الجنَّة، وهو مكتوبٌ في الكتابِ من أهل النَّار، فإذا كان قبل موته تحوَّل، فعمِلَ بعمل أهل النَّار، فمات، فدخل النَّار، وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهل
(1)
برقم (6493) و (6607).
(2)
برقم (340)، وفيه نعيم بن حمّاد، وهو ضعيف.
(3)
برقم (339) و (392)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4)
برقم (2651). ورواه أيضًا أحمد 2/ 484 - 485، وصححه ابن حبان (6176).
(5)
رواه أحمد 3/ 120، وإسناده صحيح.
النَّار، وإنه لمكتوبٌ في الكتاب من أهل الجنَّة، فإذا كان قَبْلَ موته تحوَّل، فعمل بعمل أهل الجنَّة، فمات فدخلها"
(1)
.
وخرَّج أحمد، والنسائيُّ، والترمذيُّ من حديثِ عبد الله بن عمرٍو قال: خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابانِ، فقال:"أتدرون ما هذان الكتابان؟ " فقلنا: لا يا رسول الله، إلَّا أن تُخْبِرنا، فقال للذي في يده اليمنى:"هذا كتابٌ مِنْ ربِّ العالمين، فيه أسماءُ أهَلِ الجنَّةِ، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجْمِل على آخرهم، فلا يُزاد فيهم، ولا يُنقصُ منهم أبدًا"، ثم قال للذي في شماله:"هذا كتاب من ربِّ العالمين فيه أسماء أهل النَّار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجْمل على آخرهم، فلا يُزاد فيهم ولا يُنقصُ منهم أبدًا"، فقال أصحابُه: ففيم العملُ يا رسولَ الله إن كان أمرًا قد فُرِغَ منه؟ فقال: "سَدِّدُوا وقاربوا، فإنَّ صاحب الجنَّة يُختم له بعمل أهل الجنَّة، وإن عمل أيَّ عملٍ، وإن صاحب النَّار يُختم له بعملِ أهل النَّار، وإن عمل أيَّ عملٍ"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما، ثم قال:"فَرغَ ربُّكم مِنَ العباد: فريقٌ في الجنَّة، وفريقٌ في السَّعير"
(2)
.
وقد روي هذا الحديثُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ متعددة، وخرَّجه الطبراني
(3)
من حديث علي بن أبي طالب عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه: "صاحب الجنَّة مختوم له بعمل أهل الجنَّة، وصاحبُ النَّار مختومٌ له بعمل أهل النَّار وإن عمل أيَّ
(1)
رواه أحمد 6/ 107 و 108، ورواه أيضًا أبو يعلى (4668) وهو حديث صحيح.
(2)
رواه أحمد 2/ 167، والترمذيّ (2141)، والنسائي في "الكبرى" كما في "التحفة" 6/ 343 وفي سنده أبو قبيل حيي بن هانئ ضعفه الحافظ في "تعجيل المنفعة" ص 277، لأنه كان يروي عن الكتب القديمة ومع ذلك فقد قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وذكره الذهبي في "ميزان الاعتدال" 2/ 684، وقال: هو حديث منكر جدًّا، ويقضى أن يكون زنة الكتابين عدة قناطير.
(3)
في "الأوسط"(مجمع البحرين 147/ 1)، وفي سنده حمّاد بن زيد الصفَّار وهو ضعيف كما قال الهيثمي في "المجمع" 7/ 213.
عمل، وقد يُسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاء حتَّى يقالَ: ما أشبههم بهم، بل هم منهم، وتُدركهم السعادة فتستنقذُهم، وقد يسلك بأهل الشقاءِ طريق أهل السعادة حتَّى يقالَ: ما أشبههم بهم بل هم منهم ويُدركهم الشقاء، من كتبه الله سعيدًا في أمِّ الكتاب لم يُخرجه من الدُّنيا حتَّى يستعمِلَه بعملٍ يُسعِدُه قبلَ موته ولو بفَواقِ ناقة، ثم قال: الأعمال بخواتيمها، الأعمالُ بخواتيمها". وخرَّجه البزار في "مسنده"
(1)
بهذا المعنى أيضًا من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي "الصحيحين" عن سهل بن سعد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون وفي أصحابه رجلٌ لا يدع شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا اتبعها يَضرِبُها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلانٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو من أهل النَّار"، فقال رجلٌ من القوم: أنا صاحبُه، فاتَّبعه، فجُرِحَ الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجلَ الموت، فوضعَ نصلَ سيفه على الأرض وذُبابَه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرَّجلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك رسولُ الله، وقصَّ عليه القصةَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل ليعمل عملَ أهل الجنَّةِ فيما يبدو للنَّاس وهو من أهل النَّار، وإنَّ الرجل ليعمل عملَ أهل النَّار فيما يبدو للنَّاس، وهو من أهل الجنَّة" زاد البخاري في رواية له: "إنَّما الأعمال بالخواتيم"
(2)
.
وقوله: "فيما يبدو للناس" إشارةٌ إلى أن باطنَ الأمر يكونُ بخلافِ ذلك، وأن خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها النَّاس، إما من جهة
(1)
رقم (2156) ورواه أيضًا اللالكائي في "أصول الاعتقاد"(1088)، وابن عدي في "الكامل" 5/ 1932 - 1933.
(2)
رواه البخاري (2898) و (4202) و (4207) و (6493) و (6607)، ومسلم (112).
عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سُوءَ الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرَّجلُ عملَ أهل النَّارِ وفي باطنه خصلةٌ خفيةٌ من خصال الخير، فتغلب عليه تلكَ الخصلةُ في آخر عمره، فتوجب له حسنَ الخاتمة.
قال عبد العزيز بن أبي روَّاد: حضرت رجلًا عند الموت يُلَقَّنُ لا إله إلَّا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافرٌ بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألتُ عنه، فإذا هو مدمنُ خمرٍ. فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذُّنوب، فإنَّها هي التي أوقعته.
وفي الجملة: فالخواتيمُ ميراثُ السوابق، وكلُّ ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتدُّ خوف السلف من سُوءِ الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق.
وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقةٌ بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقرَّبين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا.
وبكى بعضُ الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الله تعالى قبضَ خلقه قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنَّة، وهؤلاء في النَّار"، ولا أدري في أيِّ القبضتين كنت؟
(1)
.
وقال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق.
وقال سفيانُ لبعض الصالحين: هل أبكاكَ قطُّ علمُ الله فيك؟ فقال له ذلك الرجل: تركتني لا أفرحُ أبدًا. وكان سفيان يشتدُّ قلقُهُ من السوابق والخواتم، فكان يبكي ويقول: أخاف أن أكون في أمِّ الكتاب شقيًا،
(2)
ويبكي ويقول: أخافُ أن أُسلبَ الإِيمانَ عند الموت.
(1)
رواه أحمد 4/ 176 و 177، وإسناده صحيح.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 51.
وكان مالك بنُ دينار يقومُ طُولَ ليلهِ قابضًا على لحيته، ويقول: يا ربِّ، قد علمتَ ساكنَ الجنَّة من ساكن النَّار، ففي أيِّ الدَّارين منزلُ مالك؟
(1)
.
قال حاتمٌ الأصمُّ: مَنْ خلا قلبُه من ذكر أربعة أخطار، فهو مغترٌّ، فلا يأمن الشقاء: الأوَّل: خطرُ يوم الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنَّة ولا أبالي، وهؤلاء في النَّار ولا أبالي، فلا يعلم في أيِّ الفريقين كان، والثاني: حين خلق في ظلمات ثلاث، فنودي الملك بالسعادة والشَّقاوة، ولا يدري: أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟ والثالث: ذكر هول المطلع، ولا يدري أيبشر برضا الله أو بسخطه؟ والرابع: يوم يَصدُرُ النَّاسُ أشتاتًا، ولا يدري، أيّ الطريقين يُسلك به.
وقال سهل التُّستريُّ: المريدُ يخافُ أن يُبتلى بالمعاصي، والعارف يخافُ أن يُبتلى بالكُفر.
ومن هنا كان الصحابة ومَنْ بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ويشتد قلقهم وجزَعُهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاقَ الأصغرَ، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عندَ الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفية تُوجِبُ سُوءَ الخاتمة، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكثرُ أن يقول في دعائه:"يا مقلِّب القلوب ثبت قلبي على دينك" فقيل له: يا نبيَّ الله آمنا بك وبما جئتَ به، فهل تخافُ علينا؟ فقال:"نعم، إنَّ القُلوبَ بين أصبعين من أصابع الله عز وجل يُقلِّبها كيف يشاء" خرَّجه الإِمام أحمد والترمذيّ من حديث أنس
(2)
.
وخرج الإِمام أحمد من حديث أمِّ سلمة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُكثِرُ في دعائه أن يقول: "اللهُمَّ مقلِّبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله،
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 2/ 384.
(2)
رواه أحمد 3/ 112 و 257، والترمذيّ (2140)، وحسَّنه.
أو إنَّ القلوب لتتقلَّبُ؟ قال: "نعم؛ ما من خلق الله تعالى من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله، فإن شاءَ الله عز وجل، أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسألُ الله ربَّنا أن لا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسألهُ أن يهب لنا من لدُنه رحمةً إنَّه هو الوهَّاب"، قالت: قلت: يا رسولَ الله، ألا تُعَلِّمني دعوةً أدعو بها لنفسي؟ قال:"بلى، قولي: اللهمَّ ربَّ النَّبيِّ محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجِرْني من مضلَّاتِ الفتن ما أحييتني"
(1)
، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وخرَّج مسلم
(2)
من حديث عبد الله بن عمرو: سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ قلوبَ بني آدمَ كلَّها بين أصبعين من أصابع الرَّحمن عز وجل كقلبٍ واحدٍ يصَرِّفُه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهُمَّ مُصرِّفَ القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك".
(1)
رواه أحمد 6/ 302، وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف.
(2)
في "صحيحه"(2654).
الحديث الخامس
عَنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ في أمْرِنا هَذا ما لَيسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ" رَواهُ البُخارِيُّ ومُسلِمٌ، وفي رِوايةٍ لِمُسلِمٍ:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أمرُنا فَهو رَدٌّ".
هذا الحديث خرَّجاه في "الصحيحين"
(1)
من حديث القاسم بن محمد عن عمته عائشة رضي الله عنها وألفاظ الحديث مختلفة، ومعناها متقارب، وفي بعض ألفاظه:"مَنْ أحدث في ديننا ما ليس فيه، فهو ردّ".
وهذا الحديث أصلٌ عظيمٌ من أُصول الإِسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث:"الأعمال بالنيَّات" ميزان للأعمال في باطِنها، فكما أن كل عمل لا يُراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكلُّ مَنْ أحدثَ في الدِّين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس مِنَ الدِّين في شيء.
وسيأتي حديثُ العِرباض بن ساريةَ
(2)
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتِي وسنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشدين
(1)
رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718)، ورواه أيضًا أحمد 6/ 73 و 240 و 270، وأبو داود (4606)، وابن ماجه (14)، وصححه ابن حبان (26) و (27)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
وهو الحديث الثامن والعشرون.
المهديِّين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجِذ، وإيَّاكُم ومُحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كُلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلِّ بدعةٍ ضلالةٌ".
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "أصدقُ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرُ الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها"
(1)
وسنؤخر الكلام على المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه، ونتكلم هاهنا على الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع وردها.
فهذا الحديث يدلُّ بمنطوقه على أن كلَّ عملٍ ليس عليه أمر الشارع، فهو مردود، ويدلّ بمفهومه على أن كلَّ عمل عليه أمره، فهو غير مردود، والمراد بأمره هاهنا: دينُه وشرعُه، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى:"مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه".
فالمعنى إذًا: أن مَنْ كان عملُه خارجًا عن الشرع ليس متقيدًا بالشرع، فهو مردود.
وقوله: "ليس عليه أمرنا" إشارةٌ إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحتَ أحكام الشريعة، وتكون أحكام الشريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عملُه جاريًا تحت أحكام الشرع، موافقًا لها، فهو مقبولٌ، ومن كان خارجًا عن ذلك، فهو مردودٌ.
والأعمال قسمان: عبادات، ومعاملات.
فأما العبادات، فما كان منها خارجًا عن حكم الله ورسوله بالكلية، فهو مردود على عامله، وعامله يدخل تحت قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ
(1)
رواه بهذا اللفظ النسائي 3/ 188 - 189. ورواه بلفظ: "خير الحديث
…
" مسلم (687)، وابن ماجه (45).
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فمن تقرَّب إلى الله بعمل، لم يجعله الله ورسولُه قربة إلى الله، فعمله باطلٌ مردودٌ عليه، وهو شبيهٌ بحالِ الذين كانت صلاتُهم عندَ البيت مُكاء وتصدية، وهذا كمن تقرَّب إلى الله تعالى بسماع الملاهي، أو بالرَّقص، أو بكشف الرَّأس في غير الإِحرام، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسولُه التقرُّب بها بالكلية.
وليس ما كان قربة في عبادة يكونُ قربةً في غيرها مطلقًا، فقد رأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا قائمًا في الشمس، فسأل عنه، فقيل: إنَّه نذر أن يقوم ولا يقعدَ ولا يستظلّ وأن يصومَ، فأمره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَقعُدَ ويستظلَّ، وأن يُتمَّ صومه
(1)
فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربةً يُوفى بنذرهما. وقد روي أن ذلك كان في يوم جمعة عندَ سماعِ خطبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
(2)
وهو على المنبر، فنذر أن يقومَ ولا يقعدَ ولا يستظلَّ ما دامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ، إعظامًا لسماع خطبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم ذلك قربةً تُوفى بنذره، مع أن القيام عبادةً في مواضعَ أُخَر، كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربةٌ للمحرِم، فدلَّ على أنَّه ليس كلُّ ما كان قربة في موطنٍ يكون قربةً في كُلِّ المواطن، وإنَّما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعةُ في مواضعها.
وكذلك من تقرَّب بعبادة نُهِيَ عنها بخصوصها، كمن صامَ يومَ العيد، أو صلَّى في وقت النهي.
وأمَّا من عمل عملًا أصلُه مشروعٌ وقربةٌ، ثم أدخلَ فيه ما ليس بمشروعٍ، أو أخلَّ فيه بمشروع، فهذا مخالفٌ أيضًا للشريعة بقدر إخلاله بما أخلَّ به، أو
(1)
رواه من حديث ابن عباس البخاري (6704)، وأبو داود (3300)، وصححه ابن حبان (4385).
(2)
رواه الطبراني في "الكبير"(11871)، والطحاوي في "مشكل الآثار" 3/ 44، والخطيب البغدادي في "الأسماء المبهمة" ص 274.
إدخاله ما أدخلَ فيه، وهل يكونُ عملُه من أصله مردودًا عليه أم لا؟ فهذا لا يُطلق القولُ فيه بردٍّ ولا قَبولٍ، بل يُنظر فيه: فإن كان ما أخلَّ به من أجزاء العمل أو شروطه موجبًا لبطلانه في الشريعة، كمن أخلَّ بالطهارة للصلاة مع القُدرة عليها، أو كمن أخلَّ بالرُّكوع أو بالسجود أو بالطُّمانينة فيهما، فهذا عملُه مردودٌ عليه، وعليه إعادتُه إن كان فرضًا، وإن كان ما أخلَّ به لا يُوجِبُ بُطلانَ العمل، كمن أخلَّ بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يُوجِبُها ولا يجعلُها شرطًا، فهذا لا يُقالُ: إن عمله مردودٌ من أصله، بل هو ناقصٌ.
وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودةٌ عليه، بمعنى أنَّها لا تكونُ قربةً ولا يُثابُ عليها، ولكن تارة يبطُلُ بها العمل من أصله، فيكون مردودًا، كمن زاد في صلاته ركعةً عمدًا مثلًا، وتارةً لا يُبطله، ولا يردُّه من أصله، كمن توضأ أربعًا أربعًا، أو صام الليل مع النَّهار، وواصل في صيامه، وقد يبدَّلُ بعض ما يُؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ستر عورتَه في الصَّلاة بثوب مُحرَّم، أو توضأ للصلاة بماءٍ مغصُوبٍ، أو صلَّى في بُقعةٍ غَصْبٍ، فهذا قد اختلفَ العُلماءُ فيه: هل عملُه مردودٌ من أصله، أو أنه غيرُ مردود، وتبرأ به الذِّمَّةُ من عُهدة الواجب؟ وأكثرُ الفُقهاء على أنَّه ليس بمردود من أصله، وقد حكى عبدُ الرَّحمن بنُ مهدي عن قومٍ من أصحاب الكلامِ يقال لهم: الشِّمريَّة أصحاب أبي شمر
(1)
أنَّهم يقولون: إنَّ من صلَّى في ثوبٍ كان في ثمنه درهمٌ حرامٌ أن عليه إعادة صلاته، وقال: ما سمعتُ قولًا أخبثَ مِنْ قولهم، نسأل الله العافية، وعبد الرَّحمن بنُ مهدي من أكابر فُقهاء أهلٍ الحديث، المطَّلعين على مقالات السلف، وقد استنكر هذا القول وجعله بدعةً، فدلَّ على أنَّه لم يُعلم عن أحدٍ من السَّلف القولُ بإعادة الصَّلاة في مثل هذا.
(1)
كان يجمع بين الإِرجاء والقدر. انظر "الملل" للشَّهرستاني 1/ 145، و"التبصير في الدين" للإِسفراييني ص 24.
ويشبه هذا الحجُّ بمالٍ حرامٍ، وقد ورد في حديثٍ أنَّه مردودٌ على صاحبه، ولكنه حديث لا يثبت
(1)
، وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟.
وقريب من ذلك الذَّبحُ بآلة محرَّمة، أو ذبحُ مَنْ لا يجوزُ له الذبحُ، كالسارق، فأكثرُ العلماء قالوا: إنَّه تُباح الذبيحة بذلك، ومنهم من قال: هي محرَّمةٌ، وكذا الخلاف في ذبح المُحْرِم لِلصَّيدِ، لكن القول بالتَّحريم فيه أشهرُ وأظهرُ، لأنه منهيٌّ عنه بعينه.
ولهذا فرَّق مَنْ فرَّق مِنَ العُلماء بين أن يكون النَّهيُ لمعنى يختصّ بالعبادة فيبطلها، وبين أن لا يكون مختصًا بها فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، أو بغير ستارة، أو إلى غير القبلة يُبطلها، لاختصاص النهي بالصلاة، بخلاف الصلاة في الغصب، ويشهدُ لهذا أن الصيام لا يبطله إلَّا ارتكابُ ما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو جنسُ الأكل والشرب والجماع، بخلاف ما نهي عنه الصائم، لا بخصوص الصيام، كالكذب والغيبة عند الجمهور.
وكذلك الحجُّ لا يبطله إلا ما نهي عنه في الإِحرام، وهو الجماعُ، ولا يبطله ما لا يختصُّ بالإِحرام من المحرَّمات، كالقتل والسرقة وشرب الخمر.
وكذلك الاعتكافُ: إنَّما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو الجماعُ، وإنَّما يبطل بالسُّكر عندنا وعند الأكثرين، لنهي السَّكران عن قربان المسجد
(1)
روى البزار (1079)، والطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"إذا خرج الحاجُّ بنَفقَةٍ خبيثة، فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادُك حرام، ونفقتك حرام، وحجُّك حرام غير مبرور". لفظ الطبراني.
وذكره الهيثمي في "المجمع" 3/ 209 - 210 و 10/ 292، وقال: فيه سليمان بن داود اليمامي، وهو ضعيف، وأشار الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 180 إلى ضعفه.
ودخوله على أحدِ التأويلين في قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] أن المرادَ مواضع الصلاة، فصار كالحائض، ولا يبطلُ الاعتكافُ بغيره من ارتكاب الكبائر عندنا وعندَ كثيرٍ من العلماء، وإن خالف في ذلك طائفةٌ من السلف، منهم عطاء والزُّهري والثوري ومالك، وحُكي عن غيرهم أيضًا.
وأمَّا المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما، فما كان منها تغييرًا للأوضاع الشرعية، كجعل حدِّ الزِّنى عقوبةً مالية، وما أشبه ذلك، فإنَّه مردودٌ من أصله، لا ينتقل به الملكُ، لأنَّ هذا غيرُ معهود في أحكام الإِسلام، ويدلُّ علي ذلك أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفًا على فلان، فزنى بامرأته، فافتديتُ منه بمئة شاةٍ وخادم، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"المئة شاة والخادم ردٌّ عليكَ، وعلى ابنك جَلدُ مئة، وتغريبُ عام"
(1)
.
وما كان منها عقدًا منهيًا عنه في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلًا للعقد، أو لفوات شرطٍ فيه، أو لظلم يحصُلُ به للمعقود معه أو عليه، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايُق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقدُ: هل هو مردودٌ بالكلية، لا ينتقل به الملك، أم لا؟ هذا الموضع قد اضطربَ النَّاس فيه اضطرابًا كثيرًا، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردودٌ لا يفيد الملك، وفي بعضها أنه يُفيده، فحصل الاضطرابُ فيه بسبب ذلك، والأقربُ - إن شاء الله تعالى - أنه إن كان النهيُ عنه لحقٍّ لله عز وجل، فإنه لا يفيدُ الملكَ بالكلية، ونعني بكون الحق لله: أنه لا يسقطُ برضا المتعاقدين عليه، وإن كان النهيُ عنه لحقِّ آدميٍّ معيّن، بحيث يسقط برضاه به، فإنه يقفُ على رضاه به، فإن رضي، لزم العقدُ، واستمر الملكُ، وإن لم يرض به، فله الفسخُ، فإن كان
(1)
رواه من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهنيِّ البخاريُّ (2695) و (2696)، ومسلم (1697) و (1698).
الذي يلحقه الضررُ لا يُعتبر رضاه بالكلية، كالزوجة والعبد في الطلاق والعَتاق، فلا عِبرة برضاه ولا بسخطه، وإن كان النهيُ رفقًا بالمنهى خاصةً لما يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة، لم يبطل بذلك عملُه.
فأما الأوَّلُ، فله صورٌ كثيرةٌ:
منها نكاحُ من يحرُمُ نكاحُه، إمَّا لعينه، كالمحرَّمات على التَّأبيد بسببٍ أو نسبٍ، أو للجمع أو لفواتِ شرط لا يَسقُطُ بالتراضِي بإسقاطه: كنكاح المعتدةِ والمحرِمة، والنكاح بغير وليٍّ ونحو ذلك، وقد روي أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فرَّق بَيْنَ رجلٍ وامرأةٍ تزوَّجها وهي حُبْلى
(1)
، فردَّ النِّكاحَ لوقوعه في العدّة.
(1)
روى عبد الرزاق في "المصنّف"(1074) وأبو داود (2131) عن ابن جريج، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن المسيِّب، عن رجل من الأنصار يقال له بصرة، قال: تزوجت امرأة بكرًا في سترها، فدخلتُ عليها، فإذا هي حُبلى، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: لها الصَّداق بما استحللت من فرجها والولد عبد لك، فإذا ولدت فاجلدها".
ورواه أبو داود (2132) من طريق آخر عن سعيد بن المسيِّب فذكر معناه وزاد فيه: وفرق بينهما.
قال ابن القيم في "تهذيب السنن" 3/ 60 - 61: هذا الحديث قد اضطرب في سنده وحكمه، واسم الصحابي راويه. فقيل: بصرة، بالباء الموحَّدة والصاد المهملة، وقيل: نضرة، بالنون المفتوحة والضاد المعجمة، وقيل: نضلة، بالنون والضاد المعجمة واللام، وقيل: بسرة بالباء الموحدة والسِّين المهملة، وقيل: نضرة بن أكثم الخزاعي، وقيل: الأنصاري، وذكر بعضهم: أنه بصرة بن أبي بصرة الغفاري، ووهم قائله. وقيل: بصرة هذا مجهول، وله علَّة عجيبة، وهي أنه حديث يرويه ابن جريج عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن رجل من الأنصار.
وابن جريج لم يسمعه من صفوان، إنَّما رواه عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي عن صفوان، وإبراهيم هذا متروك الحديث، تركه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وابن المبارك وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وغيرهم، وسئل عنه مالك بن أنس: أكان =
ومنها عقودُ الربا، فلا تُفيد الملك، ويؤمر بردِّها، وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من باع صاعَ تمرٍ بصاعين أن يردَّه
(1)
.
ومنها بيعُ الخمرِ والميتةِ والخنزير والأصنام والكلب، وسائر ما نهي عن بيعه
= ثقة؟ فقال: لا، ولا في دينه.
وله علة أخرى، وهي أن المعروف أنه إنما يُروى مرسلًا عن سعيد بن المسيب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، كذا رواه قتادة ويزيد بن نعيم وعطاء الخراساني، كلهم عن سعيد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ذكر عبد الحق هذين التعليلين، ثم قال: والإِرسال هو الصحيح.
وقد اشتمل هذا الحديث على عدة أحكام:
أحدها: وجوب الصداق عليه بما استحلَّ من فرجها وهو ظاهر؛ لأن الوطء فيه غايته أن يكون وطء شبهة إن لم يصحَّ النكاح.
الثاني: بُطلان نكاح الحامل من الزنى، ويرى الإِمام أحمد أن الزانية لا يجوز تزوجها حتَّى تتوب، وتنقضي عدتها، فمتى تزوجها قبل التوبة أو قبل انقضاء عدتها، كان النكاح فاسدًا، ويفرَّق بينهما.
الثالث: وجوب الحد بالحبل، وهذا مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين.
الرابع: إرقاق ولد الزنى وهو موضع الإِشكال في الحديث، قال الخطابي: ولا أعلم أحدًا من العلماء اختلف في أن ولد الزنى حرٌّ إن كان من حرة، فكيف يستعبد، ويشبه أن يكون معناه - إن ثبت الخبر -: أنه أوصَاه بهِ خيرًا، وأمر باصطناعه وتربيته واقتنائه لينتفع بخدمته إذا بلغ فيكون كالعبد في الطاعة مكافأةً له على إحسانه وجزاءً لمعروفه.
وقال ابن القيم: بعضُ الرواة لم يذكره في حديثه، كذلك رواه سعيد وغيره، وإنما قالوا: ففرق بينهما وجعل لها الصداق وجلدها مئة، وعلى هذا، فلا إشكال في الحديث.
(1)
روى مسلم (1594)(97) من حديث أبي سعيد الخدري، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر، فقال:"ما هذا التمر من تمرنا"، فقال الرجل: يا رسول الله: بعنا تمرنا صاعين بصاعٍ من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا الربا فردوه، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا".
ممَّا لا يجوز التراضي ببيعه.
وأما الثاني، فله صُورٌ عديدة: منها إنكاحُ الوليِّ من لا يجوزُ له إنكاحُها إلا بإذنها بغير إذنها، وقد ردَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نكاحَ امرأة ثيِّبٍ زوَّجها أبوها وهي كارهةٌ
(1)
، وروي عنه أنَّه خيَّرَ امرأة زُوِّجَت بغير إذنها
(2)
، وفي بطلان هذا النكاح ووقوفه على الإِجازة روايتان عن أحمد.
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرَّف لغيره في ماله بغير إذنه، لم يكن تصرُّفه باطلًا من أصله، بل يقفُ على إجازته، فإن أجازه جازَ، وإن ردَّه بطَل، واستدلُّوا بحديث عُروة بن الجعد في شرائه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم شاتين، وإنَّما كان أمرَه بشراء شاةٍ واحدةٍ، ثم باع إحداهما، وقبل ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(3)
. وخصَّ ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرَّف لغيره في ماله بإذنٍ إذا خالف الإِذن.
ومنها تصرُّف المريضِ في ماله كلِّه: هل يقعُ باطلًا من أصله أم يقف تصرفه في الثلثين على اجازة الورثة؟ فيه اختلاف مشهورٌ للفقهاء، والخلاف في
(1)
روى مالك في "الموطأ" 2/ 535، ومن طريقه البخاري (5138) عن خنساء بنت خِذام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيِّبٌ، فكرهت ذلك، فأتت النَّبي صلى الله عليه وسلم، فردَّ نكاحَهُ.
(2)
رواه أحمد 1/ 273 وأبو داود (2096) وابن ماجه (1875) من طريق جرير بن حازم عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس، ورجاله ثقات، لكن أعلَّه أبو داود وغيره بالإِرسال، وردَّه ابن القيم في "تهذيب السُّنن" 3/ 40، وابن التركماني في "الجوهر النقي" 7/ 117.
(3)
روى أحمد 4/ 375، والحميدي (843)، والبخاري (3642)، وأبو داود (3384)، والترمذيّ (1258)، وابن ماجه (2402) عن عروة بن أبي الجعد البارقي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري به شاةً، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه.
مذهب أحمد وغيره، وقد صحَّ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رُفِع إليه أن رجلًا أعتق ستةَ مملوكين له عند موته، لا مال له غيرهم، فدعا بهم، فجزَّأهم ثلاثةَ أجزاء، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعةً، وقال له قولًا شديدًا
(1)
، ولعلَّ الورثة لم يُجيزوا عتق الجميع والله أعلم.
ومنها بيعُ المدلس ونحوه كالمُصَرَّاةِ، وبَيعِ النَّجَشِ، وتلقي الركبان
(2)
ونحو ذلك، وفي صحَّته كُلِّه اختلافٌ مشهورٌ في مذهب الإِمام أحمد، وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه وردِّه.
والصحيح أنه يصحُّ ويقفُ على إجازة من حصل له ظلمٌ بذلك، فقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه جعل مشتري المصرَّاة بالخيار
(3)
، وأنه جعل للركبان الخيار إذا
(1)
رواه من حديث عمران بن حصين أحمد 4/ 438، ومسلم (1668)، وأبو داود (3958) - (3961)، والترمذي (1364)، والنسائي 4/ 64، وابن ماجه (2345)، وصححه ابن حبان (5057)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
المصراة: هي الشاة أو الناقة التي تُربط أخلافها، ويترك حلبها يومين أو ثلاثة أيام حتَّى يجتمع اللبن في ضرعها، ثم تباع، فيظنها المشتري كثيرة اللبن، فيزيد في ثمنها، فإذا حلبها مرتين أو ثلاثًا وقف على هذه التصرية والغرر.
وبيع النجش: هو أن يمدح السلعة بما ليس فيها لينفقها ويروِّجها أو يزيد في ثمنها وهولا يريد شراءها، بل ليغر غيره.
وتلقي الركبان: هو أن يقع الخبر بقدوم عير تحمل المتاع، فيتلقاها رجل يشتري منهم شيئًا قبل أن يَقْدَموا السوق، ويعرفوا البلد بأرخص الأسعار، فهذا نهي عنه لما فيه من الخديعة.
(3)
روى البخاري (2148) و (2151)، ومسلم (1524)، وأبو داود (3443) - (3445)، والترمذيّ (1251) و (1252)، والنسائي 7/ 253 - 254 من حديث أبي هريرة:"من ابتاع شاة مُصَرَّاةً، فهو بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإلَّا ردَّها، وردَّ معها صاعًا من تمر". لفظ مسلم.
هبطوا السوق
(1)
، وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله، وقد أورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصرّاة، فلم يذكر عنه جوابًا.
وأما بيعُ الحاضر للبادي، فمن صحَّحه، جعله من هذا القبيل، ومن أبطله، جعل الحقَّ فيه لأهل البلد كلِّهم، وهم غيرُ منحصرين، فلا يتصوَّرُ إسقاطُ حقوقهم، فصار كحقِّ الله عز وجل.
ومنها: لو باع رقيقًا يَحْرُمُ التَّفريقُ بينهم، وفرَّق بينهم كالأُمِّ وولدها، فهل يقع باطلًا مردودًا، أم يقفُ على رضاهم بذلك؟. وقد روي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بردِّ هذا البيع
(2)
ونصَّ أحمدُ على أنَّه لا يجوزُ التفريقُ بينهم، ولو رضوا بذلك، وذهب طائفةٌ إلى جواز التفريق بينهم برضاهم: منهم النخعيُّ، وعُبيد الله بنُ الحسن العنبري، فعلى هذا يتوجه أن يصحَّ، ويقف على الرضا.
ومنها لو خصَّ بعضَ أولاده بالعطيَّة دونَ بعض، فقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه أمرَ بشيرَ بنَ سعدٍ لما خصَّ ولدهُ النُّعمانَ بالعطيَّةِ أن يردّه
(3)
، ولم يدلَّ ذلك على أنَّه لم ينتقل الملكُ بذلك إلى الولد، فإنَّ هذه العطية تصحُّ وتقع مراعاةً، فإن سوَّى بينَ الأولادِ في العطية، أو استردَّ ما أعطى الولَد، جاز، وإن ماتَ ولم يفعل شيئًا من ذلك، فقال مجاهد: هي ميراث. وحكي عن أحمد نحوه، وأنَّ العطية
(1)
روى مسلم (1519) - واللفظ له - وأبو داود (3437)، والترمذى (1221)، والنسائي 7/ 257، وابن ماجه (2178) من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه، فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار".
(2)
رواه أبو داود (2696) من طريق يزيد بن عبد الرَّحمن، عن الحاكم عن ميمون بن أبي شبيب عن علي، وقال: ميمون لم يدرك عليًا.
ورواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 125، وصحح إسناده، ورجحه البيهقي في "السنن" 9/ 126 لشواهده.
(3)
متفق عليه، وانظره مخرجًا في ابن حبان (5097) - (5107).
تبطلُ، والجمهور على أنَّها لا تبطلُ. وهل للورثة الرجوعُ فيها أم لا؟ فيه قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد.
ومنها الطلاقُ المنهي عنه، كالطلاق في زمن الحيض، فإنه قد قِيل: إنه قد نُهِيَ عنه لحقِّ الزوج، حيث كان يخشى عليه أن يَعْقُبه فيه النَّدمُ، ومن نُهِيَ عن شيء رفقًا به، فلم ينته عنه، بل فعله وتجشَّم مشقَّته، فإنه لا يحكم ببطلان ما أتى به، كمن صام في المرض أو السفر، أو واصل في الصيام، أو أخرج ماله كله وجلس يتكفَّفُ النَّاسَ، أو صلَّى قائمًا مع تضرُّره بالقيام للمرض، أو اغتسل وهو يخشى على نفسه الضَّرر، أو التَّلفَ ولم يتيمَّم، أو صامَ الدَّهرَ، ولم يفطر، أو قام اللَّيل ولم ينم، وكذلك إذا جمعَ الطَّلاق الثَّلاثَ على القول بتحريمه.
وقيل: إنَّما نهي عن طلاق الحائض، لحقِّ المرأة لما فيه من الإِضرار بها بتطويل العدّة، ولو رضيت بذلك بأن سألته الطَّلاق بعِوَضٍ في الحيض، فهل يزولُ بذلك تحريمُهُ؟ فيه قولان مشهوران للعلماء، والمشهورُ من مذهبنا ومذهب الشَّافعيِّ أنَّه يزولُ التَّحريمُ بذلك، فإن قيل: إن التَّحريم فيه لحقِّ الزوج خاصة، فإذا أقدم عليه، فقد أسقط حقَّه فسقط، وإن علل بأنَّه لحقِّ المرأة، لم يمنع نفوذُه ووقوعُه أيضًا، فإنَّ رضا المرأة بالطلاق غيرُ معتبر لوقوعه عند جميع المسلمين، لم يُخالف فيه سوى شرذِمَةٍ يسيرةٍ مِن الروافض ونحوهم، كما أن رضا الرقيق بالعتق غيرُ معتبرٍ، ولو تضرَّر به، ولكن إذا تضرَّرت المرأةُ بذلك، وكان قد بقي شيء من طلاقها، أمر الزوج بارتجاعها، كما أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم ابنَ عمر بارتجاع زوجته تلافيًا منه لضررها، وتلافيًا لما وقع منه من الطلاق المحرَّم حتَّى لا تصير بينونتُها منه ناشئة عن طلاق محرَّمٍ، وليتمكَّن من طلاقها على وجه مباح، فتحصل إبانتُها على هذا الوجه. وقد روي عن أبي الزبير، عن ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ردَّها عليه ولم يرها شيئًا
(1)
، وهذا ممَّا تفرَّد به أبو الزبير عن أصحاب
(1)
رواه أبو داود (2185) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه =
ابن عمر كلِّهم مثل ابنه سالم، ومولاه نافع، وأنس، وابن سيرين، وطاووس، ويونس بن جبير، وعبد الله بن دينار، وسعيد بن جبير، وميمون بن مِهران وغيرهم.
وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير من المحدثين والفقهاء، وقالوا: إنَّه تفرَّد بما خالف الثِّقات، فلا يُقبل تفرّده، فإنّ في رواية الجماعة عن ابن عمر ما يدلُّ على أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حسب عليه الطلقة من وجوه كثيرة، وكان ابنُ عمر يقول لمن سأله عن الطلاق في الحيض: إن كنتَ طلَّقتَ واحدةً أو اثنتين، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرني بذلك: يعني بارتجاع المرأة، وإن كنت طلقت ثلاثًا، فقد عصيت ربَّك، وبانت منك امرأتك
(1)
.
= سمع عبد الرَّحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع، قال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ قال: طلّق عبد الله امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض. قال عبد الله: فردَّها عليَّ ولم يرها شيئًا، وقال:"إذا طهرت فليطلق أو ليمسك". قال ابن عمر: وقرأ النَّبي صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} في قُبُل عدتهن، قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر يونسُ بن جبير، وأنس بن سيرين، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، وأبو الزبير، ومنصورٌ عن أبي وائل، معناهم كلهم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتَّى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، وكذلك روى محمد بن عبد الرَّحمن عن سالم عن ابن عمر، وأما رواية الزُّهري عن سالم ونافع عن ابن عمر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتَّى تطهر ثم تحيض ثم تطهر إن شاء طلق وإن شاء أمسك، وروى عن عطاءٍ الخراساني عن الحسن عن ابن عمر نحو رواية نافع والزهري، والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير.
وهو في "مصنف عبد الرزاق"(10960)، وانظر لزامًا "فتح الباري" 9/ 353 - 355.
(1)
انظر: "سنن الدارقطني" 3/ 8، و"مصنف عبد الرزاق"(10964) و"سنن البيهقي" 7/ 327.
وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى لم يُتابع عليها وهي قوله: ثم تلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} ولم يذكر ذلك أحدٌ من الرواة عن ابن عمر، وإنَّما روى عبدُ اللهِ بنُ دينار عن ابن عمر أنه كان يتلو هذه الآية عند روايته للحديث وهذا هو الصحيح.
وقد كان طوائفُ من النَّاس يعتقدونَ أن طلاقَ ابن عمر كان ثلاثًا، وأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما ردَّها عليه، لأنه لم يوقع الطَّلاق في الحيض، وقد رُوي ذلك عن أبي الزبير أيضًا من رواية معاوية بن عمار الدُّهني عنه، فلعلّ أبا الزبير اعتقد هذا حقًّا، فروى تلك اللفظةَ بالمعنى الذي فهمه، وروى ابنُ لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير، فقال: عن جابر أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لِيُراجِعها فإنَّها امرأتُه" وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإِسناد، وتفرَّد بقوله:"فإنها امرأته" وهي لا تدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثًا، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير وأصحابُ ابن عمر الثقاتُ الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه، وروى أَيوب عن ابن سيرين قال: مكثتُ عشرين سنة يُحدِّثني من لا أتَّهِمُ أن ابنَ عمر طلَّق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُراجِعَها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتَّى لقيتُ أبا غلَّاب يونس بن جُبير وكان ذا ثَبتٍ، فحدَّثني أنه سأل ابنَ عمر فحدَّثه أنه طلقها واحدةً. خرَّجه مسلم
(1)
.
وفي رواية: قال ابنُ سيرين: فجعلتُ لا أعرِفُ للحديث وجهًا ولا أفهمه.
وهذا يدلُّ على أنه كان قد شاع بين الثِّقاتِ من غير أهلِ الفقه والعلم أن طلاقَ ابن عمر كان ثلاثًا، ولعلَّ أبا الزبير من هذا القبيل، ولذلك كان نافع يُسأل كثيرًا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثًا أو واحدة؟ ولما قدم نافع مكة، أرسلوا
(1)
رقم (1471)(7).
إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك لهذه الشبهة، واستنكارُ ابن سيرين لِرواية الثلاث يَدُل على أنه لم يعرف قائلًا معتبرًا يقول: إنَّ الطلاق المحرَّم غير واقع، وأن هذا القول لا وَجْهَ له.
قال الإِمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقعُ الطلاقُ المحرم، لأنه يُخالِفُ ما أمر به، فقال: هذا قولُ سوءٍ رديء، ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض.
وقال أبو عبيد: الوقوعُ هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار: حجازهم وتهامهم، ويمنهم وشامهم، وعراقهم ومصرهم، وحكى ابنُ المنذر ذلك عن كلِّ من يُحْفَظُ قولُه من أهل العلم إلَّا ناسًا من أهل البدع لا يُعتَدُّ بهم.
وأمَّا ما حكاه ابنُ حزم
(1)
عن ابن عمر أنه لا يقع الطلاقُ في الحيضِ مستندًا إلى ما رواه من طريق محمد بن عبد السلام الخشني الأندلسي حدَّثنا محمَّد بن بشار، حدثنا عبد الوهَّاب الثقفي، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال: لا يُعتَدُّ بها، وبإسناده عن خِلاس نحوه، فإن هذا الأثرَ قد سقطت من آخره لفظة وهي قال: لا يعتد بتلك الحيضة، كذلك رواه أبو بكر بنُ أبي شيبة في كتابه
(2)
عن عبد الوهَّاب الثقفي، وكذا رواه يحيى بنُ معين عن عبد الوهَّاب أيضًا، وقال: هو غريب لم يحدث به إلا عبدُ الوهَّاب، ومرادُ ابن عمر أن الحيضة التي طلق فيها لا تعتدُّ بها المرأة قرءًا، وهذا هو مرادُ خِلاس وغيره.
وقد روي ذلك أيضًا عن جماعةٍ من السلف، منهم زيدُ بنُ ثابت،
(1)
"المحلَّى" 10/ 163.
(2)
"المصنف" 5/ 5، ولفظه بإسناده: حدثنا عبد الوهَّاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر في الذي يطلق امرأته وهي حائض، قال: لا يعتد بتلك الحيضة.
وسعيد بنُ المسيب، فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم كما وهم ابنُ حزم فحَكَوا عن بعضِ من سمينا أن الطلاق في الحيض لا يقع، وهذا سببُ وهمهم والله أعلم.
وهذا الحديث إنَّما رواه القاسم بن محمد لما سُئِلَ عن رجُلٍ له ثلاثة مساكن، فأوصى بِثُلثِ ثلاث مساكن هل تجمع له في مسكن واحد؟ فقال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، حدثتني عائشة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ عمل عملًا ليسَ عليهِ أمرُنا فَهُو ردٌّ" خرَّجه مسلم
(1)
. ومرادُه أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحبُّ إلى الله وأنفعُ جائزٌ، وقد حكي هذا عن عطاء وابن جريج، وربما يستدلُّ بعضُ من ذهب إلى هذا بقوله تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ولعله أخذ هذا من جمع العتق، فإنه صح "أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، فدعاهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة" خرَّجه مسلم
(2)
. وذهب فقهاءُ الحديث إلى هذا الحديث، لأن تكميلَ عتق العبد مهما أمكن أولى من تشقيصه، ولهذا شُرِعَتِ السِّرايةُ والسِّعايةُ
(3)
إذا أعتق أحدُ الشريكين نصيبَه من عبد. وقال صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق بعضَ عبدٍ له: "هو عتيقٌ كُلُّه ليس لله شريك"
(4)
.
وأكثرُ العلماء على خلاف قول القاسم هذا، وأن وصية الموصي لا تجمع، ويُتبع لفظه إلا في العتق خاصة، لأن المعنى الذي جمع له في العتق غيرُ موجود في بقية الأموال، فيعمل فيها بمقتضى وصية الموصي.
(1)
رقم (1817)(18).
(2)
رقم (1668).
(3)
إذا عتق بعض العبد، ورقَّ بعضه، فإنه يسعى في فكاك ما بقي من رقه، فيعمل ويتصرف في كسبه، ويصرف ثمنه إلى مولاه، فيسمى تصرفه في كسبه سعاية.
(4)
رواه أبو داود (3933) من حديث أسامة بن عمير، وسنده صحيح.
وذهب طائفة من الفقهاء في العتق إلى أنه يعتق مِنْ كلّ عبدٍ ثلثه، ويستسعون في الباقي، واتباع قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقُّ وأولى، والقاسم نظر إلى أن في مشاركة الموصى له للورثة في المساكن كُلِّها ضررًا عليهم، فيدفع عنهم هذا الضَّرر بجمع الوصية في مسكن واحدٍ، فإن الله قد شرط في الوصية عدَمَ المضارة بقوله تعالى:{غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12] فمن ضارَّ في وصيته، كان عملهُ مردودًا عليه لمخالفته ما شرط الله في الوصية.
وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لو وصَّى له بثلث مساكنه كُلِّها، ثم تلف ثلثا المساكن، وبقي منها ثلث أنه يُعطى كله للموصى له، وهذا قولُ طائفةٍ من أصحاب أبي حنيفة، وحكي عن أبي يوسف ومحمد، ووافقهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في خلافه، وبَنَوا ذلك على أن المساكن المشتركة تقسم بين المشتركين فيها قسمة إجبار، كما هو قولُ مالك، وظاهرُ كلام ابن أبي موسى من أصحابنا، والمشهورُ عند أصحابنا أن المساكن المتعدِّدة لا تُقسم قسمة إجبار وهو قولُ أبي حنيفة والشَّافعي، وقد تأوَّل بعضُ المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أن أحد الفريقين من الورثة أو الموصى لهم طلب قسمة المساكن وكانت متقاربة بحيث يضمُّ بعضها إلى بعض في القسمة، فإنه يُجاب إلى قسمتها على قولهم، وهذا التأويل بعيد مخالف لِلظاهر، والله أعلم.
الحديث السادس
عَنِ النُّعمانِ بن بشِيرٍ رضي الله عنهما قال: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ وإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَينَهُما أُمُورٌ مُشتَبهاتٌ، لا يَعْلَمُهنَّ كثيرٌ مِن النَّاسِ، فمَن اتَّقى الشُّبهاتِ استبرأ لِدينِهِ وعِرضِه، ومَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الحَرَام، كالرَّاعِي يَرعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إذا صلَحَتْ صلَحَ الجَسَدُ كلُّه، وإذَا فَسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كلُّه، ألا وهِيَ القَلبُ" رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ
(1)
.
هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعضُ الزيادة والنقص، والمعنى واحد أو متقارب.
وقد روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر
(2)
، وعمار بن ياسر
(3)
، وجابر
(4)
، وابن مسعود، وابن عباس
(5)
، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب.
(1)
رواه البخاري (52) و (2051)، ومسلم (1599)، وصححه ابن حبان (721) وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
سيأتي تخريجه ص 69.
(3)
رواه أبو يعلى (1653)، وفيه رجل مجهول، وموسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، وانظر "المجمع" 4/ 73 و 10/ 293.
(4)
رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" 9/ 70، وإسناده ضعيف.
(5)
رواه الطبراني في "الكبير"(10824)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 294، وقال: فيه سابق الجزري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من النَّاس" معناه: أن الحلال المحضَ بَيِّنٌ لا اشتباه فيه، وكذلك الحرامُ المحضُ، ولكن بين الأمرين أمورٌ تشتبه على كثيرٍ من النَّاس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟. وأما الرَّاسخون في العلم، فلا يشتبه عليهم ذلك، ويعلمون من أيِّ القسمين هي.
فأما الحلالُ المحضُ: فمثل أكلِ الطيبات من الزروع، والثمار، وبهيمةِ الأنعام، وشرب الأشربة الطيبة، ولباسِ ما يحتاج إليه من القطن والكتَّان، أو الصوف أو الشعر، وكالنكاح، والتسرِّي وغير ذلك إذا كان اكتسابُه بعقدٍ صحيح كالبيع، أو بميراث، أو هِبة، أو غنيمة.
والحرام المحضُ: مثلُ أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير وشرب الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكساب المحرَّمة كالرِّبا والميسر وثمن ما لا يحل بيعه، وأخذِ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك.
وأما المشتبه: فمثلُ أكل بعضِ ما اختلفَ في حلِّه أو تحريمه، إمَّا من الأعيان كالخيلِ والبغالِ والحميرِ، والضبِّ، وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يُسكِرُ كثيرُها، ولبسِ ما اختلف فيه إبَاحة لبسه من جلود السباع ونحوها، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العِينة
(1)
والتورّق
(2)
ونحو
(1)
هي أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها من المشتري قبل قبض الثمن بثمنٍ نقدٍ أقلَّ من ذلك القدر.
(2)
في "القواعد النورانية" ص 121: ولو كان مقصود المشتري الدراهم، وابتاع السلعة إلى أجلٍ ليبيعها ويأخذ ثمنها، فهذا يسمَّى التَّورُّق، ففي كراهته عن أحمد روايتان، والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك فيما أظن بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع أو القُنية، فهذا يجوز شراؤه إلى أجلٍ بالاتفاق.
ذلك، وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمدُ وإسحاق وغيرهما من الأئمة.
وحاصلُ الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب، وبين فيه للأمة ما يحتاجُ إليه من حلال وحرام، كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] قال مجاهد وغيرُه: لكلِّ شيءٍ أُمِرُوا به أو نُهوا عنه، وقال تعالى في آخر سورة النساء [الآية: 176] التي بَيَّنَ الله فيها كثيرًا من أحكام الأموال والأبضاع: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وما قُبض صلى الله عليه وسلم حتَّى أكمل له ولأُمته الدينَ، ولهذا أنزل عليه بعرفة قَبْلَ موته بمدة يسيرة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وقال صلى الله عليه وسلم: "تَركتُكُم على بَيضاءَ نقية لَيلُها كنهارِها لا يَزِيغُ عنها إلَّا هالِكٌ"
(1)
.
وقال أبو ذرٍّ: توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وما طائِرٌ يُحرِّكُ جناحَيهِ في السَّماءِ إلَّا وقد ذَكَرَ لنا منه عِلمًا
(2)
.
(1)
قطعة من حديثٍ حسن، رواه أحمد 4/ 26 وابن ماجه (43)، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(79) من حديث العِرباض بن سارية.
(2)
رواه أحمد 5/ 53 و 162، قال في "المجمع" 8/ 263 - 264: رواه أحمد والطبراني، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يُسمَّ. =
ولمَّا شكَّ النَّاسُ في موته صلى الله عليه وسلم، قال عمُّه العباس رضي الله عنه: والله ما ماتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتَّى تركَ السبيلَ نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ، ونكَحَ وطلَّق، وحارب وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يَخْبطُ عليها العِضاهَ بمِخْبَطهِ، ويَمْدُرُ حوضَها بيده بأنصَب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ فيكُم
(1)
.
وفي الجملة فما ترك الله ورسولُه حلالًا إلَّا مُبيَّنًا ولا حرامًا إلَّا مُبيَّنًا، لكن بعضَه كان أظهر بيانًا من بعض، فما ظهر بيانُه، واشتهرَ، وعُلِمَ من الدِّين بالضَّرورة من ذلك لم يبق فيه شكٌّ، ولا يُعذر أحدٌ بجهله في بلدٍ يظهر فيه الإِسلام، وما كان بيانُه دونَ ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة، فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفى على بعض من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضًا، فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب:
منها أنه قد يكون النصُّ عليه خفيًا لم ينقله إلا قليلٌ من النَّاس، فلم يبلغ جميع حملة العلم.
ومنها أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفةً أحدُ النصين دون الآخرين، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معًا من لم يبلغه التاريخ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ.
= قلت: وله شاهد من حديث أبي الدرداء عند الطبراني. قال في "المجمع": ورجاله رجال الصحيح.
(1)
رواه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 266 - 267. عن عارم بن الفضل، عن حماد بن زياد، عن أبي أيوب، عن عكرمة .. وهذا سندٌ رجاله ثقات إلا أنه مرسل.
ومنها ما ليس فيه نصٌّ صريحٌ، وإنَّما يُؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهامُ العلماء في هذا كثيرًا.
ومنها ما يكون فيه أمر، أو نهي، فتختلفُ العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التَّحريم أو التنزيه، وأسبابُ الاختلاف أكثرُ مما ذكرنا.
ومع هذا فلا بد في الأمة من عالم يُوافق قولُه الحقَّ، فيكون هو العالِم بهذا الحكم، وغيرُه يكون الأمر مشتبهًا عليه ولا يكون عالمًا بهذا، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهرُ أهلُ باطلها على أهلِ حقِّها، فلا يكونُ الحقُّ مهجورًا غير معمولٍ به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشتبهات:"لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من النَّاس" فدل على أن من النَّاس من يعلمها، وإنَّما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء.
وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر، وهو أن مِن الأشياء ما يعلم سببُ حِلِّه وهو الملك المتيقن. ومنها ما يُعلم سببُ تحريمه وهو ثبوتُ ملك الغير عليه، فالأوَّل لا تزولُ إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه، اللهمَّ إلَّا في الأبضاع عندَ من يُوقعُ الطلاقَ بالشك فيه كمالكٍ، أو إذا غلب على الظن وقوعُه كإسحاق بن راهويه. والثاني: لا يزول تحريمُه إلا بيقينِ العلم بانتقال الملك فيه.
وأمَّا ما لا يعلم له أصلُ ملكٍ كما يجده الإِنسان في بيته ولا يدري: هل هو له أو لغيره فهذا مشتبه، ولا يحرم عليه تناوُله، لأن الظاهر أن ما في بيته ملكُه لثبوت يده عليه، والورعُ اجتنابه، فقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنِّي لأنقلب إلى أهلي فأجدُ التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقةً فألقيها"
خرَّجاه في "الصحيحين"
(1)
. فإن كان هناك من جنس المحظور، وشكَّ هل هو منه أم لا؟ قويت الشبهةُ. وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أصابه أرقٌ من الليل، فقال له بعضُ نسائه: يا رسول الله أرقت الليلة. فقال: "إنِّي كنتُ أصبتُ تمرةً تحت جنبي، فأكلتُها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيتُ أن تكون منه"
(2)
.
ومن هذا أيضًا ما أصلهُ الإِباحة كطهارة الماء، والثوب، والأرض إذا لم يتيقن زوال أصله، فيجوز استعمالُه، وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان، فلا يحلّ إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردَّد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فيبني فيما أصله الحرمة على التَّحريم ولهذا نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أكل الصيدِ الذي يجدُ فيه الصائد أثر سهمٍ غيرِ سهمه، أو كلبٍ غير كلبِه، أو يجده قد وقع في ماء
(3)
. وعلل بأنَّه لا يُدرى: هل مات من السبب المبيح له أو من غيره، ويرجع فيما أصله الحلُّ إلى الحِلِّ، فلا ينجسُ الماءُ والأرض والثوبُ بمجرّد ظنِّ النجاسة، وكذلك البدنُ إذا تحقق طهارته، وشكَّ: هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء خلافًا لمالك رحمه الله إذا لم يكن قد دخل في الصلاة. وقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنه شُكي إليه الرَّجلُ يُخيل إليه أنه يجد الشيءَ في الصلاة، فقال: "لا ينصرف حتَّى يسمع
(1)
البخاري (232)، ومسلم (1069) من حديث أبي هريرة.
(2)
رواه أحمد في "مسنده" 2/ 183 و 193، وسنده حسن.
(3)
انظر حديث أبي هريرة في البخاري (175) و (2054) و (5475) و (5476) و (5477) و (5483) و (5485) و (5486) و (5487) و (7397)، ومسلم (1929)، وانظر:"جامع الأصول" 7/ 24 - 30، وانظر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي 7/ 191.
صوتًا أو يجد ريحًا"
(1)
وفي بعض الروايات: "في المسجد" بدل الصلاة.
وهذا يعمُّ حالَ الصلاةِ وغيرها، فإن وُجِدَ سبب قوي يغلب معه على الظنّ نجاسة ما أصلُه الطهارة مثل أن يكونَ الثوبُ يلبسه كافر لا يتحرَّزُ من النجاسات، فهذا محلّ اشتباه، فمن العلماء من رخص فيه أخذًا بالأصل، ومنهم من كرهه تنزيهًا، ومنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة مثل أن يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحتُه أو يكون ملاقيًا لعورته كالسراويل والقميص، وترجع هذه المسائل وشبهها إلى قاعدةِ تعارض الأصل والظاهر، فإن الأصل الطهارة والظاهر النجاسة. وقد تعارضت الأدلَّةُ في ذلك.
فالقائلون بالطهارة يستدلون بأنَّ الله أحلَّ طعام أهل الكتاب، وطعامهم إنَّما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم، وقد أجاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي، وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما نَسَجَه الكفارُ من الثياب والأواني، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب، ويستعملونها، وصحّ عنهم أنهم استعملوا الماء مِنْ مزادة مشركة
(2)
.
والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنَّه صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن آنية أهلِ الكتابِ الذين يأكلون الخنزيرَ، ويشربون الخمر، فقال: إن لم تجدوا غيرها، فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها
(3)
.
وقد فسر الإِمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بينَ الحلال والحرام: يعني الحلالَ المحض والحرام المحض، وقال: من اتَّقاها، فقد استبرأ لدينه، وفسَّرها تارةً باختلاط الحلال والحرام.
(1)
رواه البخاري (137) و (177) و (2056)، ومسلم (361)، وأبو داود (176)، والنسائي 1/ 99 من حديث عبد الله بن زيد.
(2)
انظر البخاري (344).
(3)
رواه البخاري (5478)، ومسلم (1930) من حديث أبي ثعلبة الخشني، وصححه ابن حبان (5879).
ويتفرّعُ على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثرُ ماله الحرامَ؛ فقال أحمد: ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكونَ شيئًا يسيرًا، أو شيئًا لا يعرف، واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرَّم؟ على وجهين.
وإن كان أكثرُ ماله الحلال، جازت معاملته والأكلُ من ماله. وقد روى الحارث عن عليّ أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يُعطيكم من الحلال أكثر مما يُعطيكم من الحرام (5). وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُعاملون المشركين وأهلَ الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرامَ كلَّه.
وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركُه. قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه أعجب إليَّ.
وقال الزُّهريُّ ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرامٌ بعينه، فإن لم يُعلم في ماله حرام بعينه، ولكنه علم أن فيه شبهةً؛ فلا بأس بالأكل منه، نصّ عليه أحمد في رواية حنبل.
وذهب إسحاق بنُ راهويه إلى ما رُوي عن ابن مسعود وسلمانَ وغيرهِما منَ الرُّخصة، وإلى ما رُوي عَنِ الحسنِ وابنِ سيرين في إباحةِ الأخذ مما يقضي من الرِّبا والقمار، نقله عنه ابنُ منصور.
وقال الإِمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المالُ كثيرًا، أخرج منه قدرَ الحرام، وتصرَّف في الباقي، وإن كان المالُ قليلًا، اجتنبه كلَّه، وهذا لأنَّ القليل إذا تناول منه شيئًا، فإنَّه تَبْعُدُ معه السلامةُ من الحرام بخلاف الكثير، ومن أصحابنا منْ حَمَل ذلك على الورع دُون التَّحريم، وأباح التصرُّف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قولُ الحنفيَّة وغيرهم، وأخذ به قومٌ مِنْ أهل الورع منهم بشرٌ الحافي.
ورخَّص قومٌ من السَّلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنَّه
من الحرام بعينه، كما تقدَّم عن مكحول والزُّهريُّ. وروي مثلُه عن الفُضيل بن عياض.
وروي في ذلك آثارٌ عن السلف، فصحَّ عن ابن مسعود أنَّه سُئِلَ عمَّن له جارٌ يأكلُ الرِّبا علانيةً ولا يتحرَّجُ من مال خبيثٍ يأخُذُه يدعوه إلى طعامه، قال: أجيبوهُ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزرُ عليه
(1)
. وفي رواية أنَّه قال: لا أعلم له شيئًا إلا خبيثًا أو حرامًا، فقال: أجيبوه. وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنه عارضه بما رُوي عنه أنَّه قال: الإثم حَوَازُّ القلوب
(2)
.
وروي عن سلمان مثلُ قولِ ابنِ مسعود الأول
(3)
، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومُورِّق العِجلي، وإبراهيم النخعي، وابنِ سيرين وغيرهم، والآثار بذلك موجودة في كتاب "الأدب" لحُمَيد بن زَنجويه، وبعضها في كتاب "الجامع" للخلال، وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم
(4)
.
ومتى علم أن عينَ الشيءِ حرامٌ، أُخِذَ بوجه محرم، فإنَّه يحرم تناولُه، وقد حَكى الإجماعَ على ذلك ابنُ عبد البر وغيرُه، وقد رُوي عن ابن سيرين في
(1)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(4675) و (4676) وإسناده صحيح.
(2)
رواه الطبراني في "الكبير"(8747) - (8750)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 1/ 176، وقال: رواه الطبراني كلَّه بأسانيد رجالها ثقات.
والحواز: قال في "النهاية": هي الأمور التي تحز في القلوب، أي: تؤثر فيها كما يؤثر الحز في الشيء، وهو ما يخطر فيها من أن تكون معاصي لفقد الطمأنينة إليها، وهي بتشديد الزاي: جمعُ حاز .. ، ورواه شمر:"الإثم حوَّاز القلوب" بتشديد الواو، أي: يحوزها ويتملكها، ويغلب عليها، ويروى:"الإثم حزاز القلوب" بزايين، الأولى مشددة، وهي فعَّال من الحزّ.
(3)
رواه عبد الرزاق (14677).
(4)
انظر "مصنف عبد الرزاق" 8/ 150، 151.
الرجل يقضى من الرِّبا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يُقضى من القمار قال: لا بأس به، خرّجه الخلّال بإسناد صحيح، ورُوي عن الحسن خلاف هذا، وأنَّه قال: إنَّ هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطَر.
وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان، ما روي عن أبي بكر الصدِّيق أنَّه أكل طعامًا ثم أخبر أنَّه من حرام، فاستقاءه
(1)
.
وقد يقع الاشتباه في الحكم، لكون الفرع متردِّدًا بين أصول تجتذبُه، كتحريم الرجل زوجته، فإنَّ هذا متردِّدٌ بين تحريم الظِّهار الذي ترفعه الكفَّارةُ الكبرى، وبين تحريم الطَّلقة الواحدة بانقضاء عدَّتها الذي تُباحُ معه الزوجة بعقدٍ جديدٍ، وبين تحريم الطَّلاق الثلاث الذي لا تُباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة وبين تحريم الرجل عليه ما أحلَّه الله له مِنَ الطَّعام والشراب الذي لا يحرمه، وإنما يُوجب الكفَّارة الصُّغرى، أو لا يُوجب شيئًا على الاختلاف في ذلك، فمن هاهنا كَثُرَ الاختلافُ في هذه المسألة من زمن الصحابة فمن بعدهم.
وبكلِّ حالٍ، فالأمور المشتبهة التي لا يتبين أنَّها حلال ولا حرام لكثيرٍ مِنَ
(1)
رواه البخاري (3842) من طريق القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان لأبي بكرٍ غلامٌ يُخرجُ له الخَراجَ، وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خَراجِهِ، فجاءَ يومًا بشيءٍ فأكل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ: وما هو؟ قال: كنت تكَهَّنتُ لإنسانٍ في الجاهليَّةِ، وما أُحسن الكهانةَ، إلَّا أني خدعتهُ فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه. فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه ".
وقوله: "يخرج له الخراج" أي: يأتيه بكسبه، والخراج: ما يقرره السيد على عبده من مالٍ يحضره له من كسبه. قال الحافظ: والذي يظهر أن أبا بكر إنِّما قاء لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن، وحلوان الكاهن هو ما يأخذه على كهانته، والكاهن: من يخبر بما سيكون عن غير دليل شرعي، وكان ذلك قد كثر في الجاهلية خصوصًا بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم.
النَّاس، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، قد يتَبيَّنُ لبعض النَّاس أنها حلال أو حرام، لما عِنده مِنْ ذلك من مزيدِ علمٍ، وكلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات مِنَ النَّاسِ من يعلمُها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان:
أحدهما: من يتوقَّف فيها، لاشتباهها عليه.
والثاني: من يعتقدُها على غيرِ ما هي عليه، ودل كلامُه على أنَّ غير هؤلاء يعلمها، ومرادُه أنَّه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أنَّ المصيبَ عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلفِ فيها واحدٌ عندَ الله عز وجل، وغيره ليس بعالم بها، بمعنى أنَّه غيرُ مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقدُ فيها اعتقادًا يستندُ فيه إلى شبهة يظنها دليلًا، ويكون مأجورًا على اجتهاده، ومغفورًا له خطؤه لعدم اعتماده.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن اتَّقى الشُّبهاتِ، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقَعَ في الشُّبهَاتِ، وقع في الحرام" قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين، وهذا إنَّما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه، وهو من لا يعلمها، فأمَّا مَنْ كان عالمًا بها، واتَّبع ما دلَّه علمهُ عليها، فذلك قسمٌ ثالث، لم يذكره لظهور حكمه، فإنَّ هذا القسم أفضلُ الأقسام الثلاثةِ؛ لأنَّه عَلِمَ حكمَ الله في هذه الأمور المشتبهة على النَّاس، واتَّبع علمَه في ذلك. وأما من لم يعلم حكم الله فيها، فهم قسمان: أحدهما من يتقي هذه الشبهات، لاشتباهها عليه، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه.
ومعنى استبرأ: طلب البراءة لدينه وعرضه مِنَ النَّقْص والشَّين، والعوض: هو موضعُ المدح والذمِّ من الإنسان، وما يحصل له بذكره بالجميل مدحُ، وبذكره بالقبيح قدحٌ، وقد يكون ذلك تارةً في نفس الإنسان، وتارةً في سلفه، أو في
أهله، فمن اتَّقى الأمور المشتبهة واجتنبها، فقد حَصَّنَ عِرْضَهُ مِنَ القَدح والشَّين الداخل على من لا يجتنبها، وفي هذا دليل على أنَّ من ارتكب الشُّبهات، فقد عرض نفسه للقدح فيه والطَّعن، كما قال بعض السَّلف: من عرض نفسه للتُّهم، فلا يلومنَّ من أساء به الظنَّ.
وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: "فمن تركها، استبراءً لدينه وعرضه، فقد سَلِمَ " والمعنى: أنَّه يتركُها بهذا القصد - وهو براءةُ دينه وعرضه من النقص - لا لغرضٍ آخر فاسدٍ من رياءٍ ونحوه.
وفيه دليلٌ على أنَّ طلب البراءة للعرض ممدُوحٌ كطلب البراءة للدين، ولهذا ورد:"أنَّ ما وقى به المرءُ عِرضَه، فهو صدقةٌ".
وفي رواية في "الصحيحين"
(1)
في هذا الحديث: "فمن ترك ما يشتبه عليه مِنَ الإثمِ، كان لما استبانَ أتركَ" يعني: أن من ترك الإثمَ مع اشتباهه عليه، وعدم تحققه، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنَّه إثمٌ، وهذا إذا كان تركه تحرُّزًا من الإثم، فأمَّا من يَقصِدُ التصنعَ للناسِ، فإنَّه لا يتركُ إلا ما يَظُنُّ أنَّه ممدوحٌ عندهم تركُه.
القسم الثاني: من يمع في الشبهات مع كونها مشتبهةً عنده، فأمَّا مَنْ أتى شيئًا مما يظنُّه الناس شبهةً، لعلمه بأنَّه حلال في نفس الأمر، فلا حَرَج عليه من الله في ذلك، لكن إذا خشيَ من طعن الناس عليه بذلك، كان تركُها حينئذ استبراءً لعرضه، فيكون حسنًا، وهذا كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفًا مع صفية: إنَّها صفيَّةُ بنتُ حُيي"
(2)
. وخرج أنس إلى الجمعة، فرأى الناسَ قد صلَّوا
(1)
هي رواية للبخاري (2501)، وليست عند مسلم.
(2)
رواه البخاري (2035)، ومسلم (2175)، وأبو داود (2470)، وأحمد 6/ 337 من حديث صفيَّة.
ورجعوا، فاستحيى، ودخل موضعًا لا يراهُ النَّاس فيه، وقال:"من لا يستحيي من الناس، لا يستحيي من الله". وخرَّجه الطبراني مرفوعًا، ولا يصحّ
(1)
.
وإن أتى ذلك لاعتقاده أنَّه حلال، إمَّا باجتهادٍ سائغٍ، أو تقليدٍ سائغٍ، وكان مخطئًا في اعتقاده، فحكمهُ حكمُ الذي قبلَه، فإنَّ كان الاجتهادُ ضعيفًا، أو التقليدُ غيرَ سائغٍ، وإنَّما حمل عليه مجرّد اتباع الهوى، فحكمُهُ حكمُ من أتاه مع اشتباهه عليه، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه، فقد أخبر عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه وقع في الحرام، وهذا يفسر بمعنيين:
أحدهما: أنَّه يكونُ ارتكابُهُ للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنَّه حرام بالتدريج والتسامح.
وفي رواية في "الصحيحين" لهذا الحديث: "ومن اجترأَ على ما يشكُّ فيه مِنَ الإثمِ، أَوشَكَ أن يُواقعَ ما استبانَ"
(2)
. وفي رواية
(3)
: "ومَنْ يُخالطِ الرِّيبةَ، يوشِكُ أن يَجْسُرَ" أي: يَقرُب أنْ يَقْدَمَ على الحرام المحضِ، والجسورُ: المقدام الذي لا يهابُ شيئًا، ولا يُراقب أحدًا، ورواه بعضهم:"يجشُر" بالشِّين المعجمة، أي: يرتع، والجَشْر: الرعي، وجشرتُ الدابة: إذا رعيتها. وفي مراسيل أبي المتوكل الناجي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يرعى بجنباتِ الحرامِ، يوشكُ أنْ يُخالطهُ، ومن تهاون بالمحقِّرات، يُوشِكُ أنْ يُخالِطَ الكبائر".
والمعني الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبهٌ عنده، لا يدري: أهو حلالٌ أو حرام، فإنَّه لا يأمن أن يكون حرامًا في نفس الأمر، فيُصادِفُ الحرام وهو لا
(1)
رواه الطبراني في " الأوسط "، وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 27، وقال: وفيه جماعة لم أعرفهم.
(2)
هي رواية للبخاري (2051) فقط.
(3)
هي لابن حبان (721)، والنسائي 8/ 327، وأبي داود (3329).
يدري أنَّه حرامٌ. وقد رُوي من حديث ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّن وبينهما مُشتبهات، فمن اتَّقاها، كان أنزَه لدينِهِ وعِرضه، ومن وقعَ في الشُّبهَاتِ أوشَكَ أنْ يقع في الحَرامِ، كالمرتع حَولَ الحِمى، يُوشِكُ أنْ يُواقعَ الحِمى وهو لا يشعر" خرجه الطبراني وغيره
(1)
.
واختلف العلماء: هل يُطيع والديه في الدُّخول في شيءٍ من الشُّبَهة أم لا يُطيعهما؟ فرُوي عن بشر بن الحارث، قال: لا طاعة لهما في الشُّبهةِ، وعن محمَّد بن مقاتل العبَّادانيِّ قال: يُطيعهما، وتوقف أحمد في هذه المسألة، وقال: يُدارِيهما، وأبى أن يُجيبَ فيها.
وقال أحمد: لا يشبعُ الرجل مِنَ الشُّبهة، ولا يشتري الثوبَ للتَّجمُّل مِن الشبهة، وتوقف في حدِّ ما يُؤكل وما يُلبس منها، وقال في التَّمرة يلقيها الطيرُ: لا يأكلُها، ولا يأخذها، ولا يتعرَّضُ لها.
وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلُسَ أو الدَّراهِم: أحبُّ إليَّ أن يتنزَّهُ عنها، يعني: إذا لم يدرِ من أين هي. وكان بعضُ السَّلف لا يأكلُ إلَّا شيئًا يعلمُ من أينَ هو، ويسأل عنه حتى يقفَ على أصله. وقد رُويَ في ذلك حديثٌ مرفوعٌ، إلا أن فيه ضعفًا
(2)
.
(1)
قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 74: رواه الطبراني في "الأوسط "، وفي إسناده سعد بن زنبور، قال أبو حاتم: مجهول.
(2)
روى الطبراني في "الكبير" 25/ (428)، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 5/ 471، وابن الأثير في "أسد الغابة" 7/ 359، عن أمِّ عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم، وذلك في طول النَّهار وشدة الحر، فرد إليها رسولها:" أنى كان لكِ هذا اللبن؟ " فقالت: من شاة لي، فرد إليها رسولها:"أنى كانت لك هذه الشَّاة؟ " فقالت: اشتريتها من مالي، فأخذه منها، فلما كان من الغد أتته أم عبد الله، فقالت: يا رسول الله، بعثت إليك باللبن مرثية لك من طول
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يرتَعَ فيه، ألا وإن لكلِّ ملكٍ حِمى، وإنَّ حِمى اللهِ محارمه": هذا مَثَلٌ ضربه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمن وقع في الشُّبهات، وأنَّه يقرُب وقوعه في الحرام المحض، وفي بعض الروايات أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"وسأضرب لذلك مثلًا"، ثم ذكر هذا الكلامَ، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مثلَ المحرمات كالحِمى الذي تحميه الملوكُ، ويمنعون غيرهم من قُربانه، وقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم حول مدينته اثني عشر ميلًا حِمى محرمًا لا يُقطعُ شجرُه ولا يُصادُ صيدُه
(1)
، وحمى عمرُ وعثمان أماكنَ ينبتُ فيها الكلأ لأجل إبل الصدقة
(2)
.
= النهار وشدة الحر، فرددت الرسول فيه؟ فقال لها:"بذلك أمرت الرسل أن لا نأكل إلَّا طيّبًا ولا نعمل إلا صالحًا".
وذكره الهيثمي في "المجمع" 15/ 291، وقال: فيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف.
(1)
رواه مسلم (1372)(473) من حديث أبي هريرة.
(2)
رواه البخاري (2370) من طريق يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن الصعب بن جثامة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حمى إلَّا لله ولرسوله "، وقال:(القائل هو الزهري): بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى الشَّرَف والرَّبَذَةَ.
وفيه أيضًا (3059) من طريق زيد بن أسلم عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هُنيًّا على الحِمى فقال: يا هُنَيُّ اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين، فإنَّ دعوة المظلوم مستجابة، وأَدخِل ربَّ الصُّرَيمة وربَّ الغُنيمةِ، وإيّاي ونَعَم ابنِ عوفٍ ونَعَم ابنِ عفَّان؛ فإنَّهما إن تهلِكْ ماشيَتُهما يرجعا إلى نخلٍ وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلِك ماشيتُهما يأتني ببنيه، فيقول: يا أمير المؤمنين. أفَتاركُهم أنا لا أبالك؟ فالماء والكلأ أيسر عليَّ من الذهب والوَرِق، وايمُ اللهِ إنهم ليرونَ أني قد ظلمتهم، إنها لَبِلادُهم، فقاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المالُ الذي أحملُ عليه في سبيل الله، ما حميتُ عليهم من بلادهم شِبرًا".=
والله عز وجل حمى هذه المحرَّمات، ومنع عباده من قربانها وسمَّاها حدودَه، فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، وهذا فيه بيان أنَّه حدَّ لهم ما أحلَّ لهم وما حرَّم عليهم، فلا يقولُوا الحرامَ، ولا يتعدَّوا الحلال، ولذلك قال في آية أخرى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وجعل من يرعى حول الحمى وقريبًا منه جديرًا بان يدخُلَ الحِمى ويرتع فيه، فكذلك من تعدَّى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنَّه قد قارب الحرام غايةَ المقاربة، فما أخلقَهُ بأن يُخالِطَ الحرامَ المحضَ، ويقع فيه، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي التباعد عنِ المحرَّماتِ، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزًا.
وقد خرّج الترمذي وابن ماجه مِنْ حديثِ عبد الله بن يزيد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من المتَّقين حتى يَدَعَ ما لا بأسَ به حذرًا مما به بأسٌ "
(1)
.
=وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح فيما قاله الحافظ في "الفتح" 5/ 45 عن نافع، عن ابن عمر أن عمر حمى الربذة لنِعَمِ الصدقة.
وروى البيهقي في "سننه" 6/ 147 من حديث أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري قال: سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه أن وفد أهل مصر قد أقبلوا فاستقبلهم، فلما سمعوا به أقبلوا نحوه، قال: وكره أن يَقدموا عليه المدينة فأتوه فقالوا له: ادع بالمصحف، وافتح السابعة - وكانوا يسمون سورة يونس السابعة - فقرأها حتى أتى على هذه الآية:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} ، قالوا له: قف. أرأيت ما حميت من الحِمى، الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه، نزلت في كذا وكذا، فأمَّا الحمى، فإنَّ عمر حمى الحِمى قبلي لإبلِ الصدقة، فلما وُلِّيتُ زادت إبل الصدقة، فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة.
وانظر "شرح السنة" 8/ 272 - 275.
(1)
رواه الترمذي (2451)، وابن ماجه (4215)، وقال الترمذي: حسن غريب مع أن في=
وقال أبو الدرداء: تمامُ التقوى أن يتقي الله العبدُ، حتّى يتقيَه مِنْ مثقال ذرَّة، وحتى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلال، خشيةَ أن يكون حرامًا، حجابًا بينه وبمنَ الحرام.
وقال الحسنُ: ما زالتِ التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام.
وقال الثوري: إنَّما سُموا المتقين لأنهم اتَّقَوْا ما لا يُتقى
(1)
. وروي عن ابن عمر قال: إنِّي لأحبُّ أن أدعَ بيني وبين الحرام سترةً من الحلال لا أخرقها.
وقال ميمون بن مهران: لا يسلم للرجل الحلالُ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال
(2)
.
وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبدٌ حقيقة الإِيمان حتى يجعل بينه وبينَ الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدعَ الإثم وما تشابه منه
(3)
.
ويستدلُّ بهذا الحديثِ مَنْ يذهب إلى سدِّ الذرائع إلى المحرَّمات وتحريم الوسائل إليها، ويَدُلُّ على ذلك أيضًا من قواعدِ الشريعة تحريمُ قليلِ ما يُسكر كثيرُه، وتحريمُ الخلوة بالأجنبية، وتحريمُ الصَّلاة بعد الصُّبح وبعدَ العصرِ سدًّا لذريعة الصَّلاة عندَ طُلوع الشمس وعندَ غروبها، ومنعُ الصَّائم من المباشرة إذا كانت تحرِّكُ شهوتَه، ومنع كثيرٍ من العلماءِ مباشرةَ الحائضِ فيما بين سرّتها ورُكبتها إلَّا مِنْ وراء حائلٍ، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمر امرأتَه إذا كانت حائضًا أن تتَّزر، فيباشِرُها مِنْ فوق الإزار
(4)
.
= سنده عبد الله بن يزيد الدمشقي وهو ضعيف.
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 284 من قول سفيان بن عيينة.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 84.
(3)
"الحلية" 7/ 288.
(4)
روى أحمد 6/ 134، والبخاري (300)، ومسلم (293)، وأبو داود (268)، والترمذي=
ومن أمثلة ذلك وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: من سيَّبَ دابَّته ترعى بقُرْب زرع غيرِه، فإنَّه ضامن لما أفسدته من الزرع، ولو كان ذلك نهارًا، هذا هو الصحيح؛ لأنَّه مُفَرِّطٌ بإرسالها في هذه الحال.
وكذا الخلافُ لو أرسل كلبَ الصَّيدِ قريبًا من الحرم، فدخل الحرمَ فصاد فيه، ففي ضمانه روايتان عن أحمد، وقيل: يضمنه بكل حال.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب"، فيه إشارة إلى أنَّ صلاحَ حركاتِ العبدِ بجوارحه، واجتنابه للمحرَّمات واتِّقاءه للشُّبهات بحسب صلاحِ حركةِ قلبِه.
فإن كان قلبُه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يُحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركاتُ الجوارح كلّها، ونشأ عن ذلك اجتنابُ المحرَّماتِ كلها، وتوقي الشبهات حذرًا مِنَ الوقوعِ في المحرّمات.
وإن كان القلبً فاسدًا، قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه، وطلب ما يحبُّه، ولو كرهه الله، فسدت حركاتُ الجوارح كلها، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتِّباع هوى القلب.
ولهذا يقال: القلبُ مَلِكُ الأعضاء، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه، وهم مع هذا جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيءٍ من ذلك، فإنَّ كان الملكُ صالحًا كانت هذه الجنود صالحةً، وإن كان فاسدًا كانت جنودُه بهذه المثابَةِ فاسدةً، ولا ينفع عند الله إلا القلبُ السليم، كما قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]،
= (132)، والنسائي 1/ 159، وابن ماجه (636) عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر إحدانا إذا كانت حائضًا أن تتَّزر، ثم يباشرها. وصححه ابن حبان (1364).
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "أَسأَلُكَ قلبًا سليمًا"
(1)
، فالقلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات كلُّها، وهو القلبُ الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبُّه الله، وخشية الله، وخشية ما يُباعد منه.
وفي "مسند" الإِمام أحمد
(2)
عن أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه ".
والمراد باستقامة إيمانه: استقامةُ أعمال جوارحه، فإنَّ أعمالَ الجوارحِ لا تستقيمُ إلَّا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكونَ ممتلئًا مِنْ محبَّةِ الله، ومحبَّة طاعته، وكراهة معصيته.
قال الحسن لرجل: داوِ قلبكَ؛ فإنَّ حاجة الله إلى العباد صلاحُ قلوبهم: يعني أنَّ مراده منهم ومطلوبه صلاحُ قلوبهم، فلا صلاحَ للقلوب حتى تستقرَّ فيها معرفةُ اللهِ وعظمتُه ومحبَّتُه وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤهُ والتوكلُ عليه، وتمتلئَ مِنْ ذلك، وهذا هو حقيقةُ التوحيد، وهو معنى "لا إله إلَّا الله"، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتعرفه وتحبُّه وتخشاه هو الله وحده لا شريكَ له، ولو كان في السماوات والأرض إله يُؤَلَّه سوى الله، لفسدت بذلك السماوات والأرض، كما قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
(1)
روى أحمد 4/ 125، والترمذي (3457)، والنسائي 3/ 54 عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته:"اللهمّ إني أسألكَ الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم ". وصححه ابن حبان (1974)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
3/ 198، وتمامه:"ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجلٌ الجنة لا يأمن جاره بوائقه ". وذكره الهيثمي في "المجمع" 1/ 53، وقال: فيه علي بن مسعدة، وثقه جماعة، وضعّفه آخرون.
فعلم بذلك أنَّه لا صلاحَ للعالَم العلويِّ والسُّفليّ معًا حتى تكونَ حركاتُ أهلها كلُّها لله، وحركاتُ الجسدِ تابعةً لحركةِ القلب وإرادته، فإنَّ كانت حركتُه وإرادتُه لله وحدَه، فقد صَلَحَ وصَلَحَتْ حركاتُ الجسدِ كله، وإن كانت حركةُ القلب وارادته لغيرِ الله تعالى، فسدَ، وفسدت حركاتُ الجسد بحسب فساد حركة القلب.
وروى الليثُ عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] قال: لا تحبُّوا غيري.
وفي "صحيح الحاكم"
(1)
عن عائشة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الشِّركُ أخفى من دبيب الذرِّ على الصفا في اللَّيلة الظَّلماء، وأدناهُ أن تُحِبَّ على شيءٍ من الجور، وأن تُبغض على شيءٍ من العدل، وهل الدِّينُ إلا الحبّ والبغض؟ قال الله عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}
(2)
[آل عمران: 31]. فهذا يدلُّ على أن محبةَ ما يكرهه اللهَ، وبغضَ ما يُحبه متابعةٌ للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفيِّ، ويدلّ على ذلك قوله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل الله علامة الصدق في محبته اتباعَ رسولهِ، فدلَّ على أن المحبَة لا تتمّ بدون الطاعة والموافقة.
قال الحسن: قال أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنَّا نُحِبُّ ربنا حبًا شديدًا. فأحبَّ الله أن يجعل لحبه عَلَمًا، فأنزل الله هذه الآية:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . ومن هنا قال الحسن: اعلم أنك لن تُحِبَّ الله حتى تُحِبَّ طاعته.
(1)
2/ 291، وصححه على شرط الشَّيخين، وردَّه الذهبي بقوله: عبد الأعلى (أحد رواة الحديث) قال الدارقطني: ليس بثقة.
(2)
رواه ابن جرير في "تفسيره"(6848) من طريق أبي بكر الحنفي، عن عبَّاد بن منصور عن الحسن.
وسئل ذو النون: متى أُحِبُّ ربي؟ قال: إذا كان ما يُبغضه عندك أمرَّ من الصبر. وقال بشر بن السَّرِي: ليس من أعلام الحبِّ أن تُحبَّ ما يُبغِضُه حبيبك
(1)
وقال أبو يعقوب النهرجوري
(2)
: كلُّ من ادَّعى محبةَ الله عز وجل، ولم يُوافَق الله في أمره، فدعواه باطل. وقال رُويم: المحبة الموافقة في كلِّ الأحوال
(3)
، وقال يحيى بنُ معاذ: ليسر. بصادقٍ من ادَّعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، وعن بعض السلف قال: قرأتُ في بعض الكتب السالفة: من أحبَّ الله لم يكن عنده شيءٍ آثرَ من رضاه، ومن أحبَّ الدنيا لم يكن عنده شيءٍ آثر من هوى نفسه.
وفي " السنن " عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أعطى لله، ومنع لله، وأحبَّ لله، وأبغض لله، فقد استكمل الِإيمان"
(4)
ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلُّها لله فقد كَمُلَ إيمانُ العبد بذلك ظاهرًا وباطنًا، ويلزمُ من صلاح حركات القلب صلاحُ حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحًا ليس فيه إلا إرادة الل وارادة ما يريده لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فيما يُريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكَفَّتْ عما يكرهه، وعما يخشى أن يكونَ مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك.
قال الحسن: ما نظرتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمي حتى أنظر على طاعةٍ أو على معصية؟ فإنَّ كانت طاعةٌ تقدمت، وإن كانت معصية تأخَّرت.
(1)
الخير في "الحلية" 8/ 350.
(2)
اسمه إسحاق بن محمد من رجال "الحلية" 10/ 356.
(3)
ذكره في "الحلية" 10/ 311 في ترجمة رويم، وأنشده بإثره ..
ولو قيل لي: مُت مُتُّ سمعًا وطاعةً
…
وقلت لداعي الموت أهلًا ومرحبا
(4)
حديث حسن وقد تقدم تخريجه.
وقال محمد بن الفضل البَلخي
(1)
: ما خطوتُ منذ أربعين سنة خطوةً لغير الله عز وجل. وقيل لداود الطائي: لو تنحيتَ من الظلّ إلى الشمس، فقال: هذه خُطا لا أدري كيف تكتب.
فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبُهم، فلم يبق فيها إرادة لِغير الله عز وجل، صلحت جوارحُهم، فلم تتحرّك إلا لله عز وجل، وبما فيه رضاه، والله تعالى أعلم.
(1)
له ترجمة في "الحلية" 10/ 232 - 233، ونقل عنه قوله: ست خصال يعرف بها الجاهل: الغضب في غير شيءٍ، والكلام في غير نفع، والعِظة في غير موضعها، وإفشاء السر، والثقة بكل أحد، ولا يعرف صديقه من عدوه.
الحديث السابع
عنْ تَميمٍ الدَّاريّ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الدِّينُ النَّصيحَةُ ثلاثًا"، قُلْنا: لِمَنْ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: "للهِ ولِكتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأئمَّةِ المُسلِمِينَ وعامَّتِهم" رَواهُ مُسلمٌ
(1)
.
هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية سُهيل بن أبي صالح، عن عطاء بنِ يزيد الليثي، عن تميم الدَّاري، وقد روي عن سهيل وغيره، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخرَّجه الترمذي من هذا الوجه، فمن العلماء مَنْ صححه من الطريقين جميعًا، ومنهم من قال: إن الصحيح حديثُ تميم، والإسناد الآخر وهم.
وقد رُوي هذا الحديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابنِ عمر، وثوبان، وابنِ عباسٍ، وغيرهم
(2)
.
وقد ذكرنا في أوَّل الكتاب عن أبي داود أن هذا الحديث أحدُ الأحاديث التي يدور عليها الفقه.
(1)
رقم (55)، وصححه ابن حبان (4575)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
حديث ابن عمر رواه البزار (62) وقال الهيثمي 1/ 87: رجاله رجال الصحيح.
وحديث ثوبان رواه الطبراني في "الأوسط" وفي سنده أيوب بن سويد. قال الهيثمي: وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف لا يحتج به.
وحديث ابن عباس رواه أحمد 1/ 351، والبزار (61)، والطبراني (11198).
وقال الحافظ أبو نُعيم: هذا حديثٌ له شأن، ذكر محمدُ بنُ أسلم الطوسي أنَّه أحدُ أرباع الدين.
وخرَّج الطبرانيُّ من حديث حُذيفة بنِ اليمان عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ لا يَهْتَمُّ بأمرِ المُسلِمين، فليس منهم، ومَنْ لَمْ يُمْسِ لصْبِحْ ناصِحًا للهِ ولِرسوله ولِكتابه ولإمامِه، ولعامّة المسلمين فليس منهم"
(1)
.
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث أبي أمامة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"قال الله عز وجل: أحبُّ ما تعبَّدَني به عبدي النصحُ لي"
(2)
.
وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عمومًا، وفي بعضها: النصح لولاة أمورهم، وفي بعضها: نصح ولاة الأمور لرعاياهم.
فأمَّا الأوَّل - وهو النصحُ للمسلمين - عمومًا، ففي "الصحيحين" عن جرير بن عبد الله قال: بايعتُ النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزكاة، والنصح لكلِّ مسلم
(3)
.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"حقُّ المؤمن على المؤمن ستّ" فذكر منها: "وإذا استنصحك فانصَحْ له"
(4)
. ورُوي هذا الحديث من وجوه أخر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وفي "المسند" عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا
(1)
رواه الطبراني في "الصغير"(907)" الأوسط " كما في " المجمع " 1/ 87، وفي سنده عبد الله بن أبي جعفر الرازي وفيه ضعف، وكذلك أبو.
(2)
رواه أحمد 5/ 254 وفي سنده علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف.
(3)
البخاري (57) و (524) و (1401) و (2157) و (2715) ومسلم (56)، وصححه ابن حبان (4545).
(4)
رواه مسلم (2162)، وصححه ابن حبان (242).
استَنْصَحَ أحَدُكُم أخاه، فليَنْصَح له"
(1)
.
وأما الثاني: وهو النصحُ لولاة الأمور، ونصحهم لرعاياهم، ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يرضى لكم ثلاثًا: يَرْضَى لكم أن تعبُدُوه ولا تُشرِكُوا به شيئًا، وأن تعتصِمُوا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحُوا مَنْ وَلَّاه الله أمركم"
(2)
.
وفي "المسند" وغيره عن جُبير بنِ مطعم أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بالخَيْفِ مِنْ مِنى: "ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهنّ قلبُ امرئ مسلم: إخلاصُ العمل لكه، ومناصحةُ ولاةِ الأمر، ولزومُ جماعة المسلمين"
(3)
. وقد روى هذه الخطبة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم جماعةٌ منهم أبو سعيد الخدري.
وقد رُوي حديثُ أبي سعيد بلفظ آخر خرَّجه الدَّارقطني في "الأفراد" بإسناد جيد، ولفظه أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهن قلبُ امرئٍ مسلم:
(1)
صحيح لغيره رواه أحمد 3/ 418 و 4/ 259، ولفظه:"دعوا الناس، فليصب بعضهم من بعض، فإذا استنصح رجل أخاه فلينصح له". وفيه عطاء السائب، وقد اختلط، وحكيم بن أبي يزيد لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير عطاء.
قلت: وسند الرواية الثانية: عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه، عمن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن يشهد له حديث أبي هريرة المتقدم وحديث جابر عند مسلم (1522)، والبيهقي 5/ 347.
(2)
رواه مسلم (1715)، وصححه ابن حبان (3379).
(3)
رواه أحمد 4/ 80 و 82، والدارمي 1/ 74. وسنده قوي، وله شاهد من حديث زيد بن ثابت. صححه ابن حبان (67)، وانظر تمام تخريجه فيه.
ومعنى "لا يغل": لا يخون، أي: إن هذه الخلال الثلاث تُستَصلح بها القلوب،
فمن تمسك بها، طهر قلبه من الخيانة والدَّغَل والشر.
النصيحةُ لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين"
(1)
.
وفي "الصحيحين" عن معقل بن يسار عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً ثُم لم يُحِطْها بنصيحةٍ إلا لم يَدْخُلِ الجنة".
وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السلام أنهم نصحوا لأممهم كما أخبر بذلك عن نوحٍ، وعن صالح، وقال:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] يعني: أن من تخلف عن الجهاد لِعذر، فلا حرج عليه بشرط أن يكونَ ناصحًا لله ورسوله في تخلُّفِهِ، فإن المنافقين كانوا يُظهرون الأعذارَ كاذبين، ويتخلَّفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله.
وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الدينَ النصيحةُ، فهذا يدلى على أن النصيحةَ تَشْمَلُ خصالَ الإسلام والإيمانِ والإحسانِ التي ذكرت في حديث جبريل، وسمَّى ذلك كُله دينًا، فإنَّ النصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهِها، وهو مَقام الإحسان، فلا يكملُ النُّصحُ لله بدون ذلك، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرّب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه وترك المحرَّمات والمكروهات على هذا الوجه أيضًا.
وفي مراسيل الحسن عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أرأيتُم لو كان لأحدكم عبدانِ، فكان أحدهما يُطِيعُه إذا أمره، ويُؤدي إليه إذا ائتمنه، وينصح له إذا غابَ عنه، وكان الآخر يَعصيه إذا أمره، ويخونُه إذا ائتمنه، ويغِشُّه إذا غاب عنه كانا سواء؟ " قالوا: لا، قال:"فكذاكم أنتم عندَ الله عز وجل" خرَّجه ابنُ أبي الدنيا.
(1)
رواه البزار (141) من حديث أبي سعيد بلفظ: "ثلاث لا يَغِلُّ عليهن قلب امرئٍ مؤمن: إخلاص العمل، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعاءهم يحيط مَن وراءهم ".
وخرج الِإمام أحمد معناه من حديث أبي الأحوص عن أبيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقال الفضيل بنُ عياض: الحبُّ أفضلُ من الخوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يُحبك، والآخر يخافك، فالذي يُحبّك منهما ينصحُك شاهدًا كنت أو غائبًا لِحبه إيَّاك، والذي يخافك عسى أن ينصحَك إذا شَهِدْتَ لما يخاف ويغشك إذا غبتَ ولا ينصحُك.
قال عبدُ العزيز بن رفيع: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: ما الخالصُ من العمل؟ قال: ما لا تُحِبُّ أن يَحْمَدَك الناسُ عليه، قالوا: فما النصحُ لله؟ قال: أن تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس، وإن عَرَض لكَ أمران: أحدهما لله، والأخرُ للدنيا، بدأت بحقِّ الله تعالى.
قال الخطابيُّ: النصيحةُ كلمةٌ يُعبر بها عن جملة هي إرادةُ الخيرِ للمنصوح له، قال: وأصلُ النصح في اللغة الخُلوص، يقال: نصحتُ العسل: إذا خلصتَه من الشمع.
فمعنى النصيحة لله سبحانه: صحةُ الاعتقادِ في وحدانيته، وإخلاصُ النية
(1)
حديث صحيح، هو في "المسند" 4/ 137، ورواه الطبراني في "الكبير" 19/ (622) من طريق أحمد، والحميدي (883) عن سفيان بن عيينة، حدَّثنا أبو الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص عوفِ بن مالك الجشمي، عن أبيه، قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إلى ما تدعو؟ قال: "إلى الله وإلى الرحم "، قلت: يأتيني الرجل من بني عمي، فأحلفُ أن لا أعطيَه ثم لا أعطيه، قال:"فكفّر عن يمينك، وائت الذي هو خير، أرأيت لو كان لك عبدانِ، أحدهما يُطيعك ولا يخونك ولا يكذبك، والأخر يخونك ويكذِبك، هل هما سواء؟ الذي يطيعك ولا يكذبك أحبَّ اليك أم الذي يخونك ويكذبك؟ قال: قلت: لا، بل الذي لا يخونني ولا يكذبني ويصدُقني الحديث أحبُّ إلي، قال: "كذاكم أنتم عند ربكم عز وجل ".
في عبادته، والنصيحة لكتابه: الِإيمانُ به، والعمل بما فيه، والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوّته، وبذل الطاعة له فيما أَمَرَ به، ونهى عنه، والنصيحةُ لعامة المسلمين: إرشادُهم إلى مصالحهم. انتهى.
وقد حكى الِإمامُ أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتاب "تعظيم قدر الصلاة"
(1)
عن بعض أهلِ العلم أنَّه فسر هذا الحديث بما لا مزيدَ على حسنه، ونحن نحكيه هاهنا بلفظه. قال محمد بن نصر: قال بعض أهل العلم: جماعُ تفسير النصيحة هو عنايةُ القلب للمنصوح له مَنْ كان، وهي على وجهين: أحدهما فرض، والأخر نافلة، فالنصيحةُ المفترضة لله: هي شدة العناية من الناصح باتباعِ محبة الله في أداء ما افترض، ومجانبة ما حرَّم.
وأما النصيحة التي هي نافلة، فهي إيثار مَحبته على محبة نفسه، وذلك أن يَعْرِض أمرانِ، أحدهما لنفسه، والآخرُ لربه، فيبدأ بما كان لربه، ويؤخر ما كان لنفسه، فهذه جملة تفسير النصيحة لله، الفرض منه والنافلة، ولذلك تفسير، وسنذكر بعضَه لِيفهم بالتفسير من لا يفهم الجملة.
فالفرضُ منها مجانبةُ نهيه، وإقامةُ فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقًا له، فإنَّ عَجَزَ عن الِإقامة بفرضه لِآفة حَلَّتْ به من مرض، أو حبس، أو غير ذلك، عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلةُ المانعةُ له، قال الله عز وجل:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، فسماهم محسنين لِنصيحتهم لله بقلوبهم لمَّا مُنِعُوا من الجَهاد بأنفسهم.
وقد ترفع الأعمالُ كُلُّها عن العبد في بعض الحالات، ولا يُرفع عنه النصحُ للهِ، فلو كان من المرض بحالٍ لا يُمكنه عملٌ بشيء من جوارحه بلسانٍ ولا
(1)
2/ 691 - 694.
غيره، غير أن عقلَه ثابت، لم يسقط عنه النصحُ لله بقلبه وهو أن يندمَ على ذنوبه، وينويَ إن صحَّ أن يقومَ بما افترض الله عليه، ويجتنبَ ما نهاه عنه، وإلا كان غيرَ ناصحٍ لله بقلبه.
وكذلك النصحُ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أوجبه على الناسِ عن أمرِ ربه، ومن النصح الواجب لله أن لا يرضى بمعصية العاصي، ويُحِبَّ طاعةَ من أطاعَ الله ورسولَه.
وأما النصيحةُ التي هي نافلةٌ لا فرض، فبذل المجهود بإيثار الله على كُلِّ محبوب بالقلب وسائرِ الجوارح حتى لا يكونَ في الناصح فضل عن غيره؛ لأن الناصحَ إذا اجتهد، لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكُلِّ ما كان في القيام به سرورُه ومحبتُه، فكذلك الناصحُ لربه، ومن تنفَّل لله بدون الاجتهاد، فهو ناصح على قدر عمله، غير مستحق للنصح بكماله.
وأما النصيحة لكتاب الله، فشدةُ حبه وتعظيمُ قدره، إذ هو كلامُ الخالق، وشدةُ الرغبة في فهمه، وشدةُ العناية لتدبره والوقوف عند تلاوته لِطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعدَ ما يفهمه، وكذلك الناصحُ من العباد يفهم وَصِيَّةَ من ينصحه، وإن ورد عليه كتابٌ منه، عُني بفهمه ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك الناصحُ لِكتاب ربه، يعنى بفهمه ليقوم لله بما أمر به كما يحب ويرضى، ثم يَنْشُرُ ما فهم في العباد ويُديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه، والتأدُّب بآدابه.
وأما النصيحة للرسولِ صلى الله عليه وسلم في حياته، فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته، وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته. وأما بعد وفاته: فالعناية بطلب سنته، والبحث عن أخلاقه وآدابه، وتعظيم أمره، ولزوم القيام به، وشدّة الغضب، والإعراض عمّن تديّن بخلاف سنته، والغضب على من ضيعها لأثرة
دنيا، لان كان متدينًا بها، وحبّ مَنْ كان منه بسبيلٍ من قرابة، أو صِهرٍ، أو هِجرةٍ أو نُصرةٍ، أو صحبة ساعة من ليلٍ أو نهارٍ على الِإسلام والتشبه به في زبِّه ولباسه.
وأما النصيحةُ لأئمة المسلمين، فحبُّ صلاحِهم ورشدهِم وعدلهم، وحبُّ اجتماع الأمة عليهم، وكراهةُ افتراقِ الأمة عليهم، والتدينُ بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغضُ لمن رأى الخروجَ عليهم، وحبُّ إعزازهم في طاعة الله عز وجل.
وأما النصيحةُ للمسلمين، فأن يُحِبَّ لهم ما يُحِبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويُشْفِقَ عليهم، ويرحمَ صغيرهم، ويُوَقِّرَ كبيرَهم، ويَحْزَنَ لحزنهم، ويفرحَ لفرحهم، وإن ضرَّه ذلك في دنياه كرخص أسعارهم، وإن كان في ذلك فواتُ ربح ما يبيعُ من تجارته، وكذلك جميعُ ما يضرُّهم عامة، ويحب صلاحَهم وإلفتَهم ودوامَ النعم عليهم، ونصرَهم على عدوهم، ودفعَ كل أذى ومكروه عنهم.
وقال أبو عمرو بن الصلاح
(1)
: النصيحة كلمةٌ جامعة تتضمَّنُ قيامَ الناصح للمنصوح له بوجوهِ الخير إرادةً وفعلًا.
فالنصيحةُ لله تعالى: توحيدُه ووصفُه بصفاتِ الكمال والجلال، وتنزيهُه عما يُضادُّها ويخالِفُها، وتجنبُ معاصيه، والقيامُ بطاعاته ومحابه بوصفِ الِإخلاصِ، والحبُّ فيه والبغض فيه، وجهادُ مَنْ كفر به تعالى وما ضاهى ذلك، والدعاءُ إلى ذلك، والحثُّ عليه.
والنصيحةُ لكتابه: الِإيمانُ به وتعظيمُه وتنزيهُه، وتِلاوتُه حَقَّ تلاوته،
(1)
ص 223 - 224 في كتابه "صيانة صحيح مسلم من الِإخلال والغلط، وحمايته من الإسقاط والسَّقط ".
والوقوفُ مع أوامره ونواهيه، وتفهُّم علومه وأمثاله، وتدبرُ آياته، والدعاءُ إليه، وذبُّ تحريف الغالين وطعنِ الملحدين عنه.
والنصيحةُ لِرسوله قريب من ذلك: الإيمان به وبما جاء به وتوقيرُه وتبجيلهُ، والتمسك بطاعته، وإحياءُ سنته واستثارة علومها ونشرُها ومعاداةُ من عاداه وعاداها، وموالاةُ من والاه ووالاها، والتخلقُ بأخلاقه، والتأدبُ بآدابه ومحبة آله وصحابته ونحو ذلك.
والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتُهم على الحق، وطاعتُهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك.
والنصيحةُ لعامة المسلمين: إرشادُهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم، وسدّ خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذبّ عنهم، ومجانبة الغش والحسد لهم، وأن يحبّ لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، وما شابه ذلك. انتهى ما ذكره.
ومن أنواع نصحهم بدفع الأذى والمكروه عنهم إيثارُ فقيرِهِم وتعليمُ جاهلهم، وردُّ من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردِّهم إلى الحق، والرفقُ بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محبة لِإزالة فسادهم ولو بحصول ضررٍ له في دنياه، كما قال بعضُ السلف: وددتُ أن هذا الخلق أطاعوا الله وإن لحمي قُرِضَ بالمقاريض، وكان عمرُ بن عبد العزيز يقول: يا ليتنِي عملتُ فيكم بكتابِ الله وعملتُم به، فكلما عملتُ فيكم بسنة، وقع مني عضوٌ حتى يكونَ آخرَ شيءٍ منها خروج نفسي.
ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله - وهو مما يختص به العلماء - ردُّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيانُ دلالتهما على ما يُخالف الأهواء كلها،
وكذلك ردُّ الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيانُ دلالة الكتاب والسنة على ردَّها، ومن ذلك بيان ما صحَّ من حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما لم يصح منه بتبين حالِ رواته ومَنْ تُقْبَلُ رواياته منهم ومن لا تُقبل، وبيان غلط مَنْ غلط من ثقاتهم الذين تقبل روايتهم.
ومن أعظمِ أنواع النصح أن يَنْصَحَ لمن استشاره في أمره، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا استَنْصَحَ أحدُكُم أخاه، فليَنْصَحْ له"
(1)
وفي بعضِ الأحاديث: "إن من حقِّ المسلم على المسلم أن ينصحَ له إذا غابَ" ومعنى ذلك: أنَّه إذا ذكر في غيبه بالسوء أن ينصره، ويرد عنه، وإذا رأى من يريد أذاه في غيبه، كفه عن ذلك، فإنَّ النصح في الغيب يدلُّ على صدق النصح، فإنَّه قد يظهر النصحَ في حضوره تملقًا، ويغشه في غيبه.
وقال الحسن: إنَّك لن تَبْلُغ حقَّ نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما تَعْجِزُ عنه. قال الحسن: وقال بعضُ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمنَّ لكم بالله إن أحبَّ عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده ويُحببون عباد الله إلى الله، ويسعون في الأرض بالنصيحة.
وقال فرقد السَّبَخِيُّ
(2)
، قرأتُ في بعض الكتب: المحبُّ لله عز وجل أميرٌ مُؤَمَّرٌ على الأمراء، زمرتُه أوَّلُ الزمر يومَ القيامة، ومجلسُه أقربُ المجالس فيما هناك والمحبةُ منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسام المحبون من طول اجتهادهم
(1)
صحيح، وقد تقدم قريبًا.
(2)
هو فرقد بن يعقوب السبخي أبو يعقوب البصري من سبخة البصرة، وقيل: من سبخة الكوفة، والسبخة: هي التراب الذي فيه ملوحة لا ينبت فيه النبات. قال ابن عدي: كان يُعَد من صالحي أهل البصرة، وليس هو كثير الحديث، وقال ابن سعد: مات بالطاعون سنة إحدى وثلاثين ومئة، وكان ضعيفًا منكر الحديث.
قلت: وهو من رجال "التهذيب" روى له الترمذي وابن ماجه.
لله عز وجل، يحبُّونه ويُحِبُّونَ ذكره، ويُحبِّبونَه إلى خلقه، يمشون بَيْنَ عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يومَ تبدو الفضائح، أولئك أولياءُ الله وأحبَّاؤه وأهلُ صفوته، أولئك الذين لا راحةَ لهم دونَ لقائه. وقال ابنُ عُلَيَّةَ في قول أبي بكر المزني: ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاةٍ، ولكن بشيء كان في قلبه، قال: الذي كان في قلبه الحبُّ لله عزّوجل، والنصيحة في خلقه.
وقال الفضيلُ بن عياض: ما أدركَ عندنا مَنْ أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاءِ الأنفس، وسلامةِ الصدور، والنصح للأمة.
وسئل ابنُ المباركَ: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: النصحُ لله.
وقال معمر: كان يقال: أنصحُ الناسِ لك منْ خافَ الله فيك.
وكان السلفُ أذا أرادوا نصيحةَ أحدِ، وعظوه سرًا حتى قال بعضهم: منْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه.
وقال الفضيل: المؤمن يَسْتُرُ ويَنْصَحُ، والفاجرُ يهتك ويُعيِّرُ.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كان مَنْ كان قبلكم إذا رأى الرجلُ من أخيه شيئًا يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره.
وسئل ابنُ عباسٍ رضي إله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف، ونهيه عن المنكر، فقال: إن كنت فاعلًا ولا بدَّ، ففيما بينك وبينه.
وقال الإِمام أحمد رحمه الله: ليس على المسلم نصحُ الذمي، وعليه نصحُ المسلم. وقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"والنصح لكل مسلم، وأن ينصح لجماعةِ المسلمين وعامتهم ".
الحديث الثامن
عَنْ ابنِ عُمَرَ رضِيَ الله تَعالَى عَنْهُما أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا الله، وأنّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، ويُقِيموا الصَّلاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكاةَ، فإذَا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُم وأموالَهُم، إلَّا بحَقِّ الإسلامِ، وحِسَابُهُم على اللَّه تَعالَى" رَواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ
(1)
.
هذا الحديث خرّجاه في "الصحيحين" من رواية واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمر.
وقوله: "إلا بحق الِإسلام" هذه اللفظة تفرَّد بها البخاري دون مسلم.
وقد روي معنى هذا الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ففي "صحيح البخاري"، عن أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أُمِرتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتى يَشْهَدُوا أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ مُحمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، فإذَا شَهِدُوا أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وصَلَّوا صَلاتَنا، واستَقْبَلُوا قِبلَتَنا، وأكلُوا ذَبيحَتنا، فقَدْ حَرُمَتْ علينا دِماؤُهم وأموالُهم إلَّا بحقِّها"
(2)
.
وخرَّجَ الإمامُ أحمد من حديث معاذ بن جبل، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّما أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يُقيموا الصلاة، ويُؤْتُوا الزكاة، ويَشهَدُوا أن لا إله إلَّا
(1)
رواه البخاري (25)، ومسلم (22) وصححه ابن حبان (175)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه البخاري (391) و (392) و (393)، وصححه ابن حبان (5895)، وانظر تمام تخريجه فيه.
الله وحده لا شريكَ له، وأن محمدًا عبده ورسوله، فإذا فَعَلُوا ذلك، فقد اعتصَمُوا وعَصمُوا دماءَهم وأموالهم إلَّا بحقِّها، وحِسابُهُم على اللهِ عز وجل"
(1)
.
وخرَّجه ابن ماجه مختصرًا.
وخرًج نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا، ولكن المشهور من رواية أبي هريرة ليس فيه ذكرُ: إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة ففي "الصحيحين"
(2)
عن أبي هُريرة أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أُمِرتُ أن أقاتِلَ الناس حتَّى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عَصَمَ منِّي مالَه ونَفسَهُ إلا بحقِّه، وحِسَابُه على اللهِ عز وجل" وفي رواية لمسلم: "حتى يَشهَدوا أن لا إله إلا الله، ويُؤْمِنوا بي وبما جئتُ به ".
وخرَّجه مسلم أيضًا من حديث جابر رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلفظ حديث أبي هريرة الأوَّل وزاد في آخره: ثم قرأ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}
(3)
[الغاشية: 21].
(1)
حسر لغيره، رواه أحمد 5/ 246 من طريق أبي النّضر، وابن ماجه (72) من طريق محمد بن يوسف، وابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة"(7) من طريق روح بن عبادة، والدارقطني 1/ 232 - 233 من طريق منصور بن أبي مزاحم، أربَعتُهم، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهربن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنمٍ، عن معاذ.
وحسَّن البوصيري إسناده في "مصباح الزجاجة" ورقة (6).
(2)
رواه مسلم (21)، وصححه ابن حبان (174).
ورواه البخاري (1399) و (1456)، وصححه ابن حبان (216).
ورواه البخاري (6924) و (7284) و (7285)، ومسلم (20)، وصححه ابن حبان (217).
ورواه مسلم (21)، وصححه ابن حبان (218).
(3)
رواه مسلم بإثر الحديث (21)، وهو في "المسند" 3/ 300.
وخرَّج أيضًا من حديث أبي مالك الأشجعي، عن أبيه قال: سمعتُ. رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَنْ قالَ: لا إلهْ إِلَّا الله وكفَرَ بما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، حُرِّم مالُه ودَمُهُ وحسابه على اللهِ عز وجل"
(1)
.
وقد رُوي عن سفيان بن عُيينة أنَّه قال: كان هذا في أوَّل الإسلام قَبْلَ فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة، وهذا ضعيف جدًا، وفي صحته عن سفيان نظَر، فإن رواة هذه الأحاديث أنما صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وبعضُهُم تأخّر إسلامُه.
ثم قوله: "عَصَمُوا مني دماءَهُم وأموالَهُم" يدلُّ على أنَّه كان عند هذا القول مأمورًا بالقتال، وبقتل من أبى الإسلام، وهذا كُلُّه بعدَ هجرته إلى المدينة، ومن المعلوم بالضرورة أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل مِنْ كُلِّ من جاءه يريدُ الدخولَ في الإسلامِ الشهادتين فقط، ويَعْصِمُ دَمَه بذلك، ويجعله مسلمًا، وقد أنكر على أسامة بن زيد قتلَه لمن قال: لا إله إلا الله لما رفع عليه السيفَ، واشتدَّ نكيرُه عليه.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشترطُ على مَنْ جاءه يريدُ الِإسلامَ أن يلتزمَ الصلاة والزكاة، بل قد روي أنَّه قبل من قوم الإسلام، واشترطوا أن لا يزكوا، ففي "مسند الِإمام أحمد" عن جابر قال: اشترطت ثقيفٌ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقةَ عليها ولا جهادَ، وأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"سَيَصَّدَّقُون ويُجاهدون"
(2)
.
وفيه أيضًا عن نصر بنِ عاصم الليثي عن رجل منهم أنَّه أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسلم على أن لا يُصلي إلا صلاتين، فقبل منه
(3)
.
(1)
رواه مسلم (23) وأحمد 3/ 472.
(2)
رواه أحمد 3/ 341، وفي سنده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف.
(3)
رواه أحمد 3/ 402، والطيالسي (1360)، والنسائي 2/ 205، والطحاوي في "شرح =
وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث، وقال: يصحُّ الإسلامُ على الشرط الفاسد، ثم يُلزم بشرائع الإسلام كُلها، واستدلَّ أيضًا بأن حكيم بنَ حِزام قال. بايعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على أن لا أَخِرَّ إلا قائمًا
(1)
. قال أحمد: معناه أن يسجد من غير ركوع
(2)
.
وخرَّج محمد بنُ نصر المروزيُّ بإسناد ضعيف جدًا عن أنس قال: لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقبل مَنْ أجابه إلى الإسلام إلا بإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكانتا فريضتين على مَنْ أقرَّ بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وبالإسلام، وذلك قولُ الله عز وجل:{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
(3)
[المجادلة: 13] وهذا لا يثبت، وعلى تقدير ثبوته، فالمرادُ منه أنَّه لم يكن يُقِرُّ أحدًا دخل في الإسلام
= مشكل الآثار" رقم (204) بتحقيقنا، وإسناده صحيح.
(1)
رواه أحمد 3/ 25 و 363، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(2)
وهذا أحد تأويلات ثلاثة ذكرها الطحاوي رحمه الله في "شرح مشكل الآثار" 1/ 195 - 196:
والتأويل الثاني: أن الخرور هنا أريد به الخرور بالموت من حال القيام، ومن حال القعود إلى الأرض التي يَخِرُّ إليها من القيام، ومن القعود، فأخبر أن ما بايع عليه رسول الله عليه السلام لا يموتُ إلَّا وهو قائم عليه، وهو الإسلام، يريد بقيامه ذلك القيام الذي هو العَزْمُ، كما قال الله تعالى في أهل الكتاب:{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ} [آل عمران: 75]، أي بالمطالبة لديه، وطلب أخذه منه.
والتأويل الثالث: أن مبايعته صلى الله عليه وسلم كانت على الموت، وهي أشرفُ البيعات، وهو الذي لا يجوز أن يُبايَع عليه غير رسول الله عليه السلام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معصومًا كبر موهومٍ منه زوالُ الحال التي ثبتت بيعته على مبايعته، وغيره ليس كذلك.
(3)
رواه ابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" 1/ 95، وفي سنده عروة بن مروان العرقي الرقي. قال الدارقطني: كان أمَّيًا ليس بالقوي، وأبو العوام - واسمه عمران بن داور القطان - صاحب أوهام.
على ترك الصَّلاةِ والزكاة وهذا حقٌّ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم أمر معاذًا لما بعثه إلى اليمن أن يدعُوَهُم أوَّلًا إلى الشهادتين، وقال:"إنْ هُمْ أطاعوا لذلك، فأعلمهم بالصلاة ثم بالزكاة" ومرادُه أن من صار مسلمًا بدخوله في الإسلام أمر بعد ذلك بإقام الصلاة، ثم بإيتاء الزكاة، وكان من سأله عن الإِسلام يذكر له مع الشهادتين بقية أركان الإسلام، كما قال لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإسلام، وكما قال للأعرابى الذي جاءه ثائر الرأس يسأل عن الإسلام.
وبهذا الذي قرَّرناه يظهر الجمع بين ألفاظ أحاديث هذا الباب، ويتبين أن كُلَّها حقٌّ، فإنَّ كلمتي الشهادتين بمجردهما تَعْصِمُ من أتى بهما، ويصير بذلك مسلمًا، فإذا دخل في الإِسلام، فإنَّ أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وقام بشرائع الإسلام، فله ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وإن أخلَّ بشيء من هذه الأركان، فإنَّ كانوا جماعةً لهم مَنَعةٌ قُوِتلوا.
وقد ظنّ بعضُهم أن معنى الحديثِ أن الكافرَ يُقاتل حتى يأتي بالشهادتين، ويقيمَ الصلاة، ويؤتيَ الزكاة، وجعلوا ذلك حجةً على خطاب الكفار بالفروع، وفي هذا نظر، وسيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار تَدُلُّ على خلاف هذا، وفي صحيح مسلم عزَّ، أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا عليًا يومَ خيبر، فأعطاه الراية وقال:"امش ولا تَلتَفِتْ حتَّى يفتَحَ الله عليكَ" فسار عليٌّ شيئًا، ثم وقف، فصرخ: يا رسولَ الله على ماذا أُقاتِلُ الناس؟ فقال: "قاتِلهُم على أن يَشهَدوا أن لا إله إلَّا الله، وأن محمَّدًا رسولُ اللهِ، فإذا فعَلُوا ذلك، فقد عَصَموا منكَ دِماءَهُم وأموالَهم إلَّا بحقِّها، وحِسابُهُم على الله عز وجل"
(1)
فجعل مجرَّد الإِجابة إلى الشهادتين عاصمة للنفوس والأموالِ إلا بحقها، ومِنْ حقها الامتناعُ من الصلاة والزكاة بعدَ الدخول في الإِسلام كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم.
(1)
رواه مسلم (2406).
ومما يدلُّ على قتال الجماعة الممتنعين من أقام الصلاة، وإيتاء الزكاة من القرآن قولُه تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وقولُه تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] وقولُه تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] مع قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قومًا لم يُغِرْ عليهم حتى يُصبِحَ فإنْ سمع أذانًا وإلَّا أغارَ عليهم
(1)
. مع احتمال أن يكونوا قد دخلُوا في الإسلام. وكان يُوصي سراياه: "إن سمعتُم مؤذنًا أو رأيتم مسجدًا، فلا تقتلوا أحدًا"
(2)
.
وقد بعث عُيينة بنَ حِصنٍ
(3)
إلى قوم من بني العنبر، فأغار عليهم ولم يسمع أذانًا، ثم ادَّعوا أنهم قد أسلموا قبل ذلك.
وبعث صلى الله عليه وسلم إلى أهل عُمان كتابًا فيه: "مِنْ محمد النبيِّ إلى أهل عُمان، سلامٌ أما بعدُ: فأقِرُّوا بشهادةِ أن لا إله إلَّا الله، وأنِّي رسولُ الله، وأدُّوا الزكاة، وخُطوا المساجد، وإلا غزَوْتُكم" خرَّجه البزار والطبراني وغيرهما
(4)
.
(1)
رواه أحمد 3/ 159، والبخاري (610).
(2)
رواه أحمد 4/ 226، وأبو داود (2635) والترمذي (1549)، وفي سنده ابن عصام المزني. قال ابن المديني: لا يعرف، ومع ذلك فقد قال الترمذي: حسن غريب.
(3)
هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، قال ابن السكن: له صحبة، وكان من المؤلفة، ولم تصح له رواية، أسلم قبل الفتح، وشهدها وشهد حنينًا والطائف، وبعثه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبني تميم، فسَبى بعض بني العنبر، ثم كان ممن ارتد في عهد أبي بكر، ومال إلى طلحة، فبايعه، ثم عاد إلى الإسلام، وكان فيه جفاء سكان البوادي. "الإصابة" 3/ 55 - 56.
(4)
رواه البزار (880) والطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين" ورقة 3/ 1 من=
فهذا كله يدلُّ على أنَّه كان يعتبر حالَ الداخلين في الإسلام، فإنَّ أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة وإلا لم يمتنع عن قِتالهم، وفي هذا وقع تناظرُ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لمَّا توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق بعده، وكَفَرَ مَنْ كَفَر مِنَ العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تُقاتلُ الناسَ وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرتُ أنْ أُقاتَلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلَّا الله، فمن قال: لا إله إلَّا الله، فقد عَصَم منِّي ماله ونفسَه إلا بحقه وحسابُه على الله عز وجل" فقال أبو بكر: والله لأقاتلَنَّ من فرَّق بين الصَّلاة والزكاة فإنَّ الزكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعه، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنَّه الحق
(1)
.
فأبو بكر رضي الله عنه أخذ قتالهم من قوله: "إلا بحقه" فدلّ على أن قتال من أتى بالشهادتين بحقه جائز، ومن حقه أداء حقِّ المالِ الواجب، وعمر رضي الله عنه ظنَّ أن مجرَّد الإتيان بالشهادتين يَعصِمُ الدمَ في الدنيا تمسكًا بعموم أوَّل الحديث كما ظنّ طائفة من الناس أن من أتى بالشهادتين امتنع من دخول النار في الآخرة تمسكًا بعموم ألفاظ وردت، وليس الأمر على ذلك، ثم إن عمر رجع إلى موافقة أبي بكر رضي الله عنه.
وقد خرّج النَّسَائِي
(2)
قصةَ تناظر أبي بكر وعمر بزيادة: وهي أن أبا بكر قال
= طريق موسى بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن زياد أبي حمزة الحبطي، حدثني أبو شداد - رجل من أهل دَمَا، قرية من قرى عمان - قال: جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قال الهيثمي في "المجمع" 3/ 64 بعد أن نسبه إلى البزار: وهو مرسل وفيه من لا يعرف.
وقال الطبراني: لا يروى عن أبي شداد إلا بهذا الإسناد، تفرد به موسى.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
5/ 14.
لعمر: إنما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشهدُوا أن لا إله إلَّا الله، وأنِّي رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" وخرَّجه ابنُ خزيمة في "صحيحه"
(1)
، ولكن هذه الرواية أخطأ فيها عمران القطان إسنادًا ومتنًا، قاله أئمة الحفاظ، منهم عليّ بن المديني وأبو زرعة وأبو حاتم والترمذي والنسائي، ولم يكن هذا الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ عند أبي بكر ولا عمر، وإنما قال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة حقُّ المال، وهذا أخذه - والله أعلمُ - من قوله في الحديث "إِلا بحقها". وفي رواية:"إلا بحقّ الإسلام" فجعل من حق الإسلام إِقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما أن من حقه أن لا يرتكب الحدود، وجعل كل ذلك مما استثنى بقوله:"إلا بحقها".
وقوله: لأقاتلنّ مَنْ فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة حق المال، يدلّ على أن من ترك الصلاة، فإنَّه يقاتل لأنها حقُّ البدن، فكذلك من ترك الزكاة التي هي حقُّ المال.
وفي هذا إشارة إِلى أن قتال تارك الصلاة أمر مجمع عليه؛ لأنَّه جعله أصلًا مقيسًا عليه، وليس هو مذكورًا في الحديث الذي احتج به عمر وإنما أخذ من قوله:"إلا بحقها" فكذلك الزكاة لأنها من حقها، وكلّ ذلك من حقوق الإسلام.
ويُستدلُّ أيضًا على القتال على ترك الصلاة بما في "صحيح مسلم" عن أمِّ سلمةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يُستَعْمَل عليكُم أُمراءُ، فتَعرِفون وتُنكِرون، فمن أنكرَ، فقد بَرِئ، ومن كَرِهَ فقد سَلِم، ولكن من رَضِي وتابَع" فقالوا: يا رسول الله ألا نُقاتِلُهم؟ قال: "لا ما صلَّوا"
(2)
.
(1)
رقم (2247).
(2)
رواه مسلم (1854) وأبو داود (4760).
وحكمُ من ترك سائر أركانِ الإِسلام أن يُقاتلوا عليها كما يقاتلون
(1)
على تركِ الصلاة والزكاة.
وروى ابنُ شهاب عن حنظلة بن علي بن الأسقع أن أبا بكر الصِّدِّيق بعث خالدَ بن الوليد، وأمره أن يقاتل الناسَ على خمس، فمن ترك واحدةً من الخمس، فقاتله عليها كما تُقاتل على الخمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصوم رمضان.
وقال سعيد بن جبير: قال عمرُ بن الخطاب: لو أن الناس تركوا الحجَّ لقاتلناهم عليه، كما نُقاتِلُهم على الصلاة والزكاة. فهذا الكلامُ في قتال الطائفة الممتنعة عن شيءٍ من هذه الواجبات.
وأما قتلُ الواحد الممتنع عنها، فاكثرُ العلماء على أنَّه يُقتَلُ الممتنع من الصلاة، وهو قولُ مالك والشافعي وأحمد وأبي عُبيد، وغيرهم، ويَدلُّ على ذلك ما في "الصحيحين"
(2)
عن أبي سعيد الخدريّ أن خالدَ بنَ الوليد استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قتل رجل، فقال:"لا، لعله أن يكونَ يُصلي" فقال خالد: وكم مِنْ مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنِّي لم أُومَر أنْ أُنَقِّبَ عن قلوبِ الناسِ ولا أشُقَّ بُطونَهُم ".
وفي "مسند الإمام أحمد" عن عُبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلًا من الأنصار حدَّثه أنَّه أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أليس يَشهَدُ أن لا إله إلا الله "؟ قال: بلى، ولا شهادة له، قال:"أليس يُصلي"؟ قال: بلى، ولا صلاةَ له، قال:"أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم "
(3)
.
(1)
في (أ) و (ب): " يقاتلوا " بحذف النون، والجادة إثباتها.
(2)
البخاري (4351)، ومسلم (1064)(144).
(3)
رواه أحمد 5/ 432 - 433، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وأما قتلُ الممتنع من أداءِ الزكاة، ففيه قولان لمن قال: يقتل الممتنع من فعل الصلاة:
أحدهما: يقتل أيضًا، وهو المشهورُ عن أحمد، ويستدلَ له بحديث ابن عمر هذا.
والثاني: لا يقتل، وهو قولُ مالك، والشافعي، وأحمد في رواية.
وأما الصوم فقال مالك وأحمد في رواية عنه: يُقتل بتركه، وقال الشافعي وأحمد في رواية: لا يقتلُ بذلك، ويستدل له بحديث ابن عمر وغيره مما في معناه، فإنَّه ليس في شيءٍ منها ذكرُ الصوم، ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب: الصوم لم يجئ فيه شيءٍ. قلتُ: قد روي عن ابن عباسٍ مرفوعًا وموقوفاً: إن من ترك الشهادتين أو الصلاة أو الصيام، فهو كافر حلال الدم بخلاف الزكاة والحجِّ. وقد سبق ذكرُه في شرح حديث "بني الإِسلام على خمس ".
وأما الحج، فعن أحمد في القتل بتركه روايتان، وحمل بعضُ أصحابنا روايةَ قتله على من أخره عازمًا على تركه بالكلية، أو أخره وغلب على ظنه الموت في عامه، فأمَّا إن أخره معتقداً أنَّه على التراخي كما يقولُهُ كثير من العلماء، فلا قَتلَ بذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا بحقِّها" وفي رواية: " إلَّا بحقِّ الإسلام " قد سبق أن أبا بكر أدخل في هذا الحقِّ فعلَ الصلاة والزكاة، وأن من العلماء من أدخل فيه فعلَ الصيامِ والحج أيضًا.
ومن حقها ارتكابُ ما يُبيح دمَ المسلم من المحرمات، وقد ورد تفسيرُ حقها بذلك، خرَّجه الطبراني وابنُ جرير الطبري من حديث أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أُمِرْتُ أن أُقَاتِلَ الناسَ حتَّى يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها، عَصَمُوا منِّي
دماءَهُم وأموالَهم إلا بحقِّها، وحِسَابُهم على الله عز وجل" قيل: وما حَقُّها؟ قال: "زِنى بعد إحصانٍ، وكفر بعد إيمانٍ، وقتلُ نفسٍ، فيُقتل بها"
(1)
ولعلَّ آخِرَه من قولِ أنس، وقد قيل: إن الصوابَ وقفُ الحديث كلِّه عليه.
ويشهدُ لهذا ما في "الصحيحين" عن ابن مسعود عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مُسلم يَشْهَدُ أن لا إله إلَّا الله، وأنِّي رسولُ الله إلَّا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيِّب الزَّاني، والنفسِ بالنفسِ، والتَّاركِ لدينه المفارقِ للجماعة" وسيأتي الكلَامُ على هذا الحديث مستوفى عندَ ذكره في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "وحِسَابُهُم على الله عز وجل" يعني أن الشهادتين مع إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة تَعصِمُ دمَ صاحبها وماله في الدنيا إلا أن يأتيَ ما يُبِيحُ دَمَهُ، وأما في الآخرة، فحسابُه على اللهِ عز وجل، فإنَّ كان صادقًا، أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذبًا، فإنَّه من جملة المنافقين في الدَّرْك الأسفل من النار. وقد تقدَّمَ أن في بعض الروايات في "صحيح مسلم ": ثم تلا {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}
(2)
[الغاشية: 21 - 26] والمعنى: إنَّما عليك تذكيرُهم بالله، ودعوتهم إليه، ولستَ مسلطًا على إدخالِ الإيمانِ في قلوبهم قهرًا ولا مكلفًا بذلك، ثم أخبر أن مرجعَ العبادِ كلهم إليه وحسابُهم عليه.
وفي "مسند البزار" عن عياض الأنصاري، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ لا إله إلا الله كلمة على اللهِ كريمةٌ، لها عندَ اللهِ مكان، وهي كلمةٌ من قالها صادقًا،
(1)
أورده الهيثمي في " المجمع " 1/ 25 - 26، وقال: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه عمرو بن هاشم البيروتي، والأكثر على توثيقه.
(2)
تقدم تخريجه قريبًا.
أدخله الله بها الجنةَ، ومن قالها كاذبًا حقنت مالَه ودَمَة، ولَقِيَ الله غدًا فحاسبه "
(1)
.
وقد استدلَّ بهذا من يرى قبولَ توبةِ الزنديقِ. وهو المنافق إذا أظهر العودَ إلى الإسلام، ولم ير قتله بمجرَّدِ ظهورِ نفاقه، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعامِلُ المنافقين، ويُجريهم على أحكام المسلمين في الظاهر مع علمه بنفاق بعضهم في الباطن، وهذا قولُ الشافعي وأحمد في رواية عنه، وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء، والله أعلم.
(1)
رواه البزار (4) عن عبد الوارث بن عبد الصمد، عن أبيه، عن عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الملك بن عمير هكذا، قال: عن عبد الرحمن القرشي، عن عياض الأنصاري رفعه ....
وقوله: عن عبد الملك بن عُميرٍ، قال العلَّامة حبيبُ الرحمن: كذا في الأصل، وفي "الإصابة" 3/ 51: عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الملك بن عبد الرحمن الأنصاري، عن عياض. وفيه أنَّه هو المحفوظ، قلت: فعبدُ الرحمن على هذا ليس مِنَ الرُّواة، فلتُراجع نُسخة أخرى.
الحديثُ التاسع
عَنْ أبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ما نَهَيتُكُمْ عَنْهُ، فاجْتَنِبوهُ، وما أمرتُكم به، فأتُوا منة ما استطعتم، فإنَّما أهلَكَ الَّذين من قَبلِكُم كثْرَةُ مسائِلِهم واختلافُهم على أنبيائِهِم ". رواهُ البخاريُّ ومُسلمٌ
(1)
.
هذا الحديثُ بهذا اللفظ خرَّجه مسلم وحْدَهُ من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هُريرة، وخرَّجاه من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"دَعُوني ما تركتُكم، إنَّما أهلَكَ مَنْ كَانَ قَبلَكُم سؤالهم واختلافُهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ، فاجتَنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعتم" وخرَّجه مسلم مِن طريقين آخرين عن أبي هريرة بمعناه.
وفي رواية له ذكرُ سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيُّها النَّاس قد فرضَ الله عليكم الحجَّ فحجُّوا" فقال رجل أكُلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت حتَّى قالها ثلاثًا، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لو قلتُ: نعم، لوجبت، ولما استطعتُم" ثمَّ قال: "ذَرُوني ما تَركْتكُم، فإنَّما أُهْلِكَ مَنْ كانَ قبلَكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم
(1)
رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337) ص 1831، وأحمد 2/ 258 و 428 و 517، والنسائي 5/ 110 - 111، وصححه ابن حبان (18) - (21)، وانظر تمام تخريجه فيه.
بشيءٍ، فأتوا منه ما استطعتُم، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ، فدعوه"
(1)
.
وخرًجه الدَّارقطني
(2)
من وجه آخر مختصرًا، وقال فيه: فنزل قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
وقد رُوِي مِن غير وجهٍ أن هذه الآية نزلت لمَّا سالوا النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الحجِّ، وقالوا: أفي كلِّ عام؟
وفي "الصحيحين" عن أنس قال: خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: من أبي؟ فقال: "فلان "، فنزلت هذه الآية {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}
(3)
.
وفيهما أيضًا عن قتادة، عن أنسٍ قال: سالوا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى أَحْفَوهُ في المسأَلة، فغضب، فصَعِدَ المنبر، فقال:"لا تسألوني اليومَ عن شيءٍ إلا بيَّنته"، فقام رجل كان إذا لاحى الرجالَ دُعِيَ إلى غير أبيه، فقال؟ يا رسول الله من أبي؟ قال:"أبوك حُذافة"، ثم أنشأ عمرُ، فقال: رضينا بالله ربًا، وبالِإسلام دينًا، وبمحمَّد رسولًا، نعوذ بالله من الفتن. وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}
(4)
.
وفي "صحيح البخاري"
(5)
عن ابن عباسٍ قال: كان قومٌ يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً، فيقولُ الرجلُ: من أبي؟، ويقول الرجلُ تَضِلُّ ناقته: أين ناقتي؟
(1)
رواه مسلم (1337)، وصححه ابن حبان (3704)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
في " السنن " 2/ 282، ورواه أيضًا الطبري في "جامع البيان"(12804)، وفيه إبراهيم الهجري، وهو ضعيف.
(3)
رواه البخاري (4621) ومسلم (2359).
(4)
رواه البخاري (6362) و (7089) و (7294)، ومسلم (2359)(137). ورواه أيضًا ابن جرير الطبري في "جامع البيان"(12795).
(5)
برقم (4622). ورواه أيضًا الطبري (12794).
فأنزل الله هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} .
وخَرَّج ابن جرير الطبري في "تفسيره" في حديث أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبانُ مُحمارًّا وجهه، حتَّى جلس على المنبرِ، فقام إليه رجل، فقال: أين أنا؟ فقال: "في النار"، فقام إليه آخر فقال: من أبي؟ قال: "أبوك حُذافة"، فقام عمر فقال: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وبالقرآن إمامًا، إنا يا رسول الله حديثو عهدٍ بجاهلية وشركٍ، والله أعلم مَن آباؤنا، قال: فسكن غضبُه، ونزلت هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
(1)
.
وروى أيضًا في طريق العَوْفي عن ابن عباس في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن في الناس، فقال:"يا قوم كُتِبَ عليكُم الحجُّ "، فقام رجل، فقال: يا رسول اللهِ، أفي كلِّ عامٍ؟ فأُغْضِبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، فقال:"والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم، لوجَبَت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذن لكفرتُم، فاتركُوني ما تركتُكم، فإذا أمرتكم بشيءٍ، فافعلوا، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فانتهوا عنه "، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ، نهاهم عن أن يسألوا مثلَ الذي سألت النَّصارى في المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظٍ ساءكم، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآنُ، فإنكم لا تسألون عن شيءٍ إلا وجدتُم تبيانه
(2)
.
فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السُّؤال عمَّا لا يُحتاج إليه مما يسوءُ
(1)
رواه الطبري (12802)، وفيه عبد العزيز بن أبان الأموي، وهو متهم بالكذب، لكنْ تابعه الفريابي عند الطحاوي في. "مشكل الآثار"، وجوّد إسناده الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 3/ 199!.
(2)
رواه الطبري (12808)، وإسناده مُسلسَلٌ بالضُّعفاء.
السائلَ جوابُه مثل سؤال السائل؛ هل هو في النار أو في الجنة، وهل أبوه من ينتسب إليه أو غيره، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء، كما كان يفعلُه كثيرُ من المنافقين وغيرهم.
وقريبٌ من ذلك سؤالُ الآيات واقتراحُها على وجه التعنتِ، كلما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب، وقد قال عكرمة وغيرُه: إن الآية نزلت في ذلك
ويقرب من ذلك السؤالُ عما أخفاه الله عن عباده، ولم يُطلعهم عليه، كالسؤال عن وقتِ الساعة، وعن الروح.
ودلَّت أيضًا على نص المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلالِ والحرام مما يُخشى أن يكون السؤال سببًا لنزول التشديد فيه، كالسُّؤال عَنِ الحجِّ: هل يجب كلَّ عامٍ أم لا؟ وفي "الصحيح" عن سعدٍ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إن أعظمَ المسلمين في المسلمين. جرمًا مَنْ سأل عن شيءٍ لم يحرَّم، فحُرِّمَ من أجل مسألته"
(1)
.
ولما سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن اللِّعان كره المسائل وعابها حتى ابتُلى السائلُ عنه قبلَ وقوعه بذلك في أهله
(2)
، وكان النبيِّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعةِ المال
(3)
.
ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُرخِّصُ في المسائل إلَّا للأعراب ونجحوهم من الوُفود القادمين عليه، يتألَّفهم بذلك، فأمَّا المهاجرون والأنصارَ المقيمون بالمدينة
(1)
رواه البخاري (7289) ومسلم (2358) وأبو داود (4610) وأحمد 1/ 176 و 179، وصححه ابن حبان (110).
(2)
انظر: مسند أحمد 2/ 19 و 42 و"صحيح مسلم"(1493) و "سنن الترمذي"(1202)، و "صحيح ابن حبان"(4286).
(3)
روى البخاري (1477)، ومسلم (593) ص 1341 عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الله كرِهَ لكم ثلاثًا: قِيلَ وقال، وإضاعةَ المالِ، وكثرةَ السُّؤال".
الذين رَسَخَ الإيمانُ في قلوبهم، فنُهُوا عَنِ المسألة، كما في "صحيح مسلم"
(1)
عن النَّوَّاس بنِ سمعان، قال: أقمتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني منَ الهجرة إلَّا المسألةُ، كان أحدُنا إذا هاجر لم يسأل النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضًا عن أنسٍ، قال: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ، فكان يُعجِبُنا أن يجيءَ الرجلُ مِنْ أهل البادية العاقل، فيسأله ونحنُ نَسْمَعُ
(2)
.
وفي "المسند" عن أبي أُمامة قال: كان الله قد أنزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] قال: فكنَّا قد كرهنا كثيرًا مِنْ مسألته، واتَّقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قال: فأتينا أعرابيًا، فرشوناه بُردًا، ثمَّ قلنا له: سلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وذكر حديثًا
(3)
وفي "مسند أبي يعلى" عن البراء بن عازب، قال: إنْ كان لتأتي عليَّ السنةُ أريد أن أسألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن شي، فَأتهيب منه، وإن كنَّا لنتمنَّى الأعرابَ
(4)
.
وفي "مسند البزار"
(5)
عن ابن عباسٍ قال: ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب
(1)
برقم (2553).
(2)
رواه مسلم (12)، والنَّسائي 4/ 121، وصححه ابن حبان (155)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3)
رواه أحمد 5/ 266، والطبراني في "الكبير"(7867)، وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف.
(4)
في "مسنده الكبير" رواية الأصبهانيين، وليس في المختصر المطبوع، وهو في "المطالب العالية" الورقة 139: قال أبو يعلى: حدَّثنا أبو كريب، حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان، عن أبي إسحاق عن البراء.
(5)
يغلب على ظني أن البزار لم يخرجه؛ فإن الهيثمي لم يوردْه في "زوائده" ولا في "مجمع الزوائد"، ورواه الدارمي 1/ 50 - 51 والطبراني في "الكبير"(12288)، وعندهما:"ثلاث عشرة مسألة"، ونسبه الهيثمي في "المجمع" 1/ 158 - 159، إلى الطبراني، وقال: فيه عطاء بن السائب، وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات.
محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألةً، كلُّها في القرآن:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]، وذكر الحديث.
وقد كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحيانًا يسألونه عن حكم حوادثَ قبلَ وقوعها، لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له: إنَّا لاقو العدوِّ غدًا، وليس معنا مُدَىً، أفنذبح بالقصَب؟
(1)
وسألوه عَن الأُمراءِ الَّذينَ أخبر عنهم بعدَه، وعن طاعتهم وقتالهم، وسألهَ حذيفة عن الفتَنِ، وما يصنع فيها
(2)
.
فهذا الحديث، وهو قولهُ صلى الله عليه وسلم:"ذَرُوني ما تركتُكم، فإنَّما هلك مَنْ كان قبلَكُم بكثرةِ سُؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" يدلُّ على كراهة المسائل وذمِّها، ولكن بعضَ الناس يزعمُ أنَّ ذلك كان مختصًا بزمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يُحرم، أو إيجاب ما يشقّ القيام به، وهذا قد أمن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
ولكن ليس هذا وحده هو سببَ كراهة المسائل، بل له سببٌ آخر، وهو الذي أشارَ إليه ابنُ عباسٍ في كلامه الذي ذكرنا بقوله: ولكنِ انتظرُوا، فإذا نزل القرآن، فإنكم لا تَسألونَ عن شيءٍ إلا وجدتم تبيانه. ومعنى هذا: أنَّ جميعَ ما يَحتاجُ إليه المسلمون في دينهم لا بدَّ أن يُبينه الله في كتابه العزيز، ويبلِّغ ذلك رسوله عنه، فلا حاجةَ بعدَ هذا لأحدٍ في السؤال، فإنَّ الله تعالى أعلمُ بمصالح عباده منهم، فما كان فيه هدايتُهم ونفعُهُم، فإنَّ الله لا بدَّ أن يبيِّنَه لهمُ ابتداءً من غيرِ سؤال، كما قال:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. وحينئذٍ، فلا حاجة إلى السُّؤال عن شيءٍ، ولا سيما قبلَ وقوعه والحاجة إليه، وإنَّما الحاجةُ
(1)
رواه من حديث رافع بن خديج البخاري (2488) و (2507)، ومسلم (1968)، وتَمامُه: قال: "ما أنْهَرَ الدَّم وذُكر اسم الله عليه فكُلوا، ليس السَّنِّ والظُّفرَ، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظمُ، وأما الظفر فمدى الحبشة".
(2)
انظر نصه في البخاري (7084).
المهمةُ إلى فهم ما أخبرَ الله به ورسولُه، ثمَّ اتباعُ ذلك والعملُ به، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُسأَلُ عَنِ المسائل؛ فيُحيل على القرآن، كما سأله عمرُ عنِ الكَلالَةِ، فقال:"يَكفيك آيةُ الصيف"
(1)
.
وأشار صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى أنَّ في الاشتغال بامتثالِ أمرِه، واجتنابِ نهيه شغلًا عن المسائل، فقال:"إذا نهيتُكم عن شيءٍ، فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعتم" فالذي يتعيَّنُ على المسلم الاعتناءُ به والاهتمامُ أن يبحثَ عمَّا جاءَ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهدُ في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديقِ بذلك إن كان من الأمور العلمية، وإن كان من الأمور العملية، بذل وسْعَهُ في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر، واجتناب ما يُنهى عنه، وتكون همَّتُهُ مصروفةً بالكلية إلى ذلك؛ لا إلى غيره. وهكذا كان حالُ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع مِنَ الكتاب والسنة.
فأمَّا إن كانت همةُ السامعَ مصروفةً عند سماعِ الأمر والنهي إلى فرض أمورٍ قد تقع، وقد لا تقع، فإنَّ هذا مما يدخل في النَّهي، ويثبِّطُ عَن الجد في متابعة الأمر. وقد سألَ. رجلٌ ابنَ عمر عن استلام الحجر، فقال له: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبِّلُه، فقال له الرجل: أرأيتَ إن غُلِبْتُ عليه؟ أرأيت إن زُوحِمْتُ؟ فقال له ابن عمر: اجعل "أرأيت" باليمن، رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يستلِمُه ويقبِّلُه. خرَّجه الترمذي
(2)
. ومرادُ ابن عمر أنَّه لا يكن لك همٌّ إلا في الاقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا حاجةَ إلى فرضِ العجزِ عنْ ذلك أو تعسُّره قبلَ وقوعه؛ فإنَّه قد يفتُرُ العزمُ عن التَّصميم على المتابعة، فإنَّ التَّفقُّهَ في الدِّين، والسُّؤالَ عن العِلم إنَّما يُحمَدُ إذا كان للعمل، لا لِلمراءِ والجدال.
(1)
رواه مسلم (1617) وابن ماجه (2726).
(2)
في "السنن"(861). ورواه أيضًا البخاري (1610)، والنسائي 5/ 231.
وقد روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه ذكر فتنًا تكونُ في آخر الزَّمان، فقال له عمر: متَى ذلك يا عليُّ؟ قال: إذا تُفُقِّه لغير الدين، وتُعُلِّم لغير العمل، والتمست الدنيا بغير الآخرة.
وعن ابنِ مسعود أنه قال: كيف بكم إذا لَبستكم فتنةٌ يربو فيها الصغيرُ، ويَهْرَمُ فيها الكبيرُ، وتُتَّخَذُ سُنةً، فإنَّ غيرت يومًا قيل: هذا منكر؟ قالوا: ومتى ذلك؟ قال: إذا قلَّت أمناؤكم، وكثرت أمراؤُكم، وقلَّت فقهاؤُكم، وكثر قُرَّاؤُكم، وتُفُقِّهَ لغير الدين، والتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة. خرجهما عبد الرزاق في كتابه
(1)
.
ولهذا المعنى كان كثيرٌ من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبلَ وقوعها، ولا يُجيبون عن ذلك، قال عمرو بن مُرة: خرج عمرُ على الناس، فقال: أُحرِّجُ عليكم أن تسألونا عن ما لم يكن، فإنَّ لنا فيما كان شغلًا
(2)
.
وعن ابن عمر، قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعتُ عمر لعنَ السَّائل عمَّا لم يكن
(3)
.
وكان زيدُ بنُ ثابتٍ إذا سُئِلَ عن الشَّيءِ يقول: كان هذا؟ فإنَّ قالوا: لا، قال: دعوه حتى يكون
(4)
.
(1)
وروى الثاني منهما بنحوه الدارمي 1/ 64 عن يعلى، حدثنا الأعمش، عن شقيقٍ، قال: قال عبد الله.
ورواه أيضًا عن عمرو بن عون، عن خالد بن عبد الله، عن يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله.
(2)
رواه الدارمي 1/ 50، ورواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 2/ 141 من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاووس عن عمر، ولم يسمع منه.
(3)
رواه ابن عبد البر 2/ 139 و 142.
(4)
رواه الدارمي 1/ 50، وابن عبد البر 2/ 142.
وقال مسروقٌ: سألت أبيَّ بن كعبٍ عن شيءٍ، فقال: أكان بعدُ؟ فقلت: لا، فقال: أَجِمَّنا - يعني: أرحنا حتى يكونَ -، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا
(1)
.
وقال الشَّعبي: سئل عمارٌ عن مسألة فقال: هل كان هذا بعدُ؟ قالوا: لا، قال: فدعونا حتَّى يكون، فإذا كان تجَشَّمْنَاهُ لكم
(2)
.
وعن الصَّلتِ بنِ راشدٍ، قال: سألت طاووسًا عن شيءٍ، فانتهرني وقال: ممان هذا؟ قلت: نعم، قال: آلله؟ قلت: آلله. قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبلٍ أنَّه قال: أيُّها الناسُ، لا تعجلوا بالبلاء قبْلَ نزوله فيذهب بكم هاهنا وهاهنا، فإنَّكم إن لم تعجَلوا بالبلاء قَبْلَ نزوله، لم ينفكَّ المسلمون أن يكونَ فيهم مَنْ إذا سُئِلَ سُدِّدَ، أو قال وُفِّقَ
(3)
.
وقد خرَّجه أبو داود في كتاب "المراسيل"
(4)
مرفوعًا من طريق ابن عجلان عن طاووس عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعجَلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون منهم من إذا قال سُدِّدَ أو وفق، وأنكم إن عجِلْتُم، تشتَّتُ بكمُ السُّبُلَ هاهنا وهاهنا. ومعنى إرساله أن طاووسًا لم يسمع من معاذ.
وخرَّجه أيضًا من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمعناه مرسلًا
(5)
.
(1)
رواه الدارمي 1/ 56، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 2/ 142.
(2)
رواه الدارمي 1/ 50، وذكره ابن حجر في "المطالب العالية" 3/ 106، وقال في النسخة المسندة: هذا موقوف، رجاله ثقات إن كان الشعبي سمع من عمار.
(3)
رواه الدارمي 1/ 56، والآجري في "أخلاق العلماء" ص 121 - 122، وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" 3/ 106.
(4)
برقم (457). ورواه أيضًا الطبراني في "الكبير" 20/ (353)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 2/ 142، وطاووس لم يدرك مُعاذًا ولم يسمع منه، فهو منقطع.
(5)
"المراسيل"(458).
وروى حجاج بن مِنهال: حدثنا جريرُ بنُ حازم أنَّه قال: سمعت الزبيرَ بنَ سعيد رجلًا من بني هاشم، قال: سمعت أشياخنا يحدثون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال في أمتي من إذا سُئل سُدِّدَ وأُرْشِدَ حتى يتساءلوا عن ما لم ينزل تبيينه، فإذا فعلوا ذلك، ذُهِبَ بهم هاهنا وهاهنا"
(1)
.
وقد رُوي عن الصَّنابحيِّ عن معاوية، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عَنِ الأُغلوطات. خرَّجه الإمام أحمد
(2)
. وفسرها الأوزاعي، وقال: هي شدادُ المسائل. وقال عيسى بنُ يونس: هي ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف.
ويُروى من حديث ثوبان عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون أقوام من أمتي يُغَلِّطُون فقهاءهم بِعُضَل المسائل، أولئك شرار أمتي"
(3)
.
وقال الحسن: شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يَغُمُّونَ بها عبادَ الله.
وقال الأوزاعي: إن الله إذا أراد أن يحرِمَ عبدَه بركة العلم، ألقى على لسانه المغاليطَ، فلقد رأيتُهم أقلَّ الناسِ علمًا.
وقال ابنُ وهب عن مالك: أدركتُ هذه البلدة، وإنهم ليكرهُون هذا الإكثارَ الذي فيه الناس اليوم. يريد المسائل.
وقال أيضًا: سمعتُ مالكًا وهو يعيبُ كثرة الكلام وكثرة الفتيا، ثم قال: يتكلَّم كأنه جمل مُغْتَلِمٌ يقول: هو كذا، هو كذا يَهْدِرُ في كلامه.
(1)
الزبير بن سعيد ليِّن الحديث، ومن فوقه مجاهيل. وأورد الحديث الحافظ في "الفتح" 13/ 267.
(2)
في "المسند" 5/ 435. ورواه أيضًا أبو داود (3656).
(3)
رواه الطبراني في "الكبير"(1431)، وفيه يزيد بن ربيعة، قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 155: وهو متروك.
وقال: سمعتُ مالكًا يكره الجوابَ في كثرة المسائل، وقال: قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فلم يأته في ذلك جواب.
وكان مالكٌ يكره المجادلة عَن السُّنن أيضًا. قال الهيثم بن جميل: قلت لمالك: يا أبا عبدِ الله، الرجلُ يكونُ عالمًا بالسُّنن يُجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسُّنَّةِ، فإن قُبِلَ منه، وإلَّا سكت. قال إسحاق بن عيسى: كان مالك يقول: المِراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل.
وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: المراء في العلم يُقسِّي القلوب، ويورِّث الضغن.
وكان أبو شريح الإسكندراني يومًا في مجلسه، فكثُرَتِ المسائلُ، فقال: قد دَرِنَتْ قلوبُكم منذُ اليوم، فقوموا إلى أبي حُميدٍ خالد بن حميد اصقُلوا قلوبكم، وتعلَّمُوا هذه الرغائب، فإنها تُجدِّدُ العبادة، وتُورث الزهادة، وتجرُّ الصداقة، وأقِلُّوا المسائلَ إلا ما نزل، فإنها تقسي القلوب، وتورث العداوة.
وقال الميمونيُّ: سمعتُ أبا عبد الله - يعني أحمد - يُسأل عن مسأَلة، فقال: وقعَت هذه المسألة؟ بُليتم بها بعدُ؟
وقد انقسم الناسُ في هذا الباب أقسامًا:
فمن أتباع أهلِ الحديث منْ سدَّ بابَ المسائل حتَّى قلَّ فقهه وعلمُه بحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حامِلَ فقه غيرَ فقيه.
ومن فقهاء أهل الرأي من توسَّع في توليدِ المسائل قبلَ وقوعها، ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلُوا بتكلُّفِ الجواب عَنْ ذلك، وكثرة الخصومات فيه، والجدال عليه حتَّى يتولدَ مِنْ ذلك افتراقُ القلوب، ويستقرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشحناء والعداوةً والبغضاءً، ويقترن ذلك كثيرًا بنية المغالبة، وطلب
العلوِّ والمباهاة، وصرف وجوه الناس وهذا ممَّا ذمه العلماءُ الربانيون، ولَّتِ السُّنَّةُ على قبحه وتحريمه.
وأما فقهاء أهل الحديث العامِلُون به، فإنَّ معظمَ همِّهمُ البحثُ عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يُفسِّرُهُ من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة صحيحها وسقيمِها، ثم التفقه فيها وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغيرِ ذلك، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومَنْ وافقه من علماء الحديث الرَّبَّانيين، وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغُل بما أُحدثَ من الرأي ممَّا لا يُنتفع به، ولا يقع، وإنما يُورثُ التجادلُ فيه الخصوماتِ والجدالَ وكثرة القيل والقال. وكان الإمام أحمد كثيرًا إذا سُئِلَ عن شيء من المسائل المولدات التي لا تقع يقول: دعونا مِنْ هذه المسائل المحدثة.
وما أحسن ما قاله يونسُ بنُ سليمان السَّقَطِيُّ: نظرتُ في الأمر، فإذا هو الحديث والرأي، فوجدتُ في الحديث ذكرَ الرب عز وجل وربوبيتَه وإجلاله وعظمته، وذكرَ العرش وصفة الجنة والنار، وذكرَ النبيين والمرسلين، والحلال والحرام، والحثَّ على صلة الأرحام، وجماع الخير فيه، ونظرت في الرأي، فإذا فيه المكرُ، والغدرُ، والحيلُ، وقطيعة الأرحام، وجماع الشَّرِّ فيه.
وقال أحمد بن شبويه: من أراد علمَ القبرِ فعليه بالآثار، ومن أراد علم الخُبْزِ، فعليه بالرأي
(1)
.
ومن سلك طريقة طلبِ العلم على ما ذكرناه، تمكَّن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبًا؛ لأن أصولها تُوجد في تلك الأصول المشار إليها، ولا بدَّ
(1)
انظر: "تهذيب الكمال" 1/ 435، و"السير" 11/ 7 - 8، و" تذكرة الحفاظ " 1/ 464.
أن يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمَعِ على هدايتهم ودرايتهم كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد ومن سلك مسلكَهم، فإنَّ مَنِ ادعى سلوكَ هذا الطريق على غير طريقهم، وقع في مفاوزَ ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذُ به، وترك ما يجب العملُ به.
ومِلاكُ الأمرِ كلَّه أن يقصِدَ بذلك وجهَ الله، والتقرُّب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله، وسلوكِ طَريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومَنْ كان كذلك، وفَّقه الله وسدَّده، وألهمه رشده، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، ومن الراسخين في العلم، فقد خرَّج ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الرَّاسخين في العلم، فقال:"من برّت يمينُه، وصدق لسانُه، واستقامَ قلبُه، ومَنْ عفَّ بطنُه وفرجُه، فذلك مِنَ الرَّاسخين في العلم"
(1)
.
وقال نافع بن يزيد: يقال: الرَّاسخونَ في العلم: المتواضعون لله، والمتذلِّلون لله في مرضاته لا يتعاطون من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم
(2)
.
ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهلُ اليمن، هُمْ أبرُّ قلوبًا، وأرقُّ أفئدةً. الإيمان يمانٍ، والفِقه يمان، والحكمة يمانية"
(3)
. وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري، ومن كان على طريقهِ من عُلَماء أهلِ اليمن، ثمَّ إلى مثل أبي مسلم
(1)
ذكره ابن كثير في "تفسيره" 2/ 9 من رواية ابن أبي حاتم، ورواه أيضًا ابن جرير الطبري في "جامع البيان"(6637) و (6638)، وفيه عبد الله بن يزيد بن آدم، قال أحمد: أحاديثه موضوعة.
(2)
رواه ابن المنذر في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" 2/ 9.
(3)
رواه من حديث أبي هريرة البخاري (4388)، ومسلم (52)، وصححه ابن حبان (5744).
الخولاني، وأويس القَرَنيِّ، وطاووس، ووهب بن منبه، وغيرِهم من عُلماء أهل اليمن، وكلُّ هؤلاء مِنَ العلماء الربانيين الخائفين لله، فكلهم علماءُ بالله يخشونه ويخافونه، وبعضُهم أوسعُ علمًا بأحكام الله وشرائع دينه من بعض، ولم يكن تميُّزهم عن الناس بكثرة قيلٍ وقالٍ، ولا بحثٍ ولا جدالٍ.
وكذلك معاذُ بنُ جبل رضي الله عنه أعلم الناس بالحلال والحرام، وهو الذي يحشر يومَ القيامة أمام العلماء برتوة
(1)
، ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها، بل قد سبق عنه كراهةُ الكلام فيما لا يقع، وإنما كان عالمًا بالله وعالمًا بأصول دينه. وقد قيل للِإمام أحمد: مَنْ نسالُ بعدَك؟ قال: عبد الوهَّاب الورَّاق، قيل له: إنه ليس له اتِّساعٌ في العلم، قال: إنه رجل صالح مثلُه يُوفَّقُ لِإصابة الحق.
وسئل عن معروف الكرخي، فقال: كان معه أصلُ العلم: خشية الله. وهذا يرجعُ إلى قولِ بعض السَّلف: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا. وهذا بابٌ واسع يطول استقصاؤه.
ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه فنقول: مَنْ لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا يوجدُ مثلُها في كتاب، ولا سنة، بل اشتغل بفهم كلام الله ورسوله، وقصدُه بذلك امتثالُ الأوامر، واجتنابُ النواهي، فهو ممَّنِ امتثلَ أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وعَمِلَ بمقتضاه، ومن لم يكن اهتمامُه بفهم ما أنزل الكه على رسوله، واشتغل بكثرةِ توليدِ المسائل قد تقع وقد لا تقع، وتكلَّفَ أجوبتها بمجرَّد الرأي، خُشِيَ عليه أن يكونَ مخالفًا لهذا الحديث، مرتكبًا لنهيه، تاركًا لأمره.
(1)
الرتوة: رمية سهم، وقيل: مدُّ البصر. وانظر تخريج الحديث في "سير أعلام النبلاء" 1/ 446 ترجمة معاذ بن جبل رضي الله عنه.
واعلم أن كثرةَ وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنما هو مِنْ ترك الاشتغال بامتثالِ أوامر الله ورسوله، واجتنابِ نواهي الله ورسوله، فلو أنَّ من أرادَ أن يعمل عملًا سأل عمَّا شرعه الله في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى عنه فاجتنبه، وقعت الحوادثُ مقيدةً بالكتاب والسنة. وإنما يعمل العاملُ بمقتضى رأيه وهواه، فتقع الحوادثُ عامَّتُها مخالفةً لما شرعه الله وربما عسر ردُّها إلى الأحكام المذكورةِ في الكتاب والسنة لبعدها عنها.
وفي الجملة: فمن امتثل ما أمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وانتهى عما نهى عنه، وكان مشتغلًا بذلك عن غيره، حَصَلَ له النجاةُ في الدنيا والآخرة، ومَنْ خالف ذلك، واشتغلَ بخواطرِه وما يستحسنه، وقع فيما حَّذرَ منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، وعدمِ انقيادهم وطاعتهم لرسلهم،
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا نهيتُكم عن شيءٍ، فاجتنبوه، وإذا أموتُكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعتم" قال بعضُ العلماء: هذا يُؤخذ منه أنَّ النَّهي أشدُّ من الأمر؛ لأن النهي لم يُرَخَّصْ في ارتكاب شيء منه، والأمر قُيِّدَ بحسب الاستطاعة، ورُويَ هذا عن الإمام أحمدِ.
ويشبه هذا قولُ بعضهم: أعمال البِرِّ يعملُها البر والفاجرُ، وأمَّا المعاصي، فلا يتركها إلَّا صِدِّيق
(1)
.
ورُوي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: "اتَّق المحارم، تَكُن أعبدَ الناس"
(2)
.
(1)
رواه من قول سهل بن عبد الله التُّستُري أبو نعيم في "الحلية" 10/ 211.
(2)
هو قطعة من حديث رواه أحمد 2/ 310، والترمذي (2305) والخرائطي في "مكارم الأخلاق" ص 42 من طريق أبي طارق عن الحسن البصري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن يأْخُذُ عني هذه الكلماتِ فيعملَ بهنَّ أو يُعلَّم من يعملُ بهنَّ؟، فقال أبو هريرة: فقلتُ: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي، فعدَّ خمسًا، فقال: "اتَّق المحارم=
وقالت عائشة رضي الله عنها: من سرّه أن يسبق الدائبَ المجتهدَ، فليكفَّ عن الذنوب، وروى عنها مرفوعًا
(1)
.
وقال الحسن: ما عُبِّدَ العابدون بشيءٍ أفضلَ من ترك ما نهاهم الله عنه.
والظاهر أنَّ ما ورد مِن تفضيل ترك المحرَّمات على فعل الطاعات، إنَّما أُريد به على نوافل الطَّاعات، وإلَّا فجنسُ الأعمال الواجبات أفضلُ مِنْ جنسِ ترك المحرَّمات؛ لأنَّ الأعمال مقصودة لذاتها، والمحارم المطلوبُ عدمها، ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمالِ، ولذلك كان جنسُ ترك الأعمال قد يكون كفرًا كتركِ التوحيد، وكتركِ أركان الإسلام أو بعضها على ما سبق، بخلاف ارتكاب المنهيات فإنه لا يقتضى الكفر بنفسه، ويشهد لذلك قولُ ابنِ عمر: لردُّ دانقٍ حرام أفضلُ مِنْ مئة ألف تُنْفَقُ في سبيل الله.
وعن بعض السلفِ قال: تركُ دانق مما يكره الله أحبُّ إلي من خمس مئة حجة.
وقال ميمون بن مِهران: ذكر اللهِ باللسان حسن وأفضلُ منه أن يذكر الله العبدُ
= تكُن أعبد النَّاس، وارْضَ بِما قَسَم الله لكَ تكنْ أغنى النَّاس، وأحْسِنْ إلى جارك تكنْ مؤمنًا، وأحِبَّ للناس ما تُحبُّ لنفسك تكنْ مسلمًا، ولا تكثرِ الضَّحِكَ؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب".
قلت: طارق لا يُعرف، والحسن البصري قد عنعن، ولذا استغربه الترمذي، لكن له إسنادٌ آخر يتقوى به عند ابن ماجه (4217) والبيهقي في "الزهد"(818)، وأبي نعيم في "الحلية" 10/ 365 وفي "أخبار أصبهان" 2/ 302. ولفظه:"يا أبا هريرة كنْ وَرعًا تكن أعبد النَّاس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقلَّ الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب". وحسنه البوصيري في "مصباح الزجاجة" ورقة 2/ 267.
(1)
رواه أبو يعلى (4950) وفي سنده سويد بن سعيد ويوسف بن ميمون، وكلاهما ضعيف.
عندَ المعصية فيمسِكَ عنها.
وقال ابنُ المبارك: لأن أردَّ درهمًا من شبهة أحبُّ إليَّ من أن أتصدَّقَ بمائة ألفٍ ومئة ألف، حتى بلغ ست مئة ألف.
وقال عمر بنُ عبد العزيز: ليست التقوى قيامَ الليل، وصِيام النهار، والتخليطَ فيما بَيْنَ ذلك، ولكن التقوى أداءُ ما افترض الله، وترك ما حرَّم الله، فإن كان مع ذلك عملٌ، فهو خير إلى خير، أو كما قال.
وقال أيضًا: وددتُ أني لا أصلي غيرَ الصَّلوات الخمس سوى الوتر، وأن أؤدِّي الزكاة، ولا أتصدّق بعدها بدرهم، وأن أصومَ رمضان ولا أصوم بعده يومًا أبدًا، وأن أحجَّ حجة الِإسلام ثم لا أحجَّ بعدها أبدًا، ثم أعمد إلى فضل قوتي، فأجعله فيما حرَّم الله عليَّ، فأمسك عنه.
وحاصل كلامهم يدلُّ عليَّ أن اجتناب المحرمات - وإن قلَّتْ - أفضلُ من الِإكثار من نوافل الطاعات فإنَّ ذاك فرضٌ، وهذا نفلٌ.
وقالت طائفة من المتأخرين: إنما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم "؛ لأن امتثالَ الأمر لا يحصلُ إلَّا بعمل، والعملُ يتوقَّفُ وجودُه عليَّ شروط وأسباب، وبعضها قد لا يُستطاع، فلذلك قيَّده بالاستطاعة، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة، قال تعالى:{فاتَّقوا الله ما استَطَعْتُم} [التغابن: 16]. وقال في الحجّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
وأما النهي: فالمطلوب عدمُه، وذلك هو الأصل، والمقصود استمرار العدم الأصلي، وذلك ممكن، وليس فيه ما لا يُستطاع، وهذا أيضًا فيه نظر، فإنَّ الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قويًا، لا صبر معه للعبد علي الامتناع مع فعل المعصية مع القدرة عليها، فيحتاج الكفُّ عنها حينئذٍ إلى مجاهدةٍ شديدة،
ربما كانت أشقَّ عليَّ النفوس من مجرَّدِ مجاهدة النفس على فعل الطاعة، ولهذا يُوجَدُ كثيرًا من يجتهد فيفعل الطاعات، ولا يقوى عليَّ ترك المحرمات. وقد سئل عمرُ عن قومٍ يشتهون المعصية ولا يعملون بها، فقال: أولئِكَ قومُ امتحنَ الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم
(1)
.
وقال يزيد بن ميسرة: يقولُ الله في بعض الكتب: أيُّها الشابُّ التارك شهوتَه، المتبذل شبابه لأجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي
(2)
.
وقال: ما أشد الشهوة في الجسد، إنَّها مثلُ حريق النار، وكيف ينجو منها الحصوريون؟
(3)
والتحقيق في هذا أن الله لا يكلِّفُ العبادَ مِنَ الأعمال ما لا طاقةَ لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرًا من الأعمال بمجرَّدِ المشقة رخصةً عليهم، ورحمةً لهم، وأمَّا المناهي، فلم يَعْذِرْ أحدًا بارتكابها بقوَّةِ الدَّاعي والشَّهوات، بل كلَّفهم تركها على كلِّ حال، وأنَّ ما أباح أن يُتناول مِنَ المطاعم المحرَّمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة، لا لأجل التلذذ والشهوة، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد: إن النهي أشدُّ من الأمر. وقد روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان وغيره أنَّه قال: "استقيموا ولن تُحْصُوا"
(4)
يعني: لن تقدروا على الاستقامة كلها.
(1)
رواه أحمد في "الزهد" كما في "تفسير ابن كثير" 7/ 248 عن مجاهد عن عمر، ولم يسمع منه، فالخبر منقطع.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 237.
(3)
"الحلية" 1/ 241.
(4)
حديث صحيح، رواه أحمد 5/ 276 - 277 و 282، والدارمي 1/ 168، وابن ماجه (277) من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان، وصححه الحاكم 1/ 130، ووافقه الذهبي!
ورواه أحمد 5/ 282، والدارمي 1/ 168 من طريق الوليد بن مسلم: حدثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية أن أبا كبشة السلولي، حدثه أنه سمع ثوبان يقول.=
وروى الحكم بن حزن الكُلَفي، قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدتُ معه الجمعة، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصًا أو قوسٍ، فحمِدَ الله، وأثنى عليه بكلماتٍ خفيفاتٍ طيبات مباركات، ثم قال:"أيُّها النَّاسُ إنَّكُم لن تُطيقُوا، أو لن تَفْعَلوا كُلَّ ما أَمَرْتُكم بهِ، ولكن سَدِّدُوا وأبشِرُوا" خرجه الإمام أحمد وأبو داود
(1)
.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" دليل عليَّ أنَّ من عَجَزَ عن فعل المأمور به كلَّه، وقدرَ عليَّ بعضه، فإنَّه يأتي بما أمكنه منه، وهذا مطرد في مسائل:
منها الطهارة، فإذا قدر على بعضها، وعجز عن الباقي: إما لعدم الماء، أو لمرض في بعض أعضائه دون بعض، فإنَّه يأتي مِنْ ذلك بما قدر عليه، ويتيمم للباقي، وسواء في ذلك الوضوء والغسل عليَّ المشهور.
ومنها الصلاة، فمن عَجَزَ عن فعل الفريضة قائمًا صلى قاعدًا، فإنَّ عجز صلَّى مضطجعًا، وفي "صحيح البخاري"
(2)
عن عِمْرَانَ بن حصين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "صَلِّ قائمًا، فإنَّ لم تستطع فقاعدًا، فإنْ لم تستطع فعلى جنبٍ ". ولو عجز عن ذلك كلَّه، أومأ بطرفه، وصلى بنيته، ولم تسقُط عنه الصلَاةُ على المشهور.
ومنها زكاة الفطر، فإذا قَدَرَ على إخراج بعضِ صاع، لزمه ذلك عليَّ
= وله شاهدان ضعيفان من حديث عبد الله بن عمرو عند ابن أبي شيبة 1/ 6، وابن ماجه (278)، وآخر من حديث أبي أمامة عند ابن ماجه (279). وانظر ابن حبان (1037).
(1)
رواه أحمد 4/ 212، وأبو داود (1096)، وهو حديث حسن.
(2)
برقم (1117)، وصححه ابن حبان (2513)، وانظر تمام تخريجه فيه.
الصحيح، فأمَّا من قدر عليَّ صيام بعضِ النهار دُونَ تكملته، فلا يلزمه ذلك بغير خلاف؛ لأن صيامَ بعض اليوم لَيس بقُربَةٍ في نفسه، وكذا لو قدر على عتق بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه؛ لأن تبعيض العتق غير محبوب للشارع بل يُؤْمَرُ بتكميله بكلِّ طريق.
وأما من فاته الوقوفُ بعرفةَ في الحج، فهل يأتي بما بقيَ منه من المبيت بمزدلفة، ورمي الجمار أم لا؟ بل يقتصر على الطواف والسعي، ويتحلل بعمرة على روايتين عن أحمد، أشهرهما: أنَّه يقتصر عليَّ الطواف والسعي؛ لأن المبيت والرمي من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه، وإنما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام، وبذكره في الأيام المعدودات لمن أفاض من عرفات، فلا يؤمر به من لا يقف بعرفة كما لا يؤمر به المعتمر
(1)
.
(1)
في (ب): "المعتمر المقيم ".
الحديث العاشر
عَنْ أبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طيِّبًا، وإنَّ الله تعالى أمرَ المُؤمِنينَ بما أَمرَ به المُرسَلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ: أشْعَثَ أغْبَرَ، يمُدُّ يدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبّ يا ربّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُه حرامٌ، وغُذِي بالحَرَام، فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ؟ ". رواهُ مُسلمٌ
(1)
.
هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية فضيل بن مرزوق، عن عديّ بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وخرَّجه الترمذي، وقال: حسن غريب. وفضيل بن مرزوق ثقة وسط خرج له مسلم دون البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى طيب" هذا قد جاء أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله طيِّبٌ يحبُّ الطَّيِّبَ، نظيفٌ يحبُّ النظافة، جواد يحبُّ الجود". خرجه الترمذي، وفي إسناده مقال
(2)
. والطيب هنا: معناه الطاهر.
والمعنى أنَّه تعالى مقدَّسَ منزّه عن النقائص والعيوب كلها، وهذا كما في
(1)
رواه مسلم (1015)، والترمذي (2989)، وأحمد 2/ 328، والدارمي 2/ 300.
(2)
"الترمذي"(2799)، وفي سنده خالد بن إلياس، ضعَّفوه.
قوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26]، والمراد: المنزهون من أدناس الفواحش وأوضَارها.
وقوله: "لا يقبل إلا طيبًا" قد ورد معناه في حديث الصدقة، ولفظُه: "لا يتصدَّق أحدٌ بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبًا
…
"
(1)
والمراد أنه تعالى لا يقبل مِن الصدقات إلا ما كان طيبًا حلالًا.
وقد قيل: إن المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله: "لا يقبلُ الله إلا طيبًا" أعمُّ مِنْ ذلك، وهو أنَّه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبًا طاهرًا من المفسدات كلِّها، كالرياء والعُجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيبًا حلالًا، فإنَّ الطيب تُوصَفُ به الأعمالُ والأقوالُ والاعتقاداتُ، فكلُّ هذه تنقسم إلى طيِّبٍ وخبيثٍ.
وقد قيل: إنه يدخل في قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] هذا كلُّه.
وقد قسم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث، فقال:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24]، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26]، وقال تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يحلُّ الطيبات ويحرِّمُ الخبائث.
وقد قيل: إنه يدخل في ذلك الأعمالُ والأقوال والاعتقاداتُ أيضًا، ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب بقوله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] وإن الملائكة تقولُ عند الموت: اخرُجي أيتها النفس الطَّيِّبة كانت في الجسد الطيّب، وإن الملائكة تسلِّمُ عليهم عندَ دُخول الجنة، ويقولون
(1)
رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 418، والبخاري (1410)، ومسلم (1014)، والترمذي (661)، والنسائي 5/ 57، وابن ماجه (1842)، وصححه ابن حبان (270).
لهم: طبتم، وقد ورد في الحديث أنَّ المؤمن إذا زار أخا له في الله تقول له الملائكة:"طِبْتَ، وطابَ ممشاك، وتبوَّأْت من الجنة منزلًا"
(1)
.
فالمؤمن كله طيب قلبُه ولسانُه وجسدُه بما سكن في قلبه من الِإيمان، وظهر على لسانه من الذكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هىٍ ثمرة الإيمان، وداخلة في اسمه. فهذه الطيبات كلُّها يقبلها الله عز وجل.
ومن أعظم ما يحصل به طيبةُ الأعمَال للمؤمن طيبُ مطعمه، وأن يكون من حلال، فبذلك يزكو عملُه.
وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أنَّه لا يقبل العملُ ولا يزكو إلَّا بأكل الحلال، وأنَّ أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبولَه، فإنَّه قال بعد تقريره:"إن الله لا يقبلُ إلَّا طيبًا" إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} ، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} .
والمراد بهذا أنَّ الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالًا، فالعملُ صالح مقبول، فإذا كان الأكلُ غير حلالٍ، فكيف يكون العمل مقبولًا؟
وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنَّه كيف يتقبل مع الحرام، فهو مثالٌ لاستبعاد قَبُولِ الأعمال مع التغذية بالحرام. وقد خرَّج الطبراني بإسناد فيه نظر عن ابن عباسٍ، قال: تُليَتْ هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، فقام سعدُ بنُ أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادعو الله أنَّ يجعلني مستجابَ الدعوة، فقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "يا سعد،
(1)
رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 326، والترمذي (2508)، وابن ماجه (1443)، وابن حبان (2961)، وفي سنده عيسى بن سنان القسملي، وهو ضعيف.
أطبْ مطعَمَك تكن مستجاب الدَّعوة، والذي نفس محمد بيده، إنَّ العبدَ ليقذف الَلُّقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه عمل أربعين يومًا، وأيُّما عبدٍ نبت لحمُه من سُحْتٍ، فالنارُ أولى به"
(1)
.
وفي "مسند" الإمام أحمد بإسناد فيه نظر أيضًا عن ابن عمر قال: "من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم في ثمنه درهمٌ حرام، لم يقبلِ الله له صلاة ما كان عليه"، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال: صُمَّتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
. ويُروى من حديث عليٍّ رضي الله عنه مرفوعًا معناه أيضًا، خرجه البزار وغيره بإسنادٍ ضعيف جدًا
(3)
.
وخرج الطبراني بإسنادٍ فيه ضعفٌ من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج الرجلُ حاجًا بنفقةٍ طيبة، ووضع رجله في الغَرْزِ، فنادى: لبَّيْكَ اللهمَّ لبَّيكَ، ناداه منادٍ من السَّماء: لبَّيْكَ وسَعْدَيك زادُك حلالٌ، وراحلتك حلالٌ، وحجك مبرورٌ غيرُ مأزورٍ
(4)
، وإذا خرج الرجلُ بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في
(1)
رواه ابن مردويه في "تفسيره" عن الطبراني كما في "تفسير ابن كثير" 1/ 292، وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 291، وقال: رواه الطبراني في "الصغير"، وفيه من لم أعرفهم.
(2)
رواه أحمد 2/ 98 من طريق بقية بن الوليد، عن عثمان بن زفر، عن هاشم عن ابن عمر. وبقية مدلس وقد عنعن، وهاشم هكذا دون نسبة لا يعرف، قاله غير واحد. ووقع في "تاريخ بغداد" 14/ 21 - 22 قال: هاشم الأوقص، قال الذهبي في "الميزان" نقلًا عن البخاري: غير ثقة. وقال الحافظ العراقي فيما نقله عن المناوي في "فيض القدير": سنده ضعيف جدًا.
(3)
رواه البزار (3561)، وفيه النضر بن منصور، قال البخاري: منكر الحديث، وأبو الجنوب عقبة بن علقمة، وهو ضعيف. وذكر الهيثمي في "المجمع" 10/ 292، وقال: وفيه أبو الجنوب، وهو ضعيف.
(4)
الجادَّة: "موزور" من الوزر، يقال: وُزر فهو موزور.
الغَرْزِ، فنادى: لبَّيكَ الّلهمَّ لبَّيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبَّيْكَ ولا سَعْدَيك، زادُك حرام، ونفقتُك حرام، وحجُّك غيرُ مبرورٍ"
(1)
. ويُروى من حديث عمر نحوه بإسناد ضعيف أيضًا.
وروى أبو يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباسٍ، قال: لا يقبل الله صلاة امرئٍ في جوفه حرام
(2)
.
وقد اختلفَ العلماءُ في حجِّ من حجَّ بمالٍ حرام، ومن صلَّى في ثوب حرام، هل يسقط عنه فرضُ الصلاة والحج بذلك، وفيه عن الِإمام أحمد روايتان، وهذه الأحاديث المذكورة تدلُّ على أنَّه لا يتقبل العملُ مع مباشرة الحرام، لكن القبول قد يُراد به الرضا بالعمل، ومدحُ فاعله، والثناءُ عليه بين الملائكة والمباهاةُ به، وقد يُراد به حصولُ الثواب والأجر عليه، وقد يراد به سقوط الفرض به من الذمة، فإنَّ كان المراد هاهنا القبولَ بالمعنى الأوَّل أو الثاني، لم يمنع ذلك من سقوط الفرض به من الذمة، كما ورد أنه لا تقبل صلاة الآبق، ولا المرأة التي زوجها عليها ساخطٌ، ولا من أتى كاهنًا، ولا من شرب الخمر أربعين يومًا، والمراد - والله أعلم - نفي القبول بالمعنى الأوَّل أو الثاني، وهو المراد - والله أعلم - من قوله عز وجل:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. ولهذا كانت هذه الآية يشتدُّ منها خوفُ السلف على نفوسهم، فخافوا أنَّ لا يكونوا مِنَ المتَّقين الذين يُتقبل منهم.
وسُئل أحمد عن معنى "المتقين" فيها، فقال: يتقي الأشياء، فلا يقع فيما لا يَحِلُّ له.
وقال أبو عبد الله النباجي الزاهد رحمه الله: خمسُ خصال بها تمامُ العمل:
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أبو يحيى القتات، لين الحديث.
الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفةُ الحقِّ، وإخلاصُ العمل للهِ، والعمل على السُّنَّةِ، وأكلُ الحلالِ، فإن فُقِدَتْ واحدةٌ، لم يرتفع العملُ، وذلك أنَّك إذا عرَفت الله عز وجل، ولم تَعرف الحقَّ، لم تنتفع، وإذا عرفتَ الحقَّ، ولم تَعْرِفِ الله، لم تنتفع، وإن عرفتَ الله، وعرفت الحقَّ، ولم تُخْلِصِ العمل، لم تنتفع، وإن عرفت الله، وعرفت الحق، وأخلصت العمل، ولم يكن على السُّنة، لم تنتفع، وإن تمَّتِ الأربع، ولم يكن الأكلُ من حلال لم تنتفع
(1)
.
وقال وُهيب بن الورد: لو قمتَ مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو حرام
(2)
.
وأما الصدقة بالمال الحرام، فغير مقبولةٍ كما في "صحيح مسلم"
(3)
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاةً بغير طهورٍ، ولا صدقةً من غلولٍ ".
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطَّيِّبَ - إلا أخذها الرحمن بيمينه" وذكر الحديث
(4)
.
وفي "مسند" الِإمام أحمد عن ابن مسعود عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكتسب عبدٌ مالًا من حرام، فيُنفِقَ منه، فَيُبارَكَ له فيه، ولا يتصدّقُ به، فيتقبلَ منه، ولا يتركه خلفَ ظهره إلا كان زادَه إلى النار، إن الله لا يمحو السيِّىَء بالسيِّئ، ولكن
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 9/ 310، وأبو عبد الله الساجي اسمه: سعيد بن يزيد.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 8/ 154.
(3)
برقم (224)، ورواه أيضًا أحمد 2/ 20، والترمذي (1)، والغلول بضم الغين: الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة، وكل من خان في شيءٍ خفيةً فقد غل، وسميت غلولًا؛ لأن الأيدي فيها مغلولة، أي: ممنوعة.
(4)
تقدم تخريجه ص 209.
يمحو السيَّئَ بالحسن، إن الخبيثَ لا يمحو الخبيثَ"
(1)
.
ويُروى من حديث دراج، عن ابن حُجيرة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كسب مالًا حرامًا، فتصدق به، لم يكن له فيه أجرٌ، وكان إصرُه عليه ". خرَّجه ابنُ حبان في "صحيحه"
(2)
، ورواه بعضهم موقوفًا على أبي هريرة.
ومن مراسيل القاسم بن مُخَيْمِرَة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصاب مالًا مِنْ مأثم، فوَصَلَ به رحمه، أو تصدَّق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع الله ذلك جميعًا، ثم قذف به في نار جهنم"
(3)
.
ورُوي عن أبي الدرداء، ويزيد بن مَيْسَرَة أنهما جعلا مثلَ من أصاب مالًا من غير حلِّه، فتصدَّق به مثلَ من أخذ مال يتيم، وكسَا بِهِ أرملةً
(4)
.
وسُئِلَ ابنُ عباسٍ عمَّن كان على عمل، فكان يَظلِمُ ويأْخُذُ الحرام، ثمَّ تابَ، فهو يحجُّ ويعتِق ويتصدَّق منه، فقال: إن الخبيث لا يُكَفِّرُ الخبيثَ. وكذا قال ابن مسعود: إن الخبيث لا يُكفِّر الخبيث، ولكن الطَّيِّب يُكفِّرُ الخبيث
(5)
. وقال الحسنُ: أيُّها المتصدِّق على المسكين يرحمُه، أرحم من قد ظَلَمْتَ.
واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين:
أحدهما: أنَّ يتصدَّقَ به الخائنُ أو الغاصبُ ونحوهما عن نفسه، فهذا هو
(1)
رواه أحمد 1/ 378، وفي سنده الصباح بن محمد، وهو ضعيف.
(2)
برقم (3368)، وإسناده حسن.
(3)
ذكره المزي في ترجمة القاسم من "تهذيب الكمال" ص 1118، والذهبي في "السير 5/ 203 عن القاسم بن مخيمرة قوله، ولم يرفعه.
(4)
انظر "الزهد" لأحمد ص 137.
(5)
رواه البزار (932)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 3/ 112، وقال: فيه قيس بن الربيع، وفيه كلام، وقد وثقه شعبة والثوري.
المراد من هذه الأحاديث أنَّه لا يُتَقبَّلُ منه: بمعنى أنَّه لا يُؤْجَرُ عليه، بل يأثمُ بتصرفه في مال غيره بغير إذنه، ولا يحصلُ للمالك بذلك أجرٌ، لعدم قصده ونيته، كذا قاله جماعةٌ من العلماء، منهم: ابنُ عقيلٍ من أصحابنا، وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي أنَّه سال سعيد بنَ المسيب قال: وجدت لقطةً، أفأتصدق بها؟ قال: لا تُؤجر أنت ولا صاحبُها
(1)
. ولَعلَّ مرادَه إذا تَصدَّقَ بها قبلَ تعريفها الواجب. ولو أخذ السلطانُ، أو بعضُ نوابه من بيت المال ما لا يستحقه، فتصدق منه أو أعتق
(2)
، أو بنى به مسجدًا أو غيره مما ينتفع به الناسُ، فالمنقولُ عن ابنِ عمر أنَّه كالغاصبِ إذا تصدق بما غصبه، كذلك قال لعبد الله بن عامر أميرِ البصرة، وكان الناس قد اجتمعُوا عنده في حال موته وهم يُثنون عليه ببرة وإحسانه، وابن عمر ساكتٌ، فطلب منه أنَّ يتكلَّم، فروى له حديث:"لا يقبلُ الله صدقةً من غُلولٍ"، ثم قال له: وكنت على البصرة
(3)
.
وقال أسدُ بنُ موسى في "كتاب الورع ": حدثنا الفضيلُ بن عياض، عن منصور، عن تميم بن سلمة قال: قال ابنُ عامر لعبد الله بنِ عمر: أرأيتَ هذا العقاب التي نُسَهِّلُها، والعيون التي نُفجِّرُها، أَلَنا فيها أجرٌ؟ فقال ابن عمر: أما علمتَ أنَّ خبيثًا لا يُكَفِّرُ خبيثًا قط؟
حدثنا عبدُ الرحمن بنُ زياد، عن أبي مليح، عن ميمون بنِ مِهران قال: قال ابنُ عمر لابنِ عامر وقد سأله عن العتق: مَثَلُكَ مثلُ رجلٍ سرق إبلَ حاجٍّ، ثم جاهد بها في سبيل الله، فانظر هل يقبل منه؟
وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع كطاووسٍ ووهيب بن الورد
(1)
انظر "مصنف عبد الرزاق"(18622).
(2)
في (أ) و (ب): "وأعتق".
(3)
رواه أحمد 2/ 20 و 51 و 73، ومسلم (224).
يَتَوقَّوْن الانتفاع بما أحدثه مثلُ هؤلاء الملوك، وأما الإمام أحمد رحمه الله، فإنه رخَّصَ فيما فعلوه من المنافع العامة، كالمساجد والقناطر والمصانع، فإنَّ هذه يُنفق عليها من مال الفيء، اللهمّ إلَّا أنَّ يتيقَّن أنهم فعلوا شيئًا من ذلك بمالٍ حرام كالمُكوس والغصوب ونحوها، فحينئذ يتوقَّى الانتفاع بما عمل بالمال الحرام، ولعلَّ ابنَ عمر إنما أنكر عليهم أخذَهُم لأموال بيت المال لأنفسهم، ودعواهم أنَّ ما فعلوه منها بعد ذلك، فهو صدقة منهم، فإنَّ هذا شبيه بالغصوب، وعلى مثل هذا يُحمل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد.
قال أبو الفرج بنُ الجوزي: رأيت بعضَ المتقدمين سئل عمن كسب حلالًا وحرامًا من السلاطين والأمراء، ثم بنى الأربطة والمساجد: هل له ثواب؟ فأفتى بما يُوجِبُ طيب قلب المنفق، وأنَّ له في إيقاف ما لا يملكه نوعٍ سمسرة؛ لأنَّه لا يعرف أعيان المغصوبين، فيرد عليهم. قال: فقلتُ واعجبًا من متصدِّرين للفتوى لا يعرفونَ أصولَ الشريعة، ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أوَّلًا، فإن كان سلطانًا، فما يخرج من بيت المال، قد عرفت وجوهُ مصارفِه، فكيف يمنع مستحقيه، ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة أو رباط؟ وإن كان مِن الأمراء ونوَّاب السلاطين، فيجب أن يردَّ ما يجب ردُّه إلى بيت المال، وإن كان حرامًا أو غصَبًا، فكلُّ تصرف فيه حرام، والواجب ردُّه على من أخذ منه أو ورثته، فإنَّ لم يعرف ردّ إلى بيت المال يصرف في المصالح أو في الصدقة، ولم يحظ آخذه بغير الإثم. انتهى.
وإنما كلامُه في السلاطين الذين عهدهم في وقته الذين يمنعون المستحقين من الفيء حقوقهم، ويتصرَّفونَ فيه لأنفسهم تصرف المُلَّاكِ ببناء ما ينسبونه إليهم من مدارسَ وأربطةٍ ونحوها مما قد لا يحتاج إليه، ويخص به قومًا دون قوم، فأما لو فرض إمامٌ عادلٌ يعطي الناس حقوقهم من الفيء، ثم يبني لهم
منه ما يحتاجون إليه من مسجدٍ أو مدرسة، أو مارستان، ونحوِ ذلك كان ذلك جائزًا، ولو كان بعضُ من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بنى بما أخذه بناء محتاجًا إليه في حال، يجوز البناء فيه من بيتِ المال، لكنه نسبه إلى نفسه، فقد يتخرَّجُ على الخلاف في الغاصب إذا ردَّ المالَ إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة هل يبرأ بذلك أم لا؟ وهذا كله إذا بني على قدر الحاجة من غير سرفٍ ولا زخرفةٍ. وقد أمر عمرُ بنُ عبد العزيز بترميم مسجد البصرة من مال بيت المال، ونهاهم أنَّ يتجاوزوا ما تصدَّع منه، وقال: إني لم أجد للبنيان في مال الله حقًا. ورُوي عنه أنَّه قال: لا حاجة للمسلمين فيما أضرَّ ببيت مالهم.
واعلم أنَّ من العلماء من جعل تصرُّف الغاصب ونحوه في مال غيره موقوفًا على إجازة مالكه، فإنَّ أجاز تصرُّفه فيه، جاز، وقد حكى بعضُ أصحابنا روايةً عن أحمد أنَّ من أخرج زكاته من مالٍ مغصوبٍ، ثم أجازه له المالك، جاز وسقطت عنه الزكاة، وكذلك خرج ابن أبي موسى روايةً عن أحمد أنَّه إذا أعتق عبدَ غيره عن نفسه ملتزمًا ضمانه في ماله، ثم أجازه المالك جاز، ونفذ عتقه، وهو خلافُ نصِّ أحمد. وحكي عن الحنفية أنَّه لو غصب شاة، فذبحها لمتعته وقرانه، ثم أجازها المالك أجزأت عنه.
الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب: أنَّ يتصدَّق به عن صاحبه إذا عجز عن ردِّه إليه أو إلى
(1)
ورثته، فهذا جائزٌ عند أكثر العلماء، منهم مالك، وأبو حنيفة، وأحمد وغيرهم. قال ابنُ عبد البر: ذهب الزُّهري ومالك والثوري، والأوزاعي، والليث إلى أنَّ الغالَّ إذا تفرَّق أهلُ العسكر ولم يَصِلْ إليهم أنَّه يدفع إلى الإمام خمسه، ويتصدق بالباقي
(2)
، روي ذلك عن عُبادة بن
(1)
في (أ) و (ب): "وإلى".
(2)
وقال الحافظ في "الفتح" 6/ 186: قال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ على الغالِّ أنْ يعيد=
الصامت ومعاوية، والحسن البصري، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس لأنهما كانا يريان أنَّ يتصدَّق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، قال: وقدَ أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مخيرًا بين الأجر والضمان، وكذلك الغصوب. انتهى.
وروي عن مالك بن دينار، قال: سألتُ عطاء بن أبي رباح عمن عنده مالٌ حرام، ولا يعرف أربابه، ويريدُ الخروج منه؟ قال: يتصدق به ولا أقول: إن ذلك يُجزئ عنه. قال مالك: كان هذا القول من عطاء أحبَّ إلي من وزنه ذهبًا.
وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئًا مغصوبًا: يردة إليهم، فإنَّ لم يقدر عليهم، تصدَّق به كلَّه، ولا يأخذ رأس ماله، وكذا قال فيمن باع شيئًا ممن تكره معاملته لشبهة ماله، قال: يتصدَّقُ بالثمن، وخالفه ابنُ المبارك، وقال: يتصدق بالرِّبح خاصَّةً. وقال أحمد: يتصدَّق بالربح.
وكذا قال فيمن ورث مالًا من أبيه، وكان أبوه يبيعُ ممَّن تكره معاملته: أنَّه يتصدَّق منه بمقدار الرِّبح، ويأخذ الباقي. وقد رُوي عن طائفةٍ من الصَّحابة نحوُ ذلك: منهم عمرُ بنُ الخطاب، وعبدُ الله بنُ يزيد الأنصاري.
والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنّها تُحفظ، ولا يُتَصَدَّقُ بها حتى يظهر مستحقُّها.
وكان الفضيلُ بنُ عياض يرى أنَّ من عنده مالٌ حرامٌ لا يعرف أربابه، أنَّه يُتلفه، ويُلقيه في البحر، ولا يتصدَّق به، وقال: لا يتقرَّب إلى الله إلَّا بالطيب. والصحيح الصدقةُ به؛ لأنَّ إتلاف المال واضاعته منهيٌّ عنه، و إرصاده أبدًا تعريض له للإتلاف، واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه
= ما غل قبل القسمة، وأما بعدها، فقال الثوري والأوزاعي ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه، ويتصدق بالباقي.
حتى يكونَ تقرُّبًا منه بالخبيث، وإنَّما هي صدقةٌ عن مالكه، ليكون نفعُه له في الآخرة حيث يتعذَّرُ عليه الانتفاعُ به في الدنيا.
وقوله: "ثم ذكر الرجل يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ، يمدّ يديه إلى السَّماء: يا رب، يا رب، ومطعمُه حرام، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟! ".
هذا الكلام أشار فيه صلى الله عليه وسلم إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابَته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة:
أحدها: إطالةُ السفر، والسفر بمجرَّده يقتضي إجابةَ الدعاء، كما في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شك فيهن: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافر، ودعوةُ الوالد لولده"
(1)
خرَّجه أبو داود وابن ماجه والترمذي، وعنده:"دعوة الوالد على ولده ".
وروي مثله عن ابن مسعود من قوله.
ومتى طال السفر، كان أقربَ إلى إجابةِ الدُّعاء؛ لأنَّه مَظِنَّةُ حصول انكسار النفس بطول الغُربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاق، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء.
والثاني: حصولُ التبذُّل في اللِّباس والهيئة بالشعث والإغبرار، وهو - أيضًا - من المقتضيات لإجابة الدُّعاء، كما في الحديث المشهور عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ربَّ
(1)
حديث حسن رواه أبو داود (1536)، والترمذي (1905) و (3448)، وابن ماجه (3862)، وأحمد 2/ 258، والبخاري في "الأدب المفرد"(32) و (481)، وصححه ابن حبان (2699)، وله شاهد يتقوى به من حديث عقبة بن عامر عند أحمد 4/ 154.
أشعث أغبرَ ذي طِمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه"
(1)
. ولما خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم للاستسقاء، خرج متبذِّلًا متواضعًا متضرِّعًا
(2)
. وكان مُطَرِّفُ بنُ عبد الله قد حُبسَ له ابنُ أخٍ، فلبس خُلْقان ثيابه، وأخذ عكازًا بيده، فقيل له: ما هذا؟ قال: أستكين لربي، لعلَّه أنَّ يشفِّعني في ابن أخي
(3)
.
الثالث: مدُّ يديه إلى السَّماء، وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إجابته، وفي حديث سلمانَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله تعالى حييُّ كريمٌ، يستحي إذا رفع الرجلُ إليه يديه أنَّ يردَّهما صِفرًا خائبتين" خرجه الِإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه
(4)
. وروي نحوه من حديث أنس
(5)
وجابر
(6)
وغيرهما.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياضُ إبطيه
(7)
، ورَفَع
(1)
رواه مسلم (2622) و (2846)، وابن حبان (6483).
(2)
روى أحمد 1/ 230، والترمذي (559)، والنسائي 3/ 163، وابن ماجه (1266)، وأبو داود (1165) عن ابن عباسٍ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذلًا متمسكنًا متضرعًا متواضعًا، وصححه ابن حبان (2862)، واللفظ له.
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخه" 16/ 290، والذهبي في "السير" 4/ 195.
(4)
رواه أحمد 5/ 438، وأبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865)، وصححه ابن حبان (876) و (880)، والحاكم 1/ 497، ووافقه الذهبي، وجود إسناده الحافظ في "الفتح" 11/ 143.
(5)
رواه عبد الرزاق (19648)، والطبراني في "الدعاء"(204) و (205)، والحاكم 1/ 497 - 498، والبغوي (1386) بأسانيد ضعيفة.
(6)
رواه أبو يعلى (1867)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 149، وزاد نسبته للطبراني في "الأوسط"، وقال: فيه يوسف بن محمد بن المنكدر، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهما رجال الصحيح.
(7)
رواه من حديث أنس البخاري (1031)، ومسلم (895)، وصححه ابن حبان (2895).
يديه يومَ بدرٍ يستنصرُ على المشركين حتى سقط رداؤه عن منكبيه
(1)
.
وقد روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صفة رفع يديه في الدُّعاء أنواعٌ متعددة، فمنها أنَّه كان يُشير بأصبعه السَّبَّابةِ فقط، وروي عنه أنه كان يفعل ذلك على المنبر
(2)
، وفعله لما ركب راحلته
(3)
.
وذهب جماعة من العلماء إلى أنَّ دعاء القنوت في الصلاة يُشير فيه بأصبعه، منهم الأوزاعي وسعيدُ بن عبد العزيز، وإسحاق بن راهويه. وقال ابن عباسٍ وغيره: هذا هو الإخلاص في الدعاء
(4)
. وعن ابنُ سيرين: إذا أثنيت على الله، فأَشِرْ بأصبعٍ واحدة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه وجعل ظُهورَهما إلى جهةِ القبلة وهو مستقبلها، وجعل بطونهما ممَّا يلي وجهَه. وقد رُويت هذه الصِّفةُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء
(5)
، واستحبّ بعضُهمُ الرفعَ في الاستسقاء على هذه الصفة، منهم الجوزجاني.
وقال بعض السلف: الرفع على هذا الوجه تضرُّع.
(1)
رواه من حديث عمر مسلم (1763) وابن حبان (4793).
(2)
رواه من حديث عمارة بن رويبة أحمد 4/ 135، ومسلم (874)، والنسائي 3/ 108، وأبو داود (1104)، وصححه ابن حبان (882).
(3)
وذلك في خُطبته في حجة الوداع كما رواه مسلم (1763) وغيره من حديث جابر الطويل في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
رواه ابن أبي شيبة 10/ 287 و 381، وعبد الرزاق (3244)، والبيهقي 2/ 133.
(5)
انظر حديث أنس في البخاري (1031)، ومسلم (895).
وحديث عمير مولى آبي اللحم عند أبي داود (1168)، وأحمد 5/ 223، وصححه الحاكم 1/ 327، ووافقه الذهبي.
ومنها عكسُ ذلك، وقد رُوي عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أيضًا
(1)
، ورُوي عن جماعة من السَّلف أنهم كانوا يدعون كذلك، وقال بعضهم: الرفع على هذا الوجه استجارةٌ بالله عز وجل، واستعاذة به، منهم: ابنُ عمر، وابنُ عباسٍ، وأبو هريرة، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان إذا استعاذَ، رفع يديه على هذا الوجه
(2)
.
ومنها رفع يديه، جعل كفَّيه إلى السَّماء وظهورهما إلى الأرض. وقد ورد الأمرُ بذلك في سُؤال الله عز وجل في غيرِ حديث، وعن ابن عمر، وأبي هريرة، وابن سيرين أنَّ هذا هو الدُعاء والسُّؤال لله عز وجل.
ومنها عكسُ ذلك، وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء وبطونهما مما يلي الأرض. وفي "صحيح مسلم"
(3)
عن أنس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفَّيه إلى السَّماء. وخرجه الِإمام أحمد
(4)
رحمه الله ولفظه: "فبسط يديه، وجعل ظاهرهما مما يلي السماء". وخرجه أبو داود
(5)
، ولفظه: استسقى هكذا يعني: مدّ يديه، وجعل بطونَهما مما يلي الأرض.
وخرج الإِمام أحمد
(6)
من حديث أبي سعيد الخدري، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفة يدعو هكذا ورفع يديه حيال ثُنْدوتِه، وجعل بُطونَ كفَّيه مما يلي
(1)
في سنن أبي داود (1171) من حديث أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.
(2)
رواه أحمد 4/ 56 عن خلاد بن السائب مرسلًا، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 168، وقال: إسناده حسن!.
(3)
برقم (896).
(4)
"المسند" 3/ 241.
(5)
برقم (1171)، وإسناده صحيح.
(6)
في "المسند" 3/ 13. ورواه أيضًا ابن أبي شيبة 10/ 287، وذكره الهيثمي في "المجمع " 10/ 168، وقال: فيه بشر بن حرب، وهو ضعيف.
الأرض. وهكذا وصف حمادُ بن سلمة رفع النبيُّ صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة. ورُوي عن ابن سيرينَ أنَّ هذا هو الاستجارة. وقال الحميدي: هذا هو الابتهالُ.
والرابع: الإِلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته، وهو مِنْ أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء، وخرَّج البزارُ
(1)
من حديث عائشة مرفوعًا: "إذا قال العبدُ: يا ربَّ أربعًا، قال الله: لَبَّيْكَ عَبدي، سل تُعْطَه ".
وخرج الطبراني وغيره من حديث سعد بن خارجة: أنَّ قومًا شَكَوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قُحُوط المطر، فقال:"اجثُوا على الرُّكَب، وقولوا: يا ربَّ يا ربَّ" ورفع السَّبَّابة إلى السَّماء، فسُقُوا حتى أحبُّوا أنَّ يُكشَفَ عنهم
(2)
.
وفي "المسند" وغيره عن الفضل بن عباسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاةُ مثنى مثنى، وتَشَهُّدٌ في كلِّ ركعتين، وتضرُّعٌ، وتخشع وتمسكنٌ، وتُقنِعُ يَديك - يقول: ترفعهما إلى ربِّك مستقبلًا بهما وجهَك - وتقول: يا ربّ ياربّ، فمن لم يفعل ذلك فهي خِداجٌ"
(3)
.
وقال يزيد الرَّقاشي عن أنس: ما مِنْ عبدٍ يقول: يا ربَّ يا ربَّ يا ربّ، إلا قال له ربُّه:"لبيك لبيك ".
(1)
برقم (3145)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 159، وقال: فيه الحكم بن سعيد الأموي، وهو ضعيف.
(2)
لا يصح، ورواه البزار (665)، والبخاري في "التاريخ" 6/ 457، وفي سنده عامر بن خارجة، قال البخاري: في إسناده نظر. وقال أبو حاتم فيما نقله عنه ابنه 3/ 188: إسناده منكر.
(3)
رواه أحمد 1/ 211، والترمذي (385)، وفي سنده عبد الله بن نافع بن العمياء، وهو مجهول.
ورواه أحمد 4/ 167، وأبو داود (1296)، وابن ماجه (1325) من حديث المطلب بن ربيعة، وفيه أيضًا عبد الله بن نافع بن العمياء.
وروي عن أبي الدرداء وابن عباسٍ أنهما كانا يقولان: اسم الله الأكبر ربِّ ربِّ
(1)
وعن عطاءٍ قال: ما قال عبدٌ يا ربُّ يا ربُّ ثلاث مرات، إلَّا نظر الله إليه، فذكر ذلك للحسن، فقال: أما تقرؤون القرآن؟ ثم تلا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران: 191 - 195]
(2)
.
ومن تأمَّل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالبًا تفتتح باسم الرَّبِّ، كقوله تعالى:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، وقوله:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]. ومثل هذا في القرآن كثير.
وسئل مالك وسفيان عمَّن يقول في الدعاء: يا سيدي، فقالا: يقول: يا ربّ. زاد مالك: كما قالت الأنبياء في دعائهم.
وأما ما يمنع إجابة الدعاء، فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنَّه التوسُّع في الحرام أكلًا
(1)
رواه ابن أبي شيبة 10/ 272، وصححه الحاكم 1/ 505، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 410، وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 3/ 313.
وشربًا ولبسًا وتغذيةً، وقد سبق حديثُ ابن عباسٍ في هذا المعنى أيضًا، وأن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال لسعد:"أَطِبْ مطعمَكَ، تَكُن مُستجاب الدعوة"
(1)
فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجبٌ لإجابة الدعاء.
ورَوى عكرمةُ بن عمار: حدَّثنا الأصفر، قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: تُستجابُ دعوتُك من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما رفعتُ إلى فمي لقمةً إلا وأنا عالمٌ من أين مجيئُها، ومن أين خرجت.
وعن وهب بن مُنبِّه قال: من سرَّه أنَّ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته. وعن سهل بن عبد الله قال: من أكل الحلال أربعين صباحًا أُجيبَت دعوتُه. وعن يوسف بن أسباط قال: بلغنا أنَّ دعاءَ العبد يحبس عن السماوات بسوءِ المطعم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فأنَّى يستجاب لذلك" معناه: كيف يُستجاب له؟ فهو استفهامٌ وقع على وجه التَّعجُّب والاستبعاد، وليس صريحًا في استحالة الاستجابة، ومنعها بالكلية، فَيُؤْخَذُ من هذا أنَّ التوسُّع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإِجابة، وقد يُوجد ما يمنعُ هذا المانع من منعه، وقد يكونُ ارتكابُ المحرمات الفعلية مانعًا من الإجابة أيضًا، وكذلك ترك الواجبات كما في الحديث أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع استجابة دعاء الأخيار، وفعل الطاعات يكون موجبًا لاستجابة الدعاء
(2)
. ولهذا لمَّا توسَّل الذين دخلوا الغارَ، وانطبقت
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
روى أحمد 6/ 159، والبزار (3304) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: مُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبلَ أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم ". وذكره الهيثمي في "المجمع" 7/ 266، وقال: روى ابن ماجه (4004) بعضه، وفيه عاصم بن عمر أحد المجاهيل.
وله شاهد من حديث حذيفة رواه الترمذي (2169)، وفيه عبد الله بن عبد الرحمن=
عليهمُ الصخرةُ بأعمالهم الصالحةِ التي أخلصوا فيها لله تعالى ودَعُوا الله بها، أجيبت دعوتهم
(1)
.
وقال وهب بن مُنبِّه: مَثَلُ الذي يدعو بغير عمل، كمثل الذي يرمي بغير وَتَر
(2)
. وعنه قال: العملُ الصالحُ يبلغ الدعاء، ثم تلا قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
وعن عمر قال: بالورع عما حرَّم الله يقبلُ الله الدعاء والتسبيحَ.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: يكفي مع البرِّ من الدعاء مثلُ ما يكفي الطعامُ من الملح
(3)
.
وقال محمد بن واسع: يكفي من الدعاء مع الورع اليسيرُ، وقيل لسفيان: لو دعوتَ الله؟ قال: إن تركَ الذنوب هو الدعاء.
وقال ليث: رأى موسى عليه السلام رجلًا رافعًا يديه وهو يسأل الله مجتهدًا، فقال موسى: أي ربَّ عبدُك دعاكَ حتى رحمتَه، وأنت أرحمُ الراحمين، فما صنعتَ في حاجته؟ فقال: يا موسى لو رفع يديه حتَّى يَنقَطِعَ ما نظرتُ في حاجته حتى ينظر في حقِّي.
وخرج الطبراني بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابن عباسٍ مرفوعًا معناه.
وقال مالك بنُ دينار: أصاب بني إسرائيل بلاءٌ، فخرجوا مخرجًا، فأوحى الله تعالى إلى نبيِّه أنَّ أَخبرهم أنكم تخرُجون إلى الصَّعيد بأبدانٍ نجسة،
= الأنصاري، لم يوثقه غير ابن حبان، وانظر "المجمع" 7/ 266.
(1)
انظر "البخاري"(2215)، و"مسلمًا"(2743)، وابن حبان (897).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(322)، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 53.
(3)
رواه أحمد في "الزهد" ص 146، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 164.
وترفعون إليَّ أكُفًّا قد سفكتُم بها الدماء وملأتم بها بيوتَكم من الحرام، الآن اشتدَّ غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بعدًا.
وقال بعض السلف: لا تستبطئ الإِجابة، وقد سددتَ طرقها بالمعاصي، وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
نحن نَدْعُو الإله في كُلِّ كَربٍ
…
ثُمَّ نَنساهً عِندَ كَشفِ الكُروبِ
كَيْفَ نَرجُو إجابةً لدُعاءٍ
…
قَدْ سَدَدْنا طرِيقَها بالذُّنوب
الحديث الحادي عشر
عَنِ الحَسَنِ بن علي سِبْطِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورَيحَانَتِهِ رضي الله عنه قال: حَفِظْتُ مِنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لَا يَرِيبُكَ" رواه النَّسَائِي والتِّرمِذيُّ، وقال: حَسَنٌ صحيحٌ
(1)
.
هذا الحديث خرّجه الِإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابنُ حبان في "صحيحه" والحاكم من حديث بُريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء، عن الحسن بن عليّ، وصححه الترمذي، وأبو الحوراء السعدي، قال الأكثرون: اسمه ربيعةُ بنُ شيبان، ووثقه النَّسَائِي وابن حبان
(2)
، وتوقف أحمد في أن أبا الحوراء اسمه ربيعةُ بن شيبان، ومال إلى التفرقة بينهما، وقال الجوزجاني: أبو الحوراء مجهول لا يعرف
(3)
.
وهذا الحديثُ قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر، وعند الترمذي
(1)
حديث صحيح رواه عبد الرزاق في "المصنف"(4984) وأحمد 1/ 200، والترمذي (2518) والنسائي 8/ 327، والطيالسي (1178)، والدارمي 2/ 245، والطبراني في "الكبير"(2708) و (2711)، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 264، والبغوي في "شرح السنة"(2032)، وصححه ابن حبان (722)، والحاكم 2/ 13، و 4/ 99.
(2)
ووثقه العجلي، وابن خلفون، والذهبي، وابن حجر.
(3)
في هذا النقل عن الجوزجاني نظرٌ؛ فإني لم أجده في كتابه "أحوال الرجال"، ولو سلمنا بثبوت ذلك عنه، فإنه لا يقدح في أبي الحوراء، فقد عرفه من هو أعلمُ من الجوزجاني ووثقه.
وغيره زيادة في هذا الحديث وهي "فإنَّ الصِّدق طُمأنينة وإنَّ الكذب ريبة"، ولفظ ابنِ حِبان:"فإن الخير طمأنينة، وإن الشرَّ ريبة".
وقد خرجه الإمامُ أحمد
(1)
بإسنادٍ فيه جهالة عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك" وخرجه من وجهٍ آخر أجود منه موقوفًا على أنس.
وخرجه الطبراني
(2)
من رواية مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، قال الدارقطني: وإنَّما يُروى هذا من قول ابنِ عمر، وعن عمر، ويُروى عن مالك من قوله. انتهى.
ويروى بإسنادٍ ضعيف، عن عثمان بنِ عطاء الخراساني - وهو ضعيف - عن أبيه، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل:"دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُك" قال: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: "إذا أردتَ أمرًا، فضع يَدَك على صدرِكَ، فإن القلبَ يضطرب للحرام، ويسكن للحلال، وإن المسلم الورعَ يدع الصغيرةَ مخافةَ الكبيرة". وقد رُوي عن عطاء الخراساني مرسلًا.
وخرَّج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وزاد فيه: قيل له: فمن الورعُ؟ قال: "الذي يقف عند الشبهة"
(3)
.
(1)
3/ 153، والرواية الموقوفة في الصفحة 112.
(2)
في "المعجم الصغير" برقم (284) وفي سنده عبد الله بن أبي رومان وهو ضعيفُ الحديثِ، روى مناكير.
ورواه أبو الشيخ في "الأمثال"(40) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" 2/ 243، وفي "الحلية" 6/ 352، والقضاعي في "مسند الشهاب"(645) والخطيب في "تاريخ بغداد" 2/ 220 و 387، و 6/ 386.
(3)
هو في معجم الطبراني الكبير 22 (197)، قال في "المجمع" 10/ 294: وفيه إسماعيل بن عبد الله الكندي، وهو ضعيف.
وقد روي هذا الكلام موقوفًا على جماعة من الصحابة: منهم عُمَرُ، وابنُ عمرَ، وأبو الدرداء، وعن ابنِ مسعود، قال: ما تريدُ إلى ما يَريبُكَ وحولَك أربعةُ آلاف لا تَريبُكَ؟!
رِباً وقال عمر دَعُوا الرِّبا والرِّيبة، يعني: ما ارتبتم فيه، وإن لم تتحققوا أنه رِبًا.
ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها، فإنَّ الحلالَ المحض لا يَحْصُلُ للمؤمن في قلبه منه ريب - والريب: بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفسُ، ويطمئن به القلبُ، وأما المشتبهات فيَحْصُل بها للقلوب القلقُ والاضطرابُ الموجب للشك.
وقال أبو عبد الرحمن العمري الزاهد: إذا كان العبدُ ورعًا، ترك ما يَريبه إلى ما لا يَريبُه.
وقال الفضيلُ: يزعم الناسُ أنَّ الورعَ شديدٌ، وما ورد على أمران إلا أخذتُ بأشدِّهما، فدع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك.
وقال حسانُ بن أبي سنان: ما شيء أهون من الورع، إذا رابك شيءٍ، فدعه. وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله.
قال ابن المبارك: كتب غلامٌ لحسانَ بن أبي سنان إليه مِن الأهواز: إن قَصَبَ السكر أصابته آفةٌ، فاشتر السكر فيما قِبَلَكَ، فاشتراه من رجل، فلم يأت عليه إلا قليلٌ فإذا فيما اشترى ربحَ ثلاثين ألفًا، قال: فأتى صاحبَ السُّكر، فقال: يا هذا إِن غلامي كان كتب إليَّ، فلم أُعْلِمكَ، فأَقلْني فيما اشتريت منك، فقال له الآخر: قد أعلمتني الآن، وقد طَيَّبتُه لك، قال: فرجع فلم يحتمل قَلْبُهُ، فأتاه، فقال: يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه، فأُحِبُّ أنَّ تستردَّ هذا البَيع، قال: فما زال به حتى ردَّ عليه.
وكان يونُس بنُ عبيد إذا طُلِبَ المتاعُ ونَفَقَ، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له: أعْلِمْ من تشتري منه أنَّ المتاعَ قد طُلِبَ.
وقال هشامُ بنُ حسان: ترك محمدُ بنُ سيرين أربعين ألفًا فيما لا ترون به اليومَ بأسًا.
وكان الحجاج بنُ دينار قد بعث طعامًا إلى البصرة مع رجلٍ وأمره أنَّ يبيعه يَوْمَ يدخل بسعر يومه، فأتاه كتابه: إني قدمت البصرة، فوجدتُ الطعام مبغَّضًا فحبستُه، فزاد الطعامُ، فازددتُ فيه كذا وكذا، فكتب إليه الحجاج: إنك قد خُنتنا، وعملتَ بخلافِ ما أمرناك به، فإذا أتاك كتابي، فتصدَّق بجميع ثمن ذلك الطعام على فقراء البصرة، فليتني أسلم إذا فعلتَ ذلك.
وتنزّه يزيدُ بنُ زُريع عن خمس مئة ألف من ميراث أبيه، فلم يأخذه، وكان أبوه يلي الأعمالَ للسلاطين، وكان يزيدُ يعملُ الخُوص
(1)
، ويتقوَّتُ منه إلى أنَّ مات رحمه الله.
وكان المِسْوَرُ بنُ مَخرَمَةَ قد احتكر طعامًا كثيرًا، فرأى سحابًا في الخريف فكرهه، فقال: ألا أُراني قد كرهت ما يَنفعُ المسلمين؟ فآلى أنَّ لا يربحَ فيه شيئًا، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال له عمر: جزاك الله خيرًا.
وفي هذا أنَّ المحتكر ينبغي له التنزُّه عن ربح ما احتكره احتكارًا منهيًا عنه، وقد نصَّ الإمامُ أحمد رحمه الله على التنزُّه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لِدخوله في ربح ما لم يضمن، وقد نهى عنه النبيُّ
(2)
صلى الله عليه وسلم، فقال أحمد في رواية
(1)
الخوص بضم الخاء: ورق النخل يُصنع منه الزنبيل، ويُسمى الذي يعمل ذلك منه الخواص.
(2)
رواه أبو داود في "السنن"(3504) من طريق أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعه. قال ابن القيم في "تهذيب السنن" 5/ 153: وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يُضمن، فهو كما ثبت عنه في حديث عبد الله بن عمر، حيث قال له: إني أبيع الإبل=
عنه فيمن أجر ما استأجره بربحٍ: إنه يتصدَّق بالربح، وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب: إنه يتصدق به، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة قبل صلاحها بشرط القطع، ثم تركها حتى بدا صلاحها: إنه يتصدَّق بالزيادة، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب؛ لأن الصدقة بالشبهات مستحب.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئِلَتْ عن أكل الصيدِ للمحرم، فقالت: إنما هي أيامٌ قلائل فما رابك، فدعه يعني ما اشتبه عليك: هل هو حلال أو حرام، فاتركه، فإن الناسَ اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يَصِدْه هُوَ.
وقد يستدلُّ بهذا على أن الخروج من اختلاف العلماء أفضلُ؛ لأنَّه أبعدُ عن الشبهة، ولكن المحققون مِن العلماء من أصحابنا وغيرهم على أن هذا ليس هو على إطلاقه، فإن من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم رخصة ليس لها معارض، فاتباعُ تلك الرخصة أولى من اجتنابها، وإن لم تكن تلك الرخصة بلغت بعضَ العلماء، فامتنع منها لذلك، وهذا كمن تَيَقَّن الطهارة، وشكَّ في الحدث، فإنَّه صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يَنْصَرِفْ حتَّى يَسمع صوتًا أو يَجِدَ ريحًا"
(1)
ولا سيما إن كان شكُّه في الصلاة، فإنَّه لا يجوز له قطعُها لِصحة النهي
= بالبقيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، وأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، فقال:"لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها وتفرقتما، وليس بينكما شيءٍ". فجوز ذلك بشرطين، أحدهما: أن يأخذ بسعر يوم الصرف لئلا يربح فيها ويستقر ضمانه، والثاني: أن لا يتفرقا إلا عن تقابض؛ لأنَّه شرط في صحة الصرف لئلا يدخله ربا النسيئة.
(1)
رواه البخاري (137) ومسلم (361) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري: "شُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يُخيل إليه أنه يجد الشيءَ في الصلاة، قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا".=
عنه، وإن كان بعض العلماء يوجب ذلك.
وإن كان للرخصة معارض، إما من سنة أخرى، أو من عمل الأُمَّةِ بخلافها، فالأولى تركُ العمل بها، وكذا لو كان قد عمل بها شذوذٌ من الناس، واشتهر في الأمة العملُ بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة، فإن الأخذ بما عليه عملُ المسلمين هو المتعيَّنُ، فإن هذه الأمة قد أجارها الله أنَّ يظهر أهلُ باطلها على أهل حَقِّها، فما ظهر العملُ به في القرون الثلاثة المفضلة، فهو الحقُّ، وما عداه فهو باطل.
وها هنا أمر ينبغي التفطنُ له وهو أن التدقيقَ في التوقف عن الشبهات إنما يَصْلُحُ لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعمالُه في التقوى والورع، فأما مَنْ يقع في انتهاك المحرَّمات الظاهرة، ثم يريد أنَّ يتورَّعَ عن شيءٍ من دقائق الشُّبَهِ، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل يُنكر عليه، كما قال ابنُ عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألوني عن دم البعوض وقد قتلُوا الحسين، وسمعتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقول:"هُمَا رَيحَانَتاي من الدُّنيا"
(1)
.
وسأل رجلٌ بشرَ بنَ الحارث عن رجلٍ له زوجةٌ وأُمُّه تأمره بطلاقها، فقال: إن كان بَرَّ أمه في كُلِّ شيءٍ، ولم يبق من برِّها إلا طلاقُ زوجته فليفعلْ، وإن كان يَبَرُّها بطلاق زوجته، ثم يقوم بعد ذلك إلى أُمِّه، فيضربها، فلا يفعل.
وسئل الإِمامُ أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلًا، ويشترط الخُوصة: يعني التي تُربط بها جُرْزَةُ البقل، فقال أحمد: أيشٍ هذه المسائل؟! قيل له:
= ورواه مسلم (362) من حديث أبي هريرة بلفظ: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أَخَرَج منه شيءٌ أم لا، فلا يَخرُجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا".
(1)
رواه البخاري (3753)، وصححه ابن حبان (6969)، وانظر تمام تخريجه فيه.
إنه إبراهيمَ بن أبي نعيم، فقال أحمد: إن كان إبراهيمُ بنُ أبي نعيم، فنعم هذا يُشبه ذاك.
وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا، وقد كان الِإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع، فإنه أمر من يشتري له سمنًا، فجاء به على ورقة، فأمر بردِّ الورقة إلى البائع. وكان أحمد لا يستمدُّ من محابر أصحابه، وإنما يُخرج معه مِحبرَةً يستمدُّ منها، واستأذنه رجل أنَّ يكتب من محبرته، فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذنه آخر في ذلك فتبسَّم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان يُنكِرُه على من لم يَصِلْ إلى هذا المقام، بل يتسامحُ في المكروهات الظاهرة، ويقدم على الشبهات، من غير توقف.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنَّ الخيرَ طُمأنينة وإن الشرَّ ريبة" يعني: أنَّ الخيرَ تطمئنُّ به القلوبُ، والشرَّ ترتابُ به، ولا تطمئنّ إليه، وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه، وسيأتي مزيدٌ لهذا الكلام على حديث
(1)
النواس بن سمعان إن شاء الله تعالى.
وخرَّج ابنُ جرير
(2)
بإسناده عن قتادة عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الآية:
(1)
وهو الحديث السابع والعشرون.
(2)
في "جامع البيان" 7/ 29. وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" 8/ 321: وقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: طرقاتها، رواه العَوْفيُّ عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
والثاني: جبالها، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، ويه قال قتادة، واختاره الزجاج، قال: لأن المعنى: سهُل لكم السلوك فيها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها، فهو أبلغ في التذليل.=
{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] ثم قال لجاريته: إن دَرَيْتِ ما مناكِبُها، فأنت حُرة لوجه الله، قالت: مناكبُها: جبالُها، فكأنما سُمعَ في وجهه، ورغب في جاريته، فسألهم، فمنهم من أمره، ومنهم من نهاه، فسأل أبا الدرداء، فقال: الخيرُ طمأنينة والشر ريبة، فذَرْ ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وقوله في الرواية الأخرى: "إنَّ الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة" يشير إلى أنَّه لا ينبغي الاعتمادُ على قول كلِّ قائلٍ كما قال في حديث وابصة: "وإنْ أفتاك الناسُ وأفتوكَ" وإنما يُعْتَمَدُ على قولِ مَنْ يقول الصدقَ، وعلامةُ الصدق أنَّه تطمئن به القلوبُ، وعلامة الكذب أنه تحصل به الريبةُ، فلا تسكن القلوبُ إليه، بل تَنفِرُ منه.
ومن هنا كان العقلاء في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا كلامَه وما يدعو إليه، عرفوا أنه صادق، وأنَّه جاء بالحق، وإذا سمعوا كلامَ مسيلمة، عرفوا أنه كاذب، وأنَّه جاء بالباطل، وقد رُوي أن عمرو بن العاص سمعه قبلَ إسلامه يَدَّعي أنه أُنْزِلَ عليه: يا وَيْرُ يا وَيْرُ، لَكِ أذنان وصَدْر، وإنَّك لتعلم يا عمرو، فقال: والله إني لأعلم أنك تَكْذِبُ.
وقال بعضُ المتقدمين: صوِّرْ ما شئتَ في قلبك، وتفكر فيه، ثم قِسه إلى ضدِّه، فإنك إذا ميَّزْتَ بينهما، عرفتَ الحقَّ من الباطل، والصدقَ من الكذب، قال: كأنك تَصَوَّرُ محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم تتفكر فيما أتى به من القرآن فتقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} الآية [البقرة: 164]، ثم تتَصوَّرُ ضِدَّ محمد صلى الله عليه وسلم، فتجده مسيلمة، فتتفكر فيما جاء به فتقرأ:
= والثالث: في جوانبها، قاله مفاتل، والفراء، وأبو عبيدة، واختاره ابنُ قتيبة، وقال: ومنكبا الرجل: جانباه.
ألا يَا رَبَّة المَخْدَع
…
قَدْ هُيئ لَكِ المَضْجَعْ
يعني قوله لِسجاح
(1)
حين تزوَّج بها، قال: فترى هذا - يعني القرآن - رصينًا عجيبًا، يلوطُ بالقلب، ويَحْسُنُ في السمع، وترى ذا - يعني قول مسيلمة - باردًا غثًّا فاحشًا، فتعلم أن محمدًا حق أُتِي بوحي، وأن مسيلمة كذَّاب أُتِيَ بباطل.
(1)
هي سجاح بنت الحارث التميمية التي ادعت النبوة في الردة، وتبعها قوم، ثم صالحت مسيلمة وتزوجته، ثم بعد قتله عادت إلى الإِسلام، فأسلمت وعاشت إلى خلافة معاوية، وتوفيت بالبصرة، وصلى عليها سمرة بن جندب والي البصرة لمعاوية. انظر "الإِصابة" 4/ 331 و"شرح المقامات" للشريشي 4/ 35 - 36.
الحديث الثاني عشر
عَنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ"
(1)
حديثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ التِّرمذيُّ وغَيرُهُ.
هذا الحديث خرّجه الترمذي، وابن ماجه من رواية الأوزاعي، عن قُرَّةَ بنِ عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنهم، وقال الترمذي: غريب، وقد حسنه الشيخ المصنف رحمه الله؛ لأن رجال إسناده ثقات، وقرة بن عبد الرحمن بن حيويل وثقه قوم وضعفه آخرون، وقال ابنُ عبد البرِّ: هذا الحديثُ محفوظ عن الزهري بهذا الِإسناد من رواية الثقات، وهذا موافق لتحسين الشيخ له، وأما أكثر الأئمة، فقالوا: ليس هو بمحفوظ بهذا الِإسناد وإنما هو محفوظٌ عن الزهري، عن عليّ بن حسين، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، كذلك رواه الثقات عن الزهري، منهم مالك في الموطأ
(2)
، ويونس، ومعمر، وإبراهيم بن سعد إلا أنه قال:"من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه" وممن قال: إنه لا يصح إلا عن على بن حسين مرسلًا الِإمام أحمد، ويحيى بن معين،
(1)
حديث حسن لغيره، رواه الترمذي (2317) وابن ماجه (3976) وابن حبان (229)، ورواه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(108) عن سعد بن زنبور، عن عبد الرحمن بن عبد الله العمري (وهو متروك)، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وفي الباب عن أبي ذر، وزيد بن ثابت، والحارث بن هشام، وعلي بن أبي طالب، وانظر شرح الطحاوية 1/ 342 طبع مؤسسة الرسالة.
(2)
2/ 903.
والبخاري، والدارقطني، وقد خلط الضعفاء في إسناده على الزهري تخليطًا فاحشًا، والصحيح فيه المرسل، ورواه عبد الله بن عمر العمري عن الزهري عن عليِّ بن حسين عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوصله وجعله من مسند الحسين بن عليّ، وخرَّجه الِإمامُ أحمد في "مسنده"
(1)
من هذا الوجه، والعمري ليس بالحافظ، وخرَّجه
(2)
أيضًا من وجه آخر عن الحسين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وضعفه البخاري في "تاريخه"
(3)
من هذا الوجه أيضًا، وقال: لا يصحُ إلا عن عليّ بن حسين مرسلًا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر وكُلُّها ضعيفة.
وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإِمامُ أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال: جماعُ آداب الخير وأزمته تتفرَّعُ من أربعة أحاديث: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخر فليَقُلْ خَيرًا أو ليَصْمُتْ" وقوله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسنِ إسلام المَرءِ تَركُهُ ما لَا يَعْنِيهِ" وقوله للذي اختصر له في الوصية: "لا تَغْضَبْ "، وقوله صلى الله عليه وسلم:"المُؤْمِنُ يُحبُ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه".
ومعنى هذا الحديث: أن مِنْ حسن إسلامه تَركَ ما لا يعنيه من قولٍ وفعلٍ، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعالِ؛ ومعنى يعنيه: أنَّه تتعلق عنايتُه به، ويكونُ من مقصده ومطلوبه، والعنايةُ: شدَّةُ الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه: إذا اهتمَّ به وطلبه، وليس المُراد أنه يترك ما لا عناية له ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والِإسلام، ولهذا جعله من حسن الإِسلام، فإذا حَسُنَ إسلامُ المرء، ترك ما لا يعنيه في الإِسلام من الأقوال
(1)
1/ 201.
(2)
"المسند" 1/ 201.
(3)
4/ 220.
والأفعال، فإنَّ الإسلامَ يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام.
وإن الإسلام الكاملَ الممدوحَ يدخل فيه تركُ المحرمات، كما قال صلى الله عليه وسلم:"المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده"
(1)
وإذا حسن الإسلامُ، اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإنَّ هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامُه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أنَّ يَعْبُدَ الله تعالى كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنَّ الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإِسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنَّه يتولَّدُ من هذين المقامين الاستحياءُ من الله وترك كلِّ ما يُستحيى منه، كما وصَّى صلى الله عليه وسلم رجلًا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل من صالحي عشيرته لا يُفارقه. وفي "المسند" والترمذي عن ابن مسعود مرفوعًا:"الاستحياء من الله تعالى أنَّ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وما حَوَى، وتَحفَظَ البَطنَ وما وَعَى، ولْتَذْكُرِ الموتَ والبِلى، فمن فَعَل ذلك، فقد استحيَى من الله حقَّ الحياء"
(2)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
ضعيف رواه أحمد 3/ 387، والترمذي (2458)، والحاكم 4/ 323، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة (450) من طرق عن أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد (تحرف في "المستدرك" إلى الصباح بن محارب)، عن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، وهذا سند ضعيف. والصباح بن محمد لم يرو عنه غير أبان بن إسحاق، وقال ابن حبان: كان يروي عن الثقات الموضوعات، وذكره العقيلي في "الضعفاء" وقال: في حديثه وهم يرفع الموقوف، وقال الترمذي بإثر حديثه هذا: هذا حديث غريب (أي: ضعيف) إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد.=
قال بعضهم: استحي من الله على قدر قربه منك، وخَفِ الله على قدر قدرته عليك.
وقال بعضُ العارفين: إذا تكلمتَ، فاذْكُر سَمعَ اللهِ لك، وإذا سكتَّ، فاذكر نظره إليك.
وقد وقعتِ الإشارةُ في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع: كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16، 17، 18]، وقوله تعالى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]، وقال تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].
وأكثر ما يُراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة (ق).
= وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 405: والصباح مختلف فيه، وتُكلم فيه لرفعه هذا الحديث، وقالوا: الصواب موقوف.
وقال ابن حجر في "التقريب ": ضعيف. وقال الذهبي في "الميزان": رفع حديثين هما من قول عبد الله. قلت: يعني هذا الحديث وحديثًا آخر في "المسند" بإثر هذا الحديث.
ورواه الطبراني في "الصغير"(494) وفيه ثلاثة ضعفاء، ثم هو منقطع.
ورواه الطبراني في "الأوسط" من حديث عائشة، وفي سنده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وهو متروك كما في "المجمع" 10/ 284.
ورواه الطبراني في "الكبير"(3192) من حديث الحكم بن عمير، وفي سنده عيسى بن إبراهيم القرشي، قال البخاري: منكر الحديث، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك.
وفي "المسند" من حديث الحسين، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ من حُسْنِ إسلامِ المَرءِ قِلَّةَ الكَلامِ فيما لا يَعنيه"
(1)
.
وخرّج الخرائطي
(2)
من حديث ابن مسعود قال: أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله إني مطاعٌ في قومي فما آمرهم؟ قال له: "مُرْهُم بإفشاء السَّلام، وقِلَّةِ الكلام إلا فيما يعنيهم ".
وفي "صحيح ابن حبان"
(3)
عن أبي ذرٍّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكونَ له ساعات: ساعةٌ يُناجى فيها ربَّه، وساعةٌ يُحاسِبُ فيها نَفسه، وساعةٌ يتفكَّرُ فيها في صُنع الله، وساعةٌ يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أنَّ لا يكون ظاعنًا إلا لثلاث: تزوُّدٍ لمعاد، أو مَرَمَّةٍ لمعاشٍ، أو لذَّةٍ في غير محرَّم؛ وعلى العاقل أنَّ يكونَ بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومَنْ حَسَب كلامَه من عمله، قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه ".
وقال عمر بنُ عبد العزيز رحمه الله: من عدَّ كلامه من عمله، قلَ كلامُه إلا فيما يعنيه. وهو كما قال، فإنَّ كثيرًا من الناس لا يعدُّ كلامَه من عمله، فيُجازف فيه، ولا يتحرَّى، وقد خَفِيَ هذا على معاذ بن جبل حتى سأل عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أنؤاخذ بما نتكلَّمُ به؟ قال: "ثَكِلَتكَ أُمُّك يا معاذ، وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم؟ "
(4)
.
(1)
رواه أحمد 1/ 201، والطبراني في "الكبير"(2886) وفي الصغير 2/ 11 وهو حسن لغيره.
(2)
في "مكارم الأخلاق"(196)، وفي سنده السري بن إسماعيل الكوفي صاحب الشعبي، قال ابن القطان: استبان لي كذبه في مجلس واحد وقال النَّسَائِي وغيره: متروك.
(3)
رقم (361)، وهو حديث مطول، وهو ضعيف جدًا في سنده إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني الدمشقي، كذبه أبو حاتم وأبو زُرعة، وقال الذهبي: متروك.
(4)
قطعة من الحديث المطول الذي سيرد برقم (29).
وقد نفى الله الخير عن كثيرٍ مما يتناجى به الناسُ بينهم، فقال:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
وخرَّج الترمذي، وابن ماجه من حديث أمِّ حبيبة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلُّ كلام ابن آدمَ عليه لا له إلا الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر، وذكرَ الله عز وجل"
(1)
.
وقد تعجب قومٌ من هذا الحديثِ عندَ سفيان الثوري، فقال سفيان: وما تعجُّبُكم من هذا، أليسَ قد قال الله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] أليس قد قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]؟
وخرَّج الترمذي من حديث أنس قال: تُوفِّيَ رجُلٌ من أصحابه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل يعني: أبشرْ بالجَنَّةِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أولا تدري، فلعلَّه تَكلَّم بِما لا يَعنيه أو بَخِلَ بما لا يُغنِيه"
(2)
. وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه
(1)
رواه الترمذي (2412) وابن ماجه (3974)، وقال الترمذي: حديث حسن مع أن في سنده أمَّ صالح، لا تعرف.
(2)
رواه الترمذي (2316) وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 55 - 56 من طريق الأعمش عن أنس، ورجاله ثقات إلا أن الأعمش لا يثبت له سماع من أنس، وقال المنذري: رجاله ثقات.
ورواه أبو يعلى في "مسنده"(4017) وابن أبي الدنيا في "الصمت"(109) من طريق عبد الرحمن بن صالح الأزدي: حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي عن الأعمش عن أنس قال: استشهد غُلامٌ مِنَّا يومَ أُحد، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحتْ أمُّه الترابَ عن وجهه، وقالت: هنيئًا لك يا بُنيَّ الجنّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما يُدريك لعلَّه كان يتكلَّم فيما لا يعنيهِ ولا يمنَعُ ما لا يضرُه".=
متعددة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها: أنه قتل شهيدًا.
وخرَّج أبو القاسم البغوي في "معجمه" من حديث شهاب بن مالك وكان وفَدَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سَمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقالت له امرأة: يا رسولَ إله ألا تُسلمُ علينا؟ فقال: "إنك من قَبيل يُقَلِّلن الكثيرَ، وتمنع ما لا يُغنيها، وتسأل عما لا يعنيها"
(1)
.
وخرَّج العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أكثرُ الناسِ ذنوبًا أكثَرُهُم كلامًا فيما لا يَعنيه"
(2)
.
قال عمرو بنُ قيس الملائي: مرَّ رجلٌ بلقمان والناسُ عندَه، فقال له: ألستَ عبدَ بني فلان؟ قال: بلى، قال: الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صِدْقُ الحديثِ وطولُ السُّكوت عما لا يعنيني.
وقال وهبُ بنُ مُنبِّهٍ: كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا على الماء، فبينما هما يمشيان في البحر إذا هما برجل يمشي على الهواء،
= وروى أبو يعلى والبيهقي عن أبي هريرة قال: قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدًا، فبكت عليه باكية، فقالت: واشهيداه، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يدريكِ أنه شهيد، لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يَبخلُ فيما لا ينقصُه".
قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 302 - 303: وفيه عصام بن طليق، وهو ضعيف.
وقوله: "أوَلا تدري بفتح الواو على أنها عاطفة على محذوف، أي: أتُبشِّرُ ولا تدري، أو تقول هذا ولا تدري ما تقول.
(1)
في سنده من لا يعرف، وأورده الحافظ في "الإصابة" 2/ 155، وزاد نسبته إلى علي بن سعيد العسكري وابن قانع.
(2)
أورده الحافظ السيوطي في "الجامع الكبير" 1/ 127، ونسبه في "الثواب" والعسكري في "الأمثال" وابن لال وابن النجَّار وضعفه.
فقالا له: يا عبدَ الله بأيِّ شيءٍ أدركت هذه المنزلة؟ قال: بيسيرٍ من الدُّنيا: فَطَمْتُ نفسي عن الشهوات، وكففتُ لساني عما لا يعنيني، ورغبتُ فيما دعاني إليه، ولزمت الصمتَ، فإن أقسمت على الله، أبرَّ قسمي، وإن سألته أعطاني.
دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلَّلُ، فسألوه عن سبب تهلل وجهه، فقال: ما مِنْ عمل أوثقَ عندي من خَصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين.
وقال مُوَرِّق العجلي: أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدِرْ عليه ولستُ بتاركٍ طلبه أبدًا، قالوا: وما هو؟ قال: الكفُّ عما لا يعنيني. رواه ابن أبي الدنيا.
وروى أسدُ بن موسى، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أوَّل من يَدخُلُ عليكم رَجُلٌ من أهل الجنة" فدخل عبدُ الله بنُ سلام، فقامَ إليه ناسٌ، فأخبروه، وقالوا: أخبرنا بأوثق عَمَلِكَ في. نَفسِكَ، قال: إنَّ عملي لضعيف، أوثقُ ما أرجو به سلامةُ الصدر، وتركي ما لا يعنيني
(1)
وروى أبو عبيدة، عن الحسن قال: مِنْ علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه. وقال سهل بنُ عبد الله التُّستَرِي: من تكلم فيما
(1)
إسناده ضعيف. أبو معشر - واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي - ضعيف أَسَنَّ واختلط.
قلت: وروى أحمد 1/ 169 و 182 بإسناد حسن عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة من ثَريد، فأكل، ففضل منه فضلة، فقال:"يدخل من هذا الفج رجل من أهل الجنة يأكل هذه الفضلة" قال سعد: وقد كنت تركت أخي عمير بن أبي وقَاص يتهيَّأ لِأنْ يَأْتي النبي صلى الله عليه وسلم، فطمعتُ أنَّ يكون هو، فجاء عبد الله بن سلام، فأكلها. وصححه الحاكم 3/ 416، ووافقه الذهبي.
لا يعنيه، حُرِمَ الصدق، وقال معروف: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من اللهِ عز وجل.
وهذا الحديث يدلُّ على أن تركَ ما لا يعني المرء من حسن إسلامه، فإذا ترك ما لا يعنيه، وفعل ما يعنيه كله، فقد كَمُلَ حُسْنُ إسلامه، وقد جاءت الأحاديثُ بفضل من حسن إسلامُه وأنَّه تضاعف حسناته، وتُكفر سيئاته، والظاهر أن كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام، ففي صحيح مسلم
(1)
عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحْسَنَ أحَدُكُم إسلامَهُ، فكُلُّ حَسَنةٍ يَعْمَلُها تُكتَبُ بعَشرِ أَمْثالِها إلى سبع مئة ضِعفٍ، وكلُّ سَيَئةٍ يعملها تُكتَبُ بمثلِها حتَّى يَلقى اللهَ عز وجل " فالمضاعفةُ للحسنة بعشر أمثالها لا بدَّ منه، والزيادةُ على ذلك تكونُ بحسب إحسان الإِسلام، وإخلاصِ النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله، كالنفقة في الجهاد، وفي الحج، وفي الأقارب، وفي اليتامى والمساكين، وأوقات الحاجة إلى النفقة، ويشهد لذلك ما رُوي عن عطية، عن ابن عمر قال: نزلت: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 165] في الأعراب، قيل له: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثرُ، ثم تلا قوله تعالى:{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
وخرَّج النَّسَائِي
(2)
من حديث أبي سعيد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أسلمَ
(1)
رقم (129).
(2)
8/ 105 - 106 من طريق صفوان بن صالح، حدثنا الوليد، حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، وهذا سند صحيح، وعلقه البخاري في "صحيحه"(41) واختصر منه ألفاظًا، فقال: قال مالك: أخبرني زيد بن أسلم
…
، قال الحافظ: ووصله النَّسَائِي من رواية الوليد بن مسلم: حدثنا مالك. فذكره أتم مما هنا، وكذا وصله الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن نافع، والبزار من طريق إسحاق =
العبدُ فحَسُنَ إسلامُهُ، كَتَبَ الله له كُلَّ حَسنةٍ كان أزلَفَها، ومُحِيتْ عنه كُلُّ سيئة كان أزلَفَها، ثم كان بَعْدَ ذلك القِصَاصُ، الحسَنَةُ بعَشْر أمثالِها إلى سَبع مئةِ ضِعفٍ، والسَّيِّئَةُ بمِثلِها إلا أنَّ يتجاوَزَ الله"، وفي روايةَ أخرى: "وقيل له: ائتنف العمل".
والمراد بالحسنات والسيئات التي كان أزلفها: ما سبق منه قبل الإسلام، وهذا يدلُّ على أنَّه يُثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم وتُمحى عنه سيئاته إذا أسلم، لكن بشرط أن يَحْسُنَ إسلامُه، ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه، وقد نص على ذلك الإِمام أحمد، ويدلُّ على ذلك ما في "الصحيحين"
(1)
عن ابن مسعود قال: قلنا: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "أما مَنْ أحسَنَ منكم في الإسلام فلا يُؤَاخَذُ بها، ومن أساءَ أُخِذَ بعمله في الجاهلية والإسلام".
وفي "صحيح مسلم"
(2)
عن عمرو بن العاص قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لما أسلم: أريدُ أن أشْتَرطَ، قال:"تشترط ماذا؟ " قلتُ: أنَّ يُغْفَرَ لي، قال:"أما عَلمتَ أن الإسلامَ يَهدِمُ ما كان قبله؟ ". وخرَّجه الإِمام أحمد ولفظه: "إن الإِسلام يَجُبُّ ما كان قبله من الذنوب" وهذا محمولٌ على الإسلام الكامل الحسن جمعًا بينه وبين حديث ابن مسعودٍ الذي قبله.
وفي صحيح مسلم
(3)
أيضًا عن حكيم بن حزامِ قال: قلتُ: يا رسول الله أرأيتَ أمورًا كنت أصنعها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم، أفيها أجرٌ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَسْلَمْتَ على ما أَسْلَفْتَ من خيرٍ" وفي رواية له:
(1)
البخاري (6921) ومسلم (120).
(2)
رقم (121) وهو في "المسند" 4/ 205.
(3)
رقم (23).
قال: فقلتُ: والله لا أدعُ شيئًا صنعتُه في الجاهلية إلا صنعتُ في الإسلام مثله، وهذا يدلّ على أن حسنات الكافر إذا أسلم يُثابُ عليها كما دلَّ عليه حديث أبي سعيد المتقدِّم
(1)
.
وقد قيل: إن سيئاته في الشرك تبدَّل حسنات، ويُثابُ عليها أخذًا من قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68، 69، 70]، وقد اختلف المفسرون في هذا التبديل على قولين:
فمنهم مَنْ قال: هو في الدنيا بمعنى أنَّ الله يُبَدِّلُ من أسلم وتاب إليه، بَدَلَ ما كان عليه من الكفر والمعاصي: الإيمان والأعمال الصالحة، وحكى هذا القول إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" عن أكثر المفسرين، وسمى منهم ابنَ عباسٍ، وعطاء، وقتادة، والسُّدي، وعِكرمة. قلت: وهو المشهورُ عن الحسن.
قال: وقال الحسن وأبو مالك وغيرهما: هي في أهل الشرك خاصة ليس هي في أهل الإِسلام. قلت: إنما يصحُّ هذا القول على أنَّ يكونَ التبديلُ في الآخرة كما سيأتي، وأما إن قيل: إنه في الدنيا، فالكافرُ إذا أسلم والمسلمُ إذا تاب في ذلك سواء، بل المسلم إذا تاب، فهو أحسنُ حالًا من الكافر إذا أسلم.
قال: وقال آخرون: التبديلُ في الآخرة: جعلت لهم مكان كلِّ سيئةٍ حسنة، منهم عمرو بن ميمون، ومكحول، وابن المسيب، وعلي بن الحسين قال: وأنكره أبو العالية، ومجاهد، وخالد سبلان، وفيه موضع إنكار، ثم ذكر ما حاصلهُ
(1)
انظر لزامًا "فتح الباري" 1/ 99 - 100.
أنه يلزمُ من ذلك أنَّ يكونَ مَنْ كثرت سيئاته أحسنَ حالًا ممن قلَّت سيئاته حيث يُعطى مكان كلّ سيئة حسنة، ثم قال: ولو قال قائل: إنما ذكر الله أنَّ يُبدل السيئات حسنات ولم يذكر العدد كيف تبدل، فيجوز أن معنى تبدل: أن من عمل سيئة واحدة وتاب منها تبدل مئةَ ألفِ حسنةٍ، ومن عمل ألف سيئة أنَّ تبدَّل ألف حسنة، فيكون حينئذ من قلت سيئاته أحسن حالًا.
قلت: هذا القول - وهو التبديل في الآخرة - قد أنكره أبو العالية، وتلا قوله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] وردّه بعضهم بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]، وقوله تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] ولكن قد أجيب عن هذا بأن التائبَ يُوقف على سيئاته، ثم تبدَّل حسنات، قال أبو عثمان النهدي: إن المؤمن يُؤتى كتابَه في سَتْر من الله عز وجل، فيقرأ سيئاته، فإذا قرأ تغيَّر لها لونُه حتى يمرَّ بحسناته، فيقرؤها فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاتُه قد بُدِّلت حسناتٍ، فعند ذلك يقول:{هاؤم اقرؤوا كتابيه}
(1)
[الحاقة:
(1)
رواه ابن أبي حاتم فيما نقله عنه ابن كثير 8/ 241 طبعة الشعب، عن بشر بن مطر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان
…
وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 280، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
ورواية أبي عثمان عن سلمان رواها ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 6/ 138 من طريق أبي سلمة وعارم، كلاهما عن ثابت بن يزيد، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمانَ قال: يُعطى رجل يوم القيامة صحيفته، فيقرأ أعلاها، فإذا سيئاتُه، فإذا كاد يسؤ ظنه، نظر في أسفلها، فإذا حسناته، ثم ينظر في أعلاها، فإذا هي قد بُدِّلت حسنات.
19] ورواه بعضهم عن أبي عثمان عن ابن مسعود، وقال بعضهم: عن أبي عثمان عن سلمان.
وفي "صحيح مسلم"
(1)
من حديث أبي ذرٍّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أهلِ الجنةِ دُخولًا الجنَة، وآخِرَ أهلِ النارِ خروجًا منها، رجلٌ يُؤتَى به يوم القيامةِ فيقال: اعرِضُوا عليه صِغارَ ذنوبه، وارفَعُوا عنه كِبارَهَا، فيَعْرِضُ الله عليه صِغارَ ذنوبهِ، فيقالُ له: عَمِلْتَ يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعَمِلْتَ يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن يُنكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإنَّ لك مكانَ كُلِّ سيئةٍ حسنةً، فيقول: با ربَّ قد عمِلْتُ أشياء لا أراها هاهنا" قال: فلقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بدت نواجذه.
فإذا بُدِّلَت السيئاتُ بالحسنات في حقِّ من عوقِبَ على ذنوبه بالنار، ففي حقِّ من مَحى سيئاته بالإسلام والتوبة النصوح أولى؛ لأن مَحْوَها بذلك أحبُّ إلى الله من محوها بالعقاب.
وخَرَّج الحاكم
(2)
من طريق الفضل بن موسى، عن أبي العنبس، عن أبيه، عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليتَمنَّينَّ أقوامٌ أنَّهم أكثَرُوا من السيِّئاتِ "، قالوا: بِمَ يا رسولَ الله؟ قال: "الذين بَدَّل الله سيئاتِهم حسنات "، وخرَّجه ابنُ أبي حاتم
(3)
من طريق سليمان أبي داود الزهري عن أبي العنبس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفًا، وهو أشبهُ مِن المرفوع، ويروى مثلُ هذا عن الحسن البصري أيضًا يُخالف قولَه المشهور: إن التبديلَ في الدنيا.
(1)
رقم (190).
(2)
4/ 29، وقال أبو العنبس هذا: سعيد بن كثير، وإسناده صحيح، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3)
أورده ابن كثير في "التفسير" 6/ 138 عن ابن أبي حاتم عن أبيه، عن هشام بن عمار، حدثنا سليمان بن موسى أبو داود الزهري بهذا الِإسناد. وسليمان بن موسى فيه لين.
وأما ما ذكره الحربي في التبديل، وأن من قلَّت سيئاتُه يُزاد في حسناته، ومن كثرت سيئاتُه يُقَلَّلُ من حسناته، فحديثُ أبي ذرٍّ صريحٌ في ردِّ هذا، وأنَّه يُعطى مكان كلّ سيئة حسنة.
وأما قوله: يَلْزَمُ من ذلك أنَّ يكون مَنْ كَثُرَت سيئاتُه أحسنَ حالًا ممن قلَّتْ سيئاتُهُ، فيقال: إنما التبديلُ في حقِّ مَنْ نَدِمَ على سيئاته، وجعلها نصبَ عينيه، فكلما ذكرها ازداد خوفًا، ووجلًا، وحياء من الله، ومسارعة إلى الأعمال الصالحة المكفرة كما قال تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70] وما ذكرناه كله داخل في العمل الصالح ومن كانت هذه حاله، فإنَّه يتجرَّعُ من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعافَ ما ذاق من حلاوتها عندَ فعلها، ويصيرُ كلُّ ذنبٍ من ذنوبه سببًا لأعمال صالحةٍ ماحية له، فلا يُستنكر بعد هذا تبديل هذه الذنوب حسنات.
وقد ورَدَت أحاديثُ صريحةٌ في أنَّ الكافرَ إذا أسلم، وحَسُنَ إسلامُه، تبدَّلت سيئاتُه في الشِّرْك حسنات، فخرَّج الطبراني
(1)
من حديث عبد الرحمن بن
(1)
في "الكبير"(7235) قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 32 و 10/ 202، وعندهما:"عن أبي طويل" بدله عن أبي فروة.
ورواه الطبراني والبزار (3244) بنحوه، ورجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هارون أبي نشيط، وهو ثقة.
وأورده الحافظ في "الإِصابة" 2/ 149 وزاد نسبته إلى البغوي، وابن زبر، وابن السكن، وابن أبي عاصم، وقال: هو على شرط الصحيح، وقد وجدت له طريقًا أخرى، قال ابن أبي الدنيا في كتاب "حسن الظن" (146): حدثنا عبيد الله بن جرير، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا نوح بن قيس، عن أشعث بن جابر الحداني، عن مكحول، عن عمرو بن عبسة قال:"إن شيخًا كبيرًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعم على عصا، فقال: يا نبيّ الله إن لي غَدراتٍ وفجراتٍ فهل تُغفر لي؟ فقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: "فإن الله قد غفر لك غدراتك=
جبير بن نفير عن أبي فروة شطب أنَّه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ رجلًا عَمِلَ الذنوب كُلَّها، ولم يترك حاجةً ولا داجةً، فهل له مِنْ توبة؟ فقال:"أسلمتَ؟ " قال: نَعَمْ، قال:"فافعلِ الخيراتِ، واترك السيئات، فيجعلها الله لك خيراتٍ كلها"، قال: وغَدَرَاتي وفَجَراتي؟ قال: "نعم"، قال: فما زال يُكبِّرُ حتَّى توارَى. وخرجه
(1)
من وجه آخر بإسناد ضعيف عن سلمة بن نفيل، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وخرَّج ابنُ أبي حاتم نحوه من حديث مكحول مرسلًا، وخرَّج البزارُ الحديثَ الأوَّل وعنده: عن أبي طويل شطب الممدود أنَّه أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه، وكذا خرَّجه أبو القاسم البغوي في "معجمه"، وذكر أن الصوابَ عن عبد الرحمن بن جُبير بن نفير مرسلًا أن رجلًا أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم طوي شَطْب، والشطب في اللغة: الممدود، فصحفه بعض الرواة، وظنه اسم رجل
(2)
.
= وفجراتك" فانطلق وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر وهذا ليس فيه انقطاع بين مكحول وعمرو بن عبسة.
وقوله: "لم يترك حاجة ولا داجة" الداج: أتباع الحاج كالخدم والأُجراء، وقال الخطابي: الحاجَّةُ القاصدون البيت، والداجَّة: الراجعون، قال: والمشهور التخفيف، أراد بالحاجة: الحاجة الصغيرة، والداجة: الحاجة الكبيرة.
(1)
أي: الطبراني، وهو في "معجمه الكبير" برقم (6361) وفي سنده ياسين بن معاذ الزيات. قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 31: يروي الموضوعات. قلت: في "الميزان": 4/ 358. قال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النَّسَائِي وابن الجنيد: متروك، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات.
(2)
نقله الحافظ في "الإصابة" 2/ 149 عن البغوي، ولم يتعقبه.
الحديث الثالث عشر
عَنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفسه". رواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ
(1)
.
هذا الحديث خرجاه في "الصحيحين" من حديث قتادة عن أنسٍ، ولفظُ مسلم "حَتَّى يُحِبَّ لجاره أو لأخيه" بالشَّكِّ.
وخرَّجه الإمام أحمد، ولفظه:"لا يبلغُ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتَّى يحبَّ للناس ما يُحِبُّ لنفسه من الخِير".
وهذه الرواية تبيِّنُ معنى الرِّواية المخرجة في "الصحيحين"، وأنَّ المرادَ بنفي الِإيمان نفيُ بلوغِ حقيقته ونهايته، فإنَّ الِإيمانَ كثيرًا ما يُنفى لانتفاءِ بعض أركانِهِ وواجباته، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزَّاني حِينَ يَزني وهو مؤمن، ولا يسرِقُ السارقُ حين يسرقُ وهو مؤمنٌ، ولا يشربُ الخمرَ حين يشربها وهو مؤمنٌ"
(2)
، وقوله:"لا يُؤْمِنُ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بوائِقَه"
(3)
.
(1)
رواه البخاري (13) ومسلم (45) وأحمد 3/ 176 و 251 و 272 و 289، والترمذي (5215)، وابن ماجه (66)، والنسائي 5/ 118، وصححه ابن حبان (234) و (235)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 376، والبخاري (2475) ومسلم (57)، وصححه ابن حبان (168).
(3)
رواه من حديث أبي هريرة البخاري (6016) ومسلم (46) وأحمد 2/ 288، ومن=
وقد اختلف العلماءُ في مرتكب الكبائر: هل يُسفى مؤمنًا ناقصَ الإِيمان، أم لا يُسمى مؤمنًا؟ وإنَّما يُقالُ: هو مسلم، وليس بمؤمنٍ على قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمد.
فأمَّا من ارتكبَ الصَّغائرَ، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية، بل هو مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكبَ من ذلك.
والقولُ بأنَّ مرتكب الكبائر يقال له: مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ مرويٌّ عن جابرِ بنِ عبد الله، وهو قولُ ابن المبارك وإسحاق وأبي عُبيد وغيرهم، والقول بأنه مسلمٌ، ليس بمؤمنٍ مرويٌّ عنَ أبي جعفر محمد بن علي، وذكر بعضُهم أنَّه المختارُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ.
وقال ابنُ عباسٍ: الزاني يُنزَعُ منه نورُ الإيمان
(1)
. وقال أبو هريرة: يُنْزَعُ منه الإيمانُ، فيكون فوقَه كالظُّلَّةِ، فإذا تابَ عاد إليه.
وقال عبدُ الله بن رواحة وأبو الدرداء: الإيمانُ كالقميصِ، يَلبَسُه الإنسانُ تارةً، ويخلعه أخرى، وكذا قال الِإمام أحمد رحمه الله وغيره
(2)
، والمعنى: أنَّه إذا كمَّل خصالَ الإيمان، لبسه، فإذا نقصَ منها شيئًا نزعه، وكلُّ هذا إشارةٌ إلى الإيمان الكامل التام الذي لا يَنْقُصُ من واجباته شيءٍ.
والمقصودُ أن مِن جملة خِصال الِإيمانِ الواجبةِ أن يُحِبَّ المرءُ لأخيه المؤمنِ ما يدب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فإذا زالَ ذلك عنه، فقد نَقَصَ إيمانُهُ بذلك. وقد رُوِيَ أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: "أَحِبَّ للناسِ ما تُحبُّ لنفسِك
= حديث أبي شريح الكعبي البخاري (6016)، وأحمد 4/ 31، ومن حديث أنس ابن حبان (510).
(1)
رواه الآجري في "الشريعة" ص 115.
(2)
وكذا قال سفيان الثوري كما في "الحلية" 7/ 32.
تكن مسلمًا" خرَّجه الترمذي وابن ماجه
(1)
.
وخرَّج الإمام أحمد في حديث معاذٍ أنَّه سألَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن أفضلِ الإيمان، قال:"أفضل الإيمانِ أن تُحِبَّ للهِ وتُبغِضَ للهِ، وتعْملَ لسانَك في ذكر الله"، قال: وماذا يا رسول الله؟ قال: "أنْ تُحِبَّ للنَّاس ما تَحبُّ لنفسك، وتكرَه لهم ما تكرة لنفسك، وأن تقول خيرًا أو تَصمُت"
(2)
.
وقد رتَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم دخولَ الجنة على هذه الخَصْلَةِ؛ ففي "مسند" الإِمام أحمد رحمه الله عن يزيد بن أسدٍ القَسْرِي، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحبُّ الجنَّةَ"؟ قلت: نعم، قال:"فأحبَّ لأخيكَ ما تُحبُّ لنفسك"
(3)
.
وفي "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن عمرو بنِ العاص، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أحبَّ أن يُزَحْزَحَ عن النَّارِ ويُدخَلَ الجنة، فلتدركه منيَّتُه وهو يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ، ويأتي إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يُؤْتَى إليه"
(4)
.
وفيه أيضًا عن أبي ذرٍّ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذرٍّ، إني أراكَ ضعيفًا، وإني أحب لك ما أُحبُّ لنفسي لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولَّينَّ مالَ يتيم"
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه ص 202 ت (2).
(2)
رواه أحمد 5/ 247، وفيه زبان بن فائد وابن لهيعة، وهما ضعيفان.
(3)
هو في "المسند" 4/ 70، ورواه الحاكم 4/ 168 وصححه ووافقه الذهبي! وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 186، وقال: رجاله ثقات، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد 2/ 310، والترمذي (2305)، وفي سنده مجهول.
(4)
هو في "صحيح مسلم"(1844)، ورواه أحمد 2/ 161، وأبو داود (4248) والنسائي 7/ 153، وابن ماجه (3956).
(5)
هو في "صحيح مسلم"(1826)، ورواه أبو داود (2868)، والنسائي 6/ 255، وصححه ابن حبان (5564)، وانظر تمام تخريجه فيه.
وإنما نهاه عن ذلك، لما رأى من ضعفه، وهو صلى الله عليه وسلم يحبُّ هذا لكلٍّ ضعيفٍ، وإنما كان يتولَّى أمورَ النَّاس؛ لأنَّ الله قوَّاه على ذلك، وأمره بدعاء الخلْقِ كلّهم إلى طاعته، وأن يتولَّى سياسةَ دينهم ودنياهم.
وقد رُويَ عن علي قال: قال لي النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي أرضى لك ما أرضى لِنفسي، وأكره لك ما أكرهُ لنفسي، لا تقرأ القرآنَ وأنتَ جنبٌ، ولا وأنتَ راكعٌ، ولا أنت ساجد"
(1)
.
وكان محمَّدُ بنُ واسعٍ يبيع حمارًا له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه، وهذه إشارةٌ منه إلى أنَّه لا يرضى لأخيه إلَّا ما يرضى لنفسه، وهذا كلُّه من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي مِنْ جملة الدين كما سبق تفسيرُ ذلك في موضعه.
(1)
رواه بهذا اللفظ الدارقطني 1/ 118 - 119 من حديث أبي موسى الأشعري، وفيه أبو نعيم النخعي، واسمه عبد الرحمن بن هانئ، قال أحمد: ليس بشيء، ورماه يحيى بالكذب، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وكذبه الحافظ في "التلخيص" 1/ 241.
ورواه عبد الرزاق (2836) من حديث علي، وإسناده ضعيف جدًا، فيه الحسن بن عمارة، وهو متروك، وأبو إسحاق السبيعي اختلط، والحارث الأعور ضعيف.
ويُغني عنه ما رواه مالك 1/ 80، وعبد الرزاق (2833) ومسلم (480) وصححه ابن حبان (1895) عن علي رضي الله عنه:"نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ راكعًا وساجدًا".
وروى أحمد 1/ 83 و 84 و 107 و 124 و 134 والترمذي (46) وأبو داود (229) والنسائي 1/ 144 وابن ماجه (594) عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقرئنا القرآن على كلِّ حال ما لم يكن جُنُبًا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم 4/ 107، ووافقه الذهبي!
وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديثَ النعمان بنِ بشير، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَثَلُ المؤمنِينَ في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثلُ الجسدِ إذا اشتكى منه عُضوٌ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسَّهر" خرجاه في "الصحيحين"
(1)
، وهذا يدلُّ على أنَّ المؤمنَ يسوؤه ما يسوءُ أخاه المؤمن، ويُحزِنُه ما يُحزنه.
وحديثُ أنس الذي نتكلَّمُ الآن فيه يدلُّ على أنَّ المؤمن يَسُرُّهُ ما يَسرُّ أخاه المؤمن، ويُريد لأخيه المؤمن ما يُريده لنفسه من الخير، وهذا كُلُّه إنَّما يأتي من كمالِ سلامةِ الصدر من الغلِّ والغشِّ والحسدِ، فإنَّ الحسدَ يقتضي أن يكره الحاسدُ أن يَفوقَه أحدٌ في خير، أو يُساويَه فيه؛ لأنَّه يُحبُّ أن يمتازَ على الناسِ بفضائله، وينفردَ بها عنهم، والإيمانُ يقتضي خلافَ ذلك، وهو أن يَشْرَكَه المؤمنون كُلُّهم فيَما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء.
وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يُريد العلوَّ في الأرض ولا الفساد، فقال:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]. وروى ابنُ جريرٍ بإسنادٍ فيه نظرٌ عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: إنَّ الرَّجُلَ ليُعْجبُهُ مِن شِراكِ نعله أن يكونَ أجودَ من شراكِ صاحبه فَيَدْخُلُ في قوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
(2)
. وكذا رُوي عن الفَضيل بنِ عياض في هذه الآية، قال: لا يُحِبُّ أن يكونَ نعلُه أجودَ من نعل غيره، ولا شِراكُهُ أجودَ مِنْ شراك غيره.
وقد قيل: إن هذا محمولٌ على أنَّه إذا أراد الفخر على غيره لا مجرَّدَ التجمل
(3)
، قال عكرمةُ وغيرُه من المفسرين في هذه الآية: العلوُّ في الأرض:
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
رواه الطبري 20/ 122، وفي إسناده أشعث السمان، وهو متروك.
(3)
وإلى ذلك ذهب الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 6/ 269.
التكبُّر، وطلبُ الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها، والفساد: العمل بالمعاصي
(1)
.
وقد ورد ما يَدُلُّ على أنَّه لا يأثم مَنْ كره أن يفوقَه من الناسِ أحدٌ في الجمال، فخرَّج الإمامُ أحمدُ رحمه الله والحاكم في "صحيحه" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: أتيتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعنده مالكُ بن مرارةَ الرَّهَاوِيُّ، فأدركتُه وهو يقول: يَا رسولَ الله، قد قُسِمَ لي من الجمال ما ترى، فما أحبُّ أحدًا من الناس فضلني بشِراكَيْن فما فوقهما، أليس ذلك هو من البَغي؟ فقال:"لا، ليس ذلك بالبغي، ولكن البغي من بَطِرَ - أو قال: - سفه الحقَّ وغَمَصَ الناس"
(2)
.
وخرَّج أبو داود
(3)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم معناه، وفي حديثه:"الكبر" بدل "البغي".
فنفى أن تكونَ كراهتُه لأن يَفوقَهُ أحدٌ في الجمال بغيًا أو كبرًا، وفسَّر الكبر والبغي ببطر الحقِّ، وهو التكبُّر عليه، والامتناع مِن قبوله كِبرًا إذا خالف هواه. ومن هنا قال بعض السلف: التواضُعُ أن تَقْبَلَ الحق مِن كل من جاء به، وإن كان صغيرًا، فمن قَبِلَ الحقَّ ممَّن جاء به، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، وسواء كان يحبُّه أولا يحبه، فهو متواضع، ومن أبى قَبُولَ الحقّ تعاظُمًا عليه، فهو متكبِّرٌ.
وغمصُ الناس: هو احتقارُهم وازدراؤهم، وذلك يحصُل مِنَ النَّظرِ إلى النفس بعينِ الكمالِ، وإلى غيره بعينِ النَّقص.
(1)
انظر: "تفسير الطبري" 20/ 122 و"الدر المنثور" 6/ 444.
(2)
رواه أحمد 1/ 385 عن إسماعيل، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن، قال ابن مسعود
…
وهذا سند رجاله ثقات لكن في سماع حميد من ابن مسعود وقفة، وصححه الحاكم 4/ 182 ووافقه الذهبي.
(3)
في "السنن"(4092) وإسناده صحيح.
وفي الجملة، فينبغي للمؤمن أن يُحِبَّ للمؤمنين ما يُحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لِنفسه، فإن رأى في أخيه المسلم نقصًا في دينه، اجتهدَ في إصلاحه. قال بعضُ الصالحين مِنَ السلف: أهلُ المحبة لله نظروا بنور الله، وعطَفُوا على أهلِ معاصي الله، مَقَتُوا أعمالهم، وعطفوا عليهم ليزيلوهُم بالمواعظ عن فِعالهم، وأشفقوا على أبدانِهم من النار، لا يكون المؤمنُ مؤمنًا حقًا حتى يرضى للناسِ ما يرضاه لنفسه، وإن رأى في غيره فضيلةً فاق بها عليه فتمنى لنفسه مثلها، فإنَّ كانت تلك الفضيلةً دينية، كان حسنًا، وقد تمنى النبيُّ صلى الله عليه وسلم لنفسه منزلةَ الشَّهادة
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسدَ إلَّا في اثنتين: رجل آتاهُ الله مالًا، فهو يُنفقهُ آناء الليلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجُلٌ آتاهُ الله القرآن، فهو يقرؤهُ آناءَ الليل وآناءَ النهار"
(2)
.
وقال في الذي رأى مَنْ ينفق مالَه في طاعة الله، فقال:"لو أنَّ لي مالًا، لفعلتُ فيه كما فعل، فهما في الأجر سواءٌ"
(3)
وإن كانت دنيويةً، فلا خيرَ في تمنيها، كما قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
(1)
روى البخاري (36) - واللفظ له - ومسلم (1876)، وأحمد 2/ 424، وابن ماجه (2753) عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لولا أن أشقَّ على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولَوددتُ أني أقتل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل". وصححه ابن حبان (4736).
(2)
رواه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 358، والبخاري (73) ومسلم (816) وابن ماجه (4208)، وصححه ابن حبان (90).
ورواه من حديث أبي هريرة البخاري (5026)، ومن حديث ابن عمر البخاري (5025) ومسلم (815)، وابن ماجه (4209)، وصححه ابن حبان (125) و (126).
(3)
رواه البخاري (5026) من حديث أبي هريرة.
وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص: 79 - 80]. وأما قول الله عز وجل: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]، فقد فُسِّرَ ذلك بالحسد، وهو تمنِّي الرجَل نفس ما أُعطي أخوه من أهل ومال، وأن ينتقل ذلك إليه، وفُسِّرَ بتمني ما هو ممتنع شرعًا أو قدرًا، كتمني النِّساءِ أن يكنَّ رجالًا، أو يعَون لهن مثلُ ما للرجالِ من الفضائل الدينية كالجهاد، والدنيوية كالميراثِ والعقلِ والشهادةِ ونحو ذلك. وقيل: إنَّ الآية تشمل ذلك كُلَّه.
ومع هذا كُلِّه، فينبغي للمؤمن أَنْ يحزنَ لفواتِ الفضائل الدينية، ولهذا أُمِرَ أن ينظر في الدين إلى مَنْ فوقَه، وأن يُنافِسَ في طلب ذلك جهده وطاقته، كما قال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] ولا يكره أن أحدًا يُشارِكُه في ذلك، بل يُحِبُّ للناس كُلِّهم المنافسةَ فيه، ويحثُّهم على ذلك، وهو من تمام أداءِ النصيحة للإخوان. قال الفضيلُ: إن كنتَ تحبُّ أن يكونَ الناسُ مثلَك، فما أديتَ النَّصيحة لربِّك، كيف وأنت تحبُّ أن يكونوا دونك؟! يشير إلى أنَّ أداء النَّصيحة لهم أن يُحبَّ أن يكونوا فوقَه، وهذه منزلةٌ عالية، ودرجةٌ رفيعةٌ في النُّصح، وليس ذلك بواجبٍ، وإنَّما المأمورُ به في الشرع أن يُحبَّ أن يكونوا مثلَه، ومع هذا، فإذا فاقه أحدٌ في فضيلة دينية، اجتهد على لَحاقه، وحزن على تقصيرِ نفسه، وتخلُّفِهِ عن لحاق السابقين، لا حسدًا لهم على ما آتاهُم الله، بل منافسةً لهم، وغبطةً وحزنًا على النَّفس بتقصيرها وتخلُّفها عن درجات السابقين.
وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسَه مقصِّرًا عن الدَّرجات العالية، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين: الاجتهاد في طلب الفضائل، والازدياد منها، والنظر إلى نفسه بعينِ النَّقص، وينشأ مِنْ هذا أن يُحِبَّ للمؤمنين أن يكونوا خيرًا منه؛ لأنَّه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثلِ حاله، كما أنَّه لا يرضى لنفسه بما هي عليه،
بل هو يجتهد في إصلاحها. وقد قالَ محمدُ بنُ واسع لابنه: أمَّا أبوكَ، فلا كثَّرَ الله في المسلمين مثلَه
(1)
.
فمن كان لا يرضى عن نفسه، فكيف يُحبُّ للمسلمين أن يكونوا مثلَه مع نصحه لهم؟ بل هو يحبُّ للمسلمين أن يكونوا خيرًا منه، ويحبُّ لنفسه أن يكونَ خيرًا ممَّا هو عليه.
وإن عَلِمَ المرءُ أن الله قد خصَّه على غيره بفضل، فأخبر به لمصلحة دينية، وكان إخباره على وجه التحدُّث بالنِّعمِ، ويرى نفسه مقصرًا في الشُّكر، كان جائزًا، فقد قال ابنُ مسعود: ما أعلم أحدًا أعلمَ بكتاب الله مني، ولا يمنع هذا أن يُحِبَّ للنَّاسِ أنْ يُشاركوه فيما خصَّهُ الله به، فقد قال ابنُ عبَّاسٍ: إنِّي لأمرُّ على الآيةِ من كِتاب الله، فأودُّ أنَّ النَّاسَ كُلَّهم يعلمُون منها ما أعَلم. وقال الشافعيُّ: وددتُ أنَّ النَّاسَ تعلَّموا هذا العلمَ، ولم يُنسَبْ إليَّ منه شيءٍ
(2)
. وكان عتبةُ الغلامُ إذا أراد أن يُفطر يقول لبعض إخوانه المطَّلِعين على أعماله: أَخرِج إليَّ ماءً أو تمراتٍ أُفطر عليها؛ ليكونَ لك مثلُ أجري
(3)
.
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 2/ 350.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 9/ 119، وانظر "السير" 10/ 55.
(3)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 235.
الحديث الرابع عشر
عَنْ عبدِ الله بن مَسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ إلَّا بِإحْدَى ثَلاث: الثَّيِّبُ الزانِي، والنَّفسُ بالنَّفسِ، والتَّارِكُ لِدينِهِ المُفارِقُ لِلجماعَةِ". رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ
(1)
.
هذا الحديث خرَّجاه في "الصحيحين" من رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن ابن مسعود
(2)
، وفي رواية لمسلم:"التارك للإسلام" بدل قوله: "لدينه".
وفي هذا المعنى أحاديثُ متعددة: فخرَّج مسلم من حديث عائشة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَ حديثِ ابن مسعود.
وخرَّج الترمذيُّ، والنسائي، وابنُ ماجه من حديث عثمان عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يَحلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاثٍ: رجلٍ كفر بعد إسلامه، أو زَنى بعد إحصانِه، أو قتلَ نفسًا بغير نفسٍ". وفي رواية للنسائي: "رجلٌ زنى بعد
(1)
رواه البخاري (6878) ومسلم (1676) وأحمد 1/ 382 و 428 و 444، وأبو داود (4352) والترمذي (1402) والنسائي 7/ 90 - 91، وابن ماجه (2534)، وصححه ابن حبان (4408)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه مسلم (1676)(26)، ولم يسُق لفظه، وأبو داود (4353)، والنسائي 7/ 91 و 101 - 102.
إحصانه، فعليه الرجمُ، أو قتل عمدًا، فعليه القَوَدُ، أو ارتدَّ بعدَ إسلامِهِ، فعليه القتلُ"
(1)
.
وقد رُوي هذا المعنى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من روايةِ ابن عبَّاس
(2)
وأبي هريرة وأنس
(3)
وغيرهم، وقد ذكرنا حديثَ أنسٍ فيما تقدَّم، وفيه تفسير أن هذه الثلاث خصال هي حقُّ الإسلام التي يُستباح بها دَمُ مَنْ شهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله، والقتلُ بكلِّ واحدةٍ مِنْ هذه الخصالِ الثَّلاثِ متفقٌ عليه بين المسلمين.
أما زنى الثَّيِّب، فأجمع المسلمون على أن حَدَّه الرجمُ حتَّى يموتَ، وقد رجم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ماعَزًا والغامدية
(4)
، وكان في القرآن الذي نسخ لفظه:"والشَّيخُ والشَّيخَةُ إذا زَنيا فارجُموهُما البتة نكالًا من الله، والله عزيز حكيم"
(5)
.
وقد استنبط ابنُ عباسٍ الرَّجمَ مِنَ القرآن من قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15]، قال: فمن كفر بالرَّجم، فقد كفر بالقرآن من حيثُ لا يحتسب،
(1)
رواه الترمذي (2158) وحسنه، والنسائي 7/ 91 - 92 و 103 و 104، وابن ماجه (2533).
(2)
نسَبه الحافظ في "الفتح" 2/ 202 إلى النَّسَائِي.
(3)
ذكره الهيثمي في "المجمع" 1/ 25 - 26 ونسَبه إلى الطبراني في "الأوسط" وقال: فيه عمرو بن هاشم البيروتي، والأكثر على توثيقه.
(4)
انظر "صحيح مسلم"(1694) و (1695)، وأبا داود (1694) وابن حبان (4438).
(5)
رواه من حديث ابن مسعود عبد الرزاق (13363)، وصححه ابن حبان (4428) و (4429)، والحاكم 2/ 415، ووافقه الذهبي.
ثمَّ تلا هذه الآية وقال: كان الرجمُ مما أَخفوا. خرَّجه النَّسَائِي، والحاكم، وقال: صحيحُ الإسناد
(1)
.
ويُستنبط أيضًا من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 44 - 49]. وقال الزهري: بلغنا أنها نزلت في اليهوديَّيْن الَّلذيْن رجمهما النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّي أحكم بما في التوراة" وأمر بهما فرُجِما
(2)
.
وخرَّج مسلم في "صحيحه"
(3)
من حديث البراء بنِ عازب قصة رجم اليهود، وقال في حديثه: فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] وأنزل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] في الكفار كلها.
وخرَّجه الإمام أحمد
(4)
وعنده: فأنزل الله: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41]، يقولون: ائتوا محمدًا، فإنَّ أفتاكم بالتَّحميم والجلدِ، فخُذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروا، إلى قوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قال: في اليهود.
ورُوِيَ من حديث جابر قصَّةُ رجم اليهوديين، وفي حديثه قال: فأنزل الله:
(1)
رواه النَّسَائِي في "الكبرى" كما في "التحفة" 5/ 178، والطبري في "جامع البيان"(11609) و (11610)، وصححه الحاكم 4/ 359 ووافقه الذهبي.
(2)
رواه الطبري (12008)، وأبو داود (4450).
(3)
رقم (1700)، ورواه أيضًا أبو داود (4448). والتحميم: تسويد الوجه، من الحميم، جمع حَمَمَة، وهي الفحمة.
(4)
في "المسند" 4/ 286 وإسناده صحيح.
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}
(1)
[المائدة: 42].
وكان الله تعالى قد أمر أوَّلًا بحبسِ النِّساء الزَّواني إلى أن يتوفَّاهنَّ الموت أو يجعل الله لهنَّ السبيل، ثم جعل الله لهنَّ سبيلاً، ففي "صحيح مسلم" عن عبادة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"خُذوا عنَّي خُذوا عنِّي قد جعل الله لهنَّ سبيلًا: البكرُ بالبكرِ جلدُ مئة وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثيب جلدُ مئة والرجمُ"
(2)
.
وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعةٌ من العلماء، وأوجبوا جلدَ الثيب مئة، ثم رجمه كما فعل عليٌّ بِشُراحة الهَمْدَانيَّةِ، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورَجمتُها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
. يشير إلى أن كتاب الله فيه جلدُ الزَّانيين من غير تفصيلٍ بين ثيِّبٍ وبِكرٍ، وجاءت السُّنةُ برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضًا،
(1)
رواه الحميدي في "مسنده"(1294) وفي إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.
(2)
رواه مسلم (1690)، وصححه ابن حبان (4426) و (4427)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3)
رواه أحمد 1/ 93، وعلي بن الجعد (505)، والحاكم 4/ 364 - 365، والبيهقي 8/ 220.
قلت: في "الفتح" 12/ 119: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر إلى أن الزاني المحصن يجلد ثم يرجم، وقال الجمهور - وهي رواية عن أحمد أيضًا -: لا يجمع بينهما، وذكروا أن حديث عُبادة منسوخ، يعني الحديث المتقدم، والناسخ ما ثبت في قصة ماعِز، أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم رجمه، ولم يذكر الجلد. قال الشافعيُّ: فدلت السنة على أن الجلد ثابت على البكر، ساقط عن الثيب، والدليل على أن قصة ماعز متراخية عن حديث عبادة أن حديث عبادة ناسخ لما شُرع أولًا من حبس الزاني في البيوت، فنسخ الحبس بالجلد، وزيد الثيب بالرجم، وذلك صريح في حديث عبادة، ثم نسخ الجلد في حق الثيب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصة ماعز على الرجم، وكذلك في قصة الغامدية والجُهنية واليهوديين لم يذكر الرجم.
وهذا القول هو المشهور عن الإِمام أحمد رحمه الله وإسحاق، وهو قول الحسن وطائفة من السلف.
وقالت طائفة منهم: إن كان الثَّيِّبان شيخين رُجمَا وجُلِدا، وإن كانا شابَّين، رُجِما بغيرِ جلدٍ؛ لأنَّ ذنبَ الشيخِ أقبحُ، لا سيما بالزنى، وهذا قولُ أبيِّ بنِ كعبٍ، وروي عنه مرفوعًا، ولا يصحُّ رفعه، وهو رواية عن أحمد وإسحاق أيضًا.
وأما النَّفسُ بالنفسِ، فمعناه أن المكلَّف إذا قتل نفسًا بغير حق عمدًا، فإنَّه يُقْتَلُ بها، وقد دلَّ القرآن على ذلك بقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178].
ويُستثنى من عُموم قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} صُورٌ:
منها أن يقتل الوالدُ ولدَه، فالجمهورُ على أنه لا يُقْتَلُ به، وصحَّ ذلك عن عُمر. وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجور مُتعدَّدَةٍ، وقد تُكُلِّمَ في أسانيدها
(1)
، وقال
(1)
رواه من حديث عمر أحمد 1/ 22 و 22 - 23 و 49، وابن أبي شيبة 9/ 410، والترمذي (1400) وابن ماجه (2662)، وابن أبي عاصم في "الديات" ص 65، والدارقطني 3/ 140 و 141 و 143، وابن الجارود (788) والبيهقي 8/ 38 من طرق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد الوالدُ بِوَلده" وسنده حسن.
ورواه أحمد 1/ 16 عن أسود بن عامر، أخبرنا جعفر الأحمر، عن مطرف، عن الحكم عن مجاهد، عن عمر. ورجاله ثقات لكن مجاهدًا لم يسمع من عمر.
ورواه الحاكم 2/ 216، و 4/ 368 من طريق عمر بن عيسى القرشي عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباسٍ عن عمر، وعيسى بن عمر منكر الحديث.
ورواه من حديث ابن عباس الترمذي (1401)، وابن ماجه (2661)، والدارمي=
مالك: إنْ تَعمدَ قتله تعمدًا لا يشكُّ فيه، مثل أن يذبحه، فإنَّه يُقتل به، وإن حذفه بسيفٍ أو عصا، لم يقتل. وقال البتِّي: يقتل بقتله بجميع وجوه العَمدِ للعمومات.
ومنها: أن يقتل الحرُّ عبدًا، فالأكثرون على أنَّه لا يُقتل به، وقد وردت في ذلك أحاديثُ في أسانيدها مقالٌ
(1)
. وقيل: يقتل بعبدِ غيره دُون عبدهِ، وهو قولُ أبي حنيفة وأصحابه، وقيل: يقتل بعبده وعبدِ غيره، وهو رواية عن الثوري، وقول طائفةٍ من أهل الحديث؛ لحديث سمرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"من قَتَلَ عبدهُ، قتلناهُ، ومن جَدَعَهُ جدَعْناهُ"
(2)
وقد طعن فيه الإِمام أحمد وغيره.
وقد أجمعوا على أنَّه لا قصاص بين العبيدِ والأحرارِ في الأطراف، وهذا يدلُّ على أنَّ هذا الحديثَ مطَّرَحٌ لا يُعمل به، وهذا مما يُستدلُّ به على أن المراد بقوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الأحرار؛ لأنَّه ذكر بعده القصاص في الأطراف، وهو يختصُّ بالأحرار.
=2/ 190، والحاكم 4/ 369، والدارقطني 3/ 141، والبيهقي 8/ 39، وسنده ضعيف.
ورواه من حديث سراقة الترمذي (1399) والدارقطني 3/ 142، وقال الترمذي: ليس إسناده بصحيح.
وانظر "نصب الراية" 4/ 339 - 341 و "تلخيص الحبير" 4/ 16 - 17.
(1)
رواه من حديث ابن عباسٍ الدارقطني 3/ 133، والبيهقي 8/ 35، وفيه جويبر، وهو ضعيف جدًا.
ورواه من حديث علي الدارقطني 3/ 133 - 134، والبيهقي 8/ 34 - 35، وفيه جابر الجعفي، وهو ضعيف أيضًا، وانظر "تلخيص الحبير" 3/ 16.
(2)
رواه أحمد 5/ 10 و 11 و 12 و 18 و 19، وأبو داود (4515) - (4517)، والترمذي (1414)، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (2663) من رواية الحسن عن سمرة، وقال الإمام أحمد في "المسند" 5/ 11: ولم يسمعه منه.
ومنها أن يَقتُلَ المسلم كافرًا، فإنَّ كان حربيًا، لم يقتل به بغير خلافٍ؛ لأنَّ قتل الحربيِّ مباحٌ بلا ريب، وإن كان ذميًا أو معاهَدًا، فالجمهور على أنَّه لا يقتل به أيضًا، وفي "صحيح البخاري"
(1)
عن علي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُقتلُ مسلمٌ بكافر".
وقال أبو حنيفة وجماعةٌ من فقهاء الكوفيين: يُقتل به، وقد روى ربيعةُ عن ابن البيلماني عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قتل رجلًا من أهل القبلة برجل من أهل الذمةِ، وقال:"أنا أحقُّ من وفى بذمَّته"
(2)
وهذا مرسل ضعيف قد ضعَّفه الإِمام أحمد، وأبو عبيد، وإبراهيمُ الحربي، والجوزجاني، وابنُ المنذر، والدَّارقطني، وقال: ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله؟ وقال الجوزجاني: إنَّما أخذه ربيعةُ عن إبراهيمَ بن أبي يحيى عن ابنِ المنكدر عن ابن البيلماني، وابن أبي يحيى متروك الحديث. وفي "مراسيل أبي داود"
(3)
حديث آخر مرسل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ يوم خيبر مسلمًا بكافر قتله غيلةً، وقال:"أنا أولى وأحقُّ من وفى بذِمَّته". وهذا مذهبُ مالك وأهل المدينةِ أن القتلَ غيلة لا تُشترط له المكافاة، فَيُقْتَلُ فيه المسلمُ بالكافرِ، وعلى هذا حملُوا حديثَ ابن البيلماني أيضًا على تقدير صحَّته.
ومنها: أن يقتل الرجل امرأةً، فيُقتل بها بغيرِ خلاف، وفي كتاب عمرو بنِ حزمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن الرَّجُلَ يقتل بالمرأة
(4)
. وصحَّ أنَّه صلى الله عليه وسلم قتل يهوديًا قتل
(1)
رقم (6915). ورواه أيضًا الترمذي (1412)، والنسائي 8/ 23.
(2)
رواه عبد الرزاق (18514) وأبر داود في "المراسيل"(250)، والدارقطني 3/ 135، والبيهقي 8/ 30.
(3)
رقم (251) وهو مرسل ضعيف.
(4)
رواه ابن حبان (6559) والحاكم 1/ 395 - 397، والبيهقي 4/ 89 - 90، وفيه سليمان بن أرقم، وهو ضعيف. وانظر تفصيل القبول فيه في "صحيح ابن حبان".
جارية
(1)
وأكثرُ العلماء على أنَّه لا يدفع إلى أولياء الرجل شيءٌ. وروي عن عليّ أنَّه يدفع إليهم نصف الدية
(2)
؛ لأن ديةَ المرأة نصفُ ديةِ الرجل وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلف وأحمد في رواية عنه.
وأمَّا التَّاركُ لِدينه المفارق للجماعة، فالمرادُ به من ترك الإِسلام، وارتدَّ عنه، وفارقَ جماعة المسلمين، كما جاء التصريحُ بذلك في حديث عثمان، وإنَّما استثناه مع من يحلُّ دمه من أهل الشهادتين باعتبارِ ما كان عليه قبل الرِّدَّة وحكم الإِسلام لازم له بعدها، ولهذا يُستتاب، ويُطلب منه العود إلى الإِسلام، وفي إلزامه بقضاء ما فاته في زمن الرِّدَّة من العبادات اختلافٌ مشهورٌ بَيْنَ العلماء.
وأيضًا فقد يتركُ دينَه، ويُفارقُ الجماعة، وهو مقرٌّ بالشَّهادتين، ويدَّعي الإسلام، كما إذا جحد شيئًا مِنْ أرَكان الإِسلام، أو سبَّ الله ورسولَه، أو كفرَ ببعضِ الملائكة أو النَّبيِّينَ أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك، وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من بدَّل دينَهُ فاقتلوه"
(3)
.
ولا فرق في هذا بين الرجلِ والمرأة عندَ أكثر العلماء، ومنهم من قال: لا تُقتل المرأةُ إذا ارتدَّت كما لا تُقتل نساء أهلِ دارِ الحرب في الحرب، وإنما تُقتل رجالُهم، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، وجعلوا الكفر الطارئ كالأصلي، والجمهور فرَّقوا بينهما، وجعلوا الطارئ أغلظَ لما سبقه من الإِسلام، ولهذا يقتل بالرِّدَّة عنه من لا يقتل من أهل الحرب، كالشَّيخ الفاني والزَّمِن والأعمى، ولا يُقتلون في الحرب.
(1)
رواه أحمد 3/ 170، والبخاري (2413)، ومسلم (1672)، وأبو داود (5429)، والنسائي 8/ 22، وابن ماجه (2666)، وصححه ابن حبان (5991) - (5993).
(2)
رواه ابن أبي شيبة 9/ 297.
(3)
رواه البخاري (3517)، وأحمد 1/ 217، وأبو داود (4351)، والترمذي (1458)، والنسائي 7/ 105، وابن ماجه (2535)، وصححه ابن حبان (4475) و (4476).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "التارك لدينه المفارق للجماعة" يدلّ على أنَّه لو تاب ورجع إلى الإسلام، لم يقتل؛ لأنَّه ليس بتاركٍ لدينه بعدَ رجوعه، ولا مفارقٍ للجماعة.
فإن قيل: بل استثناء هذا ممَّن يعصم دَمُه من أهل الشهادتين يدلُّ على أنَّه يقتل ولو كان مقرًا بالشهادتين، كما يقتل الزاني المُحصَن، وقاتل النفس، وهذا يدلُّ على أن المرتدَّ لا تُقبل توبتُه، كما حُكي عن الحسن، أو أن يحمل ذلك على من ارتدَّ ممَّن وُلِدَ على الإسلام، فإنَّه لا تُقبل توبتُه، وإنما تقبل توبةُ مَنْ كان كافرًا، ثم أسلم، ثم ارتدَّ على قول طائفةٍ من العلماء، منهم: الليثُ بنُ سعدٍ، وأحمد في رواية عنه، وإسحاق. قيل: إنَّما استثناه من المسلمين باعتبار ما كان عليه قبْلَ مفارقة دينه كما سبق تقريره، وليس هذا كالثيب الزَّاني، وقاتل النفس؛ لأنَّ قتلَهُما وَجب عقوبةً لجريمتهما الماضية، ولا يُمكنَ تلافي ذلك.
وأمَّا المرتدُّ، فإنما قُتِلَ لوصفٍ قائمٍ به في الحال، وهو تركُ دينه ومفارقةُ الجماعة، فإذا عاد إلى دينِهِ، والى موافقة الجماعة، فالوصف الذي أُبيح به دمُه قدِ انتفى، فتزولُ إباحةُ دمِهِ، والله أعلم.
فإنَّ قيل: فقد خرَّج النَّسَائِي
(1)
من حديث عائشة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَحل دمُ امرئٍ مسلم إلَّا بإحدى ثلاث خصالٍ: زانٍ محصن يُرجَمُ، ورَجُلٍ قتل متعمدًا فيُقتل، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله فيقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض". وهذا يدلُّ على أن المرادَ من جمع بين الردَّة والمحاربة.
قيل: قد خرَّج أبو داود
(2)
حديث عائشة بلفظ آخر، وهو أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دَمُ امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسولُ الله
(1)
7/ 101 - 152، وإسناده صحيح.
(2)
(4353).
إلا في إحدى ثلاث: زنى بعد إحصانٍ فإنَّه يُرجم، ورجل خرج محاربًا لله ورسوله، فإنَّه يقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض، أو يقتل نفسًا فيقتل بها".
وهذا يدلُّ على أنَّ مَنْ وُجِدَ منه الحِراب من المسلمين، خُيِّرَ الإمامُ فيه مطلقًا، كما يقوله علماءُ أهلِ المدينة مالك وغيره، والرواية الأولى قد تُحمل على أن المرادَ بخروجه عن الإسلام خروجُه عن أحكام الإسلام، وقد تُحمل على ظاهرها، ويستدلُّ بذلك مَنْ يقول: إن آيةَ المحاربة تختصُّ بالمرتدين، فمن ارتدَّ وحارب، فُعِل به ما في الآية، ومن حارب من غيرِ رِدَّةٍ، أقيمت عليه أحكامُ المسلمين مِنَ القِصاص والقطع في السرقة، وهذا رواية عن أحمد لكنها غيرُ مشهورةٍ عنه، وكذا قال طائفة من السلف: إن آية المحاربة تختصُّ بالمرتدين، منهم أبو قِلابة وغيرُه.
وبكلِّ حالٍ، فحديث عائشة ألفاظُه مختلفةٌ، وقد روي عنها مرفوعًا، وروي عنها موقوفًا، وحديثُ ابنِ مسعودٍ لفظه لا اختلاف فيه، وهو ثابت متفق على صحته، ولكن يُقال على هذا: إنَّه قد ورد قتلُ المسلم بغير إحدى هذه الخصال الثلاث:
فمنها في اللواط، وقد جاء من حديثِ ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"اقتُلوا الفاعِلَ والمفعولَ به"
(1)
وأخذ به كثيرٌ من العلماء كمالكٍ وأحمد، وقالوا: إنَّه موجبٌ للقتل بكلِّ حالٍ، محصنًا كان أو غير محصن، وقد رُوي عن عثمان أنَّه قال: لا يحل دمُ امرئ مسلم إلا بأربع، فذكر الثلاثة المتقدمة، وزاد: ورجل عمِلَ عمَلَ قوم لوط
(2)
.
(1)
رواه أبو داود (4462)، والترمذي (1456)، وابن ماجه (2561)، وصححه الحاكم 4/ 355، ووافقه الذهبي.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 9/ 414 ورجاله ثقات لكنه منقطع.
ومنها من أتى ذات محرم، وقد روي الأمر بقتله، وروي أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قتل من تزوَّجَ بامرأة أبيه
(1)
، وأخذ بذلك طائفةٌ من العلماء، وأوجبوا قتله مطلقًا محصنًا كان أو غير محصن.
ومنها الساحر، وفي "الترمذي" من حديث جُندب
(2)
مرفوعًا: "حدُّ السَّاحر ضربةٌ بالسَّيف" وذكر أن الصحيح وقفه على جندب، وهو مذهبُ جماعةٍ من العلماء، منهم عُمَرُ بنُ عبد العزيز ومالك وأحمد وإسحاق، ولكن هؤلاء يقولون: إنه يكفر بسحره، فيكون حكمُه حكمَ المرتدين.
ومنها قتلُ من وقع على بهيمة، وقد ورد فيه حديث مرفوع
(3)
، وقال به طائفةٌ من العلماء.
(1)
روى أحمد 4/ 295، وأبو داود (4457)، والترمذي (1362)، وابن ماجه (2607)، والنسائي 6/ 109 عن البراء بن عازب، قال: لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية، فقلت: إلى أين؟ فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله أو أضرب عنقه، وصححه ابن حبان (4112) - واللفظ له - والحاكم 2/ 191، ووافقه الذهبي.
(2)
رواه الترمذي (1460)، والحاكم 4/ 360، والدارقطني 3/ 114 من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب، وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يُضعف في الحديث من قبل حفظه
…
والصحيح عن جندب موقوف.
(3)
رواه أحمد 1/ 269، وأبو داود (4462)، والترمذي (1454)، وابن ماجه (2564)، والحاكم 4/ 355 من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من وجدتموه وقع على بهيمةٍ فاقتلوه، واقتلوا البهيمة". لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو.
وقد روى سفيان الثوري عن عاصم، عن أبي رزين عن ابن عباسٍ أنه قال: من أتى بهيمةً فلا حَدَّ عليه، ثم قال: وهذا أصح من الحديث الأول (يعني الحديث المرفوع) والعمل على هذا عند أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق.
ومنها من ترك الصَّلاة، فإنَّه يُقتل عندَ كثيرٍ من العُلماء مع قولهم: إنَّه ليس بكافرٍ، وقد سبق ذكرُ ذلك مستوفى.
ومنها قتلُ شاربِ الخمر في المرَّة الرابعة، وقد ورد الأمرُ به عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من وُجوهٍ متعدِّدَةٍ
(1)
، وأخذَ بذلك عبدُ الله بنُ عمرو بن العاص
(2)
وغيره، وأكثر العلماء على أن القتل انتسخ، وروي أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أُتي بالشَّارب في المرَّةِ الرابعة، فلم يقتُله
(3)
. وفي "صحيح البخاري" أن رجلًا كان يُؤتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الخمر، فلعنه رجلٌ، وقال: ما أكثرَ ما يُؤتى به، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنه، فإنَّه يُحِبُّ الله ورسوله"، ولم يقتله بذلك
(4)
.
وقد روي قتلُ السارق في المرة الخامسة
(5)
، وقيل: إنَّ بعضَ الفُقهاء ذهبَ إليه.
= وقال أبو داود عن الحديث المرفوع: ليس هذا بالقوي، ثم روى بإسناده حديث ابن عباسٍ الموقوف، وقال: حديث عاصم يُضعف حديث عمرو بن أبي عمرو. وانظر "تلخيص الحبير" 4/ 55.
(1)
رواه من حديث معاوية أحمد 4/ 93، وأبو داود (4482)، والترمذي (1444)، وابن ماجه (2573)، وصححه ابن حبان (4446)، والحاكم 4/ 93.
ورواه من حديث ابن عمر أبو داود (4483) والنسائي 8/ 313.
ورواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 291، وأبو داود (4484)، والنسائي 8/ 314، وابن ماجه (2572)، وصححه ابن حبان (4447)، والحاكم 4/ 371.
ورواه من حديث أبي سعيد ابن حبان (4445).
(2)
انظر "المستدرك" 1/ 30 - 31، وابن حبان (5357).
(3)
رواه أبو داود (4885) من حديث قبيصة بن ذؤيب، وهو مرسل، قبيصة بن ذؤيب ولد على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه. وانظر "الفتح" 12/ 80.
(4)
رواه البخاري (6780).
(5)
رواه من حديث جابر أبو داود (4410)، والنسائي 8/ 90 - 91، وفيه مصعب بن=
ومنها ما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إذا بُوِيعَ لِخَليفَتين، فاقتلوا الآخرَ منهما" خرَّجه مسلم
(1)
من حديث أبي سعيد، وقد ضعف العقيلي أحاديثَ هذا الباب كلها.
ومنها: قولُه صلى الله عليه وسلم: "من أتاكم وأمرُكُم جميعٌ على رجلٍ واحد، فأراد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرِّقَ جماعَتَكُم فاقتلوه" وفي رواية: "فاضربوا رأسه بالسيف كائنًا من كان". وقد خرَّجه مسلم
(2)
أيضًا من رواية عرفجة.
ومنها: من شَهَرَ السِّلاحَ، فخرَّج النسائيُّ من حديث ابن الزبير عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ شَهَرَ السِّلاحَ ثم وضعه، فدمه هدرٌ". وقد روي عن ابن الزبير مرفوعًا وموقوفًا. وقال البخاري: إنما هو موقوف
(3)
.
وسئل أحمد عن معنى هذا الحديث، فقال: ما أدري ما هذا. وقال إسحاق بن راهويه: إنَّما يريد من شهر سلاحه ثمَّ وضعه في النَّاس حتى استعرض النَّاس
(4)
، فقد حل قتله، وهو مذهب الحرورية يستعرضون الرجال
=ثابت بن عبد الله، وهو لين الحديث، وقال النَّسَائِي: هذا حديث منكر، وضعفه المؤلف كما يأتي في الصفحة 275.
ورواه من حديث الحارث بن حاطب النَّسَائِي 8/ 89 - 90، وانظر "تلخيص الحبير" 4/ 68 - 69.
(1)
رقم (1853).
(2)
رقم (1852).
(3)
رواه النَّسَائِي 7/ 117 مرفوعًا، وصححه الحاكم 2/ 159 على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
ورواه النَّسَائِي 7/ 117 عن ابن الزبير موقوفًا. وقال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه المناوي في "الفيض" 6/ 160: والذي وصله ثقة.
(4)
أي: قتلهم ولم يسأل عن أحد منهم.
والنساء والذرية. وقد رُوِيَ عن عائشة ما يخالف تفسير إسحاق، فخرَّج الحاكم من رواية علقمة بن أبي علقمة عن أمِّه أن غلامًا شهر السَّيف على مولاه في إمرةِ سعيدِ بنِ العاص، وتفلَّت به عليه، فأمسكه النَّاسُ عنه، فدخل المولى على عائشة، فقالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أشارَ بحديدةٍ إلى أحدٍ من المسلمين يريد قتله، فقد وجب دمه" فأخذه مولاه فقتله، وقال: صحيح على شرط الشيخين
(1)
.
وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "من قُتِلَ دون ماله، فهو شهيد"
(2)
، وفي رواية:"ومن قتل دون دمه، فهو شهيد"
(3)
.
فإذا أريد مالُ المرء أو دمُه، دافع عنه بالأسهل. هذا مذهب الشافعيُّ وأحمد، وهل يجب أن ينوي أنَّه لا يريد قتله أم لا؟ فيه روايتان عن الإِمام أحمد.
وذهب طائفة إلى أنَّ مَنْ أراد مالَه أو دمَه، أُبيح له قتلُه ابتداء، ودخل على ابن عمرَ لِصٌّ، فقام إليه بالسيف صلتاً، فلولا أنهم حالوا بينه وبينه، لقتله
(4)
. وسئل الحسنُ عن لصٍّ دخل بيت رجلٍ ومعه حديدة، قال: اقتله بأيِّ قتلة قدرتَ عليه، وهؤلاء أباحوا قتله وإن ولَّى هاربًا من غير جناية، منهم أيوبُ السختياني.
وخرَّج الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الدَّارُ
(1)
رواه أحمد 6/ 266 والحاكم 1/ 158 - 159، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي! مع أن أم علقمة - واسمها مرجانة - لم يوثقها غير ابن حبان، ولم يرو عنها غير ابنها، لكن الحديث يتقوى بحديث ابن الزبير المتقدم.
(2)
رواه من حديث عبد الله بن عمرو البخاري (2480) وأبو داود (4771) والترمذي (1419) والنسائي 7/ 114 - 115، وابن ماجه (2581).
(3)
ورواه من حديث سعيد بن زيد أحمد 1/ 190 وأبو داو (4772)، والترمذي (1421).
(4)
رواه عبد الرزاق (18557) و (18818) بإسناد صحيح.
حرمك، فمن دخل عليك حَرَمَكَ، فاقتله" ولكن في إسناده ضعف
(1)
.
ومنها قتلُ الجاسوسِ المسلم إذا تجسَّسَ للكفار على المسلمين، وقد توقف فيه أحمد، وأباح قَتْلَهُ طائفة من أصحاب مالِك، وابنُ عقيل من أصحابنا، ومن المالكية مَنْ قال: إن تكرَّر ذلك منه، أُبِيحَ قتله، واستدلَّ من أباحَ قتله بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حقِّ حاطب بن أبي بلتعة لما كتب الكتابَ إلى أهلِ مكَّةَ يخبرهم بسير النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليهم، ويأمرهم بأخذ حذرهم، فاستأذن عمرُ في قتله، فقال:"إنَّه شهدَ بدرًا"
(2)
، فلم يقل: إنه لم يأت ما يُبيح دمه، وإنَّما علَّل بوجود مانعٍ مِنْ قتله، وهو شهودُه بدرًا ومغفرةُ الله لأهل بدر، وهذا المانعُ منتفٍ في حقِّ مَنْ بعدَه. ومنها ما خرَّجه أبو داود في "المراسيل"
(3)
من رواية ابن المسيب أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "من ضرب أباه فاقتلوه" ورُويَ مسندًا من وجهٍ آخرَ لا يصح
(4)
.
واعلم أنَّ من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصحُّ ولا يُعرف به قائلٌ معتبر، كحديث "مَنْ ضرب أباه فاقتلوه"، وحديث:"قتل السارق في المرة الخامسة"
(5)
. وباقي النصوص كلُّها يمكن ردُّها إلى حديث ابن مسعود، وذلك أنَّ حديثَ ابنِ مسعودٍ تضمَّن أنَّه لا يُستباحُ دمُ المسلم إلَّا بإحدى ثلاث
(1)
رواه أحمد 5/ 326، وذكره الهيثمي في "المجمع" 6/ 245 وزاد نسبته إلى الطبري وقال: فيه محمد بن كثير السلمي، وهو ضعيف.
(2)
رواه من حديث علي أحمد 1/ 79 والبخاري (3007) و (2474) ومسلم (2494)، وأبو داود (2650)، والترمذي (3305)، وصححه ابن حبان (6499).
(3)
برقم (485)، ورجاله ثقات.
(4)
رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" كما في "الجامع الكبير" 2/ 798 عن سعيد بن المسيب عن أبيه.
(5)
تقدم تخريجه في الصفحة 272.
خصالٍ: إما أن يترك دينه ويفارق جماعة المسلمين، وإمَّا أن يزني وهو محصن، وإما أن يقتل نفسًا بغير حقٍّ.
فيؤخذ منه أن قتل المسلم لا يُستباح إلَّا بأحد ثلاثة أنواع: تركِ الدين، وإراقةِ الدم المحرَّم، وانتهاك الفرج المحرّم، فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تُبيح دم المسلم دون غيرها.
فأمَّا انتهاكُ الفرج المحرّم، فقد ذكر في الحديث أنَّه الزنى بعد الإِحصان، وهذا - والله أعلم - على وجه المثال، فإنَّ المحصن قد تمَّت عليه النعمة بنيل هذه الشهوة بالنِّكاح، فإذا أتاها بعد ذلك مِنْ فرجٍ محرَّم عليه، أُبيح دمه، وقد ينتفي شرط الِإحصان، فيخلفه شرط آخر، وهو كون الفرج لا يُستباحُ بحال، إمَّا مطلقًا كاللواط، أو في حقِّ الواطئ، كمن وطئ ذاتَ محرم بعقد أو غيره، فهذا الوصف هل يكون قائمًا مقامَ الِإحصان وخلفًا عنه؟ هذا هو محلّ النِّزاع بين العلماء، والأحاديثُ دالَّةٌ على أنَّه يكون خلفًا عنه، ويُكتفى به في إباحة الدم.
وأما سفك الدَّم الحرام، فهل يقومُ مقامه إثارة الفتن المؤدية إلى سفك الدماء، كتفريق جماعة المسلمين، وشقِّ العصا، والمبايعةِ لإِمامٍ ثانٍ، ودلِّ الكُفَّارِ على عورات المسلمين؟ هذا هو محلُّ النزاع. وقد روي عن عمر ما يَدُلُّ على إباحة القتل بمثل هذا.
وكذلك شهرُ السلاحِ لطلب القتل: هل يقومُ مقامَ القتل في إباحة الدم أم لا؟ فابنُ الزبير وعائشة رأياه قائمًا مقام القتل الحقيقي في ذلك
(1)
.
وكذلك قطعُ الطَّريق بمجرَّده: هل يبيحُ القتلَ أم لا؟ لأنَّه مظِنَّةٌ لسفك الدِّماء المحرّمة، وقول الله عز وجل:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، يدلُّ على أنَّه إنَّما يُباحُ قتل
(1)
انظر ص 273 وما بعدها.
النفس بشيئين: أحدهما: بالنفس، والثاني: بالفساد في الأرض، ويدخل في الفساد في الأرض: الحراب والرِّدَّة، والزنى، فإنَّ ذلك كلَّه فساد في الأرض، وكذلك تكرُّر شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنةُ سفكِ الدِّماء المحرمة. وقد اجتمع الصحابة في عهد عمر على حدِّه ثمانينَ، وجعلوا السكر مَظِنَّة الافتراءِ والقذفِ الموجب لجلد الثمانين
(1)
، ولمَّا قدِمَ وفدُ عبدِ القيس على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونهاهُم عن الأشربة والانتباذِ في الظُّروف قال:"إنَّ أَحَدَكُم ليقومُ إلى ابن عمه - يعني: إذا شرب - فيضربه بالسَّيف"، وكان فيهم رجلٌ قد أصابته جراحةٌ مِنْ ذلك، فكان يخبؤها حياءً من النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(2)
فهذا كلُّه يرجعُ إلى إباحة الدَّم بالقتل إقامة لمظان القتل مقامَ حقيقته، لكن هل نسخ ذلك أمَ حكمه باق هذا هو محلّ النزاع.
وأما تركُ الدين، ومفارقةُ الجماعة، فمعناه الارتدادُ عن دينِ المسلمين ولو أتى بالشهادتين، فلو سبَّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو مقرٌّ بالشهادتين، أُبيح دمُه؛ لأنَّه قد ترك بذلك دينه.
وكذلك لو استهان بالمُصحف، وألقاه في القاذورات، أو جحد ما يُعلم من الدِّين بالضَّرورة كالصلاة، وما أشبه ذلك ممَّا يخرج منَ الدِّين.
وهل يقومُ مقامَ ذلك تركُ شيءٍ مِنْ أركان الإِسلام الخمس؟ هذا ينبني على أنَّه هل يخرج من الدين بالكُلِّيَّة بذلك أم لا؟ فمن رآه خروجًا عنِ الدِّين، كان عنده كتركِ الشَّهادتين وإنكارهما، ومن لم يره خروجًا عن الذين، فاختلفوا هل
(1)
رواه مالك 2/ 842، وعنه الشافعيُّ 2/ 90 عن ثور بن زيد الديلي عن عمر، وهذا إسناد منقطع، ثور بن زيد لم يدرك عمر، ووصله الحاكم في "المستدرك" 4/ 375 - 376 من طريق ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، وصححه ووافقه الذهبي. وانظر "التلخيص" 4/ 75 - 76.
(2)
رواه أحمد 3/ 22 ومسلم (18) من حديث أبي سعيد الخدري.
يلحقُ بتارك الدِّين في القتل، لكونه ترك أحدَ مباني الإسلام أم لا؟ لكونه لم يخرج عن الدين.
ومِنْ هذا الباب ما قاله كثيرٌ من العلماء في قتل الدَّاعية إلى البدع، فإنهم نظروا إلى أنَّ ذلك شبيهٌ بالخروج عَنِ الدِّين، وهو ذريعةٌ ووسيلة إليه، فإن استخفى بذلك ولم يَدْع غيرَه، كان حُكمُه حكمَ المنافقين إذا استخفَوا، وإذا دعا إلى ذلك، تَغَلَّظ جرمُه بإفساد دين الأمة. وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم الأمر بقتال الخوارج وقتلهم
(1)
. وقد اختلف العلماء في حكمهم.
فمنهم من قال: هم كفَّارٌ، فيكون قتلُهم لكفرهم.
ومنهم من قال: إنَّما يُقتلون لفسادهم في الأرض بسفكِ دماءِ المسلمين وتكفيرهم لهم، وهو قولُ مالكٍ وطائفة من أصحابنا، وأجازوا الابتداء بقتالهم، والإِجهازَ على جريحهم.
ومنهم من قال: إن دَعَوْا إلى ما هُمْ عليه، قوتلوا، وإن أظهروه ولم يدعوا إليه لم يُقاتلوا، وهو نصُّ أحمد وإسحاق، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة.
ومنهم من لم يرَ البداءَة بقتالهم حتى يبدؤوا بقتال يُبيح قتالَهم مِنْ سفك دماءٍ ونحوه، كما رُوِيَ عن عليٍّ
(2)
وهو قولُ الشافعيُّ وكثيرٍ من أصحابنا.
(1)
رواه من حديث علي أحمد 81/ 1 و 113 و 131، والبخاري (3611) و (5057) و (6930)، ومسلم (1066) وأبو داود (4767)، والنسائي 9/ 117، وصححه ابن حبان (6739).
(2)
روى اللفظ الأول أحمد 5/ 42 من حديث أبي بكرة، وذكره الهيثمي في "المجمع" 6/ 225، وقال: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح.
وروى اللفظ الثاني أبو يعلى (90) و (4143)، وفيه هو بن عطاء. قال الهيثمي=
وقد روي من وجوه متعددة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتل رجلٍ كان يُصلي، وقال: الو قتل، لكان أوَّلَ فتنةٍ وآخرها"، وفي رواية: "لو قُتِلَ، لم يختلف رجلان من أمتي حتى يخرجَ الدجَّالُ" خرَّجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره
(1)
. فيستدلّ بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شرَّه عن المسلمين، ويحسم مادة الفتن.
وقد حكى ابنُ عبد البر وغيرُه عن مذهبِ مالكٍ جوازَ قتل الدَّاعي إلى البدعة.
فرجعت نصوصُ القتل كلُّها إلى ما في حديث ابن مسعود بهذا التقدير ولله الحمد.
وكثيرٌ من العلماء يقولُ في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هاهنا: إنَّها منسوخةٌ بحديث ابنِ مسعور، وفي هذا نظرٌ من وجهين:
أحدهما: أنَّه لا يُعلم أن حديثَ ابنِ مسعود كان متأخرًا عن تلك النصوص كلُّها، لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين. وكثير من تلك النصوص يرويها من تأخَّر إسلامُه كأبي هريرة وجريرِ بنِ عبد الله، ومعاويةَ، فإنَّ هؤلاء كلهم رووا حديثَ قتل شارب الخمر في المرة الرابعة.
والثاني: أنَّ الخاصَّ لا يُنسَخُ بالعامِّ، ولوكان العامُّ متأخرًا عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء؛ لأنَّ دلالة الخاصِّ على معناه بالنصِّ، ودلالة العام عليه بالظاهر عند الأكثرين، فلا يُبطِلُ الظاهرُ حكمَ النص. وقد روي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتل رجل كذَب عليه في حياته، وقال لحيٍّ من العرب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني وأمرني أن أحكمَ في دمائِكم وأموالكم، وهذا رُوي من وجوهٍ متعدِّدةٍ كلها ضعيفة، وفي بعضها أنَّ هذا الرجل كان قد خطب امرأةً منهم في الجاهلية،
= 6/ 226: وهو متروك. ورواه أيضًا (3668)، وفيه أبو معشر وهو ضعيف.
(1)
رواه من حديث بريدة الطحاوي في "مشكل الآثار"(378) و (379)، وابن عدي في=
فأبوا أن يُزوَّجوه، وأنَّه لمَّا قال لهم هذه المقالة صدَّقوه، ونزل على تلك المرأة، وحينئذٍ فهذا الرَّجُلُ قد زنى، ونسب إباحةَ ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا كفرٌ وردَّة عن الدِّين.
وفي "صحيح مسلم"
(1)
أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر عليًا بقتل القبطي الذي كان يدخل على أمِّ ولده مارية، وكان الناسُ يتحدثون بذلك، فلما وجده عليٌّ مجبوبًا تركه. وقد حمله بعضُهم على أن القبطى لم يكن أسلمَ بعدُ، وأن المعاهَدَ إذا فعل ما يُؤذي المسلمين، انتقض عهدُه، فكيف إذا آذى النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟ وقال بعضهم: بل كان مسلمًا، ولكنه نُهي عن ذلك فلم ينته، حتَّى تكلَّم النَّاسُ بسببه في فراش النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأذى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في فراشه مبيحٌ للدم، لكن لما ظهرت براءتُه بالعيان، تبئن للناسِ براءةُ مارية، فزال السببُ المبيح للقتل.
وقد رُوي عن الإمام أحمد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان له أن يَقْتُلَ بغير هذه الأسباب الثلاثة التي في حديث ابن مسعود، وغَيْرُهُ ليس له ذلك، كأنه يُشير إلى أنَّه صلى الله عليه وسلم كان له أن يُعَزِّرَ بالقتل إذا رأى ذلك مصلحة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم معصوم من التعدِّي والحَيْفِ، وأما غيرُه، فليس له ذلك؛ لأنَّه غير مأمون عليه التعدِّي بالهوى. قال أبو داود
(2)
: سمعتُ أحمد سُئِلَ عن حديث أبي بكر ما كانت لأحدٍ بعد النبيّ
= "الكامل" 4/ 1371 - 1372، ومن طريقه ابن الجوزي في مقدمة "الموضوعات" 1/ 55 - 56، وفيه صالح بن حيان القرشي، وهو ضعيف.
ورواه ابن الجوزي 1/ 56 من حديث عبد الله بن الزبير، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 145: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه عطاء بن السائب، عن رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند الطبراني في "الكبير". قال الهيثمي: وفيه أبو حمزة الثمالي، وهو ضعيف.
(1)
رقم (2771).
(2)
في "السنن" 4/ 531، و "مسائل الإمام أحمد" ص 226 - 227.
- صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلًا إلا بإحدى ثلاثٍ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان له ذلك أن يقتل، وحديث أبي بكر المشار إليه هو أن رجلًا كلم أبا بكر فأغلظ له، فقال له أبو برزة: ألا أقتلُه يا خليفةَ رسولِ الله؟ فقال أبو بكر: ما كانت لأحدٍ بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
وعلى هذا يتخرَّجُ حديثُ الأمرِ بقتل هذا القبطي، ويتخرَّج عليه أيضًا حديثُ الأمر بقتل السارق إن كان صحيحًا، فإنَّ فيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتله في أوَّلِ مرةٍ، فراجعوه فيه فقطعه، ثم فعل ذلك أربع مرات وهو يأمر بقتله، فيُراجع فيه، فيُقطع حتَّى قُطِعت أطرافُه الأربع، ثمَّ قتل في الخامسة، والله تعالى أعلم.
(1)
رواه أحمد 1/ 9 وأبو داود (4363)، والنسائي 7/ 110، وهو صحيح.
الحديث الخامس عشر
عَنْ أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه عن رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بالله واليَوم الآخرِ، فَلْيَقُلْ خَيرًا أوْ لِيَصْمُتْ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْم الآخِرِ، فَليُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوم الآخِرِ، فَليُكْرمْ ضَيفَهُ" رواهَ البخاريُّ ومُسلمٌ
(1)
.
هذا الحديث خرَّجاه من طُرُقٍ عن أبي هريرة، وفي بعض ألفاظها:"فلا يؤذ جاره" وفي بعض ألفاظها: "فليُحسن قِرى ضيفِه"، وفي بعضها:"فليَصِلْ رحمه" بدل ذكر الجار.
وخرَّجاه أيضًا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقد رُوي هذا الحديثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة
(3)
وابن مسعود
(4)
،
(1)
رواه أحمد 2/ 267 و 433 و 463، والبخاري (6018) و (6136) و (6475)، ومسلم (47)، وأبو داود (5154)، والترمذي (2500)، وصححه ابن حبان (506) و (516) وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه البخاري (6019) و (6175) و (6476)، ومسلم (48)، وصححه ابن حبان (5278)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3)
رواه أحمد 6/ 69، وكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 167، وقال: رجاله ثقات.
(4)
رواه الطبراني في "الكبير"(10442)، قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 169 - 170: فيه مصعب بن سوار، وهو متروك.
وعبد الله بن عمرو
(1)
، وأبي أيوب الأنصاري
(2)
وابن عباسٍ
(3)
وغيرهم مِنَ الصَّحابة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كان يؤمِنُ باللهِ واليوم الآخر" فليفعل كذا وكذا، يدلُّ على أن هذه الخصال مِنْ خصال الإِيمان، وقد سبق أن الأعمال تدخلُ في الِإيمان، وقد فسر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإيمان بالصبر والسماحة
(4)
، قال الحسن: المراد: الصبر عن المعاصي، والسماحة بالطَّاعة
(5)
.
وأعمال الإِيمان تارة تتعلَّق بحقوق الله، كأداءِ الواجبات وترك المحرمات، ومِنْ ذلك قولُ الخير، والصمتُ عن غيره.
وتارةً تتعلق بحقوق عبادِه كإكرام الضيف، وإكرام الجارِ، والكفِّ عن أذاه، فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن: أحدها قولُ الخيرَ والصمت عما سواه، وقد روى الطبراني من حديث أسودَ بنِ أصرم المحاربي، قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال:"هل تملك لسانك؟ " قلت: ما أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: "فهل تملك يدك؟ " قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: "فلا تَقُلْ بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسُط يدَك إلَّا إلى خير"
(6)
.
(1)
رواه أحمد 2/ 174، وفيه ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ، وذكره الهيثمي 8/ 167، وزاد نسبته للطبراني، وحسن إسناده.
(2)
رواه الطبراني (3873)، والبيهقي 7/ 309، وصححه ابن حبان (5597)، والحاكم 4/ 289 ووافقه الذهبي!
(3)
رواه الطبراني في "الكبير"(10843)، والبزار (1926)، وفيه مَنْدَل بن علي وأبو صالح باذام، وهما ضعيفان.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
رواه الطبراني في "الكبير"(818)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 300، وحسَّن إسناده.
وقد ورد أن استقامة اللسانِ من خصالِ الإيمان، كما في "المسند"
(1)
عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَستَقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه".
وخرَّج الطبراني
(2)
من حديث أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَبْلُغُ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتَّى يَخْزِنَ من لسانه" وخرَّج الطبراني
(3)
من حديث معاذ بن جبل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّك لن تزالَ سالمًا ما سكتَّ، فإذا تكلَّمتَ، كُتِبَ لك أو عليك". وفي "مسند" الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من صمت نجا"
(4)
.
وفي "الصحيحين" عن أبي هُريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الرَّجُلَ ليَتكلَّمُ بالكلمة ما يتبيَّنُ ما فيها، يزِلُّ بها في النَّارِ أبعدَ ما بين المشرقِ والمغرب"
(5)
.
وخرَّج الامامُ أحمد، والترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفاً في النار"
(6)
.
(1)
3/ 198، وفيه علي بن مسعدة، وهو ضعيف.
(2)
في "الأوسط" و"الصغير"(964). قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 302: فيه داود بن هلال، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه ضعفًا، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3)
في "المعجم الكبير" 20/ (137)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 300، وقال: رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات.
(4)
حديث صحيح، رواه أحمد 2/ 159 و 177. ورواه أيضًا الترمذي (2501)، والدارمي 2/ 299، وابن المبارك في "الزهد" (385)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (10).
(5)
رواه البخاري (6477) ومسلم (2988)، وصححه ابن حبان (5707)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(6)
رواه أحمد 2/ 355 و 533، والترمذي (2314)، وصححه ابن حبان (5706).
وفي "صحيح البخاري"
(1)
عن أبي هُريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرَّجلَ ليتكلمُ بالكلمة مِنْ رضوان الله لا يُلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجاتٍ، وإن العبدَ ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في جهنَّم".
وخرَّج الإِمام أحمد
(2)
من حديث سليمان بن سُحيم، عن أمِّه، قالت: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إن الرجلَ ليدنو من الجنة حتَّى ما يكونَ بينه وبينَها إلا ذراعٌ فيتكلم بالكلمة، فيتباعد منها أبعدَ مِن صنعاء".
وخرَّج الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث بلالِ بنِ الحارث قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أحدكم ليتكلَّمُ بالكلمة مِن رضوان الله ما يَظُنُّ أن تَبلُغَ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه، وإنَّ أحدَكُم ليتكلَّمُ بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أن تَبْلُغَ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سَخطه إلى يوم يلقاه"
(3)
.
وقد ذكرنا فيما سبق حديثَ أمِّ حبيبة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلامُ ابنِ آدم عليه لا له، إلا الأمرَ بالمعروف، والنهيَ عن المنكر، وذكر الله عز وجل"
(4)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "فليقل خيرًا أو ليصمُت" أمر بقول الخير، وبالصمت عمَّا عداه، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس هناك كلام يستوي قولُه والصمت عنه، بل إما
(1)
برقم (6478).
(2)
4/ 64، وفيه محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعن.
(3)
رواه أحمد 3/ 469، والترمذي (2319)، وابن ماجه (3969)، والنسائي في "الكبير" كما في "التحفة" 2/ 103، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (280) و (281)، والحاكم 1/ 45 - 46.
(4)
تقدم.
أن يكونَ خيرًا، فيكون مأمورًا بقوله، وإما أن يكون غيرَ خير، فيكون مأمورًا بالصمت عنه، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا حديث معاذ بن جبل ولفظه أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال له: "يا مُعاذُ ثكلتك أمُّكَ وهَلْ تقول شيئًا إلَّا وهو لك أو عليك".
وقد قال الله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18] وقدَ أجمعَ السَّلفُ الصَّالحُ على أنَّ الذي عن يمينه يَكتُبُ الحسناتِ، والذي عن شِماله يكتبُ السيئات، وقد رُوي ذلك مرفوعًا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف
(1)
. وفي "الصحيح" عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدُكُم يُصَلِّي، فإنَّه يُناجي ربَّه والملك عن يمينه"
(2)
. ورُوي من حديث حُذيفة مرفوعًا: "إنَّ عن يمينه كاتب الحسنات"
(3)
.
واختلفوا: هل يكتب كلَّ ما تكلَّم به، أولا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عِقاب؟ على قولين مشهورين. وقال عليُّ بنُ أبي طلحة عن ابن عباسٍ: يُكتب كل ما
(1)
رواه الطبراني (7765) و 7787) و (7971) ولفظه: "صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، فإذا عمل حسنةً أثبتها، وإذا عمل سيئة قال له صاحب اليمين: امكُثْ ست ساعات، فإنَّ استغفر، لم يُكتب عليه، وإلا أثبت عليه سيئة".
وذكره الهيثمي 10/ 208، وقال: رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها وثقوا، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 595، وزاد نسبته لابن مردويه والبيهقي في "الشعب"(7049) و (7050).
(2)
رواه من حديث أبي هريرة عبد الرزاق (1686)، ومن طريقه البخاري (416) والبغوي (490)، وصححه ابن حبان (2269).
ورواه من حديث أبي سعيد الخدري أحمد 3/ 24، وأبو داود (480)، وصححه ابن خزيمة (880)، وابن حبان (2270).
(3)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 364 بإسناد صحيح.
تكلم به من خيرٍ أو شرٍّ حتَّى أنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبتُ وجئتُ، حتَّى إذا كان يوم الخميسِ عُرِضَ قوله وعمله فأقرَّ ما كان فيه من خير أو شرٍّ، وألقى سائره، فذلك قولُه تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]
(1)
.
وعن يحيى بني أبي كثير، قال: ركب رجل الحمارَ، فعثر به، فقال: تَعِسَ الحمارُ، فقال صاحب اليمين: ما هي حسنة أكتبها، وقال صاحبُ الشمال: ما هي سيئة فأكتبها، فأوحى الله إلى صاحب الشمال: ما ترك صاحبُ اليمين من شيءٍ، فاكتبهُ، فأثبت في السيئات "تَعِسَ الحمارُ"
(2)
.
وظاهر هذا أنَّ ما ليس بحسنةٍ، فهو سيئة، وإن كان لا يُعاقب عليها، فإنَّ بعضَ السيئات قد لا يُعاقب عليها، وقد تقع مكفرةً باجتناب الكبائر، ولكن زمانها قد خسره صاحبُها حيث ذهب باطلًا، فيحصل له بذلك حسرةً في القيامة وأسف عليه، وهو نوعُ عقوبة.
وخرَّج الإمامُ أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هُريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ قوم يقومون مِنْ مجلس لا يذكُرون الله فيه، إلَّا قاموا عن مثلِ جِيفة حمار، وكان لهم حسرة"
(3)
.
وخرَّجه الترمذي ولفظه: "ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم
(1)
ذكره ابن كثير في "تفسيره" 7/ 377، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 593، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(2)
ورواه ابن أبي شيبة 13/ 575 وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 76، والحسين المروزي في زيادات "الزهد" لابن المبارك (1013) عن حسان بن عطية.
(3)
رواه أحمد 2/ 494 و 527، وأبو داود (4855)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(403)، وصححه الحاكم 1/ 492، وانظر ابن حبان (590) - (592) و (853).
يُصَلُّوا على نبيهم، إلَّا كان عليهم تِرَة، فإنَّ شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم"
(1)
.
وفي رواية لأبي داود والنسائي: "من قَعَدَ مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضطجعًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ترة" زاد النَّسَائِي: "ومَنْ قام مقامًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله تِرة"
(2)
. وخرَّج أيضًا من حديث أبي سعيدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما مِنْ قوم يجلسون مجلسًا لا يذكُرونَ الله فيه إلا كانت عليهم حسرةً يوم القيامة، وإن دخلوا الجنَّة"
(3)
.
وقال مجاهد: ما جلس قومٌ مجلسًا، فتفرَّقوا قبل أن يذكُرُوا الله، إلا تفرقوا عن أنتن مِن ريح الجيفة، وكان مجلسُهم يشهدُ عليهم بغفلتهم، وما جلس قومٌ مجلسًا، فذكروا الله قبل أن يتفرَّقوا، إلَّا تفرَّقوا عن أطيب من ريحِ المسك، وكان مجلسهم يشهدُ لهم بذكرهم.
وقال بعضُ السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعاتُ عمره، فكلُّ ساعة لم يذكر الله فيها تتقطَّعُ نفسه عليها حسراتٍ.
وخرَّجه الطبراني من حديث عائشة مرفوعًا: "ما مِنْ ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكرِ الله فيها بخيرٍ، إلا حسرَ عندَها يومَ القيامةِ"
(4)
.
(1)
رواه الترمذي (3380).
(2)
رواه أبو داود (4856) والنسائي في "اليوم والليلة"(404).
(3)
رواه النَّسَائِي في "اليوم والليلة"(409) و (410)، وصححه ابن حبان (592) من حديث أبي هريرة.
(4)
رواه الطبراني في "الأوسط"، وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 80 وقال: فيه عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 363، ونسبه لابن أبي الدنيا والبيهقي.
فمن هنا يعلم أن ما ليس بخيرٍ مِنَ الكلامِ، فالسُّكوتُ عنه أفضلُ من التكلم به، اللَّهمَّ إلا ما تدعو إليه الحاجةُ مما لا بدَّ منه. وقد روي عن ابن مسعود قال: إيَّاكم وفضولَ الكلام، حسبُ امرئ ما بلغ حاجته. وعن النخعي قال: يَهلِكُ الناسُ في فضول المال والكلام.
وأيضًا فإنَّ الإِكثارَ من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجبُ قساوةَ القلب كما في "الترمذي" من حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا تُكثِرُوا الكلامَ بغيرِ ذكر الله، فإنَّ كثرةَ الكلامِ بغيرِ ذكرِ الله يُقسِّي القلب، وإنَّ أبعدَ الناس عن الله القلبُ القاسي"
(1)
.
وقال عمر: مَنْ كَثُرَ كلامُه، كَثُرَ سَقَطُهُ، ومَنْ كَثُرَ سَقَطُه، كَثُرَت ذُنوبُه، ومَن كَثُرَت ذنوبُه، كانت النارُ أولى به
(2)
. وخرَّجه العقيلي
(3)
من حديث ابن عمر
(1)
رواه الترمذي (2411) من طريق إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم.
قلت: وإبراهيم روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات" 6/ 14، وعبد الله بن دينار ثقة من رجال الستة.
ورواه مالك في "الموطأ" 2/ 986 بلاغًا من قول عيسى عليه السلام ولفظه: بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: "لا تُكثِروا الكلام بغير ذكر الله فَتَقسُوَ قلوبُكم. فإنَّ القلب القاسي بعيدٌ من اللهِ ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كانكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد. فإنما الناس مُبتلىً ومُعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
(2)
رواه القضاعي في "مسند الشهاب"(374)، وابن حبان في "روضة العقلاء" ص 44 وأورده الهيثمي في "المجمع" 10/ 302، ونسبه إلى الطبراني في "الأوسط".
(3)
في "الضعفاء" 3/ 384، ورواه أيضًا القضاعي (372) - (374)، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 74 وقال: هذا حديث غريب وذكره الهيثمي في 10/ 302، ونسبه إلى الطبراني في "الأوسط" وقال: وفيه ضعفاءُ وُثِّقُوا.
مرفوعًا بإسناد ضعيف.
وقال محمد بن عجلان: إنَّما الكلام أربعة: أن تذْكُرَ الله، وتقرأ القرآن، وتسأل عن علم فتخبر به، أو تكلّم فيما يعنيك من أمر دنياك.
وقال رجل لسلمان: أوصني، قال: لا تكلَّم، قال: ما يستطيعُ من عاش في الناس أن لا يتكلم، قال: فإنَّ تكلَّمت، فتكلم بحقٍّ أو اسكُت
(1)
.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذُ بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد
(2)
.
وقال ابن مسعود: والله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض أحقُّ بطول سجنٍ مِنَ اللِّسانِ
(3)
. وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأسَ الحكم الصمتُ
(4)
.
وقال شميط بن عجلان: يا ابن آدم، إنَّك ما سكتَّ، فأنت سالمٌ، فإذا تكلمت، فخذ حِذرَك، إمَّا لك وإمَّا عليك
(5)
. وهذا بابٌ يطول استقصاؤه.
والمقصود أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بالكلام بالخير، والسُّكوتِ عمَّا ليس بخيرٍ، وخرَّج الإِمام أحمدُ وابنُ حبان من حديث البراء بن عازب أن رجلًا قال: يا رسولَ الله، علمني عملًا يُدخلُني الجنَّة، فذكر الحديثَ وفيه قال: "فأطعم الجائع،
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(44).
(2)
رواه مالك 2/ 988، وعبد الله بن أحمد في زوائد "الزهد" ص 112، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(13)، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 33.
(3)
رواه ابن حبان في "روضة العقلاء" ص 48 والطبراني في "الكبير"(8744) - (8747).
وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 303 وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجالها ثقات.
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(619).
(5)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 3/ 129، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(623).
واسقِ الظمآن، وأُمُر بالمعروف، وانْهَ عَنِ المُنكر، فإنَّ لم تُطِقْ ذلك، فكفَّ لسانك إلَّا مِن خيرٍ"
(1)
.
فليس الكلامُ مأمورًا به على الِإطلاق، ولا السُّكوتُ كذلك، بل لا بدَّ منَ الكلام بالخير والسكوتِ عن الشرِّ، وكان السَّلفُ كثيرًا يمدحُون الصَّمتَ عن الشَّرِّ، وَعمَّا لا يعني لِشدَّته على النفس، ولذلك يقع فيه النَّاسُ كثيرًا، فكانوا يُعالجون أنفسهم، ويُجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم.
قال الفضيلُ بن عياض: ما حجّ ولا رِباطٌ ولا جهادٌ أشدَّ مِنْ حبس اللسان، ولو أصبحت يهمُّكَ لسانُك، أصبحتَ في غمٍّ شديد، وقال: سجنُ اللسان سجنُ المؤمن، ولو أصبحت يهمُّك لسانُك، أصبحت في غمٍّ شديد
(2)
.
وسئلَ ابنُ المبارك عن قولِ لقمان لابنه: إن كان الكلامُ من فضةٍ، فإنَّ الصَّمتَ من ذهبٍ
(3)
، فقال: معناه: لو كان الكلامُ بطاعة الله مِن فضَّة، فإنَّ الصَّمتَ عن معصيةِ اللهِ من ذهبِ. وهذا يرجعُ إلى أن الكفَّ عن المعاصي أفضلُ من عمل الطاعات، وقد سَبق القولُ في هذا مستوفى.
وتذاكروا عندَ الأحنفِ بنِ قيس، أيُّما أفضل الصمتُ أو النطقُ؟ فقال قوم: الصمتُ أفضلُ، فقال الأحنفُ: النطقُ أفضل؛ لأن فضلَ الصمت لا يعدو صاحبَه، والمنطق الحسن ينتفع به مَنْ سَمِعَه
(4)
.
وقال رجلٌ من العلماء عند عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله: الصَّامت على علم كالمتكلم على علمٍ، فقال عمر: إنِّي لأرجو أن يكونَ المتكلمُ على علم
(1)
رواه أحمد 4/ 299، وصححه ابن حبان (374)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(651)، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 110.
(3)
ورواه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(47) من قول سليمان بن داود عليهما السلام.
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(712).
أفضلهما يوم القيامة حالًا، وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمتُه لنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة المنطق؟ فبكى عمرُ عند ذلك بكاءً شديدًا.
ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يومًا فرَّق الناسُ، وبَكَوا، فقطع خطبته، فقيل له: لو أتممتَ كلامك رجونا أن ينفعَ الله به، فقال عمر: إن القولَ فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول.
وكنت من مدّة طويلة قد رأيتُ في المنام أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ عبد العزيز رضي الله عنه، وسمعته يتكلَّمُ في هذه المسألة، وأظنُّ أنِّي فاوضتُه فيها، وفهمتُ من كلامِه أنَّ التكلُّم بالخير أفضلُ من السُّكوتِ، وأظُنُّ أنَّه وقع في أثناء الكلام ذكرُ سليمان بن عبد الملك، وأنَّ عمرَ قال ذلك له، وقد رُويَ عن سليمانَ بن عبد الملك أنَّه قال: الصمت منامُ العقل، والمنطقُ يَقظَتُهُ
(1)
، ولا يتمُّ حالٌ إلا بحال، يعني: لا بدَّ من الصَّمت والكلام.
وما أحسنَ ما قال عُبيدُ الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته، وكان أحدَ الحكماء: إذا كان المرءُ يحدِّث في مجلسٍ، فاعجبه الحديثُ فليسكتْ، وإذا كان ساكتًا، فأعجبه السكوتُ، فليُحدث
(2)
، وهذا حسن فإنَّ من كان كذلك، كان سكوتُه وحديثُه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه، ومن كان كذلك، كان جديرًا بتوفيق الله إيَّاه وتسديده في نطقه وسكوته؛ لأنَّ كلامَه وسكوتَه يكونُ للهِ عز وجل.
وفي مراسيل الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه عز وجل قال: "علامة الطُّهر أن يكونَ قلبُ العبد عندي معلَّقًا، فإذا كان كذلك، لم ينسني على حال، وإذا كان كذلك، مننتُ عليه بالاشتغال بي كي لا ينساني، فإذا نسيني، حرَّكتُ قلبهُ، فإنَّ تكلَّم، تكلَّم لي، وإن سكتَ، سكتَ لي، فذلك الذي تأتيه المعونةُ من عندي" خرَّجه إبراهيمُ بنُ الجنيد.
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(696).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(97) و (269).
وبكلِّ حالٍ، فالتزامُ الصمت مطلقًا، واعتقاده قربة إمَّا مطلقًا، أو في بعض العبادات، كالحجِّ والاعتكاف والصيام منهى عنه. ورُوي من حديث أبي هريرة عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عن صيام الصَّمت. وخرَّج الإسماعيلي من حديث عليّ قال: نهانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الصمت في العُكوفِ، وفي "سنن أبي داود"
(1)
من حديث عليٍّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا صُماتَ يَوم إلى اللَّيلِ". وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حَجَّتْ مُصمَتَةً: إن هذا لا يَحلُّ هذا من عمل الجاهلية
(2)
. وروي عن عليِّ بنِ الحسين زين العابدين أنَّه قال: صومُ الصَّمْتِ حرام.
الثاني مما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المؤمنين
(3)
إكرامُ الجار، وفي بعض الرِّوايات:"النهي عن أذى الجار" فأمَّا أذى الجار، فمحرَّمٌ، فإنَّ الأذى بغيرِ حقٍّ محرَّمٌ لكل أحدٍ، ولكن في حق الجار هو أشدُّ تحريمًا، وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه سُئِلَ: أيُّ الذَّنب أعظمُ؟ قال: "أن تجعل دكهِ ندًّا وهو خلقك"، قيل: ثم أيّ؟ قال: "أن تقتُلَ ولَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك"، قيل: ثم أيّ؟ قال: "أن تُزَانِي حليلةَ جارك"
(4)
. وفي "مسند
(1)
برقم (2873) وهو حديث حسن مخرج في "شرح مشكل الآثار" رقم (658) بتحقيقنا.
قال الخطابي في "معالم السنن": وكان أهل الجاهلية من نُسُكهمُ الصُّمات، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة، فيصمِت ولا ينطق، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالذكر والنطق بالخير.
(2)
رواه البخاري (3834)، والدارمي 1/ 71.
(3)
في (أ) و (ب): "للمؤمنين".
(4)
رواه البخاري (4477) و (7520) ومسلم (86)، وصححه ابن حبان (4414) و (4415)، وانظر تمام تخريجه فيه.
الإمام أحمد"
(1)
عن المقداد بنِ الأسود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في الزنى؟ " قالوا: حرام حرَّمه الله ورسوله، فهو حرامٌ إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأَنْ يزني الرَّجُلُ بعشرِ نسوةٍ أيسرُ عليه من أن يزنيَ بامرأةِ جاره"، قال:"فما تقولون في السَّرقة؟ " قالوا: حرَّمها الله ورسوله، فهي حرام، قال:"لأنْ يَسرِقَ الرجلُ من عشرة أبياتٍ أيسرُ عليه من أن يسرق من جاره".
وفي "صحيح البخاري"
(2)
عن أبي شُريح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يُؤْمِنُ، والله لا يؤْمِنُ، واللهِ لا يؤمنُ" قيل: وَمَنْ يا رسولَ الله؟ قال
(3)
: "مَنْ لا يأْمَنُ جارهُ بوائِقَه"، وخرَّجه الإمامُ أحمد وغيره من حديث أبي هريرة
(4)
.
وفي "صحيح مسلم"
(5)
عن أبي هُريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَدخُلُ الجنَّة مَنْ لا يَأْمَنُ جارُه بوائقَهُ".
وخرَّج الإمامُ أحمد، والحاكم من حديث أبي هُريرة، قال: قيلَ: يا رسولَ الله إنَّ فلانة تُصلي الليلَ، وتصومُ النهار وفي لسانها شيءٌ تؤذي جيرانها سليطة، قال:"لا خير فيها، هي في النار"، وقيل له: إن فلانة تُصلي المكتوبةَ، وتصومُ رمضانَ، وتتصدَّقُ بالأثوارِ، وليس لها شيءٍ غيره، ولا تؤذي أحدًا، قال:"هي في الجنة" ولفظ الإمام أحمد: "ولا تؤذي بلسانها جيرانها"
(6)
.
(1)
6/ 8، وسنده قوي، ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(153) والطبراني في "الكبير"
20/ 605، وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 168، وقال: ورجاله ثقات.
(2)
برقم (6016). ورواه أيضًا أحمد 4/ 31 و 6/ 385.
(3)
جملة: "قيل: ومَنْ يا رسول الله" سقطت من (أ) و (ب)، واستدركت من "البخاري".
(4)
رواه أحمد 2/ 288 و 336، والبخاري (6016).
(5)
برقم (46). ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(121).
(6)
رواه أحمد 2/ 440، والبخاري في "الأدب المفرد"(119)، وصححه الحاكم=
وخرَّج الحاكمُ من حديث أبي جُحيفة قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يشكو جارَه، فقال له:"اطرح متاعَك في الطَّريق"، قال: فجعل النَّاسُ يمرُّون به فيلعنونه، فجاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، ما لقيتُ من الناس، قال:"وما لقيتَ منهم؟ " قال: يلعنوني، قال:"فقد لعنك الله قبلَ النَّاسِ"، قال: يا رسولَ الله، فإني لا أعود
(1)
. وخرّجه أبو داود
(2)
بمعناه من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه:"فقد لعنك الله قبل الناس".
وخرَّج الخرائطي من حديث أمِّ سلمة، قالت: دخلت شاةٌ لجارٍ لنا، فأخذت قرصةً لنا، فقمت إليها فاجتذبتها
(3)
من بين لَحْيَيْهَا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّه لا قليلَ من أذى الجار"
(4)
.
وأمَّا إكرامُ الجارِ والإحسانُ إليه، فمأمورٌ به، وقد قال الله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
= 4/ 166، ووافقه الذهبي، مع أن فيه أبا يحيى مولى جعدة بنت هبيرة لم يرو عنه غير الأعمش!
وقوله: "يتصدق بالأثوار" هو جمع ثور: وهو القطعة العظيمة من الأَقِط، وهو اللبن الجامد المستحجر.
(1)
رواه الحاكم 4/ 166، والبخاري في "الأدب المفرد"(125)، والبزار (1903)، وفي إسناده سيء الحفظ ومجهول، ومع ذلك فقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي، لكن رواية أبي داود الآتية وسندها حسن تشهد له.
(2)
رقم (5153)، ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(124)، وسنده حسن، وصححه ابن حبان (520)، والحاكم 4/ 160، ووافقه الذهبي.
(3)
في (أ): "فأخذتها".
(4)
ورواه الطبراني في "الكبير" 23/ (535) وعنه أبو نعيم في "الحلية" 10/ 27 دون قصة الشاة، وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 175، وقال: رجاله ثقات. وانظر حديث عائشة في "الأدب المفرد"(120).
وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]، فجمع الله تعالى في هذه الآية بين ذكرِ حقِّه على العبد وحقوقِ العباد على العبد أيضًا، وجعل العبادَ الذين أمرَ بالِإحسان إليهم خمسة أنواع:
أحدها: من بينَه وبينَ الإِنسانِ قرابة، وخصَّ منهمُ الوالدين بالذِّكر؛ لامتيازهما عن سائر الأقارب بما لا يَشْرَكونهما فيه، فإنهما كانا السببَ في وجود الولد ولهما حقٌ التربية والتأديب وغير ذلك.
الثاني: مَنْ هو ضعيفٌ محتاجٌ إلى الِإحسان وهو نوعان: من هو محتاج لضعف بدنه، وهو اليتيم، ومن هو محتاج لِقلَّةِ ماله، وهو المسكين.
والثالث: مَنْ له حقُّ القُرب والمخالطة، وجعلهم ثلاثة أنواع: جارٌّ ذو قربى، وجار جُنبٌ، وصاحبٌ بالجنب.
وقد اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فمنهم مَن قال: الجارُ ذو القربى: الجارُ الذي له قرابةٌ، والجارُ الجُنب: الأجنبيُّ، ومنهم من أدخل المرأةَ في الجارِ ذي القربى، ومنهم من أدخلها في الجار الجُنب، ومنهم من أدخل الرَّفيقَ في السَّفر في الجارِ الجُنب، وقد روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقول في دعائه:"أعوذُ بكَ من جارِ السُّوءِ في دار الإقامة، فإنَّ جار البادية يتحوَّلُ"
(1)
.
ومنهم من قال: الجارُ ذو القربى: الجار المسلم، والجارُ الجنب: الكافر، وفي "مسند البزار" من حديث جابر مرفوعًا: "الجيرانُ ثلاثةٌ: جازٌ له حقٌّ واحدٌ، وهو أدنى الجيران حقًا، وجاز له حَقّان، وجار له ثلاثةُ حقوق وهو أفضلُ الجيران حقًا، فأمَّا الذي له حقٌّ واحدٌ، فجاز مشرك، لا رَحِمَ له، له حقُّ الجوار، وأمَّا
(1)
رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 346، والبخاري في "الأدب المفرد"(117)، والنسائي 8/ 274، وصححه ابن حبان (1033)، والحاكم 1/ 532، ووافقه الذهبي.
الذي له حقَّان، فجازٌ مسلمٌ، له حقُّ الإِسلام وحقُّ الجوار، وأمَا الذي له ثلاثةُ حقوقٍ، فجار مسلمٌ ذو رحم، له حقُّ الإِسلام، وحقُّ الجوار، وحقُّ الرحم"
(1)
. وقد روي هذا الحديثُ من وجوه أخر متصلة ومرسلة، ولا تخلو كلُّها مِنْ مقالٍ.
وقيل: الجار ذو القربى: هو القريبُ الجوار الملاصق، والجار الجُنُب: البعيد الجوار.
وفي "صحيح البخاري" عن عائشة، قالت: قلت: يا رسولَ الله إن لي جارين، فإلى أيهما أُهدي؟ قال:"إلى أقربهما منك بابًا"
(2)
.
وقال طائفة من السلف: حَدُّ الجوارِ أربعون دارًا، وقيل: مستدار أربعين دارًا من كلِّ جانب.
وفي مراسيل الزهري: أن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يشكو جارًا له، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه أن ينادي:"ألا إنَّ أربعين دارًا جار". قال الزهري: أربعونَ هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، يعني بين يديه ومِن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله
(3)
.
(1)
رواه البزار (1896) وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 207 من طريق الحسن البصري عن جابر، ولم يسمع منه. وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 164، وقال: رواه البزار عن شيخه عبد الله بن محمد الحارثي، وهو وضّاع.
(2)
رواه البخاري (2259) و (2595) و (6020). ورواه أيضًا ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق"(335).
(3)
في "الفتح" 10/ 447: واختلف في حد الجوار، فجاء عن علي رضي الله عنه: مَنْ سيع النداء فهو جار، وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار، وعن عائشة: حدُّ الجوار أربعون دارًا من كل جانب، وعن الأوزاعي مثلُه.
وأخرج البخاري في "الأدب المفرد"(109) مثلَه عن الحسن، وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك مرفوعًا:"ألا إنَّ أربعين دارًا جوارٌ"، وأخرج ابن وهب، عن=
وسئل الإِمام أحمد عمَّن يطبخ قدرًا وهو في دارِ السبيل، ومعه في الدار نحو ثلاثين أو أربعين نفسًا: يعني أنهم سكان معه في الدار، فقال: يبدأ بنفسه، وبمن يعولُ، فإنَّ فضلَ فضلٌ، أعطى الأقرب إليه، وكيف يُمكنه أن يُعطِيَهم كلَّهم؟ قيل له: لعلَّ الذي هو جاره يتهاون بذلك القدر ليس له عندمه موقع؟ فرأى أنَّه لا يبعث إليه.
وأمَّا الصاحبُ بالجنب، ففسَّره طائفة بالزَّوجة، وفسره طائفةٌ منهم ابن عباس بالرَّفيق في السفر، ولم يريدوا إخراجَ الصاحب الملازم في الحضر إنما أرادوا أن صحبة السفر تكفي، فالصحبة الدائمة في الحضر أولى، ولهذا قال سعيدُ بن جبير: هو الرفيق الصالحُ، وقال زيدُ بن أسلم: هو جليسُك في الحضر، ورفيقُك في السَّفر، وقال ابنُ زيدٍ: هو الرَّجلُ يعتريك ويُلِمُّ بك لتنفعه. وفي "المسند" والترمذي عن عبد الله بنِ عمرو بن العاص، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"خيرُ الأصحابِ عندَ الله خيرُهُم لصاحبه، وخيرُ الجيرانِ عندَ اللهِ خيرُهم لجاره"
(1)
.
الرابع: من هو واردٌ على الإنسان، غيرُ مقيم عندَه، وهو ابن السبيل: يعني المسافر إذا ورد إلى بلدٍ آخر، وفسَّره بعضُهم بالضَّيف: يعني به ابنَ السبيل إذا نزل ضيفًا على أحد.
والخامس: ملكُ اليمين، وقد وصَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بهم كثيرًا وأمر بالإِحسانِ
= يونس، عن ابن شهاب: أربعون دارًا عن يمينه، وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه.
وهذا يحتمل أن يريد التوزيع، فيكون من كل جانب عشرة.
(1)
رواه أحمد 2/ 167 و 168، والترمذي (1944) والبخاري في "الأدب المفرد"(115)، وصححه ابن حبان (518) و (519) والحاكم 2/ 101 و 4/ 164، ووافقه الذهبي.
إليهم، وروي أنَّ آخرَ ما وصَّى به عند موته:"الصلاة وما ملكت أيمانكم"
(1)
، وأدخل بعضُ السلف في هذه الآية: ما يملكُهُ الإِنسانُ من الحيوانات والبهائم.
ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة في إكرام الجار، وفي "الصحيحين" عن عائشة وابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما زال جبريل يُوصيني بالجارِ حتَّى ظننت أنَّه سيورِّثُه"
(2)
.
فمن أنواع الإِحسانِ إلى الجارِ مواساتُه عندَ حاجته، وفي "المسند" عن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَشبَعُ المؤمنُ دُونَ جارِه"
(3)
، وخرَّج الحاكم من حديث ابنِ عباسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لَيْسَ المؤمن الذي يشبعُ وجارُه جائعٌ"
(4)
وفي رواية أخرى عن ابن عباسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما آمن مَنْ بات شبعانًا وجارُه طاويًا"
(5)
.
وفي "المسند" عن عقبة بن عامر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّل خصمينِ يومَ
(1)
رواه من حديث أنس أحمد 3/ 17، وابن ماجه (2697)، وصححه ابن حبان (6605)، وانظر تمام تخريجه مع شواهده فيه.
(2)
رواه من حديث عائشة البخاري (6014) ومسلم (2624)، وأحمد 6/ 52، وأبو داود (5151)، والترمذي (1942)، وابن ماجه (3673)، وصححه ابن حبان (511).
ورواه من حديث ابن عمر البخاري (6015) ومسلم (2625).
(3)
رواه أحمد 1/ 55، ومن طريقه الحاكم 4/ 167، وإسناده ضعيف لانقطاعه.
(4)
حديث صحيح، رواه الحاكم 4/ 167، والبخاري في "الأدب المفرد"(112)، والطبراني في "الكبير"(12741) وأبو يعلى (2699)، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق"(346)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 358: رجاله ثقات، وكذا قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 167. ورواه الحاكم 2/ 12 من حديث عائشة.
(5)
رواه ابن عدي في "الكامل" 2/ 637، وفي سنده حكيم بن جبير وهو ضعيف. وله شاهد من حديث أنس عند الطبراني في "الكبير"(751)، وفيه محمد بن سعيد الأثرم،=
القيامةِ جاران"
(1)
.
وفي كتاب "الأدب" للبخاري عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"كم من جارٍ متعلِّقٌ بجاره يومَ القيامة، فيقول: يا ربّ هذا أغلقَ بابه دوني فمنع معروفه"
(2)
.
وخرَّج الخرائطي وغيرُه بإسنادٍ ضعيف من حديث عطاءٍ الخراساني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "من أغلقَ بابَه دونَ جارِه مخافةً على أهله ومالِه، فليس ذلك بمؤمنٍ، وليس بمؤمن من لم يأمنْ جارُه بوائقه. أتدري ما حقُّ الجار؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر، عُدْتَ عليه، وإذا مَرِضَ عُدته، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزَّيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل
(3)
عليه بالبناء، فتحجبَ عنه الرِّيح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقُتار ريح قدرك إلَّا أن تَغرفَ له منها، وإن اشتريتَ فاكهةً، فاهد له، فإنَّ لم تفعل، فأدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدُك ليغيظَ بها ولدَه"
(4)
= ضعفه أبو زرعة، وترك حديثه أبو حاتم، وقال: منكر الحديث.
وله طريق آخر عند البزار (119)، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وحسنه الهيثمي في "المجمع" 8/ 167، وكذا المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 358.
(1)
رواه أحمد 4/ 151، والطبراني في "الكبير" 1/ (852) بإسناد حسن، ورواه الطبراني 17/ (836) بإسناد آخر، وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 170 فقال: رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح.
(2)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(111) وفي سنده ليث - وهو ابن أبي سليم - ضعيف.
(3)
في (أ)(ب): "تستطيل".
(4)
رواه الخرائطي في "مكارم الأخلاق"(164).
وذكره الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 357 بصيغة التمريض، وقال: ولعل قوله: "أتدري ما حق الجار
…
" إلى آخره - في كلام الراوي غير مرفوع، لكن=
ورَفْعُ هذا الكلام مُنكرٌ، ولعلَّه من تفسير عطاء الخراساني.
وقد روي أيضًا عن عطاء عن الحسن عن جابر مرفوعًا: "أدنى حقِّ الجوار أن لا تُؤذي جارَك بقتارِ قِدْرِك إلَّا أنْ تَقدَحَ له منها"
(1)
.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذرٍّ قال: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم إذا طبختَ مرقًا، فأكثِر ماءَهُ، ثم انظُر إلى أهلِ بيتِ جيرانِك، فأصِبْهُم منها بمعروفٍ". وفي رواية أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقةً، فأكثِر ماءها، وتعاهد جيرانَك"
(2)
.
وفي "المسند" والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّه ذبح شاةً، فقال: هل أهديتُم منها لجارنا اليهودي ثلاثَ مرّات، ثم قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ما زال جبريلُ يُوصيني بالجار حتى ظننت أنه سَيُورِّثُه"
(3)
.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَمنَعَنَّ أحدُكم جَارَه أن يَغْرِزَ خَشبَةً في جداره" ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها مُعرِضين،
=قد روى الطبراني عن معاوية بن حَيْدة، قال
…
فذكر نحو حديث عبد الله بن عمرو.
وحديث معاوية بن حيدة عند الطبراني في "معجمه الكبير" 19/ (1014)، وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 165، وقال: فيه أبو بكر الهذلي، وهو ضعيف.
(1)
وإسناده ضعيف، الحسن لم يسمع من جابر.
ورواه البزار (1901) والطبراني في "الأوسط" بلفظ: "إذا طبخ أحدكم قدرًا فليكثر مرقها، ثم ليُناول جاره منها" قال الهيثمي 8/ 165 - 166: فيه عُبيد الله بن سعيد قائد الأعمش، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات.
(2)
رواه مسلم (2625) وأحمد 5/ 149، والبخاري في "الأدب المفرد"(113) و (114) وصححه ابن حبان (513) و (514).
(3)
رواه أحمد 2/ 160، وأبو داود (5112)، والترمذي (1943)، والبخاري في "الأدب المفرد"(105)، وإسناده صحيح، وقال الترمذي: حسن غريب.
والله لأرمِيَنَّ بها بين أكتافكم
(1)
.
ومذهبُ الإمام أحمد أنَّ الجار يلزمه أن يُمَكِّنَ جاره من وضع خشبه على جداره إذا احتاجَ الجَارُ إلى ذلك ولم يضر بجداره، لهذا الحديث الصحيح، وظاهرُ كلامه أنه يجب عليه أن يُواسِيَه من فضل ما عندَه بما لا يضرُّ به إذا علم حاجته. قال المروذي: قلتُ لأبي عبد الله: إني أسمع السائل في الطريق يقول: إنِّي جائع، فقال: قد يَصدُق وقد يَكذِبُ. قلت: فإذا كان لي جار أعلم أنَّه يجوعُ؟ قال: تواسيه، قلت: إذا كان قوتي رغيفين؟ قال: تُطعمه شيئًا، ثم قال: الذي جاء في الحديث إنَّما هو الجارُ.
وقال المروذي: قلتُ لأبي عبد الله: الأغنياءُ يجبُ عليهمُ المواساة؟ قال: إذا كان قوم يضعون شيئًا على شيءٍ كيف لا يجبُ عليهم، قلت: إذا كان للرجل قميصان، أو قلت: جُبَّتان، يجب عليه المواساة؟ قال: إذا كان يحتاج إلى أن يكون فضلًا.
وهذا نصٌّ منه في وجوب المواساة من الفاضل، ولم يخصَّه بالجار، ونصُّه الأوَّل يقتضي اختصاصه بالجار.
وقال في رواية ابن هانئ في السُّؤَّال يكذِبُون أحبُّ إلينا لو صدقوا ما وَسِعَنا إلا مواساتُهم وهذا يدلُّ على وجوب مواساة الجائع مِنَ الجيران، وغيرهم.
وفي "الصحيح" عن أبي موسى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أطعِموا الجائع، وعُودُوا المريضَ، وفُكُّوا العاني"
(2)
.
(1)
رواه البخاري (2463) و (5627) و (5628)، ومسلم (1609)، وأحمد 2/ 396، وأبو داو (3634)، والترمذي (1353) وابن ماجه (2335)، وصححه ابن حبان (515).
(2)
رواه البخاري (3046) و (5174) و (5373) و (5649) و (7173)، وأحمد 4/ 394 و (406)، وأبو داود (3105)، وصححه ابن حبان (3324).
وفي "المسند" و"صحيح الحاكم" عن [ابن] عمرَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أيُّما أهل عَرَصَةٍ أصبحَ فيهم امرؤٌ جائع، فقد برئت منهم ذِمَّةُ الله عز وجل"
(1)
.
ومذهب أحمدَ ومالكٍ أنه يمنع الجار أن يتصرَّف في خاصِّ ملكه بما يضرُّ بجاره، فيجبُ عندهما كفُّ الأذى عن الجار بمنعِ إحداث الانتفاع المضرِّ به، ولو كان المنتفعُ إنَّما ينتفعُ بخاصِّ ملكه، ويجب عندَ أحمد أن يبذُلَ لجاره ما يحتاجُ إليه، ولا ضررَ عليه في بَذله، وأعلى مِنْ هذين أن يصبر على أذى جاره، ولا يُقابله بالأذى. قال الحسن: ليس حسنُ الجوار كفَّ الأذى، ولكن حسن الجوار احتمالُ الأذى، ويُروى من حديث أبي ذرٍّ يرفعه:"إنَّ الله يحبُّ الرَّجل يكونُ له الجارُ يؤذيه جِوارُه، فيصبر على أذاه حتى يُفرِّقَ بينهما موت أو ظعنٌ" خرَّجه الِإمام أحمد
(2)
. وفي مراسيل أبي عبد الرحمن الحبلي أنَّ رجلًا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يشكو إليه جارَه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"كفَّ أذاكَ عنه، واصبِرْ لأذاه، فكفى بالموت مفرِّقًا" خرَّجه ابن أبي الدنيا
(3)
.
(1)
رواه أحمد 2/ 33، وابن أبي شيبة 6/ 104، والبزار (1311) عن يزيد بن هارون، حدثنا أصبغ بن زيد، أخبرني أبو بشر، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة الحضرمي، (ووقع في "البزار": عن عمرو بن دينار، وهو خطأ) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من احتكر طعامًا أربعين ليلةً، فقد برئ من الله تعالى، وبرئ الله تعالى منه، وأيُّما أهل عَرْصةٍ أصبح فيهمِّ امرؤٌ جائعٌ، فقد برئت منهم ذمة الله تعالى".
وقد حقق القول فيه العلامة المحدِّث أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند"(4880) وانتهى إلى تصحيحه، فراجِعْه.
ورواه الحاكم 2/ 11 - 12 من طريق عمرو بن الحصين العقيلي، حدثنا أصبغ بن زيد الجهيني، عن أبي الزاهرية، به. سقط من إسناده: حدثنا أبو بشر.
(2)
في "المسند" 5/ 151، وفيه ابن الأحمس، وهو مجهول.
(3)
في "مكارم الأخلاق"(327)، وفي إسناده رشدين بن سعد، وهو ضعيف.
الثالث ممَّا أمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم المؤمنين: إكرامُ الضيف، والمرادُ إحسانُ ضيافته، وفي "الصحيحين" من حديث أبي شُريح، قال: أبصَرَتْ عيناي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وسمعتهُ أذناي حين تكلَّم به قال:"مَنْ كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليوم الآخر، فليُكْرمْ ضيفَه جائزته" قالوا: وما جائزته؟ قال: "يَومٌ وليلة" قال: "والضيافةُ ثلاثةُ أيام، وما كان بعد ذلك، فهو صدقة"
(1)
.
وخرَّج مسلم من حديث أبي شُريح أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الضيافةُ ثلاثةُ أيام، وجائزتُه يوم وليلة، وما أنفق عليه بعد ذلك، فهو صدقة، ولا يَحِلُّ له أن يَثْوِي عندَه حتى يُؤثِمهُ"، قالوا: يا رسول الله وكيف يُؤثمُهُ؟ قال: "يُقيم عنده ولا شيءَ له يَقرِيه به"
(2)
.
وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ كان يُؤمِنُ باللهِ واليوم الآخرِ، فليُكرِمْ ضَيفهُ". قالها ثلاثًا، قالوا: وما كرامة الضيف يا رسولَ الله؟ قالَ: "ثلاثةُ أيام، فما جلس بعد ذلك فهو صدقة"
(3)
.
(1)
رواه البخاري (6019) ومسلم (48).
(2)
رواه مسلم (48) ص 1353، ومعنى الحديث أنَّ عليه إذا نزل به الضيف أن يتحفه، ويزيد في البر على ما بحضرته يومًا وليلة، وفي اليومين الأخيرين يقدم له ما يحضُره، فإذا مضت الثلاث، فقد قضى حقه، فما زاد عليها مما يقدم له يكون صدقة.
ويثوي: يقيم، ومعنى "يؤثّمه" أي: يوقعه في الإثم؛ لأنَّه قد يغتابه لِطول مقامه، أو يعرض له بما يؤذيه، أو يظن به ظنًا سيئًا، وهذا كلُّه محمول على ما إذا لم تكن الإقامة باختيار صاحب المنزل بأن يطلب منه الزيادة في الإقامة، أو يغلب على ظنه أنه لا يكره ذلك.
(3)
رواه بهذا اللفظ أحمد 3/ 76 من طريق ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، وهذا إسناد ضعيف. ابن لهيعة سيء الحفظ، ودراج ضعيف في روايته عن أبي الهيثم.
ففي هذه الأحاديث أن جائزة الضيف يومٌ وليلةٌ، وأن الضيافة ثلاثةُ أيام، ففرّق بين الجائزة والضيافة، وأكَّدَ الجائزة وقد ورد في تأكيدها أحاديثُ أخرُ، فخرَّج أبو داود مِنْ حديث المقدام بن معد يكرب، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليلة الضيف حقُ على كلِّ مسلم، فمن أصبحَ بفِنائه، فهو عليه دَيْنٌ، إنْ شاءَ اقتضى، وإن شاءَ ترك". وخرجه ابن ماجه ولَفظه: "ليلةُ الضيفِ حقٌّ على كلِّ مسلمٍ"
(1)
.
وخرَّج الِإمامُ أحمد، وأبو داود مِن حديث المقدام عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أيُّما رجلٍ أضاف قومًا، فأصبح الضيفُ محرومًا، فإن نَصْرَهُ حقٌّ على كُلِّ مسلم حتى يأخذ بِقِرَى ليلةٍ من زرعه وماله"
(2)
.
وفي "الصحيحين" عن عُقبة بن عامر، قال: قلنا يا رسول اللُه، إنك تبعثُنا، فننزلُ بقوم لا يُقرونا، فما ترى؟ فقال لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إن نزلتُم بقومٍ، فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضَّيف، فاقْبَلُوا، فإن لم يفعلوا، فخذُوا منهم حق الضَّيف الذي ينبغي لهم"
(3)
.
=ورواه بلفظ: "الضيافة ثلاثة أيام
…
" أحمد 3/ 8 و 21 و 37 و 64 و 86، وأبو يعلى (1244) (1287)، والبزار (1931) و (1932)، وصححه ابن حبان (5281). وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 176، وقال: رواه أحمد هكذا مطولًا ومختصرًا بأسانيد، وأبو يعلى والبزار، وأحد أسانيد رجاله رجال الصحيح.
(1)
رواه أبو داود (3750)، وابن ماجه (3677)، وأحمد 4/ 130 و 132 - 133 و 133، وإسناده صحيح.
(2)
رواه أحمد 4/ 131 و 133، وأبو داود (3751)، وصححه الحاكم 4/ 132، ووافقه الذهبي مع أن في إسناده سعيد بن أبي المهاجر، وهو مجهول!
(3)
رواه البخاري (2461) و (6137)، ومسلم (1727)، وصححه ابن حبان (5288)، وانظر تمام تخريجه فيه.
وخرَّج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هُريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أيّما ضيفٍ نزل بقومٍ، فأصبح الضَّيفُ محرومًا، فله أن يأخُذَ بقدرِ قراهُ، ولا حَرَجَ عليه"
(1)
.
وقال عبد الله بن عمرو: مَنْ لم يضف، فليس مِن محمَّدٍ، ولا من إبراهيم.
وقال عبد الله بن الحارث بن جَزْء: من لم يُكرِمْ ضيفَه، فليس من محمد، ولا من إبراهيم.
وقال أبو هريرة لِقوم نزل عليهم، فاستضافهم، فلم يُضَيِّفوهُ، فتنحَّى ونزل، فدعاهم إلى طعامه، فلم يُجيبوه، فقال لهم: لا تُنزلون الضيف ولا تجيبون الدعوة ما أنتُم من الإسلام على شيء، فعرفه رجل منهم، فقال له: انْزِل عافاك الله، قال: هذا شرٌّ وشرٌّ، لا تنزلون إلَّا مَنْ تَعرِفُون.
ورُوي عن أبي الدرداء نحو هذه القضية إلَّا أنَّه قال لهم: ما أنتُم مِنَ الدِّين إلا على مثلِ هذه، وأشار إلى هُدبةٍ في ثوبه.
وهذه النُّصوصُ تدلُّ على وجوب الضِّيافة يومًا وليلة، وهو قولُ الليثِ وأحمد، وقال أحمد: له المطالبةُ بذلك إذا منعه؛ لأنَّه حقٌّ له واجب، وهل يأخذُ بيده من ماله إذا منعه، أو يرفعه إلى الحاكم؟ على روايتين منصوصتين عنه.
وقال حُميدُ بن زَنجويه: ليلةُ الضَّيف واجبةٌ، وليس له أن يأخذَ قِراه منهم قهرًا، إلَّا أن يكونَ مسافرًا في مصالح المسلمين العامَّة دونَ مصلحة نفسه.
(1)
رواه أحمد 2/ 380، وصححه الحاكم 4/ 132، ووافقه الذهبي وهو كما قالا، وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 157، وقال: رواه أحمد، ورجاله ثقات.
تنبيه: سقط هذا الحديث من مطبوعة "المستدرك"، وهو مثبت في "مختصر الذهبي".
وقال الليثُ بن سعد: لو نزل الضَّيفُ بالعبد أضافه مِن المال الذي بيده، وللضيف أن يأكُلَ وإن لم يعلم أنَّ سيِّده أذِنَ له؛ لأنَّ الضيافة واجبة. وهو قياسُ قول أحمد؛ لأنَّه نصَّ على أنه يجوز إجابةُ دعوة العبد المأذون له في التجارة وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم أجابوا دعوة المملوك، ورُويَ ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أيضًا
(1)
، فإذا جاز له أن يدعوَ الناس إلى طعامه ابتداءً وجازَ إجابةُ دعوته، فإضافتُه لمن نزل به أولى.
ومنع مالكٌ والشافعيُّ وغيرُهما مِنْ دعوة العبد المأذون له بدون إذن سيِّده، ونقل عليُّ بن سعيدٍ عن أحمدَ ما يدلُّ على وجوب الضيافة للغُزاة خاصَّةً بمن مرُّوا بهم ثلاثةَ أيَّامٍ، والمشهور عنه الأولُ، وهو وجوبُها لكلِّ ضيفٍ نزلَ بقومٍ.
واختلف قوله: هل تجبُ على أهلِ الأمصار والقُرى أم تختصُّ بأهلِ القُرى ومَنْ كان على طريقٍ يمرُّ به المسافرون؟ على روايتين منصوصتين عنه.
والمنصوص عنه: أنَّها تجبُ للمسلمِ والكافرِ، وخصَّ كثيرٌ من أصحابه الوجوبَ للمسلم، كما لا تجبُ نفقةُ الأقارب مع اختلاف الدِّين على إحدى الروايتين عنه.
وأمَّا اليومان الآخران، وهما الثاني والثالث، فهما تمامُ الضِّيافة،
والمنصوصُ عن أحمد أنَّه لا يجبُ إلا الجائزةُ الأولى، وقال: قد فرَّق بين الجائزة والضيافة، والجائزة أوكدُ، ومِنْ أصحابنا مَنْ أوجَبَ الضيافة ثلاثة أيام: منهم أبو بكر عبد العزيز، وابنُ أبي موسى، والآمدي، وما بعدَ الثَّلاث، فهو صدقة، وظنَّ بعضُ النَّاسِ أنَّ الضيافة ثلاثة أيام بعد اليوم والليلة الأولى، وردَّه أحمد بقوله
(1)
روى البخاري (2092) ومسلم (2041) عن أنس أن خياطًا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعه
…
- صلى الله عليه وسلم: "الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة"
(1)
، ولو كان كما ظنَّ هذا، لكان أربعة.
قلتُ: ونظيرُ هذا قولهُ تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] والمراد: في تمام الأربعة.
وهذا الحديث الذي احتجَّ به أحمد قد تقدَّم من حديث أبي شُريح، وخرَّجه البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن قِرى ضيفه". قيل: يا رسول الله، وما قِرى الضيف؟ قال:"ثلاث، فما كان بعدُ، فهو صدقة"
(2)
.
قال حميد بن زنجويه: عليه أن يتكلَّف له في اليوم والليلة من الطعام أطيب ما يأكله هو وعيالُه، وفي تمام الثلاث يطعمه من طعامه، وفي هذا نظر. وسنذكر حديثَ سلمان بالنَّهي عَنِ التَّكلُّف للضَّيف، ونقل أشهبُ عن مالكٍ، قال: جائزتُه يومٌ وليلةٌ يُكرمه ويُتحفه ويخصه يومًا وليلةً وثلاثة أيَّام ضيافة، وكان ابنُ عمر يمتنع من الأكل مِنْ مالِ مَنْ نزل عليه فوق ثلاثة أيام، ويأمر أن يُنفَقَ عليه من ماله
(3)
. ولصاحب المنزل أن يأمر الضيف بالتحوَّل عنه بعد الثلاث؛ لأنَّه قضى ما عليه، وفعل ذلك الإمام أحمد.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
هذا سَبْق قلم من المؤلف رحمه الله، فإن لفظ البخاري (6136) و (6138):"مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرمْ ضيفه". واللفظ الذي أورده المصنف رواه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" كما في "الجامع الكبير" 2/ 826.
(3)
روى ابن أبي شيبة 12/ 478 من طريق جرير عن الأعمش عن نافع، قال: نزل ابن عمر بقوم، فلما مضى ثلاثة أيام قال: يا نافع، أنفق علينا، فإنه لا حاجة لنا أن يتصدق علينا. ورواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 311 بنحوه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ له أن يَثوِيَ عندَه حتى يُحْرجَه" يعني يُقيم عندَه حتى يُضَيِّقَ عليه، لكن هل هذا في الأيام الثلاثة أم فيماَ زاد عليها؟ فأما فيما ليس بواجبٍ، فلا شك في تحريمه، وأما في ما هو واجب وهو اليوم والليلة فينبني على أنه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئًا أم لا تجب إلا على من وجد ما يضيف به؟ فإن قيل
(1)
: إنها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به - وهو قولُ طائفة من أهلِ الحديث، منهم حُميدُ بنُ زنجويه - لم يحل للضيف أن يستضيف من هُوَ عاجز عن ضيافته. وقد رُويَ من حديث سلمان قال:"نهانا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن نتكلَّفَ للضيفِ ما ليسَ عندنا"
(2)
فإذا نهي المضيف أن يتكلَّفَ للضيف ما ليس عنده دلَّ على أنه لا تَجبُ عليه المواساةُ للضيف إلا مما عنده، فإذا لم يكن عنده فَضلٌ لم يلزمه شَيءٌ، وأما إذا آثَرَ على نفسه، كما فعل الأنصاريُّ الذي نزل فيه:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
(3)
[الحشر: 9] فذلك مقامُ فضلٍ وإحسان، وليس بواجب.
(1)
في (ب): "فالأظهر".
(2)
رواه أحمد 5/ 441 والطبراني في "الكبير"(6083) و (6084) و (6085) و (6187).
قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 179: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، فأحد أسانيد "الكبير" رجاله رجال الصحيح.
(3)
روى البخاري (4889) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجَهْدُ. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهُنَّ شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا رجل يُضيفُه الليلةَ يرحمُه الله؟ " فقام رجلٌ من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تَدَّخريه شيئًا. فقالت: والله ما عندي إلَّا قوتُ الصِّبية. قال: فإذا أراد الصبيةُ العشاءَ فنوِّميهم، وتَعالَي فأطفئي السِّراجَ، ونطوي بطوننا الليلةَ. ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله عز وجل أو ضَحِك من فلان وفلانة، فأنزل الله عز وجل {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ورواه مسلم (2054).
ولو علم الضيف أنهم لا يُضيفونه إلا بقوتِهم وقوت صبيانهم، وأن الصبية يتأذَّوْنَ بذلك، لم يجز له استضافتُهم حينئذ عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يَحِلُّ له أن يُقيمَ عندَه حتَّى يُحرجه"
(1)
.
وأيضًا فالضيافة نفقة واجبة، فلا تجب إلا على مَنْ عنده فضلٌ عن قوته وقوتِ عياله، كنفقة الأقارب، وزكاةِ الفطر. وقد أنكر الخطابي تفسيرَ تأثيمه بأن يُقيمَ عندَه ولا شيءَ له يَقريه، وقال: أراه غلطًا، وكيف يأثم في ذلك وهو لا يتسع لِقراه، ولا يجد سبيلًا إليه؟ وإنما الكلفة على قَدرِ الطاقة، قال: وإنما وَجْهُ الحديثِ أنه كَرِهَ له المقام عندَه بعدَ ثلاث لِئلا يضيقَ صدرُه بمكانه، فتكون الصدقة منه على وجه المنِّ والأذى فيَبْطُلُ أجرُه، وهذا الذي قاله فيه نظر، فإنه قد صحَّ تفسيرُه في الحديث بما أنكره، وإنما وجهه أنه إذا أقامَ عندَه ولا شيءَ له يقريه به، فربما دعاه ضيقُ صدره به، وحرجه إلى ما يأثم به في قول، أو فعل، وليس المرادُ أنه يأثم بترك قِراه مع عجزه عنه، والله أعلم.
(1)
رواه البخاري (6135) ومسلم (48)(15) 3/ 1353 وأبو داود (3748)، والترمذي (1968)، وابن ماجه (3675)، وأحمد 4/ 31 من حديث أبي شريح الخزاعي.
الحديث السادس عشر
عَنْ أبي هُريرَةَ رضي الله عنه أن رَجُلًا قالَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أوصِني، قال:"لا تَغْضَبْ" فردَّد مِرارًا قال: "لا تَغْضَبْ". رواهُ البُخاريُّ
(1)
.
هذا الحديثُ خرَّجه البخاري من طريق أبي حَصِين الأسدي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ولم يُخرجه مسلم؛ لأن الأعمشَ رواه عن أبي صالح، واختلف عليه في إسناده فقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أبي هُريرة، كقول أبي حَصين، وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، وعند يحيى بن معين أن هذا هو الصحيحُ، وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وأبي سعيد، وقيل: عنه عن أبي صالح عن أبي هريرة أو جابر، وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن رجل من الصحابة غير مسمى.
وخرَّج الترمذي
(2)
هذا الحديثَ من طريق أبي حصين أيضًا ولفظُه: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله علِّمني شيئًا ولا تُكثر عليَّ لَعَلِّي أعيه، قال:"لا تَغْضب"، فردد ذلك مرارًا كلُّ ذلك يقول:"لا تغضب" وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال: قلتُ: يا رسولَ الله دلني على عمل يدخلني الجنة ولا تُكثِرْ عليَّ، قال:"لا تَغْضَب".
فهذا الرجلُ طلب مِن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُوصِيَه وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال
(1)
برقم (6116)، ورواه أحمد 2/ 362 و 466.
(2)
برقم (2020).
الخيرِ، ليحفظها عنه خشيةَ أن لا يحفظها لكثرتها، فوصاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن لا يغضب، ثم ردَّدَ هذه المسألة عليه مرارًا، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يردِّدُ عليه هذا الجوابَ، فهذا يدلُّ على أن الغضب جِماعُ الشرِّ، وأن التحرُّز منه جماعُ الخير.
ولعلَّ هذا الرجلَ الذي سأل النبىَّ صلى الله عليه وسلم هو أبو الدرداء، فقد خرَّج الطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قلتُ: يا رسولَ الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال:"لا تَغْضَبْ ولك الجَنَّةُ"
(1)
.
وقد روى الأحنفُ بنُ قيسٍ، عن عمه جارية بن قدامة أن رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ قُلْ لي قولًا، وأقْلِلْ عليَّ لعلي أعقِلُهُ، قال:"لا تغضب"، فأعاد عليه مرارًا كُلُّ ذلك يقول:"لا تَغضَبْ" خرجه الإمام أحمد
(2)
، وفي رواية له
(3)
أن جارية بن قُدامة قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكره.
فهذا يغلب على الظنِّ أن السائلَ هو جارية بنُ قدامة، ولكن ذكر الإمامُ أحمد عن يحيى القطان
(4)
أنه قال: هكذا قال هشام، يعني: أن هشامًا ذكر في الحديث أن جارية سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال يحيى: وهم يقولون: لم يُدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكذا قال العجليُّ وغيرُه: إنه تابعي وليس بصحابي.
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث الزهري، عن حُميد بنِ عبد الرحمن، عن
(1)
ذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 70، وقال: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وأحد إسنادي "الكبير" رجاله ثقات.
(2)
3/ 484 و 5/ 34، وإسناده صحيح، ورجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيِّه جارية بن قدامة، فقد روى له النَّسَائِي في "مسند علي" وصححه ابن حبان (5689) و (5690).
(3)
هو في "المسند" 5/ 34، ورجاله ثقات رجال الشيخين أيضًا.
(4)
ذكره في "المسند" بإثر الروايتين.
رجلٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: قلتُ: يا رسولَ الله أوصني، قال:"لا تَغْضَبْ" قال الرجل: ففكرتُ حين قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغَضَبُ يجمع الشرَّ كُلَّه
(1)
ورواه مالك في "الموطأ"
(2)
عن الزهري عن حُميد، مرسلًا.
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث عبد اللهِ بنِ عمرو أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ عز وجل؟ قال: "لا تَغْضَب"
(3)
.
وقول الصحابي: ففكرتُ فيما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم فإذا الغضبُ يجمع الشرَّ كلَّه يشهد لما ذكرناه أن الغضبَ جماعُ الشرِّ، قال جعفر بنُ محمد: الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ. وقيل لابنِ المبارك: اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة، قال: تركُ الغضبِ.
وكذا فسر الإمام أحمد، وإسحاقُ بنُ راهويه حسنَ الخلق بتركِ الغضب، وقد رُوي ذلك مرفوعًا، خرجه محمدُ بن نصر المروزي في كتاب "الصلاة"
(4)
من حديث أبي العلاء بن الشِّخِّير أن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن قِبَلِ وجهه، فقالَ: يا رسولَ الله أيُّ العملِ أَفضلُ؟ قال: "حُسْنُ الخُلُق" ثم أتاه عن يمينه، فقال: أيُّ العمل أفضل؟ قال: "حسنُ الخُلُقِ"، ثم أتاه عن شِماله فقال: يا رسول الله، أيُّ العمل أفضل؟ قال:"حسنُ الخُلُقِ"، ثم أتاه من بعده، يعني: من خلفه، فقال: يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ؟ فالتفت إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مالك لا تَفْقَهُ! حُسْنُ الخُلُقِ هو أن لا تَغْضَبَ إن استطعْتَ". وهذا مرسل.
فقولُه صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه: "لا تَغْضَبْ" يحتَملُ أمرين:
(1)
"المسند" 2/ 175، 362، 466، و 3/ 484، و 5/ 34، 370، 372، 373.
(2)
2/ 906.
(3)
"المسند" 2/ 175، وصححه ابن حبان (296).
(4)
رقم (878)، وهو على إرساله، رجاله ثقات، رجال الشيخين.
أحدُهما: أن يكون منَ مرادُه الأمرَ بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُقِ من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكفِّ الأذى، والصفح والعفو، وكظم الغيظ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة، فإن النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه.
والثاني: أن يكونَ المرادُ: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَلَ لك، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به، فإن الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله عز وجل:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154] فإذا لم يمتثل الإنسانُ ما يأمره به غضبُه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربما سكن غَضَبُهُ، وذهب عاجلًا، فكأنه حينئذ لم يغضب، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله عز وجل:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]، وبقوله عز وجل:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمر من غَضِبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ، وتُسَكِّنُهُ، ويمدح من ملك نفسَه عند غضبه، ففي "الصحيحين" عن سليمانَ بنِ صُرَد قال: استَبَّ رجلانِ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ونحنُ عنده جلوسٌ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مغضبًا قد احمرَّ وجهُهُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إني لأعْلَمُ كلمةً لو قالها، لذهبَ عنه ما يجد، لو قال: أعوذُ بالله من الشَّيطان الرجيم" فقالوا للرجل: ألا تسمعُ ما يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لَسْتُ بمجنونٍ
(1)
.
وخرَّج الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديثَ أبي سعيد الخُدري أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه البخاري (6115) و (3282) و (6048)، ومسلم (2610)، وانظر تفسير قوله:"إني لست بمجنون" في "فتح الباري" 10/ 467.
قال في خُطْبته: "ألا إنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ في قَلب ابنِ آدمَ، أفما رأيتُم إلى حُمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمن أحسَّ من ذلك شَيئًا، فليَلْزَقْ بالأرضِ"
(1)
.
وخرَّج الِإمامُ أحمدُ، وأبو داود من حديث أبي ذرٍّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا غَضِبَ أحدُكُم وهو قائِمٌ، فَلْيَجْلِس، فإن ذَهَبَ عَنه الغضبُ وإلا فليَضطجِعْ"
(2)
.
وقد قيل: إن المعنى في هذا أن القائم متهيِّئ، للانتقام، والجالس دونَه في ذلك، والمضطجع أبعدُ عنه، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام، ويَشْهَدُ لذلك أنه رُوي من حديث سِنان بنِ سعد، عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن حديث الحسن مرسلًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الغَضَبُ جَمرةٌ في قَلب الإنسانِ تَوَقَّدُ ألا ترى إلى حُمرةِ عَيْنَيهِ وانْتِفَاخِ أوداجِهِ، فإذا أحس أحدُكُم مِنْ ذَلك شيئًا، فليَجْلِسْ، ولا يَعْدُوَنَّه الغَضَبُ"
(3)
.
والمرادُ: أنه يحبسه في نفسه، ولا يُعديه إلى غيره بالأذى بالفعلِ، ولهذا المعنى قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الفتن:"إنَّ المضطجِعَ فيها خَيْرٌ من القَاعِدِ، والقَاعِدَ فيها خيرٌ من القَائِم، والقائِمَ خَيرٌ مِنَ المَاشِي، والمَاشِي خَيرٌ مِنَ السَّاعي"
(4)
وإن
(1)
رواه أحمد 3/ 19 و 61، والترمذي (2191) وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، ومع ذلك فقد حسنه الترمذي.
(2)
رواه أحمد 5/ 152 وأبو داو (4782)، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (5688).
(3)
الحديث من رواية أنس لم نجده فيما تيسر لنا من المصادر ورواية الحسن المرسلة عند عبد الرزاق في "المصنف"(20289) عن معمر، عنه.
(4)
رواه من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث مسلم (2887) وأبو داود (4256) وأحمد 5/ 48. وفي الباب عن أبي هريرة عند البخاري (7081) ومسلم (2886) وعن سعد بن=
كان هذا على وجه ضرب المثالِ في الإسراع في الفتن، إلا أن المعنى: أن من كان أقرب إلى الإسراع فيها، فهو شر ممن كان أبعد عن ذلك.
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث ابنِ عباس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ، فليَسْكُتْ"، قالها ثلاثًا
(1)
.
وهذا أيضًا دواء عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرًا من السِّباب وغيره مما يعظم ضَرَرُهُ، فإذا سكت زال هذا الشرّ كله عنه، وما أحسنَ قولَ مورق العجلي رحمه الله: ما امتلأتُ غيظًا قَطُّ ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليه إذا رضيتُ. وغضب يومًا عمرُ بنُ عبد العزيز فقال له ابنُه عبدُ الملكِ رحمهما اللُه: أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضبَ؟ فقال له: أوما تغضبُ يا عبدَ الملك؟ فقال عبد الملك: وما يُغني عني سعةُ جوفي إذا لم أرَدِّدْ فيه الغضبَ حتى لا يظهر؟ فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب رضي الله عنهم.
وخرَّج الإمامُ أحمد، وأبو داود من حديث عُروة بنِ محمد السَّعدي أنَّه كلَّمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ، ثم قال: حدثني أبي عن جدِّي عطيةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيطانِ، وإن الشيطانَ خُلِقَ من النَّارِ، وإنما تُطفَأ النار بالماءِ، فإذا غَضِبَ أحَدُكُم، فَليَتوضَّأ"
(2)
.
= أبي وقاص عند أحمد 1/ 168 - 169 والترمذي (2194) وأبي داود (4257)، وعن ابن مسعود عند أحمد 1/ 448 - 449.
(1)
1/ 239 و 282، ورواه البزار في "مسنده" 1/ 90، وفي سنده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، كما قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 131.
(2)
رواه أحمد 4/ 226، وأبو داود (4784) والبخاري في "تاريخه" 8/ 7 والبغوي في "شرح السنة"(3583) وسنده حسن، وأخطأ مَنْ ضعَّفه ممن ينتحل صناعة الحديث في زماننا.
وروى أبو نعيم
(1)
بإسناده عن أبي مسلم الخولاني أنه كَلَّم معاوية بشيءٍ وهو على المنبر، فغضب، ثم نزل فاغتسل، ثم عاد إلى المنبر، وقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الغضبَ مِن الشيطان، والشيطانَ من النار، والماءُ يُطفئ النار، فإذا غَضِبَ أحدكم فليغتسل".
وفي "الصحيحين"
(2)
عن أبي هُريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لَيْسَ الشَّديدُ بالصُّرعَةِ، إنما الشَّديدُ الَّذي يَملِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ".
وفي "صحيح مسلم"
(3)
عن ابنِ مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما تَعُدُّونَ الصُّرَعة فيكم؟ " قلنا: الذي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ، قال:"ليس ذلك، ولكنه الذي يَملِكُ نَفْسَه عندَ الغضبِ".
وخرَّج الإمامُ أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من كَظَمَ غَيظًا وهو يستطيعُ أن ينفذه، دعاه الله يومَ القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أيِّ الحورِ شاء"
(4)
.
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما تَجَرَّع عبدٌ
(1)
في "الحلية" 2/ 130، ورواه ابن عساكر في "تاريخه" 16/ 365/ 1، وفي سنده ضعيف ومجهول.
(2)
البخاري (6114) ومسلم (2609). قال ابن الأثير: والصُّرَعَة بضم الصاد وفتح الراء: شديد الصرع للرجال، والمراد به هاهنا: الحليم عند الغضب، وهذا من الألفاظ التي نقلها النبي صلى الله عليه وسلم عن وضْعها في اللغة بضرب من التوسع والمجاز، وهو من فصيح الكلام، كأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ، قد ثارت عليه شهوة الغضب، فقهرها بحِلْمه، وصرعها بثباته، وكان صُرَعَة كما يَصْرع الصُّرَعَةُ الرجال.
(3)
رقم (2608).
(4)
رواه أحمد 3/ 440 والترمذي (2021) وأبو داود (4777)، وابن ماجه (4186) وسنده حسن، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
جُرعَةً أفضلَ عندَ اللهِ من جُرعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُها ابتغاءَ وجهِ الله عز وجل"
(1)
ومِن حديث ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ جُرْعَةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جُرعةِ غَيظٍ يَكظِمُها عبد، ما كظم عبدٌ لله إلا ملأ الله جوفَه إيمانًا"
(2)
. وخرَّج أبو داود معناه من رواية بعضِ الصحابة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال: "ملأه الله أمنًا وإيمانًا"
(3)
.
وقال ميمون بن مِهران: جاء رجلٌ إلى سلمان، فقال: يا أبا عبدِ الله أوصني، قال: لا تغضب، قال: أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملِكُ، قال: فإن غضبتَ، فامْلِكْ لِسانك ويَدَك. خرَّجه ابن أبي الدنيا، وملكُ لسانه ويده هو الذي أشار إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمره لمن غَضِبَ أن يجلس، ويضطجع وبأمره له أن يسكت.
قال عمرُ بنُ عبد العزيز: قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغضب، والطمع
(4)
.
وقال الحسن: أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار: مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة والرهبة والشهوةِ والغضبِ.
وهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشرِّ كُلِّه، فإن الرغبةَ في الشيء هي ميلُ النفس إليه لاعتقاد نفعه، فمن حصل له رغبةٌ في شيءٍ، حملته تلك
(1)
صحيح، رواه أحمد 2/ 128، وابن ماجه (4189) ورجاله ثقات.
الجُرعة، بضم الجيم، وهي الاسم من التجرع، أي: الشرب، ويجوز فتحها، وهي المرة الواحدة منه، والجرعة بالضم أيضًا: ملء الفم يبتلعها. وتجرع الجرعة: شربها وابتلعها، وجرع الغيظ: كظمه، على المثل بذلك. قال ابن الأثير: كظم الغيظ: تجرعه واحتمال سببه، والصبر عليه.
(2)
رواه أحمد 1/ 327، وسنده ضعيف.
(3)
برقم (4778) وسنده حسن في الشواهد، وهذا منها.
(4)
ذكره أبو نعيم في "الحلية" 5/ 290.
الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يَظُنُّه موصلًا إليه؛ وقد يكون كثير منها محرمًا؛ وقد يكون ذلك الشيء المرغوبُ فيه محرمًا.
والرهبة: هي الخوفُ من الشيء، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكلِّ طريق يظنه دافعًا له، وقد يكون كثير منها محرَّمًا.
والشهوة: هي ميلُ النفس إلى ما يُلائمها، وتلتذُّ به، وقد تميل كثيرًا إلى ما هو محرَّم كالزنى والسرقة وشرب الخمر، بل وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع.
والغضب: هو غليانُ دم القلب طلبًا لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممن حصل منه الأذى بعدَ وقوعه، وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواعِ الظلم والعُدوان؛ وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحشَ، وربما ارتقى إلى درجة الكفر، كما جرى لجبلة بن الأيهم
(1)
، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعًا، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ.
والواجبُ على المؤمن أن تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه الله له، وربما تناولها بنيةٍ صالحةٍ، فأثيب عليها، وأن يكونَ غضبه دفعًا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقامًا ممن عصى الله ورسولَه، كما قال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14، 15].
وهذه كانت حالَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنه كان لا ينتقِمُ لنفسه، ولكن إذا انتهكت
(1)
هو جبلة بن الأيهم بن جبلة الغسّاني، من آل جفنة: آخر ملوك الغساسنة في الشام. أسلم وهاجر إلى المدينة ثم ارتد، وخرج إلى بلاد الروم ولم يزل فيها حتى توفي سنة 20 هـ. انظر أخباره في "الأغاني" 15/ 166، و"شرح المقامات" 2/ 97 - 99 للشريشي و"خزانة الأدب" 4/ 392 - 400.
حرماتُ الله لم يَقُمْ لِغضبه شيء
(1)
ولم يضرب بيده خادمًا ولا امرأة إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله
(2)
. وخدمه أنس عشرَ سنين، فما قال له:"أفٍّ" قط، ولا قال له لشيء فعله:"لم فعلتَ كذا"
(3)
، ولا لشيء لم يفعله:"ألا فعلت كذا". وفي رواية أنه كان إذا لامه بعضُ أهله قال صلى الله عليه وسلم: "دعوه فلو قُضي شيءٌ كان". وفي رواية للطبراني
(4)
قال أنس: خدمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما دَرَيْتُ شيئًا قطُّ وافقه، ولا شيئًا قط خالفه، رضي من الله بما كان.
وسئلت عائشةُ عن خُلُقِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلُقُه القُرآن
(5)
، تعني: أنه تأدَّب بآدابه، وتخلَّق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمه القرآنُ، كان فيه سخطه، وجاء في رواية عنها، قالت: كان خُلُقُه القُرآن يرضى لِرضاه ويسخط لسخطه.
وكان صلى الله عليه وسلم لِشدَّةِ حيائه لا يُواجِهُ أحدًا بما يكره، بل تُعرف الكراهة في وجهه، كما في "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أشدً حياءً من العذراءِ في خِدْرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه، عرفناه في وجهه
(6)
. ولما بلَّغَه ابنُ
(1)
رواه البخاري (6126) ومسلم (2327) وأبو داود (4785) عن عائشة، ولفظ البخاري: "
…
وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلّا أن تنتهك حرمة الله فينتقم".
(2)
رواه مسلم (2328) وأبو داود (4786) وابن ماجه (1984) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه البخاري (6038) ومسلم (2309) من حديث أنس، وصححه ابن حبان (2894)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4)
في "المعجم الصغير"(1100) مطولًا، وذكره الهيثمي في "المجمع" 9/ 16، وزاد نسبته إلى "الأوسط"، وقال: وفيه من لم أعرفه، وفي الصحيح بعضه.
(5)
رواه مسلم (746) وأحمد 54/ 6، 91، 111، 188، و 216، والنسائي 3/ 199 - 200 وابن ماجه (2333) والدارمي 1/ 345.
(6)
رواه البخاري (6102) ومسلم (2320).
مسعودٍ قَولَ القائل: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، شقَّ عليه صلى الله عليه وسلم، وتَغيَّر وجهه، وغَضِبَ، ولم يَزِدْ على أن قال:"قد أوذِيَ موسى بأكثر من هذا فصبر"
(1)
.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى، أو سَمِعَ ما يكرهه الله، غَضِبَ لذلك، وقال فيه، ولم يَسْكُتْ، وقد دخل بيتَ عائشة فرأى سترًا فيه تصاويرُ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه، وقال:"إن مِنْ أشدَّ النَّاسِ عذابًا يومَ القيامةِ الَّذينَ يُصوِّرُونَ هذه الصُّورَ"
(2)
. ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه، غَضِبَ، واشتد غضبُه، ووَعَظَ النَّاسَ، وأمر بالتَّخفيف
(3)
.
ولما رأى النُّخامَةَ في قبلة المسجد، تغَيَّظ، وحكَّها، وقال:"إنَّ أحدَكُمْ إذا كان في الصَّلاةِ، فإن الله حِيالَ وَجْهِهِ، فلا يَتَنخَّمَنَّ حِيال وجهه في الصَّلاةِ"
(4)
.
(1)
رواه البخاري (3150) و (4336) ومسلم (1062).
(2)
رواه البخاري (5954) و (6019) ومسلم (2107)(92)، وصححه ابن حبان (5847) وانظر تمام تخريجه فيه.
(3)
رواه مسلم (466) من حديث أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي لأَتأَخَّرُ عن صلاة الصُّبح من أجل فلانٍ ممَّا يُطيلُ بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قطُّ أشدَّ مما غضب يومئذٍ، فقال:"يا أيها الناسُ، إنَّ منكُم مُنفِّرينَ، فأيُّكم أمَّ الناسَ فليوجِزْ، فإنَّ من ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجةِ".
(4)
رواه من حديث ابن عمر مالكٌ 1/ 194، والبخاري (406) و (753) و (1213) و (6111) ومسلم (547) وأبو داود (479) والنسائي 2/ 51.
ورواه من حديث أنس البخاري (405) و (413) ومسلم (551).
ورواه من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة البخاري (408) و (409) ومسلم (548).
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أسألك كَلِمَة الحقِّ في الغضب والرِّضا"
(1)
وهذا عزيز جدًا، وهو أن الِإنسانَ لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي، فإن أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول.
وخرَّج الطبراني من حديث أنس مرفوعًا: "ثلاثٌ من أخلاقِ الِإيمان: مَنْ إذا غَضِبَ لم يُدخله غضبُهُ في باطلٍ، ومن إذا رَضِيَ، لم يُخرجه رضاه مِن حقٍّ، ومن إذا قَدَرَ، لم يتعاطَ ما ليسَ له"
(2)
.
وقد روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان أحدُهما عابدًا، وكان الآخرُ مسرفًا على نفسه، فكان العابدُ يَعِظُهُ، فلا ينتهي، فرآه يومًا على ذنبٍ استعظمه، فقال: والله لا يَغفِرُ الله لك، فغفر الله للمذنب، وأحبط عملَ العابًد". وقال أبو هريرة: لقد تكلَّم بكلمة أوبقت دنياه وآخِرَته، فكان أبو هريرة يُحَذِّرُ الناسَ أن يقولوا مثلَ هذه الكلمة في غضب. وقد خرجه الِإمامُ أحمد
(1)
قطعة من حديث صحيح رواه النَّسَائِي 3/ 54 - 55 وأحمد 4/ 264 عن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأوجز فيها، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أُتِمَّ الركوعَ والسجودَ؟ قالوا: بلى قال: أما إنِّي قد دعوتُ فيهما بدعاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به: "اللهُمَّ بعِلْمِك الغيبَ وقدرتك على الخلق أحيِني ما علمت الحياةَ خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصدَ في الفقر والغنى، ولذَّة النظر إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك، وأعوذُ بك من ضرَّاءَ مُضرَّةٍ ومن فتنةٍ مُضلَّة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهديّين". وصححه ابن حبان (1971).
(2)
رواه الطبراني في "الصغير"(164)، وفي سنده بشر بن الحسين الأصبهاني صاحب الزبير بن عدي، قال البخاري: فيه نظر، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: عامة حديثه ليس بمحفوظ، وقال أبو حاتم: يكذب على الزبير.
وأبو داود
(1)
، فهذا غَضِبَ لله، ثم تكلَّم في حال غضبه لله بما لا يجوزُ، وحتم على الله بما لا يعلم، فأحبط الله عمله، فكيف بمن تكلَّم في غضبه لنفسه، ومتابعة هواه بما لا يجوز.
وفي "صحيح مسلم" عن عِمران بنِ حُصين: أنهم كانوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقةٍ، فضَجِرَتْ، فلعَنَتها فسَمِعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"خذُوا مَتَاعَها ودَعُوها"
(2)
.
وفيه أيضًا عن جابر قال: سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ورجلٌ من الأنصارٍ على ناضح له، فتلدَّنَ عليه بعض التلدُّن، فقال له: سِرْ، لَعنَك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انْزِلْ عنه، فلا تَصْحَبْنا بملعونٍ، لا تدعوا على أنفُسِكُم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تَدْعوا على أموالكم لا تُوافِقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم"
(3)
.
فهذا كله يدلُّ على أن دعاء الغضبانِ قد يُجاب إذا صَادف ساعةَ إجابةٍ، وأنَّه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب.
وأما ما قاله مجاهد
(4)
في قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، قال: هو الواصِلُ لأهله وولده وماله إذا غضِبَ عليه، قال: اللهمَّ لا تُبارِكْ فيه، اللهم العنه، يقول: لو عجل له ذلك، لأهلك مَنْ دعا عليه، فأماتَه. فهذا يدلّ على أنه لا يُستجاب
(1)
هو في "المسند" 2/ 323 وسنن أبي داود (4901)، وسنده حسن.
(2)
هو في "صحيح مسلم"(2595).
(3)
هو في "صحيح مسلم"(3009). وقوله: تَلدَّن: تلكَّأ وتوقف. وقوله: "شأْ": كلمة زجر للبعير.
(4)
في "تفسيره" 1/ 292، وانظر تفسير الطبري 15/ 34 - 35.
جميعُ ما يدعو به الغضبانُ على نفسه وأهله وماله، والحديثُ دلَّ على أنه قد يُستجابُ لمصادفته ساعة إجابة.
وأما ما رُوي عن الفُضيل بنِ عياض قال: ثلاثةٌ لا يُلامون على غضبٍ: الصائمُ والمريضُ والمسافرُ، وعن الأحنف بن قيس قال: يوحي الله إلى الحافظين اللذين مع ابن آدم: لا تكتبا على عبدي في ضجره شيئًا، وعن أبي عمران الجوني قال: إن المريضَ إذا جزع فأذنب، قال المَلَكُ الذي على اليمين للملك الذي على الشمال: لا تكتب، خرَّجه ابن أبي الدنيا، فهذا كلُّه لا يُعرف له أصلٌ صحيحٌ من الشرع يدلُّ عليه، والأحاديثُ التي ذكرناها من قبل تدلُّ على خلافه.
وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا غضبتَ فاسكت" يدلّ على أن الغضبانَ مُكَلَّفٌ في حال غضبه بالسكوت، فيكون حينئذ مؤاخذًا بالكلام، وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر من غضب أن يتلافى غضبَه بما يُسكنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عينُ التكليف له بقطع الغضب، فكيف يقال: إنَّه غيرُ مكلَّف في حال غضبه بما يصدر منه.
وقال عطاءُ بنُ أبي رباح: ما أبكى العلماءَ بكاء آخر العمر من غضبة يغضبُها أحدُهُم فتهدِمُ عملَ خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سَبعينَ سنة، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله. خرجه ابن أبي الدنيا.
ثم أن من قال مِن السلف: إن الغضبان إذا كان سببُ غضبه مباحًا، كالمرض، أو السفر، أو طاعةً كالصَّوْم لا يُلام عليه إنما مرادُه أنه لا إثمَ عليه إذا كان مما يقع منه في حال الغضب كثيرًا من كلام يُوجبُ تضجرًا أو سبًا ونحوه كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّما أنا بَشَرٌ أرضَى كما يرضىَ البَشَرُ، وأغْضَبُ كما يَغْضَبُ
البشر، فأيّما مسلم سببتُه أو جلدتُه، فأجعلها له كفارةً"
(1)
.
فأما ما كان من كفر، أو ردَّةٍ، أو قتل نفس، أو أخذ مالٍ بغير حقٍّ ونحو ذلك، فهذا لا يشكُّ مسلم أنهم لم يُريدوا أنَّ الغضبانَ لا يُؤاخذُ به، وكذلك ما يقعُ من الغضبان من طلاقٍ وعَتاقٍ، أو يمينٍ، فإنه يُؤاخَذُ بذلك كُلِّه بغيرِ خلافٍ. وفي "مسند الإمام أحمد"
(2)
عن خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بنِ الصامت أنَّها راجعت زوجَها، فغَضِبَ، فظاهر منها وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خُلُقُه وضَجرَ، وأنها جاءت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه، فأنزل الله آيةَ الظهار، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفارة الظِّهار في قصة طويلة، وخرجها ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن أبي العالية: أن خُويلة غضب زوجها فظاهر منها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، وقالت: إنه لم يُردِ الطلاقَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ما أراكِ إلا حَرُمْتِ عليه"، وذكر القصةَ بطولها، وفي آخرها، قال: فحوَّل الله الطلاقَ، فجعله ظهارًا.
فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يرى حينئذ أن الظهارَ طلاق، وقد قال: إنها حَرُمَتْ عليه بذلك، يعني: لزمه الطلاق، فلما جعله الله ظهارًا مكفرًا ألزمه بالكفارة، ولم يُلغه.
وروى مجاهد عن ابنِ عباس أن رجلًا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا
(1)
رواه من حديث أبي هريرة البخاري (6361) ومسلم (2601) وصححه ابن حبان (6516).
ورواه مسلم (2600) من حديث عائشة، و (2601) من حديث جابر بن عبد الله، و (2603) من حديث أنس بن مالك، وصححه ابن حبان (6514).
(2)
6/ 410، وهو حديث صحيح مخرج في "صحيح ابن حبان"(4279).
غضبان، فقال: إنَّ ابنَ عباس لا يستطيع أن يُحِل لك ما حرَّم الله عليك، عصيتَ ربَّك وحرمت عليك امرأتك. خرجه الجوزجاني والدارقطني
(1)
بإسناد على شرط مسلم.
وخرج القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب "أحكام القرآن" بإسنادٍ صحيح عن عائشة قالت: اللغو في الأيمان ما كان في المراءِ والهزل والمزاحة، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب، وأيمانُ الكفارة على كلِّ يمينٍ حلفت عليها على جدٍّ من الأمر في غضب أو غيره: لَتَفْعَلنَّ أو لَتَترُكنَّ، فذلك عقدُ الأيمان فيها الكفارة. وكذا رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة
(2)
وهذا من أصحِّ الأسانيد، وهذا يدلُّ على أن الحديث المروي عنها مرفوعًا:"لا طلاقَ ولا عتاق في إغْلاقٍ"
(3)
إما أنه غير صحيح، أو أن تفسيرَه
(1)
في "سننه" 4/ 13 من طريق حبان بن موسى، عن عبد الله بن المبارك، عن سيف بن سليمان المخزومي، عن مجاهد بن جبر قال: جاء رجلٌ من قريشٍ إلى ابنِ عباس فقال: يا أبا عباس إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبانُ، فقال: إن أبا عباس لا يستطيع أن يُحلَّ لك ما حرُمَ عليك: عصيتَ ربك، وحرمت عليك امرأتك، إنك لم تتق الله، فيجعَلَ لك مخرجًا، ثم قرأ: إذا طَلَّقتم النِّساء فطلِّقوهنَّ في قُبُلِ عدَّتهنَّ طاهرًا من غير جماعٍ، قال سيف: وليس "طاهرًا من غير جماع" في التلاوة، ولكنه تفسيره. قال: وَنا ابن المبارك: أنا سفيان، عن عمر بن مرة، عن سعيد بن جبير. قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني طلقت امرأتي ألفًا، قال: أمَّا ثلاثٌ فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزر اتخذت آيات الله هزوًا. وهذا سند صحيح رجاله رجال الشيخين.
(2)
ذكره الحافظ في "الفتح" 11/ 48، عن ابن وهب، وزاد نسبته إلى ابن أبي عاصم من طريق الزبيدي، وعن عبد الرزاق في "المصنف" عن معمر، ثلاثتهم عن الزهري عن عروة عن عائشة.
(3)
رواه أحمد 6/ 276 وأبو داود (2193)، وابن أبي شيبة 5/ 49، والدارقطني 4/ 36، والحاكم 2/ 198، والبيهقي 7/ 357 من طرق عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد=
بالغضب غيرُ صحيح
(1)
. وقد صحَّ عن غير واحد من الصحابة أنهم أفْتَوا أن يمينَ الغضبان منعقدة وفيها الكفارةُ، وما روي عن ابن عباس مما يُخالِفُ ذلك فلا يصحُّ إسنادُه، قال الحسنُ: طلاقُ السنة أن يُطلقها واحدة طاهرًا من غير جماعٍ، وهو بالخيار ما بينه وبيْنَ أن تحيضَ ثلاث حيض، فإن بدا له أن يُراجِعَهَا كان أملكَ بذلك، فإن كان غضبان، ففي ثلاثِ حيض، أو في ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيضُ ما يذهب غضبَهُ. وقال الحسن: لقد بَيَّن الله لئلا يندم أحدٌ في طلاق كما أمره الله. خرّجه القاضي إسماعيل.
= الكلاعي، عن محمد بن عبيد بن أبي صالح المكي، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة، وهذا سند ضعيف لضعف محمد بن عبيد.
ورواه الدارقطني من طريق قَزَعة بن سويد، (وهو ضعيف) عن زكريا بن إسحاق، ومحمد بن عثمان، عن صفية، عن عائشة.
ورواه الحاكم من طريق نعيم بن حماد، عن أبي صفوان عبد الله بن سعيد الأموي، عن ثور بن يزيد، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة. قلت: ونعيم بن حماد صاحب مناكير، وقد سقط من هذا الإسناد محمد بن عبيد.
(1)
برقم (1955)، ورواه الترمذي (1409) وأبو داود (2815) والنسائي 7/ 227، وصححه ابن حبان (5883).
قال الخطابي في "معالم السنن" 3/ 242: معنى الإغلاق: الإكراه، وكان عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم لا يرون طلاق المكره طلاقًا، وهو قولُ شريح وعطاء وطاووس، وجابر بن يزيد، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم وسالم، وإليه ذهب مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وقال ابن تيمية فيما نقله عنه تلميذه ابن القيم في "مختصر السنن" 3/ 117 - 118: والإغلاق: انسداد باب العلم، والقصد عليه، فيدخل فيه طلاقُ المعتوه والمجنون والسكران والمكره والغضبان الذي لا يعقل ما يقول؛ لأن كلا من هؤلاء قد أغلق عليه باب العلم والقصدِ، والطلاقُ إنَّما يقع من قاصدٍ له، عالم به، والله أعلم.
وقد جعل كثيرٌ من العلماء الكناياتِ معَ الغضب كالصريح في أنه يقعُ بها الطلاقُ ظاهرًا؛ ولا يقبل تفسيرُها مع الغضبِ بغيرَ الطلاق، ومنهم مَنْ جعل الغضب مع الكنايات كالنية، فأوقع بذلك الطلاق في الباطن أيضًا، فكيف يجعل الغضب مانعًا من وقوع صريحِ الطلاق.
الحديث السابع عشر
عَنْ أبي يَعْلَى شَدَّاد بنِ أوس عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله كتَبَ الإحسانَ على كُلِّ شيءٍ، فإذَا قَتَلْتُم فَأحْسِنُوا القِتْلَة، وإذا ذَبَحْتُم فَأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وليُحِدَّ أحدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وليُرِحْ ذَبِيحَتَهُ". رواهُ مُسلم
(1)
.
هذا الحديث خرَّجه مسلم دونَ البخاري من رواية أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني عن شدَّادِ بنِ أوس، وتركه البخاري؛ لأنَّه لم يخرِّج في "صحيحه" لأبي الأشعث شيئًا وهو شامي ثقة. وقد روي نَحوُهُ مِنْ حديث سَمُرَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله عز وجل محسِنٌ فأحسنوا، فإذا قَتَلَ أحدكُم، فليُكْرِم مقتولَه، وإذا ذبح، فليحدَّ شفرته، وليُرِحْ ذبيحته" خرَّجه ابن عدي
(2)
.
وخرَّج الطبراني من حديث أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا حكمتُمْ فاعْدِلُوا، وإذا قَتَلتُم فأحْسِنُوا، فإن الله مُحْسِن يُحِبُّ المحسنين"
(3)
.
(1)
رقم (1955)، ورواه أحمد 4/ 123 و 124 و 125، والترمذي (1409)، والنسائي 7/ 227، وابن ماجه (3170)، والدارمي 2/ 82، وابن أبي شيبة 9/ 421، وابن الجارود في "المنتقى"(839) و (899)، والطيالسي (1119)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 184 - 185، والبيهقي 8/ 60.
(2)
في "الكامل" 6/ 2419، وسنده ضعيف، ويشهد له حديث شداد بن أوس المتقدم.
(3)
أورده الهيثمي في "المجمع" 5/ 197 عن الطبراني، وقال: ورجاله ثقات.
ورواه ابن أبي عاصم في "الديات" ص 94 عن عثمان بن طالوت، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" 2/ 113 من طريق سليمان بن داود المِنْقري، وابن عدي في "الكامل" 6/ 2145، ثلاثتهم عن محمد بن بلال، عن عمران بن داور القطان، عن قتادة، عن=
فقولُه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله كتب الإحسانَ على كُلِّ شيء" وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري
(1)
في كتاب "السير" عن خالدٍ، عن أبي قلابة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ" أو قال: "على كُلِّ خلقٍ" هكذا خرَّجها مرسلةً، وبالشكِّ في "كُلِّ شيءٍ" أو "كلِّ خلق"، وظاهرُهُ يقتضي أنه كتب على كلِّ مخلوق الإحسان، فيكون كُلُّ شيءٍ أو كُلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه، والمكتوب هو الإحسانُ.
وقيل: إن المعنى: إن الله كتب الإحسانَ إلى كلِّ شيء، أو في كلِّ شيء، أو كتب الإحسانَ في الولاية على كُلِّ شيءٍ، فيكون المكتوبُ عليه غيرَ مذكور، وإنما المذكورُ المحسن إليه.
ولفظ "الكتابة" يقتضي الوجوب عندَ أكثرِ الفقهاء والأصوليين خلافًا لبعضهم، وإنما استعمالُ لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتمٌ إمَّا شرعًا، كقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]، أو فيما هو واقع قدرًا لا محالة، كقوله:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، وقوله:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي
= أنس بن مالك، وهذا سند قابل للتحسين.
(1)
هو الإمام الكبير الحافظ المجاهد أبو إسحاق ابراهيمُ بن محمد بن الحارث الفزاري المتوفى سنة 186 هـ. وكتابه "السير" في المغازي والجهاد وما يمت إليهما بسبب، قال فيه الإمام الشافعي رحمه الله: لم يصنِّف أحد مثلَ كتاب أبي إسحاق الفزاري.
وقال الإمام ابن تيمية: وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد، فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم، ولهذا عظَّم الناسُ كتاب أبي إسحاق الفزاري الذي صنفه في ذلك، وقد قامت مؤسسة الرسالة بنشر القطعة الموجودة منه بتحقيق د. فاروق=
قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قيام شهر رمضانَ: "إنِّي خشيتُ أن يُكْتَبَ عَلَيكُمْ"
(1)
وقال: "أُمِرْتُ بالسِّواكِ حتى خشيتُ أن يُكتَبَ عليَّ"
(2)
، وقال:"كُتِبَ على ابنِ آدمَ حظُّه من الزِّنى، فهو مُدرِكٌ ذلك لا محالة"
(3)
.
وحينئذ فهذا الحديث نصٌّ في وجوب الإحسان، وقد أمر الله تعالى به، فقال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقال:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
وهذا الأمرُ بالإحسانِ تارةً يكونُ للوجوب كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصِّلَةُ والإحسانُ إلى الضيف بقدر ما يحصل به قِراه على ما سبق ذكره.
وتارةً يكونُ للندب كصدقةِ التطوعِ ونحوها.
وهذا الحديثُ يدلُّ على وجوب الإحسانِ في كل شيء من الأعمال، لكن إحسانُ كُلِّ شيء بحسبه، فالإحسانُ في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنةِ: الإتيانُ بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدرُ من الإحسان فيها واجب، وأمَّا الإحسانُ فيها بإكمالِ مستحباتها فليس بواجب.
= حمادة
(1)
رواه البخاري (729) من حديث عائشة ورواه أحمد 5/ 182 و 184 و 187، والبخاري (7290)، والنسائي 3/ 198 من حديث زيد بن ثابت.
(2)
رواه أحمد 3/ 490 من حديث واثلة بن الأسقع، وفي سنده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف.
(3)
رواه البخاري (6343) و (6612) ومسلم (2657) وأبو داو (2152) عن ابن عباس قال: ما رأيتُ شيئًا أشبه باللمم مما قاله أبو هُريرة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظرُ، وزى اللسان النطقُ، والنفس تمنَّى وتشتهي، والفرج يُصدِّق ذلك أو يكذِّبه".
والِإحسانُ في ترك المحرَّمات: الانتهاءُ عنها، وتركُ ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]. فهذا القدرُ من الإحسان فيها واجب.
وأما الإِحسانُ في الصبر على المقدورات، فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تَسَخُّطٍ ولا جَزَع.
والإحسانُ الواجبُ في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيامُ بما أوجب الله من حقوق ذلك كلِّه، والِإحسانُ الواجب في ولاية الخلق وسياستهم، القيام بواجبات الولاية كُلِّها، والقدرُ الزائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب.
والإحسانُ في قتل ما يجوزُ قتلُه من الناس والدواب: إزهاقُ نفسه على أسرعِ الوجوه وأسهلِها وأوحاها من غير زيادةٍ في التعذيب، فإنه إيلامٌ لا حاجة إليه. وهذا النوعُ هو الذي ذكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيلِ المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال:"إذا قتلتُم فأحسِنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة" والقِتلة والذِّبحة بالكسر، أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل. وهذا يدلّ على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يُباحُ ازهاقُها على أسهلِ الوجوه. وقد حكى ابنُ حَزمٍ الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة، وأسهلُ وجوه قتل الأدمي ضربه بالسيف على العنق، قال الله تعالى في حقِّ الكفار:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، وقال تعالى:{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12]. وقد قيل: إنه عين الموضع الذي يكونُ الضربُ فيه أسهلَ على المقتول وهو فوقَ العظام دونَ الدماغ، ووصى دريدُ بنُ الصِّمة قاتله أن يَقتُلَهُ كذلك
(1)
.
(1)
هو دُريد بن الصِّمة الجُشَميّ البكري، شاعر فحل شجاع، كان سيِّد بني جشم وفارسهم=
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث سريةً تغزو في سبيل الله قال لهم: "لا تُمَثِّلُوا ولا تقتلوا وليدًا"
(1)
.
وخرَّج أبو داود، وابن ماجه من حديثِ ابنِ مسعود، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"اعَفُّ الناسِ قِتلةً أهلُ الإيمانِ"
(2)
.
وخرَّج أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حُصينٍ وسَمُرَةُ بن جُندبٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن المُثْلةِ
(3)
.
= وقائدهم، وكان مظفرًا ميمون النقيبة، غزا نحو مئة غزاة، وما أخفق في واحدة منها، وأدرك الإسلام ولم يُسلم، وخرج مع قومه يوم حنين مظاهرًا للمشركين، ولا فضل فيه للحرب، وإنما أخرجوه تيمنًا به، وليقتبسوا من رأيه، فقتل على شِركه. انظر "خزانة الأدب" 11/ 118 - 121.
(1)
قطعة من حديث مطول رواه مسلم في "صحيحه"(1731) من حديث بريدة.
(2)
حسن، رواه أبو داود (2666) وابن ماجه (2681) و (2682) وأحمد 1/ 393 من حديث ابن مسعود، وابن أبي شيبة 9/ 420 وابن الجارود (840) وابن أبي عاصم في "الديات" ص 94، والبيهقي 8/ 61، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 183، وابن حبان (5994).
وقوله: "أعفُّ الناس قِتلةً أهلُ الإيمان" قال المناوي: هم أرحمُ الناس بخلق الله، وأشدهم تحريًا عن التمثيل والتشويه بالمقتول وإطالة تعذيبه إجلالًا لخالقهم، وامتثالًا لما صدر عن صدر النبوة من قوله:"إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" بخلاف أهل الكفر وبعض أهل الفسوق ممن لم تذق قلوبهم حلاوة الإيمان، واكتفوا من مُسمَّاه بلقلقة اللسان، وأُشربوا القسوة حتى أبعدوا عن الرحمن، وأبعدُ القلوب من الله القلب القاسي، ومن لا يرحم لا يُرحم.
(3)
رواه أحمد 4/ 439 و 440 و 445 و 460 و 5/ 12 وأبو داود (2667): حدّثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن الهيَّاج بن عمران أنَّ عمران أبق له كلام، فجعل الل عليه، لئن قدر عليه ليقطعن يده، فأرسلني=
وخرَّجه البخاري من حديث عبد الله بن يزيد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نَهى عن المُثلَةِ
(1)
.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديث يعلى بنِ مُرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: "لا تُمَثِّلوا بعِبادي"
(2)
.
وخرَّج أيضًا من حديث رجلٍ من الصحابة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "من مَثَّلَ بذي روحٍ، ثم لم يَتُبْ مثَّلَ الله به يومَ القيامة"
(3)
.
واعلم أن القتلَ المباحَ يقع على وجهين: أحدُهما أن يكون قصاصًا، فلا يجوزُ التمثيلُ فيه بالمقتص منه، بل يُقتَلُ كما قَتَلَ، فإن كان قد مَثَّلَ بالمقتولِ، فهل يُمثَّلُ به كما فعل أمْ لا يُقتل إلا بالسيف؟ فيه قولان مشهوران للعلماء: أحدُهما: أنه يُفعَلُ به كما فَعَلَ، وهو قولُ مالك والشافعي وأحمد في المشهور
= لأسال له، فأتيتُ سُمَرَة بن جُندب فسألته، فقال: كان نبي صلى الله عليه وسلم يحثُّنا على الصَّدقة، وينهانا عن المُثْلة، فأتيت عِمران بن حصين فسألته، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة.
والمثلة: تعذيب المقتول بقطع أعضائه وتشويه خلقه قبل أن يقتل أو بعده، وذلك مثل أن يجدع أنفه أو أذنه، أو يفقأ عينه أو ما أشبه ذلك من أعضائه.
(1)
رواه البخاري (2474).
(2)
رواه أحمد 4/ 173 عن عفان، عن وهيب، عن عطاء بن السائب عن يعلى بن مرة.
(3)
رواه أحمد 2/ 92 و 115 من طريق شريك، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُراه - ابنَ عمر
…
وفي سنده شريك، وهو سيء الحفظ.
وذكره الهيثمي في "المجمع" في موضعين منه، فقال في الأول 4/ 32: رواه أحمد، ورجاله ثقات. وقال في الثاني 6/ 249 - 250: رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر من غير شك، ورجال أحمد ثقات.
عنه، وفي "الصحيحين"
(1)
عن أنس قال: خرَجَتْ جاريةٌ عليها أوضاحٌ بالمدينة، فرماها يهودي بحجر، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رَمَقٌ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلانٌ قتلك؟ فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة: "فلان قتلك؟ " فخفضت رأسها، فدعا به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فرضخ رأسه بَيْن الحَجَرَين. وفي رواية لهما: فَأُخِذَ فاعترفَ، وفي رواية لمسلم
(2)
: أن رجلًا من اليهود قتلَ جاريةً من الأنصار على حليٍّ لها، ثم ألقاها في القَلِيب، ورضَخَ رأسَها بالحجارة، فأُخِذَ، فأتي به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأمر به أن يُرجَمَ حتى يموت، فرُجِمَ حتى ماتَ.
والقول الثاني: لا قَوَدَ إلَّا بالسيف، وهو قولُ الثوري، وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد.
وعن أحمد رواية ثالثة: يُفعل به كما فعل إلا أن يكونَ حرَّقه بالنار أو مَثَّلَ به، فيُقْتَلُ بالسيف للنهي عن المُثلة وعن التحريق بالنار نقلها عنه الأثرمُ، وقد رُد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا قَودَ إلَّا بالسيف" خرَّجه ابن ماجه
(3)
وإسناده
(1)
البخاري (6877) ومسلم (1672).
(2)
(1672)(16).
(3)
ضعيف، هو في "سنن ابن ماجه"(2668)، ورواه الدارقطني 3/ 105 - 106 والبيهقي 8/ 63 من حديث أبي بكرة.
ورواه من حديث النعمان بن بشير الطيالسي (802) وابن ماجه (2667) وابن أبي عاصم في "الديات" ص 60، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 184، والدارقطني 3/ 106 والبيهقي 8/ 62.
ورواه عن عبد الله بن مسعود ابن أبي عاصم ص 60، والدارقطني 3/ 88، والبيهقي 8/ 63.
ورواه من حديث علي الدارقطني 3/ 88. =
ضعيف، قال أحمد: يُروى "لا قَوَدَ إلَّا بالسيف" وليس إسناده بجيد، وحديث أنس، يعني: في قتل اليهودي بالحجارة أسندُ منه وأجودُ.
ولو مَثَّلَ به، ثم قتله مثلَ أن قطع أطرافَه، ثم قتله، فهل يُكتفى بقتله أم يُصنع به كما صنع، فَتُقْطع أطرافُه ثم يُقتل؟ على قولين: أحدهما: يُفعل به كما فعل سواء، وهو قولُ أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وإسحاق وغيرهم. والثاني: يُكتفى بقتله، وهو قولُ الثوري وأحمد في رواية وأبي يوسف ومحمد، وقال مالك: إن فعل ذلك به على سبيلِ التمثيلِ والتعذيب، فُعِلَ به كما فَعَلَ، وإن لم يكن على هذا الوجه اكتفي بقتله.
الوجه الثاني: أن يكون القتلُ للكفر، إما لكفر أصلي، أو لردَّة عن الإسلام، فأكثرُ العلماء على كراهة المُثلة فيه أيضًا، وأنَّه يُقتل فيه بالسيف، وقد رُوي عن طائفةٍ من السلف جوازُ التمثيل فيه بالتحريق بالنار وغير ذلك، كما فعله خالدُ بن الوليد
(1)
وغيره.
= وكل هذه الطرق ضعيفة لا يثبت واحد منها كما قال غير واحد من الأئمة، انظر "نصب الراية" 4/ 341 - 342.
ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 9/ 354 عن عيسى بن يونس، عن أشعث بن عبد الملك وعمرو، عن الحسن مرسلًا.
(1)
قال ابن سعد في "الطبقات" 7/ 396: أخبرنا أبو معاوية الضرير قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت في بني سُليم ردة، فبعث أبو بكر، رضي الله عنه، خالد بن الوليد، فجمع منهم رجالًا في حضائر، ثم أحرقهم بالنار، فجاء عمر إلى أبي بكر، رضي الله عنه، فقال: انزِعْ رجلًا عذب بعذاب الله، فقال أبو بكر: لا والله لا أشيم سيفًا سله الله على الكفار حتى يكونَ هو الذي يشيمه، ثم أمره فمضى لوجهه من وجهه ذلك إلى مسيلمة.
وهذا سند رجاله ثقات رجال الشيخين إلا أن عروة لم يدرك أبا بكر.
ورُوي عن أبي بكر أنه حرَّق الفجاءة
(1)
بالنَّار.
ورُوي أن أم قِرْفة الفزارية ارتدت في عهد أبي بكر الصديق، فأمر بها، فشدَّت ذوائِبُها في أذناب قَلُوصَيْنِ أو فرسين، ثم صاح بهما فتقطعت المرأة، وأسانيد هذه القصة منقطعة. وقد ذكر ابنُ سعد في "طبقاته"
(2)
بغير إسناد أن زيدَ بنَ حارثة قتلها هذه القتلة على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وصحَّ عن عليٍّ أنه حرَّق المرتدين، وأنكر ذلك ابنُ عباس عليه
(3)
، وقيل: إنه لم يُحرقهم، وإنما دَخَّنَ عليهم حتى ماتوا، وقيل: إنه قتلهم، ثم حَرَّقهُم، ولا يصحُّ ذلك. وروي عنه أنه جيء بمرتدٍّ، فأمر به فوطئ بالأرجل حتَّى مات.
واختار ابنُ عقيلٍ - من أصحابنا - جوازَ القتل بالتمثيل للكفر لا سيما إذا
(1)
واسمه إياس بن عبد يا ليل السُّلمي، وكان من خبره كما في الطبري 3/ 264 أنه قدم على أبي بكر، فقال: أعنّي بسلاح، ومرني بمن شئت من أهل الردة. فأعطاه سلاحًا وأمره أمرَه، فخالف أمره إلى المسلمين، فخرج حتى ينزل بالجِواء، وبعث نجبة بن أبي الميثاء من بني الشريد، وأمره بالمسلمين، فشنها غارة على كل مسلم في سليم وعامر وهوازن، وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بن حاجز يأمره أن يجمع له، وأن يسير إليه، وبعث إليه عبد الله بن قيس الجاسي عونًا، ففعل، ثم نهضا إليه وطلباه، فجعل يلوذ منهما حتى لقياه على الجِواء، فاقتتلوا، فقُتل نجبة، وهرب الفجاءةُ، فلحقه طريفة فأسره. ثم بعث به إلى أبي بكر، فقدم به على أبي بكر، فأمر فأوقد له نارًا في مصلى المدينة على حطب كثير، ثم رمى به مقموطًا.
(2)
2/ 90.
(3)
رواه البخاري (3017) من حديث عكرمة أن عليًا رضي الله عنه حرق قومًا، فبلغ ابن عباس، فقال: لو كنتُ أنا لم أُحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بعذاب الله" ولَقَتلتُهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه".
تغلَّظ، وحمل النهي عن المُثلةِ على القتل بالقصاص، واستدلَّ من أجاز ذلك بحديثِ العُرنيين، وقد خرجاه في "الصحيحين"
(1)
من حديث أنس: أن أناسًا من عُرينة قَدِمُوا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاجْتَوَوْهَا، فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إن شئتم أن تَخرُجُوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها، فافعلوا" ففعلوا فصحُّوا، ثم مالوا على الرعاء، فقتلوهم، وارتدّوا عن الِإسلام، وساقوا ذَودَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فبعث في أثرهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجُلَهم، وسَمَلَ أعينَهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا، وفي رواية: ثم نُبِذُوا في الشمس حتى ماتوا، وفي رواية: وسمرت أعينُهم، وألقوا في الحرَّةِ يَستَسقون فلا يسقون، وفي رواية للترمذي: قطع أيديَهم وأرجلهم من خلافٍ، وفي رواية للنسائي: وصَلَبَهُم.
وقد اختلف العلماء في وجه عقوبة هؤلاء. فمنهم من قال: من فعل مِثلَ فعلهم فارتدَّ، وحارب، وأخذ المالَ، صنع به كما صنع بهؤلاء، وروي هذا عن طائفة، منهم أبو قِلابة، وهو روايةٌ عن أحمد.
ومنهم مَنْ قال: بل هذا يدلُّ على جواز التمثيل بمن تغلَّظَتْ جرائمُهُ في الجملة، وإنما نهي عن التمثيل في القصاص، وهو قول ابن عقيل من أصحابنا.
ومنهم من قال: بل نسخ ما فعل بالعرنيين بالنهي عن المُثلةِ.
ومنهم من قال: كان قبلَ نزولِ الحدودِ وآيةِ المحاربة، ثم نُسخ بذلك، وهذا قولُ جماعة منهم الأوزاعي وأبو عُبيد.
ومنهم من قال: بل ما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهم إنما كان بآية المحاربة، ولم ينسخ
(1)
رواه البخاري (1233 و (3018) و (14610 و (6899) ومسلم (1671)(9) و (10) و (11) و (12) و (13) و (14).
شيء من ذلك؛ وقالوا: إنما قتلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقَطَعَ أيديهم؛ لأنهم أخذوا المالَ؛ ومن أخذ المالَ وقَتَلَ، قُطِعَ وقُتِلَ، وصُلِبَ حتمًا؛ فَيُقتَلُ لِقتله ويُقطع لِأخذه المال يَدُه ورجلُه من خِلاف، ويُصلَبُ لجمعه بين الجنايتين وهما القتلُ وأخذُ المال، وهذا قول الحسن، ورواية عن أحمد.
وإنما سَمَلَ أعينهم؛ لأنهم سملوا أعينَ الرعاة كذا خرَّجه مسلم من حديثِ أنس، وذكر ابنُ شهابٍ أنهم قتلوا الراعي، ومَثَّلوا به، وذكر ابن سعد أنهم قطعوا يدَه ورجله، وغرسوا الشوكَ في لسانه وعينيه حتى مات، وحينئذ، فقد يكونُ قطعُهم، وسملُ أعينهم، وتعطيشُهم قصاصًا، وهذا يتخرَّجُ على قول مَنْ يقولُ: إن المحاربَ إذا جنى جنايةً توجبُ القصاصَ استُوفيت منه قبل قتله، وهو مذهب أحمد. لكن هل يستوفى منه تحتمًا كقتله أم على وجه القصاص، فيسقط بعفو الولي؟ على روايتين عنه، ولكن رواية الترمذي أن قطعَهُم من خلاف يدلُّ على أن قطعهم للمحاربة إلا أن يكونوا قد قطعوا يدَ الراعي ورجلَه من خلاف والله أعلم.
وقد رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان أَذِنَ في التحريق بالنار، ثم نهى عنه كما في "صحيح البخاري"
(1)
عن أبي هريرة قال: بعثنا رسولُ اللُه صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وَجَدتُم فلانًا وفلانًا - لرجلين من قريشٍ - فأحرقوهما بالنار" ثمَّ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروجَ: "إني كنتُ أمرتُكم أن تحرِقوا فلانًا وفُلانًا بالنار، وإن النارَ لا يُعذِّبُ بها إلا اللُه، فإن وجدتموهما فاقتلوهما".
وفيه
(2)
أيضًا عن ابن عبَّاسٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُعذِّبُوا بعذاب الله عز وجل".
(1)
رقم (3016).
(2)
رقم (3017).
وخرَّج الِإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث ابنِ مسعودٍ قال: كُنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فمَرَرنا بقريةِ نملٍ قد أُحرقَت، فغَضِب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال:"إنَّه لا ينبغي لِبشرٍ أن يعذِّبَ بعذاب الله عز وجل"
(1)
.
وقد حرَّقَ خالدٌ جماعة في الرِّدة، وروي عن طائفة من الصحابة تحريقُ من عَمِلَ عمل قوم لوطٍ، ورُوي عن على أنه أشار على أبي بكر أن يقتلَه ثم يحرقه بالنار، واستحسَن ذلك إسحاق بن راهويه لئلا يكون تعذيبًا بالنار.
وفي "مسند الِإمام أحمد"
(2)
أن عليًا لما ضربه ابنُ مُلجم قال: افعلوا به كما أرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعلَ برجل أراد قتلَه، قال:"اقتلوه ثم حرِّقوه".
وأكثرُ العلماء على كراهةِ التحريق بالنار حتى للهوام، وقال إبراهيم النخعيُّ: تحريقُ العقرب بالنار مُثلةٌ. ونهت أمُّ الدرداء عن تحريق البرغوث بالنار. وقال أحمد: لا يُشوى السمكُ في النار وهو حيٌّ، وقال: الجرادُ أهونُ، لأنَّه لا دم له.
وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صَبرِ البهائم، وهو: أن تحبس البهيمة ثم تُضرب بالنبل ونحوه حتى تموتَ. ففي "الصحيحين"
(3)
عن أنس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تُصبر البهائم.
وفيهما
(4)
أيضًا عن ابن عمر: أنه مرَّ بقومٍ نصبوا دجاجةً يرمونها، فقال ابنُ عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا.
(1)
صحيح، رواه أحمد 1/ 423، وأبو داود (2675) و (5268) والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" 7/ 77.
(2)
1/ 92 - 93، وسنده ضعيف.
(3)
البخاري (5513) ومسلم (1956).
(4)
البخاري (5514) ومسلم (1958).
وخرَّج مسلم
(1)
من حديث ابنِ عباس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن يُتخذ شيء فيه الروح غرضًا، والغرض: هو الذي يرمى فيه بالسهام.
وفي "مسند الِإمام أحمد"
(2)
عن أبي هُريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الرَّمِيَّةِ: أن ترمى الدابة ثم تُؤكلُ "ولكن تذبح، ثم ليرموا إن شاؤوا". وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
فلهذا أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإحسانِ القتلِ والذبح، وأمر أن تُحَدَّ الشفرةُ، وأن تُراح الذبيحة، يشير إلى أن الذبح بالآلة الحادة يُرِيحُ الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها.
وخرَّج الِإمام أحمد، وابنُ ماجه من حديث ابنِ عمر، قال: أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحَدِّ الشفارِ، وأن تُوارى عن البهائم، وقال:"إذا ذَبَحَ أحدُكُم، فليُجْهِزْ"
(3)
يعني: فليسرع الذبح.
وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عندَ ذبحها. وخرَّج ابنُ ماجه
(4)
من حديث أبي سعيد الخدري قال: مر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم برجل وهو يجرُّ شاة بأذنها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"دع أُذنَها وخُذْ بِسالِفَتِها" والسالفة: مقدَّمُ العنق.
وخرَّج الخلالُ والطبرانيُّ
(5)
من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم برجل واضع رجلَه على صفحة شاةٍ وهو يحدُّ شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال:"أفلا قبْلَ هذا؟ تريدُ أن تُميتها موتات؟ ". وقد روي عن عكرمة
(1)
رقم (1957).
(2)
2/ 402 وسنده قوي.
(3)
رواه أحمد 2/ 108، وابن ماجه (3172) وسند أحمد قوي؛ فإن راويه عنده عن ابن لهيعة قتيبة بن سعيد، وهو قوي فيه كما في "السير" 8/ 17.
(4)
رقم (3171)، وفي سنده موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، وهو ضعيف.
(5)
رقم (11916) ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 33.
مرسلًا خرجه عبدُ الرزاق
(1)
وغيره، وفيه زيادة:"هلَّا حددت شفرتك قبل أن تُضْجِعَها".
وقال الِإمام أحمد: تُقاد إلى الذبح قودًا رفيقًا، وتوارى السكينُ عنها، ولا تُظهر السكين إلا عندَ الذبح، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أن تُوارى الشفار. وقال: ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنها تعرف ربها، وتعرف أنها تموت. وقال: يُروى عن ابن سابط أنه قال: إن البهائم جُبِلَتْ على كلِّ شيءٍ إلا على أنها تعرف ربها، وتخاف الموتَ.
وقد وردَ الأمرُ بقطع الأوداج عندَ الذبح، كما خرَّجه أبو داود من حديث عِكرمة، عن ابن عباس، وأبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع الجلد، ولا تفري الأوداج، وخرجه ابن حبان في "صحيحه"
(2)
وعنده قال عكرمة: كانوا يقطعون منها الشيء اليسيرَ، ثم يدعونها حتى تموتَ، ولا يقطعون الودجَ، فنهى عن ذلك.
وروى عبدُ الرزاق في كتابه
(3)
عن محمد بن راشدٍ، عن الوضين بنِ عطاء، قال: إن جزَّارًا فتح بابًا على شاةٍ ليذبحها فانفلتت منه حتَّى جاءت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فاتبعها، فأخذ يَسْحَبُها برجلها، فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اصبري لأمرِ الله، وأنتَ يا جزَّارُ فسُقْها إلى الموتِ سَوقًا رفيقًا".
وبإسناده
(4)
عن ابن سيرين أن عُمَرَ رأى رجلًا يسحب شاةً برجلها ليذبحها،
(1)
في "المصنف"(8608) عن معمر، عن عاصم، عن عكرمة. ورواه الحاكم 4/ 233 من طريق حماد بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قلت: عكرمة من رجال البخاري.
(2)
رقم (5888) وهو حديث ضعيف. انظر تخريجه فيه.
(3)
"المصنف"(8609).
(4)
"المصنف"(8605).
فقال له: وَيْلَكَ قُدْها إلى الموت قودًا جميلًا.
وروى محمدُ بنُ زيادٍ أن ابن عمر رأى قصَّابًا يجُرُّ شاةً، فقال: سُقها إلى الموت سوقًا جميلًا، فأخرج القصابُ شفرته، فقال: ما أسوقها سوقًا جميلًا وأنا أريد أن أذبحها الساعة، فقال: سقها سوقًا جميلًا.
وفي "مسند الإمام أحمد"
(1)
عن معاوية بن قُرة، عن أبيه: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ إني لأذبحُ الشاةَ وأنا أرحَمها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"والشاة إن رحمتها رَحِمَكَ الله".
وقال مطرف بنُ عبد الله: إن الله ليرحم برحمة العصفور.
وقال نوفٌ البكالي: إن رجلًا ذبح عِجَّوْلًا
(2)
بين يدي أمه، فخُبِّلَ، فبينا هو تحتَ شجرة فيها وكْر فيه فَرْخٌ، فوقع الفرخُ إلى الأرض، فرحمه فأعاده في مكانه، فردَّ الله إليه قوَّته.
وقد رُوي من غير وجه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن تُولَّه والدة عن ولدها، وهو عام في بني آدم وغيرهم.
وفي سنن أبي داود
(3)
: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الفَرَع، فقال:"هو حَقٌّ وأن تتركوه حتى يكون بكرًا ابنَ مخاض، أو ابنَ لَبُون، فتُعطيهَ أرملة، أو تحمل عليه في سبيل الله خيرٌ من أن تَذْبَحَهُ فيلصقَ لحمُه بوبره، وتُكفئ إناءَك وتُولّه ناقتك ".
(1)
5/ 34، وإسناده صحيح.
(2)
هو ولد البقرة، يقال: عِجْلٌ وعجَّوْل.
(3)
رقم (6842) وهو في "المسند" 2/ 182 - 183، وسنده حسن، وابن المخاض من الإبل: ما دخل في السنة الثانية من عمره، وابن اللبون منها: ما أتى عليه سنتان ودخل في الثالثة، وتكفئ إناءك: أي تكب إناءك لأنَّه لا يبقى لك لبن تحلبه فيه، "وتُولِّه ناقتك" من الوله وهو الحزن، أي: تفجعها بولدها، وكل أنثى فارقت ولدها فهي والِه.
والمعنى: أن ولد الناقة إذا ذبح وهو صغير عند ولادته لم يُنتفع بلحمه، وتضرَّر صاحبُه بانقطاع لبنِ ناقته، فتُكفِئ إناءه وهُوَ المِحْلَبُ الذي تُحلَب فيه الناقة، وقولَه الناقة على ولدها بفقدها إيَّاه.
الحديث الثامن عشر
عَنْ أبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ رضي الله عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:"اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"
(1)
. رواه التَّرمِذيُّ وقَالَ: حَديثٌ حَسنٌ، وفي بعضِ النُّسَخِ: حَسَنٌ صَحيحٌ.
هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن أبي ذرٍّ، وخرجه أيضًا بهذا الِإسناد عن ميمون عن معاذ، وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنه قال: حديثُ أبي ذرٍّ أصحُّ.
فهذا الحديثُ قد اختلف في إسناده وقيل فيه: عن حبيب، عن ميمون: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصَّى بذلك، مرسلًا، ورجَّحَ الدارقطني هذا المرسل.
وقد حسَّن الترمذي هذا الحديثَ، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه، فبعيد، ولكن الحاكم خرجه، وقال: صحيح على شرطِ الشيخين، وهو وهم مِن وجهين: أحدُهما: أن ميمونَ بنَ أبي شبيب، ويقال: ابنُ شبيب لم يخرج له البخاري في "صحيحه" شيئًا، ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه حديثًا عن
(1)
حديث حسن رواه أحمد 5/ 153 و 158 و 177 و 236، والترمذي (1987)، والدارمي 2/ 323، والحاكم 1/ 54، والطبراني في "الكبير" 20/ (295) و (296) و (297) و (298) وفي "الصغير"(530)، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 336 والقضاعي في "مسند الشهاب"(652).
المغيرة بن شعبة. والثاني: أن ميمون بن أبي شبيب لم يصحّ سماعه من أحد من الصحابة، قال الفلاس: ليس في شيء من رواياته عن الصحابة "سمعتُ"، ولم أخبر أن أحدًا يزعم أنه سمع من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حاتم الرازي: روايته عن أبي ذر وعائشة غير متصلة. وقال أبو داود: لم يدرك عائشة، ولم ير عليًا، وحينئذ فلم يدرك معاذًا بطريق الأولى.
ورأْيُ البخاري وشيخهِ عليّ بن المديني، وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أن الحديثَ لا يَتَّصِلُ إلا بصحة اللقي
(1)
، وكلامُ الإمام أحمد يدلُّ على ذلك، ونصَّ عليه الشافعي في "الرسالة" وهذا كُلُّه خلاف رأي مسلم رحمه الله.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصَّى بهذه الوصية معاذًا وأبا ذرٍّ من وجوهٍ أخَر، فخرج البزارُ
(2)
من حديث ابن لهيعة عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذٍ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم، فقال: يا رسول الله أوصني، قال:"أفش السَّلام، وابذل الطعام، واستحي من الله استحياء رجل ذا هيئةٍ من أهلك، وإذا أسأتَ فأحسن، وليحسن خلقك ما استطعت".
وخرج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بنِ العاص: أن
(1)
الخلاف في هذه المسألة منحصر في الحديث المعنعن، وهو الذي فيه عن فلان، عن فلان، وقد ادعى الإمام مسلم في مقدمة "صحيحه" إجماع العلماء قديمًا وحديثًا على أنه محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضِهم بعضًا مع براءتهم من التدليس، وخالف مسلمًا في ذلك إماما هذه الصنعةِ عليُّ بن المديني والبخاري وغيرهما فقالوا: لا يحمل على الاتصال إلا إذا ثبت أنهما التقيا مرة فأكثر، ولا يكفي إمكانُ تلاقيهما. انظر "شرح مسلم" 1/ 127 وما بعدها و"توضح الأفكار" 1/ 330 و 335.
(2)
رقم (1972). قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 23: وفيه ابن لهيعة، وفيه لين، وبقية رجاله ثقات.
معاذَ ين جبل أراد سفرًا، فقال: يا رسولَ الله أوصني، قال:"اعبد الله، ولا تشرك به شيئًا" قال: يا رسول الله زِدني، قال:"إذا أسأت فأحسن" قال: يا رسول الله زدني " قال: "استقم ولتُحسِنْ خلقك"
(1)
.
وخرج الإمامُ أحمدُ
(2)
من حديث درَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي ذرٍّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أُوصيك بتقوى الله في سِرٍّ أمرك وعلانيته، وإذا أسأتَ فأحسِنْ، ولا تسألنَّ أحدًا شيئًا وإن سقط سوطُك، ولا تَقبضْ أمانةً، ولا تقض بين اثنين".
وخرج أيضًا من وجه آخر عن أبي ذرٍّ قال: قلتُ: يا رسول اللُه علِّمني عملًا يقرِّبني من الجنة ويُباعدني من النار، فال:"إذا عملت سيئة، فاعْمَلْ حسَنَةً، فإنَّها عشرُ أمثالها" قال: قلتُ: يا رسول الله أمِنَ الحسناتِ لا إله إلَّا الله؟ قال: "هي أحسنُ الحسناتِ".
وخرج ابن عبد البرّ في "التمهيد" بإسناد فيه نظر عن أنسٍ قال: بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن، فقال:"يا معاذ اتَّق الله، وخالِقِ النَّاس بخُلُقٍ حَسَن، وإذا عملتَ سيئةَّ، فأتْبِعْهَا حسنة" فقال: قلتُ: يا رسولَ الله لا إله إلا الله مِن الحسنات؟ قال: "هي من أكبرِ الحسناتِ". وقد رويت وصية النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ من حديثِ ابنِ عمر وغيره بسياق مطول من وجوه فيها ضعف.
ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئِلَ: ما أكْثَرُ ما يُدخِلُ الناسٌ الجنة؟ قال: "تقوى الله وحسنُ الخُلُقِ" خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، وابن حبان في "صحيحه"
(3)
.
(1)
رواه الحاكم 1/ 54 و 4/ 244 وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
5/ 181، ودرّاج عن أبي الهيثم ضعيف.
(3)
رقم (476) وانظر تمام تخريجه فيه.
فهذه الوصية وصيةٌ عظيمةٌ جامعة لحقوق الله وحقوق عباده، فإن حقَّ الله على عباده أن يتقوه حقَّ تقاته، والتقوى وصيةُ الله للأوّلين والأخرين. قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
وأصلُ التقوى: أن يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك وهو فعلُ طاعته واجتنابُ معاصيه.
وتارة تُضافُ التقوى إلى اسم اللُهِ عز وجل، كقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] و [المجادلة: 9]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى، فالمَعنىَ: اتقوا سخطه وغضبه، وهو أعظم ما يتقى، وعن ذلك ينشأ عقابُه الدنيوي والأخروي، قال تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، وقال تعالى:{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56]، فهو سبحانه أهل أن يُخشى ويُهاب ويُجل ويُعَظَّمَ في صدورِ عباده حتَّى يعبدوه ويُطيعوه، لما يستحقُّه من الإجلالِ والإكرامِ، وصفاتِ الكبرياءِ والعظمة وقوَّة البطش، وشِدَّةِ البأس. وفي الترمذيَ عن أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] قال: "قال الله تعالى: أنا أهل أن اتَّقى، فمن اتَّقاني فلم يَجْعَل معي إلهًا آخر، فأنا أهلٌ أن أغفِرَ له"
(1)
.
(1)
رواه الترمذي (3328) من طريق زيد بن حباب، أخبرنا سهيل بن عبد الله القُطَعي، عن ثابت، عن أنس.
ورواه أحمد 3/ 142 و 243 والدارمي 2/ 302 - 303 والنسائي في "الكبرى" كما في "التحفة" 1/ 139، وابن ماجه (4299) وأبو يعلى (3317) والبغوي 4/ 420 من=
وتارةً تُضافُ التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه، كالنار، أو إلى زمانه، كيوم القيامة، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، وقال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48، 123].
ويدخل في التقوى الكاملة فعلُ الواجبات، وتركُ المحرمات والشبهات، وربما دَخَلَ فيها بعد ذلك فعلُ المندوبات، وتركُ المكروهات، وهو أعلى درجات التقوى، قال الله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 1 - 4].
= طرق عن سهيل، بهذا الإسناد، وصححه الحاكم 2/ 508 ووافقه الذهبي!
وكره السيوطي في "الدرّ المنثور" 8/ 340، وزاد نسبته إلى البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث قد تفرّد بهذا الحديث عن ثابت.
قلت: في "التهذيب" في ترجمته قال أحمد: روى عن ثابت أحاديث منكرة، وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، يتكلمون فيه ليس بالقوي عندهم، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يُكتبُ حديثه ولا يُحتج به، وقال النَّسَائِي: ليس بالقوي.
وأخرج ابن مردويه فيما ذكره السيوطي في "الدر المنثور" عن عبد الله بن دينار قال: سمعت أبا هريرة، وابن عمرَ وابن عباس رضي الله عنهم يقولون: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} قال: "يقول: "أنا أهلٌ أن أُتَّقى، فلا يُجعل معي شريكٌ، فإذا أتقيتُ ولم يُجعل معي شريك، فأنا أهلٌ أن أغفر ما سوى ذلك".
قال مُعاذُ بنُ جبل: يُنادى يوم القيامة: أين المتقون؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرحمن لا يحتجِبُ منهم ولا يستترُ، قالوا له: مَنِ المتَّقون؟ قال: قومٌ اتَّقوا الشِّركَ وعبادةَ الأوثان، وأخلصوا للهِ بالعبادة.
وقال ابنُ عباس: المتَّقون الذين يَحْذَرون من اللُه عقوبتَه في ترك ما يعرفون من الهدى، ويَرجون رحمَته في التصديق بما جاءَ به.
وقال الحسن: المتقون اتَّقَوا ما حُرِّم عليهم، وأذوا ما افْتُرِض عليهم.
وقال عُمَر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليطِ فيا بَيْنَ ذلك، ولكن تقوى اللهِ تركُ ما حرَّم الله، وأداءُ ما افترضَ الله، فمن رُزِقَ بعدَ ذلك خيرًا، فهو خيرٌ إلى خير.
وقال طلقُ بنُ حبيب: التقوى أن تعملَ بطاعةِ الله على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من اللُه تخافُ عقابَ الله.
وعن أبي الدرداء قال: تمامُ التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرِّةٍ، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلالٌ خشيةَ أن يكون حرامًا يكون حجابًا بينه وبينّ الحرام، فإن الله قد بَيَّن للعباد الذي يُصيرهم إليه فقال:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، فلا تحقرن شيئًا من الخير أن تفعله، ولا شيئًا من الشرِّ أن تتقيه.
وقال الحسنُ: ما زالت التقوى بالمتقين حتَّى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام.
وقال الثوري: إنما سُمُّوا متقينَ، لأنهم اتقوا ما لا يُتقى.
وقال موسى بنُ أَعْيَن: المتقون تنزَّهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين.
وقد سبق حديثُ "لا يَبلغُ العبدُ أن يكونَ من المتقين حتى يدعَ ما لا بأسَ به حذرًا مما به بأس"
(1)
. وحديث: "من اتقى الشبُهاتِ استبرأ لِدينه وعِرْضه"
(2)
.
وقال ميمونُ بنُ مِهران: المُتَّقي أشدُّ محاسبةً لنفسه من الشريكِ الشحيحِ لِشريكه.
وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، قال: أن يُطاع، فلا يُعصى، ويُذكر، فلا ينسى، وأن يُشكر، فلا يُكفر. وخرجه الحاكم مرفوعًا
(3)
والموقوف أصحّ، وشكرُه يدخلُ فيه جميعُ فعل الطاعات.
(1)
تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
كذا قال المؤلف رحمه الله مع أن الذي في "المستدرك" 5/ 294 موقوف، فقد رواه من طريقين عن مسعر، عن زبيد، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في قول الله عز وجل:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} . قال: "أنْ يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى".
ورواه الطبراني في "الكبير"(8503) من طريق يوسف بن محمد الفريابي، عن سفيان بهذا الإسناد، وزاد في متنه:"وأنْ يشكر فلا يُكفر".
ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها.
وقد يغلِبُ استعمالُ التقوى على اجتناب المحرمات كما قال أبو هريرةَ وسئل عن التقوى، فقال: هل أخذتَ طريقًا ذا شوكٍ؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعتَ؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلْتُ عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال:
خلِّ الذُّنوبَ صَغِيرَها
…
وكَبيرَها فَهْوَ التُّقَى
واصْنَعْ كماشٍ فَوْقَ أَرْ
…
ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يَرَى
لا تَحْقِرَنَّ صَغِيرةً
…
إنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصَى
وأصلُ التقوى: أن يعلم العبدُ ما يُتقى ثم يتقي، قال عونُ بنُ عبد الله: تمامُ التقوى أن تبتغي علمَ ما لم يُعلم منها إلى ما عُلِمَ منها.
وذكر معروفٌ الكرخيُّ عن بكر بن خُنيسٍ، قال: كيف يكون متقيًا من لا يدري ما يَتَّقي؟ ثم قال معروفٌ: إذا كنت لا تحسن تتقي أكلتَ الربا، وإذا كنت لا تُحسن تتقي لقيتك امرأة فلم تَغُضَّ بصرك، وإذا كنت لا تُحسن تتقي وضعتَ سيفك على عاتقك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة:"إذا رأيتَ أمتي قد اختلفَتْ، فاعمد إلى سيفِكَ فاضْرِبْ به أُحُدًا" ثم قال معروف: ومجلسي هذا لعله كان ينبغي لنا أن نتَّقِيَهُ، ثم قال: ومجيئكم معي من المسجد إلى هاهنا كان ينبغي لنا أن نتقيه، أليس جاء في الحديث:"إنه فتنة للمتبوع مذلة للتابع"
(1)
؟ يعني: مشي الناس خلف الرجل.
(1)
الخبر بطوله في "حلية الأولياء" 8/ 365. وحديث محمد بن مسلمة رواه ابن أبي شيبة 15/ 37، وعنه ابن ماجه (3962) عن يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت أو على بن زيد بن جدعان، شكَّ أبو بكر، عن أبي بردة قال: دخلت على محمد بن مسلمة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكونُ فتنةٌ وفُرقةٌ واختلاف، فإذا كان كذلكَ فأْتِ بسَيفِك أُحُدًا، فاضرِبهُ حتى ينقطِعَ، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يدٌ خاطئة أو منيَّةٌ قاضية" فقد وقعتْ وفعلتُ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(247): هذا إسناد صحيح إن كان من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني.
قلت: ورواه أحمد 3/ 493 عن يزيد بن هارون ومؤمل، كلاهما عن حماد عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي بردة، وعلي بن زيد ضعيف.
ورواه محمد بن سعد في "الطبقات" 3/ 445 عن سعيد بن محمد الثقفي عن إسماعيل بن رافع، عن زيد بن أسلم ومحمد بن مسلمة. وسعيد بن محمد ضعيف وكذا إسماعيل بن رافع.
ورواه ابن سعد 3/ 444 عن يزيد بن هارون، أخبرنا هشام بن حسان عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعطى محمد بن مسلمة سيفًا فقال:"قاتل به المشركين ما قوتلوا، فإذا رأيت المسلمين قد أقبلَ بعضُهم على بعض فأْتِ به أُحدًا فاضربْه بهِ حتى تقطعه، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية".
قلت: وهذا سند رجاله ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من محمد بن مسلمة فهو منقطع.
ورواه أحمد 4/ 225 عن زيد بن الحباب، أخبرني سهل بن أبي الصلت: سمعت الحسن يقول: إن عليًا بعث إلى محمد بن مسلمة، فجيء به، فقال: ما خلَّفك عن هذا الأمر؟ قال: دفع إليَّ ابن عمك، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، سيفًا فقال:"قاتل به ما قوتل العدوُّ، فإذا رأيت الناس يقتل بعضهم بعضًا، فاعمَدْ بِهِ إلى صخرة فاضربه بها، ثم الزمْ بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو خاطئة" قال: حُلُّوا عنه.
قلت: ومحمد بن مسلمة: هو محمد بن مسلمة بن خالد الأنصاري الأوسي الحارثي أبو عبد الرحمن المدني، حليف بني عبد الأشهل. شهد بدرًا وأُحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلَّا تبوكَ، وهو أحد الذين قتلوا كعب بن الأشرف، واستخلفه =
وفي الجملة، فالتقوي هي وصيةُ الله لجميع خلقه، ووصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وكان صلى الله عليه وسلم إذا بَعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا
(1)
.
ولما خطبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوداع يومَ النحر وصى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم
(2)
.
ولما وَعَظَ الناسَ، وقالوا له: كأنَّها موعِظَةُ مودِّع فأوصنا، قال: "أوصيكم
= رسول الله، صلى الله عليه وسلم على المدينة في بعض غزواته، واستعمله عمر بن الخطاب على صدقات جهينة، وهو كان صاحب العمال أيام عمر، كان عمر إذا شُكي إليه عاملٌ، أرسل محمدًا يكشفُ الحال، وهو الذي أرسله عمر إلى عماله ليأخذ شطر أموالهم لثقته به، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان، رضي الله عنه. وتوفي بالمدينة سنة 46 أو 47 هـ، وقيل غير ذلك. انظر "أسد الغابة" 5/ 112 - 113.
وقوله: أليس جاء في الحديث "إنه فتنة للمتبوع مذلة للتابع" قلت: هو من قول عمر، فقد روى الدارمي 1/ 132 - 133 عن محمد بن العلاء، حدثنا ابنُ إدريسَ قال: سمعت هارون بن عنترة، عن سليمان بن حنظلة قال: أتينا أُبي بن كعب لنحدِّث إليه، فلما قام قمنا ونحن نمشي خلفَه، فرَهَقَنا عمر، فتبعه، فضربه عمر بالدِّرة قال: فاتقاه بذراعية فقال: يا أمير المؤمنين، ما تصنع؟ قال: أَوَ ما ترى فتنة للمتبوع مذلة للتابع؟
(1)
قطعة من حديث مطول رواه مسلم في "صحيحه"(1731) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(2)
رواه من حديث أبي أمامة أحمد 5/ 251 والترمذي (616) وصححه ابن حبان (4563).
ورواه من حديث أم الحصين الأحمسية مسلم (1298)(311) و (312) و (1838) وأحمد 6/ 402، والترمذي (1706) أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع:"يا أيها الناس اتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله" وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان (4564).
بتقوى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعة"
(1)
.
وفي حديث أبي ذرٍّ الطويل الذي خرجه ابنُ حبان
(2)
وغيره: قلتُ: يا رسولَ الله أوصني، قال:"أوصيكَ بتقوى الله، فإنه رأسُ الأمرِ كله".
وخرج الإِمام أحمد
(3)
من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قلتُ: يا رسولَ الله أوصني، قال:"أوصيك بتقوى الله، فإنه رأسُ كل شيء، وعليكَ بالجهاد، فإنه رهبانيةُ الإسلام"، وخرجه غيرُه ولفظه: قال: "علَيكَ بتقوى الله فإنها جِماع كل خيرٍ".
وفي الترمذي
(4)
عن يزيد بن سلمة: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سمعتُ منك حديثًا كثيرًا فأخَاف أن ينسيني أوَّلَه آخرُه، فحدثني بكلمة تكون جماعًا، قال:"اتَّق الله فيما تَعْلَمُ".
ولم يزل السلفُ الصالح يتَواصَوْنَ بها، كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في خطبته: أما بعد، فإني أُوصيكم بتقوى الله، وأن تُثنوا عليه بما هو أهلُه،
(1)
قطعة من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وسيأتي في هذا الكتاب، وهو الحديث الثامن والعشرون.
(2)
رقم (361) وهو حديث ضعيف. انظر تخريجه فيه.
وروى هذه القطعة منه أحمد 5/ 181 ولفظه: "أوصيك بتقوى الله في سرِّ أمرك وعلانيته، وإذا أسات فأحسِن، ولا تسألنَّ أحدًا شيئًا، ولا تقبض أمانة ولا تقض بين اثنين" وفيه ابن لهيعة ودرَّاج.
(3)
3/ 82 عن حسين بن الوليد القرشي النيسابوري، عن إسماعيل بن عياش، عن الحجاج بن مروان الكلاعي، وعقيل بن مدرك السلمي، عن أبي سعيد الخدري.
وهذا سند حسن، وله طريق آخر عند أبي يعلى (1000) والطبراني في "الصغير"(949) يتقوى به.
(4)
رقم (2683) وقال: ليس إسناده بمتصل هو عندي مرسل سعيد بن عمرو بن أشوع راويه عن يزيد بن سلمة لم يدركه.
وأن تَخلِطُوا الرغبةَ بالرهبة، وتجمعوا الإلحافَ بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
(1)
[الأنبياء: 95].
ولمَّا حضرته الوفاةُ، وعهد إلى عمر، دعاه، فوصَّاهُ بوصيةٍ، وأوَّلُ ما قالَ له: اتقِ الله يا عمر.
وكتب عُمَرُ إلى ابنه عبد الله: أما بعدُ، فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومَنْ أقرضه جزاه، ومَنْ شكره زاده، فاجعل التقوى نصبَ عينيك وجلاء قلبك.
واستعمل عليُّ بن أبي طالب رجلًا على سَريَّة، فقال له: أوصيك بتقوى الله الذي لا بُدَّ لك من لقائه، ولا منتهى لك دونَه وهو يَملِكُ الدنيا والآخرة.
وكتب عُمَرُ بنُ عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبلُ غَيْرَها، ولا يَرحَمُ إلَّا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإيَّاك من المتقين.
ولما وُلِّي خطب، فحَمِد الله، وأثنى عليه، وقال: أوصيكُم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله عز وجل خَلفٌ من كلِّ شيءٍ، وليس من تقوى الله خَلَفٌ.
وقال رجل ليونس بن عُبيد: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله والإحسانِ.
فإن الله مَعَ الذين اتَّقَوا والَّذينَ هُمْ مُحسِنُون.
وقال له رجل يُريدُ الحجّ: أوصني، فقال له: اتَّقِ الله، فمن اتقى الله، فلا وحشة عليه.
وقيل لرجل من التابعين عندَ موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بخاتمة سورةِ
(1)
الخبر في "المصنف" لابن أبي شيبة 13/ 258، ورواه من طريقه الحاكم في "المستدرك" 2/ 383، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 35، وصححه الحاكم، ورده الذهبي بقوله: عبد الرحمن بن إسحاق كوفي ضعيف.
النحل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
وكتب رجلٌ من السلف إلى أخٍ له: أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررتَ، وأزينُ ما أظهرتَ، وأفضلُ ما ادَّخرتَ، أعاننا الله وإيَّاكَ عليها، وأوجب لنا ولك ثوابَها.
وكتب رجلٌ منهم إلى أخٍ له: أُوصيكَ وأنفسَنا بالتقوى، فإنها خيرُ زادِ الآخِرَةِ والأولى، واجعلها إلى كلِّ خيرٍ سبيلَك، ومِن كلِّ شرٍّ مهرَبك، فقد توكل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون، والرزق من حيث لا يحتسبون.
وقال شعبة: كنتُ إذا أردتُ الخروجَ، قلتُ للحكم: ألك حاجةٌ، فقال: أوصيك بما أوصى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذَ بنَ جبل: "اتَّقِ الله حيثُما كُنتَ، وأتْبِع السَّيِّئة الحَسَنة تَمحُها، وخَالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ". وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقولُ في دعائه: "اللَّهُمَّ إني أسألُكَ الهُدى والتُّقى والعِفَّةَ والغِنَى"
(1)
.
وقال أبو ذرٍّ: قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، ثم قال:"يا أبا ذرٍّ لو أن النَّاسَ كُلَّهم أخذوا بها لكَفَتهم"
(2)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كُنت" مراده في السير والعلانية حيث يراه الناسُ وحيث لا يرونه، وقد ذكرنا من حديث أبي ذر أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:"أُوصيك بتقوى الله في سرِّ أمرك وعلانيته"، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:"أسألك خشيتَك في الغَيبِ والشَّهادة"
(3)
وخشية الله في الغيب والشهادة هي من المنجيات.
(1)
رواه مسلم (2721) من حديث عبد الله بن مسعود، وفيه "العفاف بدل العفة.
(2)
رواه أحمد 5/ 178 - 179، وابن ماجه (4220) من طريقين، عن كَهمس بن الحسين، حدثنا أبو السليل، عن أبي ذر، وهذا سند رجاله ثقات إلا أن أبا السليل لم يدرك أبا ذر، فهو منقطع.
(3)
قطعة من حديث صحيح مطول رواه النسائي 3/ 54 - 55 وغيره من حديث عمار بن ياسر، وصححه ابن حبان (1971).
وقد سبق من حديث أبي الطفيل عن معاذ أن صلى الله عليه وسلم قال له: "استحي من الله استحياءَ رجل ذي هيبةٍ من أهلك" وهذا هو السببُ الموجب لخشية الله في السير، فإن مَنْ عَلِمَ أن الله يراه حيث كان، وأنه مُطَّلِعٌ على باطنه وظاهره، وسرة وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته، أوجب له ذلك تركَ المعاصي في السر، وإلى هذا المعنى الإشارةُ في القرآن بقوله عز وجل:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
كان بعضُ السلف يقولُ لأصحابه: زهَّدنا الله وإيَّاكم في الحرام زهد مَنْ قَدَرَ عليه في الخلوة، فَعَلِم أن الله يراه، فتركه من خشيته، أو كما قال.
وقال الشافعي: أعزُّ الأشياء ثلاثة: الجودُ من قِلَّة، والورعُ في خَلوة، وكلمةُ الحقِّ عندَ من يُرجى ويُخاف.
وكتب ابنُ السّماك الواعظ إلى أخ له: أما بعدُ، أُوصيكَ بتقوى الله الذي هو نَجِيُّكَ في سريرتك ورقيبُك في علانيتك، فاجعلِ الله من بالك على كُلِّ حالك في ليلك ونهارك، وخفِ الله بقدر قُربه منك، وقُدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تَخرُجُ من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى مُلك غيره، فليعظم منه حَذَرُك، وليكثر منه وَجَلُكَ والسلام.
وقال أبو الجلد: أوحى الله تعالى إلى نبيٍّ من الأنبياء: قُلْ لقومك: ما بالكم تسترون الذنوبَ من خلقي، وتُظهرونها لي؛ إن كنتم ترون أني لا أراكم، فأنتم مشركون بي، وإن كنتم تَرَونَ أني أراكم فلم جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟
وكان وهيبُ بن الورد يقول: خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قُربه منك، وقال له رجل: عِظني، فقال: اتَّقِ الله أن يكونَ أهونَ الناظرين إليك. كان بعضُ السلف يقول: أتراك ترحم مَنْ لم تقرّ عينيه بمعصيتك حتَّى علم أن لا عين تراه غيرك؟
وقال بعضُهم: ابنَ آدم إن كنتَ حيث ركبتَ المعصية لم تَصْفُ لك مِن عينٍ ناظرةٍ إليك، فلما خلوتَ بالله وحده صَفَتْ لك معصيتُهُ، ولم تستحي منه حياءَك من بعض خلقه، ما أنت إلا أحدُ رجلين: إن كنت ظننتَ أنه لا يراك، فقد كفرتَ، وإن كنت علمتَ أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك مِن أضعف خلقه لقد اجترأت عليه.
دخل بعضُهم غَيضةً
(1)
ذات شجر، فقال: لو خلوتُ هاهنا بمعصيةٍ مَنْ كان يراني؟ فسمع هاتفًا بصوت ملأ الغَيْضَةَ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
راود بعضُهم أعرابيةً، وقال لها: ما يرانا إلا الكواكبُ، قالت: فأين مُكوكِبُها؟
رأى محمد بن المنكدر رجلًا واقفًا مع امرأة يُكلمها فقال: إن الله يراكما سترنا الله وإياكما.
قال الحارثُ المحاسبي: المراقبةُ علمُ القلب بقرب الربِّ. وسُئِل الجنيد بما يُستعانُ على غضِّ البصر، قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره. وكان الإمامُ أحمد يُنشِدُ:
إذا ما خلَوْت الدَّهرَ يومًا فلا تَقُلْ
…
خَلَوتُ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُلُ سَاعةً
…
ولا أن ما يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
وكان ابنُ السَّماك
(2)
ينشد:
(1)
الغيضة بالفتح: مجتمع الشجر، والشجر الكثير الملتف.
(2)
هو الزاهد القدوة سيد الوعاظ أبو العباس محمد بن صبيح العجلي المتوفى سنة (193) هـ مترجم في "سير أعلام النبلاء" 8/ 328 - 330.
يا مُدمِنَ الذَّنْبِ أما تَستَحِي
…
والله في الخَلْوَةِ ثَانِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إمْهَالُهُ
…
وسَتْرُهُ طُولَ مَساوِيكَا
والمقصود أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما وصَّى معاذًا بتقوى الله سِرًّا وعلانيةً، أرشده إلى ما يُعينه على ذلك وهو أن يستحيَ من الله كما يستحي من رجلٍ ذي هيبةٍ من قومه. ومعنى ذلك أن يستشعِرَ دائمًا بقلبه قُرْبَ الله منه واطلاعه عليه فيستحيي من نظره إليه.
وقد امتثل معاذُ ما وصَّاه به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر قد بعثه على عَمَلٍ، فقدم وليس معه شيء، فعاتبته امرأتُه، فقال: كان معي ضاغط، يعني: من يُضيق عليّ، ويمنعني من أخذ شي وإنما أراد معاذ ربَّه عز وجل، فظنت امرأتُه أن عُمَر بعث معه رقيبًا، فقامت تشكوه إلى الناس.
ومن صار له هذا المقام حالًا دائمًا أو غالبًا، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنَّهم يرونه، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحِشَ إلا اللممَ.
وفي الجملة فتقوى الله في السرِّ هو علامةُ كمالِ الإيمانِ، وله تأثيرٌ عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناءَ في قلوب المؤمنين. وفي الحديث:"ما أسَرَّ عبدٌ سَريرةً إلا ألبسه الله رِداءَها علانيةً إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا"
(1)
رُوي هذا مرفوعًا، ورُوي عن ابن مسعود من قوله.
(1)
رواه الطبراني في "الكبير"(172) من حديث جندب بن سفيان، وفي سنده حامد بن آدم المروزي كذبه غير واحد، ورواه ابن أبي الدنيا في "الإخلاص" فيما ذكره العجلوني في كشف الخفا" عن عثمان، وروى أحمد 3/ 28، وأبو يعلى (1378)، وأبو نعيم من طريق ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنًا من كان"، وابن لهيعة ضعيف وكذا دراج في روايته عن أبي الهيثم.
وقال أبو الدرداء: لِيَتَّقِ أحدُكم أن تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله له البغضَ في قلوب المؤمنين.
قال سليمانُ التيميُّ: إن الرجل لَيُصيب الذنبَ في السير فيصبح وعليه مذلتُه، وقال غيره: إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبينَ الله، ثم يجيءُ إلى إخوانه، فيرون أثَرَ ذلك عليه، وهذا مِن أعظم الأدلة على وجودِ الإِله الحقِّ المجازي بذرَّات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة، ولا يضيع عندَه عملُ عاملٍ، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار، فالسعيدُ مَنْ أصلح ما بينَه وبينَ الله، فإنه من أصلح ما بينه وبينَ الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومن التمس محامدَ الناسِ بسخط الله، عاد حامده من النَّاس له ذامًا.
قال أبو سليمان: الخاسرُ من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من هو أقربُ إليه من حبل الوريد.
ومِنْ أعجب ما رُوي في هذا ما رُوي عن أبي جعفر السائح قال: كان حبيبٌ أبو محمد تاجرًا يَكْرِي الدراهمَ، فمرَّ ذات يوم، فإذا هو بصبيان يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكِلُ الربا، فنكس رأسه، وقال: يا ربِّ، أفشيت سرِّي إلى الصبيان، فرجع فجمع ماله كُلَّه، وقال: يا ربِّ إنِّي أسيرٌ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المال فأعتقني، فلما أصبح، تصدَّق بالمال كلّه وأخذ في العبادة، ثم مر ذات يوم بأولئك الصبيان، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء حبيبٌ العابد، فبكى وقال: يا رب أنتَ تذم مرَّةً وتحمد مرَّةً، وكله من عندك.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وأتْبِع السَّيِّئة الحَسنَة تَمحُها" لما كان العبد مأمورًا بالتقوى في السرِّ والعلانية مع أنه لا بُدَّ أن يقع منه أحيانًا تفريط في التقوى، إما بترك بعض المأمورات، أو بارتكاب بعض المحظورات، فأمره أن يفعل ما يمحو به هذه
السيئة وهو أن يتبعها بالحسنة، قال الله عز وجل:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
وفي "الصحيحين" عن ابنِ مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قُبلَةً، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فدعاه فقرأها عليه، فقال رجل: هذا له خاصة؟ قال: "بل للناس عامة"
(1)
.
وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية في قوله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136].
فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسان إليهم بالإنفاق، وكظمِ الغيظ، والعفو عنهم، فجمع بين وصفهم ببذل النَّدى، واحتمال الأذى، وهذا هو غايةُ حسن الخلق الذي وصى به النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، ثم وصفهم بأنهم:{إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ولم يُصرُّوا عليها، فدل على أن المتقين قد يَقَع منهم أحيانًا كبائر وهي الفواحش، وصغائر وهي ظُلمُ النفس، لكنهم لا يُصرون عليها، بل يذكرون الله عَقِبَ وقوعها، فيستغفرونه ويتوبون إليه منها، والتوبة: هي تركُ الإصرار.
ومعنى قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ} أي: ذكروا عظمته وشِدَّة بطشه وانتقامِه، وما
(1)
رواه البخاري (4687) ومسلم (2763)(42).
توعد به على المعصية من العقابِ، فيوجب ذلك لهم الرجوعَ في الحال والاستغفارَ وتركَ الإصرار، وقال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
وفي "الصحيحين"
(1)
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَذْنَبَ عبدٌ ذنبًا، فقال: رَبِّ إنِّي عملتُ ذنبًا فاغْفِر لي فقال الله: عَلِمَ عبدي إن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرتُ لعبدي، ثم أذنب ذنبًا آخر - إِلى أن قال في الرابعة: - فليعمل ما شاء" يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبًا استغفر منه. وفي الترمذي
(2)
من حديث أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصرَّ من استَغْفَر ولو عادَ في اليومَ سَبْعِينَ مرة".
وخرَّج الحاكم
(3)
من حديث عُقبة بن عامر أن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله أحدُنا يُذنب، قال:"يُكتب عليه"، قال: ثم يستغفرُ منه، قال:"يغفر له، ويُتاب عليه"، قال: فيعود فيذنب، قال:"يكتب عليه"، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال:"يغفر له، ويتاب عليه، ولا يَمَلُّ الله حتى تملُّوا".
وخرّج الطبراني
(4)
بإسنادٍ ضعيفٍ عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء حبيبُ بنُ الحارث إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني رجل مِقْرافٌ للذنوب، قال:"فتب إلى اللهِ عز وجل"، قال: أتوبُ، ثم أعودُ، قال:"فكلما أذنبتَ، فتُبْ"، قال: يا رسول الله إذًا تكثرُ ذنوبي، قال: "فعفو الله أكثرُ من ذنوبك يا
(1)
البخاري (7507) ومسلم (2758) من حديث أبي هريرة.
(2)
برقم (3559) من طريق أبي نُصَيرة، عن مولى لأبي بكر، وقال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي، وهو في سنن أبي داود (1514).
(3)
1/ 59، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي مع أن في سنده عبد الله بن صالح كاتب الليث وفي حفظه شيء.
(4)
كما في "المجمع" 10/ 200، وفيه نوح بن ذكوان وهو ضعيف.
حبيب بن الحارث". وخرَّجه بمعناه من حديث أنس مرفوعًا بإسناد ضعيفٍ.
وبإسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: من ذكر خطيئةً عَمِلَها، فوَجِلَ قلبُه منها، واستغفر الله، لم يحبسها شيءٌ حتى يمحاها
(1)
.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عليٍّ قال: خياركُم كُلُّ مُفَتَّنٍ
(2)
توَّاب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: حتى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور
(3)
.
وخرَّج ابن ماجه
(4)
من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "التائبُ مِنَ الذَنْبِ كَمَنْ لَا ذَنبَ لَهُ".
(1)
ورواه البزار (3249) عن محمد بن المثنى، حدثنا عمر بن أبي خليفة، سمعت أبا بدر (هو بشار بن الحكم الضبي) عن ثابت، عن أنس، ورجاله ثقات إلا أبا بدر فقد قال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال ابن حبان: يتفرد عن ثابت بأشياء ليست من حديثه، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
(2)
المفتَّن: كمعظم ومكرم، الممتحن يمتحِنُه الله بالذنب ثم يتوب، ثم يعود، ثم يتوب.
(3)
المحسور: هو الذي بلغ الغاية في التعب والإعياء، أي: أن الشيطان ييأس من إغواء الذي يدوم على التوبة.
(4)
رقم (4250) ورواه الطبراني في "الكبير"(10281)، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 210، والشهاب القضاعي في "مسنده"(108) من طريق عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود رفعه، وهذا سند رجاله ثقات إلا أنه منقطع، أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وقد رواه عبد الرزاق - كما في "موضح أوهام الجمع" للخطيب 1/ 257، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن مسعود موقوفًا.
وحسنه الحافظ ابن حجر بشواهده فيما نقله عنه السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 152.
وقيل للحسن: ألا يستحيي أحدُنا من ربه يستغفِرُ من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود، فقال: ودَّ الشيطانُ لو ظَفِرَ منكم بهذه، فلا تملُّوا من الاستغفار. وروي عنه أنه قال: ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين، يعني: أن المؤمن كلما أذنب تاب، وقد رُوي "المؤمن مُفَتَّنٌ توَّاب"
(1)
. وروي من حديث جابر بإسناد ضعيف مرفوعًا: "المؤمن واهٍ راقعٌ فسعيدٌ من هلك على رقعه"
(2)
.
وقال عمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته: من أحسن منكم، فليَحْمَدِ الله، ومن أساء، فليستغفر الله، فإنه لا بُدَّ لأقوامٍ من أن يعملوا أعمالًا وظَّفها الله في رقابهم، وكتبها عليهم. وفي رواية أخرى عنه أنَّه قال: أيها الناسُ مَنْ ألمَّ بذنبٍ، فليستغفرِ الله وليتب، فإن عادَ، فليستغفر الله وليتب، فإن عاد، فليستغفر الله وليتب، فإنما هي خطايا مطوَّقة في أعناقِ الرجال، وإن الهلاك كُل الهلاك في الإصرار عليها.
ومعنى هذا أن العبدَ لا بُدَّ أن يفعل ما قُدِّرَ عليه من الذنوب كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كُتِبَ على ابن آدمَ حَظهُ من الزنى، فهو مُدركُ ذلك لا محالةَ"
(3)
. ولكن الله جعل للعبد مخرجًا مما وقع فيه من الذنوب، ومحاه بالتوبة والاستغفار، فإن فعل، فقد تخلص من شر الذنب، وإن أصر على الذنب، هلك.
وفي "المسند"
(4)
من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
رواه عبد الله بن أحمد 1/ 80 وأبو يعلى (483) من حديث علي رضي الله عنه بلفظ: "إن الله يحب العبد المؤمن المفتّن التواب" وسنده غاية في الضعف.
(2)
رواه الطبراني في "الصغير"(179)، وفي سنده سعيد بن خالد الخزاعي، وهو ضعيف، وباقي رجاله ثقات.
(3)
قطعة من حديث رواه البخاري (6243) و (6612) ومسلم (2675) وأبو داود (2152) من حديث أبي هريرة.
(4)
2/ 165 وإسناده صحيح، ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(380) وعبد بن حميد =
"ارحَمُوا تُرْحَموا، واغْفِروا يُغْفَرْ لكُم، وَيلٌ لأقْماعِ القولِ، وَيلٌ للمُصِرِّين الذين يُصرون على ما فعلوا وهُمْ يَعْلَمون" وفسر أقماعُ القول بمن كانت أذناه كالقمع لما يسمع من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه خرج من الأخرى، ولم ينتفع بشيء مما سمع
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَتْبِعِ السَّيِّئَة الحَسَنة" قد يُراد بالحسنة التوبة من تلك السيئة، وقد ورد ذلك صريحًا في حديث مرسَل خرجه ابنُ أبي الدنيا من مراسيل محمدِ بن جُبيرٍ
(2)
أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال: "يا معاذ اتَّقِ الله ما استطعتَ، واعمل بقوَّتِكَ لله عز وجل ما أطقت، واذكرِ الله عز وجل عند كلِّ شجرةٍ وحجر، وإن أحدثت ذنبًا، فأحدث عنده توبة، إن سرًّا فسرٌّ وإن علانية فعلانية". وخرجه أبو نعيم
(3)
بمعناه من وجهٍ آخرَ ضعيف عن معاذ. وقال قتادة: قال سلمان: إذا أسأتَ سيئةً في سريرةٍ، فأحسن حسنة في سريرةٍ، وإذا أسأتَ سيئةً في علانية، فأحسن حسنةً في علانية، لكي تكونَ هذه بهذه. وهذا يحتمِلُ أنه أراد بالحسنة التوبة أو أعمَّ منها.
وقد أخبر الله في كتابه أن من تاب من ذنبه، فإنه يغفر له ذنبه أو يتاب عليه
= في "المنتخب"(320)، والخطيب في "تاريخ بغداد" 8/ 265 - 266.
(1)
قال ابن الأثير: الأقماع جمع قمع، كضلع: وهو الإناء الذي يُترك في رؤوس الظروف لتُملأ بالمائعات من الأشربة والأدهان، شبه أسماع الذين يستمعون القولَ، ولا يعونه، ويحفظونه ويعملون به كالأقماع التي لا تعي شيئًا مما يفرغ فيها، فكأنه يمر عليها مجازًا كما يمر الشراب في الأقماع اجتيازًا، وقال الزمخشري في "أساس البلاغة": وتقول: ما لكم أسماع إنما هي أقماع.
(2)
هو محمد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل النوفلي، ذكره ابن سعد 5/ 205 في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة وهو ثقة عارف بالنسب مات على رأس المئة، روى حديثه الشيخان وأصحاب السنن.
(3)
في "الحلية" 1/ 240 - 241.
في مواضع كثيرةٍ، كقوله تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 17]، وقوله:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119]، وقوله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، وقوله:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]، وقوله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60]، وقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] الآيتين.
قال عبدُ الرزاق: أخبرنا جعفرُ بنُ سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: بلغني أن إبليسَ حين نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] الآية، بكى
(1)
. ويُروى عن ابن مسعور قال: هذه الآية خيرٌ لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها
(2)
. وقال ابنُ سيرين: أعطانا الله هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: قال رجلٌ: يا رسولَ الله لو كانت كفاراتُنا ككفاراتِ بني إسرائيل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا نبغيها - ثلاثًا - ما أعطاكم الله خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة، وجدها مكتوبة على بابه وكفارَتها، فإن كفرها كانت خزيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في الآخرة، فما
(1)
رواه ابن جرير الطبري (7852)، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 326 وزاد نسبته إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد.
(2)
ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 326، ونسبه إلى ابن المنذر.
أعطاكم الله خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
(1)
[النساء: 110].
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، قال: هو سعةُ الإسلامِ، وما جعل الله لأمة محمد من التوبة والكفارة
(2)
.
وظاهر هذه النصوص تدلُّ على أن من تاب إلى الله توبةً نصوحًا، واجتمعت شروطُ التوبة في حقه، فإنه يُقطع بقبولِ الله توبته، كما يُقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلامًا صحيحًا، وهذا قولُ الجمهور، وكلامُ ابن عبدِ البرِّ يدلُّ على أنَّه إجماع.
ومِنَ الناسِ مَنْ قال: لا يقطع بقبول التوبة، بل يُرجى، وصاحبُها تحت المشيئة وإن تاب، واستدلوا بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فجعل الذنوبَ كُلَّها تحت مشيئته، وربما استدلَّ بمثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8]، وبقوله:{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، وقوله:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقوله:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102].
(1)
رواه ابن جرير الطبري (1783) وأبو جعفر الرازي سيء الحفظ، ثم هو مرسل، أبو العالية - واسمه رفيع بن مهران الرياحي - من كبار التابعين وهو ثقة إلا أنه كثير الإرسال.
(2)
رواه ابن أبي حاتم فيما نقله عنه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 78 - 79 من طريق ابن شهاب أن ابن عباس.
والظاهر أن هذا في حقِّ التائبِ، لأن الاعترافَ يقتضي الندم، وفي حديث عائشة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبدَ إذا اعترف بذنبه، ثم تابَ، تاب الله عليه"
(1)
، والصحيح قولُ الأكثرين.
وهذه الآيات لا تدلُّ على عدم القطع، فإن الكريمَ إذا أطمع، لم يقطع من رجائه المطمع، ومِنْ هنا قال ابنُ عباس: إن "عسى" من الله واجبة، نقله عنه عليُّ بن أبي طلحة
(2)
. وقد ورد جزاءُ الإيمان والعمل الصالح بلفظ: "عسى" أيضًا، ولم يدل ذلك على أنه غيرُ مقطوع به، كما في قوله:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18].
وأما قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فإنَّ التائب ممن شاء أن يغفرَ له، كما أخبر بذلك في مواضع كثيرة من كتابه.
وقد يُراد بالحسنة في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أتبع السَّيئة الحسنة" ما هو أعمُّ من التوبة، كما في قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقد رُوي من حديث معاذ أن الرجل الذي نزلت بسببه هذه الآية أمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضَّأ ويُصلِّي
(3)
.
(1)
رواه البخاري (4141) و (4750) ومسلم (2770) وأحمد 6/ 196.
(2)
رواه ابن جرير (1655) وعلي بن أبي طلحة روايته عن ابن عباس مرسلة، فإنه لم يره.
(3)
رواه أحمد 5/ 244 والترمذي (3113) والطبري (18678) و (18682) من طريقين عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، ومعاذ بن جبل مات في خلافة عمر، وقتل عمر وعبد الرحمن بن أبي ليلى غلام صغير ابن ست سنين وقد روى عن عمر.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابنُ ماجه من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ رَجُلٍ يُذنِبُ ذنبًا ثم يقومُ فيتطهَّر ثم يُصلِّي، ثم يستغفر الله إلَّا غَفَرَ الله له" ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]
(1)
.
وفي "الصحيحين"
(2)
عن عثمانَ أنه توضأ، ثم قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: "مَنْ توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّثُ فيهما نفسَه، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه".
وفي "مسند الإمام أحمد"
(3)
عن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ ثم قام فصلَّى ركعتين أو أربعًا يُحسِنُ فيهما الركوعَ والخشوعَ، ثم استغفرَ الله غُفِرَ له".
وفي "الصحيحين"
(4)
عن أنس قال: كُنتُ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل،
(1)
رواه أحمد 1/ 2 و 10، وابن أبي شيبة 2/ 387، وأبو داود (1520) والترمذي (3006) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(414) و (417)، وابن ماجه (1395)، وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر (9) و (10) وصححه ابن حبان (623).
(2)
البخاري (159) و (164) ومسلم (227)، وقوله:"يحدث فيهما نفسه" قال الحافظ ابن حجر: المراد به ما تسترسل النفس معه، ويمكن المرء قطعه، لأن قوله:"يحدث" يقتضي تكسبًا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس، ويتعذر دفعه، فذلك معفو عنه.
(3)
6/ 443 و 450، ورواه الطبراني "كتاب الدعاء"(1848) وهو حديث حسن.
(4)
البخاري (6823) ومسلم (2764) وقوله: "أصبت حدًا" قال النووي: هذا الحد معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعزير وهى هنا من الصغائر، لأنها كفرتها الصلاة ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لم تسقط بالصلاة.
فقال: يا رسولَ الله إني أصبتُ حدًا، فأقمه عليَّ، قال: ولم يسأله عنه، فحضرتِ الصلاةُ فصلى مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصلاةَ قام إليه الرجلُ فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًا، فأقم فيَّ كتاب الله، قال:"أليس قد صلَّيت معنا؟ " قال: نعم، قال:"فإنَّ الله قد غَفرَ لك ذنبك - أو قال: - حدَّك" وخرّجه مسلم
(1)
بمعناه من حديث أبي أمامة، وخرجه ابنُ جرير الطبري
(2)
من وجه آخر عن أبي أُمامة، وفي حديثه قال:"فإنَّك مِنْ خطيئتك كما ولدتك أمُّك فلا تَعُدْ"، وأنزل الله:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
وفي "الصحيحين"
(3)
عن أبي هُريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أرأيتُم لو أن نهرًا ببابِ أحدكم يَغْتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ هل يبقى من درنه شيء؟ " قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال:"فذلك مَثَلُ الصَّلواتِ الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا".
وفي "صحيح مسلم"
(4)
عن عثمان، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من تَوضَّأ فأحسنَ الوضوءَ، خرجت خطاياه من جسده حتى تَخرجَ من تحت أظفاره".
وفيه
(5)
عن أبي هُريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدَّرجات؟ "قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال:"إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصَّلاةِ، فذلكُم الرباطُ، فذلكُمُ الرباط".
(1)
رقم (2765).
(2)
(18681) وإسناده ضعيف.
(3)
البخاري (528) ومسلم (667).
(4)
برقم (245).
(5)
برقم (251).
وفي "الصحيحين"
(1)
عن أبي هُريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ صَامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومَنْ قَام لَيلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه".
وفيهما
(2)
عن أبي هُريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَجَّ هذا البيتَ، فلم يَرفُثْ، ولَمْ يَفسُقْ، خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أُمُّه".
وفي "صحيح مسلم"
(3)
عن عمرو بن العاص، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الإسلام يَهدِمُ ما كان قبله، وإن الهِجرةَ تَهدِمُ ما كان قبلها، وإنَّ الحجَّ يَهدِمُ ما كانَ قبله".
وفيه
(4)
من حديث أبي قتادة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال في صوم عاشوراء:"أحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّر السنة التي قبله"، وقال في صوم يوم عرفة:"أحتسِبُ على اللهِ أن يُكفِّر السنة التي قبله والتي بعده".
وخرَّج الإمامُ أحمد
(5)
من حديث عُقبة بن عامر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَثَلُ الذي يعمل السيئاتِ، ثم يعمل الحسناتِ، كمثل رجلٍ كانت عليه درع ضيقة قد خنقته، ثم عَمِلَ حسنة فانفكت حلقة، ثم عَمِلَ حسنة أخرى، فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض".
ومما يُكفِّرُ الخطايا ذكرُ الله عز وجل، وقد ذكرنا فيما تقدَّم أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ
(1)
البخاري (1901) و (2008) و (2014) ومسلم (759).
(2)
البخاري (1819) و (1820) ومسلم (1350).
(3)
رقم (121).
(4)
رقم (1162).
(5)
4/ 145، وسنده حسن، فإن راويه عن ابن لهيعة عبد الله بن المبارك.
عن قول: "لا إله إلَّا الله" أمِنَ الحسنات هي؟ قال: "هي أحسن الحسنات"
(1)
.
وفي "الصحيحين"
(2)
عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من قال: سبحان اللهِ وبحمده في يومه مئة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مِثلَ زَبَدِ البَحرِ".
وفيهما
(3)
عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قالَ: لا إله إلَّا الله وحدَه لا شَريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ يُحيي ويُميت وهو على كل شي قدير في يوم مئة مرة، كانت له عِدْلَ عشرِ رقابٍ، وكتبت له مئةُ حسنةٍ، ومُحِيت عنه مئةُ سيئة، وكانت له حِرزًا من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضَلَ مما جاء به إلا أحدٌ عمل أفضلَ مِنْ ذلك".
وفي "المسند" وكتاب ابن ماجه عن أمِّ هانئ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا إله إلا الله لا تترك ذنبًا، ولا يسبقُها عمل"
(4)
.
وخرَّج الترمذيُّ
(5)
عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ بشجرةٍ يابسة الورق، فضربها بعصاه، فتناثر الوَرَقُ، فقال:"إنَّ الحمدَ للهِ، وسبحان الله، ولا إله إلَّا الله، والله أكبر لتساقط من ذنوبِ العبد كما يتساقط ورقُ هذه الشجرة".
وخرجه الإمام أحمد
(6)
بإسَنادٍ صحيح عن أنسٍ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ
(1)
تقدم.
(2)
البخاري (6405)، ومسلم (2692).
(3)
البخاري (3293) و (6403)، ومسلم (2191).
(4)
رواه أحمد 6/ 425، وفي سنده أبو معشر المدني وهو ضعيف، وصالح مولى وجزة وهو مجهول، ورواه ابن ماجه (3797) وفي سنده زكريا بن منظور وهو ضعيف.
(5)
برقم (3533) عن محمد بن حميد، عن الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن أنس، وقال: هذا حديث غريب، ولا نعرف للأعمش سماعًا من أنس.
(6)
في "مسنده" 3/ 152.
سبحانَ اللهِ، والحمد للّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر تَنفُضُ الخطايا كما تنفُضُ الشَّجرةُ ورقَها".
والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا يطولُ الكتاب بذكرها.
وسئل الحسن عن رجل لا يتحاشى من معصية إلا أن لسانه لا يفتر من ذكر الله، فقال: إن ذلك لَعَوْن حَسَنٌ.
وسُئِلَ الإِمام أحمد عن رجلٍ اكتسب مالًا من شبهةٍ: صلاتُه وتسبيحُهُ يَحُطُّ عنه شيئًا من ذلك؟ فقال: إن صلَّى وسبَّح يريد به ذلك، فأرجو، قال الله تعالى:{خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102].
وقال مالكُ بنُ دينارٍ: البكاءُ على الخطيئة يحطُّ الخطايا كما تحطُّ الريحُ الورقَ اليابسَ.
وقال عطاء: من جلس مجلسًا من مجالس الذِّكر، كَفَّر به عشرة مجالس من مجالس الباطل
(1)
.
وقال شويس العدوي
(2)
- وكان من قدماء التابعين -: إن صاحبَ اليمين أمير - أو قال: أمين - على صاحب الشمال، فإذا عَمِلَ ابنُ آدم سيئة، فأراد صاحبُ الشمال أن يكتبها، قال له صاحبُ اليمين: لا تَعْجَلْ لعلَّه يعمل حسنة، فإن
(1)
وتمامه كما في "الحلية" 3/ 313 قال أبو هزان راويه عن عطاء: ما مجلس الذكر؟ قال: مجلس الحلال والحرام، وكيف تصلي، وكيف تصوم، وكيف تنكح، وكيف تطلق، وتبيع وتشتري.
(2)
هو شويس بن جياش العدوي أبو الرقاد البصري روى عن عتبة بن غزوان وعمر بن الخطاب، روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات" وروى له الترمذي في "الشمائل" حديثًا واحدًا، وكلامه هذا أورده أبو نعيم في "الحلية" 2/ 255.
عَمِلَ حسنةً، ألقى واحدةً بواحدة، وكتب له تسع حسنات، فيقول الشيطانُ: يا وَيلَه من يدرك تضعيف ابن آدم.
وخرَّج الطبراني
(1)
بإسنادٍ فيه نظر عن أبي مالك الأشعري عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نام ابنُ آدمَ، قال الملك للشيطان: أعطني صحيفَتك، فيعطيه إيَّاها، فما وجد في صحيفته من حسنةٍ، محى بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان، وكتبهن حسناتٍ، فإذا أراد أن ينامَ أحدُكم، فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة ويحمد الله أربعًا وثلاثين تحميدة، وسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، فتلك مئة" وهذا غريبٌ منكر.
وروى وكيع: حدَّثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: قال عبدُ الله، يعني ابنَ مسعود: وددتُ أني صُولحت على أن أعمل كُلَّ يوم تسع خطيئات وحسنة. وهذا إشارة منه إلى أن الحسنة يُمحى بها التسع خطيئات، ويَفضُلُ له ضعفٌ واحدٌ من ثواب الحسنة، فيكتفي به، والله أعلم.
وقد اختلف الناسُ في مسألتين: إحداهما: هل تُكفِّرُ الأعمالُ الصالحةُ الكبائرَ والصغائرَ أم لا تكفر سوى الصغائر؟ فمنهم من قال: لا تُكفر سوى الصغائر، وقد رُوي هذا عن عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يُكفر الصغائر، وقال سلمان الفارسي في الوضوء: إنه يكفر الجراحات الصِّغار، والمشي إلى المساجد يُكفر أكبرَ من ذلك، والصلاة تكفر أكبرَ من ذلك. خرجه محمد بن نصر المروزي
(2)
.
وأما الكبائر، فلا بدَّ لها من التوبة، لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من
(1)
رقم (3451) وفي سنده محمد بن إسماعيل بن عياش حدث عن أبيه بغير سماع، وأبوه قد اختُلِطَ.
(2)
في كتاب الصلاة رقم (99).
لم يتب ظالمًا، واتفقت الأمةُ على أن التوبة فرض، والفرائضُ لا تُؤدى إلا بنيةٍ وقصدٍ، ولو كانت الكبائرُ تقع مكفرةً بالوضوء والصلاة، وأداء بقية أركان الإسلام، لم يُحْتَجْ إلى التوبة، وهذا باطلٌ بالإجماع.
وأيضًا فلو كُفِّرَت الكبائرُ بفعل الفرائض، لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قولَ المرجئة وهو باطل، هذا ما ذكره ابن عبد البرّ في كتابه "التمهيد" وحكى إجماع المسلمين على ذلك، واستدلَّ عليه بأحاديث:
منها قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "الصَّلواتُ الخمسُ، والجمعَةُ إلى الجُمُعَةِ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفراتٌ لما بَينَهُنَّ ما اجتُنِبت الكبائرُ" وهو مخرَّج في "الصحيحين"
(1)
، من حديث أبي هريرة، وهذا يدلُّ على أن الكبائرَ لا تكفرها هذه الفرائضُ.
وقد حكى ابنُ عطية في تفسيره في معنى هذا الحديث قولين: أحدُهما - وحكاه عن جمهور أهل السنة -: أن اجتنابَ الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر، فإن لم تُجتنب، لم تُكفر هذه الفرائض شيئًا بالكلية.
والثاني: أنها تُكفر الصغائر مطلقًا، ولا تُكفر الكبائر وإن وجدت، لكن بشرط التوبة من الصغائر، وعدمِ الإصرار عليها، ورجَّح هذا القول، وحكاه عن الحذاق.
وقوله: بشرط التوبة من الصغائر، وعدم الإصرار عليها، مرادُه أنه إذا أصرَّ عليها، صارت كبيرةً، فلم تكفرها الأعمالُ. والقولُ الأوَّل الذي حكاه غريب، مع أنه قد حُكِيَ عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا مثلُه.
(1)
هو من أفراد مسلم (233) ولم يخرجه البخاري، وصححه ابن حبان (1733) و (2418).
وفي "صحيح مسلم"
(1)
عن عثمان، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِن امرئٍ مسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبة، فيُحسِنُ وضوءَها وخُشوعَها ورُكوعها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم يؤتِ كبيرةً، وذلك الدهر كُلَّه".
وفي "مسند" الإِمام أحمد
(2)
عن سلمان، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يتطهَّرُ الرجلُ - يعني يوم الجمعة - فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة فَيُنْصِتَ حتى يقضي الإمامُ صلاته، إلا كان كفَّارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة".
وخرَّج النسائي، وابنُ حبان، والحاكمُ من حديث أبي سعيدٍ وأبي هُريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"والَّذي نفسي بيده ما مِنْ عبدٍ يُصلِّي الصلواتِ الخمس، ويصومُ رمضان، ويُخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبعَ، إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنة، ثم قيل له: ادخل بسلام"
(3)
. وخرج الإمامُ أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم معناه أيضًا
(4)
. وخرج الحاكم
(5)
معناه من حديث عبيد بن عمير، عن أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ويُروى من حديث ابن عمر مرفوعًا: "يقولُ الله عز وجل: ابنَ آدمَ اذكُرني من أوَّلِ النهار ساعةً ومن آخرِ النهار ساعةً، أَغفِر لكَ ما بَينَ ذلك، إلا الكبائر، أو تتوب منها"
(6)
.
(1)
برقم (228).
(2)
"المسند" 5/ 439، ورجاله ثقات.
(3)
رواه النسائي 8/ 5 والحاكم 1/ 200 و 2/ 240، وصححه ابن حبان (1748).
(4)
رواه النسائي 7/ 88، وأحمد 5/ 413 وإسناده حسن.
(5)
في "المستدرك" 1/ 59 و 4/ 259، وفي سنده عبد الحميد بن سنان لم يوثقه غير ابن حبان، ونقل العقيلي عن البخاري قوله: في حديثه نظر.
(6)
ضعيف، ورواه أبو نعيم في "الحلية" 8/ 213 عن الحسن، عن أبي هريرة عن رسول =
وقال ابن مسعود: الصلواتُ الخمس كفَّاراتٌ لما بينهن ما اجتنبت الكبائر
(1)
.
وقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس، فإنهن كفارات لهذه الجراح ما لم تُصب المقتلة
(2)
.
قال ابنُ عمر لرجل: أتخاف النارَ أن تدخلها، وتحبُّ الجنَّةَ أن تدخلها؟ قال: نعم، قال: برَّ أمَّك، فواللهِ لَئِنْ ألنتَ لها الكلام وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات. وقال قتادة: إنما وعد الله المغفرةَ لمن اجتنب الكبائر، وذكر لنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"اجتنبوا الكبائرَ وسدِّدوا وأبشروا"
(3)
.
وذهب قومٌ من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ، ومنهم ابن حزم الظاهري، وإيَّاه عنى ابنُ عبد البرّ في كتاب "التمهيد" بالردِّ عليه وقال: قد كنتُ أرغبُ بنفسي عن الكلام في هذا الباب، لولا قولُ ذلك القائل، وخشيتُ أن يغترَّ به جاهلٌ، فينهمِكَ في الموبقاتِ، اتِّكالًا على أنَّها تكفرُها الصلواتُ دونَ الندم والاستغفار والتوبة، والله نسألُه العصمة والتوفيقَ.
قلتُ: وقد وقع مثلُ هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه، ووقع مثلُه في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر، قال: يُرجى لمن قامها
= الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكر عن ربه عز وجل: "يا ابن آدم اذكرني بعد الفجر وبعد العصر ساعة أكفك ما بينهما".
وفي سنده ضعيف ومجهول. وعنعنه الحسن.
(1)
انظر "تعظيم قدر الصلاة" للمروزي 1/ 224.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(148) و (4737) ومن طريقه الطبراني (6051).
(3)
رواه أحمد 3/ 394 من حديث جابر، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وأبو الزبير، وهو مدلس، وقد عنعنه.
أن يغفر له جميعُ ذنوبه صغيرها وكبيرها. فإن كان مرادهم أن مَنْ أتى بفرائض الإسلام وهو مُصرٌّ على الكبائر تغفر له الكبائرُ قطعًا، فهذا باطلٌ قطعًا، يُعْلَمُ بالضرورة من الدِّين بطلانه، وقد سبق قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أساءَ في الإسلام أُخِذَ بالأوَّلِ والآخر"
(1)
يعني: بعمله في الجاهلية والإسلام، وهذا أظهرُ من أن يحتاجَ إلى بيانٍ، وإن أرادَ هذا القائلُ أنَّ من ترك الإصرارَ على الكبائرِ، وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندم على ما سلف منه، كُفِّرَت ذنوبه كلُّها بذلك، واستدلَّ بظاهر قوله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]. وقال: السيئات تشملُ الكبائرَ والصغائر، فكما أن الصغائرَ تُكفَّرُ باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نيَّةٍ، فكذلك الكبائرُ، وقد يستدلُّ لذلك بأنَّ الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وبتكفير السَّيِّئات، وهذا مذكورٌ في غير موضع من القرآن، وقد صار هذا من المتَّقين، فإنَّه فعل الفرائضَ، واجتنبَ الكبائرَ، واجتنابُ الكبائر لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ وقصدٍ، فهذا القولُ يمكن أن يُقال في الجملة.
والصَّحيح قول الجمهور: إنَّ الكبائر لا تُكفَّرُ بدون التوبة، لأنَّ التوبة فرضٌ على العباد، وقد قال عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. وقد فسرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود التوبة بالندم، ومنهم من فسَّرها بالعزم على أن لا يعود، وقد روي ذلك مرفوعًا من وجه فيه ضعفٌ، لكن لا يعلم مخالفٌ من الصحابة في هذا، وكذلك التابعون ومَنْ بعدهم، كعمر بن عبد العزيز، والحسن وغيرهما.
وأما النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات للمتقين، كقوله تعالى:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}
(1)
تقدم تخريجه.
[الأنفال: 29]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التغابن: 9]، وقوله:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5]، فإنه لم يُبين في هذه الآيات خصال التقوى، ولا العمل الصالح، ومن جملة ذلك: التوبة النصوح، فمَنْ لم يتب، فهو ظالم، غيرُ متّقٍ.
وقد بين في سورة آل عمران خصالَ التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم الجنة، فذكر منها الاستغفار، وعدم الإصرار، فلم يضمن تكفيرَ السيئات ومغفرة الذنوب إلَّا لمن كان على هذه الصفة، والله أعلم.
ومما يستدل به على أن الكبائر لا تُكَفَّرُ بدونِ التوبة منها، أو العقوبة عليها حديثُ عُبادةَ بن الصامت، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا"، وقرأ عليهم الآية، "فمن وفى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فعُوقِبَ به، فهو كفَّارَةٌ له، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فستره الله عليه، فهو إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له خرجاه في "الصحيحين"، وفي رواية لمسلم: "من أتى منكم حدًا فأقيم عليه فهو كفارته"
(1)
. وهذا يدل على أن الحدود كفارات. قال الشافعي: لم أسمع في هذا الباب أن الحدَّ يكونُ كفارةً لأهله شيئًا أحسنَ مِنْ حديث عُبادةَ بن الصامت.
وقوله: "فعوقب به" يعمُّ العقوبات الشرعية، وهي الحدود المقدَّرةُ أو غير المقدَّرة، كالتعزيرات، ويشمل العقوبات القدرية، كالمصائب والأسقام والآلام، فإنَّه صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يصيبُ المسلمَ نصبٌ ولا وَصَبٌ
(1)
رواه البخاري (18)، ومسلم (1709).
ولا هَمٌّ ولا حزن حتَّى الشَّوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه"
(1)
. ورُوي عن عليٍّ أن الحدَّ كفَّارةٌ لمن أقيم عليه
(2)
، وذكر ابنُ جرير الطبري في هذه المسألة اختلافًا بين الناس، ورجَّحَ أن إقامة الحدِّ بمجرَّده كفارة، ووهَّنَ القول بخلاف ذلك جدًّا.
قلت: وقد رُوِي عن سعيد بن المسيب وصفوانَ بن سليم أن إقامة الحدِّ ليس بكفَّارة، ولا بدَّ معه من التَّوبة، ورجَّحه طائفةٌ من المتأخِّرين، منهم البغويُّ، وأبو عبد الله بن تيمية
(3)
في "تفسيريهما"، وهو قولُ ابن حزم
(1)
رواه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد، البخاري (5641) و (5642) ومسلم (2573) و (2574) والترمذي (966) وأحمد 3/ 302، 335، و 3/ 18 - 19 و 48، وصححه ابن حبان (2905).
(2)
رواه أحمد 1/ 99، و 159 والترمذي (2626) وابن ماجه (2604) عن علي رفعه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أصاب حدًا فعجل عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حدًا فستره الله عليه، وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه".
وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وصححه الحاكم على شرط الشيخين 1/ 7 و 2/ 445 و 4/ 262 ووافقه الذهبي.
وفي الباب عن أبي تميمة الهجيمي بلفظ: "إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرًا عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا، وربنا تبارك وتعالى أكرم من أن يعاقب على ذنب مرتين" قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 265 - 266: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه هشام بن لاحق ترك أحمد حديثه، وضعفه ابن حبان، وقال الذهبي: قواه النسائي.
وعن خزيمة بن ثابت عند أحمد 5/ 214 - 215 ولفظه: "من أصاب ذنبًا أقيم عليه حد ذلك الذنب، فهو كفارته وسنده حسن كما قال الحافظ في "الفتح".
(3)
هو الشيخ الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن تيمية الحراني، وكتابه في التفسير غير مطبوع، يقع في عدة مجلدات، توفي سنة 622 انظر ترجمته في "السير" 22/ 288 - 290.
الظاهري، والأوّل قولُ مجاهد وزيد بن أسلم والثوري وأحمد.
وأما حديث أبي هريرة المرفوع: "لا أدري: الحدودُ طهارة لأهلها أم لا؟ " فقد خرجه الحاكم وغيره
(1)
، وأعله البخاري، وقال
(2)
: لا يثبت، وإنما هو من مراسيل الزهريِّ، وهي ضعيفةٌ، وغلط عبد الرزاق فوصله، قال: وقد صحّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن الحدود كفارة.
ومما يستدلّ به من قال: الحدّ ليس بكفارة قولُه تعالى في المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 33 - 34] وظاهره أنه تجتمع لهم عقوبة الدنيا والآخرة. ويُجابُ عنه بأنه ذكر عقوبتهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة، ولا يلزم اجتماعهما، وأما استثناء "من تاب" فإنما استثناه من عقوبة الدنيا خاصة، فإن عقوبة الآخرة تسقط بالتوبةِ قبل القُدرة وبعدها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن أصابَ شيئًا مِنْ ذلك، فستره الله عليه، فهو إلى الله إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له" صريحٌ في أن هذه الكبائر من لقي الله بها، كانت تحتَ مشيئتِهِ، وهذا يدلى على أن إقامةَ الفرائضِ لا تكفِّرُها ولا تمحوها، فإنَّ عموم المسلمين يُحافظون على الفرائض، لا سيما مَنْ بايعهُم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وخرج مِنْ ذلك مَنْ لقي الله وقد تاب منها بالنصوص الدَّالَّةِ من الكتاب والسنة على أن
(1)
رواه الحاكم 1/ 36 و 2/ 14 و 450، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وكذا صححه الحافظ في "الفتح" 1/ 66 على شرط الشيخين، وانظر تعليق الحافظ عليه فيه.
ورواه البيهقي 8/ 329، والبزار (1542) و (1543) بإسناد صحيح.
(2)
في "التاريخ الكبير" 1/ 153.
من تابَ إلى الله، تاب الله عليه، وغفر له، فبقي مَنْ لم يتُبْ داخلًا تحت المشيئة.
وأيضًا، فيدلُّ على أن الكبائرَ لا تكفِّرُها الأعمالُ: أنَّ الله لم يجعلْ للكبائر في الدُّنيا كفَارة واجبةً، وإنما جعلَ الكفارةَ للصغائر ككفَّارةِ وطءِ المُظاهِرِ، ووطءِ المرأة في الحيض على حديث ابن عباس
(1)
الذي ذهب إليه الإمامُ أحمد وغيرُه، وكفارة من ترك شيئًا من واجبات الحج، أوِ ارتكب بعضَ محظوراته، وهي أربعةُ أجناس: هديٌ، وعِتقٌ، وصدقةٌ، وصيامٌ، ولهذا لا تجب الكفارة في قتل العمدِ عندَ جمهور العلماءِ، ولا في اليمين الغموس
(2)
أيضًا عند أكثرهم، وإنَّما يؤمرُ القاتلُ بعتق رقبة استحبابًا، كما في حديث واثلة بن الأسقع أنَّهم جاؤوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صاحبٍ لهم قد أوجب، فقال:"أعتِقُوا عنه رقبةً يعتقه الله بها مِن النار"
(3)
. ومعنى أوجب: عَمِلَ عملًا يجب له به النارُ، ويقال: إنه كان قتل قتيلًا. وفي "صحيح مسلم"
(4)
عن ابن عمر أنه ضرب عبدًا له، فأعتقه وقال:
(1)
رواه أبو داود (264) والنسائي 1/ 153، والترمذي (136) و (137) وابن ماجه (640) وأحمد 1/ 230، والدارمي 1/ 254، وابن الجارود في "المنتقى"(108) والدارقطني في "سننه" 3/ 287 عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال:"يتصدق بدينار أو نصف دينار" وإسناده صحيح، وصححه الحاكم 1/ 171 - 172 ووافقه الذهبي، وصححه أيضًا ابن القطان، وابن دقيق العيد، والحافظ في تلخيص الحبير" 1/ 165 - 166، وقد ثبت تفسيره عن ابن عباس عند أبي داود (265) فقال: إذا أصابها في أول الدم فدينار، وإذا أصابها في انقطاع الدم، فنصف دينار.
(2)
اليمين الغموس: هي أن يحلف الرجل وهو يعلم أنه كاذب، ليقتطع بها مال أخيه، وسميت غموسًا، لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار.
(3)
رواه أحمد 3/ 490 - 491 و 4/ 107، وأبو داود (3964)، وصححه ابن حبان (4307).
(4)
برقم (1657).
ليس لي فيه مِنَ الأجرِ مثل هذا - وأخذ عودًا من الأرض - إني سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ لطَمَ مملوكَه، أو ضربه، فإن كفارتَه أن يَعتِقَهُ".
فإن قيل: فالمجامِعُ في رمضان يُؤمَرُ بالكفَّارةِ، والفطرُ في رمضان مِنَ الكبائرِ، قيل: ليست الكفارة للفطر، ولهذا لا تجب عندَ الأكثرين على كلِّ مفطر في رمضان عمدًا، وإنَّما هي لِهَتْكِ حُرمةِ نهار رمضان بالجِماع، ولهذا لو كان مفطرًا فطرًا لا يجوزُ له في نهار رمضان، ثمَّ جامع، للزمته الكفارةُ عند الإِمام أحمد لما ذكرنا.
وممَّا يدلُّ على أن تكفيرَ الواجبات مختصٌّ بالصَّغائر ما خرَّجه البخاري عن حُذيفة، قال: بَيْنا نحن جلوسٌ عند عمرَ، إذ قال: أيكم يحفظُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال: قلتُ: "فتنةُ الرجل في أهله وماله وولده وجارِه يُكَفِّرُها الصلاةُ والصدقةُ والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر" قال: ليس عن هذا أسألُك. وخرجه مسلم بمعناه، وظاهر هذا السياق يقتضي رفعَه، وفي رواية للبخاري أن حذيفة قال: سمعتُه يقول: "فتنة الرجل" فذكره، وهذا كالصريح في رفعه، وفي رواية لمسلم أن هذا من كلام عمر
(1)
.
وأما قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للذي قال له: أصبتُ حدًّا، فأقمه عليَّ، فتركه حتى صلى، ثم قال له:"إن الله غفر لك حَدَّك"
(2)
، فليس صريحًا في أن المراد به شيء مِنَ الكبائر، لأن حدود الله تعالى محارمه كما قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، وقوله:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ
(1)
رواه البخاري (525) و (1435) و (1895) و (3586) و (7096) ومسلم (144) وص 2218، وصححه ابن حبان (5966)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
تقدم تخريجه، وهو صحيح.
جَنَّاتٍ} الآية إلى قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14].
وفي حديث النواس بن سمعان
(1)
، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ضرب مثل الإسلام بالصراط المستقيم الذي على جنبتيه سُوران، قال:"والسورانِ حُدودُ الله". وقد سبق ذكره بتمامه
(2)
.
فكلُّ من أصاب شيئًا من محارم الله، فقد أصابَ حدودَه، وركبها، وتعدَّاها. وعلى تقديرِ أن يكونَ الحدُّ الذي أصابه كبيرةً، فهذا الرجل جاء نادمًا تائبًا، وأسلم نفسه إلى إقامةِ الحدِّ عليه، والندمُ توبة، والتوبةُ تكفرُ الكبائرَ بغير تردد، وقد رُوي ما يُستدلُّ به على أن الكبائر تكفَّرُ ببعض الأعمال الصالحة، فخرَّجَ الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديث ابن عمر أن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا، فهل لي من توبة؟ قال:"هل لك مِنْ أمٍّ؟ " قال: لا، قال:"فهل لك من خالةٍ؟ " قال: نعم، قال:"فبِرَّها"
(3)
، وخرجه ابن حبان في "صحيحه" والحاكم، وقال: على شرط الشيخين، لكن خرَّجه الترمذي من وجهٍ آخر مرسلًا، وذكر أن المرسلَ أصحُّ من الموصول، وكذا قال عليُ بنُ المديني والدارقطني.
وروي عن عمرَ أن رجلًا قال له: قتلتُ نفسًا، قال: أمُّك حية؟ قال: لا، قال: فأبوك؟ قال: نعم، قال: فبِرَّه وأحسن إليه، ثم قال عمر: لو كانت أمُّه حيَّةً فبرَّها، وأحسن إليها، رجوتُ أن لا تطعَمه النارُ أبدًا. وعن ابن عباس معناه أيضًا
(4)
.
(1)
في الأصول كلها "العرباض بن سارية" وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله.
(2)
حديث حسن وقد تقدم تخريجه.
(3)
رواه أحمد 3/ 12 - 14، والترمذي (1905) وابن حبان (435) والحاكم 4/ 155.
(4)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(4) وإسناده صحيح على شرط الشيخين ولفظه: عن =
وكذلك المرأة التي عَمِلَت بالسحر بدُومَة الجندلِ، وقدمت المدينةَ تسألُ عن توبتها، فوجدت النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد توفي، فقال لها أصحابُه: لو كان أبواك حَيَّيْنِ أو أحدهما كانا يكفيانك. خرَّجه الحاكم
(1)
وقال: فيه إجماعُ الصحابة حِدْثَان وفاةِ الرسول صلى الله عليه وسلم على أن برَّ الأبوين يكفيانها. وقال مكحول والإمام أحمد: برُّ الوالدين كفارةٌ للكبائر. وروي عن بعض السلف في حمل الجنائز أنه يَحطُّ الكبائر، وروي مرفوعًا من وجوهٍ لا تَصِحُّ
(2)
.
وقد صحَّ من رواية أبي بُردة أن أبا موسى لما حضرته الوفاةُ قال: يا بَنِيَّ، اذكروا صاحبَ الرَّغيف: كان رجلٌ يتعبَّدُ في صومعةٍ أُراه سبعينَ سنة، فشبَّه الشيطانُ في عينه امرأةً، فكان معها سبعةَ أيامٍ وسبعَ ليال، ثم كُشِفَ عن الرجل غطاؤه، فخرج تائبًا، ثمَّ ذكر أنه باتَ بين مساكين، فتُصُدِّقَ عليهم برغيف
= ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: "إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا، قال: تب إلى الله عز وجل وتقرب إليه ما استطعت، فذهبت فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من برِّ الوالدة".
(1)
في "المستدرك" 4/ 155 - 156 وصححه ووافقه الذهبي، وأورده ابن كثير في "تفسيره" 1/ 204 من طريق ابن أبي حاتم، وجوَّد إسناده.
(2)
روى الطبراني في "الأوسط" وابن عدي في "الكامل" 5/ 1846، وابن حبان في "المجروحين" 2/ 104 من طريق علي بن أبي سارة، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حمل قوائم السرير الأربع إيمانًا واحتسابًا حط الله عنه أربعين كبيرة".
وقال ابن حبان: علي بن أبي سارة يروي عن ثابت البناني ما لا يُشبه حديث ثابت حتى غلب على روايته المناكير التي يرويها عن المشاهير، فاستحق الترك.
وأورده الهيثمي في "المجمع" 3/ 26 من رواية الطبراني وقال: فيه علي بن أبي سارة وهو ضعيف.
رغيف، فأعطوه رغيفًا، ففقده صاحبُه الذي كان يُعطاه، فلمَّا علم بذلك، أعطاه الرغيفَ وأصبح ميتًا، فوُزِنَتِ السَّبعونَ سنة بالسَّبع ليال، فرجحت الليالي، ووُزِنَ الرَّغيفُ بالسَّبع اللَّيال، فرجح الرغيف
(1)
.
وروى ابنُ المبارك بإسناده في كتاب "البر والصلة" عن ابن مسعود، قال: عبدَ الله رجلٌ سبعين سنةً ثم أصاب فاحشةً، فأحبطَ الله عملَه، ثم أصابته زَمَانةٌ وأُقْعِدَ، فرأى رجلًا يتصدَّقُ على مساكين، فجاء إليه، فأخذ منه رغيفًا، فتصدَّقَ به على مسكينٍ، فغفرَ الله له، وردَّ عليه عملَ سبعين سنة.
وهذه كلها لا دِلالةَ فيها على تكفير الكبائر بمجرد العمل، لأن كل من ذكر فيها كان نادمًا تائبًا من ذنبه، وإنما كان سؤاله عن عمل صالح يتقرَّب به إلى الله بعد التوبة حتى يمحوَ به أَثَرَ الذنب بالكلية، فإن الله شرط في قبول التوبة ومغفرةِ الذنوب بها العملَ الصالح، كقوله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60]، وقوله:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: 82]، وقوله:{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، وفي هذا متعلَّقٌ لمن يقول: إن التائب بعد التوبة في المشيئة، وكان هذا حال كثير من الخائفين مِنَ السَّلف. وقال بعضهم لرجلٍ: هل أذنبت ذنبًا؟ قال: نعم، قال: فعلمتَ أن الله كتبه عليك؟ قال: نعم، قال: فاعمل حتى تعلمَ أن الله قد محاه. ومنه قولُ ابن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبَه كذُبابٍ طار على أنفه، فقال به هكذا. خرَّجه البخاري
(2)
.
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 263.
(2)
برقم (6308). ورواه أحمد 1/ 383، والترمذي (2497) وابن المبارك في "الزهد"(68) و (69).
وكانوا يتَّهمُون أعمالهم وتوباتِهم، ويخافون أن لا يكونَ قد قُبِلَ منهم ذلك، فكان ذلك يُوجبُ لهم شدَّةَ الخوف، وكثرةَ الاجتهاد في الأعمال الصالحة. قال الحسن: أدركَتُ أقوامًا لو أنفق أحدهم ملءَ الأرض ما أَمنَ لِعظم الذنب في نفسه. وقال ابنُ عون: لا تَثِقْ بكثرة العمل، فإنك لا تدري أيُقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك، فإنك لا تدري كُفِّرَتْ عنك أم لا، إن عملك مُغَيَّبٌ عنك كله.
والأظهر - والله أعلم - في هذه المسألة - أعني مسألة تكفير الكبائر بالأعمالِ - أنه إن أُريدَ أن الكبائر تُمحى بمجرَّد الإتيان بالفرائضِ، وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تُكفَّرُ الصغائر باجتناب الكبائر، فهذا باطل. وإن أريد أنه قد يُوازن يومَ القيامة بين الكبائرِ وبينَ بعض الأعمال، فتُمحَى الكبيرة بما يُقابلها من العمل، ويَسقُطُ العمل، فلا يبقى له ثوابٌ، فهذا قد يقع.
وقد تقدَّم عن ابن عمرَ أنه لمَّا أعتق مملوكَه الذي ضربه، قال: ليس لي فيه مِنَ الأجرِ شيءٌ، حيث كان كفارةً لذنبه، ولم يكن ذنبُه مِنَ الكبائر، فكيف بما كان من الأعمال مكفرًا للكبائر؟
وسبق أيضًا قولُ مَنْ قالَ مِنَ السلف: إنَّ السيئة تمحى، ويسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل، فإذا كان هذا في الصغائر، فكيف بالكبائر؟ فإن بعضَ الكبائر قد يُحبِطُ بعضَ الأعمال المنافية لها، كما يُبطل المنُّ والأذى الصدقةَ، وتُبطلُ المعَاملة بالرِّبا الجهادَ كما قالت عائشة
(1)
. وقال
(1)
روى الدارقطني في "سننه" 3/ 52 والبيهقي 5/ 330 من طريق معمر بن راشد، عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية أنها دخلت على عائشة، فدخلت معها ولد أم زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين إني بعت غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمئة درهم نسيئة، وإني ابتعته بستمئة درهم نقدتها، فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت وبئسما شريت إن جهادَه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب.
قال الدارقطني: العالية مجهولة، ورده ابن التركماني بقوله: العالية معروفة روى =
حذيفةُ: قذفُ المحصنة يَهْدِمُ عملَ مئة سنة، وروي عنه مرفوعًا خرَّجه البزار
(1)
، وكما يبطل ترك صلاة العصر العمل، فلا يستنكر أن يبطل ثواب العمل الذي يكفر الكبائر.
وقد خرَّج البزار في "مسنده" والحاكم من حديث ابن عباس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يُؤتَى بحسناتِ العبد وسيِّئاتِه يَوْمَ القيامة، فَيُقص أو يُقضى بعضُها من بعض، فإن بقيت له حسنةٌ، وُسِّعَ له بها في الجنة"
(2)
.
وخرج ابنُ أبي حاتم من حديث ابن لَهيعة، قال: حدَّثني عطاءُ بنُ دينار، عن سعيد بن جُبير في قولِ الله عز وجل:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، قال: كان المسلمون يرون أنهُم لا يُؤجرون على الشيءِ القليلِ إذا أعطوه، فيجيءُ المسكينُ، فيستقلُّون أن يُعطوه تمرةً وكِسرة وجَوزةً ونحو ذلك، فيردُّونه، ويقولون: ما هذا بشيء، إنما نُؤجر على ما نُعطي ونحن نحبُّه، وكان آخرون يرون أنَّهم لا يُلامون على الذنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون: إنما وعد الله النارَ على الكبائر، فرغَّبهم الله في القليل من الخير أن يعملوه، فإنَّه يُوشِكُ أن يَكثُرَ، وحذَّرهم اليسيرَ من الشرِّ، فإنَّه يُوشِكُ أن يَكْثُر، فنزلت:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، يعني وزن أصغر النمل {خَيْرًا يَرَهُ} يعني في كتابه، ويَسُرُّهُ ذلك قال: يُكتب لكلِّ برٍّ وفاجر بكل سيئةٍ سيئة واحدة، وبكلِّ حسنة عشر حسنات، فإذا كان يومُ القيامة، ضاعف الله حسناتِ
= عنها زوجها وابنها وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك، وابن حنبل، والحسن بن صالح.
(1)
برقم (105) ورواه الطبراني في "الكبير"(3023)، وفيه ليث بن أبي سليم رهو ضعيف.
(2)
رواه البزار (3456) والحاكم 4/ 252، ورواه البخاري في "تاريخه" 7/ 113 وفي سنده الغطريف بن عبيد الله أبو هارون العماني لم يوثقه غير ابن حبان.
المؤمن أيضًا بكلِّ واحدةٍ عشرًا، فيمحو عنه بكل حسنةٍ عشرَ سيئات، فمن زادت حسناتُه على سيئاتِه مِثقالَ ذرَّةٍ، دخل الجنة
(1)
.
وظاهرُ هذا أنه تقع المقاصةُ بين الحسناتِ والسيئات، ثم تسقط الحسناتُ المقابلة للسيئات، ويُنظر إلى ما يَفضُلُ منها بعدَ المقاصة، وهذا يُوافق قولَ مَنْ قال بأنَّ من رَجَحَتْ حسناتُه على سيئاته بحسنة واحدةٍ أُثيب بتلك الحسنة خاصة، وسَقَطَ باقي حسناته في مقابلة سيئاته، خلافًا لمن قال: يُثاب بالجميع، وتسقُط سيئاتُه كأنَّها لم تكن، وهذا في الكبائر، أما الصغائر، فإنه قد تُمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ألا أدُلُّكُم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفعُ به الدرجات: إسباغُ الوضوء على المكاره، وكثرَةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصَّلاة بعد الصلاة"
(2)
فأثبت لهذه الأعمال تكفيرَ الخطايا ورَفْعَ الدَّرجات، وكذلك قولُه صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ: لا إله إلا الله وحيدَه لا شريكَ له مئة مرَّةٍ، كُتِبَ له مئة حسنةٍ، ومُحيت عنه مئة سيئة، وكانت له عَدْلَ عشر رقاب"
(3)
، فهذا يدلُّ على أن الذكر يمحو السيئات، ويبقى ثوابُه لِعامله مضاعفًا.
وكذلك سيئاتُ التائب توبةً نصوحًا تُكفِّرُ عنه، وتبقى له حسناتُه، كما قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
(1)
رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير عن ابن لهيعة كما في "تفسير ابن كثير" 8/ 484 - 485، وابن لهيعة سيء الحفظ.
(2)
رواه من حديث أبي هريرة مالك 1/ 176، ومسلم (251) وصححه ابن حبان (1038).
(3)
رواه مالك 1/ 209، والبخاري (3293) و (6403)، ومسلم (2691)، وأحمد 2/ 302 و 375، والترمذي (3468)، والنسائي في "اليوم والليلة"(25)، وابن ماجه (3798)، وصححه ابن حبان (849).
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 15 - 16].
وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35]، فلمَّا وصف هؤلاء بالتقوى والإحسان، دلَّ على أنهم ليسوا بمصرِّين على الذُّنوب، بل هم تائبون منها.
وقوله: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} يدخل فيه الكبائر، لأنها أسوأ الأعمال، وقال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5]، فرتَّب على التقوى المتضمنة لفعلِ الواجبات وتركِ المحرَّمات تكفيرَ السيئات وتعظيمَ الأجر، وأخبرَ الله عَنِ المؤمنين المتفكِّرين في خلق السماوات والأرض أنهم قالوا:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار} [آل عمران: 193]، فأخبر أنَّه استجاب لهم ذلك، وأنه كفر عنهم سيئاتهم، وأدخلهم الجنات.
وقوله: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} فخصَّ الله الذنوبَ بالمغفرة، والسيئاتِ بالتكفير. فقد يقال: السيئات تخصُّ الصغائرَ، والذنوبُ يرادُ بها الكبائر، فالسيئاتُ تكفر، لأن الله جعل لها كفاراتٍ في الدنيا شرعية وقدرية، والذنوب تحتاجُ إلى مغفرة تقي صاحبَها مِنْ شرِّها والمغفرة والتكفير متقاربان، فإنَّ المغفرة قد قيل: إنها سَتْرُ الذَّنوب، وقيل: وقاية شرّ الذنب مع ستره، ولهذا يسمَّى ما ستر الرأسَ ووقاه في الحرب مِغْفَرًا، ولا يسمَّى كلُّ ساترٍ للرأس مغفرًا، وقد أخبر الله عَنِ الملائكة أنهم يدعون للمؤمنين التائبين بالمغفرة ووقايةِ السيئات
والتكفير مِنْ هذا الجنس، لأن أصل الكفر السترُ والتغطيةُ أيضًا.
وقد فرَّق بعضُ المتأخرين بينهما بأنَّ التكفير محوُ أثر الذنب، حتَّى كأنه لم يكن، والمغفرة تتضمن - مع ذلك - إفضالَ اللهِ على العبد وإكرامه، وفي هذا نظر.
وقد يفسر بأنَّ مغفرةَ الذنوب بالأعمَال الصالحة تَقلِبُها حسناتٍ، وتكفيرها بالمكفرات تمحوها فقط، وفيه أيضًا نظر، فإنَّه قد صحَّ أن الذنوبَ المعاقَب عليها بدخول النار تُبَدَّلُ حسناتٍ فالمكفرة بعمل صالح يكون كفارةً لها أولى.
ويحتمل معنيين آخرين:
أحدهما: أن المغفرة لا تحصلُ إلا مع عدم العقوبة والمؤاخذة، لأنها وقاية شر الذنب بالكلية، والتكفير قد يقع بعد العقوبة، فإن المصائبَ الدنيوية كلَّها مكفراتٌ للخطايا، وهي عقوبات، وكذلك العفوُ يقع مع العقوبة وبدونها، وكذلك الرَّحمة.
والثاني: أن الكفاراتِ من الأعمال ما جعلها الله لمحو الذنوب المكفرةِ بها، ويكون ذلك هو ثوابَها، ليس لها ثوابٌ غيرُه، والغالبُ عليها أن تكون من جنس مخالفة هوى النفوسِ، وتَجَشُّم المشقة فيه، كاجتنابِ الكبائر الذي جعله الله كفارةً للصغائر.
وأما الأعمال التي تُغفر بها الذنوبُ، فهي ما عدا ذلك، ويجتمع فيها المغفرةُ والثوابُ عليها، كالذكر الذي يُكتب به الحسنات، ويُمحى به السيئات، وعلى هذا الوجه فَيُفرَّقُ بين الكفارات من الأعمال وغيرها، وأما تكفيرُ الذنوب ومغفرتها إذا اضيف ذلك إلى الله، فلا فرق بينهما، وعلى الوجه الأوَّل يكونُ بينهما فرق أيضًا.
ويشهد لهذا الوجه الثاني أمران:
أحدهما: قولُ ابن عمر لمَّا أعتق العبد الذي ضربه: ليس لي في عتقه مِنْ الأجر شيء، واستدلَّ بأنَّه كفارة.
والثاني: أن المصائب الدنيوية كُلَّها مكفراتٌ للذنوب، وقد قال كثير من الصحابة وغيرهم مِنَ السَّلف: إنه لا ثواب فيها مع التكفير، وإن كان بعضهم قد خالف في ذلك، ولا يقال: فقد فسر الكفارات في حديث المنام
(1)
بإسباغ الوضوء في المكروهات، ونقلِ الأقدام إلى الصلوات، وقال: مَنْ فَعل ذلك، عاش بخير، وماتَ بخير، وكان من خطيَئته كيومَ ولدته أمه.
وهذه كلها مع تكفيرها للسيئات ترفعُ الدرجات، ويحصل عليها الثوابُ، لأنا نقول: قد يجتمع في العمل الواحد شيئانِ يُرفعُ بأحدهما الدرجات، ويُكفر بالآخر السيئات، فالوضوء نفسه يُثاب عليه، لكن إسباغَه في شدَّة البردِ من جنس الآلام التي تحصل للنفوس في الدنيا، فيكون كفارةً في هذه الحال، وأما في غير هذه الحالة، فتغفر به الخطايا، كما تغفر بالذكر وغيره، وكذلك المشي إلى الجماعات هو قُربةٌ وطاعةٌ، ويُثاب عليه، ولكن ما يحصل للنفس به مِنَ المشقة والألم بالتعب والنصب هو كفارة، وكذلك حبسُ النفس في المسجد لانتظار الصلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى المواضع التي تميل النفوس إليها، إما لكسب الدنيا أو للتنزُّه، هو مِنْ هذه الجهة مؤلم للنفس، فيكون كفارةً.
وقد جاء في الحديث أن إحدى خطوتي الماشي إلى المسجد ترفعُ له درجةً، والأخرى تحط عنه خطيئة
(2)
. وهذا يُقوِّي ما ذكرناه، وأن ما حصل به
(1)
قطعة من حديث مطول رواه أحمد 5/ 243، والترمذي (3235) من طريق عبد الرحمن بن عائشة، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل، وقال الترمذي: حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عنه، فقال: حديث حسن صحيح.
(2)
قطعة من حديث رواه أحمد 2/ 252، والبخاري (477)، ومسلم (649) ص (459)، وأبو داود (559)، والترمذي (603)، وابن ماجه (281)، وصححه ابن =
التَّكفيرُ غيرُ ما حَصل به رفعُ الدَّرجات، والله أعلم.
وعلى هذا، فيجتمع في العمل الواحد تكفيرُ السيئات، ورفعُ الدرجات من جهتين، ويُوصَفُ في كل حال بكلا الوصفين، فلا تنافيَ بين تسميته كفارةً وبين الإخبار عنه بمضاعفة الثواب به، أو وصفه برفع الدرجات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ مُكَفِّراتٌ لما بينهن ما اجتُنِبت الكبائرُ"
(1)
. فإن في حبس النفس على المواظبة على الفرائضِ من مخالفة هواها وكَفِّهَا عما تميلُ إليه ما يُوجبُ ذلك تكفير الصغائر.
وكذلك الشهادةُ في سبيل الله تكفِّرُ الذنوب بما يحصُل بها من الألم، وترفعُ الدرجات بما اقترن بها من الأعمال الصالحة بالقلب والبدن، فتبيَّن بهذا أن بعضَ الأعمال يجتمع فيها ما يُوجِبُ رفع الدرجات وتكفير السيئات من جهتين، ولا يكونُ بينهما منافاة، وهذا ثابت في الذنوب الصَّغائر بلا ريب، وأمَّا الكبائر، فقد تُكَفَّر بالشَّهادة مع حصولِ الأجر للشَّهيد، لكن الشهيد ذو الخطايا في رابع درجة من درجات الشهداء، كذا رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث فضالة بن عُبيد خرجه الإِمام أحمد والترمذي
(2)
.
وأما مغفرة الذنوب ببعض الأعمال مع توفير أجرها وثوابها، فقد دلَّ عليه الأحاديثُ الصحيحة في الذِّكر، وقد قيل: إنَّ تلك السيئات تُكتب حسنات أيضًا، كما في حديث أبي مالك الأشعري الذي سبق ذكرُه
(3)
، وذكرنا أيضًا عن
= حبان (2043) من حديث أبي هريرة، وانظر تمام تخريجه فيه.
(1)
رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 400، ومسلم (233)، وانظر صحيح ابن حبان (1733).
(2)
رواه أحمد 1/ 23، والترمذي (1644) من حديث فضالة بن عبيد عن عمر، وقد تقدم تخريجه.
(3)
انظر الصفحة 375.
بعض السَّلف أنه يُمحى بإزاء السيئة الواحدة ضعفٌ واحدٌ من أضعاف ثواب الحسنة، وتبقى له تسع حسنات. والظاهر أن هذا مختصٌّ بالصغائر، وأمَّا في الآخرة، فيُوازَنُ بين الحسنات والسيئات، ويُقَصُّ بعضُها من بعضٍ، فمن رجحت حسناتُه على سيئاته، فقد نجا، ودخل الجنة، وسواء في هذا الصغائر والكبائر، وهكذا من كانت له حسنات وعليه مظالم، فاستوفى المظلومون حقوقَهم من حسناته، وبقي له حسنةٌ، دخل بها الجنة. قال ابن مسعود: إن كان وليًا لله ففضل له مثقال ذرَّةٍ، ضاعفها الله له حتَّى يدخل الجنة، وإن كان شقيًا قال الملك: ربِّ فَنِيَتْ حسناتُه، وبقي له طالبون كثير، قال: خُذوا من سيئاتهم، فأضعِفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صكًا إلى النار، خرجه ابن أبي حاتم وغيرُه.
والمرادُ أنّ تفضيلَ مثقالِ ذرَّةٍ مِنَ الحسنات إنما هو بفضل الله عز وجل، لمضاعفته لحسنات المؤمن وبركته فيها، وهكذا حالُ مَنْ كانت له حسناتٌ وسيئاتٌ، وأرادَ الله رحمته، فضل له من حسناته ما يُدخِلُه به الجنةَ، وكُلُّه من فضل الله ورحمته، فإنه لا يدخل أحدٌ الجنَّةَ وإلَّا بفضل الله ورحمته.
وخرَّج أبو نعيم
(1)
بإسنادٍ ضعيفٍ عن عليٍّ مرفوعًا: "أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبياء بني إسرائيل: قُلْ لأهل طاعتي مِنْ أُمتِّك: لا يَتَّكِلوا على أعمالهم، فإنِّي لا أُقاصُّ عبدًا الحساب يومَ القيامةِ أشاءُ أن أُعذِّبه إلَّا عذبتُه، وقل لأهل معصيتي من أمتك: لا يُلقوا بأيديهم، فإني أغفرُ الذَّنب العظيمَ ولا أُبالي"، ومصداقُ هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"مَنْ نُوقِشَ الحِسابَ عُذِّبَ" وفي رواية "هلك"
(2)
والله أعلم.
(1)
في "الحلية" 4/ 195.
(2)
رواه من حديث عائشة أحمد 6/ 47، والبخاري (103)، ومسلم (2876)، وأبو داود (3093)، والترمذي (3337)، وصححه ابن حبان (7369) و (7370).
المسألة الثانية: أن الصغائر هل تجبُ التوبةُ منها كالكبائرِ أم لا؟ لأنها تقع مكفرةً باجتناب الكبائر، لقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]. هذا ممَّا اختلف الناسُ فيه.
فمنهم من أوجب التوبة منها، وهو قولُ أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم.
وقد أمرَ الله بالتوبةِ عَقيبَ ذكر الصغائرِ والكبائرِ، فقال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} إلىَ قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30 - 31].
وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
ومن الناس من لم يُوجب التوبة منها، وحكي في طائفةٍ من المعتزلة ومن المتأخرين من قال: يجبُ أحدُ أمرين، إما التوبة منها، أو الإتيانُ ببعض المكفِّرات للذُّنوب من الحسنات.
وحكى ابنُ عطية في "تفسيره" في تكفير الصَّغائر بامتثالِ الفرائض واجتناب الكبائر قولين:
أحدهما - وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث -: أنَّه يُقطع بتكفيرها بذلك قطعًا، لظاهر الآية والحديث.
والثاني - وحكاه عن الأصوليين -: أنه لا يُقطع بذلك، بل يُحمل على غلبة الظنِّ وقوَّة الرجاء، وهو في مشيئة الله عز وجل، إذ لو قطع بتكفيرها، لكانتِ
الصغائرُ في حكم المباح الذي لا تَبِعَةَ فيه، وذلك نقضٌ لِعُرى الشريعة.
قلت: قد يقال: لا يُقطع بتكفيرها، لأنَّ أحاديث التَّكفير المطلقة بالأعمال جاءت مقيَّدة بتحسين العمل، كما ورد ذلك في الوضوء والصَّلاة، وحينئذ فلا يتحقق وجودُ حسن العملِ الذي يوجب التكفير، وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ابنُ عطيةَ ينبني الاختلافُ في وجوب التوبة من الصغائر.
وقد خرَّج ابنُ جرير من رواية الحسن أن قومًا أتوا عمر، فقالوا: نرى أشياءَ من كتاب الله لا يُعْمَلُ بها، فقال لرجل منهم: أقرأتَ القرآن كُلَّه؟ قال: نعم، قال: فهل أحصيته
(1)
في نفسك؟ قال: اللهمَّ لا، قال: فهل أحصيتَه في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثَرِك؟ ثم تتبَّعهم حتَّى أتى على آخرهم، ثم قال: ثكِلَت عمرَ أمُّه، أتكلفونه أن يُقيمَ على الناس كتاب الله؟ قد علم ربُّنا أنه سيكون لنا سيئات، قال: وتلا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]
(2)
.
وبإسناده
(3)
عن أنس بن مالك أنه قال: لم أرَ مثلَ الذي بلغنا عن ربِّنا تعالى، ثم لم نَخْرُجْ له عن كل أهلٍ ومالٍ، ثم سكت، ثم قال: والله لقد كلَّفنا
(1)
يقال: أحصى الشيء: إذا أحاط به وحفظه، يعني: هل استوفيتم القيام بكل ما أمر به في ذلك وحفظتموه وضبطتم العمل به؟ ومنه قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20]: أي: لن تطيقوا القيام به.
(2)
الطبري في "جامع البيان"(923)، وأورده من طريقه ابن كثير 2/ 245، وقال: إسناد حسن ومتن حسن، وإن كان من رواية الحسن عن عمر، وفيها انقطاع، إلا أن مثل هذا اشتهر، فتكفي شهرته.
(3)
أي الطبري (9231) وإسناده صحيح، وأورد الهيثمي في "كشف الأستار"(2200) الرواية الموقوفة عن البزار، وفيه الجلد بن أيوب وهو ضعيف، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 145 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد مرفوعًا عند البزار.
ربنا أهونَ من ذلك، لقد تجاوزَ لنا عمَّا دونَ الكبائر، فما لنا ولها، ثم تلا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} . وخرجه البزار في "مسنده" مرفوعًا، والموقوف أصحّ.
وقد وصف الله المحسنينَ باجتناب الكبائر قال تعالى: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32].
وفي تفسير اللمم قولان للسَّلف:
أحدهما: أنَّه مقدمات الفواحش كاللمس والقبلة
(1)
. وعن ابن عباس: هو ما دُونَ الحدِّ من وعيد الآخرة بالنار وحدِّ الدُّنيا
(2)
.
(1)
روى أحمد 2/ 276، والبخاري (6612) ومسلم (2657) عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه".
قلت: ففسر ابن عباس اللمم بما في هذا الحديث من النظر واللمس ونحوها، قال النووي: وهو كما قال، هذا هو الصحيح في تفسير اللمم.
وروى ابن جرير الطبري في "جامع البيان" 27/ 65 عن محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال: زنى العينين النظر، وزنى الشفتين التقبيل، وزنى اليدين البطش وزنى الرجلين المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زانيًا، وإلا فهو اللمم.
قلت: وكذا قال مسروق والشعبي.
وروى ابن جرير 27/ 66 بسند حسن عن أبي هريرة أنه سئل عن قول الله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] قال: القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة، فإذا مس الختان الختان، فقد وجب الغسل وهو الزنى.
(2)
رواه الطبري في "جامع البيان" 27/ 68 من طريق محمد بن جعفر وابن أبي عدي، =
والثاني: أنه الإلمامُ بشيء من الفواحش والكبائر مرَّةً واحدةً، ثم يتوبُ منه، وروي عن ابن عباس
(1)
وأبي هريرة، وروي عنه مرفوعًا بالشَّكِّ في رفعه، قال: اللمة من الزنى ثم يتوب فلا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب فلا يعود، واللمة من السرقة ثم يتوب فلا يعود
(2)
.
ومن فسَّر الآية بهذا قال: لا بدَّ أن يتوبَ منه بخلاف مَنْ فسَّره بالمقدِّمات، فإنه لم يشترط توبة.
والظاهر أن القولين صحيحان، وأنَّ كليهِمَا مرادٌ من الآية، وحينئذ فالمحسن: هو من لا يأتي بكبيرة إلا نادرًا ثم يتوبُ منها، ومن إذا أتى بصغيرةٍ كانت مغمورةً في حسناته المكفرة لها، ولا بدَّ أن لا يكون مُصِرًا عليها، كما قال تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. وروي عن ابن عباس أنَّه قال: لا صَغيرة مع الإصرار، ولا كبيرةَ مع الاستغفار، وروي مرفوعًا من وجوه ضعيفة
(3)
.
= كلاهما عن شعبة عن الحكم وقتادة، عن ابن عباس، ولم يصرح الحكم وقتادة بالتحديث، وهما متهمان بالتدليس.
(1)
رواه الطبري 27/ 66، وصححه الحاكم 2/ 469 على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 656، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن مردويه، وابن المنذر، والبيهقي في "الشعب".
(2)
رواه الطبري 27/ 66 - 67 من طريق الحسن عن أبي هريرة، والحسن مدلس وقد رواه بالعنعنة، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 656 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "الشعب".
(3)
وهو كما قال فقد رواه القضاعي في "مسند الشهاب"(853) والديلمي في "مسند الفردوس"(7944) من طريق أبي شيبة الخراساني، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رفعه، وأبو شيبة الخراساني قال البخاري فيما نقله عنه المناوي: لا يتابع على حديثه، وقال الذهبي في "الميزان" 4/ 537: أتى بخبر منكر، وذكر هذا الحديث. =
وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها، فلا بُدَّ للمحسنين من اجتناب المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش، وقال الله عز وجل:{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 36 - 40].
فهذه الآيات تضمَّنت وصفَ المؤمنين بقيامهم بما أوجب الله عليهم مِنَ الإيمانِ والتوكلِ، وإقام الصَّلاةِ، والإنفاق مما رزقهمُ الله، والاستجابة لله في جميع طاعاته، ومع هذا، فهم مجتنبون كبائرَ الإثم والفواحش، فهذا هو تحقيقُ التقوى، ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عندَ الغضبِ، وندبهم إلى العفو والإصلاح. وأمَّا قوله:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} فليس منافيًا للعفو، فإنَّ الانتصارَ يكون بإظهار القُدرة على الانتقام، ثم يقعُ العفوُ بعد ذلك، فيكون أتمَّ وأكملَ. قال النخعي في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يُستذلُّوا، فإذا قَدَرُوا عَفَوا
(1)
. وقال مجاهد: كانوا يكرهون للمؤمن أن يذلَّ نفسه،
= وقال السخاوي في المقاصد الحسنة" ص 467 رواه أبو الشيخ والديلمي والعسكري في "الأمثال" من حديث ابن عباس مرفوعًا بسند ضعيف، ومثله موقوفًا عند ابن المنذر في "تفسيره" والبيهقي في "الشعب" وله شاهد عند البغوي والديلمي من حديث أنس مرفوعًا. ورواه إسحاق بن بشر أبو حذيفة في "المبتدأ" من حديث عائشة، وإسحاق حديثه منكر، ورواه الطبراني في "مسند الشاميين" من حديث أبي هريرة، وفي إسناده بشر بن عبيد الدارمي، وهو متروك.
(1)
نسبه السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 357 إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
فيجترئ عليه الفُسَّاق
(1)
، فالمؤمن إذا بُغِي عليه، يُظهر القدرة على الانتقام، ثم يعفو بعد ذلك، وقد جرى مثلُ هذا لكثيرٍ من السَّلف، منهم قتادة
(2)
وغيرُه.
فهذه الآياتُ تتضمن جميعَ ما ذكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ، فإنَّها تضمنت أصولَ خصالِ التَّقوى بفعل الواجبات، والانتهاء عن كبائر المحرَّمات ومعاملة الخلق بالإِحسان والعفو، ولازِمُ هذا أنَّهم إن وقع منهم شيءٌ من الإِثم من غير الكبائر والفواحش، يكونُ مغمورًا بخصالِ التَّقوى المقتضية لتكفيرها ومحوها.
وأما الآياتُ التي في سورة آل عمران، فوَصَفَ فيها المتقين بالإِحسان إلى الخلق، وبالاستغفار من الفواحش وظلم النفس، وعدمِ الإِصرار على ذلك، وهذا هو الأكمل، وهو إحداثُ التوبة، والاستغفار عَقِيبَ كلِّ ذنب مِنَ الذُّنوب صغيرًا كان أو كبيرًا، كما رُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصَّى بذلك معاذًا، وقد ذكرناه فيما سبق
(3)
.
وإنَّما بسطنا القولَ في هذا، لأنَّ حاجةَ الخلق إليه شديدة، وكلُّ أحد يحتاجُ إلى معرفة هذا، ثم إلى العمل بمقتضاه، والله الموفقُ والمعينُ.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أتبع السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحها" ظاهرُه أن السيِّئات تُمحى بالحسنات، وقد تقدَّم ذكرُ الآثار التي فيها أن السَّيِّئة تمحى من صحف الملائكة بالحسنة إذا عملت بعدها. قال عطيّة العَوفي: بلغني أنَّه من بكى على خطيئة مُحيت عنه، وكُتِبت له حسنة. وعن عبد الله بن عمرو، قال: من ذكر خطيئةً عمِلَها، فَوَجِلَ قلبُه منها، فاستغفر الله عز وجل لم يحبسها شيءٌ حتَّى يمحوها
(1)
ذكره السيوطي 7/ 358 من قول النخعي، ونسبه لعبد بن حميد.
(2)
انظر "الحلية" 2/ 340.
(3)
انظر ص 345.
عنه الرَّحمن. وقال بِشْرُ بنُ الحارث: بلغني عن الفضيل بن عياض قال: بكاءُ النَّهار يمحو ذنوب العلانية، وبكاءُ اللَّيل يمحو ذنوبَ السِّرِّ. وقد ذكرنا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ "
(1)
الحديث.
وقالت طائفة: لا تُمحى الذُّنوب من صحائف الأعمال بتوبةٍ ولا غيرها، بل لا بدَّ أن يُوقف عليها صاحبُها ويقرأها يوم القيامة، واستدلوا بقوله تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، لأنه إنَّما ذكر فيها حال المجرمين، وهم أهل الجرائم والذنوب العظيمة، فلا يدخل فيهم المؤمنون التائبون من ذنوبهم، أو المغمورة ذنوبهم بحسناتهم. وأظهرُ من هذا الاستدلالُ بقوله:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وقد ذكر بعضُ المفسرين أن هذا القول هو الصحيحُ عند المحققين، وقد روي هذا القولُ عن الحسن البصري، وبلال بن سعد الدمشقي، قال الحسن: في العبدُ يذنب، ثم يتوبُ، ويستغفِرُ: يُغفر له، ولكن لا يُمحاه من كتابه دونَ أن يَقِفَه عليه، ثم يسأله عنه، ثم بكى الحسن بكاءً شديدًا، وقال: لو لم نَبكِ إلَّا للحياء من ذلك المقام، لكان ينبغي لنا أن نبكي.
وقال بلالُ بن سعد: إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتَّى يُوقِفَهُ عليها يومَ القيامة وإن تاب
(2)
.
وقال أبو هريرة: يُدني الله العبدَ يومَ القيامة، فيضع عليه كَنَفَهُ، فيسترُه مِنَ الخلائق كُلِّها، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر، فيقول: اقرأ يا ابنَ آدم كتابَك، فيقرأ، فيمر بالحسنة، فيبيضُّ لها وجهُهُ، ويُسرُّ بها قَلبُه، فيقولُ الله: أتعرِفُ يا
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 226.
(2)
رواه مالك في "الموطأ" 1/ 161 ومسلم (251) من حديث أبي هريرة.
عبدي؟ فيقول: نعم، فيقول: إنِّي قبلتها منك، فيسجد، فيقول: ارفع رأسكَ وعُد في كِتابك، فيمر بالسَّيِّئة، فيسودُّ لها وجهه، ويَوْجَلُ منها قلبُه، وترتعدُ منها فرائصُهُ، ويأخذه من الحياء من ربِّه ما لا يعلمُه غيرُه، فيقول: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول: إنِّي قد غفرتُها لك، فيسجدُ، فلا يرى منه الخلائقُ إلَّا السُّجودَ حتَّى ينادي بعضهم بعضًا: طوبى لهذا العبد الذي لم يَعصِ الله قطُّ، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبينَ ربِّه ممَّا قد وَقفَهُ عليه
(1)
.
وقال أبو عثمان النهدي عن سلمان: يُعطى الرجل صحيفتهُ يوم القيامة، فيقرأ أعلاها، فإذا سيئاته، فإذا كاد يسوء ظنه، نظر في أسفلها، فإذا حسناته، ثم نظر في أعلاها فإذا هي قد بُدِّلت حسنات. ورُوي عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، وعن أبي عثمان من قوله وهو أصح
(2)
.
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن بعض أصحاب معاذ بن جبل قال: يدخل أهلُ الجنة الجنة على أربعة أصناف: المتقين، ثم الشاكرين، ثم الخائفين،
(1)
وروى البخاري (4685)، ومسلم (2768) عن صفوان بن محرز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: "يُدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل، حتَّى يضع عليه كَنَفَهُ، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدُّنيا وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته. وأما الكفار والمنافقون، فيُنادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله".
(2)
رواه الحسين المروزي في زيادات "الزهد" لابن المبارك (1415)، وابن أبي حاتم في ما نقله عنه ابن كثير 8/ 241 من طريق بزيد بن هارون، أخبرنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي قوله .. وهذا سند صحيح، رجاله رجال الشيخين، وأبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن ملّ، ثقة، ثبت، مخضرم، مُعمَّرٌ، أدرك الجاهلية، وأسلم على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، ومات سنة 95 وقيل: بعدها، وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
ثم أصحاب اليمين. قيل: لم سُمُّوا أصحابَ اليمين؟ قال: لأنهم عملوا الحسنات والسيئات، فأعطوا كتبهم بأيمانهم، فقرؤوا سيئاتهم حرفًا حرفًا قالوا: يا ربَّنا هذه سيِّئاتنا فأين حسناتُنا؟ فعندَ ذلك محا الله السيِّئات، وجعلها حسنات، فعند ذلك قالوا:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] فهم أكثرُ أهل الجنة. وأهلُ هذا القول قد يحملون أحاديث محو السيئات بالحسنات على محو عقوباتها دون محو كتابتها من الصحف والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وخالق النَّاسَ بخُلُقٍ حَسن" هذا من خصال التقوى، ولا تَتِمُّ التقوى إلا به، وإنما أفرَده بالذكر للحاجة إلى بيانه، فإنَّ كثيرًا من النَّاسِ يظنُّ أن التقوى هي القيامُ بحقِّ اللهِ دونَ حقوق عباده، فنصَّ له على الأمر بإحسان العشرة للنَّاس، فإنه كان قد بعثه إلى اليمن معلمًا لهم ومفقهًا وقاضيًا، ومَنْ كان كذلك، فإنَّه يحتاج إلى مخالقَةِ النَّاسِ بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيرُه ممن لا حاجةَ للنَّاس به ولا يُخالطهم، وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكُلِّيَّة أو التقصير فيها، والجمعُ بَيْنَ القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جدًّا لا يَقوى عليه إلَّا الكُمَّلُ مِنَ الأنبياءِ والصديقين.
وقال الحارث المحاسبي: ثلاثةُ أشياء عزيزة أو معدومة: حسنُ الوجه مع الصِّيانة، وحُسْنُ الخلق مع الدِّيانة، وحُسنُ الإِخاء مع الأمانة.
وقال بعضُ السلف: جلس داود عليه السلام خاليًا، فقال الله عز وجل: ما لي أراك خاليًا؟ قال: هجرتُ الناسَ فيك يا ربَّ العالمين، قال: يا داود ألا أدُلُّك على ما تستبقي به وجوه الناس، وتبلغ فيه رضاي؟ خالِقِ النَّاسَ بأخلاقهم، واحتجز الإِيمانَ بيني وبينك.
وقد عدَّ الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى، بل
بدأ بذلك في قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].
وروى ابنُ أبي الدُّنيا بإسناده عن سعيدٍ المقبري قال: بلغنا أن رجلًا جاء إلى عيسى ابن مريمَ عليه السلام، فقال: يا معلِّمَ الخير، كيف أكون تقيًا للهِ عز وجل كما ينبغي له؟ قال: بيسيرٍ من الأمر: تُحِبُّ الله بقلبك كُلِّه، وتعمل بكدحك وقوَّتك ما استطعت، وترحمُ ابن جنسك كما ترحم نفسَك، قال: من ابنُ جنسي يا معلِّم الخير؟ قال: ولَدُ آدم كلهم، وما لا تُحب أن يؤتى إليك، فلا تأته لأحدٍ وأنت تقيٌّ للهِ عز وجل كما ينبغي له.
وقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم حسن الخلق أكمل خصالِ الإِيمانِ، كما خرج الإِمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"
(1)
وخرَّجه محمد بن نصر المروزي
(2)
، وزاد فيه:"وإن المرءَ ليَكُونُ مؤمنًا وإنَّ في خُلُقه شيئًا فيَنقُصُ ذلك من إيمانه".
وخرَّج أحمد وأبو داود والنسائي وابنُ ماجه، من حديث أسامة بن شريك قال: قالوا يا رسولَ الله، ما أفضلُ ما أُعطي المرءُ المسلمُ؟ قال:"الخُلق الحَسَنُ"
(3)
.
وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن صاحبَ الخلق الحسن يَبلُغُ بِخلقِه درجةَ الصَّائم القائم
(1)
رواه أحمد 2/ 72 و 250، وأبو داود (4682)، والترمذي (1162)، وصححه ابن حبان (479) و (4176).
(2)
في "تعظيم قدر الصلاة"(454)، وفيه ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ.
(3)
رواه أحمد 4/ 278، والنسائي في "الكبرى" كما في "التحفة" 1/ 62، وابن ماجه (3436) وليس هو في "سنن أبي داود"، وصححه ابن حبان (478) و (486).
لئلا يشتغِلَ المريدُ للتقوى عن حسن الخلق بالصَّوم والصلاة، ويَظُنُّ أن ذلك يقطعه عن فضلهما، فخرج الإِمام أحمد وأبو داود من حديث عائشة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ المؤمن ليُدرِكُ بحُسْنِ خُلُقه درجاتِ الصَّائم القائم"
(1)
.
وأخبر أن حسن الخُلق أثقلُ ما يُوضَعُ في الميزان، وأن صاحبَه أحبُّ الناسِ إلى الله وأقربهم من النبيين مجلسًا، فخرج الإِمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث أبي الدرداء، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما مِنْ شيءٍ يوضَعُ في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإنَّ صاحبَ حسن الخلق ليَبلُغُ به درجةَ صاحب الصَّوم والصلاة"
(2)
.
وخرَّج ابن حبان في "صحيحه"
(3)
من حديث عبدِ الله بن عمرو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أخبركم بأحبِّكُم إلى الله وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامة؟ " قالوا: بلى، قال:"أحسَنُكُم خُلُقًا". وقد سبق حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أكثرُ ما يُدخِلُ الجنَّة تقوى الله وحُسنُ الخلق"
(4)
.
وخرَّج أبو داود من حديث أبي أمامة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقُه"
(5)
، وخرَّجه الترمذي وابنُ ماجه بمعناه من حديث أنس
(6)
.
(1)
رواه أحمد 6/ 94 وأبو داود (4798) وصححه ابن حبان (485)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه أحمد 6/ 442 و 446 و 448، وأبو داود (4799)، والترمذي (2002) و (2003)، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان (481).
(3)
برقم (485)، وإسناده حسن.
(4)
تقدم تخريجه
(5)
رواه أبو داود (4800) وسنده حسن، وله شاهد من حديث معاذ بن جبل عند الطبراني في "الكبير"(217) وفي "الصغير"(805) وآخر من حديث أنس وهو المذكور بعد هذا هنا.
(6)
رواه الترمذي (1993)، وابن ماجه (51)، وفي سنده سلمة بن وردان، وهو ضعيف، =
وقد رُوِيَ عَن السَّلف تفسيرُ حُسنِ الخُلق، فعن الحسن قال: حُسنُ الخلق: الكرمُ والبذلة والاحتمالُ.
وعن الشعبي قال: حسن الخلق: البذلة والعطية والبشرُ الحسن، وكان الشعبي كذلك.
وعن ابن المبارك قال: هو بسطُ الوجه، وبذلُ المعروف، وكفُّ الأذى
(1)
.
وسئل سلامُ بن أبي مطيع عن حسن الخلق، فأنشد:
تراهُ إذا ما جئته متهلِّلًا
…
كأنَّك تُعطيه الذي أنت سائِلُه
ولَوْ لَم يَكُنْ فِي كَفِّه غيرُ رُوحِهِ
…
لَجَادَ بِها فَليَتَّق الله سائِلُه
هُوَ البَحرُ مِنْ أيِّ النَّواحِي أتيتَهُ
…
فَلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُه
(2)
وقال الإِمامُ أحمد: حُسنُ الخلق أن لا تَغضَبَ ولا تحْتدَّ، وعنه أنه قال: حُسنُ الخلق أن تحتملَ ما يكونُ من الناس.
وقال إسحاق بنُ راهويه: هو بسطُ الوجهِ، وأن لا تغضب، ونحو ذلك قال محمد بن نصر.
= وحسنه الترمذي بشاهده المتقدم.
(1)
رواه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(875).
(2)
البيت الأول لزهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح بها حصن بن حُذيفة بن عمرو الفَزاري مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وأقصرَ باطِلُهْ
…
وعُرِّي أفراسُ الصِّبا ورَواحِلُه
انظر الديوان ص 113 بشرح ثعلب، والثاني والثالث لأبي تمام حبيب بن أوس من قصيدة يمدح بها المعتصم بالله مطلعها:
أجَلْ أيها الربعُ الذي خَفَّ آهِلُه
…
لقد أَدْرَكَتْ فيك النَّوى ما تُحاوِلُه
انظر الديوان 3/ 219.
وقال بعضُ أهل العلم: حُسنُ الخلق: كظمُ الغيظِ لله، وإظهار الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر، والعفوُ عن الزَّالين إلا تأديبًا أو إقامة حدٍّ وكفُّ الأذى عن كلّ مسلم أو معاهَدٍ إلا تغييرَ منكر أو أخذًا بمظلمةٍ لمظلومٍ من غير تعدٍّ.
وفي "مسند الإِمام أحمد" من حديث معاذ بن أنس الجُهَني، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أفضلُ الفضائلِ أن تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وتُعطي من حَرمك، وتصفحَ عمَّن شَتَمكَ"
(1)
.
وخرَّج الحاكم من حديث عُقبة بن عامر الجهني، قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا عقبةُ، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدُّنيا والآخرة؟ تَصِلُ مَنْ قَطعَكَ، وتُعطِي مَنْ حَرَمَك، وتَعْفو عَمَّن ظَلَمك"
(2)
.
وخرَّج الطبراني من حديث عليٍّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلُّكَ على أكرم أخلاقِ أهلِ الدُّنيا والآخرة؟ أن تَصِلَ من قطعك، وتعطي من حرمك، وتَعفو عمَّن ظلمك"
(3)
.
(1)
رواه أحمد 3/ 438، والطبراني في "الكبير" 20/ (413) وفيه زبان بن فائد، وابن لهيعة، وهما ضعيفان، ورواه الطبراني 20/ (414) وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف أيضًا.
(2)
حديث حسن رواه الحاكم 4/ 161 - 162 وأحمد 4/ 148 و 158، وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 188، وقال: رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات.
(3)
رواه الطبراني في "الأوسط"، وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 188 - 189، وقال: فيه الحارث (يعني الأعور) وهو ضعيف.
الحديث التاسع عشر
عَنْ عبدِ الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: كُنتُ خَلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كَلماتٍ: احفَظِ الله يَحفَظْكَ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سَألْت فاسألِ الله، وإذا استَعنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلم أن الأُمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كَتَبَهُ الله لكَ، وإنْ اجتمعوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ، لم يَضرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتبهُ الله عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ".
رواه الترمذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ صَحيحٌ.
وفي رواية غيرِ التِّرمذي: "احفظ الله تجده أمامَك، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاء يَعْرِفْك في الشِّدَّةِ، واعلَمْ أن ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصيبَكَ، وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ، واعلَمْ أن النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسرًا"
(1)
.
هذا الحديث خرَّجه الترمذيُّ من رواية حَنَشٍ الصنعاني، عن ابن عباس، وخرَّجه الإِمامُ أحمد من حديث حنش أيضًا مع إسنادَيْن آخرين منقطعين ولم يُميز لفظ بعضها من بعض، ولفظ حديثه: "يا غلام أو يا غليم ألا أُعَلِّمُك كلماتٍ
(1)
رواه أحمد 1/ 293 وأبو يعلى (2556) عن يونس بن محمد، ورواه الترمذي (2516) من طريق عبد الله بن المبارك، ورواه هو وابن السني من طريق أبي الوليد الطيالسي، ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن قيس بن الحجاج، عن حنش بن عبد الله الصنعاني، =
ينفعُك الله بهنَّ؟ " فقلتُ: بلى، فقال: "احفظِ الله يحفَظْكَ، احفظ الله تجدهُ أمامك، تعرَّف إلى الله في الرَّخاء يَعْرِفكَ في الشِّدَّةِ، وإذا سألتَ، فاسألِ الله، وإذا استعنتَ، فاستعن باللهِ، قد جفَّ القلمُ بما هو كائن، فلو أن الخلق كُلَّهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيءٍ لم يقضه الله، لم يَقدِرُوا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيءٍ لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكربِ، وأن مع العسر يسرًا".
وهذا اللفظُ أتمُّ من اللفظ الذي ذكره الشيخ رحمه الله، وعزاه إلى غير التِّرمذي، واللفظُ الذي ذكره الشيخ رواه عبدُ بنُ حميد في "مسنده"
(1)
بإسناد ضعيفٍ عن عطاء، عن ابن عباس، وكذلك عزاه ابنُ الصلاح في "الأحاديث الكلية" التي هل أصلُ أربعين الشيخ رحمه الله إلى عبد بن حُميد وغيره.
وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طُرقٍ كثيرة من رواية ابنه عليٍّ، ومولاه عكرمة
(2)
، وعطاء بن أبي رباح
(3)
، وعمرو بن دينار، وعُبيد الله بن عبد
= عن ابن عباس.
وهذا سند صحيح، قيس بن الحجاج روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال أبو حاتم: صالح، وصحح الترمذي حديثه هذا، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين غير حنش الصنعاني، فمن رجال مسلم.
(1)
رقم (636) عن إسماعيل بن أبي أويس، حدثني محمد بن عبد الرَّحمن بن أبي بكر الجدعاني، عن المثنى بن الصباح، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.
(2)
رواه الطبراني في "الكبير"(11560)، وإسناده ضعيف.
(3)
رواه الطبراني في "الكبير"(11416)، والآجري في "الشريعة" ص 198، والعقيلي في "الضعفاء" 3/ 53، وفيه عبد الواحد بن سليم، وهو ضعيف، وتقدم طريق عبد بن حميد.
الله
(1)
، وعمر مولى غفرة
(2)
، وابن أبي مليكة
(3)
وغيرهم
(4)
.
وأصحّ الطرق كلها طريقُ حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قاله ابنُ منده وغيرُه. وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه وصَّى ابن عباس بهذه الوصية من حديث عليّ بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري
(5)
، وسهل بن سعد
(6)
، وعبد الله بن جعفر
(7)
، وفي أسانيدها كلها ضعف.
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 314، وعلقه ابن أبي عاصم في "السنة"(318).
(2)
عمر مولى غفرة: هو عمر بن عبد الله المدني أبو حفص مولى غفرة، وروايته عن ابن عباس مرسلة، ورواه الطبراني في "الكبير" فزاد في الإِسناد بين عمر مولى غفرة وبين ابن عباس عكرمة.
(3)
رواه الطبراني (11243)، والبيهقي في "الآداب"(1073) من طريق عيسى بن محمد القرشي، عن ابن أبي مليكة، وصححه الحاكم 3/ 542، ورده الذهبي بقوله: وعيسى ليس بمعتمد.
(4)
ورواه الحاكم 3/ 541 - 542 من طريق عبد الله بن ميمون القداح، عن شهاب بن خراش، عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس، وقال الذهبي: القداح، قال أبو حاتم: متروك، وشهاب بن خراش مختلف فيه، وعبد الملك لم يسمع من ابن عباس فيما أرى.
(5)
رواه الآجري في "الشريعة" ص 199، وأبو يعلى في "مسنده"(1099) والخطيب في "تاريخه" 14/ 125، وفيه يحيى بن ميمون التمار، وهو متروك، وعلي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وذكره ابن عدي في "الكامل" 7/ 2683 وعدَّه من منكرات يحيى بن ميمون.
(6)
ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 159 - 160، ونسبه للدارقطني في "الأفراد" وابن مردويه والبيهقي والأصبهاني في "الترغيب".
(7)
رواه ابن أبي عاصم في "السنة"(315)، وفيه علي بن أبي علي الهاشمي، وهو متروك، ونسبه الهيثمي في "المجمع" 7/ 189 - 190 للطبراني، وضعفه بعلي بن أبي على هذا.
وذكر العقيلي
(1)
أن أسانيد الحديث كلها لينة، وبعضُها أصلحُ من بعض، وبكلّ حال، فطريق حنشٍ التي خرجها الترمذي حسنة جيدة.
وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهمِّ أمور الدين، حتَّى قال بعض العلماء
(2)
: تدبرتُ هذا الحديثَ، فأدهشني وكِدتُ أطيشُ، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقِلَّةِ التفهم لمعناه.
قلت: وقد أفردت لشرحه جزءًا كبيرًا
(3)
ونحن نذكر هاهنا مقاصِدَهُ على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "احفظِ الله" يعني: احفظ حدودَه، وحقوقَه، وأوامرَه، ونواهيَه، وحفظُ ذلك: هو الوقوفُ عندَ أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعندَ حدوده، فلا يتجاوزُ ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلكَ، فهو مِنَ الحافظين لحدود الله الذين مدحهمُ الله في كتابه، وقال عز وجل:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32، 33]. وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامرِ الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
ومن أعظم ما يجبُ حِفظُه من أوامر الله الصَّلاةُ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها، فقال:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، ومدح المحافظين عليها بقوله:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34].
(1)
في "الضعفاء" 3/ 54.
(2)
هو عبد الرَّحمن بن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" قاله المصنف في "نور الاقتباس" ص 23.
(3)
واسمه "نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس" طبع بمكة المكرمة سنة 1347 هـ ثم طبع في القاهرة سنة 1365 هـ ثم طبع في القاهرة أيضًا سنة 1400 هـ، والطبعة الأخيرة هي التي نشير إليها في تعليقاتنا.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حافظ عليها، كان له عندَ الله عهدٌ أن يُدخِلَه الجنَّة"
(1)
وفي حديث آخر: "من حافظ عليهنَّ، كُنَّ له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة"
(2)
.
وكذلك الطهارة، فإنَّها مفتاحُ الصلاة، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لا يُحافِظُ على الوضوء إلَّا مؤمن"
(3)
.
وممَّا يُؤمر بحفظه الأيمانُ، قال الله عز وجل:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، فإنَّ الأَيمان يقع الناس فيها كثيرًا، ويُهْمِل كثير منهم ما يجب بها، فلا يحفظه، ولا يلتزمه.
ومن ذلك حفظُ الرأس والبطن كما في حديث ابن مسعود المرفوع: "الاستحياءُ من الله حَقَّ الحياء أن تَحْفَظَ الرأسَ وما وَعَى، وتحفظ البطنَ وما حوى" خرَّجه الإِمام أحمد والترمذي
(4)
.
وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظُ السَّمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظُ البطن وما حوى يتضمن حفظَ القلب عَنِ الإِصرار على محرم، قال الله عز وجل:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}
(1)
رواه من حديث عبادة بن الصامت مالك 1/ 123، وأحمد 5/ 317 و 319، وأبو داود (1420)، والنسائي 1/ 230، وابن ماجه (1401)، وصححه ابن حبان (1732).
(2)
رواه من حديث عبد الله بن عمرو أحمد 2/ 169، والدارمي 2/ 301، وصححه ابن حبان (1467).
(3)
رواه من حديث ثوبان أحمد 5/ 282، والدارمي 1/ 168، وصححه ابن حبان (1037).
(4)
حديث ضعيف، رواه أحمد 1/ 387، والترمذي (2458)، والبغوي (4033)، والحاكم 4/ 323، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، أي: ضعيف، فإن في سنده الصباح بن محمد البجلي الأحمسي الكوفي وهو ضعيف.
[البقرة: 235]، وقد جمع الله ذلك كُلَّه في قوله:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
ويتضمن أيضًا حفظُ البطنِ من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب.
ومِنْ أعظم ما يجبُ حفظُه من نواهي الله عز وجل: اللسانُ والفرجُ، وفي حديث أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ حَفِظَ ما بَينَ لَحييه، وما بَينَ رِجليهِ، دَخَلَ الجنة" خرَّجه الحاكم
(1)
.
وخرَّج الإِمام أحمد من حديث أبي موسى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ حَفِظ ما بينَ فَقْمَيهِ وفرجه، دخل الجنة"
(2)
.
وأمر الله عز وجل بحفظ الفروج، ومدحَ الحافظين لها، فقال:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقال:
(1)
في "المستدرك" 4/ 357، وصححه ووافقه الذهبي، ورواه الترمذي (2409) وحسنه، وصححه ابن حبان (5703).
وله شاهد من حديث سهل بن سعد عند البخاري (6474) و (6807)، وأحمد 5/ 333، والترمذي (2408)، وصححه ابن حبان (5701) وآخر من حديث أبي موسى وهو الحديث الآتي.
(2)
رواه أحمد 4/ 398 وفيه رجل لم يسمَّ، وذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 298، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بنحوه، ورجال الطبراني وأبي يعلى ثقات، وفي رجال أحمد راوٍ لم يُسمَّ، وبقية رجاله ثقات. ورواه الحاكم 4/ 358، والقضاعي (545) من طريق سليمان بن يسار عن عقيل مولى ابن عباس، عن أبي موسى، وأورده الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 283 من رواية أبي يعلى والطبراني، وقال: ورواتهما ثقات، وحسنه الحافظ في "الفتح" 11/ 309؛ والفقمان: هما اللحيان، والمراد بما بينهما: هو اللسان، وما يتأتى به النطق، ودل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدُّنيا لسانه وفرجه، فمن وقي شرهما، وقي أعظم الشر.
{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وقال:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 1، 6].
وقال أبو إدريس الخولاني: أوَّلُ ما وصى الله به آدم عند إهباطه إلى الأرض: حفظُ فرجه، وقال: لا تضعه إلا في حلال.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يحفظك" يعني: أن من حفظَ حدود الله، وراعى حقوقَه، حفظه الله، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، وقال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وقال:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7].
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونَهُ بأمرِ الله، فإذا جاء القدر خَلَّوْا عنه
(1)
.
وقال عليّ رضي الله عنه: إن مع كلِّ رجلٍ ملكين يحفظانه مما لم يقدَّرْ فإذا جاء القدر خلَّيا بينه وبينَه، وإن الأجل جُنَّةٌ حصينة
(2)
.
(1)
رواه الطبري في "جامع البيان"(20216) و (20217) من طريقين عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 614، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2)
رواه الطبري (20247) ورجاله ثقات.
وقال مجاهد: ما مِنْ عبدٍ إلَّا له مَلَكٌ يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإِنس والهوامِّ، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءَك، إلا شيئًا أذن الله فيه فيصيبه
(1)
.
وخرَّج الإِمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن عمر، قال: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاء الدَّعوات حين يُمسي وحين يُصبح: "اللهمَّ إنِّي أسألُكَ العافية في الدُّنيا والآخرة، اللهم إنِّي أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهمَّ استُر عورتي، وآمن روعتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذُ بعظمتك أن أُغتَالَ من تحتي"
(2)
.
ومَنْ حفظ الله في صباه وقوّته، حفظه الله في حال كبَره وضعفِ قوّته، ومتَّعه بسمعه وبصره وحوله وقوَّته وعقله.
كان بعض العلماء
(3)
قد جاوز المئة سنة وهو ممتَّعٌ بقوَّتِه وعقله، فوثب يومًا وثبةً شديدةً، فعُوتِبَ في ذلك، فقال: هذه جوارحُ حفظناها عَنِ المعاصي في الصِّغر، فحفظها الله علينا في الكبر. وعكس هذا أن بعضَ السلف رأى شيخًا يسأل الناسَ، فقال: إن هذا ضيَّع الله في صغره، فضيَّعه الله في كبره.
(1)
رواه الطبري (20245) من طريق المعتمر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد.
(2)
صحيح رواه أحمد 2/ 25، وأبو داود (5074)، والنسائي 8/ 282، وفي "عمل اليوم والليلة"(566)، وابن ماجه (3871)، وصححه ابن حبان (961)، وانظر تمام تخريجه فيه.
وقوله: "أن أغتال من تحتي
…
" يعني الخسف، قاله وكيع وغيره.
(3)
هو الإِمام العلامة شيخ الإِسلام القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي المتوفى سنة 450 عن عمر يزيد على المائة، مترجم في "السير" 17/ 668 - 671. وخبره هذا في "البداية" 12/ 85 لابن كثير.
وقد يحفظُ الله العبدَ بصلاحه بعدَ موته في ذريَّته كما قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]: إنَّهما حُفِظا بصلاح أبيهما.
(1)
قال سعيدُ بن المسيب لابنه: لأزيدنَّ في صلاتي مِنْ أجلِك، رجاءَ أنْ أُحْفَظَ فيكَ، ثم تلا هذه الآية {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} ، وقال عُمرُ بن عبد العزيز: ما من مؤمن يموتُ إلَّا حفظه الله في عقبه وعقبِ عقبِه.
وقال ابن المنكدرِ: إن الله ليحفظُ بالرجل الصالح ولدَه وولدَ ولده والدويرات التي حوله فما يزالونَ في حفظ من الله وستر
(2)
.
ومتى كان العبد مشتغلًا بطاعة الله، فإن الله يحفظه في تلك الحال، وفي "مسند الإِمام أحمد"
(3)
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"كانت امرأةٌ في بيتٍ، فخرجت في سريَّةٍ من المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عنزًا وصيصيتها كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزًا لها وصيصيتها، فقالت: يا ربِّ، إنَّك قد ضمِنْتَ لمن خرج في سبيلك أن تحفظَ عليه، وإنِّي قد فَقَدتُ عنزًا من غنمي وصِيصيتي، وإني أنْشُدُكَ عنزي وصيصيتي". قال: وجعل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يذكر شدَّة مناشدتها ربَّها تبارك وتعالى، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فأصبحت عنزها ومثلها، وصيصيتها ومثلها".
والصيصية: هي الصِّنارة التي يُغزل بها ويُنسج.
فمن حفظ الله حَفِظَهُ الله من كلِّ أذى. قال بعضُ السلف: من اتقى الله، فقد حَفِظَ نفسه، ومن ضيَّع تقواه، فقد ضيَّع نفسه، والله الغنيُّ عنه.
(1)
وممن قال ذلك ابن عباس. رواه عنه ابن المبارك في "الزهد"(332)، والحميدي (372)، والطبري 16/ 7، وصححه الحاكم 2/ 369 على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وانظر "الدر المنثور" 5/ 422.
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(330)، والحميدي (373)، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 148.
(3)
5/ 67، وذكره الهيثمي في "المجمع" 5/ 277، وقال: رجاله رجال الصحيح.
ومن عجيب حفظِ الله لمن حفظه أن يجعلَ الحيوانات المؤذية بالطبع حافظةً له من الأذى، كما جرى لِسَفينةَ مولى النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث كُسِرَ به المركبُ، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسدَ، فجعلَ يمشي معه حتَّى دلَّه على الطريق، فلمَّا أوقفه عليها، جعل يُهَمْهِمُ كأنَّه يُودِّعُهُ، ثم رجع عنه
(1)
.
ورؤىَ إبراهيمُ بنُ أدهم نائمًا في بستان وعنده حيَّةٌ في فمها طاقةُ نَرجِس، فما زالت تذبُّ عنه حتَّى استيقظ.
وعكسُ هذا أن من ضيع الله، ضيَّعَهُ الله، فضاع بين خلقه حتَّى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السلف
(2)
: إنِّي لأعصي الله، فأعرِفُ ذلك في خُلُقِ خادمي ودابَّتي.
النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظُ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المُضِلَّة، ومن الشهوات المحرَّمة، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته، فيتوفَّاه على الإِيمان. قال بعض السلف
(3)
: إذا حضر الرجل الموت يقال للملك: شمَّ رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، قال: شمَّ قلبه، قال: أجد في قلبه الصيام، قال: شمّ قدميه، قال: أجد في قدميه القيام، قال: حَفِظَ نفسَه، فحفظه الله.
وفي "الصحيحين" عن البراء بن عازب
(4)
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يقولَ عندَ
(1)
رواه الطبراني في "الكبير"(6432) وسنده حسن، وصححه الحاكم 3/ 606، ووافقه الذهبي.
(2)
هو الفضيل بن عياض، والخبر في "الحلية" 8/ 109.
(3)
هو الحكم بن أبان كما في "نور الاقتباس" ص 33 وعزاه المصنف هناك لابن أبي الدُّنيا.
(4)
كذا قال المصنف، وهو وهم منه رحمه الله، فالحديث بهذا اللفظ من رواية أبي هريرة رواه البخاري (6320) و (7393)، ومسلم (2714)، وأما حديث البراء، فقد رواه البخاري (6311) و (6313) و (7488)، ومسلم (2710) و (2711) ولفظه أن رسول =
منامه: إن قبضتَ نفسي، فارحمها، وإن أرسلتَها، فاحفظها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين.
وفي حديث عمر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول: اللَّهُمَّ احفظني بالإِسلام قائمًا، واحفظني بالإِسلام قاعدًا، واحفظني بالإِسلام راقدًا، ولا تُطِعْ فيَّ عدوًا ولا حاسدًا. خرَّجه ابن حبان في "صحيحه"
(1)
.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يودِّع من أراد سفرًا، فيقول:"أستودعُ الله دينكَ وأمانتَكَ وخواتِيمَ عملك"، وكان يقول:"إنَّ الله إذا استُودِعَ شيئًا حَفِظَهُ". خرَّجه النسائي وغيره
(2)
.
وفي الجملة، فالله عز وجل يحفظُ على المؤمن الحافظ لحدوده دينَه، ويحُولُ بينه وبين ما يُفسد عليه دينَه بأنواعٍ مِنَ الحفظ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضها، وقد يكونُ كارهًا له، كما قال في حقِّ يوسُف عليه السلام:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
= الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا أخذت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شِقك الأيمن، ثم قل: اللهم إنِّي أسلمتُ وجهي إليك، وفوضتُ أمري إليك وألجأتُ ظهري إليك، رغبة ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. واجعلهن من آخر كلامك. فإن متَّ من ليلتك، مت وأنت على الفطرة".
قال: فرددتهن لأستذكرهن فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت. قال: "قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت" وانظر ابن حبان (5527) و (5536) و (5542).
(1)
برقم (934)، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم 1/ 525.
(2)
رواه من حديث ابن عمر النسائي في "عمل اليوم والليلة"(506) و (509) و (517)، وأحمد 2/ 7 و 87، والترمذي (3442) و (3443)، وابن ماجه (2826)، وصححه ابن حبان (2693)، والحاكم 2/ 97.
قال ابن عباس في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار
(1)
.
وقال الحسن - وذكر أهل المعاصي -: هانوا عليه، فعَصَوْه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم.
وقال ابنُ مسعود: إنَّ العبد ليهمُّ بالأمرِ من التجارة والإِمارة حتَّى يُيسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسرته له أدخلتُه النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطيَّرُ يقول: سبقني فلان دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل.
وخرَّجه الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: إن من عبادي من لا يُصلحُ إيمانَهُ إلَّا الفقر، وإن بسطت عليه أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانَه إلا الغنى، ولو أفقرتُه، لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي من لا يصلح إيمانه إلَّا الصِّحَّة، ولو أسقمته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححتُه، لأفسده ذلك، وإنَّ مِنْ عبادي من يطلب بابًا من العبادة، فأكُفُّه عنه، لكيلا يدخله العُجْبُ، إنِّي أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إنِّي عليمٌ خبير"
(2)
.
(1)
رواه الطبري في "جامع البيان"(15880) و (15881)، وصححه الحاكم 2/ 328 ووافقه الذهبي. وزاد نسبته السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 44 إلى ابن أبي شيبة وخشيش بن أصرم، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2)
قطعة من حديث مطول رواه الطبراني في "الأوسط" كما في "المجمع" 10/ 270، و"الحاوي للفتاوي" 2/ 93 للسيوطي. وفيه عمر بن سعيد الدمشقي، وهو ضعيف.
ورواه أيضًا ابن أبي الدُّنيا في "الأولياء"(1)، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 318 - 319، وقال: غريب من حديث أنس.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله تجده تجاهك"، وفي رواية:"أمامك" معناه: أن مَنْ حَفِظَ حُدودَ الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كلِّ أحواله حيث توجَّه يَحُوطُه وينصرُه ويحفَظه ويوفقُه ويُسدده فـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل
(1)
.
كتب بعضُ السلف إلى أخ له: أمَّا بعد، فإن كان الله معك فمن تخاف؟ وإن كان عليك فمن ترجو؟
وهذه المعيةُ الخاصة هي المذكورةُ في قوله تعالى لموسى وهارون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقول موسى:{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]. وفي قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهما في الغار: "ما ظَنُّكَ باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إنَّ الله معنا"
(2)
.
فهذه المعيةُ الخاصةُ تقتضي النَّصر والتَّأييدَ، والحفظ والإِعانة بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، وقوله:{وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، فإنَّ هذه المعية تقتضي علمَه واطِّلاعه ومراقبته لأعمالهم، فهي مقتضيةٌ لتخويف العباد منه، والمعية الأولى تقتضي حفظ العبد وحياطَتَه ونصرَه، فمن حفظ الله، وراعى حقوقه، وجده أمامَه وتُجاهه على كلِّ حالٍ، فاستأنس به، واستغنى به عن خلقه، كما في حديث: "أفضلُ الإِيمان
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 2/ 340.
(2)
رواه من حديث أبي بكر أحمد 1/ 24، والبخاري (3653) و (3922) و (4663)، ومسلم (2381)، والترمذي (3096)، وصححه ابن حبان (6278).
أن يعلمَ العبدُ أن الله معه حيث كان"
(1)
وقد سبق.
ورُويَ عن بُنان الحمَّال أنَّه دخل البريِّةَ وحدَه على طريق تبوك، فاستوحش، فهتف به هاتف: لِمَ تستوحش؟ أليس حبيبُك معك؟
(2)
وقيل لبعضهم: ألا تستوحشُ وحدَك؟ فقال: كيف أستوحش، وهو يقول:"أنا جليسُ مَنْ ذكرني"، وقيل لآخر: نراكَ وحدكَ؟ فقال: من يكنِ الله معه، كيف يكونُ وحده؟ وقيل لآخر: أما مَعَكَ مؤنسٌ؟ قال: بلى، قيل له: أين هو؟ قال: أمامي، ومعي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، وفوقي. وكان الشبلي ينشد:
إذا نَحْنُ أدلَجْنَا وأنت أمامَنا
…
كَفَى لِمَطايَانَا بذِكراك هاديا
(3)
قوله صلى الله عليه وسلم: "تعرَّف إلى الله في الرَّخاء، يعرفكَ في الشِّدَّةِ" يعني أن العبدَ إذا
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 10/ 324.
(3)
قائل هذا البيت عمرو بن شأس الأسدي كما في "طبقات فحول الشعراء" 1/ 197، والأغاني 11/ 201، وكانت له صحبة، وشهد الحديبية، وكان ذا بأس شديد ونجدة، وكان ذا قدر وشرف ومنزلة في قومه، وكان من خبره أنه جاوره رجل من بني عامر بن صعصعة ومع العامري بنت له جميلة، فخطبها، فقال له العامري: أما ما دمت في جوارك فلا تُنْزِلُ مني على الاقتسار والقهر، ولكن إذا رجعتُ إلى قومي فاخطبها، فغضب عمرو، وآلى يمينًا أن لا يتزوجها أبدًا إلا أن يُصيبها سباءً، فلما رجع الرجل إلى قومه، أراد عمرو غزوهم، ثم قال: قد كان بيني وبين الرجل عهد وميثاق وجوار فاستحيى، وتذمم أن يفعل وقال:
إذا نحن أدلجنا وأنتِ أمامنا
…
كفى لمطايانا بريَّاكِ هاديا
ولولا اتقاءُ اللهِ والعَهدُ قد رأى
…
مُبيِّنَةً منا تُثيرُ النواديا
لنا حاضرٌ لم يَحضُرِ الناسُ مثلَه
…
وبادٍ إذا عدُّوا فأكرمُ باديا
اتّقى الله، وحَفِظَ حدودَه، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة، فعرفه ربّه في الشدّة، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه، ومحبته له، وإجابته لدعائه.
فمعرفة العبد لربه نوعان:
أحدُهما المعرفةُ العامة، وهي معرفةُ الإِقرار به والتَّصديق والإِيمان، وهذه عامةٌ للمؤمنين.
والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه، والأنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: مساكينُ أهلُ الدُّنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفةُ الله عز وجل.
وقال أحمدُ بنُ عاصم الأنطاكيُّ: أحبُّ أن لا أموتَ حتَّى أعرف مولاي، وليس معرفتُه الإِقرارَ به، ولكن المعرفة التي إذا عرفته استحييتُ منه.
ومعرفة الله أيضًا لعبده نوعان:
معرفة عامة، وهي علمه سبحانه بعباده، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه، كما قال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]، وقال:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32].
والثاني: معرفة خاصة، وهي تقتضي محبته لعبده، وتقريبَه إليه، وإجابةَ دعائه، وإنجاءَه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربِّه: "ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِل حتَّى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعه الذي
يسمع به، وبصرَه الذي يُبصرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، فلئن سألني، لأُعطِيَنَّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه"، وفي رواية: "ولئن دعاني لأجيبنّه"
(1)
.
ولما هرب الحسنُ من الحجاج دخلَ إلى بيتِ حبيبٍ أبي محمد، فقال له حبيب: يا أبا سعيد، أليس بينك وبينَ ربِّك ما تدعوه، فيَستركَ مِنْ هؤلاء؟ ادخل البيتَ، فدخل، ودخل الشُّرَطُ على أثره، فلم يرَوْهُ، فذُكِرَ ذلك للحجاج، فقال: بل كان في البيت، إلا أن الله طَمَسَ أعينهم فلم يروه.
واجتمع الفضيلُ بنُ عياض بشعوانة العابدة، فسألها الدُّعاءَ، فقالت: يا فضيلُ، وما بينَك وبينَه ما إن دعوته أجابك، فغُشِيَ على الفضيل
(2)
.
وقيل لمعروف: ما الَّذي هيَّجك إلى الانقطاع والعبادة؟ وذكر له الموت والبرزخ والجنة والنار - فقال معروف: إن ملكًا هذا كله بيده إن كانت بينك وبينه معرفةٌ كفاك جميع هذا.
وفي الجملة، فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإِعانة في حال شدَّته.
وخرَّج الترمذيُّ من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من سرَّه أن يستجيب الله له عندَ الشَّدائد، فليُكثرِ الدُّعاءَ في الرَّخاء"
(3)
.
وخرَّج ابنُ أبي حاتم وغيرُه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه: أن يونس
(1)
سيرد عند المصنف وهو الحديث الثامن والثلاثون، ويخرج هناك.
(2)
انظر "صفوة الصفوة" 4/ 38.
(3)
رواه الترمذي (3382)، والطبراني في "الدعاء"(44)، وفيه عبيد بن واقد وشهر بن حوشب، وهما ضعيفان، ولذا قال الترمذي: هذا حديث غريب، ورواه الحاكم 1/ 544، والطبراني (45) من طريق آخر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
عليه السلام لمَّا دعا في بطن الحوت، قالت الملائكة: يا ربِّ، هذا صوتٌ معروفٌ من بلادٍ غريبة، فقال الله عز وجل: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: ومَنْ هو؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدُك يونس الذي لم يزل يُرفَعُ له عمل متقبل ودعوةٌ مستجابة؟ قال: نعم، قالوا: يا ربِّ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرَّخاء فتنجيَه من البلاء؟ قال: بلى، قال: فأمر الله الحوتَ فطرحه بالعراء
(1)
.
وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرَّخاء، يذكركُم في الشِّدَّة، وإن يونس عليه السلام كان يذكُرُ الله تعالى، فلمَّا وقعَ في بطن الحوت، قال الله عز وجل {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144]، وإنَّ فرعون كانَ طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال الله تعالى:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]
(2)
.
وقال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دَعَّاءً في السرَّاء، فنزلت به ضرَّاءُ، فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوتٌ معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدَعَّاءٍ في السَّرَّاء، فنزلت به ضرَّاءُ، فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف، فلا يشفعون له.
وقال رجل لأبي الدرداء: أوصني، فقال: اذكر الله في السرَّاء يذكرك الله عز وجل في الضَّرَّاء
(3)
.
(1)
إسناده ضعيف، يزيد بن أبان الرقاشي ضعيف، رواه ابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير في "تفسيره" 5/ 362، ورواه أيضًا الطبري في "جامع البيان" 23/ 100، وزاد السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 668 و 7/ 122 نسبته إلى ابن أبي الدُّنيا في "الفرج بعد الشدة" وابن مردويه وعبد الرزاق.
(2)
رواه ابن أبي شيبة كما في "الدر المنثور" 7/ 126.
(3)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 209.
وعنه أنه قال: ادعُ الله في يوم سرَّائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرَّائك
(1)
.
وأعظمُ الشدائد التي تنزل بالعبد في الدُّنيا الموتُ، وما بَعده أشدُّ منه إن لم يكن مصيرُ العبد إلى خيرٍ، فالواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18، 19].
فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعدَّ حينئذ للقاء الله بالموت وما بعده، ذكره الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولَطَفَ به، وأعانه، وتولَّاه، وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راضٍ، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعدَّ حينئذ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنَّه أعرض عنه، وأهمله، فإذا نزل الموتُ بالمؤمنِ المستعدّ له، أحسن الظنَّ بربه، وجاءته البُشرى مِنَ اللهِ، فأحبَّ لقاءَ اللهِ، وأحبَّ الله لقاءه، والفاجرُ بعكس ذلك، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ، ويستبشر بما قدمه مما هو قادمٌ عليه، ويَنْدَمُ المفرطُ، ويقول:{يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
قال أبو عبد الرَّحمن السُّلمي قبلَ موته: كيف لا أرجو ربي وقد صُمْتُ له ثمانين رمضان
(2)
؟
وقال أبو بكر بنُ عياش لابنه عندَ موته: أترى الله يُضيِّعُ لأبيك أربعين سنة يَختِمُ القرآن كُلَّ ليلةٍ؟
(3)
.
(1)
رواه أحمد في "الزهد" ص 135، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 225.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 192، والخطيب في "تاريخه" 9/ 431.
(3)
رواه الخطيب في "تاريخه" 14/ 383.
وختم آدمُ بن أبي إياس القرآن وهو مسجَّى للموت، ثم قال: بحُبِّي لك، إلا رفقتَ بي في هذا المصرع؟ كنت أؤمِّلُك لهذا اليوم، كنتُ أرجوكَ لا إله إلَّا الله، ثم قضى
(1)
.
ولما احتُضِرَ زكريا بن عديٍّ، رفع يديه، وقال: اللهمّ إنِّي إليك لمشتاقٌ
(2)
.
وقال عبدُ الصمد الزاهد عند موته: سيدي لهذه الساعة خبَّأتك، ولهذا اليوم اقتنيتُك، حقِّق حُسْنَ ظنِّي بك
(3)
.
وقال قتادة في قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قال: من الكرب عندَ الموت
(4)
.
وقال عليُّ بن أبي طلحَة عن ابن عباس في هذه الآية: يُنجيه من كلِّ كرب في الدُّنيا والآخرة
(5)
.
وقال زيدُ بن أسلم في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} الآية [فصلت: 30]. قال: يُبشر بذلك عند موته، وفي قبره، ويوم يُبعث، فإنه لفي الجنة، وما ذهبت فرحة البِشارة من قلبه
(6)
.
(1)
رواه الخطيب 7/ 29.
(2)
أورده الذهبي في "تذكرة الحفاظ" 1/ 396.
(3)
انظر "صفوة الصفوة" 2/ 272.
(4)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 2/ 340، وزاد نسبته السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 195 إلى عبد بن حميد.
(5)
رواه الطبري في "جامع البيان" 28/ 138.
(6)
رواه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 7/ 323، وأورده ابن كثير 7/ 166 من رواية ابن أبي حاتم، وقال: وهذا القول حسن جدًّا وهو الواقع.
وقال ثابت البناني في هذه الآية: بلغنا أن المؤمنَ حيث يبعثه الله من قبره، يتلقاه مَلَكاه اللَّذانِ كانا معه في الدُّنيا، فيقولان له: لا تخف ولا تحزن، فيؤمِّنُ الله خوفَه، ويُقِرُّ الله عينَه، فما مِنْ عظيمة تَغشى الناس يومَ القيامة إلَّا هي للمؤمن قرَّةُ عينٍ لِما هداه الله، ولما كان يعملُ في الدُّنيا
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله" هذا مُنْتَزَعٌ من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإن السؤال لله هو دعاؤُه والرغبةُ إليه، والدُّعاء هو العبادة، كذا روي عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير، وتلا قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] خرَّجه الإِمامُ أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه
(2)
.
وخرَّج الترمذي
(3)
من حديث أنس بن مالك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "الدُّعاءُ مُخُّ العبادة"، فتضمن هذا الكلام أن يُسأل الله عز وجل، ولا يسأل غيره، وأن يُستعان بالله دونَ غيره.
فأما السؤال، فقد أمر الله بمسألته، فقال:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]. وفي "الترمذي" عن ابن مسعود مرفوعًا: "سَلُوا الله مِنْ فَضلِه، فإنَّ الله يُحِبُّ أن يسأل"
(4)
.
(1)
رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن كما في "تفسير ابن كثير" 7/ 166، وزاد نسبته السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 323 - 324 إلى ابن المنذر.
(2)
صحيح رواه أحمد 4/ 267، و 271 و 276، وأبو داود (1479)، والترمذي (3247) و (3372)، وابن ماجه (3828)، والنسائي في "الكبرى" كما في "التحفة" 9/ 30، والحاكم 1/ 490 و 491 وصححه ابن حبان (890).
(3)
برقم (3371)، وكذا الطبراني في "الدعاء"(8) وفي سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف، وكذا قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
(4)
وتمامه: "وأفضل العبادة انتظار الفرج" رواه الترمذي (3571)، والطبراني في "الكبير" =
وفيه أيضًا عن أبي هريرة مرفوعًا: "من لا يسألِ الله يغْضَبْ عليه"
(1)
.
وفي حديثٍ آخر: "ليسألْ أحدُكم ربَّه حاجَتَه كلَّها حتَّى يسأله شِسْعَ نعلِه إذا انقطع"
(2)
.
وفي النَّهي عن مسألة المخلوقين أحاديثُ كثيرة صحيحة، وقد بايع النبيُّ صلى الله عليه وسلم جماعةً من أصحابه على أن لا يسألوا الناسَ شيئًا: منهم أبو بكر الصدِّيق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطُه أو خِطام ناقته، فلا يسأل أحدًا أن يُناوله إياه
(3)
.
= (10088)، وفي "الدعاء"(22)، وفيه حماد بن واقد الصفار، وهو ضعيف.
(1)
رواه الترمذي (3373)، وأحمد 2/ 442، والبخاري في "الأدب المفرد"(658)، وابن ماجه (3827)، والطبراني في "الدعاء"(23)، وفيه أبو صالح الخوزي، وهو لين الحديث، ومع ذلك فقد صححه الحاكم 1/ 491.
(2)
رواه الترمذي (3612)، والطبراني في "الدعاء"(25) من طريق قطن بن نسير، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك وصححه ابن حبان (866)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3)
روى مسلم (1043) واللفظ له، وأبو داود (6642)، والنسائي 1/ 229، عن عوف بن مالك، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال:"ألا تبايعون رسول الله؟ " وكنا حديثَ عهد ببيعة. فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا (وأسر كلمة خفية) ولا تسألوا الناس شيئًا". وصححه ابن حبان (3385).
وروى أحمد 5/ 277 و 279 و 281، وابن ماجه (1837) والطبراني في "الكبير"(1435) عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتقبل لي بواحدة، أتقبل له الجنة؟ " قلت: أنا، قال:"لا تسأل الناس شيئًا". فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب، فلا يقول =
وخرج ابنُ أبي الدُّنيا من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن رجلًا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ بني فُلان أغاروا عليّ فذهبوا بابني وإبلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إن آل محمَّدٍ كذا وكذا أهل بيت، ما لهم مدٌّ من طعامٍ أو صاع، فاسألِ الله عز وجل"، فرجع إلى امرأته، فقالت: ما قالَ لك؟ فأخبرها، فقالت: نِعْمَ ما ردَّ عليك، فما لبث أن ردَّ الله عليه ابنَه وإبله أوفرَ ما كانت، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصعد المنبر فحَمدَ الله وأثنى عليه، وأمر الناس بمسألة الله عز وجل والرغبة إليه، وقرأ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]
(1)
.
وقد ثبت في "الصحيحين" عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يقولُ: "هل من داع، فأستجيب له؟ هل من سائل فأُعْطِيَه؟ هل من مستغفر فأغْفِرَ له؟ "
(2)
.
وخرج المحاملي وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"قال الله تعالى: من ذا الذي دعاني فلم أُجبه؟ وسألني فلم أُعطه؟ واستغفرني، فلم أغفر له وأنا أرحمُ الراحمين؟ ".
= لأحد: ناولنيه، حتَّى ينزل فيأخذه.
(1)
رواه ابن أبي الدُّنيا، ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوة" 6/ 107 عن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، عن سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، وهذا مرسل حسن. ورواه الحاكم 1/ 543، ومن طريقه البيهقي 6/ 106 من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، ولم يسمع منه، ومع ذلك صححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وللحديث شواهد انظرها في "الدر المنثور" 8/ 196 - 197.
(2)
رواه من حديث أبي هريرة مالك 1/ 214، و أحمد 2/ 487 والبخاري (1145)، ومسلم (858)، وأبو داود (1315)، والترمذي (446)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(480)، وصححه ابن حبان (920)، وانظر تمام تخريجه فيه.
واعلم أن سؤالَ اللهِ تعالى دونَ خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذلِّ من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعترافُ بقدرةِ المسؤول على دفع هذا الضَّرر، ونيل المطلوب، وجلبِ المنافع، ودرء المضارِّ، ولا يصلح الذلُّ والافتقار إلَّا لله وحدَه، لأنه حقيقة العَبادة، وكان الإِمامُ أحمد يدعو ويقول: اللهمَّ كما صُنتَ وجهي عَنِ السُّجود لغيرك فصُنْه عن المسألة لغيرك، ولا يقدر على كشف الضرِّ وجلب النفع سواه. كما قال:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، وقال:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
والله سبحانه يحبّ أن يُسأل ويُرْغَبَ إليه في الحوائج، ويُلَحَّ في سؤاله ودُعائه، ويَغْضَبُ على من لا يسأله، ويستدعي مِنْ عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كُلِّهم سُؤْلَهم من غير أن يَنْقُصَ من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك كله: يكره أن يُسأل، ويُحبُّ أن لا يُسأَلَ، لعجزه وفقره وحاجته. ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك: ويحك، تأتي من يُغلِقُ عنك بابَه، ويُظهِرُ لك فقرَه، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتحُ لك بابه بنصف الليل ونصف النَّهار، ويُظهر لك غناه، ويقول: ادعني أستجب لك؟!
وقال طاووس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة أمرك أن تسأله، ووعدك أن يُجيبك
(1)
.
وأما الاستعانةُ بالله عز وجل دونَ غيره من الخلق، فلأنَّ العبدَ عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضارّه، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 11 و 8/ 141.
إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله، فهو المُعانُ، ومن خذله فهو المخذولُ، وهذا تحقيقُ معنى قول: إلا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله"، فإن المعنى لا تَحوُّلَ للعبد مِنْ حال إلى حال، ولا قُوَّة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمةٌ عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبد محتاجٌ إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلِّها في الدُّنيا وعندَ الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإِعانة على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه. وفي الحديث الصحيح عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "احرصْ على ما ينفعُكَ واستعن بالله ولا تعجِزْ"
(1)
.
ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيرِهِ، وكَلَهُ الله إلى من استعان به فصار مخذولًا. كتب الحسنُ إلى عُمَرَ بن عبد العزيز: لا تستعِنْ بغيرِ اللهِ، فيكِلَكَ الله إليه. ومن كلام بعضِ السلف: يا ربِّ عَجبت لمن يعرفُك كيف يرجو غيرك، عجبتُ لمن يعرفك كيف يستعينُ بغيرك.
قوله صلى الله عليه وسلم: "جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ"، وفي رواية أخرى:"رُفِعت الأقلام، وجفَّت الصحف" هو كنايةٌ عن تقدُّم كتابة المقادير كلِّها، والفراغ منها من أمدٍ بعيد، فإنَّ الكتابَ إذا فُرِغَ من كتابته، ورفعت الأقلامُ عنه، وطال عهده، فقد رُفعت عنه الأقلام، وجفتِ الأقلام التي كتب بها مِنْ مدادها، وجفت الصَّحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغِها.
(1)
قطعة من حديث رواه أحمد 2/ 366 و 370، ومسلم (2664)، وابن ماجه (4168)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(623) و (624)، وصححه ابن حبان (5721) و (5722) عن أبي هريرة رفعه ونصه بتمامه:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنّ لو تفتح عمل الشيطان" لفظ مسلم.
وقد دلَّ الكتابُ والسننُ الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى، قال الله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
وفي "صحيح مسلم"
(1)
عن عبد الله بن عمرو عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الله كتبَ مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلُقَ السَّماوات والأرض بخمسين ألفَ سنة".
وفيه أيضًا عن جابر أن رجلًا قال: يا رسول الله، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفَّت به الأقلامُ، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال:"لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير"، قال: ففيم العملُ؟ قال: "اعملوا فكلٌّ ميسَّر لما خلق له"
(2)
.
وخرج الإِمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث عبادة بن الصامت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أوَّل ما خلق الله القلم، ثم قال: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة"
(3)
.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًّا يطول ذكرها.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فلو أن الخلق جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيءٍ لم يقضِهِ الله، لم يقدِرُوا عليه، وإن أرادوا أن يضرُّوك بشيءٍ لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه".
هذه رواية الإِمام أحمد، ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضًا، والمراد: أن ما يُصيب العبدَ في دنياه مما يضرُّه أو ينفعه، فكلُّه مقدَّرٌ عليه، ولا يصيبُ العبدَ
(1)
برقم (2653)، ورواه أيضًا الترمذي (2156).
(2)
رواه مسلم (2648).
(3)
حديث صحيح رواه أحمد 5/ 317، وأبو داود (4700)، والترمذي (2155) و (3319) وله شاهد من حديث ابن عباس عند ابن جرير الطبري 29/ 11، وأبي يعلى (2329) والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 378.
إلا ما كُتِبَ له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعًا.
وقد دلَّ القرآنُ على مثل هذا في قوله عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وقوله:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، وقوله:{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154].
وخرج الإِمام أحمد من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكلِّ شيء حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقةَ الإِيمان حتَّى يعلمَ أن ما أصابه لم يكُنْ ليخطئَهُ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبَه"
(1)
.
وخرج أبو داود وابنُ ماجه من حديث زيد بن ثابت، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم معنى ذلك أيضًا
(2)
.
واعلم أن مدارَ جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذُكِر قبلَه وبعدَه، فهو متفرِّعٌ عليه، وراجعٌ إليه، فإنَّ العبد إذا علم أنَّه لن يُصيبَه إلا ما كتبَ الله له مِنْ خير وشرٍّ، ونفعٍ وضرٍّ، وأنَّ اجتهادَ الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد البتة، علم حينئذٍ أن الله وحده هو الضَّارُّ النَّافعُ، المعطي المانع، فأوجبَ ذلك للعبدِ توحيدَ ربِّه عز وجل، وإفرادَه بالطاعة، وحفظَ حدوده، فإنَّ المعبود إنَّما يقصد بعبادته جلبَ المنافع ودفع المضار، ولهذا ذمَّ الله من يعبد من لا ينفع ولا يضرُّ، ولا يُغني عن عابدِهِ شيئًا، فمن علم أنَّه لا ينفعُ ولا يضرُّ، ولا يُعطي ولا يمنع غيرُ اللهِ، أوجبَ له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال
(1)
رواه أحمد 6/ 441، وذكره الهيثمي في "المجمع" 7/ 197، وقال: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات، ورواه الطبراني في "الأوسط".
(2)
رواه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وأحمد 5/ 82 و 189 وصححه ابن حبان (727)، وانظر تمام تخريجه فيه.
والتضرّع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعةِ الخلق جميعًا، وأن يتَّقي سخطه، ولو كان فيه سخطُ الخلقِ جميعًا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدّة وحال الرَّخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عندَ الشدائد، ونسيانه في الرَّخاء، ودعاء من يرجون نفعَه مِنْ دُونِه، قال الله عز وجل:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38].
قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن في الصَّبر على ما تكره خيرًا كثيرًا" يعني: أن ما أصاب العبدَ مِنَ المصائب المؤلمةِ المكتوبة عليه إذا صبر عليها، كان له في الصبر خيرٌ كثير.
وفي رواية عمر مولى غُفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام، وهى:"فإنِ استطعتَ أن تعمل لله بالرِّضا في اليقين، فافعل، وإن لم تستطع، فإنَّ في الصَّبر على ما تكره خيرًا كثيرًا".
وفي رواية أخرى من رواية عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه، لكن إسنادها ضعيف، زيادة أخرى بعد هذا، وهي: قلتُ: يا رسول الله، كيف أصنع باليقين؟ قال:"أن تعلم أن ما أصابَك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا أنتَ أحكمتَ باب اليقين"
(1)
. ومعنى هذا أن حصولَ اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يُعين العبد على أن ترضى نفسُه بما أصابه، فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور، فليفعل، فإن لم يستطع الرِّضا، فإن في الصَّبر على المكروه خيرًا كثيرًا.
(1)
ورواه ابن جرير 28/ 123 من طريق معاوية عن علي عن ابن عباس قوله (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب:
إحداهما: أن يرضى بذلك، وهذه درجةٌ عاليةٌ رفيعة جدًّا، قال الله عز وجل:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. قال علقمة: هي المصيبة تصيبُ الرَّجلَ، فيعلم أنَّها من عند الله، فيسلِّمُ لها ويرضى.
وخرَّج الترمذي
(1)
من حديث أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط فله السخط"، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:"أسأَلكَ الرِّضا بعد القضاء"
(2)
.
وممَّا يدعو المؤمن إلى الرِّضا بالقضاء تحقيقُ إيمانه بمعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له: إن أصابته سرَّاء شكر، كان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر، كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن "
(3)
.
وجاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يُوصيه وصيَّةً جامعةً موجَزةً، فقال:"لا تتَّهم الله في قضائه"
(4)
.
قال أبو الدرداء: إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به، وقال ابن
(1)
رقم (2396)، وحسنه وهو كما قال.
(2)
قطعة من حديث صحيح مطول رواه عن عمار بن ياسر النسائي 3/ 54 - 55، والحاكم 1/ 524 - 525، وصححه ابن حبان (1971).
(3)
رواه من حديث صهيب أحمد 4/ 332 و 333 و 6/ 15، ومسلم (2999)، والدارمي 2/ 318، وصححه ابن حبان (2896).
(4)
رواه بنحوه أحمد 4/ 204 من حديث عمرو بن العاص، وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف، ورواه أيضًا 5/ 318 - 319 من حديث عبادة بن الصامت، وفيه عبد الله بن لهيعة، وهو سيء الحفظ. وانظر "مجمع الزوائد" 1/ 59 - 60.
مسعود: إن الله بقسطه وعدله جعلَ الرَّوحَ والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشكِّ والسخط
(1)
؛ فالرَّاضي لا يتمنَّى غيرَ ما هو عليه من شدَّةٍ ورخاء كذا رُوِيَ عَنْ عمر وابنِ مسعود وغيرهما. وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر.
فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشُه كلُّه في نعيم وسرور، قال الله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال بعض السلف: الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة
(2)
. وقال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدُّنيا ومستراح العابدين
(3)
.
وأهل الرضا تارةً يلاحظون حكمة المبتلي وخيرته لعبده في البلاء، وأنَّه غيرُ متَّهم في قضائه، وتارةً يُلاحظون ثوابَ الرِّضا بالقضاء، فيُنسيهم ألم المقضي به، وتارةً يُلاحظون عظمةَ المبتلي وجلالَه وكمالَه، فيستغرقون في مشاهدة ذلك، حتَّى لا يشعرون بالألم، وهذا يصلُ إليه خواصُّ أهل المعرفة والمحبَّةِ، حتَّى ربَّما تلذَّذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم، كما قال بعضهم: أوجدهم في عذابه عُذوبة. وسئل بعض التابعين عن حاله في مرضه، فقال: أحبُّه إليه أحبُّه إليَّ. وسئل السريّ: هل يجد المحبُّ ألم البلاء؟ فقال: لا. وقال بعضهم:
عذابُه فيكَ عَذْبُ
…
وبُعْدُهُ فيكَ قُرْبُ
وأَنْتَ عِندي كرُوحي
…
بل أَنْتَ مِنها أَحَبُّ
(1)
رواه ابن أبي الدُّنيا في "اليقين"(32).
(2)
رواه الطبراني 14/ 171 عن علي، ورواه الحاكم 2/ 356 عن ابن عباس، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر "الدر المنثور" 5/ 164 - 165.
(3)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 156.
حسْبي مِنَ الحُبِّ أنِّي
…
لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ
(1)
والدرجة الثانية: أن يصبرَ على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرِّضا بالقضاء، فالرِّضا فضلٌ مندوبٌ إليه، مستحبٌ، والصبرُ واجبٌ على المؤمن حتمٌ، وفي الصَّبرِ خيرٌ كثيرٌ، فإنَّ الله أمرَ به، ووعدَ عليه جزيلَ الأجر. قال الله عز وجل:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقال:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. قال الحسن: الرِّضا عزيزٌ، ولكن الصبر معوَّلُ المؤمن
(2)
.
والفرق بين الرضا والصبر: أن الصَّبر: كفُّ النَّفسِ وحبسُها عن التسخط مع وجود الألم، وتمنِّي زوال ذلك، وكفّ الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمنِّي زوال ذلك المؤلم، وإن وجد الإِحساس بالألم، لكن الرضا يخفِّفُه لما يباشر القلبَ من رَوح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرِّضا، فقد يزيل الإِحساس بالألم بالكلية كما سبق.
قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النَّصر مع الصَّبر". هذا موافق لقول الله عز وجل: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. وقوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]. وقال عمرُ لأشياخ من بني عبس: بم قاتلتُمُ الناس؟ قالوا: بالصبر، لم نلق قومًا إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا. وقال بعض السلف: كلنا يكره الموت
(1)
الأبيات الثلاثة غير منسوبة في "صيد الخاطر" ص 94 لابن الجوزي وفي "نور الاقتباس" ص 55 للمصنف.
(2)
ورواه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 342 عن عمر بن عبد العزيز.
وألم الجراح، ولكن نتفاضل بالصَّبر. وقال البطَّال
(1)
: الشجاعةُ صبرُ ساعة.
وهذا في جهاد العدوِّ الظاهر، وهو جهادُ الكفار، وكذلك جهاد العدوِّ الباطن، وهو جهاد النَّفس والهَوى، فإنَّ جهادَهُما من أعظم الجهاد، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"المجاهدُ مَنْ جاهد نفسه في الله"
(2)
.
وقال عبد الله بنُ عمر لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك، فجاهدها، وابدأ بنفسك، فاغزُها.
وقال بقيةُ بن الوليد: أخبرنا إبراهيمُ بن أدهم، حدثنا الثقة عن عليِّ بن أبي طالب، قال: أوَّل ما تنكرون من جهادكم جهادُكم أنفسكم.
وقال إبراهيم بن أبي عبلة لقوم جاؤوا من الغزو: قد جئتُم من الجهاد الأصغر، فما فعلتم في الجهاد الأكبر؟ قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهادُ القلب
(3)
. ويُروى هذا مرفوعًا من حديث جابر بإسناد ضعيف، ولفظه:"قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: "مجاهدةُ العبدِ لهواه"
(4)
.
(1)
هو رأس الشجعان والأبطال أبو محمد عبد الله البطال وقيل: أبو يحيى من أعيان أمراء الشاميين، وكان شاليش (أمير طلائع الجيش) الأمير مسلمة بن عبد الملك، وكان مقره بأنطاكية، أوطأ الروم خوفًا وذلًا، قتل سنة 113 هـ، وقد كذب عليه جهلة القصاص، وقالوا عنه من الخرافات ما لا يليق. "سير أعلام النبلاء" 5/ 268 - 269.
(2)
رواه من حديث فضالة بن عبيد أحمد 6/ 20 و 22، وابن المبارك في "الجهاد"(175)، والترمذي (1621)، والحاكم 1/ 10 - 11، وصححه ابن حبان (4707) و (4862).
(3)
ذكره المزي في "تهذيب الكمال" 2/ 144، والذهبي في "السير" 6/ 325.
(4)
رواه البيهقي في "الزهد"(374)، والخطيب في "تاريخه" 13/ 493، وفي سنده ضعيف ومتهم، وضعفه البيهقي والعراقي. وقال الحافظ ابن حجر في "تسديد القوس" فيما نقله عنه العجلوني في "كشف الخفا" 1/ 511: هو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة.
ويُروى من حديث سعد بن سنان، عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ليس عدوُّك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة، وإذا قتلته كان لك نورًا، أعدى عدوِّك نفسك التي بين جنبيك"
(1)
.
وقال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما حين استخلفه: إنَّ أوَّل ما أحذِّرُكَ نفسك التي بين جنبيك.
فهذا الجهاد يحتاجُ أيضًا إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه، غلبه وحصل له النصر والظفر، وملَكَ نفسه، فصار عزيزًا ملكًا، ومن جَزِعَ ولم يَصبرْ على مجاهدة ذلك، غُلِب وقُهر وأُسر، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا في يدي شيطانه وهواه، كما قيل:
إذا المَرءُ لم يَغلِبْ هواهُ أقامه
…
بمنزلةٍ فيها العَزيزُ ذَليلُ
قال ابن المبارك: من صبر، فما أقلَّ ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن النصر مع الصبر" يشملُ النصرَ في الجهادين: جهاد العدوِّ الظاهر، وجهاد العدوِّ الباطن، فمن صبرَ فيهما، نُصِرَ وظفر بعدِّوه، ومن لم يصبر فيهما وجَزِعَ، قُهِرَ وصار أسيرًا لعدوّه أو قتيلًا له.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن الفرج مع الكرب" هذا يشهد له قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ضَحكَ ربنا من قُنوط عباده وقُربِ غِيَرِهِ" خرَّجه الإِمام أحمد
(2)
، وخرَّجه ابنُه عبدُ
(1)
رواه الطبراني (3445) من حديث أبي مالك الأشعري، قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 245: فيه محمد بن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف. وأورده الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 182 بصيغة التمريض.
(2)
رواه من حديث أبي رزين العقيلي أحمد 4/ 11 و 12، وفي "السنة"(452) و (453) =
الله في حديث طويل، وفيه: "علم الله يوم الغيث أنه ليشرف عليكم أزِلِينَ
(1)
قَنِطينَ، فيظلُّ يضحك قد علم أن غِيَرَكُم إلى قُرب"
(2)
والمعنى أنه سبحانه يعجب من قنوط عباده عندَ احتباس القطر عنهم وقنوطهم ويأسهم من الرحمة، وقد اقترب وقتُ فرجه ورحمته لعباده، بإنزالِ الغيثِ عليهم، وتغييره لحالهم وهم لا يشعرون. وقال تعالى:{فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 48، 49]. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]. وقال: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. وقال حاكيًا عن يعقوبَ أنه قال لبنيه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87]، ثم قصَّ قصة اجتماعهم عَقيبَ ذلك.
وكم قصَّ سبحانه من قصص تفريجِ كُرُباتِ أنبيائه عند تناهي الكَرْب كإنجاء نوح ومَنْ معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليمّ، وإغراق عدوِّهم، وقصة أيوب ويونس، وقصص محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مع أعدائه، وإنجائه منهم، كقصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، وغير ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنَّ مَعَ العسر يسرًا" هو منتزع من قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ
= وابن ماجه (181)، وابن أبي عاصم في "السنة"(554) والآجري في "الشريعة" ص 279، وإسناده ضعيف.
(1)
الأزل ويروى: "الإِلُّ": الشدة والضيق. انظر "النهاية" لابن الأثير 1/ 46 و 61.
(2)
رواه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" 4/ 13 - 14، وأورده الهيثمي في "المجمع" 10/ 338 - 340، وقال: رواه عبد الله والطبراني بنحوه، وأحد طريقي عبد الله إسناده متصل، ورجالها ثقات، والإِسناد الآخر وإسناد الطبراني مرسل.
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، وقوله عز وجل:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6].
وخرَّج البزار في "مسنده"، وابن أبي حاتم - واللفظ له - من حديث أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لو جاء العُسْرُ، فدخل هذا الجُحر، لجاء اليسر حتَّى يدخل عليه فيخرجه" فأنزل الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
(1)
.
وروى ابنُ جرير وغيره من حديث الحسن مرسلًا نحوه، وفي حديثه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يَغْلِبَ عُسرٌ يُسرين"
(2)
.
وروى ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن ابن مسعود قال: لو أن العسِر دخل في جحر لجاء اليسر حتَّى يدخل معه، ثم قال: قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
(3)
. وبإسناده أن أبا عبيدة حُصِرَ فكتب إليه عمرُ
(1)
رواه البزار (2288)، وابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 8/ 453، والحاكم 2/ 255 من طريق حميد بن حماد أبو الجهم عن عائذ بن شريح، عن أنس، وقال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ، وقال ابن أبي حاتم فيما نقله عنه ابن كثير: في حديثه ضعف، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن عبد الله بن مسعود موقوفًا، وقال الحاكم: هذا حديث عجيب غير أن الشيخين لم يحتجا بعائذ بن شريح، ورده الذهبي بقوله: تفرَّد به حميد بن حماد عن عائذ، وحميد منكر الحديث كعائذ. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 550، وزاد نسبته إلى الطبراني في "الأوسط" وابن مردويه والبيهقي في "الشعب". وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 139: رواه الطبراني في "الأوسط" والبزار، وفيه عائذ بن شريح، وهو ضعيف.
(2)
رواه الطبري 30/ 235 - 236، والحاكم 2/ 528 عن الحسن مرسلًا، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 8/ 551 وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والبيهقي.
(3)
رواه ابن أبي الدُّنيا في "الصبر" كما في "الدر المنثور" 8/ 551، ورواه أيضًا الطبراني =
يقول: مهما ينزل بامرئٍ شدَّةٌ يجعل الله بعدها فرجًا، وإنه لن يَغلِبَ عسرٌ يُسرين، وإنه يقول:{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]
(1)
.
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليُسر بالعسر: أن الكربَ إذا اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى، حصل للعبد الإِياسُ من كَشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبُه بالله وحده، وهذا هو حقيقةُ التوكُّل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تُطلَبُ بها الحوائجُ، فإن الله يكفي من توكَّل عليه، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
وروى آدمُ بنُ أبي إياس في تفسيره بإسناده عن محمد بن إسحاق قال: جاء مالكٌ الأشجعي إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أُسِرَ ابني عوفٌ، فقال له:"أرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُكَ أن تُكثِرَ من قول: لا حول ولا قوَّة إلا بالله" فأتاه الرسولُ فأخبره، فأكبَّ عوفٌ يقول: لا حولَ ولا قوَّة إلَّا بالله، وكانوا قد شدُّوه بالقِدِّ
(2)
فسقط القِدُّ عنه، فخرج فإذا هو بناقةٍ لهم فركبها، فأقبل فإذا هو بسَرحِ القوم الَّذين كانوا شدُّوه، فصاح بهم، فاتبع آخرُها أوَّلها، فلم يفجأ أبويه إلَّا وهو ينادي
= في "الكبير"(19977) وإسناده ضعيف، وانظر "مجمع الزوائد" 7/ 139. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" وزاد نسبته إلى عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر والبيهقي في "الشعب".
(1)
ورواه ابن أبي شيبة 5/ 335 و 13/ 37 - 38، وابن المبارك في "الجهاد"(217)، ومن طريقه الحاكم 2/ 300 - 301 عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. ورواه مالك 2/ 446، ومن طريقه الطبري في "جامع البيان"(8393) عن زيد بن أسلم، قال: كتب أبو عبيدة، ولم يذكر زيد بن أسلم عن أبيه.
(2)
القد: وتر القوس.
بالباب، فقال أبو: عوفٌ وربِّ الكعبة، فقالت أمه: واسوأتاه، وعوف كئيب يألم ما هو فيه مِنَ القِدِّ، فاستبقَ الأبُ والخادمُ إليه، فإذا عوفٌ قد ملأ الفناء إبلًا، فقصَّ على أبيه أمرَه وأمرَ الإِبل، فأتى أبوهُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخبرِ عوفٍ وخبرِ الإِبل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اصنع بها ما أحببتَ، وما كنت صانعًا بإبلك"، ونزل:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3] الآية
(1)
.
قال الفضيل: والله لو يئستَ مِنَ الخلق حتَّى لا تريد منهم شيئًا، لأعطاك مولاك كُلَّ ما تُريد. وذكر إبراهيمُ بنُ أدهم عن بعضهم قال: ما سأل السائلون مسألةً هي ألحفُ مِنْ أن يقولَ العبدُ: ما شاء الله، قال: يعني بذلك التَّفويض إلى الله عز وجل. وقال سعيدُ بن سالم القداح: بلغني أن موسى عليه السلام كانت له إلى الله حاجة، فطلبها، فأبطأت عليه، فقال: ما شاء الله، فإذا حاجتُه بَيْنَ يديه، فعجب، فأوحى الله إليه: أما علمتَ أن قولَك: ما شاء الله أنجحُ ما طُلِبَتْ به الحوائج.
وأيضًا فإنَّ المؤمن إذا استبطأ الفرج، وأيس منه بعدَ كثرة دعائه وتضرُّعه، ولم يظهر عليه أثرُ الإِجابة يرجع إلى نفسه باللائمة، وقال لها: إنَّما أُتيتُ من قِبَلِكَ، ولو كان فيك خيرٌ لأُجِبْتُ، وهذا اللومُ أحبُّ إلى الله من كثيرٍ من الطَّاعات، فإنَّه يُوجبُ انكسار العبدَ لمولاه واعترافه له بأنه أهلٌ لما نزل به من البلاء، وأنه ليس بأهلٍ لإِجابة الدعاء، فلذلك تُسرِعُ إليه حينئذ إجابةُ الدعاء وتفريجُ الكرب، فإنَّه تعالى عندَ المنكسرةِ قلوبهم من أجله.
(1)
ضعيف لانقطاعه، رواه ابن الأثير في "أسد الغابة" 5/ 41 من طريق آدم بن أبي إياس، ورواه ابن أبي هاشم كما في "تفسير ابن كثير" 8/ 183 - 184 من طريق ابن إسحاق، وانظر ص 432 ت (1).
قال وهب: تعبَّدَ رجل زمانًا، ثم بدت له إلى الله حاجةٌ، فصام سبعين سبتًا، يأكلُ في كُلِّ سبتٍ إحدى عشرة تمرة، ثم سأل الله حاجته فلم يُعطَها، فرجع إلى نفسه فقال: منك أُتيتُ، لو كان فيك خيرٌ، أعطيت حاجتك، فنزل إليه عند ذلك مَلَكٌ، فقال: يا ابنَ آدم ساعتُك هذه خيرٌ من عبادتك التي مضت، وقد قضى الله حاجتك. خرَّجه ابن أبي الدُّنيا
(1)
.
ولبعض المتقدمين في هذا المعنى:
عسى ما ترى أنْ لا يَدومَ وأن تَرَى
…
لهُ فَرجًا مِمَّا أَلحَّ به الدَّهرُ
عَسى فَرَجٌ يأْتِي به الله إنَّه
…
لَهُ كُلَّ يَومٍ في خَليقتِهِ أَمْرُ
إذا لاحَ عسرٌ فارجُ يُسرًا فإنَّه
…
قَضَى الله أنَّ العُسرَ يَتبَعُهُ اليُسرُ
(2)
(1)
في "محاسبة النفس"(60).
(2)
أنشدها ابن حبان في "روضة العقلاء" ص 159، ونسبها للمنتصر بن بلال الأنصاري وفيه اختلاف في ترتيب الأبيات، وأنشد البيتين الثاني والثالث غير منسوبين التنوخي في "الفرج بعد الشدة" 5/ 56.
الحديث العشرون
عَنْ أبي مَسعودٍ البَدريِّ رضي الله عنه، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبوَّةِ الأوُلى: إذَا لَم تَستَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ" رَواهُ البُخاريُّ
(1)
.
هذا الحديثُ خرَّجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حِراش، عن أبي مسعود، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأظن أن مسلمًا لم يخرجه، لأنه قد رواه قوم، فقالوا: عن رِبعي، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
فاختلف في إسناده، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأنَّ القولَ قولُ من قال: عن أبي مسعود، منهم البخاري، وأبو زرعة الرازي
(3)
، والدارقطني
(4)
وغيرهم، ويدلُّ على صحة ذلك
(1)
رواه الطيالسي (621)، وأحمد 4/ 121 و 122 و 5/ 273، وابنه عبد الله في "زوائد المسند" 5/ 273، والبخاري (3483)، و (3484) و (6120)، وفي "الأدب المفرد"(597) و (1316)، وأبو داود (4797)، وابن ماجه (4183)، وابن أبي الدُّنيا في "مكارم الأخلاق"(83)، والطبراني في "الأوسط"(2332)، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 370 و 8/ 124، والبيهقي في "السنن" 10/ 192، وفي "الآداب"(198)، والبغوي (3597)، وصححه ابن حبان (607).
(2)
حديث حذيفة رواه أحمد 5/ 383 و 405، والبزار (2028)، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 371، وفي "أخبار أصبهان" 2/ 78، والخطيب في "تاريخه" 2/ 135 و 136، وإسناده صحيح على شرط مسلم. وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 27، وقال: رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح.
(3)
نقله عنه ابن أبي حاتم في "العلل" 2/ 338.
(4)
في "العلل" كما في "الفتح" 6/ 523.
أنَّه قد رُويَ من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه
(1)
.
وخرَّجه الطبراني من حديث أبي الطفيل، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أيضًا
(2)
.
فقولُه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ممَّا أدرك الناسُ من كلام النبوَّةِ الأولى" يشيرُ إلى أن هذا مأثورٌ عن الأنبياء المتقدمين، وأنَّ الناس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرنًا بعد قرنٍ، وهذا يدلُّ على أن النبوات المتقدِّمة جاءت بهذا الكلام، وأنه اشتهر بَيْنَ الناسِ حتَّى وصل إلى أوَّل هذه الأمة. وفي بعض الروايات قال:"لم يدركِ الناسُ مِنْ كلام النبوَّةِ الأولى إلَّا هذا". خرَّجها حميدُ بن زنجويه وغيره.
وقوله: "إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت" في معناه قولان:
أحدهما: أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذمِّ والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان:
أحدهما: أنه أمرٌ بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن لك حياء، فاعمل ما شئت، فإن الله يجازيك عليه، كقوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، وقوله:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15]، وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"من باع الخمر، فَليُشَقِّص الخنازير"
(3)
يعني ليقطعها إما لبيعها
(1)
رواه عبد الرزاق (20149)، وإسناده صحيح.
(2)
رواه الطبراني في "الأوسط" وذكره الهيثمي في "المجمع" 8/ 27، وقال: فيه من لم أعرفهم.
(3)
رواه من حديث المغيرة بن شعبة بن أبي شيبة 6/ 445 - 446، وأحمد 4/ 253 وأبو داود (3489)، والبيهقي 6/ 12، والمزي في "تهذيب الكمال" 13/ 385، وفيه عمر بن بيان التغلبي، لم يوثقه غير ابن حبان. وقوله:"فليشقص الخنازير" قال ابن الأثير: أي: فليقطعها قطعًا، ويفصلها أعضاء كما تفصل الشاة إذا بيع لحمها، يقال: =
أو لأكلها، وأمثلته متعدِّدة، وهذا اختيارُ جماعة منهم أبو العباس ثعلب.
والطريق الثاني: أنه أمر، ومعناه: الخبر، والمعنى: أن من لم يستحي، صنع ما شاء، فإن المانعَ من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كلِّ فحشاء ومنكر، وما يمتنع من مثله من له حياء على حدِّ قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَذَب عليَّ فليتبوَّأ مقعده من النارِ"
(1)
، فإن لفظه لفظُ الأمر، ومعناه الخبر، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار، وهذا اختيارُ أبي عبيد
(2)
القاسم بن سلام رحمه الله، وابنِ قتيبة، ومحمدِ بن نصر المروزي وغيرهم، وروى أبو داود عن الإِمام أحمد ما يدلُّ على مثل هذا القول.
وروى ابنُ لهيعة عن أبي قَبيل، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا أبغض الله عبدًا، نزَعَ مِنْهُ الحَياءَ، فإذا نزع منه الحياءَ، لم تلقه إلا بغيضًا متبغِّضًا، ونزع منه الأمانة، فإذا نزع منه الأمانة، نزع منه الرَّحمة، فإذا نزع منه الرَّحمةَ، نزع منه رِبْقَةَ الإِسلام، فإذا نزع منه رِبقةَ الإِسلام، لم تلقه إلا شيطانًا مريدًا". خرَّجه حميدُ بنُ زنجويه
(3)
، وخرَّجه ابنُ ماجه
(4)
بمعناه بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعًا أيضًا.
وعن سلمان الفارسي قال: إنَّ الله إذا أرادَ بعبدٍ هلاكًا، نَزَعَ منه الحياءَ، فإذا
= شقَّصه يُشقصه، وبه سمي القصاب مشقصًا، المعنى: من استحل بيع الخمر. فليستحل بيع الخنزير، فإنهما في التحريم سواء، وهذا لفظ أمر معناه النهي، تقديره من باع الخمر، فليكن للخنازير قصابًا.
(1)
حديث صحيح متواتر روي عن الجم الغفير من الصحابة انظر تخريج الكثير منها في "صحيح ابن حبان"(28) - (31).
(2)
انظر "غريب الحديث" 3/ 32.
(3)
ضعيف وذكره السيوطي في "الجامع الكبير" 1/ 31، ونسبه للبيهقي في "الشعب"(7724).
(4)
رقم (4054) وفي سنده سعيد بن سنان، وهو متروك، واتهمه الدارقطني بالوضع.
نزع منه الحياء، لم تلقه إلَّا مقيتًا مُمَقَّتًا، فإذا كان مقيتًا ممقتًا، نزع منه الأمانةَ، فلم تلقه إلا خائنًا مخوَّنًا، فإذا كان خائنًا مخونًا، نزع منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظًا غليظًا، فإذا كان فظًا غليظًا، نزع رِبْقَ الإِيمان من عنقه، فإذا نزع رِبْقَ الإِيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانًا لعينًا ملعنًا
(1)
.
وعن ابن عباس، قال: الحياءُ والإِيمانُ في قَرَنٍ، فإذا نُزِعَ الحياءُ، تبعه الآخر. خرَّجه كله حميدُ بن زنجويه في كتاب "الأدب"
(2)
.
وقد جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحياءَ مِنَ الإِيمان كما في "الصحيحين" عن ابن عمر أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجلٍ وهو يُعاتِبُ أخاه في الحياء يقولُ: إنك لتستحيي، كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"دَعْهُ، فإنَّ الحياءَ مِنَ الإِيمانِ"
(3)
.
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 204.
(2)
ورواه الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 92: وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب.
قلت: في الباب ما يُغني عنه، فقد روى الحاكم 1/ 22، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 297 من طريقين عن موسى بن إسماعيل التبوذكي، حدثنا جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الحياء والإِيمان قرنا جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر" وهذا سند صحيح على شرطهما كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الحافظ العراقي فيما نقله عنه المناوي: حديث صحيح غريب إلا انه اختلف على جرير بن حازم في رفعه ووقفه.
قلت: رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 525 عن أبي أسامة، عن جرير، عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قوله.
وعن أبي موسى الأشعري عند الطبراني في "الصغير"(622)، و "الأوسط" ومن طريقه الخطيب في "تاريخه" 10/ 95 عن شيخه عبد الله بن محمد بن عبيدة القومسي، وقال: تفرد به.
(3)
رواه البخاري (24) و (6118)، ومسلم (36)، ومالك 2/ 905، وأحمد 2/ 9، وأبو =
وفي "الصحيحين" عن أبي هُريرة قال: "الحياءُ شُعبةٌ من الإِيمان"
(1)
.
وفي "الصحيحين" عن عمران بن حصين، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الحياءُ لا يأتي إلَّا بخيرٍ" وفي رواية لمسلم قال: "الحياء خيرٌ كلُّه"، أو قال:"الحياءُ كلُّه خير"
(2)
.
وخرَّج الإِمام أحمد والنسائي من حديث الأشج العصري قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فيك لخُلُقَيْن يُحبُّهما الله"، قلت: ما هما؟ قال: "الحِلْمُ والحياء" قلت: أقديمًا كان أو حديثًا؟ قال: "بل قديمًا"، قلت: الحمد لله الذي جعلني على خُلُقين يحبهما الله.
(3)
وقال: إسماعيل بن أبي خالد دخل عيينة بنُ حِصنٍ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعنده رجلٌ فاستسقى، فأُتِيَ بماءٍ فشرب، فستره النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال:
= داود (4795)، والترمذي (2615)، والنسائي 8/ 121، وابن ماجه (58)، وصححه ابن حبان (610).
(1)
رواه البخاري (9)، ومسلم (35)، والنسائي 8/ 110، وصححه ابن حبان (167) و (190).
(2)
رواه البخاري (6117)، ومسلم (37).
(3)
رواه أحمد 4/ 206، والنسائي في "فضائل الصحابة"(210)، والبخاري في "الأدب المفرد"(584)، وابن أبي شيبة 8/ 522 - 523، وابن سعد في "الطبقات" 5/ 558، وابن الأثير في "أسد الغابة" من طريق عبد الرَّحمن بن أبي بكرة عن الأشج. وذكره الهيثمي في "المجمع" 9/ 387 - 388، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، إلا أن ابن أبي بكرة لم يسمع من الأشج قلت: ورواه مسلم في "صحيحه"(18) في خبر مطول من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
واسم الأشج: المنذر بن عائذ العبدي العصَري قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد عبد القيس.
"الحياء خلَّةٌ أُوتوها ومُنِعْتُموها"
(1)
.
واعلم أن الحياء نوعان:
أحدهما: ما كان خَلْقًا وجِبِلَّةً غير مكتسب، وهو من أجلِّ الأخلاق التي يَمنَحُهَا الله العبدَ ويَجبلُه عليها، وَلهذا قال صلى الله عليه وسلم:"الحياء لا يأتي إلَّا بخير"، فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءةِ الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِنْ خصال الإيمان بهذا الاعتبار، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من استحيى، اختفى، ومن اختفى، اتقى، ومن اتقى وُقي.
وقال الجَرَّاح بنُ عبد الله الحكمي - وكان فارس أهل الشام -: تركتُ الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع
(2)
. وعن بعضهم قال: رأيتُ المعاصي نذالةً، فتركتها مُروءَةً، فاستحالت دِيانة.
والثاني: ما كان مكتسبًا من معرفة اللهِ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمِه بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور، فهذا من أعلى خصالِ الإيمان، بل هو مِنْ أعلى درجات الإحسان، وقد تقدَّم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لِرجل:"استحي مِنَ اللهِ كما تستحي رجلًا مِنْ صالحِ عشيرتِكَ"
(3)
.
وفي حديث ابن مسعود: "الاستحياءُ مِنَ اللهِ أن تحفط الرَّأسَ وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموتَ والبلَى؛ ومن أراد الآخرة تركَ زينةَ الدُّنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيى مِنَ الله" خرَّجه الإمامُ أحمد والترمذي مرفوعًا
(4)
.
(1)
رواه ابن أبي شيبة 8/ 524 عن وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: دخل عُيينة، وفيه:"أعطوها وضيعتموها".
(2)
انظر "السير" 5/ 190.
(3)
تقدم تخريجه ص 78.
(4)
رواه أحمد 1/ 408، والترمذي (2458)، وابن أبي شيبة 13/ 223، وفيه الصباح بن=
وقد يتولَّدُ من الله الحياءُ من مطالعة نِعمه ورؤية التقصير في شكرها، فإذا سُلِبَ العبدُ الحياءَ المكتسب والغريزي، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح، والأخلاق الدنيئة، فصار كأنه لا إيمانَ له. وقد روي من مراسيل الحسن، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الحياء حياءانِ: طَرفٌ من الإيمان، والآخر عجز" ولعله من كلام الحسن، وكذلك قال بُشَير بن كعب العدوي لِعمران بن حصين: إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينةً ووقارًا لله، ومنه ضعف، فغضب عِمران وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه
(1)
؟
والأمر كما قاله عِمران رضي الله عنه، فإن الحياءَ الممدوح في كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم إنما يُريد به الخُلُقَ الذي يَحُثُّ على فعل الجميل، وتركِ القبيح، فأمَّا الضعف والعجزُ الذي يوجب التقصيرَ في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده، فليس هو من الحياء، إنما هو ضعفٌ وخوَرٌ، وعجزٌ ومهانة، والله أعلم.
= محمد، وهو ضعيف ويرفع الموقوف، وقال الذهبي في "الميزان" 2/ 306 رفع حديثين هما من قول عبد الله. ومع ذلك فقد صححه الحاكم 4/ 323، ووافقه الذهبي. وذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 400 و 4/ 239 - 240، وصوب وقفه على ابن مسعود. ورواه من طريق آخر الطبراني في "الكبير"(10290)، و"الصغير"(494)، وعنه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 209، وقال: غريب. وفيه: السري بن سهل شيخ الطبراني، قال البيهقي: لا يحتج به ولا بشيخه، وقال ابن عدي: كان يسرق الحديث.
وله شاهد لا يُفرح به من حديث عائشة عند الطبراني في "الأوسط"، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وهو متروك، قاله الهيثمي في "المجمع" 10/ 284، وآخر مثله من حديث الحكم بن عمير، رواه الطبراني في "الأوسط" قال الهيثمي: وفيه عيسى بن إبراهيم القرشي، وهو متروك، وثالث من حديث الحسن مرسلًا، رواه ابن المبارك في "الزهد"(317).
(1)
انظر ص 450 ت (1).
والقول الثاني في معنى قوله: "إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت": أنَّه أمر بفعل ما يشاء على ظاهرِ لفظه، وأن المعنى: إذا كان الذي تريدُ فعله مما لا يُستحيى من فعله، لا من الله ولا من الناس، لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة، فاصنعْ منه حينئذ ما شئتَ، وهذا قولُ جماعةٍ من الأئمة، منهم أبو إسحاق المروزي الشافعي، وحُكي مثله عن الإِمام أحمد، ووقع كذلك في بعض نسخ "مسائل أبي داود" المختصرة عنه، ولكن الذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبلُ، وكذلك حكاه عنه الخلال في كتاب "الأدب"، ومن هذا قولُ بعض السلف - وقد سئل عن المروءة - فقال: أن لا تعملَ في السرِّ شيئًا تستحيي منه في العلانية، وسيأتي قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:"الإِثم ما حاكَ في صدرك، وكرهتَ أن يطلع عليه الناس" في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
(1)
.
وروى عبد الرزاق في كتابه
(2)
عن معمر عن أبي إسحاق عن رجلٍ من مزينة قال: قيلَ: يا رسولَ الله، ما أفضلُ ما أوتي الرجلُ المسلم؟ قال:"الخلق الحسن"، قال: فما شرُّ ما أُوتي المسلم؟ قال: "إذا كرهت أن يُرى عليكَ شيءٌ في نادي القوم، فلا تفعله إذا خلوتَ".
وفي "صحيح ابن حبان"
(3)
عن أسامةَ بن شريك قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما كرهَ الله منكَ شيئًا، فلا تفعله إذا خلوتَ".
وخرَّج الطبرانيُّ من حديثِ أبي مالكٍ الأشعري قال: قلت: يا رسول اللهِ
(1)
هو الحديث السابع والعشرون.
(2)
"المصنف"(20151).
(3)
برقم (403)، وفيه مؤمل بن إسماعيل، وهو سيء الحفظ.
ما تمامُ البرِّ؟ قال: "أن تعمل في السرِّ عملَ العلانية"
(1)
. وخرَّجه أيضًا من حديث أبي عامر السكوني، قال: قلت: يا رسولَ الله، فذكره
(2)
.
وروى عبد الغني بنُ سعيد الحافظ في كتاب "أدب المحدث" بإسناده عن حرملةَ بن عبد الله، قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لأزداد مِنَ العلمِ، فقمتُ بين يديه، فقلت: يا رسولَ اللهِ، ما تأمُرني أن أعملَ به؟ قال:"ائتِ المعروفَ، واجتنبِ المنكرَ، وانظر الذي سمعته أُذُنُكَ مِنَ الخيرِ يقولُه القومُ لك إذا قمتَ من عندهم فأتِه، وانظرِ الذي تكره أن يقولَه القومُ لك إذا قمتَ مِنْ عندهم، فاجتنبه" قال: فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئًا: إتيانُ المعروف، واجتنابُ المنكر
(3)
.
وخرَّجه ابن سعد في "طبقاته"
(4)
بمعناه.
وحكى أبو عبيد
(5)
في معنى الحديث قولًا آخر حكاه عن جرير قال: معناه أن يُريدَ الرجلُ أن يعمل الخيرَ، فيدعهُ حياءً من الناس كأنه يخاف الرِّياء، يقول: فلا يمنعنك الحياءُ مِنَ المُضيِّ لما أردت، كما جاء في الحديث:"إذا جاءك الشيطانُ وأنت تصلِّي، فقال: إنَّك تُرائي، فزدها طولًا" ثم قال أبو عُبيد: وهذا
(1)
رواه الطبراني في "الكبير"(3420) وفي سنده ابن لهيعة وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم وكلاهما ضعيف، وانظر "مجمع الزوائد" 10/ 290.
(2)
رواه الطبراني في "الكبير" 22/ (800) وفيه ابن لهيعة وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم أيضًا. انظر "المجمع".
(3)
ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(222)، وأبو داود الطيالسي 1/ 319، وأحمد 4/ 305، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 359، وابن الأثير في "أسد الغابة" 1/ 475، وذكره الحافظ في "الإصابة" 1/ 319 وحسن إسناده.
(4)
7/ 50.
(5)
في "غريب الحديث" 3/ 31.
الحديث ليس يجيء سياقُه ولا لفظُه على هذا التفسير، ولا على هذا يحمله الناس.
قلت: لو كان على ما قاله جرير، لكان لفظُ الحديث: إذا استحييتَ مما لا يُستحيى منه، فافعل ما شئتَ، ولا يخفى بُعْدُ هذا من لفظ الحديث ومعناه، والله أعلم.
الحديث الحادي والعشرون
عَنْ سُفيانَ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه، قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسلام قولًا لَا أسألُ عَنْهُ أَحدًا غَيرَكَ، قال:"قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثمَّ استقِمْ" رواهُ مُسلم
(1)
.
هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن سفيان، وسفيان: هو ابنُ عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة، وكان عاملًا لعمرَ بن الخطَّاب على الطائف.
وقد رُوي عن سفيان بن عبد الله من وجوهٍ أخَرَ بزيادات، فخرجه الإِمام أحمد، والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، وعند الترمذي: عبد الرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبد الله قال: قلتُ: يا رسولَ الله، حدثني بأمرٍ أعتصمُ به، قال:"قل: ربي الله، ثم استقم". قلتُ: يا رسول اللهِ، ما أخوفُ ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال:"هذا"، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وخرجه الإِمام أحمد، والنسائي من رواية عبدِ الله بن سفيان الثقفي، عن أبيه أن رجلًا قال: يا رسولَ الله، مرني بأمرٍ في الإِسلام لا أسألُ عنه أحدًا بعدَك،
(1)
رواه مسلم (38)، وأحمد 3/ 413، والترمذي (2410)، وابن ماجه (3972)، والنسائي في "الكبرى" كما في "التحفة" 4/ 20، والطبراني في "الكبير"(6396) و (6397)، والطيالسي (1231)، والدارمي 2/ 298، وصححه ابن حبان (942).
قال: "قل: آمنتُ بالله، ثم استقم". قلت: فما أتَّقي؟ فأومأ إلى لسانه
(1)
.
قول سفيان بن عبد الله للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "قُلْ لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدَك" طلب منه أن يُعلمه كلامًا جامعًا لأمر الإسلام كافيًا حتى لا يحتاجَ بعدَه إلى غيره، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"قل: آمنتُ باللهِ، ثم استقم"، وفي الرواية الأخرى:"قل: ربي الله، ثم استقم". هذا منتزع من قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30]، وقوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13].
وخرَّج النسائي في "تفسيره" من رواية سهيل بن أبي حزم: حدثنا ثابت، عن أنس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فقال: "قد قالها الناسُ، ثم كفروا، فمن مات عليها فهو مِن أهل الاستقامة". وخرَّجه الترمذي، ولفظه: فقال: "قد قالها الناس، ثم كفر أكثرُهم، فمن مات عليها، فهو مِمَّنِ استقامَ"، وقال: حسن غريب
(2)
، وسهيل تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حفظه.
(1)
رواه أحمد 3/ 413 و 4/ 384 و 385، والنسائي في "التفسير" كما في "التحفة" 4/ 20، والطبراني (6398) وإسناده صحيح.
(2)
رواه النسائي في "التفسير" كما في "تحفة الأشراف" 1/ 139، والترمذي (3250)، والطبري في "جامع البيان" 24/ 114، وأبو يعلى (3495). وسهيل بن أبي حزم ضعيف، ونقل المصنف عن الترمذي قوله: حسن غريب خطأ، والصواب "غريب" فقط كما في أصول الترمذي الخطية التي عندنا وهي نسخ صحيحة معتمدة، وكذلك جاء على الصواب في "تحفة الأشراف" 1/ 139، و"تحفة الأحوذي" 4/ 179، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 321، وزاد نسبته إلى البزار وابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه.
وقال أبو بكر الصديق في تفسير {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: لم يشركُوا بالله شيئًا
(1)
. وعنه قال: لم يلتفتوا إلى إله غيره
(2)
. وعنه قال: ثم استقاموا على أن الله رَبُّهم.
وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: هذه أرخصُ آية في كتاب الله {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على شهادة أن لا إله إلا الله
(3)
. وروي نحوه عن أنس ومجاهد والأسود بن هلال، وزيد بن أسلم، والسُّدِّيِّ وعكرمة وغيرهم.
ورُويَ عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، فقال: لم يَروغوا رَوَغَانَ الثَّعلب
(4)
.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: استقاموا على أداءِ فرائضه
(5)
.
وعن أبي العالية، قال: ثمَّ أخلصوا له الدينَ والعملَ
(6)
.
وعن قتادة قال: استقاموا على طاعة الله، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية
(1)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(326) والطبري في "جامع البيان" 24/ 114، ونسبه السيوطي في "الدر المنثور" 7/ 321 - 322 إلى عبد الرزاق والفريابي، وسعيد بن منصور، ومسدد، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2)
رواه الطبري 24/ 115.
(3)
رواه ابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير 7/ 165، وفيه حفص بن عمر العدني، وهو ضعيف.
(4)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(325)، وأحمد في "الزهد" أيضًا ص 115، والطبري في "جامع البيان" 24/ 115، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عمر. وهذا سند رجاله ثقات، لكن فيه انقطاع بين الزهري وبين عمر.
(5)
رواه الطبري 24/ 115، وعلي بن أبي طلحة لم ير ابن عباس.
(6)
ذكره ابن كثير في "تفسيره" 7/ 165.
قال: اللهمَّ أنت ربنا فارزقنا الاستقامة
(1)
.
ولعل من قال: إن المرادَ الاستقامة على التوحيد إنَّما أرادَ التوحيدَ الكاملَ الذي يُحرِّمُ صاحبَه على النار، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فإنَّ الإله هو الذي يُطاعُ، فلا يعصى خشيةً وإجلالًا ومهابةً ومحبةً ورجاءً وتوكُّلًا ودعاءً، والمعاصي كلُّها قادحة في هذا التوحيد، لأنها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان، قال الله عز وجل:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قال الحسن وغيره: هو الذي لا يهوى شيئًا إلَّا ركبه
(2)
، فهذا يُنافي الاستقامة على التوحيد.
وأما على رواية من روى: "قُلْ: آمنْتُ باللهِ"، فالمعنى أظهر، لأن الإِيمانَ يدخل فيه الأعمالُ الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهلِ الحديث، وقال الله عز وجل:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]، فأمره أن يستقيمَ هو ومن تاب معه، وأن لا يُجاوزوا ما أُمِروا به، وهو الطغيانُ، وأخبر أنَّه بصيرٌ بأعمالهم، مطَّلعٌ عليها، وقال تعالى:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15]. قال قتادة: أُمِرَ محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقيمَ على أمر الله
(3)
. وقال الثوري: على القرآن
(4)
، وعن الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية شَمَّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فما رؤي ضاحكًا. خرَّجه ابن أبي حاتم
(5)
. وذكر القُشَيْريُّ وغيره عن بعضهم: أنَّه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: يا رسولَ الله قلتَ: "شَيَّبَتني هُودٌ وأخواتُها"، فما شيَّبك
(1)
رواه الطبري 24/ 115.
(2)
ورواه الطبري 25/ 150 عن قتادة.
(3)
رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 479.
(4)
رواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" 4/ 480.
(5)
وزاد نسبته السيوطي في "الدر المنثور" إلى أبي الشيخ.
منها؟ قال: "قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} "
(1)
.
وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6].
وقد أمرَ الله تعالى بإقامةِ الدِّين عمومًا كما قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا} [الشورى: 13]، وأمَر بإقام الصلاة في غير موضعٍ من كتابه، كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين.
والاستقامة: هي سلوكُ الصِّراط المستقيم، وهو الدِّينُ القيّم من غير تعريج عنه يَمنةً ولا يَسرةً، ويشمل ذلك فعلَ الطَّاعات كلّها، الظاهرة والباطنة، وتركَ المنهيات كلّها كذلك، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصال الدِّين كُلِّها.
وفي قوله عز وجل: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} إشارةٌ إلى أنَّه لا بُدَّ من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيُجْبَرُ ذلك بالاستغفار المقتضي للتَّوبة والرُّجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"اتَّقِ الله حيثُما كُنتَ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تَمحُها"
(2)
. وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يُطيقوا
(1)
الأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 398، ونسبه إلى "شعب الإيمان" للبيهقي (2439) من قول أبي علي السدي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "شيبتني هود وأخواتها، حديث صحيح روي من حديث أبي بكر الصديق وابن عباس، وعقبه بن عامر، وأنس بن مالك، وأبي حنيفة، وعمران بن حصين، وهي مخرجة في مسند أبي بكر (30) بتحقيقنا، قال العلماء: لعل ذلك لما فيهن من التخويف الفظيع والوعيد الشديد لاشتمالهن مع قصرهن على حكاية أهوال الآخرة وعجائبها وفظائعها، وأحوال الهالكين والمعذبين مع ما في بعضهن من الأمر بالاستقامة.
(2)
تقدم تخريجه، وهو الحديث الثامن عشر من هذا الكتاب.
الاستقامة حق الاستقامة، كما خرَّجه الإِمام أحمد، وابن ماجه من حديث ثوبانَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"استَقيموا ولن تُحْصوا، واعلموا أن خيرَ أعمالكُم الصَّلاةُ، ولا يُحافِظُ على الوضوء إلَّا مؤمنٌ"، وفي رواية للإِمام أحمد:"سَدِّدوا وقاربوا، ولا يحافظُ على الوضوء إلَّا مؤمن"
(1)
.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سددوا وقاربوا"
(2)
.
فالسَّدادُ: هو حقيقةُ الاستقامة، وهو الإِصابةُ في جميع الأقوالِ والأعمال والمقاصد، كالذي يرمي إلى غرض، فيُصيبه، وقد أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليًّا أن يسألَ الله عز وجل السَّداد والهدى، وقال له:"اذكر بالسَّدادِ تسديدَكَ السَّهْمَ، وبالهدى هدايتَك الطَّريق"
(3)
.
والمقاربة: أن يُصيبَ ما قَرُبَ مِنَ الغرض إذا لم يُصِبِ الغرضَ نفسَه، ولكن بشرط أن يكونَ مصمِّمًا على قصد السَّداد وإصابة الغرض، فتكون مقاربتُه عن غير عمدٍ، ويدلُّ عليه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحكم بن حزن الكُلَفي:"أيّها الناس، إنَّكم لن تعملوا - أو لن تُطيقوا - كلَّ ما أمرتُكم، ولكن سدِّدوا وأبشروا"
(4)
والمعنى: اقصِدُوا التَّسديدَ والإِصابةَ والاستقامةَ، فإنَّهم لو سدِّدُوا في العمل كلِّه، لكانوا قد فعلوا ما أُمِرُوا به كُلِّه.
فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصدِّيق وغيرُه قولَه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13] بأنَّهم لم
(1)
صحيح وقد تقدم تخريجه.
(2)
رواه البخاري (5673) و (6463)، ومسلم (2816)، وصححه ابن حبان (348).
(3)
رواه أحمد 1/ 88 و 154، ومسلم (2725)، وأبو داود (4225)، والنسائي 8/ 219.
(4)
حديث حسن رواه أحمد 4/ 212، وأبو داود (1096)، وأبو يعلى (6826)، والطبراني في "الكبير"(3165).
يلتفتوا إلى غيره
(1)
، فمتى استقام القلبُ على معرفةِ الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّلِ عليه، والإعراض عما سواه، استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعته، فإن القلبَ هو ملكُ الأعضاء، وهي جنودُه، فإذا استقامَ الملك، استقامت جنودُه ورعاياه، وكذلك فسِّر قولُه تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30] بإخلاص القصد لله وإرادته وحدَه لا شريكَ له.
وأعظم ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلب مِنَ الجوارح اللسانُ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه، ولهذا لما أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، وصَّاه بعدَ ذلك بحفظ لسانه، وفي "مسند الإِمام أحمد" عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيم قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتَّى يستقيمَ لسانُه"
(2)
. وفي "الترمذي" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا وموقوفًا: "إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاءَ كلها تكفر اللِّسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحنُ بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوجَجْتَ اعوججنا"
(3)
.
(1)
انظر ص 208.
(2)
تقدم تخريجه ص 284.
(3)
رواه الترمذي (2407)، وابن المبارك في "الزهد"(1012)، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(12)، ورجح الترمذي وقفه، ولفظ "إنما نحن بك" لم ترد في (ب) و (ج).
الحديث الثاني والعشرون
عَنْ جَابِر بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما أن رَجُلًا سَألَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أرأيتَ إذا صَلَّيتُ المَكتُوبَاتِ، وصُمْتُ رَمَضانَ، وأحْلَلْتُ الحَلالَ، وحَرَّمْتُ الحَرامَ، ولم أَزِدْ على ذلكَ شيئًا، أأدخُلِ الجنَّةَ؟ قال:"نَعَمْ". رواهُ مسلم
(1)
.
هذا الحديثُ خرَّجه مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر، وزاد في آخره: قال: واللُه لا أزيدُ على ذلك شيئًا. وخرَّجه أيضًا من رواية الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال: قال النعمان بنُ قوقل: يا رسولَ الله، أرأيت إذا صليتُ المكتوبةَ، وحرمتُ الحرامَ، وأحللتُ الحلالَ ولم أَزِدْ على ذلك شيئًا أَأَدخُلُ الجَنَّةَ؟ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"نعم".
وقد فسر بعضُهم تحليلَ الحلالِ باعتقادِ حلِّه، وتحريمَ الحرامِ باعتقاد حُرمته مع اجتنابه، ويُحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانُه، ويكون الحلالُ هاهنا عبارةً عمَّا ليسَ بحرامٍ، فيدخل فيه الواجبُ والمستحبُّ والمباحُ، ويكونُ المعنى أنَّه يفعل ما ليس بمحرَّم عليه، ولا يتعدَّى ما أُبيحَ له إلى غيره، ويجتنب المحرَّمات. وقد روي عن طائفةٍ من السَّلفِ، منهم ابنُ مسعود وابن عباس في قوله عز وجل:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]، قالوا: يُحلُّون حلاله ويحرِّمون حرامَه، ولا يُحرِّفونه عن مواضعه
(2)
.
(1)
رواه مسلم (15)، وأحمد 3/ 316، و 348، وأبو يعلى (1940) و (2295).
(2)
رواه عن ابن عباس الطبرى في "جامع البيان"(1883) و (1884) وصححه الحاكم =
والمرادُ بالتحليل والتحريم: فعلُ الحلال واجتنابُ الحرام كما ذُكر في هذا الحديث. وقد قال الله في حقِّ الكفار الذين كانوا يُغيرون تحريمَ الشُّهور الحُرُم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]، والمراد: أنَّهم كانوا يُقاتلون في الشهر الحرام عامًا، فيُحلونه بذلك، ويمتنعون من القتال فيه عامًا، فيحرِّمونَهُ بذلك.
وقال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88 - 89] وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدًا في الدنيا وتقشفًا، وبعضهم حرَّم ذلك عن نفسه، إمَّا بيمينٍ حَلَفَ بها، أو بتحريمه على نفسه، وذلك كُلُّه لا يوجبُ تحريمه في نفس الأمر، وبعضُهم امتنع منه من غير يمينٍ ولا تحريم، فسمَّى الجميع تحريمًا، حيث قصد الامتناعَ منه إضرارًا بالنفس، وكفأ لها عن شهواتها. ويقال في الأمثال: فلان لا يحلِّلُ ولا يحرِّمُ، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام، ولا يقفُ عندَ ما أُبيح له، وإن كان يعتقد تحريمَ الحرام، فيجعلون من فَعَلَ الحرامَ ولا يتحاشى منه مُحلِّلًا له، وإن كان لا يعتقد حله.
وبكلِّ حالٍ، فهذا الحديثُ يدلُّ على أن من قام بالواجبات، وانتهى عن المحرَّمات، دخلَ الجنة، وقد تواترتِ الأحاديثُ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، أو ما هو قريبٌ منه، كما خرَّجهُ النسائي، وابنُ حبان، والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِنْ عبدٍ يُصلِّي الصلواتِ الخمس،
= 2/ 266، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 272، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، ورواه عن ابن مسعود عبد الرزاق في "تفسيره" ومن طريقه الطبري (1887)، وإسناده صحيح.
ويصومُ رمضان، ويُخرجُ الزَّكاة، ويجتنبُ الكبائر السَّبعَ، إلَّا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنة، يدخُلُ من أيِّها شاء"، ثم تلا:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]
(1)
.
وخرَّج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب الأنصاري، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ عبدَ الله، لا يُشرِكُ به، وأقامَ الصَّلاةَ، وآتَى الزَّكاة، وصامَ رمضان، واجتنبَ الكبائرَ، فله الجنةُ - أو دخل الجنة - "
(2)
.
وفي "المسند" عن ابن عباس أن ضِمَامَ بنَ ثعلبةَ وفَدَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذكر له الصَّلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج، وشرائع الإسلام كلها، فلمّا فرغ، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وسأؤدِّي هذه الفرائض، وأجتنبُ ما نهيتني عنه، لا أزيدُ ولا أنقُصُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إن صدقَ دخلَ الجنة"
(3)
. وخرَّجه الطبراني مِنْ وجهٍ آخرَ، وفي حديثه قال: والخامسة لا أَربَ لي فيها يعني الفواحش ثم قال: لأعملنَّ بها، ومن أطاعني، فقال رسولُ صلى الله عليه وسلم:"لئن صدقَ، ليدخلنَّ الجنة"
(4)
.
(1)
رواه النسائي 5/ 8 وابن خزيمة (315) والحاكم 1/ 200، وصححة ابن حبان (1748).
(2)
رواه أحمد 5/ 413، والنسائي 7/ 88، وإسناده صحيح.
(3)
رواه ابن إسحاق في "السيرة" 4/ 219 - 220، ومن طريقه أحمد 1/ 250 و 264.
حدثني محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب مولى عبد الله بن عباس، عن ابن عباس، ومحمد بن الوليد بن نافع ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: يعتبر به، وأخرج حديثه هذا أبو داود (487) مقرونًا بسلمة بن كهيل وهو ثقة. وكذا الطبراني (8149) والدارمي 1/ 165 - 167.
(4)
رواه الطبراني في "الكبير"(8151) من طريق محمد بن فضيل بن غزوان، حدثنا عطاء بن السائب وموسى (بن المسيب أو السائب) أبو جعفر الفراء، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس. =
وفي "صحيح البخاري" عن أبي أيوب أن رجلًا قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يُدخلني الجنة، قال:"تعبدُ الله لا تُشركُ به شيئًا، وتقيمُ الصَّلاة، وتُؤْتِي الزكاةَ، وتَصِلُ الرَّحم". وخرجه مسلم إلَّا أن عنده أنه قال: أخبرني بعمل يُدنيني من الجنَّةِ ويُباعدُني من النَّارِ. وعنده في رواية: فلما أدبرَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن تمسَّك بما أُمِرَ به، دخلَ الجنة"
(1)
.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، دُلَّني على عملٍ إذا عملتُه دخلتُ الجنة، قال:"تعبدُ الله لا تُشركُ به شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ المكتوبة، وتؤدِّي الزكاةَ المفروضة، وتصومُ رمضانَ"، قال: والذي بعثك بالحقِّ، لا أزيدُ على هذا شيئًا أبدًا ولا أَنْقُصُ منه، فلمَّا ولَّى، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سرَّه أن ينظرَ إلى رجلٍ من أهلِ الجنَّة، فلينظر إلى هذا"
(2)
.
وفي "الصحيحين" عن طلحة بن عُبَيد الله أن أعرابيًا جاء إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دائرَ الرأس، فقال: يا رسولَ الله، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصَّلاةِ؟ فقال:"الصلوات الخمس، إلا أن تَطَّوَّع شيئًا"، فقال: أخبرني بما فرض الله عليَّ منَ الصِّيام؟ فقال: "شهر رمضان، إلا أن تطوَّعَ شيئًا" فقال: أخبرني بما فرض الله عليَّ منَ الزَّكاة؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فقال: والذي أكرمك بالحقِّ، لا أتطوَّعُ شيئًا ولا أنقصُ ممَّا فرضَ الله عليَّ شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفلح إن صدق - أو دخل الجنَّة إن صدق - " ولفظه للبخاري
(3)
.
= ورواه بإسقاط موسى أبي جعفر متابع عطاء بن السائب، الدارمي 1/ 165، والطبراني (8152) من طريق محمد بن فضيل به.
(1)
رواه البخاري (1396) و (5982)، ومسلم (13)، وأحمد 5/ 417، و 418، وصححه ابن حبان (3245) و (3246).
(2)
رواه البخاري (1397)، ومسلم (14).
(3)
رواه البخاري (46)، ومسلم (11)، وصححه ابن حبان (1724).
وفي "صحيح مسلم"
(1)
عن أنس أن أعرابيًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه، وزاد فيه:"حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا" فقال: والذي بعثك بالحقِّ لا أزيد عليهن ولا أنقُصُ منهن، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لئنْ صدَقَ، ليدْخُلَنَّ الجنَّة".
ومراد الأعرابي أنه لا يزيدُ على الصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيام رمضان، وحجِّ البيت شيئًا من التطوُّع، ليس مرادُه أنه لا يعمل بشيءٍ من شرائع الإسلام وواجباته غير ذلك، وهذه الأحاديثُ لم يذكر فيها اجتناب المحرمات، لأن السائل إنما سأله عَنِ الأعمال التي يدخل بها عامِلُها الجنة.
وخرَّج الترمذي من حديث أبي أُمامة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ في حجَّةِ الوداع يقول: "أيُّها النَّاس، اتَّقوا الله، وصلُّوا خمسَكم، وصُوموا شهركم، وأدُّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمرِكم، تدخلوا جنّة ربكم" وقال: حسن صحيح، وخرّجه الإمام أحمد، وعنده "اعبدوا ربكم" بدل قوله:"اتقوا الله"
(2)
. وخرَّجه بقي بن مخلد في "مسنده" من وجه آخر، ولفظ حديثه:"صلُّوا خمسَكم، وصوموا شهرَكم، وحُجُّوا بيتكم، وأدُّوا زكاة أموالكم، طيِّبةً بها أنفسكم، تدخلوا جنَّة ربِّكم"
(3)
.
وخرَّج الإمام أحمد بإسناده عن ابن المنتفق، قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات، فقلت: ثنتان أسألُك عنهما: ما يُنجيني من النار، وما يُدخلني الجنة؟ قال: "لئن كنتَ أوجزت في المسألة، لقد أعظمتَ وأطولت، فاعقل عني إذن: اعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأقم الصَّلاةَ المكتوبةَ، وأدِّ الزَّكاةَ المفروضةَ، وصُمْ
(1)
برقم (12). ورواه أيضًا الترمذي (614)، والنسائي 4/ 121، وصححه ابن حبان (155).
(2)
رواه أحمد 5/ 251، والترمذي (616)، والطبراني في "الكبير"(7617) و (7664) و (7676) و (7677)، والحاكم 1/ 9، وصححه ابن حبان (4563).
(3)
ورواه بنحو هذا اللفظ الطبراني في "الكبير"(7535) و (7622) و (7728).
رمضان، وما تُحِبُّ أن يفعله بكَ النَّاسُ، فافعله بهم، وما تكره أن يأتي إليك، الناس، فذرِ الناس منه".
وفي رواية له أيضًا قال: "اتَّقِ الله، لا تشركْ به شيئًا، وتُقيم الصَّلاة، وتُؤتي الزَّكاة، وتحجّ البيت، وتصوم رمضان، ولم تَزِدْ على ذلك"
(1)
وقيل: إن هذا الصحابي هو وافد بني المنتفق، واسمه لقيط
(2)
.
فهذه الأعمال أسبابٌ مقتضية لدخول الجنة، وقد يكونُ ارتكابُ المحرَّمات موانع، ويدلُّ على هذا ما خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن مرّة الجهني، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، شهدتُ أن لا إله إلَّا الله، وأنَّك رسولُ الله، وصلَّيتُ الخمس، وأدَّيتُ زكاةَ مالي، وصُمْتُ شهرَ رمضانَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"من مات على هذا، كان مع النبيّين والصدِّيقينَ والشهداءِ يومَ القيامة هكذا - ونَصَبَ أصبعيه - ما لم يَعُقَّ والديه"
(3)
.
(1)
رواه أحمد 3/ 472 و 6/ 383 و 384، والطبراني 19/ (473). قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 43: في إسناده عبد الله بن أبي عقيل اليشكري، ولم أر أحدًا روى عنه غير ابن المغيرة بن عبد الله، وقال الحافظ في "تعجيل المنفعة" ص 229: ليس بالمشهور، ورواه بنحوه عبد الله بن أحمد في زيادات "المسند" 4/ 76 - 77، والطبراني (5478) عن المغيرة بن سعد بن الأخرم الطائي أو عن عمه. . .، وسعد بن الأخرم الطائي مختلف في صحبته، ذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، وذكره ابن حبان في كتابه "الثقات" في الصحابة 3/ 150، ثم أعاد ذكره في التابعين 4/ 295.
(2)
الصواب أنه غيره، انظر "الإصابة" 3/ 311 و 4/ 185، و"أسد الغابة" 6/ 302.
(3)
سقط من المطبوع من "مسند أحمد"، فقد ورد فيه 4/ 231 حديث واحد لعمرو بن مرة وهو غير هذا، وقد ذكره الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 2/ 311، فقال: وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عيسى بن طلحة، عن عمرو بن مرة الجهني، وأورده الهيثمي في "المجمع" 7/ 147، =
وقد ورد ترتُّب
(1)
دخولِ الجنة على فعلِ بعض هذه الأعمال كالصَّلاةِ، ففي الحديث المشهور:"من صلَّى الصلواتِ لوقتِها، كان له عندَ اللهِ عهدٌ أن يُدخِلَهُ الجنَّة"
(2)
. وفي الحديث الصحيح: "من صَلَّى البَرْدَينِ دخل الجنة"
(3)
، وهذا كلُّه من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه؛ ويدلُّ على هذا ما خرَّجه الإمام أحمد عن بشير بن الخَصاصِيةِ، قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لأُبايعَه، فشرط عليَّ شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأن أُقيمَ الصَّلاةَ، وأن أُوتي الزكاة، وأن أحجَّ حجة الإِسلام، وأن أصومَ رمضان، وأن أُجاهِد في سبيل الله، فقلتُ: يا رسول الله أما اثنتان
(4)
فوالله ما أُطيقُهُما: الجهاد والصَّدقةُ، فقبضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَهَ، ثمَّ حَرَّكَها، وقال:"فلا جهادَ ولا صدقةَ؟ فبمَ تدخلُ الجنَّة إذًا؟ " قلتُ: يا رسول الله أنا أُبايعُك، فبايعتُه عليهنَّ كُلِّهنَّ
(5)
. ففي هذا الحديث أنه لا يكفي في دخول الجنة هذه
= وقال: رواه أحمد والطبراني بإسنادين ورجال أحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح. ورواه البزار (25) بنحوه، وقال الهيثمي 1/ 46: ورجاله رجال الصحيح خلا شيخي البزار، وأرجو إسناده أنه إسناد حسن أو صحيح، وصححه ابن حبان (3438).
(1)
في (ب) و (ج): "ترتيب".
(2)
رواه من حديث عبادة بن الصامت أحمد 5/ 317، وأبو داود (425) و (1420)، والنسائي 1/ 230، وابن ماجه (1401)، وصححه ابن حبان (1731).
(3)
رواه من حديث أبي موسى الأشعري أحمد 4/ 80، والبخاري (574)، ومسلم (635)، وصححه ابن حبان (1739).
(4)
في (ب) و (ج): "اثنتين"، والتصويب من "المسند".
(5)
رواه أحمد 5/ 224، ورجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي المثنى العبدي راويه عن بشر واسمه مؤثر بن عفازة، فقد روى عنه جماعة من التابعين، وكره ابن حبان في "الثقات"، ورواه أيضًا الطبراني في "الكبير"(1233)، و"الأوسط"(1148)، وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 42: ورجال أحمد موثقون.
الخصالُ بدون الزكاة والجهاد.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ارتكابَ بعضِ الكبائر يمنع دخولَ الجنة، كقوله:"لا يدخل الجَنَّةَ قاطع"
(1)
، وقوله:"لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كِبْر"
(2)
، وقوله:"لا تدخلوا الجنة حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤْمِنوا حتَّى تحابُّوا"
(3)
والأحاديث التي جاءت في منع دخول الجنة بالدَّينِ حتى يُقضى
(4)
، وفي الصَّحيح
(5)
: أن المؤمنين إذا جازوا الصِّراطَ، حُبِسُوا عَلى قنطرة يقتصُّ منهم مظالمُ كانت بينهم في الدنيا.
(1)
رواه من حديث جبير بن مطعم أحمد 4/ 80 و 84، والبخاري (5984)، ومسلم (2556)، وأبو داود (1696)، والترمذي (1909)، وصححه ابن حبان (454).
(2)
رواه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 412 و 416، ومسلم (91)، وأبو داود (4091)، والترمذي (1998)، وابن ماجه (4173)، وصححه ابن حبان (224) و (5680).
(3)
وتمام الحديث "ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 442 و 495، ومسلم (54)، وأبو داود (5193)، والترمذي (2688)، وابن ماجه (68)(3692)، وصححه ابن حبان (236).
(4)
روى الطيالسي (891) و (892) وأحمد 5/ 11 و 13 و 20، وأبو داود (3341)، والنسائي 7/ 314 - 315، والحاكم 2/ 25 - 26 من حديث سمرة بن جندب، قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما أقبل، قال:"هاهنا من بني فلان أحد؟ " فسكت القوم، وكان إذا ابتغاهم بشيء سكتوا، ثم قال:"هاهنا من بني فلان أحد؟ " فقال رجل: هذا فلان، فقال:"إن صاحبكم قد حبس على باب الجنة بدين كان عليه"، فقال رجل: عليَّ دينه، فقضاه.
(5)
أي البخاري، وهو فيه (2440) من حديث أبي سعيد الخدري، ولفظه:"إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا نقُّوا وهُذِّبوا، أُذِن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدلّ بمنزله كان في الدنيا".
وقال بعض السلف: إن الرجل ليُحبَسُ على باب الجنَّةِ مئة عامٍ بالذنب كان يعملُه في الدنيا. فهذه كُلُّها موانع.
ومن هنا يظهرُ معنى الأحاديث التي جاءت في ترتيب دخول الجنة على مجرَّد التوحيد، ففي "الصحيحين" عن أبي ذرٍّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما مِنْ عبد قال: لا إله إلا الله ثمَّ مات على ذلك إلَّا دخل الجنة"، قلت: وإن زنى وإن سرق؟! قال: "وإن زنى وإن سرق"، قالها ثلاثًا، ثم قال في الرابعة:"على رغم أنف أبي ذرٍّ"، فخرج أبو ذرٍّ وهو يقول: وإن رغم أنفُ أبي ذرٍّ
(1)
.
وفيهما عن عُبادة بن الصامت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ شهد أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ له، وأنَّ محمدًا عبده ورسولُه، وأن عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنَّةَ حقٌّ، والنَّارَ حقٌّ، أدخله الله الجنة على ما كان من عملٍ"
(2)
.
وفي "صحيح مسلم"
(3)
عن أبي هريرة أو أبي سعيد - بالشَّكِّ - عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، لا يلقى الله بهما عَبْدٌ غيرَ شاكٍّ، فيُحْجَبُ عن الجنة".
وفيه عن أبي هُريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له يومًا: "مَنْ لَقِيتَ يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبُه، فبشِّره بالجنَّة"
(4)
وفي المعنى أحاديث كثيرة جدًّا.
(1)
رواه البخاري (5827)، ومسلم (94)، وأحمد 5/ 166، وصححه ابن حبان (169).
(2)
رواه البخاري (3435)، ومسلم (28)، وأحمد 5/ 314، وصححه ابن حبان (207).
(3)
رقم، (27)(45).
(4)
قطعة من حديث مطول رواه مسلم (31)، وصححه ابن حبان (4543).
وفي "الصحيحين" عن أنس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال يومًا لمعاذ: "ما مِنْ عبدٍ يشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدُه ورسوله إلَّا حرَّمه الله على النار"
(1)
.
وفيهما عن عِتبان بن مالك، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله قد حرَّم على النَّارِ مَنْ قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه اللهِ"
(2)
.
فقال طائفةٌ من العلماء: إن كلمة التوحيد سببٌ مقتض لدخول الجنة وللنجاة مِنَ النَّارِ، لكن له شروط، وهي الإتيانُ بالفرائضِ، وموانعُ وهي إتيانُ الكبائر. قال الحسن للفرزدق: إن للا إله إلا الله شروطًا، فإيَّاك وقذفَ المحصنة. ورُوي عنه أنه قال: هذا العمودُ، فأين الطُّنُبُ
(3)
، يعني: أن كلمةَ التوحيد عمودُ الفسطاط، ولكن لا يثبتُ الفسطاطُ بدون أطنابه، وهي فعلُ الواجبات، وتركُ المحرَّمات.
وقيل للحسن: إنَّ ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة، فقال: من قال: لا إله إلا الله، فأدَّى حقَّها وفرضها، دخلَ الجنَّةَ.
وقيل لوهب بنِ مُنبِّه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئتَ بمفتاح له أسنان، فتح لك، وإلَّا لم يفتح لك
(4)
.
ويشبه هذا ما رُوِيَ عن ابن عمرَ أنَّه سُئِلَ عن لا إله إلا الله: هل يضرُّ معها
(1)
رواه البخاري (128)، ومسلم (32).
(2)
رواه البخاري (425)، ومسلم (33)، وابن حبان (223).
(3)
الطنب: حبل طويل يشد به سرادق البيت.
(4)
علقه البخاري في "صحيحه" في أول كتاب الجنائز 3/ 109، وقد وصله هو في "التاريخ" 1/ 95، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 66 من طريق محمد بن سعيد بن رمانة، قال: أخبرني أبي، قال: قيل لوهب بن منبه.
عملٌ، كما لا ينفع مع تركها عملٌ؟ فقال ابن عمر: عش ولا تغتر
(1)
.
وقالت طائفةٌ - منهم الضحاكُ والزهري -: كان هذا قبلَ الفرائض والحدود، فمِنْ هؤلاء مَنْ أَشار إلى أنها نُسِخَتْ، ومنهم من قال: بل ضُمَّ إليها شروطٌ زيدت عليها، وزيادة الشرط هل هي نسخ أم لا؟ فيه خلاف مشهور بين الأصوليين، وفي هذا كلِّه نظرٌ، فإنَّ كثيرًا مِنْ هذه الأحاديث متأخر بعدَ الفرائض والحدود.
وقال الثوري: نسختها الفرائضُ والحدودُ، فيحتمل أن يكونَ مرادُه ما أراده هؤلاء، ويحتمل أن يكون مرادُه أن وجوبَ الفرائض والحدود تبيَّن بها أن عقوبات الدنيا لا تسقُطُ بمجرَّدِ الشهادتين، فكذلك عقوباتُ الآخرة، ومثل هذا البيان وإزالة الإِيهام كان السلفُ يُسَمُّونه نسخًا، وليس هو بنسخ في الاصطلاح المشهور.
وقالت طائفة: هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأنْ يقولها بصدقٍ وإخلاص، وإخلاصُها وصدقُها يمنع الإِصرارَ معها على معصية.
وجاء من مراسيل الحسن عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم "من قال: لا إله إلا الله مخلصًا دخل الجنة" قيل: وما إخلاصها؟ قال: "أن تحجُزَكَ عمَّا حرَّم الله". وروي ذلك مسندًا من وجوه أخرَ ضعيفة
(2)
.
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 311 من طريق قتادة بن دعامة السدوسي، قال: سئل ابن عمر. . .، وقتادة لم يسمع من ابن عمر.
(2)
رواه الطبراني في "الكبير"(15074)، وأبو نعيم في "الحلية" 9/ 254 من حديث زيد بن أرقم، وفيه أبو داود نفيع بن الحارث، وهو متروك.
ورواه الطبراني في "الأوسط" من طريق آخر، وفيه عبد الرحمن بن غزوان، قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 18: وهو وضاع.
ولعلَّ الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبلُ إلى هذا فإنَّ تحقق القلب بمعنى "لا إله إلا الله" وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخَ فيه تألُّهُ الله وحده، إجلالًا، وهيبةً، ومخافةً، ومحبَّةً، ورجاءً، وتعظيمًا، وتوكُّلًا، ويمتلئَ بذلك، وينتفيَ عنه تألُّه ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبقَ فيه محبَّةٌ، ولا إرادةٌ، ولا طلبٌ لغير ما يُريدُهُ الله ويحبُّه ويطلبه، وينتفي بذلك مِنَ القلب جميعُ أهواءِ النُّفوس وإراداتها، ووساوس الشيطان، فمن أحب شيئًا وأطاعه، وأحبَّ عليه وأبغض عليه، فهو إلههُ، فمن كان لا يحبُّ ولا يُبغضُ إلا لله، ولا يُوالي ولا يُعادي إلا له، فالله إلههُ حقًّا، ومن أحبَّ لهواه، وأبغض له، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه، كما قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قال الحسن: هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبه
(1)
. وقال قتادة: هو الذي كلما هَوِيَ شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا، أتاه، لا يَحجُزُه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى
(2)
. ويُروى من حديث أبي أمامة مرفوعًا "ما تحتَ ظلِّ السماء إله يُعبد أعظم عندَ الله من هوى متَّبع"
(3)
.
وكذلك مَنْ أطاعَ الشيطان في معصية الله، فقد عبده، كما قال عز وجل:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60].
فتبيَّن بهذا أنَّه لا يصحُّ تحقيقُ معنى قولِ: لا إله إلا الله، إلَّا لمن لم يكن في قلبه إصرارٌ على محبة ما يكرهه الله، ولا على إرادة ما لا يُريده الله، ومتى
(1)
رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" 6/ 260.
(2)
رواه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور".
(3)
موضوع، رواه "الطبراني" في "الكبير"(7502)، وابن عدي في "الكامل" 2/ 715، وفي سنده الحسن بن دينار وهو متروك، وشيخه فيه الخصيب بن جحدر، كذبه شعبة والقطان، ويحيى بن معين، والبخاري.
كان في القلب شيءٌ مِنْ ذلك، كان ذلك نقصًا في التوحيد، وهو مِنْ نوع الشِّرك الخفيِّ. ولهذا قال مجاهدٌ في قوله تعالى:{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] قال: لا تحبُّوا غيري.
وفي "صحيح الحاكم"
(1)
عن عائشة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "الشِّركُ أخفى من دبيب الذَّرِّ على الصَّفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تُحِبَّ على شيءٍ مِنَ الجَوْرِ، وتُبغِضَ على شيءٍ منَ العدل، وهل الدِّينُ إلا الحبّ والبغض؟ قال الله عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وهذا نصٌّ في أن محبةَ ما يكرهه الله، وبغضَ مَا يُحبه متابعةٌ للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفيّ.
وخرَّج ابن أبي الدُّنيا من حديث أنس مرفوعًا: "لا تزالُ لا إله إلا الله تمنعُ العبادَ مِنْ سخط الله، ما لم يُؤْثِروا دُنياهم على صَفقةِ دينهم، فإذا آثرُوا صفقةَ دُنياهم على دينهم، ثم قالوا: لا إله إلا الله رُدَّتْ عليهم، وقال الله: كذبتم"
(2)
.
(1)
2/ 291 وإطلاق الصحة على كتاب الحاكم تساهل غير مرضي عند النقاد، ورواه أيضًا أبو نعيم في "الحلية" 9/ 253، وصححه الحاكم، ورده الذهبي بقوله: عبد الأعلى (هو ابن أعين أحد رواة الحديث) قال الدارقطني: ليس بثقة.
ورواه ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" 2/ 24، ونقل عن أبي زرعة قوله: هذا حديث منكر.
(2)
ورواه البزار (3619) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن عبد الله بن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة، وعبد الله بن محمد بن عجلان، قال العقيلي: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب، روى عن أبيه نسخة موضوعة، وقال أبو حاتم: لا أعرفه ولا أعرف حديثه، وسئل أبو زرعة عنه، فقال: قد سمعت منه ولم أكتب من حديثه شيئًا، قيل له: حدث إبراهيم بن حمزة عنه، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة رفعه:"لا تزال لا إله إلا الله تدفع. . ." فقال: ما أعظم ما جاء به، ينبغي أن يلقى حديث هذا الشيخ، وأورد له العقيلي هذا الحديث،=
فتبيَّن بهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من
(1)
شهد أن لا إله إلا الله صادقًا من قلبه حرَّمه الله على النار"، وأنَّ من دخل النارَ من أهل هذه الكلمة، فَلِقِلَّةِ صدقه في قولها، فإنَّ هذه الكلمة إذا صدقت، طهَّرت من القلب كلَّ ما سوى الله، فمن صدق في قوله: لا إله إلا الله، لم يُحبَّ سواه، ولم يَرْجُ إلَّا إيَّاه، ولم يخش أحدًا إلَّا الله، ولم يتوكَّل إلَّا على الله، ولم تبق له بقيَّةٌ من آثار نفسه وهواه، ومتى بقي في القلب أثرٌ لسوى الله، فمن قلَّة الصدق في قولها.
نارُ جهنَّم تنطفئ بنور إيمان الموحدين، كما في الحديث المشهور:"تقول النار للمؤمن: جُزْ يا مؤمنُ، فقد أطفأ نورُك لهبي"
(2)
.
وفي "مسند" الإمام أحمد
(3)
عن جابرٍ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبقى برٌّ ولا فاجر إلَّا دخلها، فتكونُ على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم، حتى إنَّ للنار ضجيجًا من بردهم".
= وقال: لا يُتابع عليه، وقد جاء عن الحسن قوله. قلت: ومع هذا فقد حسن الهيثمي إسناده في "المجمع" 7/ 277.
(1)
سقطت من (ب) و (ج).
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 9/ 329، والطبراني في "الكبير" 22/ (668) من طريقين عن بشير بن طلحة، عن خالد بن دريك، عن يعلى بن مُنْيَة. . .، وبشير بن طلحة ضعيف، وخالد بن دريك لم يسمع من يعلى.
(3)
3/ 328 - 329، وصححه الحاكم 4/ 587، ووافقه الذهبي مع أن في سنده أبا سمية الراوي عن جابر، لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الإمام الذهبي في "الميزان" 4/ 534: مجهول. قال الحافظ ابن كثير بإثر إيراده في "تفسيره" 5/ 247 من طريق أحمد: غريب ولم يخرجوه.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 535، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "البعث".
فهذا ميراثٌ وَرِثَه المؤمنون من حالِ إبراهيم عليه السلام، فنارُ المحبة في قلوب المؤمنين تخافُ منها نارُ جهنم. قال الجنيد: قالت النار: يا ربِّ، لو لم أُطِعك، هل كنت تُعذِّبني بشي هو أشدُّ مني؟ قال: نعم كنتُ أسلط عليك نارِي الكبرى، قالت: وهل نارٌ أعظم مني وأشدُّ؟ قال: نعم نار محبتي أسكنتُها قلوبَ أوليائي المؤمنين. وفي هذا يقول بعضهم:
ففي فؤادِ المُحِبِّ نارُ هوى
…
أحرُّ نارِ الجحيم أبردُهَا
ويشهد لهذا المعنى حديثُ معاذ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كان آخِرَ كلامِهِ لا إله إلا الله، دخل الجنَّة"
(1)
، فإنَّ المحتضرَ لا يكادُ يقولُها إلَّا بإخلاصٍ، وتوبةٍ، وندمٍ على ما مضى، وعزم على أن لا يعودَ إلى مثله، ورجح هذا القولَ الخطابيُّ في مصنَّفٍ له مفرد في التوحيد، وهو حسن.
(1)
رواه أحمد 5/ 233 و 247، وأبو داود (3116)، وصححه الحاكم 1/ 351، ووافقه الذهبي.
وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن حبان (3004).