الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جامع المسائل والقواعد
في علم الأصول والمقاصد
المجلد الثاني
أدلة الأحكام
تأليف
عبد الفتاح بن محمد بن مصيلحي
أدلة الأحكام
وفيه مقدمة، واثنا عشر فصلًا
• الفصل الأول: الكتاب.
• الفصل الثاني: السنة.
• الفصل الثالث: الإجماع.
• الفصل الرابع: القياس.
• الفصل الخامس: الاستصحاب.
• الفصل السادس: شرع من قبلنا.
• الفصل السابع: قول الصحابي.
• الفصل الثامن: المصالح المرسلة.
• الفصل التاسع: سد الذرائع.
• الفصل العاشر: العرف.
• الفصل الحادي عشر: الاستقراء.
• الفصل الثاني عشر: الاستحسان.
المقدمة
تعريف أدلة الأحكام
*
تعريف الأدلة:
الأدلة لغة جمع دليل، وهو فعيل بمعنى فاعل، من الدلالة: وهي فهم أمر من أمر، أو كون أمر بحيث يفهم منه أمر فهم أو لم يفهم، وهي مثلثة الدال والفتح أفصح
(1)
. والدليل: هو المرشد إلى المطلوب؛ لأنه علامة عليه
(2)
.
اصطلاحًا: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري
(3)
. والمطلوب الخبري: هو الحكم الشرعي.
والأحكام الشرعية إنما تعرف بالأدلة التي أقامها الشرع لترشد المكلفين إليها وتدلهم عليها، وتسمى هذه الأدلة بأصول الأحكام، أو المصادر الشرعية للأحكام، أو أدلة الأحكام، فهي أسماء مترادفة
(1)
المذكرة للشنقيطي (89).
(2)
الإحكام للآمدي (1/ 27) دار الكتاب العربي.
(3)
المصدر السابق (1/ 27).
والمعنى واحد.
وقد يطلق الدليل في اللغة بمعنى الدال، وهو الناصب للدليل.
والمراد بالنظر: الفكر
(1)
الموصل إلى علم أو ظن، ووصف بكونه صحيحًا؛ ليخرج النظر الفاسد المخالف لمقتضى العقل السليم، أو الفطرة المستقيمة، أو اللغة، أو الشرع، وذهب بعضهم إلى التفريق بين ما يفيد القطع فيسمى دليلًا، وما يفيد الظن فيسمى أمارة، ولا مشاحة في الاصطلاح
(2)
.
مسألة: الحكم الشرعي: هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا
(3)
.
فالحكم الشرعي هنا يشمل الحكم التكليفي والحكم الوضعي،
(1)
والفكر في الاصطلاح: حركة النفس في المعقولات، أما حركتها في المحسوسات فتخييل. المذكرة للشنقيطي (89).
(2)
الحدود للباجي (38)، شرح اللمع للشيرازي (1/ 155)، الإحكام للآمدي (1/ 9)، البحر المحيط للزركشي (1/ 51)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (1/ 53).
(3)
الإبهاج شرح المنهاج لابن السبكي (1/ 43) مكتبة الكليات الأزهرية، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي (27) المكتبة الأزهرية للتراث، شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح للتفتازاني (1/ 24).
وكلاهما يطلب له الدليل فكما تبحث للوجوب، أو للندب، أو للتحريم، أو للكراهة، أو للإباحة عن دليل يدل عليه، كذلك تبحث للسبب، والعلة، والشرط، والمانع عن دليل؛ لأن كل هذا من الدين، ومبناه على الدليل، قال تعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وقال:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
الفصل الأول:
القرآن الكريم
القرآن الكريم
والكلام في هذا الفصل في عدة مطالب
• الأول: تعريف القرآن الكريم.
• الثاني: شروط قبول القراءة القرآنية.
• الثالث: حكم القراءة الشاذة.
• الرابع: الحقيقة والمجاز.
• الخامس: المحكم والمتشابه.
• السادس: دلالة القرآن على الأحكام.
المطلب الأول:
تعريف القرآن الكريم
هو كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المعجز، المتعبد بتلاوته، المنقول إلينا نقلًا متواترًا.
قوله: «كلام الله» أي تكلم به سبحانه وتعالى حقيقة، ومما يدل على أنه كلام حقيقي بصوت وحرف:
1 -
قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فصرح بأن ما سمعه المشرك المستجير كلام الله وليس كلامًا نفسيًا أو مخلوقًا كما يقول أهل البدع.
قال الشيخ السعدي في تفسيره: وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ لأنه تعالى هو المتكلم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها، وبطلان مذهب المعتزلة ومن أخذ بقولهم: أن القرآن مخلوق
(1)
.
(1)
تفسير السعدي ص (329).
2 -
قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164].
قال الحافظ ابن كثير: وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة؛ ولهذا يقال له: الكليم، وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي، حدثنا مسبح بن حاتم، حدثنا عبد الجبار بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلًا يقرأ: {وكلم اللهَ موسى تكليمًا} ، فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر، قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]
(1)
.
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على من قرأ كذلك؛ لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام، أو يكلم أحدًا من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ:{وكلم اللهَ موسى تكليمًا} ، فقال له: يا ابن اللخناء، فكيف تصنع بقوله تعالى:
(1)
إسناده ضعيف: أخرجه الطبراني في الأوسط (8608) وأورده ابن كثير في تفسيره (4/ 165) وعزاه لابن مردويه من هذا الطريق، وفيه مسبح بن حاتم وعبد الجبار بن عبد الله لا يعرفان.
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، يعني: أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل
(1)
.
3 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»
(2)
.
ولو كانت كلمات الله مخلوقة لكانت استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم استعاذةً بمخلوق وحاشاه صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام البغوي: وفي هذا الحديث وفي أمثاله مما جاء فيه الاستعاذة بكلمات الله دليل على أن كلام الله غير مخلوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ به، كما استعاذ بالله، فقال صلى الله عليه وسلم:«أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك ربي أن يحضرون» ، وقال:«أعوذ برب الفلق» ، وقال:«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، واستعاذ بصفاته، كما جاء في دعاء المشتكي قال:«أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد» ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بمخلوق من مخلوق.
وبلغني عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه كان يستدل بقوله: «أعوذ
(1)
ابن كثير في تفسيره (4/ 165).
(2)
أخرجه مسلم (2708) من حديث خولة بنت حكيم، و (2709) من حديث أبي هريرة.
بكلمات التامات»، على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص.
وقيل: كلمات الله في هذا الحديث: القرآن. وروي عن عكرمة أنه قال: صلى ابن عباس على جنازة، فقال رجل من القوم: اللهم رب القرآن العظيم اغفر له. فقال ابن عباس: لا تقل مثل هذا، إن القرآن منه بدأ وإليه يعود
(1)
.
ثم ذكر أقوال السلف في أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق
(2)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين: وكلمات الله تشمل كلماته الكونية والشرعية، فأما الكونية فهي التي ذكرها الله في قوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، كذلك الكلمات الشرعية وهي الوحي
(3)
.
وكلمات الله: تشمل جميع الكتب المنزلة من عنده تعالى، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، قال تعالى في شأن التوراة: {قَالَ يَامُوسَى
(1)
إسناده حسن: أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (519) عن ابن عباس موقوفاً.
(2)
شرح السنة للبغوي (1/ 185 - 186).
(3)
تفسير ابن عثيمين (2/ 124).
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]، وقال تعالى:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145].
وقوله: «المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» خرج به الكتب المنزلة على الرسل قبل نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «المتعبد بتلاوته» خرج به الأحاديث القدسية؛ لأن التعبد بتلاوته معناه الأمر بتلاوته في الصلاة وغيرها على وجه العبادة.
وقوله: «المنقول إلينا متواترًا» خرج به ما سوى القرآن من منسوخ التلاوة، والقراءات الشاذة فلا تسمى قرآنًا.
المطلب الثاني:
شروط قبول القراءة القرآنية
قال الإمام ابن الجزري في طيبة النشر في القراءات العشر:
فكل ما وافق وجهًا نحوي
…
وكان للرسم احتمالًا يحوي
وصح إسنادًا هو القرآن
…
فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبت
…
شذوذه لو أنه في السبعة
قال النويري رحمه الله في شرح الطيبة: وأيضا فإن الوصف الأعظم في ثبوت القرآن هو التواتر، والناظم تركه واعتبر صحة سنده فقط، وهذا قول شاذ، ثم قال: وقوله: وصح إسنادًا. ظاهره أن القرآن يكتفى في ثبوته مع الشرطين المتقدمين بصحة السند فقط، ولا يحتاج إلى تواتر، وهذا قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم، كما ستراه -إن شاء الله-.
ولقد ضل بسبب هذا القول قوم فصاروا يقرؤون أحرفًا لا يصح لها سند أصلًا، ويقولون: التواتر ليس بشرط، وإذا طولبوا بسند صحيح لا يستطيعون ذلك، ولا بد لهذه المسألة من بعض بسط فأقول: إن القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة -منهم الغزالي وصدر الشريعة
وموفق الدين المقدسي وابن مفلح والطوفي-: هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا.
وقال غيرهم: هو الكلام المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه. وكل من قال بهذا الحد اشترط التواتر، كما قال ابن الحاجب رحمه الله، للقطع بأن العادة تقضى بالتواتر في تفاصيل مثله.
والقائلون بالأول لم يحتاجوا للعادة؛ لأن التواتر عندهم جزء من الحد، فلا يتصور ماهية القرآن إلا به، وحينئذ فلا بد من حصول التواتر عند أئمة المذاهب الأربعة، ولم يخالف منهم أحد فيما علمت بعد الفحص الزائد، وصرح به جماعات لا يحصون، كابن عبد البر، وابن عطية، وابن تيمية، والتونسي في تفسيره، والنووي، والسبكي، والإسنوي، والأذرعي، والزركشي، والدميري، وغيرهم رحمهم الله، وأما القراء فأجمعوا في أول الزمان على ذلك، وكذلك في آخره، ولم يخالف من المتأخرين إلا أبو محمد مكي، وتبعه بعض المتأخرين
(1)
.
قلت: ومما يدل على ذلك أيضًا ورود قراءات في الصحيح ولم يقرأ بها أحد من القراء العشر، وهي عندهم من الشاذ لعدم تواترها، من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن إبراهيم النخعي قال: قدم أصحاب
(1)
شرح الطيبة (1/ 114 بتصرف.
عبد الله على أبي الدرداء، فطلبهم، فوجدهم، فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟، قال: كلنا، قال: فأيكم أحفظ؟ فأشاروا إلى علقمة، قال: كيف سمعته يقرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} [الليل: 1]، قال علقمة: والذكر والأنثى. قال: أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} [الليل: 3] والله لا أتابعهم
(1)
.
قال النويري رحمه الله: فصل: إذا تقرر ما تقدم؛ علم أن الشاذ عند الجمهور هو ما ليس بمتواتر، وعند مكي ومن وافقه هو ما خالف الرسم أو العربية، ونقل ولو بثقة عن ثقة، أو وافقهما ونقل بغير ثقة، أو بثقة لكن لم يشتهر
(2)
.
قال الإمام العلامة برهان الدين الجعبري في شرح الشاطبية: ضابط كل قراءة تواتر نقلها، ووافقت العربية مطلقًا، ورسم المصحف ولو تقديرًا، فهي من الأحرف السبعة، وما لا تجتمع فيه فشاذ.
وقال في قول الشاطبي:
ومهما تصلها مع أواخر سورة ...............
(1)
أخرجه البخاري (4944)، ومسلم (824).
(2)
شرح الطيبة للنويري (1/ 126).
وإذا تواترت القراءة علم كونها من الأحرف السبعة.
وقال أبو القاسم الصفراوي في نهاية الإعلان: اعلم أن هذه السبعة أحرف، والقراءات المشهورة نقلت تواترًا، وهى التي جمعها عثمان في المصاحف، وبعث بها إلى الأمصار، وأسقط ما لم يقع الاتفاق على نقله، ولم ينقل تواترًا، وكان ذلك بإجماع من الصحابة
(1)
.
وذكر ابن عادل الحنبلي في اللباب: أن من المتفق عليه عند العلماء وأرباب النظر: أن القرآن الكريم لا تجوز الرواية فيه بالمعنى، بل أجمعوا على وجوب روايته لفظة لفظة، وعلى أسلوبه وترتيبه، ولهذا كان تواتره اللفظي لا يشك فيه أدنى عاقل، أو صاحب حس
(2)
.
قال العلامة الشنقيطي: وكتاب الله هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا، ولا خلاف بين العلماء في قراءة السبعة: نافع المدني، وابن كثير المكي، وابن عامر الشامي، وأبي عمرو البصري، وعاصم، وحمزة، والكسائي الكوفيين، وكذلك على الصحيح قراءة الثلاثة: أبي جعفر وخلف ويعقوب
(3)
.
(1)
شرح الطيبة للنويري (1/ 121).
(2)
شرح الطيبة للنويري (1/ 122)، وهامشه ط دار الكتب العلمية (857) تحقيق: مجدي محمد سرور باسلوم.
(3)
المذكرة للشنقيطي (80).
قال في المراقي:
مثل الثلاثة ورجح النظر
…
تواترًا لها لدى من قد غبر
تواتر السبع عليه أجمعوا
…
ولم يكن في الوحي حشو يقع
*
فصل: في حصر المتواتر في العشر.
أجمع الأصوليون والفقهاء على أنه لم يتواتر شيء مما زاد على القراءات العشرة، وكذلك أجمع عليه القراء أيضًا إلا من لا يعتد بخلافه.
قال الإمام العلامة شمس الدين ابن الجزري رحمه الله في آخر الباب الثاني من منجده: فالذي وصل إلينا متواترًا صحيحًا أو مقطوعًا به قراءة الأئمة العشرة ورواتهم المشهورين، هذا الذى تحرر من أقوال العلماء، وعليه الناس اليوم بالشام والعراق ومصر.
وقال في أوله أيضًا بعد أن قرر شروط القراءة: والذى جمع في زماننا الأركان الثلاثة هو قراءة الأئمة العشرة التي أجمع الناس على تلقيها، ثم عددهم.
وقال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح: فما لم يوجد فيه ذلك كما عدا السبع أو ما عدا العشر، يشير إلى التواتر وما معه.
وقال العلامة تاج الدين السبكي رحمه الله: والصحيح أن الشاذ: ما وراء العشر، ومقابله أنه: ما وراء السبع
(1)
.
(1)
شرح طيبة النشر للنويري (1/ 126 - 127).
المطلب الثالث:
حكم الاحتجاج بالقراءات الشاذة:
وفيه مسألتان:
*
المسألة الأولى: حكم القراءة بها:
لا تجوز القراءة بالشاذ في الصلاة وكذلك خارجها معتقدًا قرآنيتها، أما تعلمها وتعليمها لما فيها من المعاني والأحكام مع بيان شذوذها فجائز.
قال العلامة النويري رحمه الله
(1)
: اعلم أن الذي استقرت عليه المذاهب وآراء العلماء أنه إن قرأ بها غير معتقد أنها قرآن، ولا موهم أحدًا ذلك، بل لما فيها من الأحكام الشرعية عند من يحتج بها أو الأحكام الأدبية، فلا كلام في جواز قراءتها، وعلى هذا يحمل حال كل من قرأ بها من المتقدمين، وكذلك أيضًا يجوز تدوينها في الكتب والتكلم على ما فيها، وإن قرأها باعتقاد قرآنيتها أو بإيهام قرآنيتها حرم ذلك.
(1)
شرح طيبة النشر للنويري (1/ 129).
ونقل ابن عبد البر في تمهيده إجماع المسلمين عليه
(1)
ولفظه: وأجمع العلماء أن ما في مصحف عثمان بن عفان وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا، هو القرآن المحفوظ الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، ولا تحل الصلاة لمسلم إلا بما فيه، وإن كل ما روي من القراءات في الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أبي، أو عمر بن الخطاب، أو عائشة، أو ابن مسعود، أو ابن عباس، أو غيرهم من الصحابة مما يخالف مصحف عثمان المذكور لا يقطع بشيء من ذلك على الله عز وجل، ولكن ذلك في الأحكام يجري في العمل مجرى خبر الواحد.
وإنما حل مصحف عثمان رضي الله عنه هذا المحل لإجماع الصحابة وسائر الأمة عليه، ولم يجمعوا على ما سواه، وبالله التوفيق.
وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا في غيرها بالقراءات الشاذة؛ لأنها ليست قراءة، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وكل واحدة ثابتة بالتواتر، هذا هو الصواب الذي لا معدل عنه، ومن قال غيره فغالط أو جاهل.
أما الشاذة فليست متواترة، فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه، سواء
(1)
التمهيد لابن عبد البر (4/ 278) ط مؤسسة قرطبة.
قرأ بها في الصلاة أوغيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشاذ
(1)
.
ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ، وأنه لا يصلى خلف من يقرأ بها
(2)
.
وقال الإمام فخر الدين في تفسيره: اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة القراءة بالوجوه الشاذة
(3)
.
وقال أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه: وهو ممنوع من القراءة بما زاد على العشر منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارجها، عرف المعنى أم لا، ويجب على كل أحد إنكاره، ومن أصر عليه وجب منعه وتأثيمه وتعزيره بالحبس وغيره، وعلى المتمكن من ذلك ألا يهمله
(4)
.
وقال السبكي في جمع الجوامع: وتحريم القراءة بالشاذ، والصحيح أنه ما وراء العشرة
(5)
.
(1)
التبيان في آداب حملة القرآن للنووي (ص 50 - 51).
(2)
المصدر السابق.
(3)
البحر المحيط للزركشي (1/ 176).
(4)
شرح الطيبة للنويري (1/ 130).
(5)
جمع الجوامع للسبكي (1/ 318).
*
المسألة الثانية: في حكم الاحتجاج بالقراءات الشاذة.
من المعلوم أن القراءات كلها سواء في الاحتجاج بها للاتفاق على قرآنيتها، وأنه يحتج بأي قراءة منها على الأحكام الفقهية واللغوية والعقائدية على حد سواء.
أما الاحتجاج بالقراءات الشاذة ففيه قولان:
الأول: أنها حجة، وهو منسوب للإمام أبي حنيفة، وأحمد، وأكثر أصحابهم، وحكاه البويطي عن الشافعي، وهو اختيار ابن قدامة في الروضة.
ودليل هذا القول: أن هذه القراءات نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، فهي لا تخلو إما أن تكون قرآنًا أو سنة، وعلى كلا الاحتمالين فهي حجة.
الثاني: أنها ليست حجة، وهذا المشهور عن الشافعي رحمه الله، وهو مذهب المالكية والظاهرية.
ودليل هذا القول: أن الصحابي نقلها على أنها قرآن، لا على أنها سنة، وهي لا يمكن أن تكون قرآنًا؛ لأن القرآن متواتر، وهي غير متواترة، ولأن الظاهر أنها تفسير من الصحابي نفسه، ومذهب الصحابي ليس بحجة عند الشافعي.
ونسب الآمدي القول بأنها ليست بحجة إلى الشافعي، وكذا ادعى الإبياري في شرح البرهان أنه المشهور من مذهب مالك، والشافعي، وتبعه ابن الحاجب، وكذلك قال النووي في شرح مسلم: مذهبنا أن القراءة الشاذة لا يحتج بها، ولا يكون لها حكم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
من الفروع التي بنيت على هذا الأصل:
1 -
وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين:
فمن أوجبه استدل بقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) كالحنفية والحنابلة، ومن لم يوجبه لم يستدل بهذه القراءة كالشافعية والمالكية في الأظهر.
2 -
المراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، ورد في قراءة عائشة:«والصلاة الوسطى وصلاة العصر»
(2)
.
فمن احتج بالقراءة الآحادية احتج بهذه القراءة على أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر لعطفها بالواو على الصلاة الوسطى،
(1)
البحر المحيط للزركشي (1/ 384).
(2)
أخرجه مسلم (629)، ورفعته عائشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والعطف يقتضي المغايرة.
ومن لم يحتج بالقراءة الآحادية لم يحتج بهذه القراءة، وربما ذهب إلى أنها صلاة العصر أو غيرها بأدلة أخرى.
3 -
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ورد فيها قراءة شاذة غير متواترة «في قبل عدتهن»
(1)
، وقرأ الجماعة «لعدتهن» ، واللام في قراءة الجماعة تحتمل معنيين:
الأول: أن تكون بمعنى (في)، كقوله تعالى:{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9].
الثاني: أنها على بابها، وهو الاختصاص، والمعنى: طلقوهن مستقبلات عدتهن، ومعنى القراءة الشاذة: فطلقوهن في الوقت الذي تستقبل فيه العدة. واستدل بهذه القراءة الشافعية على تفسير لفظ (قروء) الوارد في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وقد اختلف الفقهاء في المراد بلفظ (قروء) على قولين:
الأول: أنه الحيض، وهو قول الأحناف والحنابلة.
الثاني: أنه الأطهار وهو قول الشافعية والمالكية.
(1)
أخرجه مسلم (1471) من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا.
ويعود سبب اختلافهم إلى الإجمال بسبب الاشتراك في الاسم في لفظ (قروء) بين الطهر والحيض، واستدل الشافعية على صحة ما ذهبوا إليه بما روي عن أبي الزبير أنه سمع ابن عمر يذكر طلاق امرأته حائضًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك» ، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن»
(1)
، قال النووي:«في قبل عدتهن» هذه قراءة ابن عباس وابن عمر، وهي شاذة لا تثبت قرآنًا بالإجماع، ولا يكون لها حكم خبر الواحد عندنا، وعند محققي الأصوليين
(2)
.
قال الشافعي: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أن العدة الطهر دون الحيض، وقرأ (فطلقوهن لقبل عدتهن).
عن مجاهد أن رجلًا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مئة. فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا، من يتق الله يجعل له مخرجًا، قال الله تعالى:(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن)
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (1471) من حديث عبد الله بن عمر.
(2)
شرح مسلم (10/ 69).
(3)
سنده حسن: أخرجه سعيد بن منصور (1064)، وأبو داود (2197)، وغيرهم عن ابن عباس قوله.
*
مسالك المحتجين بالقراءات الشاذة:
1 -
مذهب الحنفية:
إن ضابط الشاذ المحتج به عند جمهرة الحنفية هو ما لم يتواتر، وإن اشتهر بالقرن الثاني أو الثالث، وقد يطلق عندهم على خبر الواحد، غير أنهم في الأحكام لا يعملون إلا بما اشتهر من هذا النوع لا بما نقل آحادًا.
فقد قسم الحنفية الأخبار إلى: متواتر، ومشهور، وآحاد.
ومعلوم أن بعضًا من القراءات الشاذة فيها زيادة على النص القطعي القرآني، والزيادة عندهم تعتبر نسخًا إن كانت توجب تغيير الحكم المزيد عليه في المستقبل.
ونسخ القطعي عندهم لا يتم إلا بما تواتر أو اشتهر.
وكذلك لا يجوز عندهم تقييد مطلق القرآن في حادثة واحدة، وفي حكم واحد إلا بالخبر المتواتر المشهور، لهذا اشترط الحنفية: اشتهار شاذ القراءات ليعمل به عندهم. ومن ثم فإنهم أوجبوا التتابع في كفارة اليمين، ولم يوجبوه في قضاء رمضان؛ لأن قراءة ابن مسعود في الأولى مشهورة عندهم بخلاف قراءة أبي بن كعب في الثانية، وهي زيادة (متتابعات).
وقد احتج الحنفية على الأخذ بالقراءات الشاذة بدليلين:
أ- القراءات الشاذة قرآن نسخت تلاوته.
والتلاوة عبادة يتقرب بها إلى الباري سبحانه وتعالى، وتوقيع الحكم في الخارج عبادة كذلك، والانفكاك بينهما بين، فلا تلازم إذن بين جواز التلاوة وحكم المدلول، فإن جواز التلاوة حكم، وحكم المدلول حكم آخر، فيجوز أن يبقى أحدهما ويرتفع الآخر، ومثال ذلك آية الرجم، وقراءة (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم).
ومن الفروع المبنية على القول بالقراءات الشاذة عدد الرضعات المحرمة:
ذهب الشافعي إلى أن عدد الرضعات المحرمة خمس رضعات، عن عائشة قالت: كان فيما أنزل من القرآن: «عشر رضعات معلومات يحرمن» ، ثم نسخن ب «خمس معلومات» ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن»
(1)
.
قال الدميري: وأورد في شرح مسلم: أن هذا لا حجة فيه؛ لأن القرآن لا يثبت بخبر الواحد، ولم يجب عنه، وأجاب عنه إلكيا الطبري بأن القرآن كلام الله، وإن لم يثبت بخبر الواحد لكن يثبت حكمه والعمل
(1)
أخرجه مسلم (1452).
به، والأحسن الاستدلال بحديث سالم، «فأرضعته خمس رضعات»
(1)
فإن فيه تخصيص الرضعات بخمس، وهو محل ضرورة فلو حصل ما دونه لذكره
(2)
.
ب- القراءات الشاذة خبر وقع تفسيرًا:
أي كون هذا الشاذ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا، وبيانًا لشيء، فظنه الناقل قرآنًا، فإذا بطل كونه قرآنًا، تعين أن يكون خبرًا.
وهذا المحمل الحنفي هو الذي ارتضاه كثير من العلماء؛ إذ جعلوا ما أتى من الأحرف الشاذة هو من قبيل التفسير، وإن اختلفوا في كونها خبرًا أو مذهبًا للراوي إذا لم يصرح بالسماع.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد ذكره عددًا مما شذ من القراءات، حيث قال: فهذه الحروف وأشباه لها كثيرة قد صارت مفسرة للقرآن، وقد كان يرى مثل هذا عن بعض التابعين في التفسير فيستحسن ذلك، فكيف إذا روي عن لباب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صار في نفس القراءة؟! فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى، وأدنى ما يستنبط من علم هذه الحروف معرفة صحة التأويل، على أنها من العلم الذي لا تعرف
(1)
أخرجه أبو داود (2061) وهو عند البخاري ومسلم دون موطن الشاهد.
(2)
النجم الوهاج شرح المنهاج للدميري (8/ 204).
العامة فضله، إنما يعرف ذلك العلماء
(1)
.
*
الاحتجاج بالقراءة الشاذة عند الشافعية:
هذه المسألة محل خلاف بين فقهاء الشافعية، فقد ذهبت طائفة من متأخري الشافعية إلى القول بحجية القراءات الشاذة، وممن صرح بهذا القول الإمام تاج الدين السبكي (771 هـ) والإمام جمال الدين الإسنوي (772 هـ) الذي نص على أن القول بعدم الاحتجاج بالقراءة الشاذة قول مخالف لمذهب الشافعي، ولقول جمهور الصحابة، والشيخ زكريا الأنصاري (925 هـ).
بينما ذهبت طائفة من كبار الشافعية إلى القول بعدم حجية القراءات الشاذة، وممن قال بذلك إمام الحرمين الجويني، وأبو حامد الغزالي، والآمدي، وجزم النووي بكون عدم الاحتجاج بالشاذ هو مذهب الشافعية عند شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها في الصلاة الوسطى، حيث قال: إن القراءة الشاذة لا يحتج بها
(2)
.
وأدلة من احتج من الشافعية:
1 -
أن ذلك منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من انتفاء خصوص
(1)
فضائل القرآن للقاسم بن سلام (2/ 149).
(2)
القراءات الشاذة أحكامها وآثارها د/ إدريس حامد (ص 201).
قرآنيته انتفاء عموم خبريته.
2 -
أن هناك مواطن عدة احتج بها الشافعية بشواذ القراءات، من ذلك:
- قطع يمين السارق بقراءة «فاقطعوا أيمانهما» .
- خمس رضعات معلومات تقتضي التحريم برواية عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن فيما يقرأ من القرآن
(1)
.
واستدل الحنابلة على الاحتجاج بالقراءة بالشاذ: بأنها كانت قرآنًا فهي حجة، وإن لم تكن قرآنًا فهي خبر.
*
حجة القائلين بعدم حجية القراءات الشاذة:
وهم جمهور المالكية، وطائفة من الشافعية، وابن حزم الظاهري، واستدلوا بما يلي:
أن القرآن قاعدة الإسلام، وقطب الشريعة، وإليه رجوع جميع الأصول، ولا أمر في الدين أعظم منه، وكل ما يجل خطره ويعظم وقعه
(1)
أخرجه مسلم (1452).
ولا سيما في الأمور الدينية، فأصحاب الأديان يتناهون في نقله وحفظه، ولا يسوغ في اطراد الاعتياد رجوع الأمر فيه إلى نقل الآحاد، ما دامت الدواعي متوفرة، والنفوس إلى ضبط الدين مشوفة
(1)
.
2 -
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعوا في زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه على ما بين الدفتين، واطرحوا ما عداه وكان ذلك عن اتفاق منهم
(2)
.
3 -
أن هذا الخبر إن لم يجعل قرآنًا احتمل كونه مذهبًا أو خبرًا، وما تردد بين المذهبية والخبرية فلا يجوز العمل به
(3)
.
والحاصل مما سبق: أن القراءة الشاذة ليست بحجة إلا أن تعضد بأدلة أخرى، كالإجماع على معناها مثل قراءة آية الكلالة «وله أخ أو أخت من أم» ، أو بدليل من السنة كاحتجاج الشافعية على عدد الرضعات بحديث سالم مع أن أكثرهم لا يحتج بالقراءة الشاذة.
وكذلك الذين اعتبروا أن القراءة الشاذة حجة، احتجوا بها في مواضع، ولم يحتجوا بها في مواضع أخرى تبعًا لاعتبارات أخرى.
(1)
القراءات الشاذة ضوابطها والاحتجاج بها في الفقه وفي العربية د. عبد العاطي المسؤول (191 - 217) ط دار ابن عفان.
(2)
الإحكام للآمدي (1/ 229).
(3)
الإحكام للآمدي (1/ 230، 231).
المطلب الرابع:
الحقيقة والمجاز في القرآن.
*
المسألة الأولى: تعريف الحقيقة:
هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب
(1)
.
قولهم (في اصطلاح التخاطب) قصدوا به إدخال الحقائق الشرعية، واللغوية، والعرفية؛ لأن العبرة بالوضع عند المتكلم باللفظ لا بالنسبة للسامع له.
*
المسألة الثانية: أقسام الحقيقة:
تنقسم الحقيقة إلى أربعة أقسام:
الأول: الحقيقة اللغوية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له لغةً، نحو: الإنسان، الفرس، الحر، البرد، الأرض، السماء.
الثاني: الحقيقة العرفية العامة: وهي اللفظ الذي وضع لغة لمعنى، ولكن استعمله أهل العرف العام في غير هذا المعنى، وشاع عندهم
(1)
نهاية السول شرح منهاج الوصول للإسنوي (2/ 145) دار عالم الكتب.
استعماله فيه، مثل لفظ (دابة)، فإنه وضع لغة لكل ما يدب على وجه الأرض من إنسان أو حيوان، ولكن استعمله أهل العرف فيما له حافز فقط، كالفرس، والبغل، والحمار، وهذا النوع موجود كذلك.
الثالث: الحقيقة العرفية الخاصة: وهي أن يستعمل اللفظ في معنى عرفي خاص، وفي اصطلاح جماعة معينة، كاستعمال الرفع والنصب والحال في معانيها المعروفة عند النحاة، واستعمال العرض، والجوهر عند المتكلمين.
الرابع: الحقيقة الشرعية: وهي ألفاظ استعملها الشارع في معانٍ قد لا يستعملها العرب لها لمناسبة بينها وبين المعاني اللغوية، مثل: الصلاة، والصوم.
*
المسألة الثالثة: تعريف المجاز:
وهو قسمان:
1 -
المجاز اللغوي: وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب لعلاقة وقرينة. وهذا هو المجاز اللغوي ويسمى المفرد، وأنواعه كثيرة ذكرها الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان ومثل لكل نوع
(1)
.
(1)
الإتقان للسيوطي (3/ 110)، وما بعدها.
2 -
المجاز المركب أو العقلي: وهو ما كان قائمًا على الإسناد، وهو إسناد الفعل، أو ما يقوم مقامه إلى غير ما هو له لملابسته له.
مثل قول الشاعر الصلتان العبدي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
…
كر الغداة ومر العشي
وقول المؤمن: أنبت الربيع البقل.
وقول جرير:
إذا سقط السماء بأرض قوم
…
رعيناه وإن كانوا غضابا
و لكن هذا استعارة، وعدها ابن قتيبة من المجاز لتوسعه في باب المجاز.
*
المسألة الرابعة: أقوال العلماء في المجاز:
أ - قال فريق من العلماء بالمجاز مطلقًا، وقال الإمام الشوكانى، وهم الجمهور.
ب - وقال بعض العلماء بمنع المجاز فى القرآن وإثباته فى اللغة منهم ابن خويز من المالكية، وابن القاص من الشافعية، وداود بن على، وابنه من الظاهرية.
ج - وقال بعض العلماء بالمنع مطلقًا من القرآن واللغة، ومنهم أبو
إسحاق الاسفرايينى، وأبو على الفارسى
(1)
، وقال به ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ الشنقيطى، وغيرهم.
وذكر بعض العلماء أن هذا التقسيم فى أصله تقسيم غير صحيح.
قال ابن تيمية (هذا التقسيم إلى حقيقة ومجاز لا حقيقة له، وليس لمن فرق بينهما حد صحيح يميز به بين هذا وهذا، فعلم أن هذا التقسيم باطل، وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول بل يتكلم بلا علم) أه
(2)
.
قال ابن القيم فنقول: تقسيمكم الألفاظ ومعانيها واستعمالها فيها إلى حقيقةٍ ومجازٍ، إما أن يكون عقليًّا أو شرعيًّا، أو لغويًّا أو اصطلاحيًّا، والأقسام الثلاثة الأول باطلةٌ، فإن العقل لا مدخل له في دلالة اللفظ وتخصيصه بالمعنى المدلول عليه حقيقةً كان أو مجازًا، فإن دلالة اللفظ على معناه ليست كدلالة الانكسار على الكسر والانفعال على الفعل، لو كانت عقليةً لما اختلفت باختلاف الأمم، ولما جهل أحدٌ معنى لفظٍ، والشرع لم يرد بهذا التقسيم ولا دل عليه، ولا أشار إليه، وأهل اللغة لم يصرح أحدٌ منهم بأن العرب قسمت لغاتها إلى حقيقةٍ ومجازٍ، ولا قال أحدٌ من العرب قط: هذا اللفظ حقيقةٌ وهذا مجازٌ، ولا
(1)
نقله عنهما ابن السبكي في جمع الجوامع (1/ 331).
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/ 96).
وجد فى كلام من نقل لغتهم عنهم مشافهةً ولا بواسطة ذلك، ولهذا لا يوجد في كلام الخليل وسيبويه والفراء وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي وأمثالهم، كما لم يوجد ذلك في كلام رجلٍ واحدٍ من الصحابة ولا من التابعين ولا تابع التابعين، ولا فى كلام أحدٍ من الأئمة الأربعة.
وهذا الشافعي وكثرة مصنفاته ومباحثه مع محمد بن الحسن وغيره لا يوجد فيها ذكر المجاز البتة، وهذه رسالته التي هي كأصول الفقه لم ينطق فيها بالمجاز في موضعٍ واحدٍ، وكلام الأئمة مدوَّنٌ بحروفه لم يحفظ عن أحدٍ منهم تقسيم اللغة إلى حقيقةٍ ومجازٍ، بل أول من عرف عنه في الإسلام أنه نطق بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى، فإنه صنف في تفسير القرآن كتابًا مختصرًا سماه "مجاز القرآن"، وليس مراده به قسيم الحقيقة، فإنه تفسيرٌ لألفاظه بما هي موضوعةٌ له، وإنما عنى بالمجاز ما يعبر به من اللفظ ويفسر به، كما سمى غيره كتابه معاني القرآن، أي: ما يعنى بألفاظه ويراد بها، كما يسمي ابن جريرٍ الطبري وغيره ذلك تأويلًا، وقد وقع في كلام أحمد شيءٌ من ذلك، فإنه قال في «الرد على الجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن» وأما قوله:{إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12] فهذا من مجاز اللغة، يقول الرجل للرجل: سيجري عليك رزقك، أنا مشتغلٌ به، وفي نسخةٍ، وأما قوله: {إِنَّنِي
مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] فهو جائزٌ في اللغة، يقول الرجل للرجل: سأجري عليك رزقك، وسأفعل بك خيرًا.
قلت: مراد أحمد أن هذا الاستعمال مما يجوز في اللغة، أي هو من جائز اللغة لا من ممتنعاتها، ولم يرد بالمجاز أنه ليس بحقيقةٍ وأنه يصح نفيه، وهذا كما قال أبو عبيدة في تفسيره إنه مجاز القرآن، ومراد أحمد أنه يجوز في اللغة أن يقول الواحد المعظم نفسه، نحن فعلنا كذا، فهو مما يجوز في اللغة، ولم يرد أن في القرآن ألفاظًا استعملت في غير ما وضعت له، وأنها يفهم منها خلاف حقائقها، وقد تمسك بكلام أحمد هذا من ينسب إلى مذهبه أن في القرآن مجازًا كالقاضي أبي يعلى وابن عقيلٍ وابن الخطاب وغيرهم، ومنع آخرون من أصحابه ذلك، كأبي عبد الله بن حامدٍ، وأبي الحسن الجزري وأبي الفضل التميمي.
وكذلك أصحاب مالكٍ مختلفون، فكثيرٌ من متأخريهم يثبت في القرآن مجازًا، وأما المتقدمون كابن وهبٍ وأشهب وابن القاسم فلا يعرف عنهم في ذلك لفظةٌ واحدةٌ.
وقد صرح بنفي المجاز في القرآن محمد بن خويزمنداد البصري المالكي وغيره من المالكية، وصرح بنفيه داود بن عليٍ الأصبهاني وابنه أبو بكرٍ، ومنذر بن سعيدٍ البلوطي، وصنف في نفيه مصنفًا، وبعض الناس يحكي في ذلك عن أحمد روايتين.
وقد أنكرت طائفةٌ أن يكون في اللغة مجازٌ بالكلية، كأبي إسحاق الاسفراييني وغيره، وقوله له غورٌ لم يفهمه كثيرٌ من المتأخرين، وظنوا أن النزاع لفظيٌ، وسنذكر أن مذهبه أسد وأصح عقلًا ولغةً من مذهب أصحاب المجاز، وطائفةٌ أخرى غلت في ذلك الجانب وادَّعت أن أكثر اللغة مجازٌ، بل كلها، وهؤلاء أقبح قولًا وأبعد عن الصواب من قول من نفى المجاز بالكلية، بل من نفاه أسعد بالصواب
(1)
.
قال ابن تيمية «وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مُبْتَدَع مُحْدَث لم ينطق به السلف»
(2)
.
قال ابن القيم: إذا علم أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقةٍ ومجازٍ ليس تقسيمًا شرعيًّا ولا عقليًّا ولا لغويًّا فهو اصطلاحٌ محضٌ، وهو اصطلاحٌ حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص، وكان منشؤه من جهة المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم من المتكلمين
(3)
.
والقول بالمجاز فى القرآن من الخطورة بمكان حيث إن أهل المجاز بإجماعهم يقولون: إن كل مجاز يجوز نفيه كقولك رأيت أسدًا وتقصد رجلًا شجاعًا فيجوز أن تقول ما رأيت أسدًا، ولكن رجل شجاع، وهذا
(1)
الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 285).
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/ 113).
(3)
الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 287).
يسرى على القرآن (على حد قولهم)، فلو قلنا بالمجاز فيه لقلنا إنه يجوز نفي أشياء فى القرآن أثبتها الله.
فبما أن كل مجاز يجوز نفيه، وأن القرآن لا يجوز نفي شاء فيه ينتج أنه لا شيء من القرآن مجاز.
قال الشنقيطي: فإنا لما رأينا جل أهل هذا الزمان يقولون بجواز المجاز في القرآن، ولم ينتبهوا لأن هذا المنزل للتعبد والإعجاز كله حقائق وليس فيه مجاز، وأن القول فيه بالمجاز ذريعة لنفي كثير من صفات الكمال والجلال، وأن نفي ما ثبت في كتاب أو سنة لاشك في أنه محال أردنا أن نبين في هذه الرسالة ما يفهم منه الحاذق الذائق أن القرآن كله حقائق، وكيف يمكن أن يكون شيء منه غير حقيقة، وكل كلمة منه بغاية الكمال جديرة حقيقة؟!
(1)
.
وقال: فإن قالوا: هذا الذي نسميه مجازًا وتسمونه أسلوبًا آخر من أساليب اللغة يجوز نفيه على قولكم، كما جاز نفيه على قولنا. فيلزم المحذور قولكم كما لزم قولنا.
فالجواب: أنه على قولنا بكونه حقيقة لا يجوز نفيه. فإن قولنا: رأيت أسدًا يرمي -مثلًا- لا نسلم جواز نفيه؛ لأن هذا الأسد المقيد
(1)
مقدمة كتاب منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشنقيطي (1/ 3).
بكونه يرمي ليس حقيقة الحيوان المفترس حتى تقولوا: هو ليس بأسد. فلو قلتم: هو ليس بأسد. قلنا: نحن ما زعمنا أنه حقيقة الأسد المتبادر عند الإطلاق حتى تكذبونا، وإنما قلنا بأنه أسد يرمي، وهو كذلك هو أسد يرمي
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله:
الوجه السادس عشر: أن يقال: ما تعنون بصحة النفي، نفي المسمى عند الإطلاق، أم المسمى عند التقييد، أم القدر المشترك، أم أمرًا رابعًا؟ فإن أردتم الأول كان حاصله أن اللفظ له دلالتان، دلالة عند الإطلاق، ودلالة عند التقييد؛ بل المقيد مستعمل في موضوعه، وكل منهما منفي عن الآخر. وإن أردتم الثاني لم يصح نفيه فإن المفهوم منه هو المعنى المقيد فكيف يصح نفيه؟ وإن أردتم القدر المشترك بين ما سميتموه حقيقة ومجازًا لم يصح نفيه أيضًا. وإن أردتم أمرًا رابعًا فبينوه لنا لنحكم عليه بصحة النفي، أو عدمها. وهذا ظاهر جدًا لا جواب عنه كما ترى
(2)
.
(1)
منع جواز المجاز للشنقيطي (1/ 32).
(2)
مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 295).
*
بعض المسائل التى ادعى فيها المجاز ومناقشتها:
المسألة الأولى: قال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77]، قالوا: الإرادة هى الميل القلبى، وهل للجدار قلب حتى يكون له إرادة؟ فدل على أن الإرادة هنا مجاز.
والإشكال يكون إما بتوسعة أبواب ضيقة أو بتضييق أبواب واسعة، فهم عرَّفوا الإرادة بالميل القلبى وهذا فى حق الإنسان فضيقوا بابًا واسعًا.
قال الشيخ الشنقيطى: أن قوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] لا مانع من حمله على حقيقة الإرادة المعروفة في اللغة، لأن الله يعلم للجمادات ما لا نعلمه لها كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] الآية.
وقد ثبت في "صحيح البخاري" حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم.
وثبت في "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إني أعرف حجرًا كان يسلم عليَّ في مكة» .
وأمثال هذا كثيرةٌ جدًّا، فلا مانع من أن يعلم الله من ذلك الجدار إرادة الانقضاض.
ويجاب عن هذه الآية -أيضًا- بما قدمنا من أنه لا مانع من كون العرب تستعمل الإرادة عند الإطلاق في معناها المشهور، وتستعملها في الميل عند دلالة القرينة على ذلك. وكلا الاستعمالين حقيقةٌ في محله. وكثيرًا ما تستعمل العرب الإرداة في مشارفة الأمر، أي قرب وقوعه كقرب الجدار من الانقضاض سمي إرادة.
وكقول الراعي:
في مهمهٍ قلقت بها هاماتها
…
قلق الفؤوس إذا أردن نضولًا
يعني بقوله: "أردن": تحركن مشرفاتٍ على النضول وهو السقوط.
وكقول الآخر:
يريد الرمح صدر أبي براء
…
ويعدل عن دماء بني عقيل
فقوله: "يريد الرمح صدر أبي براءٍ"، أي: يميل إليه، وأمثال هذا كثيرةٌ في اللغة العربية
(1)
.
قال ابن تيمية: لفظ الإرادة قد استعمل فى الميل الذى يكون معه شعور وهو ميل الحى، وفى الميل الذى لا شعور له وهو ميل الجماد،
(1)
منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز (1/ 26)، وما بعدها.
وهو مشهور فى اللغة يقال هذه الأرض تريد أن تُحرَث
(1)
.
المسألة الثانية: قال تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، فقالوا ليس للذل جناح إذًا إطلاق الجناح وإضافته للذل هذا مجاز.
قال الشنقيطى: الجناح هنا مستعمل في حقيقته؛ لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يد الإنسان وعضده وإبطه، قال تعالى:{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32].
والخفض مستعمل في معناه الحقيقي الذي هو ضد الرفع؛ لأن مريد البطش يرفع جناحيه، ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما، والتواضع لهما، كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215].
وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب أسلوب معروف، ومنه قول الشاعر:
وأنت الشهير بخفض الجناح
…
فلا تك في رفعه أجدلا
وأما إضافة الجناح إلى الذل فلا تستلزم المجاز كما يظنه كثير؛ لأن
(1)
مجموع الفتاوى (ج (7) ص (108).
الإضافة فيه كالإضافة في قولك حاتم الجود، فيكون المعنى: واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر.
وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال:
لا تسقني ماء الملام فإنني
…
صبٌّ قد استعذبت ماء بكائي
جاءه رجل فقال له: صب لي في هذا الإناء شيئًا من ماء الملام، فقال له: إن أتيتني بريشةٍ من جناح الذل صببت لك شيئًا من ماء الملام، فلا حجة فيه؛ لأن الآية لا يراد بها أن للذل جناحًا، وإنما يراد بها خفض الجناح المتصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود. ونظيره في القرآن الإضافة في قوله:{مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40]، و {عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] يعني مطر حجارة السجيل الموصوف بسوء من وقع عليه. وعذاب أهل النار الموصوف بسوء من وقع عليه، والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذل مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح: أن خفض الجناح كني به عن ذل الإنسان وتواضعه، ولين جانبه لوالديه رحمة بهما، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله:{نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} [العلق: 16].
وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله: {وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)} [الغاشية: 2 - 3].
وأمثال ذلك كثير في القرآن، وفي كلام العرب، وهذا هو الظاهر في معنى الآية، ويدل له كلام السلف من المفسرين
(1)
.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [النحل: 112].
قالوا المجاز فى أمرين هما أن الجوع والخوف ليسا لباسًا، وأن الجوع والخوف لا يذاقان، فقالوا الذوق هو وجود طعم الشيء فى الفم، واللباس هو ما يلبس على البدن.
قال ابن تيمية: فمن الناس من يقول الذوق حقيقة فى ذوق الفم، واللباس ما يلبس على البدن وليس كذلك، قال الخليل: الذوق فى اللغة هو وجود طعم الشيء، والاستعمال يدل على ذلك قال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة: 21]، وقوله تعالى:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]، فلفظ الذوق يستعمل فى كل ما يحس به، ويجد ألمه ولذته
(2)
.
(1)
منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشنقيطي (1/ 30 - 31).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 109).
قال صلى الله عليه وسلم «حتى تذوقى عسيلته»
(1)
، وليس ذلك بالفم.
وقال (ابن تيمية) ولفظ اللباس يستعمل فى كل ما يغشى الإنسان ويلتبس به قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)} [النبأ: 10]، وقال:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433) من حديث عائشة مرفوعًا رضي الله عنها.
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/ 110).
المطلب الخامس:
المحكم والمتشابه
المحكم: اسم مفعول من أحكم الأمر أي أتقنه، والحكيم المتقن للأمور.
وحكم الرجل يحكم حكمًا: إذا بلغ النهاية في معناه مدحًا لازمًا. وأحكمت الشيء فاستحكم: صار محكمًا، واحتكم الأمر واستحكم: وثق.
وحكم الشيء وأحكمه: كلاهما: منعه من الفساد
(1)
.
والمتشابه: من الشبه، والشبيه: المثل. والجمع أشباه، وأشبه الشيء الشيء: ماثله.
والمشتبهات من الأمور: المشكلات، والمتشابهات: المتماثلات، ومنه قوله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]، أي
(1)
لسان العرب لابن منظور (2/ 953) بتصرف.
يشبه بعضه بعضًا في الجودة والحسن
(1)
.
قال الواحدي: واعلم أن القرآن كله محكم من وجه على معنى أنه حق ثابت، قال الله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، ومتشابه من وجه وهو أنه يشبه بعضه بعضًا في الحسن، ويصدق بعضه بعضًا، وهو قوله تعالى:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]
(2)
.
قال الشنقيطي رحمه الله: اعلم أن بعض الآيات دل على كون القرآن كله محكمًا، كقوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] الآية، وغيرها من الآيات، وبعضها دل على كونه كله متشابهًا، وهو قوله:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] الآية، وبعضها دل على أن منه محكمًا ومنه متشابهًا، وهو قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] ولا معارضة بين الآيات؛ لأن معنى كونه كله محكمًا هو اتصاف جميعه بالإحكام الذي هو الإتقان، لأن جميعه في غاية الإتقان في ألفاظه ومعانيه، أحكامه عدل وأخباره صدق، وهو في غاية الفصاحة والإعجاز والسلامة من جميع العيوب، ومعنى كونه كله متشابهًا أن آياته يشبه بعضها بعضًا في
(1)
لسان العرب لابن منظور (4/ 2190) بتصرف.
(2)
التفسير البسيط للواحدي (5/ 36).
الإعجاز والصدق والعدل والسلامة من جميع العيوب
(1)
.
قلت: هذا باعتبار أن القرآن كله محكم كالآيات التي وصفته بذلك، أو أن كله متشابه كما وصفته آيات أخرى.
أما تقسيم القرآن آيات محكمات وأخر متشابهات، كما في آية آل عمران؛ فهذا يفيد التغاير في المعنى، وعلى ذلك اختلفوا في تفسير المحكم والمتشابه.
قال الماوردي في تفسيره: اختلف المفسرون في تأويله على سبعة أقاويل:
أحدها: أن المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ. قاله ابن عباس، وابن مسعود.
والثاني: أن المحكم ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه. قاله مجاهد.
والثالث: أن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل أوجهًا. قاله الشافعي، ومحمد بن جعفر بن الزبير.
والرابع: أن المحكم الذي لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه الذي
(1)
المذكرة للشنقيطي (62).
تكررت ألفاظه. قاله ابن زيد.
والخامس: أن المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال.
والسادس: أن المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج عيسى ونحوه، وهذا قول جابر بن عبد الله.
والسابع: أن المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال.
ويحتمل ثامنًا: أن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة، والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة، كأعداد الصلوات، واختصاص الصيام بشهر رمضان دون شعبان. وإنما جعله محكمًا ومتشابهًا استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر
(1)
.
وقال الشوكاني في تعريف المحكم والمتشابه: فقيل المحكم ما له دلالة واضحة، والمتشابه ما له دلالة غير واضحة، فيدخل في المتشابه المجمل والمشترك
(2)
.
(1)
النكت والعيون تفسير الماوردي (1/ 369 - 370).
(2)
إرشاد الفحول (1/ 90).
قلت: لكنه على هذا المعنى لا يذم من يبحث عن تفسيره، والمراد منه من الآيات الأخرى أو من الأدلة الأخرى.
وبناء على هذا الاختلاف: اختلفوا في نوع الواو في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
- فمن فسر المتشابه بأنه مما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة وطلوع الشمس من مغربها، أو ما كان من الأحكام تعبديًّا محضًا؛ قال: إن الواو استئنافية، والراسخون مبتدأ خبره جملة «يقولون آمنا به» ، والوقف تام على قوله:«إلا الله» ، ويكون التأويل هنا هو حقيقة ما يؤول إليه الشيء في المستقبل، كقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] الآية.
- ومن فسر المتشابه بما يعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم، كالأحكام التي تحتاج إلى نظر واستدلال، وما كان من الآيات ما يحتمل أوجهًا أو الآيات التي ظاهرها التعارض؛ فإنه قال: إن الواو عاطفة وقال بذلك ابن عباس. وروى ابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله
(1)
.
(1)
النكت والعيون تفسير الماوردي (1/ 372).
قال ابن جزى: وكلا القولين مرويٌ عن ابن عباس، والقول الأول قول أبي بكر الصديق وعائشة، وعروة بن الزبير، وهو أرجح.
وقال ابن عطية: المتشابه نوعان؛ نوع انفرد الله بعلمه، ونوع يمكن وصول الخلق إليه. فيكون الراسخون ابتداءً بالنظر إلى الأول، وعطفًا بالنظر إلى الثاني
(1)
.
وصف الله الآيات المحكمات بأنهن أم الكتاب.
قال الماوردي فيه وجهان:
أحدها: أصل الكتاب.
والثاني: معلوم الكتاب، وفيه تأويلان:
أحدهما: أنه أراد الآي التي فيها الفرائض والحدود.
والثاني: أنه أراد فواتح السور التي يستخرج منها القرآن.
ويحتمل ثالثًا: أن يريد به أنه معقول المعاني؛ لأنه يتفرع عنه ما شاركه في معناه، كالأم لحدوثها عنه، فلذلك سماه أم الكتاب
(2)
.
(1)
التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزى (1/ 230).
(2)
النكت والعيون بتصرف (1/ 370).
وقال ابن جزى: «هن أم الكتاب» أي عمدة ما فيه ومعظمه
(1)
.
وقال الألوسي: أي أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها، والعرب تسمي كل جامع يكون مرجعًا أمًّا
(2)
.
لذلك سميت الفاتحة أم الكتاب؛ لأنها جمعت مقاصد القرآن.
ومن ذلك تعلم أن معظم آيات القرآن من قبيل المحكم الواضح المعنى، إما بنفسه، وإما بانضمام آيات أخرى إليه.
*
حكم العمل بالمحكم والمتشابه:
حكم العمل بالمحكم: وجوب العمل به.
وأما المتشابه فعلى اختلاف معناه يكون حكم العمل به:
- فإن قلنا: إنه المنسوخ، فلا يعمل به.
- وإن قلنا: إنه ما اشتبه بين الحلال والحرام، فالأولى تركه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه
…
» الحديث
(3)
.
(1)
التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزى (1/ 230).
(2)
روح المعاني للألوسي (3/ 80).
(3)
رواه البخاري (52)، ومسلم (1599)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا.
وإن قلنا: إن المتشابه ما احتمل أوجهًا كالمشترك، فلا بد من الاجتهاد لتعيين المراد إن لم يمكن الجمع بين هذه الأوجه.
وعندئذ يطلب الترجيح من الآيات المحكمات، أو الأدلة الأخرى كالسنة واللغة، وهذا معنى رد المتشابه إلى المحكم.
وقد تختلف أنظار العلماء في تعيين المراد ليبقى الاجتهاد، مثال: المراد ب «القرء» فهذا من المشترك اللفظي، فيطلق على الطهر ويطلق على الحيض، فعلى الأول مالك والشافعي، وعلى الثاني أبو حنيفة وأحمد.
فمن قال: المراد به في العدة الأطهار؛ استدل بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]: أي في زمان عدتهن.
ومعلوم أن الطلاق يكون في الطهر، لا في الحيض بالإجماع.
واستدلوا بحديث ابن عمر في تطليقه امرأته وهي حائض
(1)
.
(1)
وهو الحديث الذي رواه مسلم (1471)، عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائضٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء). وفي رواية عن عبد الله: أنه طلق امرأةً له وهي حائضٌ تطليقةً واحدةً، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده حيضةً أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. وزاد ابن رمح في روايته: وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك، قال لأحدهم: أما أنت طلقت امرأتك مرةً، أو مرتين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثًا، فقد حرمت عليك، حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيت الله فيما أمرك من طلاق امرأتك. قال مسلمٌ: جود الليث في قوله تطليقةً واحدةً.
المطلب السادس:
دلالة القرآن على الأحكام.
*
أولًا: من حيث القطعي والظني:
لا شك أن القرآن كله بقراءاته المتواترة قطعي الثبوت لوصوله إلينا بطريق التواتر المفيد للعلم اليقيني بصحة المنقول، وذلك مصداقًا لقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، إلا أن دلالته على الأحكام قد تكون قطعية، وقد تكون ظنية.
أولًا: تكون الدلالة قطعية إذا كان اللفظ لا يحتمل إلا معنى واحدًا فقط، أو يحتمل تأويلًا لكن وقع الإجماع على معنى من المعاني.
فالأول: كقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، وكقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
فالنصف والربع والمائة كلها قطعية الدلالة على مدلولها، ولا يحتمل أي واحد منها إلا معنى واحد فقط هو المذكور في الآية.
ومثال الثاني قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، فالأخ والأخت هنا يحتمل كونهما شقيقين أو لأب أو لأم، لكن وقع الإجماع على أن المراد بهما هنا الأخ والأخت لأم.
فانتقل النص من الظني إلى القطعي.
ثانيًا: تكون الدلالة ظنية: إذا كان اللفظ يحتمل أكثر من معنى، فتكون دلالة اللفظ على الحكم دلالة ظنية، مثل قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
فلفظ «قروء» يحتمل أن يراد به الأطهار كما قال الشافعي وغيره، ويحتمل أن يراد به الحيضات كما قال أبو حنيفة ومن معه.
وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة: 38]، فاليد لفظ مشترك لليمنى واليسرى، وتحتمل كلًّا منهما، كما يحتمل أن يراد منها الأصابع إلى الرسغ أو إلى المرفق أو إلى الإبط، فجاءت السنة وبينت ذلك؛ فهذا النص الذي يدل على عدة معانٍ، أو يحتمل أكثر من معنى تكون دلالته على المعنى ظنية.
وهنا سؤال وهو: لماذا لم تأت آيات القرآن كلها قطعية الدلالة، ويرتفع النزاع والاختلاف بين العلماء؟
والجواب عن ذلك:
1 -
قال الإمام الغزالي رحمه الله: ولو شاء الله لجاءت الشريعة قواطع، ولكن جاءت كما ترى ليتفاوت الناس في مراتبهم حين يؤمرون أن يشدوا الرحال إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
فتح باب الاجتهاد أمام العلماء، وفتح باب التنافس للوصول إلى المراد، فمن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
قال ابن قتيبة في باب المتشابه: وأما قولهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه من أراد بالقرآن لعباده الهدى والتبيان؟
فالجواب عنه: أن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء،
وإغماض بعض المعاني، حتى لا يظهر عليه إلا اللقن، وإظهار بعضها وضرب الأمثال لما خفي، لو كان القرآن كله ظاهرًا مكشوفًا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل؛ لبطل التفاضل بين الناس وسقطت المحنة وماتت الخواطر، ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة، وقالوا: عيب الغنى أنه يورث البله، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة
(1)
.
ومعنى اللقن: مصدر لقن الشيء يلقنه لقنًا وتلقينًا، والتلقين كالتفهيم، وغلام لقين: سريع الفهم. والمعنى: أي لا يطلع على معاني القرآن وما فيه من أسرار إلا من أوتي فهمًا سليمًا وذهنًا صافيًا.
3 -
التوسعة على الأمة بتنوع المذاهب الفقهية المبنية على الاجتهاد الصحيح، وفي هذا تيسير على الناس بخلاف حمل الناس على مذهب واحد قد لا يناسب الجميع.
4 -
بيان فضل وأهمية السنة، وأنها مبينة للكتاب شارحة له مفصلة لمجملاته؛ ولذلك قال تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} [النحل: 64].
(1)
تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (89)، ط المكتبة العلمية.
*
ثانيًا: من حيث الإجمال والبيان:
1 -
أحكام القرآن منها ما هو مفصل ومبين كآيات المواريث، وعدد الجلدات في الزنا والقذف، وكيفية اللعان بين الزوجين، وغير ذلك.
2 -
ومنها ما جاء مجملًا، كقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فبين النبي صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة بقوله وفعله، وبين مواقيتها وعدد ركعاتها إلى غير ذلك. وبين شروط وجوب الزكاة والأصناف الزكوية، ومقدار الأنصبة والقدر الواجب فيها إلى غير ذلك.
- ومنها الربا، فقد جاء النهي عنه مجملًا في القرآن:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278].
لكن ما هي الأصناف الربوية وكيف تباع؟ بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بسنته الشريفة.
*
ثالثًا: من حيث العموم والخصوص:
العام: هو اللفظ المستغرق لجميع أفراده دفعة واحدة بلا حصر، وله صيغ متعددة:
1 -
قد يأتي الخطاب القرآني عامًّا يراد به العموم، كقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، ف «أولات» جمع مضاف يراد به العموم، وهو باق على عمومه.
2 -
وقد يأتي عامًّا لكنه خص بأحد المخصصات، كقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، ف «المطلقات» جمع معرف ب «ال» يفيد العموم، لكنه مخصوص بالحامل فعدتها وضع الحمل، ومخصوص بالأمة فعدتها حيضتان.
3 -
وقد يأتي الخطاب عامًّا ولكنه يراد به الخصوص، كقوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، فكلمة «الناس» عام أريد به الخصوص، فليس المراد كل الناس قطعًا.
4 -
وقد يأتي الخطاب خاصًّا لكن يراد به العموم، كقوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فلفظ «أف» خاص لكنه يستفاد منه العموم في جميع أنواع الإيذاء، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
*
رابعًا: بيان القرآن للأحكام من حيث الإفراد والتركيب:
قد يستفاد الحكم من نص واحد، وقد يستفاد الحكم من عدة نصوص تعمل معًا.
فمثال ما يستفاد من نص واحد كميراث الزوجين في قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] الآية، فهذا نص
واحد مشتمل على الحكم وعلى شروطه، فلم يحتج إلى نص آخر يبينه.
ومثال ما يستفاد من عدة نصوص: أقل مدة للحمل، استفيد ذلك من قوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، فمجموع الحمل والرضاع ثلاثون شهرًا، مع قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وقوله تعالى:{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فاستفيد من ذلك أن أقل مدة للحمل ستة أشهر.
*
خامسًا: بيان القرآن للأحكام من حيث المنطوق والمفهوم:
قد تدل الآية على الحكم بمنطوقها، كقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، دلت هذه الآية بعبارتها -أي بنفس ألفاظها- على حرمة قتل النفس، وقد تدل الآية على الحكم بمفهوم اللفظ وليس بمنطوقه.
- والمفهوم قد يكون مفهوم موافقة - أي أن المسكوت عنه له حكم المنطوق-، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، فهذه الآية أفادت بعبارتها ولفظها تحريم أكل أموال اليتامى ظلمًا، ويفهم
منها بمفهوم الموافقة -أو ما يسمى فحوى الخطاب أو دلالة النص- تحريم إحراقها أو تبديدها أو إتلافها بأي نوع من أنواع الإتلاف.
- وقد يكون مفهوم مخالفة - أي أن المسكوت عنه له عكس حكم المنطوق، وقد يسمى أيضًا دليل الخطاب-، وأنواعه كثيرة منها: مفهوم الصفة، ومفهوم الشرط، ومفهوم الغاية، ومفهوم العدد، ومفهوم اللقب، وغيرها، والاستدلال به قال به الجمهور خلافًا للحنفية، وللجمهور شروط في العمل بمفهوم المخالفة تأتي في بابها - إن شاء الله -.
ومن أمثلة مفهوم المخالفة قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فدلت الآية على إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند العجز عن نكاح الحرائر، ودلت بمفهومها على النهي عن نكاح الإماء غير المؤمنات.
*
سادسًا: دلالة القرآن على الأحكام بالإشارة والإيماء:
دلالة الإشارة: دلالة اللفظ على معنى ليس مقصودًا باللفظ في الأصل، ولكنه لازم للمقصود فكأنه مقصود بالتبع لا بالأصل، كقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، فالآية تدل بالإشارة إلى صحة صوم من أصبح جنبًا؛ لأن إباحة الجماع في الجزء الأخير من الليل -الذي ليس بعده ما يتسع للاغتسال من
الليل- يلزمه إصباحه جنبًا
(1)
.
ودلالة الإيماء: أن يذكر وصف مقترن بحكم في نص من نصوص الشرع، على وجه لو لم يكن ذلك الوصف علة لذلك الحكم، لكان الكلام معيبًا. كقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]، فعلة النهي أن الله مختبرك وسائلك عن هذه الجوارح.
وكقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، أي لعلة سرقتهما.
(1)
مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (225).
الفصل الثاني: السنة النبوية
السنة النبوية
*
تعريف السنة:
لغة: هي الطريقة المسلوكة، وأصلها من قولهم: سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنًّا، أي طريقًا.
وقال الكسائي: معناها الدوام، فقولنا: معناها الأمر بالإدامة من قولهم: سننت الماء إذا واليت في صبه.
قال الخطابي: أصلها الطريقة المحمودة، فإذا أطلقت انصرفت إليها، وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقوله:«من سن سنةً سيئةً»
(1)
.
وقيل: هي الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة، كما في الحديث الصحيح:«من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»
(2)
.
(1)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 131).
(2)
رواه مسلم (1017)، والترمذي (2674)، والنسائي (2004)، وغيرهم من حديث جرير بن عبد الله مرفوعًا.
وأما معناها شرعًا: تطلق على ما صدر عن الرسول من الأدلة الشرعية، مما ليس بمتلو ولا هو معجز ولا داخل في المعجز. ويدخل في ذلك أقوال النبي عليه السلام وأفعاله وتقاريره
(1)
.
أو: ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا أو فعلًا أو إقرارًا.
فالقول: كقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»
(2)
.
والفعل كما شوهد منه من الأفعال في الصلاة والحج، كرفع يديه عند افتتاح الصلاة، وعند الركوع والرفع منه، وكسعيه بين الصفا والمروة.
والإقرار: كسائر ما رأى الصحابة يقولونه أو يفعلونه فلا ينهاهم، وذلك كقول أنس رضي الله عنه: كانوا إذا أذن المؤذن يعني المغرب ابتدروا السواري يصلون ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت، لكثرة من يصليها. قيل له: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما؟ قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا
(3)
.
(1)
الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 169).
(2)
رواه البخاري (631)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه مرفوعًا.
(3)
رواه مسلم (836)، من حديث أنس بن مالك مرفوعًا، وأصله عند البخاري (503، 625).
وكاحتجاج ابن عباس على إباحة الضب بأنه أُكِل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان حرامًا لنهى عنه
(1)
(2)
.
وكتبسمه من قيافة مجزز المدلجى حين رأى زيدًا وأسامة نائمين قد بدت أقدامهما من قطيفة فقال: «إن هذه الأقدام بعضها من بعض»
(3)
.
قال الطوفي: شرط كون إقراره حجة، بل شرط كون تركه الإنكار إقرارًا؛ علمه بالفعل، وقدرته على الإنكار، لأنه بدون العلم لا يوصف بأنه مقر أو منكر، ومع العجز لا يدل على أنه مقر، كحاله مع الكفار في مكة قبل ظهور كلمته
(4)
.
قلت: وكذلك من شرطه عدم ظهور الغضب منه صلى الله عليه وسلم لفعل أو قول، وكذلك عدم إبداء سبب الإنكار كتركه إعادة بناء البيت خشية افتتان قريش وهم حديثو عهد بالإسلام
(5)
.
(1)
رواه البخاري (5537)، ومسلم (1945) من حديث ابن عباس مرفوعًا.
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 62).
(3)
رواه البخاري (3555)، ومسلم (1459)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 63).
(5)
أخرجه البخاري (1583)، ومسلم (1333)، من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.
*
حجية السنة وأنها مصدر من مصادر التشريع:
والمراد هنا إثبات حجية السنة، والرد على منكري حجية السنة، أو القائلين بعرض السنة على القرآن محتجين بما رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله»
(1)
(2)
.
ذكر هذه الشبهة الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة وتولى الرد عليها، وضعف رواية هذا الحديث سندًا ومعنى.
وكتب ابن حزم رحمه الله في ذلك كلامًا نفيسًا في الإحكام
(3)
، وذكر عدة روايات لهذا الحديث ووهاها وضعفها كلها، وفي بعضها:«إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به، حدثت به أو لم أحدث»
(4)
، وفي بعضها:«ما بلغكم عني من قول حسن لم أقله فأنا قلته»
(5)
.
ورد ابن حزم كل هذه الروايات بضعف رواتها، وكذب بعضهم ثم
(1)
موضوع: ذكره ابن الجوزي، والفتني، والشوكاني في الموضوعات.
(2)
الرسالة للشافعي (224).
(3)
الإحكام لابن حزم (2/ 78) وما بعدها.
(4)
موضوع: ذكره ابن الجوزي، والفتني، والشوكاني في الموضوعات.
(5)
موضوع: ذكره ابن الجوزي، والفتني، والشوكاني في الموضوعات.
قال: فإحدى الطائفتين أبطلت الشرائع، والأخرى أباحت الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كلتا هاتين الطائفتين، وهاتين المسألتين.
ونقول للأولى: أول ما نعرض على القرآن الحديث الذي ذكرتموه، فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه، قال تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7]، وقال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)} [النساء: 80]، وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105].
ونسأل قائل هذا القول الفاسد: في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها، والسلام، وبيان ما يجتنب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة، ورمي الجمار، وصفة الإحرام، وما يجتنب فيه، وقطع يد السارق،
وصفة الرضاع المحرم، وما يحرم من المآكل، وصفة الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الربا، والأقضية والتداعي، وسائر أنواع الفقه، وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ثم قال رحمه الله: ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن. لكان كافرًا بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم وبالله تعالى التوفيق
(2)
.
قال: وأما الطائفة الأخرى المبيحة للقول بما لم يأت نصًّا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإباحة أن ينسب ذلك إليه، فحسبنا أنهم مقرون على أنفسهم بأنهم كاذبون، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»
(3)
.
(1)
الإحكام لابن حزم (2/ 78) وما بعدها.
(2)
المصدر السابق.
(3)
أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 7) من حديث سمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة.
وعن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تكذبوا عليَّ فإنه من يكذب عليَّ يلج النار»
(1)
.
ثم قال: ولا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلًا، وكل خبر شريعة، فهو إما مضاف إلى ما في القرآن، ومعطوف عليه، ومفسر لجملته، وإما مستثنى منه لجملته، ولا سبيل إلى وجه ثالث
(2)
.
ثم ذكر بإسناده حديث أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله تعالى اتبعناه»
(3)
، فهذا حديث صحيح بالنهي عما تعلل به هؤلاء الجهال، وبالله تعالى التوفيق
(4)
.
قلت: وفي رواية المقداد بن معد يكرب لهذا الحديث: «يوشك الرجل متكئًا على أريكته يُحدَّث بحديث من حديثي فيقول: بيننا
(1)
أخرجه البخاري (106)، ومسلم (1).
(2)
الإحكام لابن حزم (2/ 78) وما بعدها.
(3)
إسناده صحيح، أخرجه أحمد (17174)، وأبو داود (4604)، من حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعًا.
(4)
الإحكام لابن حزم (2/ 78) وما بعدها.
وبينكم كتاب الله عز وجل، ما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله»
(1)
(2)
.
*
استقلال السنة بالتشريع:
اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه»
(3)
: أي أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها
(1)
إسناده صحيح، أخرجه أحمد (17174)، وأبو داود (4604)، من حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعًا.
(2)
إسناده صحيح، أخرجه أحمد (17174)، وأبو داود (4604)، من حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعًا.
(3)
انظر ما قبله.
القرآن، وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية، وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وغير ذلك مما لا يأتي عليه الحصر
(1)
.
قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب
(2)
.
قلت: يعني في البيان والتوضيح، كتخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، لا في أصل الإثبات؛ لأن الكتاب هو أصل إثبات النبوة ابتداءً.
(3)
.
قال ابن عبد البر: إنها تقضي عليه، وتبين المراد منه.
وقال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب
(4)
.
وقال الإمام أحمد: ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكن أقول: إن
(1)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 132).
(2)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2351).
(3)
رواه البخاري (7274)، ومسلم (152)، وأحمد (8491) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.
(4)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2353).
السنة تفسر الكتاب وتبينه
(1)
.
قال الشوكاني: والحاصل أن ثبوت السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام
(2)
.
(1)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2354).
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 97).
أحوال السنة مع القرآن في البيان:
قال الإمام الشافعي رحمه الله: وسنن رسول الله مع كتاب الله وجهان:
أحدهما: نص كتاب فاتبعه رسول الله كما أنزل الله.
والآخر: جملة بين رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها عامًّا أو خاصًّا، وكيف أراد أن يأتي به العباد.
وكلاهما اتبع فيه كتاب الله.
قال: فلم أعلم من أهل العلم مخالفًا في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه: فاجتمعوا منها على وجهين، والوجهان يجتمعان ويتفرعان:
أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب.
والآخر: ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد.
وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب.
فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب.
ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله قال:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، وقال:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فما أحل وحرم فإنما بين فيه عن الله كما بين الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فأثبتت سنته بفرض الله.
ومنهم من قال: ألقي في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة الذي ألقي في روعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنته
(1)
.
(1)
الرسالة للشافعي (91 - 93).
•
أقسام السنة:
*
الأول: السنة القولية:
وهي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه سلم من أقوال.
قال الزركشي: والمراد بها التي لا على وجه الإعجاز؛ ليخرج القرآن.
وقال الحارث المحاسبي في كتاب «فهم السنن» : وهذا القسم على وجوه شتى:
- فمنها: ما يبتدئ ثم بتعليم عامتهم أو بعضهم.
كقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»
(1)
.
- ومنها: ما يسأله بعضهم عنه فيخبرهم.
قلت: كما في حديث عائشة: أن امرأة من الأنصار قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف أغتسل من المحيض؟ قال: «خذي فرصةً مُمَسَّكةً فتوضئي ثلاثًا»
(2)
.
وكحديث جابر بن سمرة: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول
(1)
رواه البخاري (1)، ومسلم (1907)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا.
(2)
رواه البخاري (315)، ومسلم (332) من حديث عائشة مرفوعًا.
الله، أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال:«إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» . قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم» ، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا»
(1)
.
- ومنها ما يكون من بعضهم السبب بتوفيق الله ليعلمه بسببه، فيبينه في ذلك تبيينًا له، أو ينهى عنه كما كانوا يصلون ما سبقهم به من الصلاة، ثم يدخلون معه في الصلاة، فجاء معاذ فدخل معه في الصلاة، ولم يبدأ بما سبق ثم قضى ما سبق به، فقال: لا أجده على حالٍ إلا كنت عليها ثم قضيت، فجاء وقد سبقه ببعض الصلاة، فدخل في الصلاة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قام معاذ يقضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قد سن لكم معاذ هكذا فافعلوا»
(2)
.
- ومنها: ما يحتكم فيه إليه فيقضي بين بعضهم بذلك، إيضاحًا لما أحب الله وتعليمًا لهم، وذلك كتعليمه الصلاة للمسيء صلاته، وتعليمه
(1)
رواه مسلم (360)، وابن ماجة (495)، وابن حبان (1124)، وغيرهم من حديث جابر بن سمرة مرفوعًا.
(2)
منقطع، أخرجه أحمد (22027)، وأبو داود (506)، والبيهقي (5213) وغيرهم، من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل مرفوعًا، وابن أبي ليلى لم يسمع من معاذ كما قال العلائي وغيره.
التشهد كما يعلم السورة من القرآن، وغير ذلك
(1)
.
قلت: ومنها خطابه لأحد الصحابة بلفظ خاص والمراد التعميم، كحديث معاذ بن جبل أن رسول صلى عليه وسلم أخذ بيده، وقال:«يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك» ، فقال:«أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ، وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن
(2)
.
والحديث خرج مخاطبًا به معاذًا، لكن العموم فيه لا يحتاج إلى دليل حيث لا اختصاص في الذكر دبر الصلوات لأحد دون أحد، وأنت ترى في الحديث أن معاذًا أوصى بها الصنابحي، وأن الصنابحي أوصى بها أبا عبد الرحمن الحبلي، وكذا من بعده.
ومن ذلك: حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وُكِلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعِنت عليها، وإذا حلفت على
(1)
البحر المحيط للزركشي (4/ 168).
(2)
إسناده صحيح، أخرجه أبو داود (1522)، وأحمد (22119)، والنسائي (1302)، من حديث معاذ بن جبل مرفوعًا.
يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير»
(1)
.
والخطاب وإن كان موجهًا إلى عبد الرحمن بن سمرة فإن الحكم عام.
وهذا الوجه من الخطاب يتناوله المناطقة في الألفاظ في الكلية والجزئية، ويعبر عن هذا القسم بالجزئي الذي أريد به الكلي.
(1)
رواه البخاري (6132)، ومسلم (313) من حديث عبد الرحمن بن سمرة مرفوعًا.
*
القسم الثاني: أفعال النبي صلى الله عليه وسلم
-
(1)
:
وهي على أنواع:
الأول: الفعل الجبلي: وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة أي الطبيعة البشرية، كالأكل والشرب والنوم والمشي، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110].
والأفعال الجبلية على ضربين:
أولها: فعل يقع منه اضطرارًا دون قصد منه لإيقاعه مطلقًا، كما روي أن إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر.
وما يدور في نفسه من حب أو كراهة لأشخاص أو أشياء، مما لا سيطرة له على منعه أو إيجاده، ككراهيته أكل الضب، وكراهيته قاتل حمزة.
فهذا النوع لا حكم له شرعًا؛ لوقوعه دون قصد منه صلى الله عليه وسلم فلا يستفاد منه حكم، ولا يتعلق به أمر باقتداء ولا نهي عن مخالفة.
ثانيها: الأفعال الجبلية الاختيارية، وهي ما يفعله عن قصد وإرادة،
(1)
انظر: العدة في أصول الفقه (3/ 734)، وما بعدها، الإحكام للآمدي (1/ 173)، وما بعدها، مختصر التحرير لابن النجار (2/ 178)، وما بعدها، أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية للأشقر.
ولكنها أفعال تدعو إليها ضرورته من حيث هو بشر، ويوقعها الإنسان قصدًا عن شعوره بتلك الضرورة.
مثل: تناول الطعام والشراب، وقضاء الحاجة، واتخاذ المنزل والملابس والفراش، والمشي والجلوس والنوم، والتداوي من المرض، والنكاح.
وحكم هذا النوع: أنه يدل على الإباحة، ولا يدل على استحباب أو وجوب ما لم يقترن بقول أو قرينة تدل على ذلك، أو يكون له صلة بالعبادة.
فلا يصح أن يفهم من الحديث أن من أكل بالملعقة وترك الأكل بالأصابع فقد رغب عن السنة واستحق الوعيد، ولا أن من توضأ من المغسلة أو الصنبور وترك الوضوء من إناء صغير يغترف منه باليد فقد رغب عن السنة؛ لأنه تركٌ للمباح مع اعتقاد إباحته، وليس في ذلك حرج.
تنبيه: إذا ورد قول يرشد إلى هيئة مخصوصة للفعل، فإن هذا يخرج هذا الفعل من هذا النوع ويكون النظر حينئذ في الدليل القولي.
ومثاله: ما ورد أنه كان يشرب ثلاثًا أو يتنفس ثلاثًا، ويقول: «إنه أهنأ
وأمرأ»
(1)
.
ومثاله: أنه كان يأكل بيمينه أو مما يليه، وأمر بذلك
(2)
.
النوع الثاني: الفعل العادي.
وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم جريًا على عادة قومه ومألوفهم، مما لم يدل دليل على ارتباطه بالشرع.
مثل: أنه صلى الله عليه وسلم لبس المرط المرحل والمخطط، والجبة والعمامة والقباء، وأطال شعره، واستعمل القرب الجلدية في خزن الماء، ودفن الموتى في قبور محفورة في التراب دون المبنية بالحجارة.
وحكم هذه الأمور العادية وأمثالها، كنظائرها من الأفعال الجبلية، والأصل فيها جميعًا أنها تدل على الإباحة لا غير، إلا في حالتين:
1 -
أن يرد قول يأمر بها أو يرغب فيها، فيظهر حينئذ أنها شرعية.
2 -
أن يظهر ارتباطها بالشرع بقرينة غير قولية، كتوجيه الميت في قبره إلى القبلة فإن ارتباط ذلك في الشرع لا خفاء فيه.
(1)
رواه مسلم (2028) من حديث أنس بن مالك مرفوعًا.
(2)
رواه البخاري (5376)، ومسلم (2022)، من حديث عمر بن أبي سلمة مرفوعًا.
النوع الثالث: الفعل في الأمور الدنيوية.
والمقصود بها: ما فعله صلى الله عليه وسلم بقصد تحصيل نفع في البدن أو المال له أو لغيره، أو دفع ضر كذلك.
ويشمل هذا النوع: الأفعال الطبية، كتناول أطعمة أو أشربة معينة على سبيل حفظ الصحة أو درء مرض معين له أو لغيره، كألبان الإبل وأبوالها، والحجامة، وإهراقة الماء عليه من سبع قرب لم تُحَلُّ أوكيتهم، وكوضع رماد حصيرعلى جرحه ليرقأ الدم، وكالتداوي بالريق مع التراب، ورفض أدوية معينة كاللدود والكي.
وكذلك ما يفعله من أمور الزراعة والتجارة والصناعة، ورعي الغنم، والتدابير التي يتخذها في الحرب من استعمال المنجنيق والسهام وتربية الخيل وحفر الأنفاق.
وحكم هذا النوع: أنه ليس تشريعًا ولا يلزم التقيد به، بل الأمور الحياتية والدنيوية مبناها على التجربة، لكن إن اقترن بالفعل أمر؛ فذلك يخرجه من باب الأفعال، ويعود النظر إلى الدليل القولي.
النوع الرابع: الأفعال الخارقة للعادة (المعجزات والكرامات):
المعجزة من فعل الله تعالى تأييدًا لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهي لا تنسب إلى الرسول إلا مجازًا، فلا يمكن تحقيقها بالاكتساب، ولا يمكن تحصيل
أسبابها.
النوع الخامس: الأفعال الخاصة به صلى الله عليه وسلم:
الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم عدم الخصوصية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث أسوةً بقوله وفعله، والخصوصية تمنع الاقتداء، فلا تجوز دعوى الخصوصية إلا بدليل.
أدلة الخصوصية:
يعلم أن حكم الفعل من خصائصه صلى الله عليه وسلم بأمور:
الأول: أن يرد في القرآن نص على الخصوصية والمنع من الاشتراك، كقوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، وكقوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، على قول أن صلاة الليل كانت واجبة عليه، ولغيره مستحبة، وهو قول ابن عباس
(1)
.
الثاني: أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ويصرح به، كنهيه لهم عن الوصال لما واصل، وقال:«إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربني ويسقيني»
(2)
.
(1)
تفسير الماوردي (3/ 264).
(2)
رواه البخاري (1964)، ومسلم (1105).
وقال في دخول مكة مقاتلًا: «إن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم»
(1)
.
الثالث: الإجماع على الخصوصية، كإجماعهم على تحريم الزيادة على أربعة نسوة، واختصاصه صلى الله عليه وسلم بإباحة ذلك.
فإذا ثبتت الخصوصية في فعل من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها تقتضي أن غيره ليس كحكمه، وذلك إجماع، إذ لو كان حكمه حكم غيره لما كان للاختصاص معنى
(2)
.
النوع السادس: الفعل البياني.
قال الآمدي: وأما ما عرف كون فعله بيانًا لنا، فهو دليل من غير خلاف، وذلك إما بصريح مقاله، كقوله:«صلوا كما رأيتموني أصلي»
(3)
(4)
، أو بقرائن الأحوال وذلك كما إذا ورد لفظ مجمل أو عام أريد به الخصوص، أو مطلق أريد به التقييد ولم يبينه قبل الحاجة إليه، ثم فعل عند الحاجة فعلًا صالحًا للبيان، فإنه يكون بيانًا حتى لا يكون مؤخرًا للبيان عن وقت الحاجة، وذلك كقطعه
(1)
رواه البخاري (104)، ومسلم (354).
(2)
أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام الشرعية للأشقر (277).
(3)
رواه البخاري (631)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه مرفوعًا.
(4)
رواه البخاري (156)، ومسلم (1297)، من حديث جابر بن عبد الله مرفوعًا.
يد السارق من الكوع بيانًا لقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، والبيان تابع للمبين في الوجوب والندب والإباحة
(1)
.
إشكال: قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، «خذوا عني مناسككم» بيان للأمر بالصلاة في قوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، والحج في قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وهما واجبان، وفي أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والحج ما ليس بواجب؟!
والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: جواب أبي يعلى الحنبلي أن الجزء الذي أجمعوا على أنه بيان يكون بيانًا، وإلا فلا، قال: ليس كل فعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة والصدقة بيانًا للجملة التي في الكتاب؛ لأنه لو صلى لنفسه لم يدل على أنه بيان، لقوله تعالى:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]، ولو تصدق بصدقة لم يدل على أنها مرادة بقوله تعالى:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وإنما وجه البيان ما يجمع الناس على أنه من المكتوبات؛ لأن ما يفعله في نفسه لم يثبت أنه فعله فرضًا، فلا يكون فيه دلالة على أنه فعله بيانًا.
(1)
الإحكام للآمدي بتصرف يسير (1/ 173، 174).
الثاني: أن قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ورد في قصة ورود مالك بن الحويرث ورفاقه على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم لمالك ومن معه في مثل حاله رضي الله عنه الذين أقاموا عشرين ليلة فقط، وحملهم الشوق إلى أهلهم على الرجوع ولم يسعفهم الوقت للتعلم والتفريق بين واجبات الصلاة وسننها، وما ليس من واجباتها ولا من سننها، فيقال له: اصنع مثل فلان من الناس، وفلان ممن يحسن الصلاة. فيشابه في الصورة دون القصد.
الثالث: وهو جواب أبي شامة رحمه الله قال: سلمنا أن الحديث يدل على أن صلاته صلى الله عليه وسلم بيان، لكنها بيان للصلاة المطلوبة من المسلمين، بواجباتها وسننها وما يجوز فيها، فلماذا يحمل فعله صلى الله عليه وسلم على أنه للواجب خاصة؟.
بل الناتج من كون صلاته بيانًا؛ أن يكون كل فعل فعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة دائرًا بين هذه الأنواع الثلاثة، والعمدة في تمييز بعضها عن بعض إما القول، وإما الإجماع، وإما القرائن الأخرى، ولا يصلح الفعل وحده دليلًا؛ ولذلك قال الجصاص: أمرنا بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم على وصف، هو أن نصلي كما رأيناه يصلي، فنحتاج أن نعلم كيف صلى من ندب أو فرض فنفعل مثله.
وأما حديث: «خذوا عني مناسككم» ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعل في حجته
أفعال الحج كلها من واجب ومندوب، ولا يتميز بالفعل واجبه من مندوبه، فلا يصل الفعل بيانًا في ذلك، والتفريق لا بد له من وجه آخر
(1)
.
الرابع: أن الأصل أن الافعال الواردة في الصلاة والحج على الوجوب، وما خرج خرج بنص.
النوع السابع: الفعل المجرد.
وهو المجرد عن القرائن بالأمر أو الندب أو التخصيص.
قال الآمدي: وأما ما لم يقترن به ما يدل على أنه للبيان لا نفيًا ولا إثباتًا، فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لا يظهر، فإن ظهر فيه قصد القربة، فقد اختلفوا فيه:
فمنهم من قال: إن فعله عليه السلام محمول على الوجوب في حقه وفي حقنا. كابن سريج، والاصطخري، وابن أبي هريرة، وابن خيران، والحنابلة، وجماعة من المعتزلة.
ومنهم من صار إلى أنه للندب، وقد قيل: إنه قول الشافعي. وهو اختيار إمام الحرمين.
(1)
أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام الشرعية للأشقر (294 - 300).
ومنهم من قال: إنه للإباحة. وهو مذهب مالك.
ومنهم من قال بالوقف، وهو مذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالصيرفي والغزالي، وجماعة من المعتزلة.
وأما ما لم يظهر فيه قصد القربة، فقد اختلفوا أيضًا فيه على نحو اختلافهم فيما ظهر فيه قصد القربة، غير أن القول بالوجوب والندب فيه أبعد مما ظهر فيه قصد القربة والوقف والإباحة أقرب.
قال: والمختار أن كل فعل لم يقترن به دليل يدل على أنه قصد به بيان خطاب سابق، فإن ظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى؛ فهو دليل في حقه عليه السلام على القدر المشترك بين الواجب والمندوب، وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير، وأن الإباحة وهي استواء الفعل والترك في رفع الحرج خارجة عنه، وكذلك في حق أمته، وما لم يظهر فيه قصد القربة فهو دليل في حقه على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح، وهو رفع الحرج عن الفعل لا غير وكذلك عن أمته
(1)
.
ومن أراد الأمثلة الكثيرة على هذين النوعين وغيرهما، فليراجع صحيح ابن حبان المسمى «التقاسيم والأنواع» القسم الخامس وهو الأفعال.
(1)
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 174).
وكذلك فليرجع إلى باب الكاف خاصة «كان» ، من كتاب «الجامع الصغير» للسيوطي.
*
القسم الثالث: تقرير النبي صلى الله عليه وسلم
-:
وصورته: أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار قول قيل بين يديه أو في عصره، أو فعلٍ فعل بين يديه أو في عصره، وهو عالم به قادر على إنكاره.
فسكوته صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يكون هذا الفعل أو القول علم قبحه وتحريمه من قبل، وهذا له حالتان:
الأولى: أن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله، وعلم من النبي صلى الله عليه وسلم الإصرار على قبح ذلك العمل وتحريمه، كاختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم، فالسكوت لا يدل على جوازه وإباحته إجماعًا، ولا يوهم كونه منسوخًا.
الثانية: أن لا يعلم إصرار ذلك الفاعل على فعله، ولا يعلم الإصرار على التحريم، فالسكوت عنه وتقريره له من غير إنكار يدل على نسخه عن ذلك الشخص وغيره على الراجح؛ لأن التحريم إذا ارتفع في حق واحد ارتفع في حق الكل، فيدل ذلك على الجواز؛ لأن تأخير البيان عن
وقت الحاجة لا يجوز.
الثاني: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق منه النهي عن ذلك الفعل ولا عرف تحريمه، فسكوته عن فاعله وتقريره له عليه، لا سيما إن وجد منه استبشار وثناء على الفاعل؛ فإنه يدل على جوازه ورفع الحرج عنه. وذلك مثل أكل الضب بين يديه
(1)
.
وقال الشوكاني: ومما يندرج تحت التقرير إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا، أو كانوا يفعلون كذا. وأضافه إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما لا يخفى مثله عليه
(2)
.
تنبيه: من أنواع البيان بالسنة: البيان بالترك.
الترك: هو عدم فعل المقدور عليه.
والترك معدود من الأفعال المكلف بها، خلافًا لمن زعم أن الترك أمر عدمي لا وجود له.
والدليل على أن الترك فعل: قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 79].
(1)
الإحكام للآمدي (1/ 188، 189).
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 154).
فسمى الله تعالى عدم تناهيهم عن المنكر فعلًا، وذمهم على هذا الفعل، فقال سبحانه:{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 79]، وكذلك قوله تعالى:{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 63]، فسمى الله تعالى عدم نهي الربانيين والأحبار لهم صنعًا، والصنع أخص مطلقًا من الفعل، والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة، يقال: سيف صنيع. إذا جود عمله
(1)
، فدل على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فعل بدليل تسميته له صنعًا.
ومما يستدل به على أن الترك فعل يثاب ويعاقب عليه: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159]، فعوقبوا بترك البيان للناس، ونشر العلم الذي تعلموه.
والدليل من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»
(2)
.
(1)
القرطبي (3/ 583).
(2)
أخرجه البخاري (10)، ومسلم (40) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخرجه البخاري (11)، ومسلم (42) من حديث أبي موسى الأشعري، وأخرجه مسلم (41) من حديث جابر بن عبد الله.
فسمى ترك الأذى إسلامًا وهو يدل على أن الترك فعل.
وقال السبكي في طبقاته: أن قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان: 30] يدل على أن الترك فعل، قال: لأن الأخذ التناول، والمتروك المهجور، فصار المعنى تناولوه متروكًا، أي فعلوا تركه
(1)
.
• ويمكن تقسيم الترك إلى قسمين:
*
القسم الأول: ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من أمور العادات أو الأمور الجبلية:
كترك لباس معين، أو طعام معين، أو ركوب دابة معينة من غير أن يقترن بذلك الترك نهي، فحكم ذلك المتروك أنه على الإباحة الأصلية، ولا يجب تركه ولا يتعبد بتركه.
مثال ذلك:
1 -
ما ترك من الأطعمة: تركه أكل الضب، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكنه لم
(1)
مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (39).
يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، قال خالد: فاجتررته، فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فلم ينهني
(1)
.
من ذلك أيضًا عن أنس بن مالك قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان، ولا في سكرجةٍ، ولا خبز له مرقق، قلت لقتادة: علام يأكلون؟ قال: على السفر
(2)
.
والخوان: هو المائدة ما لم يكن عليها طعام، وجمعه أخونة وخون.
وسكرجةٍ: قال ابن مكي: هي صحاف صغار يؤكل فيها، ومنها الكبير والصغير، كانت تستعملها العجم في الكوامخ، والجوارش للتشهي والهضم.
قال ابن حجر: قال شيخنا في شرح الترمذي: تركه الأكل في السكرجة إما لكونها لم تكن تصنع عندهم إذ ذاك، أو استصغارًا لها؛ لأن عادتهم الاجتماع على الأكل، أو لأنها كما تقدم كانت تعد لوضع الأشياء التي تعين على الهضم، ولم يكونوا غالبًا يشبعون فلم يكن لهم حاجة بالهضم
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (5537)، ومسلم (1945، (1946).
(2)
أخرجه البخاري (5386، 5415).
(3)
فتح الباري لابن حجر (9/ 532).
والخبز المرقق: قال عياض: مرققًا. أي مليئًا محسنًا كخبز الحواري وشبهه، والترقيق: التليين، ولم يكن عندهم مناخل
(1)
.
2 -
ما كان تركه خاصًّا به صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك تركه لأكل الثوم مع بيان سبب ذلك، وأنه خاص به صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي أيوب الأنصاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام أكل منه، وبعث بفضله إلي، وإنه بعث إليَّ يومًا بفضلة لم يأكل منها؛ لأن فيها ثومًا، فسألته: أحرام هو؟ قال: «لا، ولكني أكرهه من أجل ريحه» ، قال: فإني أكره ما كرهت
(2)
، وفي رواية:«فإني أناجي من لا تناجي»
(3)
.
3 -
ما كان الترك فيه من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع عدم النهي عن المتروك، فالتأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك مستحب.
ومثاله: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله،
(1)
المصدر السابق.
(2)
أخرجه مسلم (2053).
(3)
أخرجه البخاري (855)، ومسلم (564) من حديث جابر بن عبد الله.
فينتقم لله عز وجل»
(1)
.
4 -
ما تركه لمصلحة راجحة مع أن الفعل أولى لولا وجود هذه المصلحة.
مثال: ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم من أجل حداثة قريش بجاهلية
(2)
.
*
القسم الثاني: الترك في باب العبادات.
وينقسم إلى أنواع:
الأول: ما تركه صلى الله عليه وسلم لمصلحة الأمة مع فعله له أحيانًا ثم تركه خشيةً أن يفرض، كترك القيام في رمضان جماعة بأصحابه رحمة بأمته
(3)
، فهذا الفعل لا يترك لزوال المانع، وهو انقطاع الوحي.
الثاني: ما تركه من باب العقوبة، كتركه الصلاة على صاحب الدين
(4)
، وعلى الغال
(5)
من باب العقوبة لهما، والترهيب من
(1)
أخرجه مسلم (2328).
(2)
أخرجه البخاري (126، 1584)، ومسلم (1333) من حديث عائشة.
(3)
أخرجه البخاري (731، 6113)، ومسلم (781) من حديث زيد بن ثابت.
(4)
أخرجه البخاري (2289، 2295) من حديث سلمة بن الأكوع.
(5)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود (2710)، وابن ماجة (2848)، والحميدي (834)، وغيرهم عن زيد بن خالدٍ الجهني، أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«صلوا على صاحبكم» . فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال:«إن صاحبكم غل في سبيل الله» . ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز يهود لا يساوي درهمين.
وهو حديث ضعيف مداره على أبي عمرة مولى زيد بن خالد وهو مجهول.
صنيعهما، فهذا يشرع لأهل الفضل والعلماء التأسي به.
الثالث: الترك البياني أو التشريعي.
كتركه عبادة مع قدرته عليها، فهذا الترك واجب، بل إن فعل عبادة لم يفعلها صلى الله عليه وسلم يكون بدعة؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، مثل تركه الأذان للعيدين
(1)
، وتركه الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، وكتركه صلى الله عليه وسلم لهيئة معينة في أداء عبادة، فهذا الترك واجب الاتباع.
ومثل تركه صلاة الفريضة على الراحلة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته، حيث كان وجهه يومئ برأسه
(2)
.
وفي رواية: (إلا الفرائض)
(3)
، وفي رواية: (غير أنه لا يصلي عليها
(1)
أخرجه البخاري (5249، 7325) من حديث ابن عباس.
(2)
أخرجه البخاري (1105)، ومسلم (700).
(3)
أخرجه البخاري (1000).
المكتوبة)
(1)
.
قال ابن دقيق العيد: قد يتمسك به في أن صلاة الفرض لا تؤدى على الراحلة، وليس ذلك بقوي في الاستدلال؛ لأنه ليس فيه إلا ترك الفعل المخصوص، وليس الترك بدليل على الامتناع، وكذا الكلام في قوله: إلا الفرائض. فإنه إنما يدل على ترك هذا الفعل، وترك الفعل لا يدل على امتناعه كما ذكرنا، وقد يقال: إن دخول وقت الفريضة مما يكثر على المسافرين، فترك الصلاة لها على الراحلة دائمًا مع فعل النوافل على الراحلة يشعر بالفرقان بينهما في الجواز وعدمه
(2)
.
قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن يصلي الفريضة على الدابة من غير عذر
(3)
.
قلت: ولعل مستند الإجماع ترك النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفريضة على الراحلة مع حاجته لها في السفر، والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (700).
(2)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد (1/ 131).
(3)
شرح عمدة الأحكام مع حاشية الصنعاني (2/ 166).
الفصل الثالث:
الإجماع
الإجماع
*
تعريف الإجماع لغة واصطلاحًا.
الإجماع لغة: مادة «جمع» الجيم والميم والعين أصل يدل على تضام الشيء، ومنه «الإجماع» بمعنى الإعداد والعزيمة على الأمر إذا تعدى بنفسه، كقوله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]، أما إن تعدى بحرف الجر «على» فيكون بمعنى الاتفاق. يقال: أجمعوا عليه إذا اتفقوا عليه، وهذا أمر مجمع عليه أي متفق عليه
(1)
.
الإجماع اصطلاحًا: اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في حادثة على أمر من الأمور في عصر من الأعصار
(2)
.
فقوله: «اتفاق» قيد يخرج ما لو خالف واحد أو اثنان ممن يعتبر قوله في الإجماع، فليس بإجماع.
قوله: «مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم» يخرج:
(1)
لسان العرب مادة ج-م-ع (8/ 75) ط دار صادر، معجم مقاييس اللغة لابن فارس (10/ 179) ط دار الفكر.
(2)
البحر المحيط للزركشي (4/ 436).
1 -
من لم يكن من أهل الاجتهاد كالصبيان والمجانين والعوام والمقلدين، فلا يعتبر قولهم في الإجماع، وعدم اعتبار قول العامي المكلف، ويلحق به طلبة الفقهاء الذين لم يبلغوا رتبة النظر والاستدلال الاجتهادي، وهو قول الأكثر من الأصوليين، والفقهاء الأئمة الأربعة، وغيرهم، خلافًا للقاضي أبي بكر الباقلاني حيث قال: اعتبر موافقة العامي؛ لأن لفظ الأمة يعمه، والجواب على قوله من وجهين:
الأول: أن قول العامي غير مستندٍ إلى دليل، وإلا لم يكن عاميًّا، وما ليس مستندًا إلى دليل، يكون جهلًا وخطأ لأن الشرع حرم القول بغير علم.
الثاني: قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]، إذ كيف يأمرهم بسؤال العلماء، ثم يجعلهم كالأمراء عليهم، لا ينفذ قولهم إلا بموافقتهم هذا بعيد جدًّا
(1)
.
2 -
لا يعتبر في الإجماع بقول كافر - سواء كان بتأويل أو غيره- حتى لو كان من أعلم الناس بعلوم الشريعة كالمستشرقين مثلًا.
3 -
لا يعتد بقول الفاسق بقول أو فعل أو اعتقاد، وإليه ذهب القاضي وجماعةٌ؛ لقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 33، 35).
[البقرة: 143]، أي عدولًا وهو ليس بعدل، ولأنه لا يقبل منفردًا، فلا يقبل مع غيره.
وقال أبو خطاب: يعتبر قول الفاسق لدخوله في عموم الأمة والمؤمنين
(1)
.
*
كيف يعلم الإجماع؟
1 -
يعلم الإجماع بطريق النقل والأخبار كنقل صاحب المغنى وابن حزم وابن تيمية، وغيرهم الإجماع فى بعض المسائل.
2 -
يعلم بطريق المشافهة أى السؤال لكل العلماء عن مسألة فإن اتفقوا يكون إجماعًا.
تنبيه: الإجماع فى عصر من العصور يُلزَم به كل من أتى بعده لأن الإجماع يعتبر إجماع الأمة، ولو كان فى عصرٍ واحد من العصور.
*
شروط الإجماع:
1 -
أن يكون من كل المجتهدين الموجودين فى ذلك العصر.
2 -
أن يكونوا مسلمين.
3 -
أن يكون بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم.
(1)
مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (146).
*
إمكانية الإجماع:
قال أبوالمظفر السمعاني: الإجماع ممكن وانعقاده متصور، وقال قوم انعقاد الإجماع غير متصور وغير ممكن، وهذا باطل؛ لأنه لما كان الإجماع في الأخبار المستفيضة ممكنًا وجب أن يكون الإجماع باعتقاد الأحكام ممكنًا؛ لأنه كما يوجد سبب يدعو إلى إجماعهم على الأخبار المستفيضة يوجد أيضا سبب يدعو إلى إجماعهم باعتقاد الأحكام يدل عليه أن من تبين بشرع فإنه لا يستجيز كتمانه إلا عن تقية في بعض المواضع، فأما إذا لم يكن هناك تقية ولا خوف فإنه لا يستجيز كتمانه وإخفاءه، وإذا ثبت هذا إذا اجتمعت الجماعة على اعتقاد أو حكم، واستفاض ذلك فيما بينهم، أو لم ينكر أحد منهم ذلك لو خلوا اعتقد أحد منهم خلاف ذلك لأنكره إما صريحًا أو تعريضًا، فصارعدم الخلاف منهم دليلًا على وجود الإجماع
(1)
.
فلا خلاف بين العلماء في إمكان الإجماع عقلًا؛ لأن اتفاق المجتهدين في عصر على حكم لا يمتنع عقلًا، ولا خلاف في تصوره، وإمكانه في ضروريات الأحكام.
أما في غير ذلك وهو: الإجماع على الأحكام التي لا تكون معلومة
(1)
قواطع الأدلة للسمعاني (1/ 461).
بالضرورة بأن كان الإجماع عن مستند ظني، فقد اختلف العلماء في إمكانه على مذهبين:
المذهب الأول: أن الإجماع ممكن، أي: إجماع المجتهدين من أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور ممكن عادة.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: الوقوع، حيث إن الإجماع وقع فعلًا، ولا أدل على الإمكان من الوقوع، وأمثلة وقوع الإجماع كثيرة، ومنها:
1 -
الاجماع على حرمة شحم الخنزير كلحمه.
2 -
الإجماع على حجب ابن الابن بالابن.
3 -
الإجماع على تقديم الدَّين على الوصية.
4 -
الإجماع على أنه لا زكاة في أعيان الشجر.
5 -
الإجماع على أن الواجب في الغسل والمسح في الوضوء هو الفعل مرة واحدة.
6 -
الإجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: لونه، أو طعمه، أو ريحه بنجاسة لا يجوز الوضوء منه.
وغير ذلك من الأمثلة.
فهذا دليل واضح على انعقاد الإجماع بالفعل فضلًا عن إمكانه.
الدليل الثاني: أنه كما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب، فكذلك لا يمتنع اتفاقهم على حكم معين لحادثة حدثت في عصرهم، ولا فرق، والجامع: توافق الدواعي لكل منهما.
الدليل الثالث: أن الأصل الإمكان، فيستمر هذا الأصل ويتمسك به لعدم وجود ما يمنعنا من استصحابه.
المذهب الثاني: أن الإجماع مستحيل عادة، فهو غير ممكن.
ذهب إلى ذلك بعض النظامية، وبعض الشيعة، وبعض الخوارج.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن أهل الإجماع قد انتشروا في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الانتشار يمنع نقل الحكم إليهم عادة، وإذا امتنع نقل الحكم امتنع الاتفاق الذي هو وقوع تساويهم في نقل الحكم إليهم.
وجوابه:
بأن أهل الإجماع عدد قليل معروفون بأعيانهم، وهم المجتهدون، وعليه فيمكن أن ينقل الحكم إلى جميعهم، ولا يخفى على واحد من
المجتهدين، ثم إن أهل الإجماع يكونون عادة أهل جد وبحث، وليسوا خاملين، فالمطلوب لا يخفى على الطالب الجاد، وإنما يمتنع ذلك لمن قعد في عقر داره لا يبحث ولا يطلب، وهذا قد ينزله عن درجة الاجتهاد
(1)
.
*
أثر التقنية الحديثة في إمكان انعقاد الإجماع، والاطلاع عليه ونقله:
ما نقل عن بعض الأئمة من تعذر وقوع الإجماع والاطلاع عليه في العصور المتأخرة بعد عصر الصحابة كقول الإمام أحمد رحمه الله: من ادَّعى الإجماع فقد كذب.
فهي محمولة عند البعض على عدم إمكانية معرفة الإجماع والاطلاع عليه -هذه الأقوال- على واقع ذلك العصر، فقد كانت السبل المعتادة لمعرفة رأي العالم هي لقاؤه، والاجتماع به والسماع منه مشافهة، أو بواسطة نقل الثقة، أو عن طريق الكتب أو الرسائل، مع اتساع رقعة العالم الإسلامي، وانتشار العلماء وضعف الاتصال بينهم.
أما في هذا العصر فقد تغير الحال، وتبدلت الظروف، وتقدمت وسائل الاتصال تقدمًا مذهلًا، وأصبح العالم كالقرية الصغيرة، وأصبح
(1)
المهذب للدكتور النملة (2/ 847).
الاطلاع على أقوال المجتهدين أمرًا ممكنًا إما مشافهة عن طريق السفر إليهم بوسائل المواصلات الحديثة، أو بالتواصل معهم عبر الهاتف، أو الفاكس، أو البريد الإلكتروني، أو عبر الشبكة العنكبوتية «الإنترنت» ، والأجهزة الذكية التي يمكن من خلالها إجراء المحادثة بين شخصين أو أكثر بالصوت والصورة.
ولعل مما يؤكد أثر تغير الأحوال في الاجتهاد في هذه المسألة: أن القائلين بالإمكان في الأزمنة الماضية فرضوا في ثنايا مناقشاتهم للقول الآخر «أي القول القائل بعدم إمكان وقوع الإجماع» صورًا ذهنية ليست متحققة في ذلك الزمان بهدف إثبات أن هذا الأمر وإن بدا مستحيلًا في بعض الأحيان إلا أنه قد يبدو ممكنًا في أحوال أخرى.
قال إمام الحرمين الجويني في معرض مناقشته لأقوال المانعين:
ثم قال القاضي: لا يمتنع تصور ملك تنفذ عزائمه في خطة أهل الإسلام إما باحتوائه على البيضة، أو بعلو قدره، واستمكانه من إحضار من يشاء من المماليك بجوازم أوامره المنفذة إلى ملوك الأطراف، وإذا كان ذلك ممكنًا، فلا يمتنع أن يجمع مثل هذا الملك علماء العالم في مجلس واحد، ثم يلقي عليهم ما عَنَّ له من المسائل، ويقف على خلافهم ووفاقهم، فهذا وجه في التصوير بيِّن لا يتوقف تصوره على فرض خرق العادة.
ثم قال الجويني: وما صوره القاضي من إحضار جميع العلماء ليس منكرًا، فقد تكون أطراف المماليك في حق الملك العظيم كأنها بمرأى منه ومسمع، فلا يبعد ما قاله على ما صوره
(1)
.
ولعل من أبرز الأمثلة التي تدل على إمكانية حدوث الإجماع في هذا الزمان والاطلاع عليه ونقله: اتفاق مجتهدي العصر على أحكام بعض النوازل، وانتشار ذلك، وعدم وجود مخالف، كاتفاقهم على تحريم المخدرات، والاستنساخ البشري، وأن النقود الورقية تأخذ أحكام الذهب والفضة، وغيرها
(2)
.
*
أدلة حجية الإجماع:
الدليل الأول: قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وجه الاستدلال:
قال الإمام الجصاص: هذه الآية دالة على حجية الإجماع من وجهين:
أحدهما: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:
(1)
البرهان للجويني (1/ 260، 261).
(2)
النوازل الأصولية للدكتور أحمد بن عبد الله الضويحي (52).
143]، والوسط: العدل. يعني: هم عدول، فلما وصف الله تعالى الأمة بالعدالة؛ اقتضى ذلك قبول قولها وصحة مذهبها.
الثاني: قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، فجعلهم شهداء على من بعدهم، كما جعل الرسول شهيدًا عليهم، ولا يستحقون هذه الصفة إلا وقولهم حجة وشهادتهم مقبولة، كما أنه لما وصف الرسول بأنه شهيد عليهم بقوله:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، أفاد به أن قوله صلى الله عليه وسلم حجة عليهم وشهادته صحيحة
(1)
.
ثالثًا: عندما يتكلم الله عن الأمة أو عن إجماع الأمة يصفها بما وصف به النبى صلى الله عليه وسلم، والنبى معصوم؛ فدل ذلك على أن الأمة معصومة فى مجموعها لو أجمعت على أمر لابد أن يكون صوابًا؛ لذلك يقول الله تعالى {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، فوصفهم بما وصف به النبى وهى الشهادة، وإن الله تعالى رضى شهادتهم.
وهذا دليل عام فى كثير من المسائل، فالأمة يصفها الله تعالى فى أكثر
(1)
الأساس في أصول الفقه للدكتور محمود عبد الرحمن (2/ 30)، فصلًا من الفصول في الأصول للجصاص (3/ 258).
من دليل بما وصف به النبى صلى الله عليه وسلم، فالله جعل الأمة شهيدة وجعل النبى شهيدًا، والشهيد الذى يرضى الله شهادته لابد أن تكون شاهدته شهادة حق لا خطأ فيها؛ فهذا دليل على عصمة الأمة فى اجتماعها، وكذلك فى قوله تعالى وهو يصف رسوله صلى الله عليه وسلم {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [البقرة: 143]، ووصف الأمة أيضًا بذلك فقال سبحانه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 143]، فدل على عصمة الأمة في اجتماعها على الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر كعصمة النبى فى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
رابعًا: قال {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] أى على العمل: صالح أم غيرصالح، والبحث هنا فى حكم العمل: يعنى هذا العمل الصحيح ما حكمه هل هو واجب أم مندوب أم مباح؟ أى درجة العمل، فالصلاة فى أصلها عمل صالح وحكمها واجب، وكذلك الزنا فى أصله عمل غير صالح وحكمه محرم، والأعلى هو أصل العمل؛ لأنه هو الذى سيترتب عليه الحكم لذلك كان هو أولى وأعلى من حكم العمل، وفى قوله تعالى {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أى فى أصل العمل
فالله جعلهم شهداء فى أصل عمل الأمم هل عملهم صالح أم غير صالح اتبعوا النبيين أم لا؟ إذًا فالله رضي شهادتهم على أصل العمل فمن باب أولى أن نرضى شهادتهم فى حكم العمل.
الدليل الثاني: قوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، والآية تدل على أن ما اتفقوا عليه حقٌ وذلك بمفهوم المخالفة {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، فإن لم نتنازع دل على أننا لا نحتاج أن نرده أى لا نحتاج أن نبحث له عن دليل لأن الإجماع فى نفسه دليل.
الدليل الثالث: قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 143]، الحكم العام للأمة أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذا يدل على حجية الإجماع؛ لأن الله تعالى بين أن الأمة لا تأمر بمنكر أبدًا ولا تنهى عن معروف أبدًا، فكل ما أمرت به الأمة هو معروف وكل ما نهت عنه الأمة فهو منكر، وكذلك وصف الأمة بما وصف به النبى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [البقرة: 143]، فهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكذلك الأمة، وهو معصوم
وكذلك الأمة.
قال الإمام ابن تيمية: وهذا يدل على أن إجماع هذه الأمة حجة؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر، فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب، أو تحريم حلال، أو إخبار عن الله تعالى أو خلقه بباطل؛ لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف من الكلم الطيب والعمل الصالح، بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف، وما لم تنه عنه فليس من المنكر، وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر، فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أو تنهى كلها عن معروف؟!
(1)
.
الدليل الرابع: قال تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
ومن أوجه الاستدلال هنا:
1 -
أنه سبحانه جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحًا لما جمع بينه وبين المحظور، فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة، ومتابعة غير
(1)
الأساس في أصول الفقه للدكتور محمود عبد الرحمن (2/ 61).
سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم أو فتواهم، وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة
(1)
.
2 -
قوله تعالى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فسبيل المؤمنين هذا معرف بالإضافة فيفيد العموم أى كل سبيل، وكذلك كلمة المؤمنين (ال) الموصولة أى كل المؤمنين، والمعنى كل سبيل لكل المؤمنين، وهذا يدل على الإجماع فلو اجتمع كل المؤمنين على أى سبيل دل على أنه هو السبيل الحق، ولا يجوز لأي إنسان أن يتبع سبيلًا غيره وإلا كان الوعيد فى الآية مصيره ونهايته.
3 -
الواو فى قوله تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} تقتضى التشريك فى الحكم أى اشتراك المتعاطفين فى الحكم، والحكم هو قوله تعالى {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} فمن يقع فى إحدى هاتين الخصلتين من مشاقة الرسول أو اتباع غير سبيل إجماع المؤمنين عليه هذا العقاب.
4 -
إذا رتب الله العقاب على مجموع دل على أن المجموع له تأثير فى الذنب، فكل جزء من المجموع له أثر فى الذنب فمن اتبع غير سبيل
(1)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 239).
المؤمنين حتى ولو لم يشاقق الرسول له وعيد من هذا العقاب، والمعنى أن {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} فعقابه {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ، وكذلك أن من {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فعقابه {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .
5 -
فعل الشرط مرتبط بجواب الشرط فمتى تحقق فعل الشرط تحقق الجواب، وفعل الشرط فى الآية {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ففعل الشرط" يشاقق ويتبع"، فيترتب على هذه الأفعال الجواب الآتى، وهو {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ، فجواب الشرط يتحقق بفعل الشرط.
الدليل الخامس: حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»
(1)
.
قال النووي: وفى هذا الحديث معجزة ظاهرة، فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث، وفيه دليل لكون الإجماع حجة، وهو أصح ما
(1)
أخرجه مسلم (1920)، وله شواهد في الصحيحين وغيرهما عن عدد من الصحابة.
استدل به له من الحديث، وأما حديث:«لا تجتمع أمتي على ضلالة»
(1)
فضعيف، والله أعلم
(2)
.
ووجه الاستدلال: أن هذه الطائفة هي بعض الأمة، وإذا أجمعوا على شيء قطعًا ستكون منهم هذه الطائفة؛ فيكونون قد أصابوا الحق.
(1)
أسانيده ضعيفة وصح موقوفاً على أبي مسعود البدري رضي الله عنه: أخرجه الترمذي (2167)، وابن أبي عاصم في السنة (80) من حديث ابن عمر مرفوعاً، ومداره على سليمان بن سفيان المدني وهو منكر الحديث، وأنكر هذا الحديث وضعفه: " البخاري كما في علل الترمذي (597)، والترمذي كما في السنن (2167)، والدارقطني كما في العلل (2818)، وأبو نعيم كما في الحلية (3/ 37)، وأخرجه ابن ماجه (3950)، وعبد بن حميد (1220) من حديث أنس بن مالك مرفوعاً، وفيه معان بن رفاعة الأسلمي ضعيف الحديث وأبو خلف الأعمى متروك الحديث، وكذبه ابن معين، ورواه ابن أبي عاصم في السنة (83) من طريق قتادة عن أنس لكن مداره على مصعب بن إبراهيم القيسي منكر الحديث واستنكره عليه الذهبي في الميزان، وأخرجه أحمد (27224) والطبراني (2171) من حديث أبي بصرة الغفاري مرفوعاً، وفيه راو لم يسم، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (82) من حديث كعب بن عاصم مرفوعاً، ومداره على سعيد بن زربي وهو منكر الحديث، وأخرجه الدارمي (55) من حديث عمرو بن قيس مرسلا، وفيه عبد الله بن صالح ضعيف والإرسال من عمرو بن قيس، وصح عن أبي مسعود موقوفاً كما عند ابن أبي شيبة (37874)، وابن أبي عاصم في السنة (85)، والله أعلم.
(2)
شرح النووي على مسلم.
الدليل السادس: عن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم»
(1)
.
قال الشافعي: وأمر رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين إن شاء الله لازم
(2)
.
الدليل السابع: العقل:
1 -
أن أهل الباطل قد يجتمعون على باطلهم، ولا يمنع العقل من ذلك، فمن باب أولى أهل الحق.
2 -
إن القول بأن الأمة يجوز أن تجتمع على غير الحق فيه إثبات أن الحق قد يضيع ويغيب فى زمن ما، وهذا يعنى أن الدين لم يحفظ فى هذا الزمن، وهذا يناقض قول الله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر].
(1)
إسناده حسن: أخرجه أحمد (4157)، والترمذي (2657)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، من حديث ابن مسعود مرفوعاً، وله شواهد عدة.
(2)
الرسالة للشافعي (403).
*
مستند الإجماع:
قال الإمام السمعاني: اعلم أن الإجماع لا ينعقد إلا عن دليل يوجب ذلك؛ لأن اختلاف الآراء أو الهمم يمنع من الاتفاق على شيء إلا عن سبب يوجب ذلك، وهذا مثل اتفاق الناس على أكلهم عند الجوع، وشربهم عند العطش، ولبسهم عند العري كان عن سبب، وهذه أمور طبيعية كانت عن سبب طبيعي، وكذلك الأمور الدينية لا تكون إلا عن سبب ديني.
ويجوز أن يتفقوا عن دليل على حكم الحادثة، وتكون على الحكم دلائل سواه، ويجوز أن يختلفوا في الأدلة مع اتفاقهم على الحكم، فلا يكون اختلافهم في الأدلة مانعًا من إجماعهم على الحكم.
وإذا ثبت أنه لا ينعقد الإجماع إلا عن دليل، فلا خلاف أنه ينعقد الإجماع عن الكتاب والسنة، ثم إذا كان الإجماع عن نص غير محتمل من كتاب أو خبر متواتر؛ كان الحكم والقطع بصحته ما يتبين بالنص، فلم يكن للإجماع تأثير في ثبوتهما، وإن كان النص خبر واحد وأجمعوا به؛ كان الحكم ثابتًا بالظاهر، وكان نفي الاحتمال من الظاهر والقطع بصحة الحكم ثابتين بالإجماع.
ذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يجوز انعقاد الإجماع عن القياس، وقالوا: لا فرق بين القياس الجلي والخفي في ذلك. وخالف
في ذلك الإمام ابن جرير الطبري.
والدليل على وجود ذلك ووقوعه: إجماع الصحابة على قتال أهل الردة، وقد كان ذلك من طريق الاجتهاد، فإن أبا بكر - رضوان الله عليه - قال: لا أفرق بين ما جمع الله بينهم. فقاس الزكاة على الصلاة في وجوب قتال المخل بها، ولو كان معهم في قتال مانعي الزكاة نص لنقلوه.
واتفق الصحابة أيضًا على إمامة أبي بكر، وقد كان ذلك بطريق الاجتهاد، فإنهم استدلوا في إمامة أبي بكر رضي الله عنه بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلاة.
وقد أجمع الصحابة أيضًا على توريث الجدتين للسدس، قال عمر رضي الله عنه: إن اجتمعتما فهو لكما، وأيتكما انفردت به فهو لها
(1)
.
وقال ابن القطان: وأجمعوا على أن الجدتين إذا اجتمعتا وقرابتهما
(1)
صحيح لشواهده، أخرجه الترمذي (2100)، من حديث أبي بكر الصديق مرفوعًا، وفي سنده ضعف، وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت عند أحمد. ومن حديث بريدة الأسلمي، أخرجه أبو داود (2895)، والنسائي (6338). ومن حديث ابن عباس عند ابن ماجه (2725). ومن حديث معقل بن يسار عند الدارقطني (4/ 91)، والبيهقي (6/ 235)، ومن حديث ابن مسعود عند الترمذي (2102).
سواء، وكلتاهما ممن يرث؛ أن السدس بينهما.
وقال: ميراث الجدات لم يرجع فيه إلى ظاهر الكتاب ولا إلى ظاهر سنة منقولة ثابتة بخبر الانفراد، وإنما رجع في ذلك إلى الاتفاق
(1)
.
وأجمعت الأمة أيضًا على تحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه
(2)
.
*
مسألة: هل يجب على المجتهد أن يبحث عن مستند الإجماع أم لا؟
قال الأستاذ أبو إسحاق: لا يجب على المجتهد طلب الدليل الذي وقع الإجماع به، فإن ظهر له ذلك أو نقل إليه كان أحد أدلة المسألة.
قال أبو الحسن السهيلي: إذا أجمعوا على حكم ولم يعلم أنهم أجمعوا عليه من دلالة آية أو قياس أو غيره، فإنه يجب المصير إليه؛ لأنهم لا يجمعون إلا عن دلالة ولا يجب معرفتها
(3)
.
*
أنواع الإجماع:
الأول: الإجماع القطعي.
وهو ما وجد فيه جميع الشروط التي لا يختلف فيه مع وجودها
(1)
الإقناع في مسائل الإجماع لأبي الحسن بن القطان (2/ 101، 102).
(2)
انظر القواطع في أصول الفقه للسمعاني (475).
(3)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 253).
ونقل تواترًا، وكان اتفاق مجتهدي الأمة جميعهم عليه نطقًا، بمعنى أن كل واحد منهم نطق بصريح الحكم في الواقعة نفيًا أو إثباتًا، ويقطع فيه بانتفاء المخالف، وهذا لا يجوز إنكاره بعد ثبوته.
كل معلوم من الدين بالضرورة مجمع عليه دون العكس، ولذا لم يكفروا منكر أي إجماع، وإنما كفروا منكر المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، ولا يختص ذلك بالواجبات والمحرمات، بل لو أنكر من المباحات ما هو من هذا القبيل لكفر.
قال القرافي: وجحد ما علم من الدين بالضرورة كجحد الصلاة والصوم، ولا يختص ذلك بالواجبات والقربات، بل لو جحد بعض الإباحات المعلومة بالضرورة كفر، كما لو قال: إن الله لم يبح التين ولا العنب. ولا يعتقد أن جاحد ما أجمع عليه يكفر على الإطلاق، بل لا بد أن يكون المجمع عليه مشتهرًا في الدين حتى صار ضروريًّا، فكم من المسائل المجمع عليها إجماعًا لا يعلمها إلا خواص الفقهاء، فجحد مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفرًا، بل قد جحد أصل الإجماع جماعة كبيرة من الروافض والخوارج كالنظام، ولم أر أحدًا قال بكفرهم، من حيث إنهم جحدوا أصل الإجماع
(1)
.
(1)
الأساس في أصول الفقه للدكتور محمود عبد الرحمن (2/ 61).
النوع الثاني: الإجماع الظني.
وهو ما اختل أحد القيدين، وهما اجتماع الشروط التي لا يختلف فيه مع وجودها، وأن ينقل متواترًا.
فالإجماع الظني إما أن يوجد على وجه مختلف فيه وينقل متواترًا، أو يكون متفقًا عليه لكن ينقل آحادًا؛ لذلك لا يقطع فيه بانتفاء المخالف كالذي يعلم بالتتبع والاستقراء، ويشترط العلماء فيمن ينقل الإجماع بالتتبع والاستقراء أن يكون هذا العالم واسع الاطلاع.
*
الفرق بين الإجماع القطعى والإجماع الظنى:
الإجماع القطعى: يقطع فيه بانتفاء المخالف، أما الإجماع الظنى: لا يقطع فيه بانتفاء المخالف.
مسألة: قول القائل: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في كذا.
قال الصيرفي: لا يكون إجماعًا؛ لجواز الاختلاف، وكذا قال ابن حزم في «الإحكام»؛ وقال في كتاب «الإعراب»: إن الشافعي نص عليه في «الرسالة» ، وكذلك أحمد بن حنبل.
وقال ابن القطان: قول القائل: لا أعلم خلافًا. إن كان من أهل العلم فهو حجة، وإن لم يكن من الذين كشفوا الإجماع والاختلاف فليس بحجة.
وقال الماوردي: إذا قال: لا أعرف بينهم خلافًا. فإن لم يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط بالإجماع والاختلاف، لم يثبت الإجماع بقوله، وإن كان من أهل الاجتهاد فاختلف أصحابنا فأثبت الإجماع به قوم، ونفاه آخرون.
قال ابن حزم: وزعم قوم أن العالِم إذا قال: لا أعلم خلافًا. فهو إجماع، وهو قول فاسد، ولو قال ذلك محمد بن نصر المروزي فإنا لا نعلم أحدًا أجمع منه لأقاويل أهل العلم، ولكن فوق كل ذي علم عليم. وقد قال الشافعي في زكاة البقر: لا أعلم خلافًا في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع. والخلاف في ذلك مشهور، فإن قومًا يرون الزكاة على خمس كزكاة الإبل.
وقال مالك في «موطأه» - وقد ذكر الحكم برد اليمين-: وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس، ولا بلد من البلدان، والخلاف فيه شهير، وكان عثمان رضي الله عنه لا يرى رد اليمين، ويقضي بالنكول، وكذلك ابن عباس، ومن التابعين الحكم وغيره، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة وأصحابه، وهم كانوا القضاة في ذلك الوقت، فإذا كان مثل من ذكرنا يخفى عليه الخلاف فما ظنك بغيره
(1)
.
(1)
إرشاد الفحول (1/ 278، 279).
ومن أنواع الإجماع:
الإجماع العملي: وهو أن يتعامل المجتهدون جميعًا في عصر ما بمعاملة من غير نكير منهم، فيدل ذلك على إجماعهم على جوازها.
مثال: تعاملهم بالمساقاة، فإن عملهم هذا يدل على جواز المجمع عليه، ولا يفيد الوجوب إلا بقرينة تدل على الوجوب.
ومن أمثلة الإجماع العملي:
1 -
جواز عقود الاستصناع.
قال ابن الهمام: القياس أن الاستصناع لا يجوز، وهو قول زفر والشافعي؛ إذ لا يمكن جعله إجارة؛ لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لا يجوز، كما لو قال: احمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا بكذا، أو اصبغ ثوبك أحمر بكذا، لا يصح.
ولا يمكن جعله بيعًا؛ لأنه بيع معدوم، ولو كان موجودًا مملوكًا لغير العاقد لم يجز، فإذا كان معدومًا فهو أولى بعدم الجواز، ولكن جوزناه استحسانًا، للتعامل الراجع إلى الإجماع العملي
(1)
.
قال الكاساني عن الاستصناع: ويجوز استحسانًا لإجماع الناس
(1)
فتح القدير لابن الهمام (7/ 114).
على ذلك؛ لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير
(1)
.
2 -
جواز ترك الإشهاد على الدين سواء كان في القرض أم في البيع، واستدل الجمهور على ذلك بالإجماع العملي.
قال القرطبي: ما زال الناس يتبايعون حضرًا وسفرًا، وبرًّا وبحرًا، وسهلًا وجبلًا من غير إشهاد، مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تركه
(2)
.
3 -
عدم كشف النساء لوجوههن أمام الرجال الأجانب. قال الحافظ ابن حجر: ولم تزل عادة النساء قديمًا وحديثًا يسترن وجوههن عن الأجانب
(3)
.
ومثل الإجماع الظني: الإجماع السكوتي، كأن يقول: أفتى أبو بكر وسكت الصحابة، أو لم يعلم له مخالف.
فهذا يسمى إجماعًا ظنيًّا؛ لأن السكوت يحتمل أمورًا، منها:
1 -
الرضا والموافقة بالحكم المذكور.
(1)
بدائع الصنائع للكاساني (6/ 85) ط دار الكتب العلمية.
(2)
تفسير القرطبي (2/ 344) ط دار الحديث، تفسير آية الدين، المسألة التاسعة والأربعون.
(3)
فتح الباري لابن حجر، كتاب النكاح، باب الغيرة، حديث (4924).
2 -
قد يكون لعدم علم العالم بهذه المسألة.
3 -
قد يسكت لأن المسألة خلافية، ويعتقد أن كل مجتهد مصيب، فلا يرى الإنكار فرضًا.
4 -
قد يكون السكوت من أجل الخوف واحتمال الضرر، كأن تكون المسألة خاصة بحاكم جائر أو ظالم، فيسكت العالم خوفًا على نفسه من الضرر.
5 -
لربما سكت لظنه أن غيره قام مقامه في ذلك.
6 -
أنه لو أنكر لم يلتفت إليه.
وإن احتمل السكوت هذه الوجوه كما احتمل الرضا؛ علمنا أنه لا يدل على الرضا قطعًا، وهذا معنى قول الشافعي: لا ينسب إلى ساكت قول
(1)
.
*
مراتب الإجماع السكوتي:
ذكر العلائي مراتب الإجماع السكوتي فقال:
إحداها: فرض ذلك في كل عصر، وهذا إن كان بعد استقرار
(1)
الأساس في أصول الفقه (2/ 59)، والإعلام في أصول الإحكام للمؤلف (118).
المذاهب فلا أثر للسكوت قطعًا، وذلك لفشو التقليد، واطمئنان أصحاب كل مذهب إلى اجتهاد إمامهم، وجريان العرف بعدم إنكار بعضهم على بعض، وإن كان قبل ذلك ففيه ما تقدم من الخلاف، وفي جعله إجماعًا ظنيًّا نظر، وكونه حجة، وليس بإجماع أبعد من ذلك.
ثانيها: أن يكون ذلك في عصر الصحابة رضي الله عنهم، فهو أقوى من الأول، وأولى بأن يكون السكوت منهم دليلًا على الموافقة لعلو مرتبتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم المداهنة على من بعدهم، وإن كان لم يكن إجماعًا فالظاهر أنه حجة.
ثالثها: أن يكون ذلك فيما يتكرر وقوعه، فهو أولى بأن يكون إجماعًا أو حجة؛ لأن تلك الاحتمالات المقدرة، أي الاحتمالات التي تمنع من التصريح بالمخالفة، وهي أن السكوت يحتمل وجوهًا كما سبق:
1 -
الموافقة والرضا بذلك.
2 -
أنه لم يجتهد في المسألة.
3 -
أنه اجتهد ولم يظهر له شيء.
4 -
أنه ظهر له ما يقتضي خلاف ذلك القول، لكنه لم يبده إما لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب، وإما لظنه أن غيره كفى القيام بذلك،
وإما لهيبة القائل، وإما للخوف من ثوران فتنة، وإما أنه رأى أن الإنكار لا يجدي شيئًا
(1)
.
خامسها: أن يكون فيما تعم به البلوى، فكون ذلك إجماعًا أقوى مما قبله، وأظهر في الحجية؛ لأن انتشار ذلك الحكم مع عموم البلوى به يقتضي علمهم بذلك الحكم، وموافقتهم فيه، وإلا لزم تطابقهم على ترك إنكاره.
سادسها: أن يكون فيما يفوت وقته، كالدماء، والفروج، كما صوره الماوردي، فاشتهار ذلك بينهم مع سكوت الباقين عنه يدل على الرضا أقوى مما في الصور المتقدمة، إلا أن صورته فيما تعم به البلوى ويتكرر وقوعه أظهر أو الكل على السواء.
والقول بحجية ذلك وإن لم يكن إجماعًا قوي، إذا قيل بأن قول الصحابي بمفرده لا يكون حجة والله سبحانه أعلم
(2)
.
(1)
إجمال الإصابة للعلائي بتصرف يسير (123).
(2)
إجمال الإصابة للعلائي (129 - 130) ت: محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة.
*
مسألة: انقراض عصر المجمعين:
معنى انقراض العصر: لو أجمع الصحابة مثلًا على رأى فهذا لا يعتبر إجماعًا إلا بعد أن ينقرض عصر الصحابة أى بعد موتهم جميعًا؛ لأن أحدًا منهم قد يرجع عن رأيه.
والصحيح عدم اشتراط ذلك لأمور منها:
1 -
إن العصور متداخلة أى ليس هناك حد بينها كحد السيف، فالصحابة هم الذين كانوا مع النبى ولقوه مؤمنين وماتوا على ذلك، والتابعون الذين رأوا الصحابة، فهذا عصر وهذا عصر، فهل هناك حد فاصل بين هذه العصور؟! ليس بينها حد فاصل لأنه لا يكون هناك تابعون من غير أن يوجد أحد من الصحابة، فلابد أن يبدأ العصر الثانى قبل نهاية العصر الأول، فعصر تابعى التابعين لابد أن يبدأ قبل انقراض عصر التابعين لذا لو اشترطنا هذا الشرط لما كان إجماع لأن العصور متداخلة.
2 -
إن الناس فى كل العصور كانوا يأخذون برأى العالم الواحد ويعملون به مع احتمال رجوعه عنه، ولم يشترط أحد أن لا نأخذ بقوله إلا بعد موته، فإن كان هذا فى حق الفرد ففى حق مجموع الأمة من باب أولى.
3 -
كان بعض التابعين يحتج بإجماع الصحابة فى أواخر عصر
الصحابة، فحكي ذلك عن الحسن البصرى أنه كان يحتج بإجماع الصحابة وأنس كان حيًّا.
4 -
وقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وغير ذلك من أدلة الإجماع، وكل هذه الدلائل موجبة للرجوع إلى الإجماع، فإذا وجد الإجماع فشرط انقراض العصر زيادة لا يدل عليها دليل.
والدليل قد قام على أن الإجماع حجة، وقد وجد الإجماع، فوجب الحكم لقيام الحجة من غير اعتبار انتظار لانقراض العصر أو غير ذلك.
ولو أنا اعتبرنا انقراض العصر، لجوزنا أن تكون الأمة حين اجتمعت أجمعت على خطأ، وهذا لا يجوز
(1)
.
*
فائدة الإجماع:
1 -
يكفى مؤنة البحث عن الدليل.
2 -
يحرم المخالفة التى كانت جائزة.
3 -
يعطى الثقة التامة لهذا الدين ولأهل العلم.
(1)
القواطع للسمعاني (2/ 775).
4 -
دفع ما يتوهم من التأويل، حتى لو كان مستند الإجماع دليلًا ظنيًّا؛ لأن كثيرًا من آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لو جردنا النظر فيها عما فهمه منهما الصحابة والتابعون لما قطعنا بمقتضاها، ولأمكن حملها على احتمالات كثيرة، ولكن لما عرفنا اتفاق الصحابة والتابعين ومن بعدهم على تفسيرها؛ لم يجز لنا أن نتأولها على خلافه، فهذه الأدلة لو خلت عن الإجماع لكانت ظنية، لكنها معه صارت قطعية.
مثال ذلك: أن قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] لو لم يتفق الصحابة أن المراد بالأخ والأخت هنا الإخوة لأم؛ لكانت معارضة لآية: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176].
5 -
قطع النزاع في المسائل المستجدة، فإذا اتفق علماء العصر على حكمها لم يكن لأحد خلافهم، ولكن ينبغي ألا تترك الأدلة الصحيحة لدعوى الإجماع، وأن لا تقبل دعوى الإجماع إلا ممن له إحاطة بأقوال العلماء، واطلاع على صحيحها وضعيفها، ومشهورها وشاذها.
6 -
الإجماع يحقق خلافة هذه الأمة في الأرض؛ لأن الله تعالى لا يخلي الزمان من قائم بالحق.
7 -
الإجماع يجعل من سلطة التشريع في الأمور العامة حقًّا للأمة، فالأمة الإسلامية تمتلك سلطة حق التشريع بطريق الإجماع، أما ولي الأمر وهو الخليفة، فلا يملك من هذه السلطة شيئًا.
8 -
الإجماع مصدر التشريع الفقهي المتجدد، فالإجماع يسد حاجات المجتمع الإسلامي إلى أحكام جديدة، وهذه الحاجات تزداد بمضي العصور وتغير الظروف
(1)
.
*
مسألة: إن خالف النص الإجماع:
نبحث أولًا فى النص هل هو صحيح أم غير صحيح؟ فلو ثبت أنه صحيح ننظر هل هو صريح أم غير صريح؟ فإن ثبت أنه صريح، نبحث فى الإجماع لعله غير صحيح وقد يكون هناك مخالف، فإن ثبت أن الإجماع صحيح والنص صحيح صريح إذًا يكون النص منسوخًا بمستند الإجماع.
لذلك يقول الشيخ ابن عثيمين (واعلم أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على خلاف دليل صحيح صريح غير منسوخ فإنها لا تجتمع إلا على حق، وإذا رأيت إجماعًا تظنه مخالفًا لذلك فانظر إما أن يكون الدليل
(1)
أهمية الإجماع في بناء التشريعات وتحقيق سيادة الأمة عند الدكتور عبد الرزاق الشهوري، الدكتور عبد الحق الإدريسي، مجلة جيل حقوق الإنسان العدد (34)، والإعلام في أصول الأحكام للمؤلف.
غير صحيح أو غير صريح أو منسوخًا أو فى المسألة خلاف لم تعلمه)
(1)
.
*
مسألة: الإجماع بعد خلاف:
إذا اختلف أهل العصر الواحد في مسألة على قولين فأكثر، ثم رجع بعضهم عن قوله واتفقوا، هل يعد هذا إجماعا؟:
الصحيح عند الأكثر أنه إجماع، وقال ابن الباقلاني والقاضي عبد الوهاب المالكي لا يكون إجماعا؛ لأن اختلافهم أولًا إجماع على تسويغ الخلاف، فلا ينقضه رجوع بعضهم عن رأيه.
وقال الجويني: إن قرب العهد كان اتفاقهم بعد الاختلاف إجماعًا، وأما إن تمادى الزمان واستقر الخلاف فليس اتفاقهم بعد ذلك إجماعًا.
والصحيح: أنه يعد إجماعًا؛ لأنه قول كل المجتهدين في هذا العصر، والقول الذي رجع عنه صاحبه لا عبرة به.
وأما إذا اختلف أهل العصر السابق على قولين ثم اتفق الذين بعدهم على قول من القولين كما لو اختلف الصحابة على قولين ثم اتفق التابعون على أحدهما، فاختلف العلماء في ذلك هل يعد إجماعا؟:
(1)
كتاب الأصول من علم الأصول لابن عثيمين، شروط الإجماع، ص (66).
فذهب بعضهم إلى أنه إجماع؛ لأنه قول كل أهل العصر الثاني.
وذهب بعضهم إلى أنه ليس إجماعًا؛ لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها فيبقى جواز تقليدهم فيها بعد موتهم
(1)
.
والظاهر والله أعلم أنه إجماع لموافقة ذلك للحد لأنهم جميع المجتهدين في هذا الزمان، وظاهر الأدلة كذلك.
*
مسألة: اتفاق أكثر المجتهدين:
الصحيح: أنه ليس إجماعًا لأنهم ليسوا كل الأمة، حتى لو كان كل المجتهدين إلا واحدًا، خلافًا لبعضهم كابن جرير والرازى القائلين لا عبرة بمخالفة الواحد والإثنين في الإجماع، ورأي الجمهور هو الصحيح، وقد وقع فى عصر الصحابة اتفاق الأكثرين وخالفهم الأقل بل تفرد الواحد منهم برأيه كمخالفة ابن عباس لأكثر الصحابة فى مسألة الجد والإخوة، ولو كان اتفاق الأكثر يعتبر إجماعًا للزم الأقل أن يعمل بذلك الإجماع، ولاشتد الإنكار على المخالف لمخالفته الإجماع، ولكن لم يقع شيئًا من ذلك.
مسألة: اتفاق الخلفاء الأربعة: ليس إجماعًا، لأنهم ليسوا كل الأمة.
مسألة: اتفاق الأئمة الأربعة: ليس إجماعًا لأنهم ليسوا كل الأمة.
(1)
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله لعياض السلمي (1/ 138).
*
اتفاق أهل المدينة:
ذكر الزركشي أن اتفاق أهل المدينة مراتب أربعة:
إحداها: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، كنقلهم لمقدار الصاع والمد، فهذا حجة باتفاق.
ولهذا رجع أبو يوسف إلى مالك فيه، وقال: لو رأى صاحبي كما رأيت لرجع كما رجعت، ورجع إليه في الخضراوات، فقال: هذه بقائل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر، وسأل عن الأحباس، فقال: هذا حبس فلان، وهذا حبس فلان، فذكر أعيان الصحابة، فقال له أبو يوسف: وكل هذا قد رجعت إليك.
الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان رضي الله عنه، فهذا كله حجة عند مالك حجة عندنا أيضًا.
ونص عليه الشافعي، فقال في رواية يونس بن عبد الأعلى: إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا يبق في قلبك ريب أنه الحق، وكذا هو ظاهر مذهب أحمد، فإنه عنده أن ما سنه الخلفاء الراشدون حجة يجب اتباعها.
وقال أحمد: كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة النبوة، ومعلوم أن بيعة الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي كانت بالمدينة، وبعد ذلك لم
يعقد بها بيعة، ويحكى عن أبي حنيفة أن قول الخلفاء الراشدين عنده حجة.
الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين أو قياسين، فهل يرجح أحدهما بعمل أهل المدينة؟ وهذا موضع خلاف:
فذهب مالك والشافعي على أنه مرجح، وذهب أبو حنيفة إلى المنع، وعند الحنابلة قولان.
الرابعة: النقل المتأخر بالمدينة، والجمهور على أنه ليس بحجة شرعية، وبه قال الأئمة الثلاثة، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكره القاضي عبد الوهاب في «الملخص» ، فقال: إن هذا ليس إجماعًا، ولا حجة عند المحققين، وإنما يجعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه، وليس هؤلاء من أئمة النظر والدليل، وإنما هم أهل تقليد
(1)
.
وقد نبه الإمام الإبياري على مسألة حسنة، وهي أنا إذا قلنا: إن إجماعهم حجة «أي مذهب مالك في المشهور عنه» ، فلا ينزل منزلة إجماع الأمة، حتى يفسق المخالف، وينقض قضاؤه، ولكنه يقول: هو حجة على معنى أن المستند إليه مستند إلى مأخذ من مآخذ الشريعة،
(1)
البحر المحيط للزركشي (6/ 446).
كما يستند إلى القياس، وخبر الواحد
(1)
.
*
مسألة: إذا اجتمعت الأمة على قولين في حادثة لم يجز إحداث قول ثالث فيها:
خلافًا لبعض أهل الظاهر وبعض المتكلمين، وبعض أصحاب أبي حنيفة
(2)
.
والسبب في ذلك أننا لو قلنا أن هذا القول الثالث صحيح يلزم منه بطلان القول الأول والثانى، أى أن الأمة فى هذا الزمن اجتمعت على باطل.
فاتفاق الأمة على رأي فهو حق، وإن اختلفوا على رأيين فالحق فيهما، وإن اختلفوا على ثلاثة يكون الحق فيهم ولابد، لذلك فالصحيح أن الأمة إذا اجتمعت على رأيين فى زمن لا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث لذلك كان عمل العلماء فى المسائل القديمة التى فيها خلاف هو الترجيح بين آرائهم لا إحداث أقوال جديدة.
أمثلة: مسألة الختان للإناث: فالمسألة فيها قولان قيل واجب وقيل
(1)
التحقيق والبيان شرح البرهان للإبياري (2/ 917 - 918) ط وزارة الشؤون الإسلامية. قطر، الأساس في أصول الفقه ل د. محمود عبد الرحمن (2/ 52).
(2)
القواطع للسمعاني (2/ 751).
سنة أو مكرمة، فالقول بأنه عادة مخالف للإجماع؛ لأن الإجماع انعقد على أنه أحد رأيين فلابد أن يكون الحق فى أحدهما، فإحداث قول ثالث شهادة على الأمة أنها اجتمعت فى عصر على باطل.
وكذلك فى مسألة النقاب والقول بأنه عادة حيث إن هذا رأي لم يقله أحد فى السابقين، فقائله قد أحدث قولًا زائدًا عن الأقوال السابقة، وهذا مخالف للإجماع؛ حيث اختلفوا فى الوجوب والاستحباب، فالحق فى أحدهما، وهكذا.
*
مسألة: إذا بلغ التابعى رتبة الإجتهاد، واتفق الصحابة جميعًا على رأي، وهو خالفهم فيه هل يعتبر ذلك إجماعًا أم ليس إجماعًا؟
قال الشوكاني رحمه الله: اعتبار التابعي المجتهد في الإجماع إذا أدرك التابعي عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد، لم ينعقد إجماعهم إلا به، كما حكاه جماعةٌ منهم: القاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، وابن السمعاني، وأبو الحسن السهيلي.
قال القاضي عبد الوهاب: إنه الصحيح، ونقله السرخسي -من الحنفية- عن أكثر أصحابهم. قال: ولهذا قال أبو حنيفة: لا يثبت إجماع الصحابة في الإشعار؛ لأن إبراهيم النخعي كان يكرهه، وهو ممن أدرك عصر الصحابة فلا يثبت إجماعهم بدون قوله.
والوجه في هذا القول: أن الصحابة عند إدراك بعض مجتهدي التابعين لهم هم بعض الأمة لا كلها، وقد سئل ابن عمر عن فريضةٍ. فقال اسألوا ابن جبيرٍ فإنه أعلم بها، وكان أنسٌ يُسأَل فيقول: سلوا مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا.
وسئل ابن عباسٍ عن ذبح الولد (أي من نذر أن يذبح ولده) فأشار إلى مسروقٍ. فلما بلغه جوابه تابعه عليه.
وقال جماعةٌ: إنه لا يعتبر المجتهد التابعي، الذي أدرك عصر الصحابة في إجماعهم، وهو مروي عن إسماعيل بن علية، ونفاة القياس، وحكاه الباجي عن ابن خويزمنداد، واختاره ابن برهانٍ في الوجيز
(1)
.
تنبيه: لو أجمع الصحابة قبل أن يبلغ التابعى رتبة الإجتهاد ثم اجتهد وخالفهم يعتبر إجماعًا، ويكون قوله شاذًّا.
والشاذ: هو من كان مع القوم ثم شذ عنهم، والمعنى: لو أن الأمة اجتمعت على رأي ورجع أحدهم عن قوله فيكون قوله شاذًّا، وإذا أجمعوا فى عصر الصحابة وجاء تابعى وخالفهم يقال له أنت شاذ، فإن قيل كيف شذ وهو لم يكن معهم؟ الجواب لأن الأمة إذا أجمعت فى
(1)
إرشاد الفحول للإمام الشوكاني (1/ 215).
عصر أصبح هذا الإجماع لكل الأمة فى كل عصر.
*
هل يعتبر بخلاف الظاهرية في الإجماع؟
ذكر الزركشي في هذه المسألة خمسة أقوال، وملخصها:
القول الأول: لا يعتد بخلافهم، وإليه ذهب القاضي أبو بكر، والأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني، ونسبه إلى الجمهور، وتابعهم إمام الحرمين والغزالي.
قالوا: لأن من أنكر القياس لا يعرف طرق الاجتهاد، وإنما هو متمسك بالظواهر فهو كالعامي الذي لا معرفة له.
وقال النووي في شرح مسلم في باب السواك حديث (252) عند حكايته وجوب السواك عن داوود كما نقله الشيخ أبو حامد الاسفراييني.
قال النووي: وقد أنكر أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد وغيره نقل الوجوب عن داود، وقالوا: مذهبه أنه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه عن داود لم تضر مخالفته في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه المحققون والأكثرون
(1)
.
(1)
شرح مسلم للنووي (2/ 142).
قال إمام الحرمين: المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزنًا؛ لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها
(1)
.
القول الثاني: أن خلافهم يعتبر، كما يعتبر خلاف من ترك المراسيل، ومنع العموم، ومن حمل الأمر على الوجوب؛ لأن مدار الفقه على هذه الطرق، قاله القاضي عبد الوهاب من المالكية
(2)
.
قال ابن الصلاح: الذي استقر عليه الأمر ما اختاره الأستاذ أبو منصور وحكاه عن الجمهور، وأن الصحيح من المذهب الاعتداد بخلافهم، ولهذا يذكر الأئمة من أصحابنا خلافهم في الكتب الفرعية.
ثم قال: والذي أجيب به بعد الاستخارة: أن داود يعتبر قوله، ويعتد به في الإجماع إلا ما خالف القياس، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها، فاتفاق من سواه على خلافه إجماع ينعقد، فقول المخالف حينئذ خارج عن الإجماع، كقوله في التغوط في الماء الراكد، وتلك المسائل الشنيعة، ولا ربا إلا في النسيئة المنصوص عليها، فخلافه في هذا وشبهه غير معتد
(1)
البحر المحيط للزركشي (6/ 425).
(2)
المصدر السابق.
به
(1)
.
واختار هذا القول غير واحد من المحققين، كالعلامة ابن القيم كما في زاد المعاد (5/ 300) ط الرسالة، في فصل الظهار، وإعلام الموقعين (2/ 277)، والصنعاني في العدة (1/ 140)، والشوكاني في إرشاد الفحول (1/ 256)، والشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (5/ 253) دار الحديث. قال: وفي اعتبار داود الإجماع خلاف معروف، والأظهر عند الأصوليين اعتباره في الإجماع، والله أعلم.
وأجابوا عن احتجاج الفريق الأول أن الشريعة لا تفي بالمسائل ولا بد من الاجتهاد لذا لم يعتبروا قول الظاهرية بجواب:
قالوا: رد هذه الدعوى ابن حزم، فقال: فإذا قد صح يقينًا بخبر الله تعالى الذي لا يكذبه مؤمن أنه لم يفرط في الكتاب شيئًا، وأنه قد بين فيه كل شيء، وأن الدين قد كمل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين للناس ما نزل إليهم، فقد بطل يقينًا بلا شك أن يكون شيء من الدين لا نص فيه، ولا حكم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وردها أيضًا أبو إسحاق الشاطبي فقال: فالعالم به على التحقيق
(1)
البحر المحيط (6/ 97).
(2)
النبذة الكافية في أصول الفقه لابن حزم (61) ط دار الكتب العلمية.
عالم بجملة الشريعة، ولا يعوزه منها شيء، والدليل على ذلك أمور منها: التجربة وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلًا، وأقرب الطوائف من أعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل
(1)
.
قلت: وإن ثبت عدم عجزهم عن الدليل إلا أنه إنكارهم للقياس أوقعهم فى الجمود، ومخالفة الأدلة، وتضييع الغاية والمقصود من الحكم فى بعض المواضع.
وأجاب الشوكاني أيضًا فقال: أن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها وتدبر آيات الكتاب العزيز، وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة، علم بأن نصوص الشريعة تفي بجميع ما تدعو الحاجة إليها في جميع الحوادث، وأهل الظاهر فيهم من أكابر الأئمة وحفاظ الشريعة المتقيدين بنصوص الشريعة جمع جم، ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا قياس مقبول.
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها، نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذهب غيرهم من
(1)
الموافقات للشاطبي (4/ 189).
العمل بما لا دليل عليه البتة قليلة جدًا
(1)
.
تنبيه: ويُجمَع بين أقوال العلماء القائلين بأن الشريعةتفي بجميع الأحكام، والقائلين بأنها غير وافية بذلك بتحرير محل النزاع، وهو أن المراد بقول من يقول أن الشريعة لا تفي بالمسائل والحوادث، فمراده أنها لا تفي بذلك نصًّا أي في عين المسائل، لا في جنسها أو نوعها، ومن يقول أنها تفي بكل المسائل والأحكام، فمراده بذلك نصًّا ونوعًا وجنسًا، أي باللفظ، والمعنى، والقياس، والاجتهاد، ونحو ذلك.
القول الثالث: أنهم لا يعتد بخلافهم في الأصول، ويعتد بخلافهم في الفروع.
القول الرابع: إن كانت المسألة مما تتعلق بالآثار، والتوقيف، واللفظ اللغوي، ولا مخالف لقياس فيها؛ لم يصح أن ينعقد الإجماع بدونهم إلا على رأي من يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ، وهذا قول الإبياري.
ويظهر بعد التأمل أن هذا القول راجع إلى القول الأول، وهو عدم الاعتداد بخلافهم، إذ جل المسائل إنما هي قياسية.
القول الخامس: أن خلافهم معتبر فيما خالف القياس الخفي، أما
(1)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 256) ط دار السلام.
خلافهم فيما خالف القياس الجلي، فهو غير معتد به، لكونه مبنيًّا على ما يقطع ببطلانه، وبه قال ابن الصلاح في فتاويه.
والراجح - والله أعلم- في هذه المسألة: هو الاعتداد بخلاف الظاهرية، وعدم انعقاد الإجماع بدونهم، وأما المسائل التي شذوا فيها فيردها الكتاب والسنة، وهما اللذان يحكمان ببطلانه حال عرضها عليهما.
*
الإجماع الكاذب:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا تعبأ بما يفرض من المسائل، ويدعي الصحة فيها بمجرد التهويل، أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك، وقائل ذلك لا يعلم أحدًا قال فيها بالصحة فضلًا عن نفي الخلاف فيها، وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يعذر المخالف فيها، وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد، من ادعى الإجماع فهو كاذب، فإنما هذه دعوى بشر، وابن علية يريدون أن يبطلوا السنن بذلك، يعني الإمام أحمد رضي الله عنه أن المتكلمين في الفقه من أهل الكلام إذا ناظرتهم بالسنن والآثار، قالوا: هذا خلاف الإجماع. وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن فقهاء
(1)
.
(1)
الفتاوى الكبرى (6/ 286) كتاب الدليل على إبطال التحليل لابن تيمية، ط دار الكتب العلمية.
قال ابن القيم في معرض الحديث عن أصول الإمام أحمد: ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملًا، ولا رأيًا، ولا قياسًا، ولا قول صاحب، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي أيضًا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع، ولفظه: ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعًا. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه ولم ينته إليه، فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم. ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك هذا لفظه.
ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص وساغ لكل من لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص، فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد
لوجوده
(1)
.
ومعنى كلام الإمام أحمد رحمه الله هذا هو ما رجحه ابن رجب، كما نقله عنه المرداوي
(2)
، وذكر نحو هذا الكلام في ذم طريقة المتأخرين في أخذ الأحكام
(3)
.
ويقال: إن أكثر الناس شهرة في ادعاء الإجماع هو الحافظ ابن عبد البر الأندلسي، حتى صار مضرب المثل في هذا الشأن، فهو مع علمه، وجلالته وسعة اطلاعه يحكي إجماعات الخلاف فيها مشهور جدًّا، وطريقته في ادعاء الإجماع في مسألة خلافية مستهجن من فاضل مثله، ويذهب البعض أن المقصود بهذا هو الإجماع السكوتي.
قال ابن القطان: ومعلوم أن أبا عمر بن عبد البر إذا حكى الإجماع فما يحكيه بنقل متصل إلى المتعين به، وإنما هو بتصفحه، والتصفح أكثر ما يحصل منه في هذا الباب عدم العلم بالخلاف
(4)
.
لكن هذا يستبعد في بعض الأحيان لمعرفتنا لسعة اطلاع ابن عبد البر، والسبب - والله أعلم- أنه يرى أن رأي الجمهور حجة مثل
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 53) ت مشهور.
(2)
التحبير شرح التحرير في أصول الفقه للمرداوي (4/ 1528).
(3)
إعلام الموقعين لابن القيم (2/ 558) ت: مشهور.
(4)
إحكام النظر لابن القطان (186).
الإجماع، فتراه يقول: والجمهور حجة على من شذ منهم؛ لأنه لا يجوز على جميعهم جهل ما علمه الشاذ المنفرد
(1)
.
وعمدة فقهاء المغرب والأندلس في فقه الخلاف وحكاية المذهب هو كتب ابن عبد البر؛ لذلك حذر العلماء من إجماعات ابن عبد البر، واتفاقات ابن رشد، واحتمالات الباجي، واختلاف اللخمي
(2)
.
تنبيه: قد يكون الخلاف حجة:
قال الزركشي: قد يكون الخلاف حجة كالإجماع في مواضع، منها:
1 -
منع الخروج منه إذا انحصر على قولين أو ثلاثة.
2 -
تسويغ الذهاب إلى كل واحد من الأقوال المختلف فيها.
3 -
كون الجميع صوابًا إن قلنا كل مجتهد مصيب (الصحيح - والله أعلم- إن كان الخلاف خلاف تضاد، والمسألة متحدة العين والزمان والحال، أن المصيب واحد، وله أجران، والآخر مخطئ، وله أجر إن كان من أهل الاجتهاد؛ وإن كان الخلاف خلاف تنوع فكلٌّ على صواب، وليس كل خلاف جاء معتبرًا إلا خلاف له حظ من الدليل والنظر-وسيأتي زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى، عند الحديث عن
(1)
الاستذكار لابن عبد البر (4/ 377).
(2)
المعيار للونشريسي (12/ 31).
الاجتهاد وأحكامه في المجلد الرابع-).
وغير ذلك، ذكره القاضي عبد الوهاب في مسألة تقليد الصحابي، ثم قال: الاختلاف مذموم، والاجتماع محمود. وقال المزني في كتاب ذم التقليد: قد ذم الله الاختلاف في غير ما آية، ولو كان من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما رده إلى كتابه، وسنة نبيه، ولا أمر بإمضاء الاختلاف والتنازع على ما هما به، وما حذر رسول الله أمته من الفرقة، وأمرها بلزوم الجماعة، قال: ولو كان الاختلاف رحمة لكان الاجتماع عذابًا؛ لأن العذاب خلاف الرحمة، ثم قال: قال الشافعي -رحمه الله تعالى--: الاختلاف وجهان: فما كان منصوصًا لم يحل فيه الاختلاف، وما كان يحتمل التأويل أو يدرك قياسًا، فذهب المتأول، أو المقايس إلى معنى يحتمل ذلك، وإن خالفه غيره لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الاختلاف في المنصوص
(1)
.
وقال الشافعي: فإن قيل: ذم الله الاختلاف. قيل: الاختلاف وجهان: فما أقام الله تعالى به الحجة على خلقه حتى يكونوا على بينة منه ليس عليهم إلا اتباعه، ولا لهم مفارقته، فإن اختلفوا فيه فذلك الذي ذم الله عليه، والذي لا يحل الاختلاف فيه. فإن قال: فأين ذلك؟ قيل: قال الله
(1)
البحر المحيط للزركشي (4/ 549) ت: الأشقر.
تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)} [البينة: 4]، وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، فمن خالف نص كتاب لا يحتمل التأويل، أو سنة قائمة، فلا يحل له الخلاف، ولا أحسبه يحل له خلاف جماعة الناس وإن لم يكن في قولهم كتاب أو سنة، ومن خالف في أمر له فيه الاجتهاد، فذهب إلى معنى يحتمل ما ذهب إليه ويكون عليه دلائل لم يكن في ضيق من خلاف لغيره
(1)
.
قال الشاطبي - وهو يتحدث عن الاجتهاد ويحذر من زلة العالم-: فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة، أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته، فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعًا يتقلد، وقولًا يعتبر في مسائل الخلاف، فربما رجع عنه وتبين له الحق، فيفوته تدارك ما سار في البلاد عنه، ويضل عنه تلافيه، فمن هنا قالوا: زلة العالم مضروب بها الطبل.
ثم نبه الشاطبي على أمور، منها:
1 -
أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدًا له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عُدَّت زلة.
(1)
الأم للشافعي (9/ 79) دار الوفاء ت: د. فوزي رفعت عبد المطلب.
2 -
أنه لا يصح اعتمادها خلافًا في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاده، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد، فهو لم يصادف فيها محلًّا، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل، أو عدم مصادفته فلا، فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء، وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها.
فإن قيل: فبماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك؟
فالجواب: إنه من وظائف المجتهدين، فهم العارفون بما وافق أو خالف، وأما غيرهم، فلا تمييز لهم في هذا المقام، ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب، فمن الأقوال ما يكون خلافًا لدليل قطعي من نص متواتر، أو إجماع قطعي في حكم كلي، ومنها ما يكون خلافًا لدليل ظني، والأدلة الظنية متفاوتة، كأخبار الآحاد، والقياس الجزئية، فأما المخالف للقطعي؛ فلا إشكال في اطراحه، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه، وعلى ما فيه، لا للاعتداد به، وأما المخالف للظني، ففيه الاجتهاد بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده
صاحبه من القياس أو غيره
(1)
.
*
شروط تحقق الاختلاف:
الشرط الأول: أن يكون صادرًا ممن يعتبر بخلافه، يعني من مجتهد في العلم الذي تنسب إليه تلك المسألة، فلا يعتد بخلاف من ليس كذلك كالشيعة، والخوارج، والأزارقة، ونحوهم.
الشرط الثاني: أن لا يكون مسبوقًا بإجماع في تلك المسألة، فلو سبق بإجماع فيها يكون الخلاف المحكي خارقًا للإجماع، وهو ما لا يقبله العلماء.
الشرط الثالث: ألا يكون قد حدث إجماع بعد الخلاف؛ لأن الإجماع بعد الخلاف يرفع الخلاف سواء كان الخلاف مستقرًّا، أو كان في مهلة النظر، ويكون الإجماع كاشفًا عن القطع بصحة أحد الأقوال، وخطأ ما عداه.
الشرط الرابع: أن لا يثبت رجوع القائل عن قول قال به، فإن ثبت رجوعه فلا يحكى عنه إلا مقرونًا بحكاية الرجوع، وبيان أنه قول هجره القائل، وانتقل إلى غيره.
(1)
الموافقات للشاطبي (5/ 138 - 140) ط مشهور، بتصرف يسير.
الشرط الخامس: أن لا ينسحب الخلاف على أكثر مما حكي فيه كالخلاف في ختان الإناث، فإنه ليس في أصل المشروعية، بل في درجتها، فلا ينسحب على أصلها
(1)
.
(1)
الأساس في أصول الفقه د. محمود عبد الرحمن (2/ 82 - 92)، الشروط مع الأمثلة التطبيقية.
الفصل الرابع:
القياس
القياس
*
بعض المقدمات فى باب القياس:
1 -
باب القياس أوسع من غيره من أبواب الأصول ولذا خصه الأئمة بمزيد اعتناء.
2 -
مراتب القياس قد تتفاوت فى الجلاء والخفاء كما تتفاوت مراتب النصوص، والمعنى أن دلالة النصوص على الأحكام درجات كما أن دلالة القياس درجات، فبعض أنواع القياس أقوى وأصرح من بعض.
3 -
ما ورد عن السلف من آثار فى ذم القياس فهو محمول على القياس الفاسد الذى يخالف الدليل، أو لم تكتمل شروطه.
4 -
إهمال القياس وإقصاؤه نوع من الجمود، وتقديم القياس على نصوص الشريعة أمر مردود.
5 -
لا ينبغى القدح فى القياس بسبب أخطاء بعض العلماء فى تطبيقه على بعض المسائل؛ لأن الخطأ وقع فى الاستدلال بالنصوص
نفسها، ولم يكن ذلك مسوغًا لرد النصوص، وإنما يُرَد الاستدلال الخاطاء، ووضع النصوص فى غير موضعها، وكذا يُرَد القياس الخاطاء والفاسد.
6 -
استخدام نفاة القياس للقياس فى بعض المسائل ليس مسوغًا للقول بأنهم يقولون به - وإن كان يحتج عليهم بذلك -لأن العبرة بالأعم الأغلب.
7 -
القول بالقياس ليس تقديمًا للرأى على الشرع، وإنما إعمال للنصوص الشرعية فى بعضها البعض.
8 -
ينبغى التفريق بين مراعاة خلاف الظاهرية - عند من ينفي نقل الإجماع على العمل بالقياس- وبين القول بحجية القياس، فإن الأدلة قائمة على حجيته بما لا يدع مجالًا للشك
*
تعريف القياس:
لغة: تقدير شيء على مثال شيء آخر، وتسويته به، ولذلك سمي المكيال مقياسًا، وما يقدر به النعال مقياسًا، ويقال: فلان لا يقاس بفلان، أي: لا يساويه
(1)
، وقست الشيء بالشيء: قدرته على مثاله
(2)
.
(1)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 577).
(2)
الصحاح (3/ 968) قيس.
ويقال: هو يخطو قيسًا أي يجعل هذه الخطوة بميزان هذه، ويقال: قصر مقياسك عن مقياسي أي مثالك عن مثالي
(1)
.
واصطلاحًا: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما، من حكم أو صفة
(2)
.
وعرفه ابن الحاجب: بأنه مساواة فرع لأصل في علة حكمه
(3)
.
وقيل: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما. والمراد بالحمل هنا الإلحاق
(4)
.
*
أهمية مبحث القياس:
قال إمام الحرمين: القياس مناط الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه.
وقال الشافعي رحمه الله: والاجتهاد القياس
(5)
.
(1)
لسان العرب، قيس، دار المعارف.
(2)
الإحكام للآمدي (2/ 186).
(3)
نهاية السول للإسنوي (4/ 2) ط دار عالم الكتب.
(4)
المذكرة للشنقيطي (231).
(5)
الرسالة للشافعي (477).
*
من فوائد القياس:
1 -
أنه يسعف في النوازل الواقعة التي ليس فيها نص من كتاب أو سنة.
2 -
أنه يقوي الخبر ويرجحه، موافقة ومخالفة.
أي أنَّ اقتران القياس مع الأثر لإثبات نفس الحكم يعتبر مقويًا للأثر إذا عارضه أثر آخر مساو له، وكذا قد يرجحون الخبر لمخالفة القياس فيكون حينئذ - أيضًا- معيارًا.
فالشافعي يعتبر القياس مرجحًا للحديث، حيث يقول: وتختلف الأحاديث فآخذ ببعضها استدلالًا بكتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس
(1)
.
3 -
يبين المراد من النص، فقد يرد اللفظ في كلام الشارع والمراد به ما هو أوسع من دلالته اللغوية، أو أضيق منها، والقياس بما فيه من العلة مبين للمراد من اللفظ.
مثال ذلك: عن أبي بكرة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يقضينَّ حكم بين اثنين وهو غضبان»
(2)
، ومعلوم أنه ليس كل غضب مانعًا من القضاء،
(1)
المصدر السابق.
(2)
أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717).
وإلا فإنَّ القاضي يغضب كثيرًا في مجلس القضاء لأمور تعرض من الشهود أو الخصوم، ولا يقتصر المنع من القضاء على الغضب فقط، بل يلحق به قياسًا التعب الشديد، والجوع الشديد، والحزن الشديد، وكل ما هو مشوش لفكره، فالقياس هنا كأنه بين أنَّ خصوص الغضب ليس مرادًا، بل ليس كل غضب داخلًا في هذا الحكم، بل الغضب المُشَوِّشُ
(1)
.
*
حجية القياس:
قال الإمام السمعاني في (القواطع): ذهب أكثر الأمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين، إلى أنَّ القياس الشرعي أصل من أصول الشرع، ويستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع، وذهبت طائفة إلى إبطال القياس، وقالوا: لا يجوز أن يستدل به على حكم في فرع. وهذا قول إبراهيم النَّظام، ومن تبعه من المتكلمين، وهو قول داود بن على، ومن تبعه من أهل الظاهر، والقاشاني، والمغربي، والقيرواني، وهو قول الشيعة أيضًا
(2)
.
وبالغ ابن حزم في إنكار القياس بجملته.
(1)
الأساس في أصول الفقه للدكتور محمود عبد الرحمن (2/ 165).
(2)
قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 852، 853).
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: اعلم أنَّ القياس فعل القائس، وهو: حمل فرع على أصل في بعض أحكامه، لمعنى يجمع بينهما. وقيل هو: الاجتهاد. والأول أجمع لحده؛ لأن الاجتهاد هو بذل المجهود في طلب العلم، فيدخل فيه حمل المطلق على المقيد، وترتيب الخاص على العام، وجميع الوجوه التي يطلب منها الحكم، وليس شيء من ذلك بقياس، والقياس مثاله مثال الميزان أن يوزن به الشيء من الفروع ليعلم ما يوازنه من الأصول، فيعلم أنه نظيره، أو لا يوازنه، فيعلم أنه مخالفه، والاجتهاد أعم من القياس، والقياس داخل فيه، والقياس حجة في إثبات الأحكام العقلية، وطريق من طرقها مثل حدوث العالم، وإثبات الصانع، والتوحيد، وما أشبهه، ومن الناس من أنكر ذلك، والدليل على فساد قوله إثبات هذه الأحكام لا يخلو إما أن يكون بالضرورة، أو بالاستدلال والقياس، ولا يجوز أن يكون بالضرورة؛ لأنه لو كان كذلك لم يختلف العقلاء فيها، فثبت أنَّ إثباتها بالقياس والاستدلال بالشاهد على الغائب وكذلك هو حجة في الشرعيات، وطريق لمعرفة الأحكام، ودليل من أدلتها من جهة الشرع، وذهب إبراهيم النظام، والرافضة إلى أنه ليس بطريق للأحكام الشرعية، ولا يجوز ورود التعبد به من جهة العقل، وقال داود بن علي وأهل
الظاهر: يجوز أن يرد التعبد به من جهة العقل، إلا أنَّ الشرع ورد بحظره، والمنع منه
(1)
.
•
الأدلة على حجية القياس:
*
أولًا: من الكتاب:
قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر: 2].
قال الزركشي: ومن أشهرها قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقد سئل أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وهو من أئمة اللسان عن (الاعتبار)، فقال: أن يعقل الإنسان الشيء فيعقل مثله. فقيل: أخبرنا عمن ردَّ حكم حادثة إلى نظيرها أيكون معتبرًا، قال: نعم هو مشهور في كلام العرب.
وإنما سمي الاتعاظ والفكر اعتبارًا؛ لأنه مقصود به التسوية بين الأمر ومثله، والحكم فيه بحكم نظيره، ولولا ذلك لم يحصل الاتعاظ والازدجار عن الذنب بنزول العذاب والانتقام بأهل الخلاف والشقاق.
وزعم ابن حزم أنَّ المراد بالاعتبار التعجب بدليل سياق الآية، ووافقه ابن عبد السلام، فقال في (القواعد): من العجيب استدلالهم بهذه الآية على جواز القياس، مع أنَّ الاعتبار في الآية يراد به الاتعاظ
(1)
الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 447 - 448).
والازدجار، والمطلق إذا عمل به في صورة خرج عن أن يكون حجة في غيرها بالاتفاق.
قال: وهذا تحريف لكلام الله عز وجل عن مراده إلى غير مراده، ثم كيف ينتظم الكلام مع كونه واعظًا بما أصاب بني النضير من الجلاء أن يقرن ذلك الأمر بقياس الدخن على البر، والحمص على الشعير، فإنه لو صرح بهذا لكان من ركيك الكلام وإدراجًا له في غير موضعه، وقرانًا بين المنافرات.
والعجب من الشيخ، فإنَّ العبرة بعموم اللفظ، فإن منع قلنا هذا يرجع إلى قياس العلة؛ لأن إخراجهم من ديارهم وتعذيبهم قد رتب على المعصية فالمعصية علة لوقوع العذاب، فكأنه قال: لا تقعوا في المعصية فيقع بكم العذاب قياسًا على أولئك. فهو قياس نهي على نهي، بعلة العذاب المترتبة على المخالفة
(1)
.
2 -
قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
قال الرازي: تدل على أنَّ القياس حجة، ووجه الدلالة: إما أن يكون المراد فإن اختلفتم في شيء حُكمُه منصوصٌ عليه في الكتاب أو السنة أو
(1)
البحر المحيط للزركشي (7/ 29).
الإجماع، أو المراد فإن اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة. والأول باطل؛ لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك داخلًا تحت قوله:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وحينئذ يصير قوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} إعادة لعين ما مضى، وإنه غير جائز.
وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو: أنَّ المراد فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب، والسنة، والإجماع، وإذا كان كذلك لم يكن المراد من قوله:{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة، فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، وذلك هو القياس، فثبت أنَّ الآية دالة على الأمر بالقياس
(1)
.
3 -
قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
قال الرازي: دلت هذه الآية على أنَّ القياس حجة في الشرع؛ وذلك لأن قوله: {الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] صفة لأولي الأمر،
(1)
تفسير الرازي (10/ 151) دار الفكر.
وقد أوجب الله تعالى على الذين يجيئهم أمر من الأمن أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم، ولا يخلو إما أن يرجعوا إليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النص فيها أولًا، والأول باطل؛ لأن على هذا التقدير لا يبقى الاستنباط، لأن من روى النص في واقعة لا يقال: إنه استنبط الحكم. فثبت أنَّ الله أمر المكلف برد الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها، ولولا أنَّ الاستنباط حجة لما أمر المكلف بذلك، فثبت أنَّ الاستنباط حجة، والقياس إما استنباط، أو داخل فيه، فوجب أن يكون حجة
(1)
.
قلت: وهذا أحد وجهين في تفسير الآية.
قال القاسمي: وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطي في (الإكليل) قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ} [النساء: 83] الآية، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد
(2)
.
4 -
قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].
هذا من باب القياس الظاهر؛ وذلك لأن عرض المرء أشرف من
(1)
مفاتيح الغيب للرازي (10/ 205 - 206).
(2)
محاسن التأويل للقاسمي (3/ 236) بتصرف.
لحمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى؛ لأن ذلك آلَمُ
(1)
.
5 -
قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 54].
قال تاج الدين السبكي في هذه الآية: فيها دلالة على أنَّ القياس حجة؛ وذلك من قوله: {فَقَدْ آتَيْنَا} [النساء: 54] إلى آخره؛ لأنه تعالى سفَّهَ نظرهم وقبَّحَ صنعهم بالنظر إلى أن لا بدع فيما آتى نبيه من فضله؛ لأنه تعالى قد أتى آل إبراهيم عليه السلام، فقاس فرعًا على أصل بعلة جامعة، وهي فضله سبحانه وتعالى
(2)
.
6 -
قوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)} [القمر: 43]، فهذا محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة، وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية، ولا تمت الحجة
(3)
.
(1)
مفاتيح الغيب للرازي سورة الحجرات.
(2)
الأشباه والنظائر للسبكي (2/ 364) ط. دار الكتب العلمية.
(3)
أضواء البيان للشنقيطي سورة الأنبياء.
7 -
والمعنى: أنَّ حكمكم كحكمهم، وأنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسولنا، ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش، فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين، وأنَّ هذا محض عدل الله بين عباده
(1)
.
8 -
قوله تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)} [محمد: 10].
أخبر أنَّ حكم الشيء حكم مثله قياسًا عليه.
قال ابن القيم: وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالمسير في الأرض، سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب، أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار، أو كان اللفظ يعمهما، وهو الصواب، فإنه
(1)
أضواء البيان سورة الأنبياء.
يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك؛ ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين، ولولا أنَّ حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار، وقد نفى الله سبحانه عن حكمه، وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم، فقال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35 - 36]، وأخبر أنَّ هذا حكم باطل في الفطر والعقول، لا تليق نسبته إلى الله سبحانه.
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21]، وقال تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]، أفلا تراه كيف ذكر العقول، ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره، وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم، وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه، وجعله قرينه ووزيره، فقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وقال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وقال تعالى:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن: 1 - 2]، فهذا الكتاب، ثم قال:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} [الرحمن: 7]، والميزان يراد
به العدل، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده. والقياس الصحيح الميزان الذي أنزله الله مع كتابه
(1)
.
قال الشيخ ابن عثيمين: والميزان هو الذي توزن به الأمور، ويقاس به بينها وهذا واضح
(2)
.
9 -
استدل الشافعي رحمه الله على الاجتهاد والقياس بآية القِبلَة، وآية الصيد للمحرم قال تعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150].
قال الشافعي: فالعلم يحيط أنَّ من توجه تلقاء المسجد الحرام ممن نَأَتْ داره عنه على صواب بالاجتهاد للتوجه إلى البيت بالدلائل عليه؛ لأن الذي كُلِّف التوجه إليه، وهو لا يدري أصاب بتوجه قصد المسجد الحرام أم أخطأه، وقد يرى دلائل يعرفها، فيتوجه بقدر ما يعرف، وإن اختلف توجههما
(3)
.
وقال الله عز وجل: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 249 - 251) ط. مشهور بتصرف.
(2)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (11/ 65).
(3)
الرسالة للشافعي (488).
الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
قال البيهقي: فنص الله تعالى على وجوب الجزاء من النعم في المقتول من الصيد، ولم ينص على ما يعتبر من المماثلة، فكان ما نص عليه أنه من النعم لا اجتهاد فيه، وكان المرجع في الوجه الذي به يعلم مماثلته فيه، لا طريق له غير الاجتهاد والاعتبار
(1)
.
10 -
قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104].
وهذا قياس يعني: أننا لما كنا قادرين على ابتداء الخلق كنا قادرين على إعادته: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، فهنا قياس الإعادة على البدء، وهو قياس واضح جلي.
11 -
قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)} [فاطر: 9]، والكاف للتشبيه، فهذا شبه هذا، وكل مثل ضربه الله في القرآن، فهو دليل على القياس؛ لأن المقصود به إلحاق الأمر المعنوي بالأمر الحسي إلحاق هذا بهذا، وعليه فتكون أدلة القياس في القرآن كثيرة جدًّا
(2)
.
(1)
الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 467).
(2)
شرح الأصول من علم الأصول للشيخ ابن عثيمين (477، 478).
12 -
فهذه الآية وقع منها الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث بالقياس على النشأة الأولى، وهو قياس في الأصول المعتقدة التي يطلب فيها القطع، ففي الفقه الذي يكتفي فيه بالظن من باب أولى.
ومثل ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 77 - 79].
*
ثانيا: الأدلة من السنة على حجية القياس:
1 -
حديث ابن عمر، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ، فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟! إِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ، فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (2435)، ومسلم (1726).
قال النووي: في الحديث إثبات القياس والتمثيل في المسائل، فقد قاس ضرع الماشية على الغرفة التي يخزن فيها الطعام وغيره، وشبه اللبن في الضرع بالطعام المخزون المحفوظ في الخزانة في أنه لا يحل أخذه بغير إذنه
(1)
.
2 -
حديث ابن عباس أنَّ امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنَّ أمي ماتت، وعليها صوم شهر، فقال:«أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء»
(2)
.
وفي رواية: إنَّ أمي ماتت، وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال:«أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم. قال: فصومي عن أمك»
(3)
.
قال النووي: في هذه الأحاديث صحة القياس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فدين الله أحق بالقضاء» .
وفيه: يستحب للمفتي أن ينبه على وجه الدليل إذا كان مختصرًا واضحًا، وبالسائل إليه حاجة، أو يترتب عليه مصلحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قاس
(1)
شرح النووي (12/ 32).
(2)
أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148)، واللفظ له.
(3)
أخرجه مسلم (1148).
على دين الآدمي تنبيهًا على وجه الدليل
(1)
.
3 -
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هششت يومًا، فقبلت وأنا صائم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: صنعت اليوم أمرًا عظيمًا قبلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ فقلت: لا بأس بذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: «ففيم»
(2)
.
فلقد قاس النبي صلى الله عليه وسلم القبلة على المضمضة في عدم إفساد الصوم، والمعنى أنَّ المضمضة مقدمة للشرب، وقد علمتم أنها لا تفطر، وكذا القبلة مقدمة للجماع فلا تفطر.
قال ابن حجر في الفتح نقلًا عن المازني: ومن بديع ما روي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للسائل: «أرأيت لو تمضمضت» ، فأشار إلى فقه بديع، وذلك أنَّ المضمضة لا تنقض الصوم، وهي أول الشرب ومفتاحه، كما أنَّ القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم كما يفسده الجماع، وكما ثبت عندهم أنَّ أوائل الشرب لا يفسد الصيام، فكذلك
(1)
شرح النووي (8/ 29)، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت.
(2)
سنده صحيح، واستنكره النسائي: أخرجه أحمد (138) وأبو داود (2385) وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله، وقال النسائي في الكبرى (3036) عقبه (وهذا حديث منكر، وبكير مأمون، وعبد الملك بن سعيد رواه عنه غير واحد، ولا ندري ممن هذا).
أوائل الجماع
(1)
.
4 -
حديث أبي هريرة أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلامًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ - وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه-، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا. قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ» ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ
(2)
.
5 -
حديث ابن عباس أنَّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنَّ أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال:«نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. فقال: اقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء»
(3)
.
وبوب عليهما الإمام البخاري قال: باب: من شبَّه أصلًا معلومًا بأصل مبين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكمهما ليفهم السائل.
قال ابن حجر: قال ابن بطال: التشبيه والتمثيل هو القياس عند
(1)
الفتح للحافظ ابن حجر (4/ 187) حديث رقم (1928) دار الحديث.
(2)
أخرجه البخاري (7314)، ومسلم (1500) وما بين علامات التنصيص له.
(3)
أخرجه البخاري (1852، 7315).
العرب. وقد احتج المزني بهذين الحديثين على من أنكر القياس.
وقال الكرماني: عقد هذا الباب وما فيه يدل على صحة القياس، وأنه ليس مذمومًا، لكن لو قال من شبه أمرًا معلومًا لوافق اصطلاح أهل القياس، قال وأما الباب الماضي المشعر بذم القياس وكراهته، فطريق الجمع بينهما أنَّ القياس على نوعين: صحيح، وهو المشتمل على جميع الشرائط، وفاسد وهو بخلاف ذلك، فالمذموم هو الفاسد، وأما الصحيح فلا مذمة فيه بل هو مأمور به
(1)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين: ففي هذا الحديث لم يقل له صلى الله عليه وسلم: الولد لكما.
لو قال: الولد لكما. لقال الرجل: نعم رضينا بالله ورسوله، لكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيس فضرب له مثلًا يناسبه من بيئته، وهو أعرابي لا يعرف إلا الإبل فاقتنع الرجل
(2)
.
6 -
حديث معاذ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: «كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم يكن
(1)
الفتح للحافظ ابن حجر (13/ 360).
(2)
شرح نظم الورقات لابن عثيمين (165 - 166) دار ابن الهيثم.
في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب صدره، وقال:«الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله»
(1)
.
والحديث وإن ضعفه فريق من العلماء، وصححه بعضهم، لكن استدل به بعضهم على الاجتهاد والقياس.
قال في (المجمع): وفي حديث معاذ أجتهد رأيي، الاجتهاد: بذل الوسع في طلب الأمر بالقياس على كتاب وسنة
(2)
.
قال الخطابي في المعالم: يريد الاجتهاد في رد القضية من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة، ولم يرد الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه، أو يخطر بباله من غير أصل من كتاب أو سنة، وفي هذا إثبات القياس، وإيجاب الحكم به
(3)
.
وقال: لا آلو. معناه لا أقصر في الاجتهاد، ولا أترك بلوغ الوسع
(1)
إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3594)، والترمذي (1327)، والدارمي (170)، وغيرهم من طرق عن الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ مرفوعاً، وفيه الحارث بن عمرو لا يعرف، وإبهام أصحاب معاذ، وضعفه الألباني، وغيره.
(2)
عون المعبود لأبي عبد الرحمن شرف الحق العظيم آبادي (9) / 401).
(3)
معالم السنن للخطابي (4/ 165).
فيه
(1)
.
وعن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن عباس إذا سئل عن شيء، فإن كان في كتاب الله قال به، وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله، وكان عن أبي بكر وعمر، قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أبي بكر ولا عن عمر اجتهد رأيه
(2)
.
وبالإضافة إلى هذه الأحاديث أيضًا:
أقيسة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد استعمل القياس والتمثيل لبيان الحكم، وقد جمعها أبو الفرج عبد الرحمن بن نجم الحنبلي رحمه الله (ت 634)، ولخصها الحافظ العلائي، وهي مطبوعة ضمن رسائل الحافظ العلائي المجلد الثالث.
(1)
عون المعبود (9/ 509 - 510)، كتاب القضاء، باب اجتهاد الرأي في القضاء، ط. دار الفكر.
(2)
أخرجه الدارمي (1/ 71) رقم (166)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 122) رقم (847) واللفظ له، وسنده صحيح، والحاكم في المستدرك (1/ 127).
*
ثالثًا: الإجماع:
- قال الإمام الرازي: الإجماع هو الذى عول عليه جمهور الأصوليين، وتحريره أن العمل بالقياس مجمع عليه بين الصحابة، وكل ما كان مجمعًا عليه بين الصحابة فهو حقٌّ، فالعمل بالقياس حقٌّ
(1)
.
- وقال ابن عقيل الحنبلى: وقد بلغ التواتر المعنوى عن الصحابة بالعمل به وهوقطعى
(2)
.
- وقال ابن دقيق العيد: عندى أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس فى أقطار الأرض شرقًا وغربًا قرنًا بعد قرن عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ من المتأخرين
(3)
.
- ويقول ابن عبد البر: لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة فى نفى القياس فى التوحيد، والعمل به فى الأحكام إلا داوود فإنه نفاه فيهما جميعًا
(4)
.
وقال المزني: الفقهاء من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وهلم جرًّا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم،
(1)
المحصول للرازي (5/ 53).
(2)
البحر المحيط للزركشي (7/ 33).
(3)
المصدر السابق.
(4)
البحر المحيط للزركشي (7/ 21).
وأجمعوا بأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس
(1)
.
قال أبو عمر: ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا الكلب من الجوارح قياسًا على الكلاب بقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، وقال عز وجل:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، فدخل في ذلك المحصنون قياسًا.
وكذلك قوله في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فدخل في ذلك العبد قياسًا عند الجمهور إلا من شذ ممن لا يكاد يعد قوله خلافًا.
وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فدخل في ذلك الكتابيات قياسًا، فكل من تزوج كتابية وطلقها قبل المسيس لم يكن عليها العدة، والخطاب قد ورد بالمؤمنات.
وقال في الشهادة في المداينات: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، فدخل في معنى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 184).
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] قياسًا على الدين: المواريث والودائع والمغصوب وسائر الأموال
(1)
.
واتفقوا على مسألة العول في زمان عمر رضي الله عنه حتى أظهر ابن عباس رضي الله عنه الخلاف بعد وفاة عمر، وصورتها إذا ضاقت التركة عن الفروض كأن ترك زوجًا، وأمًّا، وأختين لغير أم، فقال عمر: فرض الله للزوج النصف، وللأختين الثلثين، وللأم السدس، فإن بدأت بالزوج لم يبق للأختين حقهما، وإن بدأت بالأختين لم يبق للزوج حقه، فاستشار الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه بالعول، وقاسوا ذلك على الديون إذا كانت أكثر من التركة، فإنَّ التركة تقسم عليها بالحصص، ويدخل النقص في الجميع، واتفقوا على ذلك.
قال ابن قدامة: ولا نعلم اليوم قائلًا بمذهب ابن عباس، ولا نعلم خلافًا بين فقهاء العصر بالقول بالعول
(2)
.
*
رابعًا: احتجاج الصحابة بالقياس:
1 -
كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى وفيه: ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور
(1)
أضواء البيان: سورة الأنبياء.
(2)
المغني لابن قدامة (9/ 28 - 30).
عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق.
قال ابن القيم: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه
(1)
.
2 -
حديث ابن عباس: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أنَّ الوباء قد وقع بالشام، وساق القصة وفيها: فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة -وكان عمر يكره خلافه-: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 159 - 163). وقد أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 345)، والبيهقي (10/ 150)، ومعرفة السنن والآثار (14/ 240 - 241)، وابن عساكر (32/ 71) من طريق جعفر بن برقان، عن معمر البصري، عن أبي العوام المصري، قال كتب عمر بن الخطاب
…
وذكره. وهذا إسناد جيد. وقد جود إسناد الرسالة البلقيني في محاسن الاصطلاح (219)، وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي (9/ 170): وقد رويت من أسانيد كثيرة، لا نطول بها، وشهرتها أغنت عن إسنادها.
الجدبة رعيتها بقدر الله؟
(1)
.
قال النووي: في هذا الحديث فوائد، ومنها: صحة القياس وجواز العمل به
(2)
.
3 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر بن الخطاب أنَّ فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها)
(3)
.
قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على استعمال الصحابة القياس في الأمور من غير نكير؛ لأن عمر رضي الله عنه قاس تحريم بيع الخمر عند تحريمها على بيع الشحوم عند تحريمها، وهو قياس من غير شك
(4)
.
وثبت أنَّ عمر جلد ثمانين في الخمر
(5)
، قال علي: جلد رسول الله في الخمر وأبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكلٌّ سنة
(6)
.
قال أبو الوليد الباجي: واتفقوا أنَّ الحد ثمانون، وحكم بذلك على
(1)
أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219).
(2)
شرح النووي (14/ 221).
(3)
أخرجه البخاري (2223)، ومسلم (1582).
(4)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد (4/ 439).
(5)
أخرجه مسلم (1706) من حديث أنس بن مالك.
(6)
أخرجه مسلم (1707) بنحوه.
ملأ منهم، ولم يعلم لأحد فيه مخالفة، فثبت أنه إجماع، ودليلنا من جهة القياس أنَّ هذا حد في معصية، فلم يكن أقل من ثمانين كحد الفرية والزنى
(1)
.
*
خامسًا: العقل:
قال ابن القيم: وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43]، فالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل، وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين، وإنكار التفريق بينهما، والفرق بين المختلفين، وإنكار الجمع بينهما
(2)
.
وأيضًا: نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى عندما شرع لم يشرعها إلا لمصالح العباد، وأنَّ صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان تقتضي فتح باب الاجتهاد، بل وجوبه فيما يستجد من الأحداث، والوقائع التي لا نص فيها متى تحققت فيه علة حكمه، أو شمله ضابطه العام، وهذا هو القياس.
وأيضًا: فإنَّ نصوص القرآن والسنة متناهية محدودة، ووقائع الناس
(1)
المنتقى شرح الموطأ للباجي (3/ 144).
(2)
إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 248).
غير متناهية، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية هي وحدها المصدر التشريعي لما لا يتناهى، فشُرِع القياس على النصوص لمسايرة الوقائع المتجددة.
*
أدلة منكري القياس:
استدل من أنكر القياس بجملة أدلة، منها:
1 -
في ذم القول على الله بغير علم، والأمر بالتمسك بالكتاب والسنة، كقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]، وكقوله تعالى في آيات المحرمات:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 169]، وكقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وقوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي، والنص، فوجب أن يكون حال الأمة كذلك؛ لقوله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158]، وإذا كان كذلك وجب أن يكون العمل بالقياس حرامًا.
والجواب عن ذلك: أنه لما قامت الدلالة على أنَّ القياس حجة؛
كان العمل بالقياس عملًا بالنص في الحقيقة، فإنه يصير التقدير كأنه تعالى قال: مهما غلب على ظنك أنَّ حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر جامع بين الصورتين، فاعلم أنَّ تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن، وإذا كان الأمر كذلك؛ كان العمل بهذا القياس عملًا بعين النص
(1)
.
2 -
استدلوا بأدلة ذم الظن واتباعه، كقوله تعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: 116]، وقوله تعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} [النجم: 28].
وهذه الآيات في ذم الكفار بسبب كونهم متبعين للظن، والشيء الذي يجعله الله تعالى موجبًا لذم الكفار لا بد وأن يكون في أقصى مراتب الذم، والعمل بالقياس يوجب اتباع الظن، فوجب كونه مذمومًا محرمًا
(2)
.
والجواب: لم لا يجوز أن يقال: الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح، وهو إما ألا يستند إلى أمارة مثل اعتقاد الكفار بدليل قوله في الآية:{إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} [الزخرف: 20]، قال ابن عباس: يكذبون. وقال
(1)
مفاتيح الغيب للرازي (11/ 34) دار الفكر.
(2)
مفاتيح الغيب للرازي (13/ 127).
عطاء: يفترون.
وهم أيضًا قابلوا النص الواضح بحل الذبائح، وتحريم الميتة بالظن الكاذب المبني على الهوى، حيث قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل ربكم. فنزلت هذه الآية
(1)
.
وأما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندًا إلى أمارة؛ فهو معمول به ومعتبر، كما في خرص النخيل، كأخذ الصدقة منه، فقد خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرص أصحابه، والأحاديث في ذلك مشهورة
(2)
.
قال الرازي: والجواب: لا نسلم أنَّ العمل بالقياس اتباع الظن، فإنَّ الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس كان الحكم المستفاد من القياس معلومًا لا مظنونًا، وهذا الكلام له غور وفيه بحث
(3)
.
3 -
استدلوا بآيات إكمال الدين، واشتماله على كل شيء، كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وقوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقوله:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله:{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].
(1)
تفسير الطبري في الآيات بعدها.
(2)
أخرجه البخاري (1481)، ومسلم (1392) من حديث أبي حميد الساعدي.
(3)
تفسير الرازي (11/ 262).
والجواب عن الاستدلال بهذه الآيات: بأنَّ المراد بإكمال الدين أنه تعالى بيَّن حكم جميع الوقائع بعضها بالنص، وبعضها بأن بين طريق معرفة الحكم فيها على سبيل القياس، فإنه تعالى لما جعل الوقائع قسمين: أحدهما: التي نص على أحكامها، والقسم الثاني: أنواع يمكن استنباط الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول، ثم إنه تعالى لما أمر بالقياس، وتعبد المكلفين به كان ذلك في الحقيقة بيانًا لكل الأحكام، وإذا كان كذلك كان ذلك إكمالًا للدين
(1)
.
4 -
استدلوا بالآثار الدالة على ذم القول بالرأي والقياس، كقول أبي بكر: أيُّ أرض تقلني وأيُّ سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم
(2)
.
وكقول علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه
(3)
.
وكقول ابن سيرين: أول من قاس إبليس، قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ
(1)
تفسير الرازي (11/ 141) دار الفكر.
(2)
صحيح لطرقه: أخرجه أحمد (18837)، وأبو داود (1579)، وابن ماجه (1801)، وغيرهم من طرق يقوي بعضها بعضاً عن سويد بن غفلة به.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (162)، وغيره عن علي موقوفاً.
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12]
(1)
.
و ما روي عن السلف في ذم القياس، فهو عندنا قياس على غير أصل، أو قياس يُرَدُّ به أصل.
قال: كقياس إبليس، فإنه ردَّ أصل العلم بالرأي الفاسد، والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها، لا في رد الأصول بالرأي والظن، وإذا صح النص من الكتاب والأثر؛ بطل القياس والنظر، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36]
(2)
.
وبمثل ذلك أجاب ابن القيم، وقسم الرأي ثلاثة أقسام فراجعها للأهمية
(3)
.
5 -
قالوا القياس مردود؛ لأن أول من قاس هو إبليس، فكل من قاس فهو متبع لإبليس.
(1)
إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (35806)، والدارمي (195) عن ابن سيرين قوله.
(2)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 154) بتصرف.
(3)
إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 124)، وما بعدها.
والجواب عن ذلك:
أنَّ قولهم كل من قاس فهو متبع لإبليس فيه شاء من الصواب لكنه يحتاج إلى قيد وهو: أنَّ كل من قاس قياسًا كقياس إبليس فهو متبع لإبليس، لكن أئمة الهدى لا يقيسون قياسًا كقياس إبليس.
س: فما هو قياس إبليس؟
ج: أنه قاس فى مصادمة النص.
فكل من قاس قياسًا فى مصادمة النص فهو الذى يتبع إبليس، وهو قول الله تعالى {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] فقاس، ثم أخرج الحكم بالقياس بعدم السجود، وهذا فى الأصول يسمى قياسًا فاسدًا، فالذى قاس قياسًا فاسدًا فهذا هو الذى اتبع إبليس، ولذلك فالقياس الصحيح لا يعارض النص.
لذا فقياس إبليس قياس باطل شرعًا غير مقبول عقلًا وإليك البيان:
أولًا: لا قياس فى مصادمة النص، فالعقل لا يخرج حكمًا أحسن مما أنزله الله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
ثانيًا: القياس الصحيح لابد أن يوافق النص فإن لم يوافق النص فهذا القياس غير صحيح وغير منضبط فى أركانه، لذلك لا تجد علماءنا
يقيسون قياسًا يخالف النص.
وإبليس حينما بنى قياسه بناه على مقدمات وهى:
1 -
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12].
2 -
النار أفضل من الطين.
3 -
شرف الأصل يدل على شرف الفرع وعليه قال هو أفضل من آدم.
4 -
الفاضل لا يسجد للمفضول.
ومن هذه المقدمات أخرج إبليس حكمًا أنه لايسجد لآدم.
وبالنظر لهذه المقدمات التى بنى عليها إبليس الحكم تجد أكثرها غير صحيح، وإليك البيان:
1 -
قال إبليس: آدم خلق من طين وإبليس خلق من نار، والنار أفضل من الطين وهذا كلام باطل لأن النار ليست أفضل من الطين، فالطين يوضع فيه البذرة، فتخرج شجرة بثمارها، أما النار فتوضع فيها الشجرة بثمارها فتصير رمادًا، والطين يدل على البناء والتعمير أما النار فتدل الانهيار والدمار، والطين فيه البرودة والرطوبة أما النار فتدل على الحرارة والسخونة، الطين يدل على العلو والارتفاع بخلاف النار فتدل على التسفل، الطين فى أصلها التؤدة والسكينة أما النار ففيها العشوائية،
وغلب على كل أصله فغلب على إبليس العشوائية، وغلب على آدم التؤدة والسكينة لما عصى فذل وخضع وتاب إلى الله تعالى.
ثانيًا: اعتبر إبليس أن شرف الأصل يدل على شرف الفرع فلو افترضنا أن النار أفضل من الطين هل يلزم من ذلك أن يكون إبليس أفضل من آدم؟! لا، فشرف الأصل لا يدل على شرف الفرع، فشرف نوح عليه السلام لم يدل على شرف ابنه الذى كان كافرًا وكان أبوه نبيًّا، ولذلك كانت العرب تقول:
إذا افتخرت بآباء لهم شرف
…
قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا.
ثالثًا: لو فُرض أنَّ شرف الأصل يدل على شرف الفرع فلا مانع أن يسجد الفاضل للمفضول لو أمر الله، لذلك فالقياس الذى قاس به إبليس هو قياس باطل من جميع جهاته، فكل من قاس قياسًا كهذا مع علمه بأنه مصادم للنص فهذا متبع لإبليس.
تنبيه: انقسم الناس في الأخذ بالقياس إلى ثلاثة طوائف:
الأولى: غالت في الأخذ به.
الثانية: غالت في إنكاره.
الثالثة: المتوسطون بين هؤلاء وأولئك.
فالأولى قالت: إنَّ النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا
بعض هؤلاء حتى قال: إنَّ النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة. قاله طائفة من أهل الكلام والرأي، كأبي المعالي الجويني في (البرهان).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهو خطأ، بل الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أنَّ النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد.
ومنهم من يقول: إنها وافية بجميع ذلك، وإنما أنكر ذلك من أنكره؛ لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد، وذلك أنَّ الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعًا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانًا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد
(1)
.
الثانية: قالوا: القياس كله باطل، محرم في الدين، ليس منه، وأنكروا القياس الجلي الظاهر حتى مزقوا بين المتماثلين.
الثالثة: المتوسطون بين هؤلاء وأولئك، وهو الصواب أنَّ النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلْنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بين الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس
(1)
الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 152).
الصحيح حق مطابق للنصوص فهما دليلان: الكتاب، والميزان
(1)
.
فدلالة النصوص إما بالنص، أو بالظاهر، أو بالإيماء، والإشارة، أو الاقتضاء، والقياس الصحيح، والجمع بين الأصل والفرع بعلة جامعة إلى غير ذلك من وجوه الاستنباط من بحر النصوص العظيم، وكلٌّ يغترف منه على قدر ما أعطاه الله من الفهم والتوفيق.
*
أركان القياس:
من خلال تعريف القياس يتبين أنَّ للقياس أربعة أركان، وهي:
1 -
الأصل: وهو محل الحكم المشبه به.
2 -
الفرع: وهو المحل المشبه.
3 -
حكم الأصل: وهو ما ثبت في الشرع في الأصل.
4 -
الوصف الجامع بين الأصل والفرع: ويسمى: العلة، والجامع، والمناط، والأمارة، والداعي، والباعث، والمقتضي، والموجب، والمشترك
(2)
.
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (2/ 97).
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية (19/ 17).
الركن الأول: الأصل،
ويطلق على أمور:
1 -
ما يقتضي العلم به العلم بغيره.
2 -
ما لا يصلح العلم بالمعنى إلا به.
3 -
الذي يعتبر به ما سواه.
4 -
الذي يقع القياس عليه، وهو المراد هنا.
قال الشوكاني - بعد ذكر اختلافهم في حد الأصل-: وعلى الجملة: إنَّ الفقهاء يسمون محل الوفاق أصلًا، ومحل الخلاف فرعًا، ولا مشاحة في الاصطلاحات، ولا يتعلق بتطويل البحث في هذا كثير فائدة، فالأصل هو المشبه به، ولا يكون ذلك إلا لمحل الحكم، لا لنفس الحكم، ولا لدليله
(1)
.
•
شروط القياس:
*
أولًا: شروط القائس:
قال الشافعي رحمه الله: ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله: فرضه، وأدبه، وناسخه، ومنسوخه، وعامة، وخاصة، وإرشاده.
(1)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 600).
ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماعًا فبالقياس، ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون التثبيت، ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه؛ لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتًا فيما اعتقده من الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك، ولا يكون بما قال -أعني منه بما خالفه- حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما ترك إن شاء الله، فأما من تم عقله، ولم يكن عالمًا بما وصفنا، فلا يحل له أن يقول بقياس، وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم، ولا خبرة له بسوقه.
ومن كان عالمًا بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة، فليس له أن يقول أيضًا بقياس؛ لأنه قد يذهب عليه عقل المعاني، وكذلك لو كان حافظًا، مُقَصِّرَ العقل، أو مقصِّرًا عن علم لسان العرب لم يكن له أن يقيس من قِبَل نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس
(1)
.
(1)
الرسالة للشافعي (509 - 511) دار التراث.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)
(1)
.
قال الحافظ: قال القرطبي: هكذا وقع في الحديث بدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس، فإنَّ الاجتهاد يتقدم الحكم؛ إذ لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد اتفاقًا، لكن التقدير في قوله:(إذا حكم) إذا أراد أن يحكم، فعند ذلك يجتهد قال: ويؤيده أنَّ أهل الأصول قالوا: يجب على المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على ما تقدم له؛ لإمكان أن يظهر له خلاف غيره
(2)
.
*
ثانيًا: الشروط المتعلقة بأركان القياس:
أولًا: شروط القياس المعتبرة في الأصل:
الشرط الأول: أن يكون حكم الأصل ثابتًا بنص أو إجماع:
مثال ما ثبت بالنص:
غسل ولوغ الخنزير سبعًا (عند من قال بذلك)؛ لأنه حيوان نجس، فيقاس على الكلب، فإن منعوا الحكم في ولوغ الكلب دلَّلنا عليه
(1)
أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716).
(2)
فتح الباري لابن حجر (3/ 387).
بالحديث الصحيح المشهور فيه
(1)
.
ومثال ما ثبت بالاتفاق:
قياس النبيذ على الخمر، والأرز على البُرِّ، والقتل بالمثقل على القتل بالمحدَّد، وهو كثير.
وهنا مسألة: أنَّ الأصل إذا كان ثابتًا بالقياس، فلا يصح القياس عليه، وهذا ما رجحه الطوفي بعد ذكر القولين للشافعية في ذلك، ونقض القول بالجواز
(2)
.
وهذا هو المعبر عنه بالقاعدة: ما ثبت بطريق القياس فغيره عليه لا ينقاس، وهذا هو قول الجمهور.
الشرط الثاني: أن يكون الحكم شرعيًّا ليخرج الحكم العقلي واللغوي
(3)
.
الشرط الثالث: أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملًا لحكم الفرع، أما لو كان شاملًا له، خرج عن كونه فرعًا، وكان القياس ضائعًا، لخلوه عن الفائدة بالاستغناء عنه بدليل الأصل؛ ولأنه لا يكون جعل أحدهما
(1)
أخرجه البخاري (172)، ومسلم (279) من حديث أبي هريرة.
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 292).
(3)
البحر المحيط للزركشي (7/ 104).
أصلًا، والآخر فرعًا أولى من العكس
(1)
.
الشرط الرابع: أن لا يتغير حكم الأصل بالتعليل، ومعناه ما ذكرناه من أنَّ العلة إذا عكرت على الأصل بالتخصيص فلا تقبل
(2)
.
وهو معنى قول بعض الأصوليين: كل تأويل يرفع النص أو شيئًا منه فهو باطل. ومثاله: تأويل أبي حنيفة في مسألة الأبدال حيث قال عليه الصلاة والسلام: «في أربعين شاة شاة»
(3)
، فقال أبو حنيفة: الشاة غير واجبة، وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان، قال: فهذا باطل؛ لأن اللفظ نص في وجوب شاة، وهذا رفع وجوب الشاة فيكون رفعًا للنص
(4)
.
الشرط الخامس: أن لا يكون الأصل معدولًا به عن سَنَن القياس، فإنَّ الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره.
ويطلق اسم الخارج عن القياس على أربعة أقسام مختلفة، فإنَّ ذلك يطلق على ما استثني من قاعدة عامة، وتارة على ما استُفتح ابتداءً من
(1)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 602).
(2)
المستصفى للغزالي (2/ 997).
(3)
البخاري (1454) بنحوه، ولفظه عند أحمد (11307) من حديث أبي سعيد الخدري، أبو داود (1568، 1572) من حديث علي، وابن عمر.
(4)
المستصفى للغزالي (2/ 640 - 641).
قاعدة مفردة بنفسها لم تُقطع من أصل سابق.
وكل واحد من المستثنى والمُستَفتح ينقسم إلى: ما يعقل معناه، وإلى ما لا يعقل معناه، فهذه أربعة أقسام:
القسم الأول: ما استثني من قاعدة عامة وخصص بالحكم، ولا يعقل معنى التخصيص فلا يقاس عليه غيره؛ لأنه فهم ثبوت الحكم في محله على الخصوص، وفي القياس إبطال الخصوص المعلوم بالنص، ولا سبيل إلى إبطال النص بالقياس.
وكونه خاصية لمن ورد في حقه تارة يُعلم وتارة يُظن.
فالذي يعلم مثاله: تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم واستثناؤه في تسع نسوةٍ، وفي نكاح امرأةٍ على سبيل الهبة من غير مهر، وذلك في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] إلى قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، وفي تخصيصه بصفيِّ المغنم.
قال القرطبي رحمه الله: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم الغانمين، حضر أو غاب، وسهم الصَّفيِّ، يصطفي سيفًا أو سهمًا أو خادمًا أو دابة، وكانت صفية بنت حيي من الصَّفيّ من غنائم خيبر،
وكذلك سيفه ذو الفقار
(1)
.
عن عائشة قالت: (كانت صفيّة من الصَّفيِّ)
(2)
، وما ثبت من تخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده، وجعلها تعدل شهادة رجلين، عن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف، فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيرًا أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]
(3)
، وتخصيص أبي بردة في العناق أنها تجزي عنه في الضحية، في حديث البراء بن عازب، وفيه: وكان أبو بردة بن نيار، قد ذبح، فقال: إن عندي جذعة خير من مسنة، فقال:(اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك)
(4)
، وفي رواية: يا رسول الله إنَّ عندي داجنًا جذعة من المعز، قال: اذبحها، ولن تصلح لغيرك
(5)
.
(1)
تفسير القرطبي (4/ 375).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (2994)، وابن حبان (4822) من حديث عائشة.
(3)
أخرجه البخاري (2807، 4784).
(4)
أخرجه البخاري (965، 968)، ومسلم (1961).
(5)
أخرجه البخاري (5556)، ومسلم (1961).
فهذا لا يقاس عليه؛ لأنه لم يرد ورود النسخ للقاعدة السابقة، بل ورود الاستثناء مع إبقاء القاعدة فكيف يقاس عليه.
ومن ذلك اختصاص سلمة بن الأكوع بسكنى البادية من جملة المهاجرين، فلا يجوز لغير سلمة أن يخرج من بلد هجرته إلى المكان الذي هاجر منه، وبوب عليه النووي في شرح مسلم، باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه، ثم ساق حديث سلمة بن الأكوع أنه دخل على الحجاج، فقال: يا ابن الأكوع، ارتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البَدْوِ
(1)
، وهذا ظاهر في الاختصاص بسلمة حيث لم ينكر الحكم العام، ولكنه بيّن الاستثناء.
والذي يظن وفيه تختلف الأنظار، فمن الفقهاء من عمم حكم الأصل أو قاس عليه غيره، ومنهم من جعله معدولًا به عن القياس، فهو خاص بمحله، ولا يقاس عليه غيره.
ومن أمثلته: قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وَقَصَتْهُ الناقة وهو واقف بعرفة: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (7087)، ومسلم (1862).
(2)
أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (1206).
قال ابن دقيق العيد: الحديث دليل على أنَّ المحرم إذا مات يبقى في حقه حكم الإحرام، وهو مذهب الشافعي، وخالف في ذلك مالك، وأبو حنيفة، وهو مقتضى القياس لانقطاع العبادة بزوال محل التكليف، وهو الحياة، لكن اتبع الشافعي الحديث، وهو مقدم على القياس.
وغاية ما اعتذر به عن الحديث ما قيل: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم علل هذا الحكم في هذا المحرم بعلة لا يعلم وجودها في غيره، وهو أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، وهذا الأمر لا يعلم وجوده في غير هذا المحرم لغير النبي صلى الله عليه وسلم، والحكم إنما يعم في غير محل النص بعموم علته -قلت: وهذه العلة لا يعلم عمومها في قولهم - وغير هؤلاء يرى أنَّ هذه العلة إنما تثبت لأجل الإحرام فيعم كل محرم
(1)
.
فالذين قصروا هذا الحكم على هذا المحرم بعينه قالوا: لأن حكمه عُدل به القياس الذي هو انقطاع التكليف بالموت، فلا يقاس عليه لأنه علل الحكم ببعثه ملبيًا.
قال ابن حجر: وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيًا لوجب أن يكمل به المناسك، ولا قائل به.
وأجيب: بأن ذلك ورد على خلاف الأصل، فيقتصر به على مورد
(1)
الإحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد (3/ 214).
النص، ولا سيما وقد وضح أنَّ الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام كاستبقاء دم الشهيد
(1)
.
ولم يقل: (فإنَّ المحرم
…
) كما قال في الشهيد
(2)
.
والذين عمموا الحكم عللوه بالإحرام، فيشترك معه غيره في الحكم، والأصل أنَّ ما ثبت لشخص في زمنه صلى الله عليه وسلم ثابت لغيره حتى يدل الدليل على خلافه
(3)
.
ومن ذلك اختلافهم: هل يكون تعليم القرآن مهرًا في النكاح؟
فمن أجاز ذلك استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنكحتكها بما معك من القرآن»
(4)
، وعمموا الحكم في ذلك، وهو قول الشافعي.
(1)
فتح الباري لابن حجر (3/ 137)، حديث (1266).
(2)
أخرج البخاري (2803)، ومسلم (1876) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة، واللون لون الدم، والريح ريح المسك)، وأخرج البخاري (1346) عن جابر بن عبد الله، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ادفنوهم في دمائهم) - يعني يوم أحد- ولم يغسلهم.
(3)
انظر هذه المسألة في الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن (4/ 452 - 453) دار العاصمة.
(4)
أخرجه البخاري (2310، 5149)، ومسلم (1425) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
والذين منعوا قالوا: لاحتمال أن يكون ذلك الأثر خاصًّا بذلك الرجل، وأيضًا هو خلاف الأصول في قوله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء: 4]، وقوله:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24]، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما، والليث، وأنَّ الفروج لا تستباح إلا بالأموال.
القسم الثاني: ما استثني من قاعدة عامة، ويتطرق إلى استثنائه معنى، فهذا يقاس عليه كل مسألة دارت بين المستثنى والمستبقى، وشاركت المستثنى في علة الاستثناء.
ومثاله: استثناء العرايا
(1)
، فإنه لم يرد ناسخًا لقاعدة الربا، ولا هادمًا لها، لكن استثنى للحاجة، فنقيس العنب على الرطب، لأنَّا نراه في معناه.
وكذلك إيجاب صاعٍ من تمر في لبن المصراة لم يردها لبنًا
لضمان المثليات بالمثل، لكن لما اختلط اللبن الحادث بالكائن في الفرع عند البيع، ولا سبيل إلى التمييز، ولا إلى معرفة القدر، وكان متعلقًا بمطعوم يقرِّب الأمر فيه، خلَّص الشارع المتبايعين من ورطة الجهل بالتقدير بصاع من تمر.
فلا جرم أن نقول: لو رد المصراة بعيب آخر لا بعيب التصرية،
(1)
أخرجه البخاري (2173، 2188)، ومسلم (1539) من حديث زيد بن ثابت.
فيضمن اللبن أيضًا بصاع، وهو نوع إلحاق وإن كان في معنى الأصل.
القسم الثالث: ما لا يعقل معناه: فلا يقاس عليها غيرها لتعذر العلة، فيسمى خارجًا عن القياس تجوزًا، كالمقدرات في أعداد الركعات، ونُصُب الزكوات، ومقادير الحدود، والكفارات، وهذا هو المعبر عنه في شروط الأصل بأن يكون معقول المعنى؛ لأن ما لا يعقل معناه لا يمكن القياس عليه كأوقات الصلوات
(1)
.
القسم الرابع: ما لا نظير له مع أنه معقول المعنى: وهذا المعنى قد يكون بسيطًا، وقد يكون جملة معانٍ لا يوجد جميعها في فرع واحد.
فمثال المعنى البسيط: السفر، فإنه يشتمل على نوع من المشقة معقول يناسب القصر، ولا يشاركه غيره من الصنائع في ذلك النوع من المشقة المناسبة للقصر، فلا يلحقه غيره فيه.
وأما المرض فإنما يثبت فيه الجمع والفطر بالنص لا بالقياس، وأما القصر فإن مشقة المرض لا تناسبه، بل تناسب التخفيف على المريض بمشروعية الجلوس، والإيماء في الصلاة.
ومثال: الشفعة في العقار، فإنها معقولة المعنى، وهو لحوق نوع من الضرر بالشريك في العقار، وفيها إجبار على البيع لشخص بغير رضا،
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 301) ط دار الرسالة.
فلا يشترك فيه مع العقار غيره.
ومن أمثلة ما توجد فيه جملة معانٍ: القسامة بالأيمان تحصينًا للدماء لعلة الخفية والغيلة في القتل، بحيث يعسر الإشهاد، والقاتل يستخف الأيمان كما يستخف القتل، ويُصِرُّ على الإنكار في غالب الأمر، فلذلك ابتدأ المُدَّعون في القسامة بالأيمان، وهذا على خلاف الأصل، فلا يقاس عليها غيرها.
وكذلك ضرب الدية على العاقلة في قتل الخطأ فإنه معقول المعنى، ولذلك كانت الجاهلية تفعله قبل الشرع، وجاء الشرع مقرًّا له.
ووجه المصلحة فيه: أنَّ الحاجة مست إلى مخالطة السلاح، وتعلم الحرب، والطعان والضراب بها، حتى أبيح الصيد من غير ضرورة، ولا حاجة، بل لما في ذلك من حصول آلة الحرب، ولما كانت النفوس خطيرة لا تهدر، ولم يتعمد القاتل جناية القتل، فلو أقدناه به، أو حملنا المال كله عليه لقطع مخالطة السلاح حسمًا لما يتوقع منه ذلك، فكان من النظر السديد ضرب الدية على العاقلة، إذ لا كبير حيف عليهم في ذلك لخفتها عليهم بالتوزيع، مع أنَّ ذلك ينجبر بما بينهم من التعاضد والتناصر الذي جبلت عليه القبائل فيما بينها
(1)
.
(1)
مفتاح الوصول في بناء الفروع على الأصول لابن التلمساني (160 - 161)، والمستصفى للغزالي (2/ 1001 - 1002).
الشرط السادس: أن يكون حكمه مستمرًّا غير منسوخ؛ لأنه إذا نسخ حكم الأصل وبقيت علته لم يبق لها اعتبار، لإثمار حكم مماثل في فرع الأصل منسوخ الحكم، ولكن قد ينسخ حكم من أحكام الأصل، فيتوهم سريان النسخ إلى الحكم الذي يطلب مثله في الفرع.
ومثاله: قول الحنفية بأنَّ تبييت الصوم غير واجب في صوم رمضان قياسًا على صوم عاشوراء، فإنه لا يجب فيه التبييت، لحديث سلمة بن الأكوع: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا ينادي في الناس يوم عاشوراء: «أنَّ من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل»
(1)
.
فيقول المالكية: لقد نُسخ حكم الأصل، وهو وجوب صوم عاشوراء بوجوب صوم رمضان، ومن شروط الأصل المقيس عليه: أن لا يكون منسوخًا.
فيجيب الحنفية: بأننا لم نقس الفرع على الأصل في الحكم المنسوخ، بل في حكم آخر، وهو عدم وجوب تبييت الصوم؛ لأنه لا يلزم من نسخ حكم وجوب الصوم نسخ عدم وجوب تبييته المقيس عليه
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (1924)، ومسلم (1135).
(2)
مفتاح الوصول للتلمساني (156).
الشرط السابع: أن يكون الأصل متفقًا عليه؛ لأنه لو لم يكن الحكم مجمعًا عليه، أو منصوصًا عليه، جاز له أن يمنع الأصل فيبطل القياس.
قال ابن رشد في مسألة اشتراط المعتكف فعل شيء مما يمنعه الاعتكاف، فينفعه شرطه في الإباحة أم ليس ينفعه ذلك؟ فأكثر الفقهاء على أنَّ شرطه لا ينفعه، وأنه إن فعل بطل اعتكافه، وقال الشافعي: ينفعه شرطه. والسبب في اختلافهم تشبيههم الاعتكاف بالحج في أنَّ كليهما عبادة مانعة لكثير من المباحات، والاشتراط في الحج إنما صار إليه من رآه لحديث ضباعة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:«أهلِّي بالحج واشترطي أنَّ محلي حيث حبستني»
(1)
، لكن هذا الأصل مختلف فيه في الحج، فالقياس فيه ضعيف عند الخصم المخالف له
(2)
.
*
الركن الثاني: الفرع.
وحَدُّه: ما ألحق بأصل أخذ حكمه منه
(3)
.
شروط الفرع:
الأول: أن تكون علة الأصل موجودة في الفرع، فإنَّ تعدي الحكم
(1)
أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207).
(2)
بداية المجتهد لابن رشد (1/ 567) ط التوفيقية.
(3)
قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 949).
فرعُ تعدي العلة، فإن كان وجودها في الفرع غير مقطوع به لكنه مظنون صح الحكم أيضًا
(1)
.
لأنه لا يشترط أن يكون وجودها في الفرع مقطوعًا به، بل تكفي فيه غلبة الظن
(2)
.
الشرط الثاني: ألا يتقدم حكم الفرع في الثبوت على الأصل.
ومعناه أنَّ من شرط الفرع أن يكون حكم الأصل ثابتًا قبله؛ لأن حكم الفرع يحدث بحدوث علة الأصل المتعدية إليه، فلو تأخر حكم الأصل عن الفرع، لتأخرت العلة عنه أيضًا، ومن أمثلة ذلك: قياس الوضوء في اشتراط النية على التيمم مع تأخر مشروعية التيمم على الوضوء
(3)
.
الشرط الثالث: أن لا يفارق حكم الفرع حكم الأصل لا في جنسه، ولا في زيادة، ولا في نقصان، فإنَّ القياس عبارة عن تعدية حكم من محل إلى محل، فكيف يختلف بالتعدية
(4)
.
(1)
المستصفى للغزالي (2/ 1003).
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 311) ط دار الرسالة.
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي بتصرف (3/ 314 - 315).
(4)
المستصفى للغزالي (2/ 1004).
فإذا ثبت في الفرع غير حكم الأصل، لم يكن ذلك تعدية بل ابتداء حكم
(1)
، وهذا الشرط عبَّر عنه الشوكاني ب (مساواة حكم الفرع بحكم الأصل)
(2)
.
الشرط الرابع: أن لا يكون الفرع منصوصًا عليه بعموم أو خصوص؛ لأن القياس إنما يصار إليه عند خلو الفرع من الحكم الثابت له بالتنصيص
(3)
.
وأيضًا فلو كان دليل حكم الأصل شاملًا له خرج عنه كونه فرعًا، وكان القياس ضائعًا لخلوه عن الفائدة بالاستغناء عنه بدليل الأصل، ولأنه لا يكون جعل أحدهما أصلًا، والآخر فرعًا أولى من العكس
(4)
، وأما الاستدلال بالقياس في مسألة ثبت حكمها بالنص، إنما هو لإقناع المخالف بصحة الحكم عند طعنه في النص لما يراه مضعفًا للاستدلال به، لا لأنَّ القياس هو الدليل فيها
(5)
.
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 311).
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 612).
(3)
الوجيز في أصول الفقه المالكي لمحمد عبد الغني (1/ 120) ..
(4)
إرشاد الفحول (2/ 602).
(5)
الوجيز في أصول الفقه المالكي لمحمد عبد الغني (116، 117).
*
الركن الثالث: الحكم:
وهو الذي تعلق على العلة من التحليل، والتحريم، والإسقاط
(1)
.
واشترط الأصوليون فيه شروطًا، وهي داخلة في شروط الأصل، وقد سبق ذكرها.
*
الركن الرابع: العلة:
قال الشيرازي: العلة في الشرع هي: المعنى الذي يقتضي الحكم
(2)
.
*
الفرق بين العلة والحكمة:
العلة: هي الوصف الظاهر المنضبط الموجود في الأصل، والذي من أجله شرع الحكم فيه، وبناءً على وجوده في الفرع يراد تسويته بالأصل في هذا الحكم.
أما الحكمة فهي: الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم.
فتحريم الخمر مثلًا حكم، والإسكار هو علة هذا الحكم، والمحافظة على العقل من الاختلال هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر.
قال في مراقي السعود في تعريف الحكمة:
(1)
اللمع للشيرازي (268).
(2)
اللمع للشيرازي (261).
وهي التي من أجلها الوصف جرى علة حكم عند كل من درى
(1)
وعلة الرخصة بقصر الصلاة، والإفطار في رمضان: هي السفر، والحكمة هي تخفيف المشقة على المسافر وهكذا
(2)
.
*
شروط العلة:
الأول: أن يكون طريق إثباتها شرعيًّا كالحكم، وسيأتي -بإذن الله- طرق إثبات العلة.
الثاني: أن تكون ظاهرة جلية، وإلا لم يكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه، أو مساوية له في الخفاء.
وإذا كانت العلة أمرًا خفيًّا أقام الشارع مقامه أمرًا ظاهرًا يقترن به، ويدل عليه، ويكون بدلًا عن الوصف الخفي؛ لأن لا يصح اعتباره علة بالاستقلال، كالرضا الذي هو الوصف المناسب لصحة العقد وتشريعه، وهو أمر خفي لا يمكن الوقوف عليه، فأقام الشارع مقامه أمرًا ظاهرًا يقترن به، ويدل على وجوده وهو الإيجاب والقبول
(3)
.
الثالث: أن تكون مطردة، بحيث يوجد الحكم بوجودها ويرتفع
(1)
مراقي السعود للشنقيطي.
(2)
أضواء البيان للشنقيطي (5/ 270) ط الحديث.
(3)
الأساس في أصول الفقه د/ محمود عبد الرحمن (2/ 213).
بارتفاعها.
الرابع: أن تكون مضبوطة، بحيث لا تتخلف عنها حكمتها التي هي آتية لإثبات الحكم ومقصوده، وإلا فهي باطلة، وقد حكى الآمدي أنَّ الإجماع منعقد على صحة تعليل الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم، كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان، لحكمة الزجر أو الجبر، وتعليل صحة البيع بالتصرف الصادر من الأهل في المحل، لحكمة الانتفاع، وتعليل تحريم شرب الخمر وإيجاب الحد به، لحكمة دفع المفسدة الناشئة منه، ونحوه
(1)
.
وقد اختلف الأصوليون في جواز التعليل بالحكمة -أي ربط الحكم بها-، وبيانه: أنَّ الله تعالى إذا نصب سببًا لحكمة اختلف العلماء هل يجوز ترتيب الحكم على تلك العلة حيث وجدت على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يجوز قيام التعليل بالحكمة مطلقًا، وإليه ذهب الرازي واختاره البيضاوي تبعًا له
(2)
.
وحجة الجواز: أنَّ الوصف إذا جاز التعليل به، فأولى بالحكمة لأنها
(1)
الإحكام للآمدي (3/ 203) ط المكتب الإسلامي.
(2)
الأساس في أصول الفقه (2/ 218).
أصله، وأصل الشيء لا يقصر عنه؛ ولأنها نفس المصلحة والمفسدة وحاجات الخلق، وهذا هو سبب ورود الشرائع، فالاعتماد عليها أولى من الاعتماد على الفرع
(1)
.
ورُدَّ ذلك بأن الحكمة وإن كانت هي أصل العلة، إلا أنَّ الحكمة هنا غير مضبوطة، فأقيم مقامها وصفًا ظاهرًا منضبطًا ليصح الإلحاق بالأصل.
فإزالة المشقة مثلًا أو تخفيفها حكمة تشريع القصر في السفر والفطر، ولكن العلة هي السفر، ولو عللنا هذه الأحكام بمطلق لاختلفت الأنظار في تحديد المشقة من السفر، أو الأعمال الشاقة، أو الحاجة للنوم، أو ترك عمل هام فضبط الشارع ذلك بإقامة العلة مقامها وهي السفر.
القول الثاني: أنه لا يجوز ربط الحكم بها مطلقًا -أي وإن كانت ظاهرة منضبطة-، ورجحه القرافي في (شرح تنقيح الفصول) وقال: حجة المنع أنه لو جاز التعليل بالحكمة لما جاز التعليل بالوصف؛ لأن الأصل لا يعدل عنه إلا عند تعذره، والحكمة ليست متعذرة، فلا يجوز العدول عنها فيعلل بها، ومتى علل بها سقط التعليل بالوصف.
(1)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (316).
مثاله: أنَّ وصف الرضاع سبب حرمة النكاح.
وحكمته: أنَّ جزء المرأة صار جزءًا للرضيع؛ لأن لبنها جزؤها وقد صار لحمًا للجنين، فأشبه منها الذي صار جزءًا للجنين فكما أنَّ ولد الصلب حرام، فكذلك ولد الرضاع، وهو سر قوله صلى الله عليه وسلم:«الرضاع لحمة كلحمة النسب»
(1)
(لم يرد بهذا اللفظ وإنما الوارد «الولاء لحمة كلحمة النسب»).
فإذا كانت هذه هي الحكمة، فلو أكل جنين قطعة لحم امرأة. (قلت: أو نقل إليه دم من دمها)، فقد صار جزؤها جزأه، فكان يلزم التحريم، ولم يقل به أحد، وكذلك إذا كانت الحكمة في وصف الزنا اختلاط الأنساب، فإذا أخذ رجل صبيانًا صغارًا وفرقهم إلى حيث لم يرهم آباؤهم حتى صاروا رجالًا ولم يعرفهم آباؤهم، فاختلطت أنسابهم حينئذ، فينبغي أن يجب عليه حد الزنا لوجود حكمة وصف الزنا، لكنه خلاف الإجماع، فعلمنا أنه لو جاز التعليل بالحكمة للزم النقض، وهو خلاف الأصل فلا يجوز التعليل بالحكمة وهو
(1)
أخرجه الشافعي (1232)، وابن حبان (4929)، والحاكم (4/ 231)، والبيهقي في الكبرى (10/ 292)، وقال: قد روى من أوجه أخر كلها ضعيفة، والثابت في الرضاع قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة) إشارة إلى الجزئية. ينظر فتح الباري (12/ 44).
المطلوب
(1)
.
القول الثالث: التفصيل، وهو أنه يجوز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة بنفسها، والمنع من التعليل بالحكمة الخفية المضطربة المجردة عن الضابط، وهو اختيار الآمدي، وابن الحاجب، والبرماوي.
قال: وهو المختار لنا إذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة غير مضطربة، فلأنَّا أجمعنا على أنَّ الحكم إذا اقترن بوصف ظاهر منضبط مشتمل على حكمة غير منضبطة بنفسها أنه يصح التعليل به، وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم، بل ما اشتمل عليه من الحكمة الخفية، فإذا كانت الحكمة وهي المقصودة من شرع الحكم مساوية للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها.
وأما إذا كانت الحكمة خفية مضطربة غير منضبطة فيمتنع التعليل بها.
الشرط الخامس: أن تكون مؤثرة في الحكم، فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة. هكذا قال جماعة من الأصوليين ومرادهم بالتأثير: المناسبة.
قال القاضي الباقلاني في التقريب: معنى كون العلة مؤثرة في الحكم:
(1)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (316 - 317) ط دار الفكر.
هو أن يغلب على ظن المجتهد أنَّ الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها، دون شيء سواها
(1)
.
فإن لم تكن مؤثرة في الحكم بأن ألغي اعتبارها فلا تعتبر علة.
ومثال ذلك: أن يضيف الشارع الوصف إلى وصف، وينوطه به، ثم تقترن به أوصاف عُلم بعادة الشرع، وموارده، ومصادره في أحكامه أنه لا مدخل لها في التأثير، ككون الذي أفطر في رمضان بوقاع أهله، وأوجب عليه الشارع العتق أعرابيًّا، فإنا نلحق به كل من أفطر في رمضان بجماع، ونحذف عن درجة الاعتبار كونه أعرابيًّا
(2)
؛ إذ لا تأثير له في الحكم.
وهذا الوصف يسمى الوصف الطردي، وهو الذي ليس في إناطة الحكم به مصلحة كالطول والقصر، وهذا بخلاف الطرد الذي هو شرط في العلة، لأن الحكم في الفرع إنما يثبت بما غلب على الظن أنَّ الحكم في الأصل ثابت له، وذلك غير متصور في الوصف الطردي
(3)
.
(1)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 872).
(2)
الأساس في أصول الفقه د/ محمود عبد الرحمن (2/ 225).
(3)
مذكرة الشنقيطي ص (315).
الشرط السادس: ألا تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها مما ترجع على الحكم الذي استنبطت منه بالإبطال
(1)
، أو إبطال بعضه؛ لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح، إذ الظن المستفاد من النص أقوى من الظن المستفاد من الاستنباط؛ لأنه فرع له، والفرع لا يرجع على إبطال أصله، وإلا لزم أن يرجع على نفسه بالإبطال.
مثال: من استنبط من حديث الأضحية: «لا تذبحوا إلا مسنة»
(2)
، أنَّ العلة هي السِّمن، فأجاز ذبح البهائم غير الكاملة السن الشرعي، فنقول له: أنَّ هذه العلة المستنبطة قد عادت على الأصل بالإبطال، وهو اشتراط السن، فلا تصح أن تكون علة.
وكتعليل وجوب الشاة في باب الزكاة بدفع حاجة الفقراء، لما فيه من رفع وجوب الشاة، وأنَّ ارتفاع الأصل المستنبط منه يوجب إبطال العلة المستنبطة منه ضرورة توقف علتها على اعتبارها به
(3)
.
وقوله: لما فيه من رفع وجوب الشاة. أي: مُجَوِّزٌ لإخراج قيمة الشاة، فيتخير على ذلك بينها وبين قيمتها، وهو مفضٍ إلى عدم وجوبها.
(1)
شرح الورقات للخضير (15/ 3).
(2)
أخرجه مسلم (1963) من حديث جابر بن عبد الله.
(3)
الإحكام للآمدي (3/ 224)، شرح مختصر الروضة (3/ 307).
الشرط السابع: أن لا يكون لها في الأصل معارض لا تحقق له في الفرع.
أي: لا يكون في الأصل علة أخرى تقتضي نقيض حكمها
(1)
، ومعنى ذلك: أنه يشترط في العلة إذا كانت مستنبطة ألا تكون معارضة بعارض منافٍ موجودٍ في الأصل صالح للعلِّية، وليس موجودًا في الفرع؛ لأنه متى كان في الأصل وصفان متنافيان يقتضي كل واحد منهما نقيض الآخر، لم يصلح أن يجعل أحدهما علة إلا بمرجح.
ومثال ذلك: أن يقول الحنفي في صوم الفرض: صوم معين، فيأتي بالنية قبل الزوال كالنفل، فيقال له: صوم فرضٍ، فيحتاط فيه، ولا يبنى على السهولة
(2)
.
الشرط الثامن: أن لا تكون مخالفة للنص الخاص أو الإجماع؛ لأن النص والإجماع لا يقاومهما القياس، بل يكون إذا خالفهما فاسدًا باطلًا.
ومن أمثلة القياس الفاسد المخالف للنص:
1 -
قياس شوك الحرم على السباع في جواز قطعه، بجامع أنه يؤذي
(1)
الإحكام للآمدي (3/ 244)، إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 609).
(2)
شرح الكوكب المنير لابن النجار (3/ 85 - 86).
بطبعه.
قال الشنقيطي: ويحرم قطع الشوك والعوسج، قاله ابن قدامة في «المغني» ، وقال القاضي، وأبو الخطاب: لا يحرم، وروي ذلك عن عطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار، والشافعي؛ لأنه يؤذي بطبعه، فأشبه السباع من الحيوان.
ثم قال: قياس شوك الحرم على سباع الحيوان مردود من وجهين:
الأول: أنَّ السباع تتعرض لأذى الناس وتقصده، بخلاف الشوك.
الثاني: أنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يعضد شوكه»
(1)
، والقياس المخالف للنص فاسد الاعتبار
(2)
.
2 -
قياس الحنفية جواز الصلاة في معاطن الإبل على جواز الصلاة في مرابض الغنم
(3)
بجامع عدم الفرق.
قال ابن حجر: وتعقب بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة
(1)
أخرجه البخاري (1587)، ومسلم (1353) من حديث عبد الله بن عباس.
(2)
أضواء البيان للشنقيطي (2/ 104) سورة المائدة آية (96).
(3)
أخرجه أحمد (9825)، وابن ماجه (768)، والترمذي (348)، من حديث أبي هريرة بلفظ:(إذا لم تجدوا إلا مرابض الغنم، ومعاطن الإبل، فصلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل).
بالتفرقة
(1)
.
3 -
وكقياس الحنفية أيضًا جواز بيع الزرع الرطب بالحب اليابس، بأنهم أجمعوا على جواز بيع الرطب بالرطب مثلًا بمثل، مع أنَّ رطوبة أحدهما ليست كرطوبة الآخر، وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص وهو حديث سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال لمن حوله:«أينقُص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك»
(2)
، فهو فاسد الاعتبار
(3)
.
4 -
قياس لبن المصراة على غيره من المثليات في وجوب المثل؛ فإنه فاسد الاعتبار لمخالفته نص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن فيه صاعًا من التمر
(4)
.
قلت: وهو حديث أبي هريرة: «من ابتاع شاة مُصَرَّاة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردَّها، وردَّ معها صاعًا من
(1)
فتح الباري لابن حجر (1/ 657) حديث (430).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه أحمد في المسند (1/ 179)، 175)، وأبو داود (3359)، والترمذي (1225)، والنسائي (4546)، من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3)
فتح الباري لابن حجر (4/ 493).
(4)
مذكرة الشنقيطي (270).
تمر»
(1)
.
5 -
قول الحنفية: يجوز للمرأة الحرة المكلفة سواء كانت بكرًا أم ثيبًا تزويج نفسها بغير ولي، قياسًا على البيع؛ لأن المرأة تستقل بالبيع من غير اشتراط إذن وليها، فكذلك النكاح.
فيرد الجمهور: بأنَّ هذا القياس فاسد الاعتبار؛ لمخالفته الأحاديث الدالة على اشتراط الولي، كحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استَحَّل من فرجها، فإن اشتَجَرُوا فالسلطان ولي من لا ولي له»
(2)
.
6 -
زكاة الخيل: استدل الحنفية على وجوب الزكاة في الخيل بالقياس، فقالوا: إنَّ الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل، فوجبت فيه الزكاة كالإبل والبقر.
ورد الجمهور: بأنَّ هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لمخالفته لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (2148)، ومسلم (1524)، واللفظ له.
(2)
أخرجه الترمذي (1102)، وقال حديث حسن، وأبو داود (2083)، وابن ماجه (1879)، وابن حبان:(1248)، وقال الألباني: صحيح.
(3)
أخرجه البخاري (1463، 1464)، ومسلم (982) من حديث أبي هريرة، وانظر رسالة ماجستير بعنوان (قادح فساد اعتبار القياس) دراسة أصولية تطبيقية، فاطمة الشيخي، جامعة أم القرى قسم الشريعة.
ومثال القياس الفاسد لمخالفته الإجماع:
لا يُغسِّل الرجل زوجته الميتة؛ لحرمة النظر إليها قياسًا على الأجنبية
(1)
.
فيُعتَرَض عليه: بأنَّ أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما غسَّلته
(2)
، وكان هذا بحضرة جماعة الصحابة، وموضع لا يتخلف عنه في الأغلب أحد منهم، ومثل هذا مما يُجزي فيه أن يُتحدَّث به وينتشر، ولا سيما أنَّ أبا بكر رضي الله عنه أوصى بذلك، ولم يُعلم له مخالف، فثبت أنه إجماع
(3)
.
(1)
مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (270).
(2)
صحيح بمجموع طرقه: أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 187) من طريق عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أسماء، وهو لم يدركها، وقال ابن كثير عن هذا الأثر هذا منقطع جيد، وأخرجه ابن سعد (10/ 268) من طريق سعد بن إبراهيم عن أسماء وهو منقطع، وأخرجه ابن سعد (10/ 268) من طريق ابن أبي مليكة عن أسماء وهو منقطع، وأخرجه ابن سعد (10/ 269) من طريق إبراهيم التيمي عن أسماء وهو منقطع، وأخرجه ابن سعد (10/ 269) من طريق قتادة عن أسماء وهو منقطع، ولكنه يصحح بمجموع هذه الطرق.
(3)
المنتقى للباجي (2/ 19) كتاب الجنائز، باب غسل الميت.
كذلك غسَّل عليٌّ فاطمةَ
(1)
، ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على عليٍّ وأسماء، فكان إجماعًا
(2)
.
ومنه: أن يقول: مسافر فلا تجب عليه الصلاة في السفر، قياسًا على صومه في عدم الوجوب في السفر بجامع المشقة.
فيقال له: هذه العلة مخالفة للإجماع على عدم اعتبار المشقة في الصلاة، ووجوب أدائها على المسافر مع وجود مشقة السفر
(3)
.
*
مسالك العلة:
المسالك: جمع مسلك: وهو في اللغة مكان السلوك أي المرور
(4)
.
وفي الاصطلاح: الطرق التي يتوصل بها إلى معرفة العلة الموجودة في الأصل، وتمييزه من سائر الأوصاف الأخرى
(5)
.
(1)
سنده ضعيف وحسنه بعض العلماء: أخرجه الحاكم (3/ 163 - 164)، وعنه البيهقي (3/ 396 - 397) ومداره على إمرأة أبي جعفر وهي مجهوله، وحسن إسناده ابن حجر والألباني، وقال ابن عبد البر هو مشهور عند أهل السير.
(2)
نيل الأوطار للشوكاني (7/ 251)، قال الشوكاني في حديث غسل عليٍّ لفاطمةَ: أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي بإسناد حسن.
(3)
شرح الكوكب المنير لابن النجار. بتصرف يسير (3/ 85 - 86).
(4)
العلة عند الأصوليين لعبد الحكيم السعدي (1/ 16).
(5)
المصدر السابق (1/ 8).
•
أنواع الاجتهاد في العلة الشرعية المتعلقة بالأقيسة:
*
النوع الأول: تحقيق المناط:
المناط: ما نِيطَ به الحكم أي عُلِّق به، وهو العلة التي رتب عليها الحكم في الأصل، يقال: نُطْتُ الحبل بالوتد، أنوطه نوطًا إذا علقته، ومنه ذات أنواط: شجرة كانوا في الجاهلية يعلقون فيها سلاحهم.
وأما تحقيق المناط: هو إثبات علة حكم الأصل في الفرع، أو إثبات معنًى معلوم في كل خفي فيه ثبوت ذلك المعنى.
فتحقيق المناط نوعان:
النوع الأول: أن يكون هناك قاعدة شرعية متفق عليها، أو منصوص عليها، وهي الأصل، فيتبين المجتهد وجودها في الفرع، وإليه أشار ابن قدامة بقوله: إما بيان وجود مقتضى القاعدة الكلية المتفق عليها، أو المنصوص عليها في الفرع.
ومثاله: أن يقال في حمار الوحش والضبع مثلها.
فوجوب المثل اتفاقي نصي، أي متفق عليه ثابت بالنص، وهو قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، وكون البقرة مثل الحمار، والكبش مثل الضبع تحقيقي اجتهادي، أي ثابت بالاجتهاد في تحقيق المناط، وهو هنا المثلية، إذ لا نص فيه ولا
إجماع؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم ينص على أنَّ الكبش مثلًا مثل الضبع، إنما نص على أنَّ الواجب فيها مثلها، وفوَّض تعيين المثل إلى نظر المجتهد، فتحقق مثليتها في الكبش.
ومثله: استقبال القبلة واجب. ثابت بالنص والإجماع، أما كون هذه جهتها في حق من اشتبهتعليه فليس منصوصًا عليه فيثبت بالاجتهاد.
ومثله: من أتلف شيئًا فعليه ضمانه بمثله أو قيمته، وهذا متفق عليه، لكن كون هذه مثلًا له أو قيمته فهذا اجتهادي.
النوع الثاني من تحقيق المناط: أن يعرف علة حكم ما في محله بنص أو إجماع، فيتبين المجتهد وجودها في الفرع
(1)
.
مثاله: أن يقال: الطَّواف علة لطهارة الهرة. بناء على قوله صلى الله عليه وسلم: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات»
(2)
.
والطواف موجود في الكلب على رأي من يقول بطهارته استدلالًا بهذا الحديث.
ومثاله: الحياء علة الاكتفاء من البكر في تزويجها بالصُّمات، وهو
(1)
شرح مختصر الروضة (3/ 233).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (75، 76)، والترمذي (92)، وابن ماجه (367) من حديث أبي قتادة مرفوعاً.
موجود فيمن زالت بكارتها بغير نكاح.
والنوع الأول من تحقيق المناط ليس بقياس، إذ هو بيان القاعدة الكلية المتفق عليها، أو المنصوص عليها في الفرع، وهذا متفق عليه بين الأمة، وهو من ضروريات الشريعة لعدم وجود النص على جزئيات القواعد الكلية فيها كعدالة الأشخاص، وتقرير كفاية كل شخص، ونحو ذلك.
أما النوع الثاني: وهو بيان وجود العلة المنصوص عليها في الفرع فهذا قياس.
وهذان النوعان يسميان تحقيق المناط، فهما أعم من القياس.
*
النوع الثاني: تنقيح المناط:
أما التنقيح فهو في اللغة: التخليص والتهذيب، يقال: نقحت العظم إذا استخرجت مخَّه
(1)
.
وأما تنقيح المناط في الاصطلاح: فهو إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف الشارع الحكم إليها لعدم صلاحيتها للاعتبار في العلة
(2)
.
ومثاله: ما روى أبو هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(1)
مختصر شرح الروضة للطوفي (3/ 237)، وما بعدها.
(2)
المصدر السابق.
هلكت يا رسول الله، قال:«وما أهلكك؟» ، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال:«هل تجد ما تعتق رقبة؟» ، قال: لا، قال:«فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال:«فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟» ، قال: لا
…
الحديث
(1)
.
وفي مراسيل سعيد بن المسيب: أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم ينتف شعره ويضرب نحره، ويقول: هلك الأبعد
(2)
.
فربما خُيِّل للسامع أنَّ مجموع الصفات المذكورة مع الوقاع في رمضان هي مناط وجوب الكفارة وعلته، ولكن من جملتها ما ليس بمناسب لكونه علة، ولا جزء علة فاحتيج إلى إلغائه.
وتنقيح العلة، وتخليصها بالسبر والتقسيم، فيقال حينئذٍ: كون هذا الرجل أعرابيًّا لا أثر له، فليحق به من ليس أعرابيًّا كالتركي، والعجمي، وغيرهما من أصناف الناس، وكونه لاطمًا وجهه وصدره لا أثر له، فيلحق به من جاء بسكينة ووقار وثبات، وكونه ذلك الشهر المعين لا أثر له، فيلحق به من وطئ في رمضان آخر.
(1)
أخرجه البخاري (1936، 6709)، ومسلم (1111).
(2)
مرسل: أخرجه مالك (816) بشار، عبد الرزاق (7459)، المراسيل لأبي داود (102).
وإنما قلنا: إنَّ هذه الأوصاف لا أثر لها لعدم مناسبتها؛ إذ الوصف الذي تظهر مناسبته كونه وقاعَ مكلَّفٍ هُتكت به حرمة عبادة الصوم المفروض أداء، وما سوى ذلك من التعيينات والأوصاف لاغٍ.
واعلم أنَّ في تقليل أوصاف العلة تكثيرًا لأحكامها لكثرة وقوعها، وسهولته لقلة أوصافها.
وقد يختلف في بعض الأوصاف، نحو: هل العلة خصوص الجماع، أو عموم الإفساد، فتلزم يعني الكفارة الآكل والشارب؟
اعلم أنَّ أوصاف العلة على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما اتفق على مناسبته للحكم كوقاع المكلف هاهنا.
الثاني: ما اتفق على طرديته وعدم مناسبته، ككون الواطئ أعرابيًّا لزوجةٍ في ذلك الشهر.
الثالث: ما اختلف في مناسبته لتردده بين الطردي والمناسب، أو لكونه مناسبًا من وجه دون وجه، ككون الفعل إفسادًا للصوم، وهو وصف عامٌّ، أو جماعًا وهو خاصٌّ.
ولهذا وقع النزاع بين الأئمة في وجوب الكفارة بالأكل والشرب في نهار رمضان، فقال به أبو حنيفة ومالك، وخالف فيه الشافعي وأحمد، فقالوا: لا كفارة إلا بخصوص الجماع.
وحجة الأولين: أنَّ إفساد الصوم جناية على العبادة، فناسب وجوب الكفارة زجرًا وردعًا، والجماع آلة للإفساد وسبب له، فيلحق به الأكل والشرب.
وقرر بعض المالكية ذلك بأنَّ الكفارة إذا وجبت بالجماع، كان وجوبها بالأكل والشرب أولى؛ لأنهما مادة الجماع وسببه المقوي عليه، ووسيلته المتوصل بها إليه؛ إذ الجائع لا يستطيعه، والشبعان ينشط له، فكان إيجاب الكفارة بالأكل والشرب من باب سد الذرائع، وحسم مواد الفساد (قلت: هذا ليس مطردًا، بل شهوة الجماع والشبق إليه قد تكون عند الجائع والصائم كما في هذه القصة، وقصة سلمة بن صخر مشهورة)
(1)
.
وحجة الآخرين: أنَّ الجماع اختص بما يناسب اختصاصه بالكفارة من جهة أنَّ النفس لا تنزجر عنه عند هيجان شهوته بمجرد الوازع الديني، فاحتيج فيه إلى زيادة في الوازع، وهي الكفارة، بخلاف الأكل والشرب في ذلك؛ فقد ثبت بذلك مناسبة خصوص الجماع لاختصاصه بوجوب الكفارة، فإلغاء هذه المناسبة لا يجوز.
(1)
صحيح لغيره: أخرجه أحمد (16421) وأصله في الصحيحين دون تسمية الرجل. البخاري (1935)، ومسلم (1112).
ومما يقوي هذا: أنَّ أوصاف العلل في القياس المعقول كالأخبار في النص المنقول، ثم إنه إذا اجتمع خبران عامٌّ وخاصٌّ قدم الخاص، فكذلك إذا اجتمع معنا وصفان عامٌّ وخاصٌّ؛ وجب أن يقدم الوصف الخاص، وهو الجماع ههنا، وأيضًا فإنَّ اعتبار خصوص الجماع موافق للأصل؛ إذ الأصل أنَّ ما رتب عليه الحكم يكون بمجموعه علة، فإلغاء بعض الأوصاف على خلاف الأصل (قلت: والأوصاف هنا: الجماع في نهار رمضان من مكلف بالصوم)
(1)
.
وتنقيح المناط هذا قال به أكثر منكري القياس، حتى إنَّ أبا حنيفة -رحمه الله تعالى-- ينكر القياس في الكفارات، قد استعمل تنقيح المناط فيها، وسماه استدلالًا، وأما الممتنع عنده فيها تحقيق المناط وتخريجه.
ومثاله عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن: جواز إعطاء فقراء أهل الذمة من الكفارات، والنذور، وغير ذلك إلا الزكاة.
قال الكاساني في الاحتجاج لهما: ولهما عموم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] من غير فصل بين المؤمن والكافر إلا أنه خص منه الحربي بما تلونا، أي قوله تعالى:{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9]، فيبقى الذمي
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي بتصرف (3/ 237 - 241).
على عموم النص، فكان ينبغي أن يجوز صرف الزكاة إليه، إلا أن الزكاة خصت بقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:(تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم)
(1)
، والمأخوذ منه المسلمون، فكذا المردود عليهم.
ووجه الاستدلال: أنَّ الكفارة وجبت لدفع المسكنة، والمسكنة موجودة في الكفرة، فيجوز صرف الصدقة إليهم كما يجوز صرفها إلى المسلم، بل أولى؛ لأن التصدق عليهم بعض ما يرغبهم إلى الإسلام، ويحملهم عليه، ولما ذكرنا أنَّ الكفارات وجبت بما اختار من إعطاء النفس شهوتها فيما لا يحل له، فتكون كفارتها بكف النفس عن شهوتها فيما يحل له، وبذل ما كان في طبعه منعه، وهذا المعنى يحصل بالصرف إلى الكافر بخلاف الزكاة؛ لأنها ما وجبت بحق التكفير بل بحق الشكر
(2)
.
وكذلك عللوا جواز دفع كفارة اليمين إلى مسكين واحد عشرة أيام، وأجازوا دفع القيمة في الكفارات؛ لأن المعنى عندهم دفع الحاجة، وسد المسكنة
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19) من حديث ابن عباس.
(2)
بدائع الصنائع للكاساني (5/ 104) دار الكتاب العربي.
(3)
انظر كتاب الكفارات في بدائع الصنائع (5/ 95 - 111) ط. الكتاب العربي، (6/ 381 - 382) ط. الكتب العلمية.
حكى القرافي عن الغزالي: أنَّ تنقيح المناط هو إلغاء الفارق، نحو: لا فارق بين الذكور والإناث في مفهوم الرِّقِّ، وتشطير الحَدِّ، فوجب استواؤهما فيه، وقد ورد النص بذلك في أحدهما في قوله تعالى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، ولا فارق بين الأَمَة والعبد في التقويم على مُعْتِق الشِّقْص، فوجب استواؤهما في ذلك.
قال الطوفي: ولا بأس بتسمية إلغاء الفارق تنقيحًا؛ إذ التنقيح هو التخليص والتصفية، وبإلغاء الفارق يصفو الوصف، ويخلص للعلية.
وقال القرافي: لأنه تصفية وإزالة لما لا يصلح عما يصلح، وتنقيح الشيء إصلاحه، فهذا اصطلاح مناسب
(1)
.
*
النوع الثالث: تخريج المناط.
التخريج: هو الاستخراج والاستنباط.
تخريج المناط: هو إضافة حكم لم يتعرض الشرع لعلته إلى وصف مناسب في نظر المجتهد بالسبر والتقسيم.
ومن أمثلته:
1 -
تحريم الربا في البُر؛ لأنه مكيل جنس أو مطعوم جنس، فالأرز
(1)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (301، 302) دار الفكر.
مثله لأنه كذلك.
2 -
أن يقال: وجب العشر في البُرِّ لكونه قوتًا، فتلحق به الأقوات، أو لكونه نباتَ الأرض وفائدتَها، فتلحق به الخضروات وأنواع النبات.
3 -
قال البزدوي في المقترح: مثاله: تعليل حرمان القاتل من الميراث بمعارضته بنقيض مقصوده من تعجيل الإرث حتى يقيس عليه حيازة المبتوتةلميراثها معارضة للمطلق بنقيض مقصوده.
وتحرير الكلام ههنا أنَّا إذا رأينا الشارع قد نص على حكم ولم يتعرض لعلته، قلنا: هذا حكم حادث لابد له بحق الأصل من سبب حادث، فيجتهد المجتهد في استخراج ذلك السبب منه محل الحكم، فإذا ظفر بوصفٍ مناسب له، واجتهد ولم يجد غيره غلب على ظنه أنَّ ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم
(1)
.
وبعد بيان أنواع الاجتهاد في العلة ننتقل إلى بيان طرقها ومسالكها، وهي عشرة عند من يعد منها إلغاء الفارق، وتسعة عند من لا يعده منها، وهي:
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 243).
النص، والإجماع، والإيماء، والسبر والتقسيم، والمناسبة، والشبه، والدوران، وتنقيح المناط، وإلغاء الفارق، وقد قدمنا أنَّ الغزالي رحمه الله يعد إلغاء الفارق نوع من تنقيح المناط.
وقد نظمها بعضهم بقوله:
مسالك علةٍ رَتِّبْ فنص
…
فإجماع فإيماء فسبر
مناسبةُ كذا مشبه فيتلو
…
له الدوران طرد يستمر
فتنقيح المناط فألغ فرقًا
…
وتلك لمن أراد الحصر عشر
(1)
ونظمها أيضًا العلامة الحسن الددو بقوله:
مسالك العلة ذي الأشياء
…
النص والإجماعُ فالإيماءُ
فالسبر والتقسيم فالمناسبةُ
…
فشبهُ فالدورانُ عاقبه
فالطرد تنقيح المناط التالي
…
إلغاء فارقٍ على التوالي
قال الشوكاني: واختلف أهل الأصول في تقديم مسلك الإجماع على مسلك النص، أو مسلك النص على مسلك الإجماع، فمن قدم الإجماع نظر إلى كونه أرجح من ظواهر النصوص؛ لأنه لا يتطرق إليه احتمال النسخ، ومن قدم النص، نظر إلى كونه أشرف من غيره، وكونه مستند الإجماع، وهذا مجرد اصطلاح في التأليف، فلا مشاحة فيه
(2)
.
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (4/ 430) ط. دار الحديث.
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 613).
•
المسلك الأول: الإجماع.
والمراد بثبوتها بالإجماع: أن تجمع الأمة على أنَّ هذا الحكم علته كذا، كإجماعهم في:«لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان»
(1)
على أنَّ علته شغل القلب، وممن حكى فيه الإجماع القاضي أبو الطيب الطبري.
فيقاس عليه اشتغاله بجوع، أو عطش، أو خوف، أو ألم، أو نحو ذلك مما يشوش الفكر.
وكإجماعهم على تعليل تقديم الأخ من الأبوين في الإرث على الأخ لأب، بامتزاج النسبين أي وجودهما فيها، فيقاس عليه تقديمه في ولاية النكاح، والوصية لأقرب الأقارب، ونحوها.
ومثل إجماع الصحابة رضي الله عنهم أيام عمر رضي الله عنه على علة ترك قسمة أرض السواد
(2)
، حتى لا يكون المال بأيدي الأغنياء فقط وورثة الفاتحين، لذلك لما قال له بلال عندما فتح الشام: لتقسمنها أو لنتضاربن عليها بالسيف. فقال عمر: لولا آخر المسلمين ما فتحت قريةً
(1)
أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة بلفظ (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)، وأخرجه أحمد (20389)، وابن ماجه (2316) بلفظ (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)، وإسناده صحيح.
(2)
شرح اللمع للشيرازي (856).
إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر
(1)
.
قال ابن حجر: قال ابن التين: تأول عمر قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، فرأى أنَّ للآخرين أسوة بالأولين، فخشي لو قسم ما يفتح أن تكمل الفتوح، فلا يبقى لمن يجيء بعد ذلك حظ في الخراج، فرأى أن توقف الأرض المفتوحة عنوة، ويضرب عليها خراجًا يدوم نفعه للمسلمين
(2)
.
وكإجماعهم على تعليل الولاية على الصغير كونه صغيرًا، فيقاس عليه الولاية عليه في النكاح
(3)
.
قال الشوكاني: المسلك الأول: الإجماع، وهو نوعان:
إجماع على علة معينة، كتعليل ولاية المال بالصغر، وإجماع على أصل التعليل -وإن اختلفوا في عين العلة- كإجماع السلف على أنَّ الربا في الأصناف الأربعة معلل، وإن اختلفوا في العلة ماذا هي؟
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2334) لكن قول بلال ليس عند البخاري، ولكن عند البيهقي في السنن الكبرى (6/ 318).
(2)
فتح الباري لابن حجر (5/ 22).
(3)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (7/ 3312).
(4)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 117).
ومثال إثبات العلة بالإجماع أيضًا: وجوب الضمان على السارق، وإن قطع؛ لأنه مال تلف تحت اليد العادية، فيضمن كما في الغصب، وهذا الوصف هو المؤثر في الغضب اتفاقًا.
ومما ينبغي التنبه له: أنه قد يقول قائل: إذا كانت العلة مجمعًا عليها قطعًا، فكيف يسوغ معها الاختلاف في المسائل المجتهد فيها؟
والجواب عليه: أنه لا يلزم من وقوع الإجماع على علية وصف ما على وجه القطع، ألا يقع خلاف في المسائل الفرعية له؛ لأنه يجوز أن يكون وجود تلك العلة في الأصل أو في الفرع ظنيًّا ومتنازعًا فيه، كما يجوز أن يكون في حصول شرط من شروطها نزاع بينهم، وقد يبدي الخصم معارضًا في الفرع
(1)
.
قال المرداوي: لعل منشأ الخلاف التنازع في وجود العلة في الأصل والفرع، أو حصول شرطها أو مانعها لا في كونها علة، قاله ابن العراقي وغيره
(2)
.
(1)
مباحث العلة في القياس عند الأصوليين لعبد الحكيم السعدي (344).
(2)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (7/ 3312).
•
المسلك الثاني: النص.
وهو أن يدل دليل من الكتاب أو السنة على العلة التي من أجلها وضع الحكم.
قال الآمدي: هو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال
(1)
.
ودلالة النص على العلة قد تكون صريحة بالعلية، وقد تكون ظاهرة بالعلية، وقد يختلف في بعضها كأن يُنَص على أنها صريحة في العلية، وينص على أنها ظاهرة فيها أيضًا، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -، وهذا باختلاف الاعتبارات.
أولًا: النص الصريح في العلية:
ومعناه: أن يرد في النص لفظ لا يحتمل غير العلة، أو يصرح فيه بكون الوصف علة أو سببًا للحكم الفلاني، وذلك كما لو قيل: العلة كذا، أو السبب كذا، أو لأجل كذا، أو ما يقوم مقامه، ويفيد معناه، فهو صريح في التعليل به
(2)
.
(1)
الإحكام للآمدي (3/ 252).
(2)
الإحكام للآمدي (3/ 252)، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل للغزالي (24).
كقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وكقوله صلى الله عليه وسلم في النهي عن لحوم الأضاحي:(إنما نهيتكم من أجل الدافة)
(1)
.
والدافة: القافلة السائرة، مشتقة من الدفيف، وهو السير اللين.
وكقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر»
(2)
، وكقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن يحزنه»
(3)
، فيقاس عليه منع التحدث بلغة لا يفهمها الثالث لاشتراك ذلك في العلة.
ومن ذلك أيضًا تعليل الحكم ب (كي) كقوله تعالى: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه: 40].
أو مقرونة، قال تعالى:{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23].
(1)
أخرجه مسلم (1971) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه البخاري (6241)، ومسلم (2156) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(3)
أخرجه البخاري (6290)، ومسلم (2184) من حديث عبد الله بن مسعود.
وإذًا، كقوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 74 - 75].
ومثاله: ذكر المفعول له، كقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
وكقوله صلى الله عليه وسلم: «من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»
(1)
، فالعلة من هذا الوعيد الخيلاء.
ومن الصريح لفظ (إنَّ) عند البعض مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما ألقى الروثة: (إنها ركس أو رجس)
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات)
(3)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها، إنكم إذا فعلتن
(1)
أخرجه البخاري (3665)، ومسلم (2085) من حديث عبد الله بن عمر.
(2)
أخرجه البخاري (156) بلفظ (هذا ركس)، وأخرجه الترمذي (17)، وأحمد (3685، 4056، 4299) بلفظ (إنها ركس)، والطيالسي (285) بلفظ (إنه رجس).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (75، 76)، الترمذي (92)، ابن ماجه (367) من حديث أبي قتادة مرفوعاً.
ذلك قطعتن أرحامكن»
(1)
.
فإن انضم إلى (إنَّ) حرف الفاء فهو آكد، نحو قوله صلى الله عليه وسلم:«اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا»
(2)
.
ثانيًا: النص الظاهر في العلية:
وهو الذي يحتمل غير العلية احتمالًا مرجوحًا وله ألفاظ:
1 -
اللام: كقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)} [الكهف: 12]، وكقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، وكقوله تعالى:{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] وهنا اللام ظاهرة.
وقد تكون مقدرة، كقوله تعالى:{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)} [القلم: 13 - 14] أي: لأن كان، وكقوله تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، أي: لئلا تضلوا.
(1)
أخرج الشطر الأول البخاري (5108، 5109، 5110)، ومسلم (1408)، والشطر الثاني أخرجه ابن حبان (4116).
(2)
أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (1206) من حديث عبد الله بن عباس.
2 -
الباء: كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، أي بسبب الرحمة، وقوله:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [التوبة: 82]، فالباء أصل معناها الإلصاق، ولها معان أخر، لكن كثر استعمالها للتعليل.
3 -
الفاء: فالفاء في كلام الشارع تكون في الحكم عند غير أبي خطاب، كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38]، وكذلك تكون الفاء في وصف، كخبر المحرم الذي وقصته الناقة:(لا تمسوه طيبًا، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيًا)
(1)
.
والفاء في كلام الراوي الفقيه؛ لأنه يكون دقيقًا في ألفاظه.
والفاء في كلام الراوي غير الفقيه، وتكون فيهما في الحكم فقط.
وقال بعض المحققين: في الوصف فقط؛ لأن الراوي يحكي ما في الوجود.
وذلك كقول عمران بن الحصين: سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (1267)، ومسلم (1206) من حديث عبد الله بن عباس.
(2)
أخرجه مسلم (574) من حديث عمران بلفظ (فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم).
وهنا دخلت الفاء على الوصف وهو السهو، وكل من القولين صحيح.
4 -
إِنَّ المكسورة المشددة - عند البعض -: كقوله تعالى: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح: 26 - 27]، وكقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)} [الحج: 1]، أي: لأن أمامكم أهوالًا عظيمة لا نجاة منها إلا بتقواه جل علاه.
5 -
إذ: نحو: ضربت العبد إذ أساء. أي: لإساءته.
وإنما كانت هذه الحروف من قبيل النص الظاهر، وليس من قبيل الصريح لمجيئها لغير التعليل، فاللام قد تكون لبيان العاقبة، كقوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].
والباء قد تكون للتعدية، كقوله تعالى:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، فهي هنا للتعدية وليست للتعليل، والمعنى: أذهب الله نورَهم.
والفاء قد تكون لمجرد العطف، كقوله تعالى:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)} [الواقعة: 35 - 36].
وإنَّ قد تكون لمجرد التأكيد، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}
[المنافقون: 1].
وإذ قد تكون للبدل، كقوله تعالى:{اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] فهو بدل عن النعمة
(1)
.
•
المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه.
الإيماء لغة: الإشارة بالأعضاء، كالرأس واليد والعين والحاجب
(2)
.
وفي حديث أنس، أنَّ يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك أفلان أو فلان. حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها، فجيء به، فلم يزل حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُضَّ رأسه بالحجارة
(3)
.
وقالت أسماء: صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فقلت لعائشة: ما شأن
(1)
انظر غاية الوصول شرح لب الأصول للشيخ زكريا الأنصاري (119 - 120) ط. الحلبي (1936 م، (1354)، الإحكام للآمدي (3/ 252 - 253)، شفاء الغليل (23، 24)، مباحث العلة عند الأصوليين لعبد الحكيم بن عبد الرحمن بن أسعد السعدي (347) وما بعدها، التحبير شرح التحرير (7/ 3315) وما بعدها، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 357) وما بعدها، أضواء البيان (5/ 11).
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (أومأ)(53) دار ابن الجوزي.
(3)
أخرجه البخاري (2413، 2746)، ومسلم (1672).
الناس؟ وهي تصلي، فأومأت برأسها إلى الشمس، فقلت آية؟ فأومأت برأسها: أن نعم
(1)
.
وقال أنس: أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم
(2)
.
واصطلاحًا: هو اقتران الوصف بحكم لو لم يكن هو، أو نظيره للتعليل لكان ذلك الاقتران بعيدًا عن فصاحة الشارع
(3)
.
وعرفه الشنقيطي بنحو هذا، فقال: أن يقرن الحكم بوصف على وجه لو لم يكن علةً لكان الكلام معيبًا عند العقلاء
(4)
.
والإيماء من الطرق النقلية لإثبات العلة، وهو ضرب من الإشارة، والفرق بينه وبين النص أنَّ النص يدل على العلة بوصفه لها، والإيماء يدل عليها بطريق الالتزام، كدلالة نقص الرطب على التفاضل، أو بطريق من طرق الاستدلال عقلًا.
(1)
أخرجه البخاري معلقا (7/ 51)، وأخرجه البخاري (86، 184)، ومسلم (905) بلفظ (فأشارت إلى السماء
…
فأشارت برأسها: أي نعم).
(2)
أخرجه البخاري (681)، ومسلم (419).
(3)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (7/ 3324).
(4)
مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (240).
*
أنواع الإيماء:
الأول: ذكر الحكم عقيب الوصف بالفاء: فيدل على أنَّ ذلك الوصف علة لذلك الحكم، فإنها للتعقيب ظاهرًا، ويلزم منه السببية، نحو قوله سبحانه وتعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وقوله عز وجل:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
وقوله عليه الصلاة والسلام: «من بدل دينه فاقتلوه»
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«من أحيا أرضًا ميتة فهي له»
(2)
.
و الفاء لها ثلاثة أحوال:
الأولى: قد تتقدم العلة، وتدخل الفاء على المعلول، وهو الحكم كما في الأمثلة السابقة، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:«من مسَّ ذكره فليتوضأ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (3017) من حديث عبد الله بن عباس.
(2)
معل بالإرسال: أخرجه أبو داود (3075)، والترمذي (1378) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد مرفوعاً، ورواه مالك في الموطأ (2/ 743)، ويحيى ابن آدم في الخراج (266) و 268)، وأبو عبيد في الأموال (704)، وصحح الإرسال أبو حاتم في العلل (1422) والدارقطني في العلل (5/ 25)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 283).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (181)، والترمذي (82)، والنسائي (1/ 100)، وابن ماجه (479)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
فهذه كلها أحكام ذكرت عقيب أوصاف كاعتزال النساء عقيب المحيض، وقطع يد السارق عقيب السرقة، وقتل المرتد عقيب التبديل، وملك الأرض بعد الإحياء، وذلك يفيد في عرف اللغة أنَّ الوصف الذي قبل الحكم علةٌ وسببٌ لثبوته؛ لأن السبب ما يثبت الحكم عقيبه.
الثانية: وقد يتقدم المعلول -أي: الحكم- ثم تدخل الفاء على العلة، كقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم:«لا تمسوه طيبًا، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيًا»
(1)
.
وقال الرازي والبرماوي: أنَّ تقدم العلة، ثم مجيء الحكم بالفاء أقوى من عكسه، لأن إشعار العلة بالمعلول أقوى من إشعارالمعلول بالعلة؛ لأن الطرد واجب في العلل دون العكس
(2)
.
ومن مجيء الحكم مقترنًا بالفاء بعد الوصف قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5] فالعلة أنه رجز.
ومن ذكر العلة بعد المعلول واقترانها بالفاء قوله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب
(1)
أخرجه البخاري (1267)، ومسلم (1206) من حديث عبد الله بن عباس.
(2)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (7/ 3325).
بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله»
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها، وأكلوا ثمنها»
(2)
، فدل على أنَّ سبب اللعنة أكلهم أثمان الشحوم
(3)
.
الثالثة من أحوال الفاء: أن تكون الفاء من كلام الراوي، ولا تكون إلا داخلة على الحكم والعلة ما قبلها، نحو قول عمران بن حصين:«سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد»
(4)
.
وترتيب الشارع حكمًا عقب وصف بالفاء.
قال المرداوي: الصحيح أنَّها من الإيماء، قاله الموفق، والطوفي، وابن مفلح، والآمدي، والبيضاوي، وغيرهم، وقال ابن الحاجب وغيره: من أقسام النص الصريح. وقال السبكي وغيره: من أقسام النص الظاهر.
(1)
أخرجه البخاري (2510)، ومسلم (1801) من حديث جابر بن عبد الله.
(2)
أخرجه البخاري (2224)، ومسلم (1583) من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري (3460)، ومسلم (1582) من حديث عمر بن الخطاب، وأخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581) من حديث جابر بن عبد الله.
(3)
شفاء الغليل للغزالي (28).
(4)
أخرجه مسلم (574) من حديث عمران بلفظ «فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم» .
قال البرماوي: ويقوي كلام ابن الحاجب إذا كان في الكلام صريح شرط أو معنى شرط، كالنكرة الموصوفة، والاسم الموصول، فإنه لا يمكن حمل الفاء فيهما على معنى الواو العاطفة؛ إذ العطف لا يحسن قبل تمام الجملة
(1)
.
النوع الثاني من الإيماء: ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء.
نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} [الطلاق: 2]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، أي: لتقواه وتوكله لتعقب الجزاء الشرط.
وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان»
(2)
.
ومثاله أيضًا: حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت
(1)
التحبير شرح التحرير (7/ 3328).
(2)
أخرجه البخاري (5480، 5481)، ومسلم (1574) من حديث عبد الله بن عمر.
يا رسول الله، قال:«وما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» ، قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» ، قال: لا. قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟» ، قال: لا
(1)
.
وهذا الحديث يغلب على الظن فيه أنَّ الإفطار بالجماع في نهار رمضان عامدًا علة لوجوب الكفارة، وتوجيه ذلك: لما كان الحكم الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابًا عن سؤال الأعرابي فإنه يتضمن أن يكون السؤال معادًا في الجواب تقديرًا، فكأنه قال له: إذا واقعت أهلك في نهار رمضان فكفِّر بكذا وكذا.
وهذا النوع قال فيه الغزالي: وهذا مرتبته دون المرتبة السابقة؛ إذ لا يفهم التعليل في هذا المقام إلا إذا عُرف أنه أجاب به عن سؤاله، وأنه لم يذكر ذلك ابتداءً بعد الإعراض عن كلامه، إذ الغلام المغصوب لإسراج الدابة قد يقول لسيده: دخل فلان، فيقول السيد: أسرج الدابة، أي: اشتغل بشغلك، فمالك وذكر ما لا فائدة لك في ذكره وليس هو من شغلك؟ وذلك يفهم بقرينة الحال، فبقرينة الحال يعلم أنَّ المذكور مسبَّب ما ذكره المبتدي.
(1)
أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة.
النوع الثالث من الإيماء: أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر فيجيب بحكم، فيدل على أنَّ المذكور في السؤال علة.
كما في قصة الأعرابي الذي واقع امرأته في نهار رمضان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أعتق رقبة»
(1)
، فدل على أنَّ الوقاع سبب؛ لأنه ذكره جوابًا له، والسؤال كالمعاد في الجواب، والمعنى: حيث واقعت فأعتق.
وإلا تأخر البيان عن وقت الحاجة، وهو ممتنع بالاتفاق.
النوع الرابع: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفًا، ولم يصرح بالتعليل به، ولكن لو لم يكن الحكم معللًا به، لما كان لذكره فائدة.
فيجب تقدير الكلام على وجه مفيد صيانةً لكلام النبي صلى الله عليه وسلم عن اللغو.
مثاله: حديث سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن شراء التمر بالرطب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أينقص الرطب إذا يبس؟» ، قالوا: نعم، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
(2)
، وفي رواية: «فلا
(1)
أخرجه البخاري (5368، 6087)، ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه أحمد في المسند (1/ 179)، 175)، وأبو داود (3359)، والترمذي (1225)، والنسائي (4546)، من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال الترمذي: حسن صحيح.
إذن»
(1)
.
فلو لم يُقدِّر التعليل به كان الاستكشاف عن نقصان الرطب غير مفيد لظهوره.
قال الشوكاني: الاستفهام ههنا ليس المراد به حقيقته، أعني طلب الفهم؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان عالمًا بأنه ينقص إذا يبس، بل المراد تنبيه السامع بأنَّ هذا الوصف الذي وقع عنه الاستفهام هو علة النهي، ومن المشعرات بذلك الفاء في قوله:«فنهى عن ذلك»
(2)
.
مثال آخر: أن يعدل في الجواب إلى نظير محل السؤال، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ امرأةً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر. فقال: «أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟» قالت: نعم. قال: «فدين الله أحق بالقضاء»
(3)
.
عن ابن عباس قال: أمرَت امرأةُ سنان بن سلمة الجهني أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أمها ماتت، ولم تحج، أفيجزي عن أمها أن تحج عنها؟ قال: «نعم، لو كان عن أمها دين فقضته عنها، ألم يكن يجزئ
(1)
انظر ما قبله.
(2)
نيل الأوطار للشوكاني (10/ 174) دار ابن الجوزي.
(3)
أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148)، واللفظ له.
عنها؟ فلتحج عن أمها»
(1)
.
و في رواية البخاري: إنَّ أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال:«نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء»
(2)
.
فهنا توجه السؤال عن حكم حادثة معينة فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكم حادثة أخرى مشابهة لها، منبهًا على وجه الشبه بذكر وصف مشترك بينهما، مما يفيد أنَّ ذلك الوصف علةٌ لذلك الحكم، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم نظير دَين الله، وهو دَيْن الآدمي، ونبه على التعليل به لكونه علة الانتفاع، ولو لم يكن قد ساقه لهذا الغرض لكان عبثًا، ففهم نظيره في المسؤول عنه، وهو دين الله كذلك علة لمثل ذلك الحكم، وهو النفع.
ومثاله أيضًا حديث قبلة الصائم: (أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته، أكنت شاربه؟) فقال عمر: لا. فقال عليه الصلاة والسلام: «ففيم»
(3)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه النسائي (2633)، وأحمد (2518) وغيرهما من حديث ابن عباس مرفوعاً، وأصله في البخاري كما سيأتي في الهامش القادم.
(2)
أخرجه البخاري (1852، 7315).
(3)
سنده صحيح، واستنكره النسائي: أخرجه أحمد (138)، وأبو داود (2385) وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله، وقال النسائي في الكبرى (3036) عقبه (وهذا حديث منكر، وبكير مأمون، وعبد الملك بن سعيد رواه عنه غير واحد، ولا ندري ممن هذا).
فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على المشترك بين القبلة والمضمضة، وعدم حصول المقصود منها، وهو ما يوجب الإفطار.
فالقبلة مقدمة قضاء شهوة الفرج، وليس فيها قضاء شهوة الفرج، كما أن المضمضة مقدمة قضاء شهوة المعدة، وليس فيها قضاء شهوة المعدة، فعدم قضاء الشهوة سبب عدم الإفطار، فانتفى الحكم بانتفاء سببه.
ففهم على الجملة تأثير الوجه الجامع بين محل السؤال، والنظير المذكور في الحكم الواقع على الاشتراك
(1)
.
الثالث: أن يذكر وصفًا في محل الحكم لا حاجة إلى ذكره، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
(2)
، فعلة اللعن اتخاذ القبور مساجد، ولو لم يكن كذلك لم يكن لذكره معنى في هذا المقام.
النوع الخامس: أن بفرق بين شيئين في الحكم بذكر صفة فاصلة، فهو تنبيه على أنَّ الوصف الفاصل هو الموجب للحكم الذي عُرف به
(1)
شفاء الغليل للغزالي (44).
(2)
أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529) من حديث عائشة.
المفارقة.
والتفريق بين الحكمين يكون بأمور:
1 -
الصفة: سواء ذكر القسمين، نحو قوله صلى الله عليه وسلم:«للفارس سهمان وللراجل سهم»
(1)
.
أو ذكر أحدهما نحو: «القاتل لا يرث»
(2)
.
فمقتضاه أنَّ العلة في نفي الإرث القتل، ولولاه لم يكن لإضافة الحكم إليه وتعريف محل الحرمان به معنى
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (9320)، والبيهقي في الكبرى (12997) من طريق عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف، عن نافع، عن ابن عمر، وخالفه أخوه عبيد الله بن عمر العمري وهو ثقة ثبت فقال:(أسهم للرَّجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهمًا للفارس، وسهمين لفرسه). قال الشافعي في القديم: كأنه -يعني عبد الله- سمع نافعًا يقول: (للفرس سهمين وللرجل سهمًا، فقال: للفارس سهمين وللراجل سهمًا)، وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ. وعلى كلٍّ فالحكم أن للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهمًا. فصح التمثيل بهذا الحكم وأن الصفة هنا مؤثرة. ينظر مسلم (1762).
(2)
ضعيف: أخرجه أحمد (346)، أبو داود (4564)، الترمذي (2109)، ابن ماجه (2645) من حديث أبي هريرة مرفوعاً، ومداره على إسحاق بن أبي فروة وهو متروك الحديث، وله شاهد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لكنه معل بالإرسال كما بين الدارقطني رحمه الله في العلل (146).
(3)
شفاء الغليل للغزالي (47).
2 -
الشرط: كقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)
(1)
، فتفريقه بين منع بيع هذه الأشياء متفاضلًا، وجوازه بشرط اختلاف الجنس مُشعِرٌ بأنَّ اختلاف الجنس علةُ التفرقة بين الحكمين.
3 -
الغاية: كقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فهذا كله تنبيه على أنَّ ما جعل غاية للحكم مؤثر، وسبب في ارتباطه.
وكحديث ابن عباس، قال: أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض. قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله
(2)
.
4 -
الاستثناء: كقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، فتفريقه بين ثبوت النصف للزوجات، وبين انتفائه إذا عفون عنه، مشعر بأنَّ العفو علة الانتفاء.
5 -
الاستدراك: كقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، فهو دال على أنَّ العقد
(1)
أخرجه مسلم (1587) من حديث عبادة بن الصامت.
(2)
أخرجه البخاري (2135)، ومسلم (1525).
هو علة المؤاخذة.
وكقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، فدلَّ على أنَّ تعمد المخالفة هو علة المؤاخذة.
النوع السادس: أن يذكر في سياق الكلام شيئًا لو لم يعلل به صار الكلام غير منتظم.
كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، والآية سيقت لبيان أحكام الجمعة، وليس لبيان أحكام البيع، فذكر النهي عن البيع في هذا المقام مشعر بكونه مانعًا من السعي إلى الجمعة، فلو لم يعلل النهي عن البيع في هذا المقام بكونه مانعًا من السعي للجمعة لكان ذكره لاغيًا، ولو قدرنا النهي عن البيع مطلقًا من غير رابطة الجمعة يكون خبطًا في الكلام.
وكذا قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان»
(1)
، تنبه على التعليل بالغضب؛ إذ النهي عن القضاء مطلقًا من
(1)
أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة بلفظ (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)، وأخرجه أحمد (20389) وابن ماجه (2316) بلفظ (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)، وإسناده صحيح.
غير هذه الرابطة لا يكون منتظمًا
(1)
.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
قال الشنقيطي رحمه الله: وبما ذكرنا تعلم أنَّ في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أنَّ وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصًّا بهن؛ لأن عموم علَّته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلَّة الذي دلَّ على أنَّ قوله تعالى:{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] هو علَّة قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته، هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن في ذلك الوصف علَّة لذلك الحكم لكان الكلام معيبًا عند العارفين، وعرف صاحب (مراقي السعود)، دلالة الإيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء، والإشارة، والإيماء والتنبيه، بقوله:
دلالة الإيماء والتنبيه
…
في الفن تقصد لدى ذويه
(1)
روضة الناظر لابن قدامة (306) ط. دار الزاحم، التحبير شرح التحرير للمرداوي (7/ 3345).
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن
…
لغير علّة يعبه من فطن
وعرّف أيضًا الإيماء والتنبيه في مسالك العلَّة، بقوله:
والثالث الإيما اقتران الوصف
…
بالحكم ملفوظين دون خلف
وذلك الوصف أو النظير
…
قرانه لغيرها يضير
فقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، لو لم يكن علّة لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، لكان الكلام معيبًا غير منتظم عند الفطن العارف
(1)
.
النوع السابع: اقتران الحكم بوصف مناسب دلَّ على أنَّ ذلك الوصف علةٌ لذلك الحكم.
كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الإنفطار: 13 - 14]، وقوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)} [الحجر: 45]، وقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
فالجلد للزنا، والجنات والعيون للتقوى، والنعيم للبر، والجحيم للفجور، ونحو ذلك. لأن المعلوم من تصرفات العقلاء ترتيب الأحكام
(1)
أضواء البيان سورة الأحزاب آية: (53)(6/ 357) ط. دار الحديث.
على الأمور المناسبة، والشرع لا يخرج عن تصرفات العقلاء، ولأنه قد ألف من الشارع اعتبار المناسبات دون إلغائها، فإذا قَرَنَ بالحكم في لفظه وصفًا مناسبًا غلب على الظن اعتباره
(1)
.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان»
(2)
.
فدلَّ على أنَّ علة المنع من الطواف كونه عريانًا، وهو دليل على اشتراط ستر العورة للطواف
(3)
.
•
المسلك الرابع: السبر والتقسيم.
ويسمى هذا المسلك بالسبر فقط، وبالتقسيم فقط، وبهما وهو الأكثر.
وهو مركب من أصلين: السبر، والتقسيم.
السبر لغة: امتحان غور الجرح وغيره، ومنه الميل الذي يختبر به الجرح، فإنه يقال له المسبار، وتقول العرب: هذه القضية يسبر بها غور
(1)
التحبير شرح التحرير (7/ 3346).
(2)
أخرجه البخاري (369)، ومسلم (1347) من حديث أبي بكر الصديق.
(3)
أضواء البيان (4/ 401) ط. دار الفكر.
العقل أي يُختبر
(1)
.
وسمي به؛ لأن المناظر يقسم الصفات، ويختبر كل واحدة منها في أنه هل تصلح للعلية أم لا؟
(2)
.
والسبر اصطلاحًا: اختبار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل، وإبقاء ما هو صحيح منها
(3)
.
وقال الصنعاني: التقسيم: هو الحصر لكل وصف يصلح في بادئ الرأي للعلية.
ثم يأتي السبر، أي: اختبار تلك الأوصاف فيبطل ما لا يصلح للعلية ويستبقي ما يصلح لها
(4)
.
أمثلة توضح التعريف:
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)} [مريم: 77 - 79].
(1)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (309).
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 622).
(3)
أضواء البيان للشنقيطي (4/ 257، 258) ط. دار الحديث.
(4)
إجابة السائل شرح بغية الآمل للصنعاني (194).
أولًا: التقسيم: حصر أوصاف المحل في ثلاثة، وهي: أنَّ قول العاص بن وائل السهمي أنه يؤتى يوم القيامة مالًا وولدًا لا يخلو مستنده فيه من واحد من ثلاثة أشياء:
الأول: أن يكون اطلع الغيب، وعلم أنَّ الله كتب له في اللوح المحفوظ مالًا وولدًا يوم القيامة.
الثاني: أن يكون الله تعال أعطاه عهدًا بذلك، فإنه إن أعطاه عهدًا لن يخلفه.
الثالث: أن يكون قال ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب.
ثانيًا: السبر: وهو اختبار تلك الأوصاف، وإبطال ما هو باطل وإبقاء ما هو صحيح. فنقول: قد ذكر الله تعالى القسمين الأولين في قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} [مريم: 78] مبطلًا لهما بأداة الإنكار (كلا)، ولا شك أنَّ كلا هذين القسمين باطل؛ لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدًا، فتعين القسم الثالث، وهو أنه قال ذلك افتراءً على الله، وقد أشار الله تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله (كلا)، أي: لأنه يلزمه، ليس الأمر كذلك، لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهدًا، بل قال ذلك افتراء على الله؛ لأنه لو كان أحدهما حاصلًا لم
يستوجب الردع عن مقالته كما ترى.
ومن أمثلته: قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} [البقرة: 80].
بالتقسيم الثلاثي كالمثال السابق، وما حذف منها هنا دل عليه المقام هناك، والعكس كذلك.
والحصر والإبطال إما أن يكونا قطعيين فيكون الدليل قطعيًّا، وإما أن يكونا ظنيين فيكون الدليل ظنيًّا.
الأول: ما يكون فيه الحصر والإبطال قطعيًّا، ودلالته قطعية بلا خلاف، ولكنه قيل في الشرعيات.
مثاله قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} [الطور: 35 - 36].
لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيه؛ لأنهم إما أن يُخلَقوا من غير شيء، أو يخلقوا أنفسهم، أو يخلقهم خالق غير أنفسهم، ولا رابع البته، وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيه، فيتعين أنَّ الثالث حق لا شك فيه، وقد حذف في الآية لظهوره.
فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها.
ومثال ما يكون الحصر والإبطال ظنيين أو يكون أحدهما ظنيًّا، وهو الأغلب فلا يفيد إلا الظن، ويعمل به فيما لا يتعبد فيه بالقطع من العقائد ونحوها.
مثال: الوصف المؤثر في علة تحريم الربا في الأصناف الأربعة (البر والشعير والتمر والملح)، لذلك فإنَّ العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل.
وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه، والنورة ونحوها، بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح، فيقول بعضهم: هذا وصف لا يصح إبطاله. ويقول الآخر: هو ليس بصالح فيلزم إبطاله
(1)
.
ضابط هذا المسلك أمور ثلاثة:
الأول: الإجماع على كون حكم الأصل معللًا في الجملة لا تعبديًّا، وهذا شرط في أصل القياس.
الثاني: كون التقسيم حاصرًا لجميع ما يعلل به، وذلك إما بموافقة الخصم، أو عدم إبدائه وصفًا زائدًا سواء بالعجز عن ذلك، أو ادعاه، وامتنع عن ذكره.
الثالث: إبطال ما ليس صالحًا للعلة.
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (4/ 260 - 261).
*
طرق حصر أوصاف المحل:
1 -
أن يكون الحصر عقليًّا، كما في قوله تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35].
ومثال محاورة المبتدع في بدعته بقولنا: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالمًا بهذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أو غير عالم به.
فأوصاف المحل محصورة في الأمرين المذكورين، إذ لا ثالث البته؛ لأنه لا واسطة بين الشيء ونقيضه.
2 -
أن يدل على الحصر المذكور إجماع، ومثَّل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به، فإنَّ علة الإجبار إما الجهل بالمصالح، وإما البكارة.
*
طرق إبطال الأوصاف الغير صالحة للتعليل أو طرق السبر.
1 -
بيان أنَّ الوصف طردي محض، إما بالنسبة إلى جميع الأحكام كالطول والقصر، والبياض والسواد.
أو بالنسبة إلى خصوص الحكم المتنازع في ثبوته ونفيه (وهو ما يُعبَّر عنه بالوصف المُلغَى كما سيأتي إن شاء الله)، كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى باب العتق، فإنه لا فرق في أحكام العتق بين الذكر والأنثى؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إليه وصفان طرديان، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من
أعتق شركًا له في عبدٍ، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)
(1)
. فلفظ العبد هنا وصف طردي فمن أعتق شركًا له في أمة فكذلك.
وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالإرث، والشهادة، والقضاء، وولاية النكاح فإن الذكر في ذلك ليس كالأنثى.
ويعرف الوصف بكونه طرديًّا -أي لا مدخل له في التعليل أصلًا- باستقراء موارد الشرع ومصادره، إما مطلقًا، وإما في بعض الأبواب دون بعضها
(2)
.
2 -
ألا تظهر للوصف مناسبة.
والمناسبة في اصطلاح أهل الأصول: كون إناطة الحكم بالوصف تترتب عليها مصلحة، فعدم المناسبة المذكورة من طرق إبطاله في مسلك السبر
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (2491، 2522)، ومسلم (1501)، من حديث عبد الله بن عمر.
(2)
أضواء البيان للشنقيطي (4/ 263).
(3)
أضواء البيان للشنقيطي (3/ 498).
3 -
كون الوصف ملغى، وإن كان مناسبًا للحكم المتنازع فيه، ويكون الإلغاء باستقلال الوصف المُستَبقَى بالحكم دونه في صورة مجمع عليها.
وعبر عنه الآمدي بقوله: أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع إلغاءه في جنس ذلك الحكم المعلل، فيجب إلغاؤه وإن كان مناسبًا، كقوله صلى الله عليه وسلم:«من أعتق شركًا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم عليه العبد فأعطى شركاءه حصصهم»
(1)
.
فإنه وإن أمكن تقرير مناسبة بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنَّا لما عهدنا من الشارع التسوية بين الذكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذكورة في السراية، بخلاف ما عداه من الأحكام
(2)
.
4 -
وجود الحكم بدون الوصف الذي يبطله المستدل بالسبر، فيظهر أنه غير العلة لوجود الحكم بدونه، أي: بيان بقاء الحكم بحذفه.
مثال: قول الشافعي رحمه الله: المعلل تحريم الربا في البر بالطعم أنَّ وصف الكيل والاقتيات، والادخار لغو بدليل وجود الحكم الذي
(1)
أخرجه البخاري (2491، 2522)، ومسلم (1501) بنحوه، من حديث عبد الله ابن عمر.
(2)
الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3/ 268).
هو منع الربا في ملء الكف من البر، مع أنه لا يكال، وليس فيه قوت لقلته، فيتعين وصف الطعم
(1)
.
والقاعدة المقَرَّرة في الأصول: أنَّ المثال لا يعترض؛ لأن المراد منه بيان القاعدة، كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
والشأن لا يعترض المثال
…
إذ قد كفى الغرض والاحتمال
(2)
تتمة: قال القرافي: الأصل أن نقول: التقسيم والسبر؛ لأنَّا نقسِّم أولًا، ثم نقول في معرض الاختبار لتلك الأوصاف الحاصلة في التقسيم: هذا لا يصلح، وهذا لا يصلح، فيتعيَّن هذا. فالاختبار واقع بعد التقسيم، لكن التقسيم لما كان وسيلة للاختبار، والاختبار هو المقصد، وقاعدة العرب تقديم الأهم والأفضل، قُدِّم السبر؛ لأنه المقصد الأهم، وأخَّر التقسيم؛ لأنه وسيلة أخْفضُ رتبةً من المقصد، وهذه الطريقة مفيدة للعلة؛ لأن الحكم مهما أمكن أن يكون معللًا لا يُجْعل تعبُّدًا، وإذا أمكن إضافته للمناسب، فلا يضاف لغير المناسب، ولم نجد مناسبًا إلا ما بقي بعد السَّبْر، فوجب كونه علة بهذه القاعدة
(3)
.
(1)
مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (308).
(2)
أضواء البيان للشنقيطي (4/ 263).
(3)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (309).
*
المسلك الخامس: الدوران.
وهو في اللغة: مصدر دار يدور دَوْرًا، إذا تحرك حركة دورية، وهي التي تنتهي إلى مبدئها، كحركة الفلك والدولاب والرحا، ونحوها.
واصطلاحًا: وجود الحكم بوجود الوصف -المدعى علة- وعدمه بعدمه
(1)
.
ويسمى هذا المسلك: بالدوران الوجودي والعدمي، وبالدوران فقط، وبالطرد والعكس
(2)
.
والطرد في الاصطلاح: الملازمة في الانتفاء
(3)
.
قال القرافي: وفيه خلافٌ، والأكثرون من أصحابنا، وغيرهم يقولون بكونه حجة.
مثاله: التحريم مع السكر في العصير، فإنه لما لم يكن مسكرًا لم يكن حرامًا فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة، ثم لما زال السكر بصيرورته خلًّا بالاستحالة، زال التحريم، فدل على أنَّ العلة السكر، فالأول اقتران وجود الحكم بوجود الوصف، والثاني اقتران العدم
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 412).
(2)
نهاية الوصول في دراية الأصول للأرموي (8/ 3351).
(3)
مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (247).
بالعدم
(1)
.
قال الشوكاني: ذهب الجمهور إلى أنه يفيد ظن العلية، بشرط عدم المزاحم؛ لأن العلة الشرعية لا توجب الحكم بذاتها، وإنما هي علامة منصوبة، فإذا دار الوصف مع الحكم غلب على الظن كونه معرفًا.
قال الصفي الهندي: هو المختار.
قال إمام الحرمين: ذهب كل من يعزى إلى الجدل إلى أنه أقوى ما تثبت به العلل، وذكر القاضي أبو الطيب الطبري أنَّ هذا المسلك من أقوى المسالك.
وذهب بعض أهل الأصول إلى أنه لا يفيد بمجرده، لا قطعًا ولا ظنًّا، واختاره الأستاذ أبو منصور، وابن السمعاني، والغزالي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب
(2)
.
قلت: نسب الشوكاني عدم القول بالدوران لأبي إسحاق الشيرازي، والذي في اللمع أنه عده من الأدلة على صحة العلة، وهو من دلالة
(1)
شرح تنقيح الفصول (308)، وشرح مختصر الروضة (3/ 413)، وإرشاد الفحول (2/ 640).
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 640)، وانظر قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 953)، والمستصفى للغزالي (2/ 972)، والإحكام للآمدي (3/ 299).
الاستنباط، وسمى الدوران التأثير، قال: ويعرف من وجهين:
أحدهما: السلب والوجود، وهو أن يوجد الحكم بوجوده، ويزول بزواله.
وذلك مثل قولنا في الخمر: إنه شراب فيه شدة مُطْربة، فإنه قبل حدوث الشدة كان حلالًا، ثم حدثت الشدة، فحرم، ثم زالت الشدة فحل، فعلم أنه هو العلة.
والثاني: بالتقسيم: وهو أن يبطل كل معنى في الأصل إلا واحدًا؛ فيعلم أنه هو العلة، وذلك مثل أن يقول في الخبز إنه يحرم فيه الربا فلا يخلو إما أن يكون للكيل أو للطعم أو للوزن، ثم يبطل أن يكون للكيل والوزن فيعلم أنه للطعم
(1)
.
*
حجة أنَّ الدوران دليل العلية:
قال القرافي: إن اقتران الوجود بالوجود، والعدم بالعدم يغلب على الظن أنَّ المَدَار علة الدَائِر، بل قد يحصل القطع بذلك؛ لأن من ناديناه باسم، فغضب، ثم سَكَتْنا عنه، فزال غضبه، ثم ناديناه به، فغضب كذلك مرارًا كثيرة، حصل لنا الظن الغالب بأن علة غضبه إنما هو ذلك الاسم الذي ناديناه به، ولذلك جزم الأطباء بالأدوية المُسْهِلة، والقابضة،
(1)
اللمع للشيرازي (274).
وجميع ما يعطونه من المبرِّدات، وغيرها بسبب وجود تلك الآثار عند وجود تلك العقاقير وعدمها عند عدمها.
فالدوران أصل كبير في أمور الدنيا والآخرة، فإذا وُجِد بين الوصف والحكم جَزَمْنا بعليَّة الوصف للحكم
(1)
.
وقال الطوفي: وأما دليل الشرع، فلأن النبي عليه السلام بعث ابن اللتبية عاملًا، فلما عاد من عمله، جاء بمال، فجعل يقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما بال الرجل نبعثه في عمل المسلمين فيجيء، فيقول: هذا لكم، وهذا لي، ألا جلس في بيت أمه، فينظر هل يهدى له»
(2)
.
وهذا عين الاستدلال بالدوران، أي: إنا إذا استعملناك، أهدي لك، وإذا لم نستعملك لم يهد لك، فعلة الهدية لك استعمالنا إياك؛ فثبت بهذا أنه يوجب ظن العلية، وأما أنه إذا وجب ظن العلية، وجب اتباعه؛ فلأن الظن متبع في العمليات بما عرف في الدليل على إثبات القياس من أنه يتضمن دفع ضرر مظنون
(3)
.
(1)
شرح تنقيح الفصول (308) ط. دار الفكر.
(2)
أخرجه البخاري (2597، 6636)، ومسلم (1832)، من حديث أبي حميد الساعدي.
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 414).
ومن أمثلة ذلك أيضًا: قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، هكذا مثل به الطوفي.
حجة المنع: قال الغزالي في مسلك الدوران: الطرد والعكس، وقد قال قوم: الوصف إذا ثبت الحكم معه وزال مع زواله يدل على أنه علة، وهو فاسد؛ لأن الرائحة المخصوصة مقرونة بالشدة في الخمر ويزول التحريم عند زوالها، ويتجدد عند تجددها، وليس بعلة بل هو مقترن بالعلة؛ وهذا لأن الوجود عند الوجود طرد محض، فزيادة العكس لا تؤثر؛ لأن العكس ليس بشرط في العلل الشرعية، فلا أثر لوجوده وعدمه، ولأن زواله عند زواله يحتمل أن يكون لملازمته للعلة، كالرائحة أو لكونه جزءًا من أجزاء العلة أو شرطًا من شروطها، والحكم ينتفي بانتفاء بعض شروط العلة، وبعض أجزائها فإذا تعارضت الاحتمالات فلا معنى للتحكم.
وعلى الجملة: فنسلِّم أنَّ ما ثبت الحكم بثبوته فهو علة، فكيف إذا انضم إليه أنه زال بزواله.
أما ما ثبت مع ثبوته، وزال مع زواله فلا يلزم كونه علةً كالرائحة المخصوصة مع الشدة، أما إذا انضم إليه سبر وتقسيم كان ذلك حجة،
كما لو قال: هذا الحكم لا بد له من علة؛ لأنه حدث بحدوث حادث، ولا حادث يمكن أن يعلل به إلا كذا وكذا، وقد بطل الكل إلا هذا، فهو العلة
(1)
.
والجواب عن ذلك:
أنَّ الصورة التي ذكرها الغزالي رحمه الله خارج محل النزاع، فإنَّ الوصف إذا كان طرديًّا غير مؤثر في الحكم فلا اعتبار له بالاتفاق، وإنما الوصف في مسلك الدوران هو الوصف المؤثر ويعتبر حيث لم يقم دليل على إلغائه.
فالشدة والرائحة هي علامة على العلة التي هي الإسكار، وليست هي العلة، ألا ترى الآن أنَّ المخدرات تؤخذ في شكل أقراص، وحقن، وتسبب الإسكار، وليس فيها شدة الخمر، ولا رائحة الخمر مع ذلك فهي محرمة لاشتمالها على العلة، وهي الإسكار.
*
المسلك السادس: المناسبة.
ويسمى استخراجها: تخريج المناط، وهي عمدة كتاب القياس، ومحل غموضه ووضوحه
(2)
.
(1)
المستصفى للغزالي (2/ 972، 973).
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 625)، الغيث الهامع شرح جمع الجوامع للعراقي (1/ 571) ط. دار الكتب العلمية.
والمناسبة في اللغة: الاتصال، والارتباط، والملاءمة، والمشاكلة.
وقد اختلف في تعريف المناسب، واستقصاء القول فيه من المهمات؛ لأن عليه مدار الشريعة، بل مدار الوجود، إذ لا موجود إلا وهو على وفق المناسبة العقلية، لكن أنواع المناسبة تتفاوت في العموم والخصوص، والخفاء والظهور، فما خفيت عنا مناسبته، سمي تعبدًا، وما ظهرت مناسبته سمي معللًا، فقولنا: المناسب ما تتوقع المصلحة عَقِيبَهُ، أي: ما إذا وجد أو سمع، أدرك العقل السليم كون ذلك الوصف سببًا مفضيًا إلى مصلحة من المصالح لرابط من الروابط العقلية بين تلك المصلحة، وذلك الوصف، وهو معنى قولي: لرابط ما عقلي.
ومثاله: أنه إذا قيل: المسكر حرام، أدرك العقل أنَّ تحريم المسكر مفضٍ إلى مصلحة، وهي حفظ العقول من الاضطراب
(1)
.
وقال الآمدي: المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا للشارع من تحصيل مصلحة، أو تكميلها، أو دفع مفسدة، أو تقليلها
(2)
.
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 283).
(2)
الإحكام للآمدي (3/ 270)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 384).
والمناسبة في اصطلاح الأصوليين تطلق بإطلاقين:
الإطلاق العام: وهو شامل للعلة الثابتة بالنص، والإجماع، والثابتة بالاستنباط.
الإطلاق الخاص: ولا يتناول إلا العلة المستنبطة عن طريق تخريج المناط.
وقال السمعاني: ونعنى بالتأثير إشعاره في القلوب، وقبولها لذلك الحكم بتلك العلة، ووجود شاهد الأصل على ذلك.
كتعليل الشافعية الربا في الأصناف الأربعة بالطعم بأنه المشعر بثبوت حكم الأصل والمؤثر فيه، وأنَّ وصف الكيل غير مؤثر.
ومثل: مسألة البيع الفاسد، فإنَّ الفساد مشعر بانتفاء الحكم.
وفي النكاح بغير ولي: الأنوثة مشعرة بانتفاء الولاية للمرأة في الأنكحة، والبكارة مشعرة بثبوت الإجبار
(1)
.
قال القرافي: المناسبة: ما تضمن تحصيل مصلحة، أو درء مفسدة.
فالأول: - يعني تحصيل المصلحة- كالغنى، هو علة وجوب الزكاة لتضمنه مصلحة الفقراء، ورب المال.
(1)
قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 983 - 984).
والثاني: يعني درء المفسدة كالإسكار علة لتحريم الخمر
(1)
.
*
المسلك السابع: الشَّبَه.
وهو لغة: بفتح الشين والباء الموحدة: أصل معناه الشبه، يقال: هذا شبه هذا، وشِبْهُه بكسر الشين وسكون الباء، وشبيهه، كما تقول: مَثَلَهُ، ومِثْلُهُ، ومَثِيلُهُ.
والشَّبَهُ، والشِّبْهُ، والشَّبِيهُ: المِثْلُ، والجمع: أشباه، وأَشْبَه الشيءُ الشيءَ ماثَلَهُ، وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم.
وهو بهذا المعنى يطلق على كل قياس؛ لأن الفرع لا بد أن يشبه الأصل، لكن غلب إطلاقه في الاصطلاح الأصولي على هذا النوع من مسالك العلة
(2)
.
أما تعريفه اصطلاحًا فقد اختلف الأصوليون في تعريفه:
الأول: قال القاضي أبو يعلى، والقاضي يعقوب، وابن عقيل، وغيرهم: هو تردد الفرع بين أصلين فيه مناط كل منهما، إلا أنه يشبه
(1)
قواطع الأدلة للسمعاني (2/ 162).
(2)
التحبير شرح التحرير (7/ 3419)، لسان العرب (4/ 2189) مادة شبه، دار المعارف.
أحدهما في أوصاف أكثر، فإلحاقه به هو الشبه
(1)
.
الثاني: هو منزلة بين المناسب والطردي، يعني أنه وصف يشبه المناسب في إشعاره بالحكم، لكن لا يساويه، بل دونه، ويشبه الطردي في كونه لا يقتضي الحكم مناسبة بينهما، فهو بين المناسب، والطردي
(2)
.
وعرفه الحنفية والمالكية بقريب من هذا، فقالوا: هو عبارة عن الوصف الذي تكون مناسبته للحكم ليست بالنظر إلى ذات ذلك الوصف، بل مناسبته له بشبهه للوصف المناسب بذاته شبهًا يقتضي الظن بعليته للحكم.
ولهذا لم يعده الحنفية مسلكًا من مسالك العلة؛ لأنه على هذا التصور محتاج في إثبات عليته إلى مسلك آخر لإثباتها من نص، أو إجماع، أو سبر، أو ما إلى ذلك.
ومثلوا للشبه بقول القائل في إلحاق إزالة الخبث بإزالة الحدث في تعيين الماء لذلك: أنَّ إزالة الخبث يعد طهارة تراد للصلاة، فلا يجزئ
(1)
الإحكام للآمدي (3/ 257)، روضة الناظر (320)، التحبير شرح التحرير (7/ 3420).
(2)
المستصفى (2/ 957)، التحبير شرح التحرير (7/ 3422)، حاشية العطار على جمع الجوامع (2/ 332) ط. الكتب العلمية.
فيه غير الماء شأنها في ذلك شأن الوضوء، فإنه طهارة يراد للصلاة، فلا يجزئ فيه غير الماء، فالشبه قائم بين الخبث والحدث في كون كل منهما طهارة تراد للصلاة، والمناسبة بين الخبث، وبين تعيين الماء ليست بذاته، بل بشبهه، وهو الوضوء الذي وجدنا الشارع اعتبر فيه خصوصية الماء في الصلاة، ومس المصحف، والطواف
(1)
.
وقد يمثل له بالرقم (سبعة) فمن حيث هو رقم من الأرقام، فهو وصف طردي لا علاقة له بالحكم، ولا تظهر مناسبته للأحكام، لكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام كالطواف، والسعي، والرمي، والأذكار في الرقى، كقوله عليه الصلاة والسلام:«من أكل سبع تمرات مما بين لَابَتَيْهَا حين يصبح، لم يضره سم حتى يمسي»
(2)
.
(3)
.
(1)
مباحث العلة في القياس عند الأصوليين لعبد الحكيم السعدي (459) نقلًا عن تيسير التحرير (4/ 53)، فواتح الرحموت لابن نظام الدين الأنصاري (2/ 30)، نشر البنود لعبد الله الشنقيطي (2/ 193 - 194).
(2)
أخرجه البخاري (5445)، ومسلم (2047) واللفظ له، من حديث سعد بن أبي وقاص.
(3)
إسناده حسن: بلفظ «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد المريض جلس عند رأسه، ثم قال سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم» أخرجه أبو داود (3106) الترمذي (2083) وغيرهما، وينظر علل ابن أبي حاتم (2107).
وكقوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ»
(1)
.
إلا أن يقال أنَّ هذا مما لا يعقل معناه، فلا يدخل في باب القياس، إنما أردت ذكره هنا لكثرة وروده، والتفات الشرع إليه، والله أعلم.
حجية الشبه:
اختلفوا في كونه حجة أم لا على مذاهب:
الأول: أنه حجة، وإليه ذهب الأكثرون من الأصوليين من الشافعية، والرواية الصحيحة عن الإمام أحمد، وأكثر الفقهاء، وسماه الشافعي (قياس غلبة الأشباه).
واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث أبي هريرة أنَّ رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود، فقال:«هل لك من إبل؟» قال: نعم. قال: «ما ألوانها؟» قال: حُمْرٌ. قال: «هل فيها من أَوْرَق؟» قال: نعم. قال: «فأنَّى ذلك؟» قال: لعله نزعه عرق. قال: «فلعل ابنك هذا نزعه عرق»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (198) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه البخاري (5305)، ومسلم (1500).
فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه بين الإبل والإنسان في نزعه عرق.
قال الخطابي: هو أصل في قياس الشبه
(1)
.
2 -
أنَّ قياس الشبه يفيد ظنًّا - ولو ضعيفًا-، فإذا لم يوجد ما يعارضه، ولم يوجد من المسالك ما هو أولى منه لجأنا إليه؛ لأن الظن معمول به في الأحكام الشرعية.
واختلف القائلون به في محل الشبه:
فمنهم من اعتبر المشابهة في الحكم: كالشافعية والحنابلة، ولهذا ألحقوا العبد المقتول بسائر الأموال المملوكة في لزوم قيمته على القاتل بجامع أنَّ كلًّا منهما يباع ويشترى.
ومنهم من اعتبر المشابهة في الصورة: كإسماعيل بن علية، كقياس الخيل على الحمير والبغال في سقوط الزكاة.
وقياس الحنفية في حرمة لحم الخيل بالقياس على لحم الحمير للمشابهة بينهما في الصورة.
وكرد وطء الشبهة إلى النكاح في سقوط الحدود، ووجوب المهر لشبهه بالوطء في النكاح، ومقتضى ذلك قتل الحر بالعبد، كما يقوله أبو
(1)
فتح الباري (9/ 535) الحديث.
حنيفة.
ونحو ذلك قول الإمام أحمد بوجوب التشهد الأول؛ لأنه أحد الجلوسين في تشهد الصلاة، فوجب كالتشهد الأخير، وعكسه بعض الحنفية بعدم وجوب الأخير قياسًا على الأول
(1)
.
الثاني: أنَّ هذا المسلك ليس بحجة.
وبه قال أكثر الحنفية، والقاضي أبو بكر، والأستاذ أبو منصور، وأبو إسحاق المروزي، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو بكر الصيرفي، والقاضي أبو الطيب الطبري، لكنه عند الباقلاني صالح لأن يرجح به
(2)
.
واستدلوا: بأنَّ الشبه إن كان مناسبًا فهو معتبر بالاتفاق، وإن كان غير مناسب فهو الطرد المردود بالاتفاق.
وبأنَّ المعتمد في القياس عمل الصحابة، ولم يتمسكوا بهذا الطريق فيلغى.
الثالث: المعتبر حصول المشابهة فيما يظن أنه مستلزم لعلة الحكم، أو أنه علة الحكم سواء كانت المشابهة في الصورة أو المعنى.
وإليه ذهب الرازي في المحصول، وأجاب على حجة القول بعدم
(1)
انظر التحبير شرح التحرير للمرداوي (7/ 3427).
(2)
التحبير شرح التحرير (7/ 3431)، إرشاد الفحول (2/ 636).
اعتباره
(1)
.
والراجح: المذهب الأول إذا عدم قياس العلة.
ويرد على القول بالمنع: بأنَّ الشبه مسلك بين المناسبة والطرد، ولا نسلم أن ما سوى المناسبة مردود، وأنَّ المعتبر في القياس قوله تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]
(2)
، وهذا نوع من الاعتبار، وإلحاق الشبيه بشبيهه.
*
المسلك الثامن: الطرد.
وهو لغة: كما قال ابن منظور: اطَّرَدَ الشيءُ: تبع بعضه بعضًا وجرى.
واطَّرد الأمر: استقام، واطَّردت الأشياء إذا تبع بعضها بعضًا، واطَّرد الكلام إذا تتابع، واطَّرد الماء: إذا تتابع سيلانه.
وذكر معانيَ أخرى، لكن هذا ألصقها بما نحن فيه
(3)
.
وفي الاصطلاح: قال في المحصول: والمراد منه: الوصف الذي لم
(1)
نفائس الأصول شرح المحصول للقرافي (7/ 3324) ط. نزار الباز.
(2)
انظر المحصول للرازي (2/ 315)، بحث مسالك العلة المستنبطة منشور بمجلة الشريعة العدد (42) جمادى الآخرة (1421 هـ).
(3)
لسان العرب (4/ 2652) دار المعارف مادة طرد.
يكن مناسبًا، ولا مستلزمًا للمناسب، إذا كان الحكم حاصلًا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، وهذا قول الأكثرين
(1)
.
وأوضح من هذا عبارة الأرموي في الحاصل حيث قال: جريان الحكم مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع.
وهو يدل على العلية؛ لأن الأغلب إذا كان ثبوت هذا الحكم مع ذلك الوصف، وجب إثباته في صورة النزاع إلحاقًا للمفرد النادر بالغالب.
ومنهم من عرفه، فقال: هو مقارنة الوصف غير المناسب والشبهي للحكم في جميع الصور، ما عدا المتنازع فيها
(2)
.
الفرق بينه وبين الدوران:
أنَّ الطرد عبارة عن المقارنة في الوجود دون العدم، والدوران عبارة عن المقارنة وجودًا وعدمًا
(3)
.
(1)
نفائس الأصول للقرافي (8/ 3363)، البحر المحيط للزركشي (5/ 248)، إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 637).
(2)
نبراس العقول في تحقيق القياس عند علماء الأصول لعيسى منون (375).
(3)
البحر المحيط للزركشي (5/ 248)، إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 638).
*
الخلاف في حجية الطرد:
أما من أنكر الدوران فهو لا يقول بالطرد من باب أولى، ومن قال بالدوران فقد اختلفوا في الطرد على مذهبين:
المذهب الأول: أنَّ الطرد ليس بحجة، وهذا مذهب الجمهور من الفقهاء والمتكلمين كما نقله القاضي عنهم، وقال القاضي حسين: لا يجوز أن يدان الله به.
وقال السمعاني: وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة، والاطراد دليلًا على صحة العلية: حشوية أهل القياس. قال: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء.
واستدلوا بالتالي:
1 -
بأنَّ الأصل في الشرائع جلب المصالح ودرء المفاسد، فما لم يعلم فيه تحصيل مصلحة، ولا درء مفسدة وجب أن لا يعتبر.
2 -
أنَّ تجويزه يفتح باب الهذيان واللعب في الدين.
المذهب الثاني: أنه حجة، وبه قال الرازي في المحصول، والبيضاوي، وبعض الحنفية.
واستدلوا بالتالي:
1 -
أنَّ الأحكام الأصل فيها التعليل، وليس لدينا في هذا الحكم إلا
الطرد، أو عدم التعليل، والثاني باطل؛ لأنه خلاف الأصل، فيثبت الأول.
2 -
أنَّ اقتران هذا الوصف بالحكم في جميع الصور يورث الظن، وهو كاف في العلية، كما لو رأينا دابة القاضي أمام قصر الأمير، فتستدل على وجوده داخل القصر لاطراد وجود الدابة معه أينما ذهب.
3 -
أنَّ إلحاق الصورة المتنازع فيها بحكم الوصف الطردي في جميع الصور إنما هو إلحاق بالأعم الأغلب
(1)
.
والراجح - والله أعلم-: أنَّ الطرد قد يستأنس به إذا سلم عن المعارضة مما هو أقوى منه؛ لأن وجوده مع الحكم في جميع الصور يتولد منه ظن بتأثيره في العلية، لكن لا يستقل بعلية الحكم، وهذا بخلاف الوصف الطردي؛ لأن الوصف الطردي وجوده مع الحكم في بعض الصور ليس له أدنى تأثير في علية الحكم، بخلاف الوصف في الطرد فيوجد في أغلب الصور، وهو لا يتكرر بهذه الصورة إلا وله نوع تأثير في الحكم ولو ضعيفًا.
وهذا الباب قد يستأنس به القاضي عند عدم البينة، أو الشهود، فيكون من باب توارد الأدلة وتركيبها، والله أعلم.
(1)
انظر المذاهب وأدلتها، البحر المحيط (5/ 248) وما بعدها، إرشاد الفحول (2/ 639)، مجلة الشريعة العدد (42/ 336)، وما بعدها.
*
المسلك التاسع: تنقيح المناط.
وقد سبق الكلام عنه في أنواع الاجتهاد في العلة.
ومعناه هنا: إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق، بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا، وذلك لا مدخل له في الحكم البتة، فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له
(1)
، كقياس العبد على الأمة في تنصيف الحد في قوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]؛ لأنه لا فرق بين الحرة والأمة إلا الرق، فعلم أنه سبب تشطير الجلد، فأجري في العبد لاتصافه بالرق الذي هو مناط الحكم (ويسمى المشترك بين الأصل والفرع).
ولا فرق بين العبد والأمة إلا الذكورة والأنوثة (ويسمى المختص بالأصل للأنوثة هنا، والذكورة في مسألة تقويم العبد على سيده الذي أعتقه شركه فيه)، وهذا الوصف لا مدخل له في الحكم فَيُلغَى.
والفرق بين السبر والتقسيم، وهذا المسلك: أنَّ الحصر في دلالة السبر لتعيين العلة إما استقلالًا أو اعتبارًا، وفي نفي الفارق لتعيين الفارق وإبطاله لا لتعيين العلة، بل هو نقيض قياس العلة؛ لأن القياس هناك
(1)
إرشاد الفحول (2/ 641).
عين جامعًا بين الفرع والأصل، وعين هنا الفارق بينهما
(1)
.
وقد عد القرافي هذا المسلك - وهو تنقيح المناط - أنه إلغاء الفارق، فقال في المسلك الثامن من مسالك العلة: تنقيح المناط، وهو إلغاء الفارق فيشتركان في الحكم.
والدليل على أنه حجة بهذا التفسير: أنَّ الأصل في كل مِثْلين أن يكون حكمهما واحدًا، فإذا استوت صورتان، ولم يوجد بينهما فارق، فالظن القوي القريب من القطع أنهما مستويان في الحكم، ونجد في أنفسنا من اعتقاد الاستواء في الحكم ههنا أكثر مما نجده في الطرد والشبه، والعلم بهذا التفاوت ضروري عند من سلك مسالك الاعتبار والنظر، فوجب كونه دليلًا على عليَّة المشترك على سبيل الإجمال، وإن كُنَّا لا نعيِّنه، بل نجزم بأنَّ ما اشتركا فيه هو موجب العلة
(2)
.
قال الشنقيطي: والتحقيق أنه - أي إلغاء الفارق- نوع من تنقيح المناط
(3)
.
فمعنى تنقيح المناط: الاجتهاد في تحصيل المناط الذي ربط به
(1)
البحر المحيط (5/ 258).
(2)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (309 - 310).
(3)
أضواء البيان للشنقيطي (4/ 430) سورة الأنبياء ط. دار الحديث.
الشارع الحكم، فيبقى من الأوصاف ما يصلح، ويلغى ما لا يصلح.
وذكر جماعة كالتاج السبكي، والبرماوي، وغيرهما: أنه أجود مسالك العلة بأن يبين إلغاء الفارق
(1)
.
•
أنواع القياس:
ينقسم القياس بحسب النظر إلى العلة إلى أقسام منها:
1 -
قياس العلة.
2 -
قياس الدلالة.
3 -
قياس الشبه.
4 -
قياس العكس.
*
الأول: قياس العلة:
أن يكون الجمع بين الفرع والأصل بنفس علة الحكم، ويسمى قياس المعنى. وينقسم إلى: جلي، وخفي.
فأما الجلي: فما عرف من غير معاناة فكر.
والخفي: لا يتبين إلا بإعمال فكر.
(1)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (7/ 3333).
والجلي على أربعة أضرب:
الأول: وهو المتناهي في الجلاء، وهو ما عرف من ظاهر النص بغير استدلال، ولا يرد الشرع بخلافه في الفرع.
وهو: أن يكون المسكوت عليه أولى بالحكم من المنطوق به مع القطع بنفي الفارق، وذلك كقوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، فلا يشك عاقل في أنَّ النهي عن التأفيف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب والشتم المسكوت عنه.
وكقوله تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)} [فاطر: 13]، فلا يعقل أن ينفى ملكهم للقطمير، ثم يثبت ملكهم لما فوق ذلك.
وكقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فلا يعقل أن يؤتمن الأول على القنطار، ثم يتهم بالخيانة في دينار، والعكس في الثاني.
وكقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8]، فلا يعقل أن يوفوا ثواب الذرة، ويُحرموا ما فوق ذلك.
قال الزركشي: وقال بعض مشايخنا: لا يُسمى هذا قياسًا.
قلت (الزركشي): لأن العرب وضعت هذه اللفظة للتنبيه على ما
زاد عليه، فيكون النهي عن الضرب والشتم باللفظ، وسماه بعضهم مفهوم الخطاب، وقيل: فحوى الخطاب. قالوا: والقياس ما خفي حكم المنطوق عنه حتى عرف بالاستدلال من المنصوص عليه، وما خرج عن الخفاء ولم يحتج إلى الاستدلال فليس بقياس، وقال نفاة القياس: ليس بقياس بل نص
(1)
.
وإلى هذا ذهب الكرخي، ومن تبعه من أصحاب أبي حنيفة
(2)
.
قال السمعاني: قالوا: وإنما قلنا ذلك -أي ليس بقياس- لأن القياس لا يدركه من ليس بقائس، وهذا يستدركه من ليس بقائس، ويشترك في استدراكه الخاص والعام، ولو كان قياسًا لاختص به أهل النظر والاجتهاد.
قال: والأصح أنَّ ذلك ثابت من جهة القياس؛ لأن غير المذكور لما عُلم بالمذكور على طريق الاعتبار فقد حصل معنى القياس، وهذا لأن تحريم الشتم والضرب غير معقول من اللفظ؛ لأنه لو عقل باللفظ لكان اللفظ موضوعًا للمنع من الضرب والشتم إما في اللغة، أو في العرف، ومن البين أنه غير موضوع للمنع من الضرب والشتم في اللغة، وكذلك
(1)
البحر المحيط (7/ 50).
(2)
قواطع الأدلة 2/ 127).
في العرف؛ لأن الناس لا يتعارفون هذا الاسم، كذلك المعين، فصار المنع من الضرب والشتم باعتبارهم بالتأفيف المنصوص عليه.
وبيان هذا: أنَّ الإنسان إذا سمع قول الله عز وجل: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] إلى قوله تعالى {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء: 23] علم أنَّ هذا الكلام خرج مخرج الأمر بالإعظام لهما، مع ما تقرر في الشرع من وجوب تعظيمهما، وإذا علم هذا علم أنَّ الله تعالى إنما نهى عن التأفيف لكونه أذى، ويُعلَم أنَّ الحكيم لا ينهى عن الشيء لعلة، ويرخص فيما فيه تلك العلة وزيادة، بل يكون ذلك بالحظر والتحريم أولى، فثبت ما قلنا، وهو أنَّ هذا من باب علم غير المذكور من المذكور بطريق الاعتبار، فيكون بطريق القياس، ولا يُنكَر سهولة مأخذه وقرب مسلكه لهذا؛ إلا أن هذا لا يخرجه عن كونه على طريق القياس، لأن مراتب القياس قد تتفاوت في الجلاء والخفاء كما تتفاوت مراتب النصوص، فمن ذلك ما يُدرك بأول ما يقرع السمع، ومن ذلك ما يحتاج إلى تأمل وتفكر، وهذا الاختلاف لا يخرج ذلك عن كونه نصًّا، وإنما يتميز النص من غير النص بأنَّ النص ما كان مذكورًا باسمه، والقياس ما لا حظ له في الاسم، وإنما أدرك بمعناه
(1)
.
(1)
قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 931 - 932).
قلت: ذكر الشافعي رحمه الله قولين لأهل العلم، فقال: وقد يمتنع بعض أهل العلم من أن يسمي هذا قياسًا، ويقول: هذا ما أحل الله وحرَّم، وحَمِدَ وذمَّ؛ لأنه داخل في جملته، فهو بعينه لا قياسٌ على غيره. ويقول مثل هذا القول في غير هذا مما كان في معنى الحلال فأُحِلَّ والحرام فحُرِّمَ، ويمتنع أن يُسمَّى القياس إلا ما كان يحتمل أن يُشبَّه بما احتمل أن يكون فيه شبهًا من معنيين مختلفين، فصرفه على أن يقيسه على أحدهما دون الآخر ويقول غيرهم من أهل العلم ما عدا النص من الكتاب أو السنة، فكان في معناه، فهو قياس، والله أعلم
(1)
.
لذلك بعد أن ذكر السمعاني القولين، وردَّ على حجج الممتنعين من تسميته قياسًا، قال: لكن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، وليس فيها فائدة معنوية وبعد أن وافقونا في المعنى الذى قلناه فلا نبالي أن يسمى ذلك قياسًا، أو لا يسمى، وإنما بالغنا في إثبات الذى ادعيناه مع أنه ليس للخلاف فيه فائدة معنوية نصرةً للشافعي، فإنه قد نصَّ في موضع أنه قياس مع وصفه بالجلاء والظهور.
قلت: هذا الذي نسبه للشافعي قاله في (الرسالة).
قال: والقياس وجوه يجمعها القياس، ويتفرق بها ابتداءُ قياسِ كل
(1)
الرسالة للشافعي (515 - 516) دار التراث.
واحدٍ منهما، أو مصدره، أو هما، وبعضهما أوضح من بعض.
فأقوى القياس: أن يُحرِّم الله في كتابه، أو يُحرِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم القليل من الشيء، فيُعلَم أنَّ قليله إذا حُرِّم كان كثيره مثل قليله في التحريم، أو أكثر بفضل الكثرة على القلة
(1)
.
الضرب الثاني: ما كان دون الأول في الوضوح والجلاء:
وهو أن يكون المسكوت عنه مساويًا للمنطوق به في الحكم مع القطع بنفي الفارق.
ومثاله: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، ومثلها إضاعة أموالهم بالإحراق والإغراق؛ إذ لا فرق بينها، وبين أكل أموالهم ظلمًا.
وكقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان»
(2)
، ومعلوم بأوائل النظر أنَّ ما ساوى الغضب من جوعٍ مفرط، أو ألم مزعج، ونومٍ
(1)
الرسالة (512 - 513).
(2)
أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة بلفظ (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)، وأخرجه أحمد (20389) وابن ماجه (2316) بلفظ (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)، وإسناده صحيح.
مذهل بمنزلة الغضب في المنع من القضاء؛ لأن كلًّا منها مشوِّش للفكر والذهن، ويمنع من استيفاء الحق.
وكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، فمثل البيع سائر العقود كالنكاح والإجارة، وسائر المهن والصنائع؛ لأن كلًّا منها مشغل عن الجمعة.
ومثل قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، الآية في الأمة إذا ارتكبت فاحشة، فإنه ينصف عليها الحد، وكذلك العبد إذ لا فارق بينهما فكلاهما رقيق.
الضرب الثالث: ما عرف معناه بظاهر النص من غير استدلال، لكن يجوز أن يرد التعبد فيه بخلاف أصله، وفيه يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، إلا أنَّ نفي الفارق بينهما ليس قطعيًّا، بل مظنونًا ظنًا قويًّا مزاحمًا لليقين.
ومثاله: نهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء
(1)
. فالتضحية بالعمياء
(1)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (2802)، والنسائي (4369)، وابن ماجه (3144) من حديث البراء بن عازب مرفوعاً.
المسكوت عنها أولى بالحكم، وهو المنع من التضحية بالعوراء المنطوق بها، إلا أنَّ نفي الفارق بينهما ليس قطعيًّا؛ لأن علة النهي عن التضحية بالعوراء كونها ناقصة ذاتًا وثمنًا وقيمة، وهذا هو الظاهر، وعليه فالعمياء أنقص منها ذاتًا وقيمة، وهناك احتمال آخر هو الذي منع من القطع بنفي الفارق، وهو احتمال أن تكون علة النهي عن التضحية أنَّ العور مظنة الهزال؛ لأن العوراء ناقصة البصر، وناقصة البصر تكون ناقصة الرعي، لأنها لا ترى إلا ما يقابل عينًا واحدة، ونقص الرعي مظنة الهزال، وعلى هذا الوجه فالعمياء ليست كالعوراء؛ لأن العمياء يُختار لها أفضل العلف فيكون ذلك مظنة لسمنها.
وكذلك: نهيه صلى الله عليه وسلم المحرم أن يلبس ثوبًا مسه ورس أو زعفران
(1)
. فكان الكافور والمسك أولى بذلك الحكم، وإن جاز أن يرد التعبد بتحريم الورس والزعفران، وإباحة المسك والكافور.
الضرب الرابع: ما عرف معناه من ظاهر النص، مع جواز التعبد بخلاف أصله، ويكون المسكوت عنه مساويًا للمنطوق به في الحكم، إلا أنَّ نفي الفارق بينهما مظنون ظنًّا قويًّا مزاحمًا لليقين.
ومثاله الحديث الصحيح: (من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال
(1)
أخرجه البخاري (134)، ومسلم (1177) من حديث عبد الله بن عمر.
يبلغ ثمن العبد قُوِّم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)
(1)
.
فإنَّ المسكوت عنه، وهو عتق بعض الأمة مساوٍ للمنطوق به، وهو عتق بعض العبد في الحكم الذي هو سراية العتق المبينة في الحديث - إذ لا أثر للذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق-؛ لأنهما وصفان طرديَّان، وهناك احتمال آخر هو الذي منع من القطع بنفي الفارق، وهو احتمال أن يكون الشارع نص على سراية العتق في خصوص العبد الذكر، مخصصًا له بذلك الحكم دون الأنثى؛ لأن عتق الذكر يترتب عليه من الآثار الشرعية ما لا يترتب على عتق الأنثى، كالجهاد، والإمامة، والقضاء، ونحو ذلك من المناصب المختصة بالذكور دون الإناث
(2)
.
* ثانيًا: قياس العلة الخفي:
وهو ما خفي معناه، فلم يعرف إلا باستدلال، وهو على ثلاثة أقسام:
أحدهما: ما كان معناه لائحًا باستدلال متفق عليه، مثل قوله
(1)
أخرجه البخاري (2491، 2522)، ومسلم (1501)، من حديث عبد الله بن عمر.
(2)
انظر قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 930 - 935) دار ابن حزم، البحر المحيط للزركشي (5/ 36 - 38) ط. الكويت، أضواء ا لبيان للشنقيطي (3/ 382 - 383)، (4/ 424 - 426) دار الحديث.
تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} [النساء: 23]، فكانت عمات الآباء والأمهات محرمات، قياسًا على الخالات والعمات لاشتراكهن في الرحم المحرم.
ومثل قوله تعالى في نفقة الولد في صغره: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فكانت نفقة الوالد في حال عجزه عند كبره قياسًا على نفقة الولد بعجزه لصغره لاشتراكهما في البعضية.
قال الشافعي رحمه الله: فدل كتاب الله، وسنة نبيه أنَّ على الوالد رضاع ولده ونفقتهم صغارًا.
فكان الولد من الوالد، فجبر على صلاحه في الحال التي لا يغني الولد فيها نفسه، فقلت: إذا بلغ الأب ألا يغني نفسه بكسب، ولا مال فعلى ولده صلاحه في نفقته، وكسوته قياسًا على الولد
(1)
.
والمعنى في هذا لائح بين الجلي والخفي، وهو في أقسام الخفي بمنزلة القسم الأول من أقسام الجلي.
الثاني: ما كان معناه غامضًا، لتقابل المعنيين، أو لتقابل المعاني، مثل: تعليل الربا في البر المنصوص عليه إما بالطعم، أو بالكيل، أو القوت، ولا بد من ترجيح أحد هذه المعاني على الآخر من طريق
(1)
الرسالة للشافعي (517 - 518).
المعنى الذي يكون دالًّا على التحريم.
الثالث: ما كان مستبهمًا يحتاج نصه ومعناه إلى الاستدلال، ومثاله: حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أنَّ الخراج بالضمان
(1)
.
فعلم بالاستدلال أنَّ الخراج هو المنفعة، وأنَّ الضمان هو ضمان المبيع بالثمن
(2)
.
قال ابن الأثير: يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدًا كان، أو أمة، أو ملكًا، وذلك بأن يشتريه فيستغله زمانًا، ثم يعثر منه على عيب قديم لم يطلعه البائع عليه، أو لم يعرفه، فله رد العين المبيعة، وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء، والباء في بالضمان متعلقة بمحذوف تقديره: الخراج مستحق بالضمان أي بسببه
(3)
.
(1)
ضعيف: أخرجه أحمد (24224، 25999)، وأبو داود (3508)، والترمذي (1285) من حديث عائشة، وقال أبو حاتم عنه وعن حديثه هذا قال: لم يرو عنه غيره، و ليس هذا إسنادا تقوم بمثله الحجة.
(2)
قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 935 - 936).
(3)
النهاية (خرج)، وانظر: الرسالة للشافعي (518 - 519) لتوضيح خفاء الاستدلال.
*
النوع الثاني: قياس الدلالة:
ضابطه: أن يكون الجمع فيه بدليل العلة لا بنفس العلة، كأن يجمع بين الفرع والأصل بملزوم العلة، أو أثرها، أو حكمها.
فمثال الجمع بملزوم العلة: أن يقال: النبيذ حرام كالخمر بجامع الشدة المطربة، وهي ملزوم الإسكار، بمعنى أنها يلزم من وجود الإسكار، والقصد مطلق التمثيل؛ لأن العلة هنا منصوصة، وهي الإسكار.
ومثال الجمع بأثر العلة: أن يقال: القتل بالمثقل يوجب القصاص كالقتل بالمحدد بجامع الإثم، وهو أثر العلة، وهي القتل العمد العدوان.
ومثال الجمع بحكم العلة: أن يقال: تقطع الجماعة بالواحد، كما يقتلون به بجامع وجوب الدية عليهم في ذلك حيث كان غير عمد، وهو حكم العلة التي هي القطع منهم في الصورة الأولى، والقتل منهم في الثانية
(1)
.
قال ابن القيم: وأما قياس الدلالة فهو: الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، وملزومها، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ
(1)
أضواء البيان (4/ 427) دار الحديث.
خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39]، فدلَّ سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه، وشاهدوه على الإحياء الذي استبعدوه، وذلك قياس إحياء على إحياء، واعتبار الشيء بنظيره، والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه، وكمال حكمته، وإحياء الأرض دليل العلة
(1)
.
وقال ابن قدامة: هو أن يجمع بين الفرع والأصل بدليل العلة، ليدل اشتراكهما فيه على اشتراكهما في العلة، فيلزم اشتراكهما في الحكم ظاهرًا.
قال الطوفي: وهو على ضربين:
أحدهما: الاستدلال بالحكم على العلة، كقولنا في الوتر: يُؤدَّى على الراحلة، فيكون نفلًا، أو فلا يجب، كصلاة الضحى، فجواز الأداء على الراحلة حكم النفل، فهو يدل على وجود علته في الوتر؛ وذلك لأن الحكم أثر العلة وملزومها، فدل عليها دلالة الأثر على المؤثر، والملزوم على اللازم.
الضرب الثاني: الاستدلال بأحد أثري المؤثر على الآخر، ويقال: بإحدى نتيجتي علة واحدة على الأخرى.
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 257) ط. ابن الجوزي ت. مشهور.
مثاله: قولنا: القطع والغرم يجتمعان على السارق، أي: إذا سرق عينًا ففاتت في يده -أي قطع-، قطع بها، وغرم قيمتها؛ لأنها عين يجب ردها مع بقائها، فوجب ضمانها مع فواتها، كالمغصوب؛ لأن وجوب ردها مع بقائها دل على وجود علة وجوب الرد؛ إذ الواجب لا بد له من علة، والضمان عند التلف رد لها من حيث المعنى، وتلك العلة تناسبه، وقد ظهر اعتبارها في الأصل وهو المغصوب، والعلة في ذلك كله إقامة العدل برد الحق، أو بدله إلى مستحقه
(1)
.
*
النوع الثالث: قياس الشبه:
تعريفه: إلحاق فرع متردد بين أصلين بأحدهما الغالب شبهه به في الحكم والصفة، على شبهه بالآخر فيهما
(2)
.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: والقياس قياسان: أحدهما: يكون في مثل معنى الأصل، فذلك الذي لا يحل لأحد خلافه، ثم قياس أن يشبه الشيء بالشيء من الأصل، والشيء من الأصل غيره، فيشبه هذا بهذا الأصل، ويشبه غيره بالأصل غيره.
وموضع الصواب فيه عندنا - والله تعالى أعلم-: أن ينظر، فأيهما
(1)
روضة الناظر (322)، شرح مختصر الروضة (3/ 437 - 438) بتصرف.
(2)
غاية الوصول في شرح لب الأصول للشيخ زكريا الأنصاري (125).
كان أولى بشبهه صيره إليه إن أشبه أحدهما في خصلتين، والآخر في خصلة ألحقه بالذي هو أشبه في خصلتين
(1)
.
وتعريف قياس الشبه يمكن أن يختلف باعتبارين:
الأول: أن يكون للفرع أصل واحد، فحينئذ يعرف قياس الشبه بأنه: إلحاق فرع بأصل تظن فيه المناسبة من غير اطلاع عليها، بعد البحث التام ممن هو أهل للاطلاع عليها، وقد ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام
(2)
.
وقد سبق ذلك في مبحث مسلك الشبه من مسالك العلة.
الاعتبار الثاني: أن يتنازع الفرعَ أصلان:
وهو أن يكون الفرع مترددًا بين أصلين لمشابهته لهما، فيلحق بأحدهما لمشابهته في أكبر صفات مناط الحكم.
قال الزركشي: وقد وقع في كلام الشافعي رحمه الله ذكر قياس علة الأشباه.
قال ابن سريج: فإذا تردد بينهما كان رده إلى أشبههما أولى من رده
(1)
الأم للشافعي (7/ 99) ط المعرفة، (8/ 210) دار الوفاء.
(2)
قياس الشبه د/ محمود عبد الرحمن (232).
إلى أبعدهما منه في الشبه
(1)
.
ومثَّل الشيخ زكريا الأنصاري لقياس غلبة الأشباه في الحكم والصفة، فقال: كإلحاق العبد بالمال في إيجاب القيمة بقتله بالغة ما بلغت؛ لأن شبهه بالمال في الحكم والصفة أكثر من شبهه بالحرّ فيهما، أما الحكم فلكونه يباع، ويؤجر، ويعار، ويودع، ويثبت عليه اليد، وأما الصفة فلتفاوت قيمته بحسب تفاوت أوصافه جودة ورداءة، وتعلق الزكاة بقيمته إذا اتجر فيه
(2)
.
حجية قياس الشبه: اختلفوا في اعتباره إلى أربعة مذاهب، بعد اتفاقهم على أنه لا يصار إليه مع وجود قياس العلة:
الأول: أنه ليس بحجة مطلقًا، وهو قول جمهور الحنفية، وبعض الشافعية مثل الصيرفي، وأبي إسحاق المروزي، والأستاذ أبي منصور، وبالغ في ذلك ابن القيم في (إعلام الموقعين)، ونفاه حتى أنه قال: لم يحكه الله إلا عن المبطلين.
الثاني: أنه صالح للترجيح، ولا يحتج به ابتداءً، وبه قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والقاضي أبو الطيب، والقاضي أبو بكر، وبه أُوِّلَ
(1)
البحر المحيط للزركشي (5/ 41 - 42) ط. الكويت.
(2)
غاية الوصول في شرح لب الأصول للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 132).
كلام الشافعي.
الثالث: أنه حجة إن ثبت بأحد مسالك العلة المعتبرة كالإجماع، والسبر والتقسيم ما عدا المناسبة؛ لأنه قسيم لها -على التعريف الأول لقياس الشبه- وهذا مذهب ابن الحاجب.
الرابع: أنه حجة مطلقًا، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال به الجويني، والغزالي، والرازي، والخوارزمي من الحنفية، وجمهور المالكية، والحنابلة، وأبو الحسين البصري من المعتزلة
(1)
.
قال الشافعي في (الرسالة): والقياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه، وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه فذلك يلحق بأولاها به، وأكثرها شبهًا فيه، وقد يختلف القايسون في هذا
(2)
.
واستدل من قال إنَّ قياس الشبه حجة بما يلي:
1 -
أنَّ الشرع ورد باعتبار الشبه في جزاء الصيد، وذلك في قوله تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، والجمهور على أنَّ
(1)
هامش كتاب القواطع للسمعانى (3/ 989) ط دار الفاروق عمان الأردن.
(2)
الرسالة للشافعي (479).
المراد بالمثل من النعم المشابهة للصيد في الخلقة والصورة
(1)
، وهذا نوع من قياس الشبه.
2 -
أنَّ الشرع اعتبر الأشباه في القيافة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور، فقال: (يا عائشة، ألم تَرَيْ أن مُجَزِّزًاالمُدْلِجِيَّ دخل عليَّ فرأى أسامة بن زيد وزيدًا وعليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما، فقال: إنَّ هذه الأقدام بعضها من بعض
(2)
.
لكن قد يجاب على هذين الدليلين: بأنَّ هذا الشبه في الخلقة، وهو لا يُنكر، وإنما هذا هو العادة غالبًا أنَّ الولد يشبه أباه أو أمه، وجزاء الصيد اعتبرت فيه المثلية في الصورة والخلقة ليكفر عن ذنبه بقتل الصيد بما يقرب من قيمة الحيوان الذي قتله.
ويمكن أن يجاب: بأنَّ الشرع إذا تعبد المكلفين بالنظر إلى الأشباه الحسية الخلقية، كالقول في جزاء الصيد والقيافة، فإنَّ مبناها على الأشباه الجبلية، والشمائل الخفية، فاعتبار الشبه في الحكم، والصفة، وغيرها مما هو أقوى من الشبه في الصورة أولى
(3)
.
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (2/ 99).
(2)
أخرجه البخاري (3555، 6771)، ومسلم (1459).
(3)
قياس الشبه د/ محمود عبد الرحمن (399).
3 -
أنَّ القياس ليس إلا تمثيل الشيء بالشيء، وتشبيهه به، والشيء إنما يمثل بما يشابهه ويجانسه، فيجب إلحاق الشيء بما يشابهه، ويجانسه جريًا على هذا الأصل؛ لأن التساوي في الذوات والأحكام يوجب التساوي في الأحكام، كالمكاتب يلحق بالأحرار في كثير من الأشياء، وليس ذلك إلا باعتبار مجرد الشبه.
4 -
أنا أجمعنا أنَّ قياس المعنى حجة، ولا موجب لكونه حجة إلا أنه يفيد قوة الظن، أو يخيل في القلب أنه متعلق بذلك المعنى، فإنَّ طريق حصول العلم القطعي مسدود مردود، ومثل هذا المسلك يوجد في قياس الشبه، ومثله قول القائل في الوضوء: أنه تجب فيه النية: إنه طهارة عن حدث فتجب فيها النية كالتيمم.
وكذلك قول القائل في زكاة الصبي: تجب على الصبي كزكاة الفطر.
وفي نفي القصاص عن الحر بقتل العبد قصاصًا كالطرف.
وفي مسألة المضمضة والاستنشاق: إنهما لا يجبان في الغسل من الجنابة إنه غسل حكمي، فلا يتعدى من الظاهر إلى داخل الفم والأنف كغسل الميت.
فهذه الأقيسة مغلبة للظن مفيدة قوته في كون الحكم على ما نصب
له المعلل، فإنه يغلب على ظن كل عاقل شبيهة الوضوء بالتيمم، وشبيهة الغسل بالغسل، والزكاة بالزكاة، والصوم بالصوم، والقصاص بالقصاص.
ومن قال: إنَّ هذا لا يفيد غلبة الظن، فلا شك أنه معاند
(1)
.
5 -
قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} [المائدة: 31]، قال ابن العربي: فيه دليل على قياس الشبه
(2)
.
6 -
أنَّ القياس إنما أطلقه الشرع في أصل الأحكام لضرورة الحاجة؛ لأن النصوص متناهية والحوادث غير متناهية، ولله تعالى في كل حادثة حكم، فلو لم يجز القياس أدى إلى التوقف في كثير من الأحكام المطلوبة إقامتها بين الناس، ولو قلنا: إنَّ القياس الصحيح هو قياس المعنى. فهذا وإن وجد في كثير من الأحكام والأصول، لكن ليس مما يسهل وجوده لخلو كثير من الأحكام من المعاني خاصة العبادات، وهيئاتها، والسياسات ومقاديرها، وشروط المناكحات، والمعاملات، ثم هذه الأصول لها فروع، وهذه الفروع تتجاذبها أشباه، وإذا كانت
(1)
قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 994) بتصرف.
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (3/ 120) دار الكتب العلمية.
المعاني تُعْوِز في الأصول، فكيف يسهل وجودها في الفروع؟ فلم يكن بد من استعمال قياس، لكن مع الحيد عن طريقة الطرد؛ لأنه لا يفيد ظنًّا أصلًا، فجعلنا غلبة الأشباه، والقياس المنصوب من هذه الجهة مع وجود ما يُقَرِّب في الظن إلحاق الفرع بذلك الأصل، وجَعله في مسلكه، وضمّه إلى مسلكه حجة
(1)
.
7 -
قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23].
قال ابن الحنبلي: فصل: وقد تذكر صورة القياس، وليس بقياس دلالةٍ، كقوله تعالى:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، فالحكم المقيس عليه أمرٌ وجودي، وهو النطقُ، والذي وعدهم به هو الحياة بعد الموت، والبعث بعد الدفن، وهو أمرٌ معدومٌ، وليس بينه وبين النطق مناسبةٌ، ومجرد وجود حقيقةِ شيءٍ لا يدلُّ على وجود حقيقةٍ أخرى، فعند ذلك يعلم أنه ما أراد إلا تحقيق الوعد بإيجاد على وجهٍ لا يشكُّ فيه كوجود النطق، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنكمُ سترونَ ربَّكم كما ترونَ هذا القمرَ لا تضامونَ في رؤيتِهِ»
(2)
، ومعلومٌ أنه ما أراد
(1)
قواطع الأدلة (3/ 995) بتصرف.
(2)
أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633) من حديث جرير بن عبد الله البجلي.
أنَّ رؤية القمر مقتضيةٌ لرؤية الله تعالى، بل أراد أنه كائن كوجود هذا القمر ورؤيته، ولو قيل: فإنَّ فيه شبهة اقتضت القياس على النطق صح من جهة أنَّ الكلام يغور ويعود، فهو كالميت له غيبةٌ بالدفنِ والبِلَى، ثم حضورٌ بالبعثِ، فعلى هذا قياسُ الشبه صحيحٌ.
فصلٌ: ومثال قياس الشبه، قوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]، وفيه دلالة على جواز إقامة اللازم للحكم، أو السبب مقام نفس الحكم؛ لأنَّ فتنته سبب الخروج من الجنة، وهي سبب المنع من دخولها، وذلك كلُّه توسعةٌ على المستدلِّ
(1)
.
8 -
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الشبه، وبنى عليه حكمًا في باب الاحتياط، وترك الشبهات، ففي حديث عائشة في اختصام سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة في ابن جارية زمعة، فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر
(1)
استخراج الجدال من القرآن لابن الحنبلي عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب الجزري السعدي العبادي، أبو الفرج ناصح الدين ابن الحنبلي (ت:(634 هـ) ت: د/ زاهر بن عواد الألمعي، ط. مطابع الفرزدق التجارية (1401 هـ)(119، 120).
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبها بينا بعتبة، فقال:«هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة» فلم تره سودة قط
(1)
.
فبالرغم من حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعبد بن زمعة أي أنه أخوه، وأخ لسودة، لكن لما احتمل الشبه أن يكون من عتبة أمر سودة بالاحتجاب منه
(2)
.
9 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّ امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هل لك من إبل؟» قال: نعم. قال: «فما ألوانها؟» قال: حُمْرٌ. قال: «هل فيها من أَوْرَق؟» قال: إن فيها لَوُرْقًا. قال: «فأنى أتاها ذلك؟» قال: عسى أن يكون نَزَعَه عِرْق. قال: «وهذا عسى أن يكون نَزَعَه عِرْق»
(3)
.
قال ابن الملقن في فوائد الحديث:
الخامسة: إثبات القياس، والاعتبار بالأشباه، وضرب الأمثال تقريبًا للأفهام، وعرض الغامض المشكل على الظاهر البين، فيرجع الخصم
(1)
أخرجه البخاري (2053، 2218)، ومسلم (1457).
(2)
انظر كلام ابن القيم في تهذيب السنن مع عون المعبود (6/ 366)، كتاب النكاح، باب الولد للفراش حديث (2256) ط دار الفكر.
(3)
أخرجه البخاري (5305)، ومسلم (1500).
(1)
إليه، فإنه عليه الصلاة والسلام ولد هذا المخالف للونه بولد الإبل المخالفة لألوانها، والعلة الجامعة هي نزع العرق، إلا أنه تشبيهه في أمر وجودي، والذي حصلت المنازعة فيه هو التشبيه في الأحكام الشرعية.
لكن الحجة في كونه عليه الصلاة والسلام أقر العمل به في الشرعيات، ومن تراجم البخاري على هذا الحديث باب: من شبَّه أصلًا معلومًا بأصل مبين قد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكمها ليفهم السائل
(2)
.
قال السمعاني: والقول الجامع: إنَّ التأثير لابد منه، إلا أنَّ التأثير قد يكون بمعنى، وقد يكون بحكم، وقد يكون بغلبة شبه، فإنه رب شبه أقوى من شبه آخر وأولى بتعليق الحكم به لقوة أمارته، والشبه قد يعارضه شبه آخر، فربما يظهر فضل قوة أحدهما على الآخر، وربما يخفى، ويجوز أن ترجع الشبهات إلى أصل واحد، ويجوز أن ترجع إلى أصلين، فلا بد من قوة نظر المجتهد في هذه المواضع، وهذا كالعبد يشبه الحر من حيث إنه آدمي مكلف، ويشبه الأموال والسلع من حيث إنه مال مملوك، والجص يشبه البر من حيث إنه مكيل، ويفارقه من حيث إنه ليس بمأكول، وعلى عكس ذلك الرمان، والسفرجل يشبه البر من حيث إنه مأكول، ويفارقه من حيث إنه ليس بمكيل، وكذلك الذرة
(1)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن (8/ 456) دار العاصمة.
(2)
قواطع الأدلة للسمعاني (2/ 170) ط دار الكتب العلمية.
_________
وما يشبه ذلك
(1)
.
*
شروط اعتبار قياس الشبه عند القائلين به:
يُشترط في حجية قياس الشبه ما يشترط في جميع الأقيسة، ويزيد عليها:
أولًا: ألا يكون المصير إلى قياس العلة في المسألة، فإذا أمكن إلحاق الفرع في المسألة بقياس علة، وقياس شبه تعين الإلحاق بقياس العلة، واطرح قياس الشبه في هذه المسألة، وهذا الشرط محل اتفاق من القائلين بقياس الشبه
(2)
.
قال إمام الحرمين: القائلون بقياس الشبه أجمعوا على أنه لا يصار إليه مع إمكان المصير إلى قياس العلة، ولكن إذا استد على المجتهد طريق قياس العلة؛ ساغ له التمسك بالأشباه
(3)
.
قال السمعاني: والأولى أن يقال: إنَّ من يتحرى طلب الحق، وطلب إيراد معنًى مناسب للحكم، فينبغي أن يشتغل بذلك، ويبذل غاية مجهوده، وعندي أنَّ من طلب ذلك، فلا بد أن يجده إلا في أفراد من
(1)
الخصم
(2)
قياس الشبه. د/ محمود عبد الرحمن (419).
(3)
التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 238) دار البشائر الإسلامية.
المسائل وردت بها النصوص واتفقت الأمة على تعريها من المعاني، فأما عامة الأحكام فالشارع للحكم لم يُخْلِها من المعاني المؤثرة في تلك الأحكام، وإن أعوز المجتهد وجود المعنى حينئذ ينبغي أن يرجع إلى قياس الشبه على الطريقة التي قدمناها، فلا بأس بذلك، وغير مستبعد من الشرع أن ينبه بحكم على حكم، ويمثل شيئًا بشيء إما معنى، أو حكمًا، أو غلبة شبه بسائر الوجوه، والله أعلم بالصواب
(1)
.
الشرط الثاني: أن يكون الشبه فيه نوع دلالة تدل على الحكم، وليس شبهًا مجردًا، ويسمون الشبه المجرد الشبه الفارغ.
ومعنى الشرط: أن يكون الأصل والفرع من جنس واحد، كالوضوء يفتقر إلى نية كالتيمم، قال الشافعي: طهارتان فكيف تفترقان
(2)
.
وغياب هذا الشرط في بعض صور قياس الشبه هو ما حدا بالإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-- أن ينكر قياس الشبه، ويقول: لم يحكه الله إلا عن المبطلين.
والأمثلة التي ذكرها من القرآن إنما هي من الشبه الفارغ، والصورة المجردة، ولا يقول أحد بحجيته، بل القائلون بحجية قياس الشبه
(1)
قواطع الأدلة (3/ 996 - 997). ط دار الفاروق
(2)
قياس الشبه (419 - 422)، التلخيص في أصول الفقه (3/ 238).
يشترط فيه نوع دلالة على الحكم، وقد رأيت أمثلة من القرآن على قياس الشبه الصحيح كما ذكرها ابن الحنبلي.
والأمثلة التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله تعالى-- هي:
1 -
قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77]، قال: فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة، ولا دليلها، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف، فقالوا: هذا مقيس على أخيه، بينهما شبه من وجوه عديدة، وذاك قد سرق، فكذلك هذا. وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ، والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي، وهو قياس فاسد، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كانت حقًّا، ولا دليل على التساوي فيها، فيكون الجمع لنوع شبه خال عن العلة ودليلها.
2 -
قوله تعالى إخبارًا عن الكفار أنهم قالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27]، فاعتبروا صورة مجرد الآدمية، وشبه المجانسة، ولذلك أجاب الله سبحانه عنه بقوله:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وأجابت الرسل عن هذا السؤال بقولهم:{إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11].
3 -
وكذلك قوله سبحانه: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)} [المؤمنون: 33 - 34]، فاعتبروا المساواة في البشرية، وما هو من خصائصها من الأكل والشرب، وهذا مجرد قياس شبه، وجمع صوري.
4 -
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6].
5 -
ومن هذا: قياس المشركين الربا على البيع بمجرد الشبه الصوري، ومنه: قياسهم الميتة على الذَّكيِّ في إباحة الأكل بمجرد الشبه.
6 -
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 194 - 195]، أي أنَّ جميع ما لهذه الأصنام من الأعضاء التي نحتتها أيديكم إنما هي صور عاطلة عن حقائقها وصفاتها؛ لأن المعنى المراد المختص بالرجل هو مشيها، والمعنى المختص باليد هو بطشها، والمراد بالعين إبصارها ومن الأذن سمعها، وهذا معدوم فيها،
والصور في ذلك كله ثابتة موجودة، وكلها فارغة خالية من الأوصاف والمعاني، فاستوى وجودها وعدمها، وهذا كله مدحض لقياس الشبه الخالي عن العلة المؤثرة، والوصف المقتضي للحكم، والله أعلم
(1)
.
فأنت ترى الإمام ابن القيم ينكر نوعًا من قياس الشبه، وهو الشبه الصوري الفارغ الخالي من نوع دلالة تدل على الحكم، وهذا لا يقول به أحد.
وبالرغم من أنَّ أكثر الحنفية لا يقولون بقياس الشبه، إلا أنهم يعملون به في أبرز وأظهر أقسامه، وهو غلبة الأشباه، أو تردد الفرع بين شبهين، فيرجح الآخر، وذلك عن طريق الاستحسان بالقياس، بل إنهم يعملون به في ترجيح الخفي منهما لدليل، وقد جعلوه من باب ترجيح قياس خفي على قياس جلي لموجب اقتضى ذلك، وهو إعمالٌ لقاعدة غلبة الأشباه، ومن ذلك وقف الأرض الزراعية، فإنَّ لها شبهًا بالبيع وشبهًا بالإجارة، أما شبه البيع، فمن حيث إنَّ كلًّا منهما يخرج العين من ملك صاحبها، ومقتضى هذا الشبه أن لا يدخل حق الشِرب، والطريق، والمسيل في الوقف إلا بالنص عليها من الواقف، كما هو حكم البيع.
وأما شبهه بالإجارة، فمن حيث إنَّ كلًّا منهما يصير ملك الانتفاع
(1)
إعلام الموقعين (1/ 268 - 270) بتصرف.
بالعين، ومقتضى هذا الشبه دخول الشِرب والطريق والمسيل في الوقف، ولو لم ينص الواقف على دخولها في الوقف، كما هو الحكم في الإجارة، فوقف الأرض الزراعية هنا له شبهان: شبه بالبيع، وشبه بالإجارة، والشبه بالبيع أظهر لتبادر الذهن إليه، واحتياج الثاني إلى شيء من التأمل وإمعان النظر، ومع ذلك رجحوه لقوته، وتحقق المصلحة به؛ لأن الغرض من وقف الأرض الزراعية انتفاع الموقوف عليه بها، وهذا لا يتحقق إلا بانضمام الحقوق الارتفاقية إلى الأرض في الوقف، كما أنَّ المستأجر لا يتحقق غرضه من الاستئجار إلا بذلك
(1)
.
ومن تطبيقات قياس الشبه عند الأصوليين والفقهاء:
1 -
حكم نكاح الرجل ابنته من الزنا.
قال الطوفي: فهي من حيث الحقيقة هي ابنته؛ لأنها خلقت من مائه، ومن حيث الحكم أجنبية منه، لكونها لا ترثه ولا يرثها، ولا يتولاها في نكاح ولا مال، ويُحَدُّ بقذفها، ويُقتل بها، ويُقطع بسرقة مالها، فنحن ألحقناها ببنته من النكاح في تحريم نكاحها عليه نظرًا إلى المعنى الحقيقي، وهو كونها من مائه، والشافعي ألحقها بالأجنبية في إباحتها له نظرًا إلى المعنى الحكمي، وهو انتفاء آثار الولد بينهما شرعًا، فقد صار
(1)
رفع الحرج في الشريعة الإسلامية للدكتور باحسين (296 - 297) مكتبة الرشد، قياس الشبه، د/ محمود عبد الرحمن (414 - 416) دار اليسر.
كل من الفريقين إلى اعتبار الوصف الذي غلب على ظنه أنه مناط الحكم في الأصل، وهذا هو الأشبه بالصواب؛ لأن الظن واجب الاتباع، وهو غير لازم أبدًا للشبه حكمًا، ولا للشبه حقيقة، بل يختلف باختلاف نظر المجتهد، فيلزم كل واحد منهما تارة، والله تعالى أعلم بالصواب
(1)
.
2 -
فدية الأذى، ولبس المخيط للمحرم.
فإنهم اتفقوا على أنَّ الصيام حيث شاء؛ لأنه لا يتعدى نفعه لغيره، واتفقوا على أنَّ ذبح الهدي لا بد أن يكون في الحرم، واختلفوا في فدية الأذى، واللبس إذا كانت بالذبح (النسك)، أو إطعام ستة مساكين هل تختص بالحرم، أم حيث شاء.
فقال أبو حنيفة والشافعي: الدم والإطعام لا يجزيان إلا بمكة، والصوم حيث شاء.
وقال مالك: يفعل ما شاء، وإن شاء بمكة، وبغيرها، وإن شاء ببلده، والذي عند مالك ههنا هو نسك، وليس بهدي، فإنَّ الهدي لا يكون إلا بمكة أو بمنى.
وسبب الخلاف: استعمال قياس دم النسك على الهدي، فمن قاسه
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 434 - 435).
على الهدي وجب فيه شروط الهدي من الذبح في المكان المخصوص به، وفي مساكين الحرم، والذي يجمع النسك والهدي هو أنَّ المقصود بهما منفعة المساكين المجاورين لبيت الله سبحانه.
والمخالف يقول: إنَّ الشرع لما فرق بين اسمهما، فسمى أحدهما نسكًا، وسمى الآخر هديًا، وجب أن يكون حكمهما مختلفًا
(1)
.
قال الشنقيطي رحمه الله: والأظهر عندي في النسك والصدقة أيضًا أنَّ له أن يفعلهما حيث شاء؛ لأن فدية الأذى أشبه بالكفارة منها بالهدي
(2)
.
3 -
المغمى عليه: يشبه النائم في أنه عاقل فيجب عليه القضاء؛ لأن النائم مأمور بالقضاء، ويشبه المجنون لأنه غاب عقله لعلة فلا يجب عليه القضاء لارتفاع التكليف عن المجنون، لذلك اختلف الفقهاء، فقال مالك والشافعي: إذا كان إغماؤه لسبب محرم مثل أن يشرب خمرًا، أو دواءً لم يحتج إليه، لم تسقط الصلاة عنه، وكان عليه القضاء فرضًا، فإن أغمي عليه بجنون، أو مرض، أو سبب مباح سقط عنه قضاء ما كان في حال إغمائه من الصلاة على الإطلاق.
(1)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (1/ 646 - 647) ط التوفيقية.
(2)
أضواء البيان للشنقيطي (5/ 249) دار الحديث.
وقال أبو حنيفة: إن كان الإغماء يومًا وليلة فما دون ذلك لم يمنع وجوب القضاء، وإن زاد على ذلك لم يجب عليه القضاء، ولم يفرق بين أسباب الإغماء.
وقال أحمد: الإغماء بجميع أسبابه لا يمنع وجوب القضاء بحال
(1)
.
*
رابعًا: قياس العكس:
وهذا هو النوع الرابع من أنواع القياس وهو مختلف فيه: وهو إثبات نقيض حكم الشيء في شيء آخر لافتراقهما في العلة
(2)
.
قال البرماوي: ويدل عليه أنَّ الاستدلال به وقع في القرآن، والسنة، وفعل الصحابة
(3)
:
فأما القرآن: فنحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فدل على أنه ليس إله إلا الله لعدم فساد السموات والأرض.
(1)
اختلاف الأئمة العلماء للوزير ابن هبيرة (1/ 88) ط. دار الكتب العلمية.
(2)
تشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي (3/ 412).
(3)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (7/ 3149)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 143) ط. عالم الكتب.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، ولا اختلاف فيه، فدل على أنَّ القرآن من عند الله بمقتضى قياس العكس.
وقوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99]، فلما وردوا النار فدل على أنهم ليسوا بآلهة؛ لأنه قال بعدها:{وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)} [الأنبياء: 99].
وقوله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} [سبأ: 14].
والمعنى: أنهم لو كانوا يعلمون ما غاب عنهم ما عملوا مسخرين لسليمان، وهو ميت، وهم يظنون أنه حي يقف على عملهم.
وقال مقاتل: العذاب المهين: الشقاء، والنصب في العمل
(1)
، فلما لبثوا في العمل دل على أنهم لا يعلمون الغيب.
وأما من السنة: فحديث أبي ذر رضي الله عنه: قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال:(أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)
(2)
.
(1)
التفسير البسيط للواحدي (18/ 338)، وبنحوه في تفسير مقاتل (3/ 528).
(2)
أخرجه مسلم (1006).
فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم في الجماع المباح أجرًا، وهو حكم عكس حكم الجماع الحرام؛ لأن فيه الوزر، لتعاكسهما في العلة؛ لأن علة الأجر في الأول إعفاف امرأته ونفسه، وعلة الوزر في الثاني كونه زنا
(1)
.
وأما الصحابة رضي الله عنهم: ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار» ، وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة
(2)
.
وهذا النوع من القياس قال به جمهور الأصوليين، ومنعه بعض الشافعية، وقالوا: إنه أضعف من قياس الشبه.
1 -
احتجاج المالكية على أنَّ الوضوء لا يجب من كثير القيء، بأنه لما لم يجب من قليله لم يجب من كثيره، عكس البول لما وجب من قليله وجب من كثيره
(3)
.
2 -
في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)} [التحريم: 1].
قال الشيخ عطية سالم في تتمة أضواء البيان: ظاهر فيه معنى العتاب،
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (2/ 295).
(2)
أخرجه البخاري (1238)، ومسلم (92).
(3)
أضواء البيان (2/ 295).
كما في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1 - 3].
وكلاهما له علاقة بالجانب الشخصي سواء ابتغاء مرضاة الأزواج، أو استرضاء صناديد قريش، وهذا مما يدل على أنَّ التشريع الإسلامي لا مدخل للأغراض الشخصية فيه.
وبهذا نأخذ بقياس العكس دليلًا واضحًا على بطلان قول القائلين: إنَّ إعماره صلى الله عليه وسلم لعائشة من التنعيم كان تطييبًا لخاطرها، ولا يصح لأحد غيرها.
ومحل الاستدلال: هو أنَّ من ليس له حق في تحريم ما أحل الله له ابتغاء مرضاة أزواجه، لا يحل له إحلال وتجويز ما لا يجوز ابتغاء مرضاتهن، وهذا ظاهر بيِّن، ولله الحمد
(1)
.
*
حكم الاستدلال بقياس العكس:
قال الزركشي: واختلف أصحابنا في الاستدلال به على وجهين: أحدهما: أنه لا يصح، وأصحهما وهو المذهب أنه يصح، وقد استدل به الشافعي في عدة مواضع
(2)
.
(1)
تتمة أضواء البيان سورة التحريم (8/ 182) دار الحديث.
(2)
البحر المحيط للزركشي (5/ 46).
*
فصل: المسائل التي اختلف في جريان القياس فيها:
وهي سبع: (الأسباب، والشروط، والموانع، والحدود، والكفارات، والمقادير، والرخص).
*
أولًا: القياس في الأسباب:
معناه: أن يجعل الشارع وصفًا معينًا سببًا لحكم، فيقاس عليه وصفٌ آخر، فيحكم بكونه سببًا أيضًا
(1)
.
نقول أولًا: اتفق الأصوليون على منع القياس فيها عند عدم فهم المعنى الجامع المصحح للقياس كالأمور التعبدية مثل: جعل زوال الشمس سببًا لوجوب الظهر، وجعل غروب الشمس سببًا لصلاة المغرب، وغياب الشفق سببًا لصلاة العشاء، ورؤية هلال رمضان سببًا لوجوب صوم رمضان.
ثانيًا: اختلفوا في إثبات الأسباب بالقياس حيث فهم المعنى على قولين:
الأول: إجراء القياس في الأسباب، وهو مذهب أكثر الشافعية، والحنابلة.
الثاني: منع إجراء القياس في الأسباب، وإليه ذهب أبو زيد الدبوسي،
(1)
المذكرة للشنقيطي (267).
وأصحاب أبي حنيفة، واختاره الآمدي، وابن الحاجب.
قال: وصورته: إثبات كون اللواط سببًا للحد قياسًا على الزنا، وكذلك الكلام في النباش والنبيذ
(1)
.
وحجة الجواز:
1 -
أنَّ الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على مشروعية القياس في أحكام الشرع من غير فرق بين بعضها وبعض، ولا تفضيل بين الأسباب وغيرها، وذلك يقتضي عموم جوازه فيها.
2 -
أنهم قالوا في السكران: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فيجب عليه حد المفتري، وهو قياس سببي أي قياس في الأسباب؛ لأن القذف سبب حد القاذف ثمانين، وقد قاسوا عليه السكر في كونه سببًا لذلك.
3 -
أنَّ منع القياس في الأسباب وغيرها، إما أن يكون مع فهم المعنى الجامع بين الأصل والفرع، أو لا، فإن كان الأول، فهو تحكم من الخصم، حيث أجاز القياس لأجل فهم الجامع في غير الأسباب، ومنعه فيها، إذ ليس أولى من العكس، وإن كان الثاني، فهو وفاق منا ومنهم؛
(1)
الإحكام للآمدي (4/ 67)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 411)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 448).
لأننا حيث لا نفهم المعنى الجامع المصحح للقياس لا نقيس.
4 -
أنَّ القياس في الأسباب ونحوها بشرطه المذكور مفيد للظن، والظن مُتَّبَع شرعًا، فهذا القياس مُتَّبَع شرعًا، فيكون حجة
(1)
.
5 -
أنَّ السببية حكم شرعي، فجاز القياس فيها كسائر الأحكام؛ ولأن السبب إنما يكون سببًا لأجل الحكمة التي اشتمل عليها، فإذا وجدت في غيره وجب أن يكون سببًا تكثيرًا لتلك الحكمة.
حجة المنع:
1 -
أنَّ الحِكَم غير منضبطة؛ لأنها مقادير من الحاجات، أي أنَّ قدر الذنب الناشئ عن المعصية، ومقدار الحد، أو الكفارة التي تكفر هذا الذنب، وتمحو أثره؛ كل هذه أمور غيبية لا يصح القياس عليها، وإنما المنضبط الأوصاف، ولذلك إنما ترتب الحُكْم على سببه وُجدتْ حكمته أم لا، بدليل أنا نقطع بالسرقة، وإن لم يتلف المال بأن وجد مع السارق، ونحدُّ الزاني وإن لم يختلط نسب بأن تحيض ولا يظهر حَبَل، فعلمنا أنَّ الحِكَم إنما هي مَرْعِيَّة في الجملة، والمعتبر إنما هو الأوصاف، فإذا قسنا إنما نجمع بالحكمة، وهي غير منضبطة، والجمع
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 449).
بغير المنضبط لا يجوز
(1)
.
2 -
أنَّ القياس في الأسباب شبه لظنيته، والحدود تدرأ بالشبهات.
والأقرب - والله أعلم- أنا إذا فهمنا مناط الحكم، وأفادنا القياس الظن قسنا، وإلا فلا
(2)
.
ومع الاختلاف في تأصيل هذه المسألة تجد اختلافًا في الفروع، بل تجد في الفروع تناقضًا بين التأصيل والتطبيق.
فتجد من يمنع القياس في الأسباب، والشروط، ونحوها يقول بها أحيانًا في بعض الفروع ويسميه تنقيح المناط.
وتجد من يقول بالقياس فيها لا يقيس في بعض الفروع، إما لوجود مانع، أو فارق بين الأصل والفرع، أو غير ذلك، وإليك أمثلة لذلك:
1 -
قياس اللواط على الزنا وجعله سببًا للحد: قال به الشافعية، ومنعه الحنفية.
2 -
قياس النباش على السارق في وجوب حد القطع عليه، وأنَّ النبش كالسرقة في كونه سببًا للقطع، قال به البعض، ومنعه البعض.
(1)
شرح تنقيح الفصول (322 - 333).
(2)
شرح مختصر الروضة (3/ 451).
*
ثانيا: القياس في العبادات:
اختلف الناس في إثبات أصول العبادات بالقياس:
فذهب الكرخي، وجملة من المتكلمين إلى المنع، وحكاه الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله، وذهب الشافعية إلى جوازه
(1)
، ومع ذلك قال ابن رشد: قد استحب قوم الصلاة للزلزلة، والريح، والظلمة، وغير ذلك من الآيات قياسًا على كسوف القمر، والشمس لنصه عليه الصلاة والسلام على العلة في ذلك، وهو كونها آية، وهو من أقوى أجناس القياس عندهم؛ لأنه قياس العلة التي نص عليها، لكن لم ير هذا مالك، ولا الشافعي، ولا جماعة من أهل العلم، وقال أبو حنيفة: إن صلى للزلزلة فقد أحسن، وإلا فلا حرج
(2)
.
وقال الشافعي رحمه الله: لا أرى أن يجمع صلاة عند شيء من الآيات غير الكسوف، وقد كانت آيات فما علمنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة عند شيء منها، ولا أحدًا من خلفائه.
وقد زلزلت الأرض في عهد عمر بن الخطاب
(3)
، فما علمناه صلى،
(1)
نهاية الوصول إلى دراية الأصول لصفي الدين الأرموي (7/ 3229)، بذل النظر في الأصول للعلاء محمد بن عبد الحميد الأسمندي (1/ 623).
(2)
بداية المجتهد لابن رشد (1/ 392) التوفيقية.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (8335)، وابن المنذر (2921)، وغيرهما، وسنده صحيح.
وقد قام خطيبًا، فحض على الصدقة، وأمر بالتوبة
(1)
.
*
ثالثًا: جريان القياس في الحدود والكفارات، والمقدرات، والرخص:
وجواز ذلك هو مذهب الشافعي، وأحمد، وابن القصار، والباجي من المالكية خلافًا لأبي حنيفة، وأصحابه.
وحكى المالكية عن مذهب مالك قولين في جواز القياس على الرخص.
حجة المنع: أنَّ المقدَّرات كنُصُب الزكوات، والحدود كجلد الزاني مائةً، والكفارات كصيام ثلاثة أيامٍ، لا يعقل معناها دون ما هو أقل منها كتسعة عشر دينارًا في الزكاة، أو تسعة وتسعين سوطًا، أو يومين، أو واحدٍ وستين في كفارة الظهار مثلًا، وما لا يُعقل معناه يتعذر القياس فيه.
والجواب: أنا إنما نقول بالقياس حيث ظفرنا بالمعنى الذي لأجله ثبت الحكم، فحيث تعذر ذلك، وكان تعبدًا فإنا لا نقيس، فلا ترد علينا مواطن التعبد
(2)
.
قال الطوفي: فكأن النزاع صار في مسألة أخرى، وهو جواز فهم
(1)
معرفة السنن والآثار للبيهقي (2049).
(2)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (324).
المعنى في الحدود ونحوها، فنحن نقول: يجوز فهمه في بعض صورها، فيصح القياس عليها إذا تحقق مناط حكم الأصل في الفرع، وهم يقولون: لا يجوز أن يفهم، فلا يصح القياس لتعذر تحقق مناط حكم الأصل في الفرع.
وحينئذ الأشبه ما قلناه؛ إذ جواز فهم المعنى في ذلك لا يلزم منه محال، ولا ينكره عاقل، فإن كان هذا هو محل الخلاف، وإلا عاد النزاع لفظيًّا لاتفاق الفريقين على امتناع القياس في التعبد، وجوازه حيث عقل المعنى، والله تعالى أعلم
(1)
.
وأما الرخص، فيجوز القياس عليها عند الشافعي خلافًا لأبي حنيفة، وأصحابه.
وحجة المنع: أنَّ الرخص مخالِفَة للدليل، فالقول بالقياس عليها يؤدي إلى كثرة مخالفة الدليل، فوجب ألَّا يجوز.
حجة الجواز: أنَّ الدليل إنما يخالفه صاحبُ الشرع لمصلحةٍ تزيد على مصلحة ذلك الدليل عملًا بالاستقراء، وتقديمُ الأرجح هو شأن صاحب الشرع، وهو مقتضى الدليل، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي لأجلها خُولف الدليل في صورةٍ وجب أن يُخَالَف الدليلُ بها أيضًا عملًا
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 452).
برجحانها، فنحن حينئذٍ كَثَّرْنا موافقة الدليل لا مخالفته
(1)
.
ومذهب الشافعي جواز إثبات الرخص بالقياس، لكن الذي في الأم: عدم القياس على الرخص.
قال في باب صلاة العذر: وذلك أنَّ الفرض في المكتوبة استقبال القبلة والصلاة قائمًا، فلا يجوز غير هذا إلا في المواضع التي دل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، ولا يكون شيء قياسًا عليه، وتكون الأشياء كلها مردودة إلى أصولها، والرخص لا يتعدى بها مواضعها
(2)
.
وقال في (الرسالة): قال: فما الخبر الذي لا يقاس عليه؟
قلت: ما كان لله فيه حكم منصوص، ثم كانت لرسول الله سنة بتخفيف في بعض الفرض دون بعض عمل بالرخصة فيما رخص فيه رسول الله دون ما سواها، ولم يُقَس ما سواها عليها، وهكذا ما كان لرسول الله من حكم عام بشيء، ثم سن سنة تفارق حكم العام.
قال: وفي مثل ماذا؟
قلت: فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة من نومه، فقال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
(1)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (324).
(2)
الأم للشافعي (2/ 175) ط. الوفاء.
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فَقَصَدَ الرجلين بالفرض كما قَصَدَ ما سواهما في أعضاء الوضوء، فلما مسح رسول الله على الخفين
(1)
لم يكن لنا والله أعلم أن نمسح على عمامة، ولا برقع، ولا قفازين قياسًا عليهما، وأثبتنا الفرض في أعضاء الوضوء كلها، وأرخصنا بمسح النبي في المسح على الخفين دون سواهما
(2)
.
ونحو ذلك قال في قياس العرايا أنها رخصة من النهي عن المزابنة، ولم يقس عليها غيرها
(3)
.
وإليك أمثلة للقياس في الرخص:
قال الزركشي: الأول: أنَّ السَّلَم رخصة ورد مقيدًا بالأجل، وجوزه أصحابنا حالًّا؛ لأنه إذا جاز مؤجلًا مع الغرر، فلأن يجوز حالًّا أولى لقلة الغرر، وقد ينازع في كون هذا قياسًا، وإنما هو من باب دلالة الفحوى أي مفهوم الموافقة، وفي كونها قياسًا خلاف.
الثاني: ثبت في صحيح مسلم
(4)
النهي عن المزابنة، وهي بيع الرطب على النخل بالتمر، ثم ورد الترخيص في العرايا، وهي بيع الرطب على
(1)
أخرجه البخاري (182)، ومسلم (274) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2)
الرسالة للشافعي (545).
(3)
الرسالة للشافعي (549).
(4)
أخرجه البخاري (2191)، ومسلم (1540) من حديث سهل بن أبي حثمة.
النخل بتمر في الأرض، وألحق أصحابنا به العنب بجامع أنه زكوي يمكن خرصه، ويدخر بالسنة، فكان كالرطب، وإن لم يشمله الاسم.
الثالث: المبيت بمنى للحاج واجب، وقد رخص في تركه للرعاة، وأهل السقاية
(1)
، فهل يلتحق بهم المعذور كأن يكون عنده مريض منزول به محتاج لتعهده، أو كان به مرض يشق عليه المبيت، أو له بمكة مال يخاف ضياعه؟
فيه وجهان: أصحهما: نعم قياسًا على العذر.
والثاني المنع، والرخصة وردت لهم خاصة
(2)
.
جريان القياس في الحدود، والكفارات، والمقدرات:
قال القرافي رحمه الله: يجوز عند ابن القصار، والباجي، والشافعي جريان القياس في المقدَّرات، والحدود، والكفارات خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله وأصحابه؛ لأنها أحكام شرعية.
حجة المنع: أنَّ المقدَّرات كنُصُب الزكوات، والحدود كجلد الزاني
(1)
أخرجه البخاري (1634)، ومسلم (1315) من حديث عبد الله بن عمر قال: استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته، (فأذن له).
(2)
البحر المحيط للزركشي (5/ 58 - 61).
مائةً، والكفارات كصيام ثلاثة أيامٍ، لا يعقل معناها دون ما هو أقل منها كتسعة عشر دينارًا في الزكاة، أو تسعة وتسعين سوطًا، أو يومين، أو واحد وستين في كفارة الظهار مثلًا، وما لا يُعقل معناه يتعذر القياس فيه.
والجواب: أنا إنما نقول بالقياس حيث ظفرنا بالمعنى الذي لأجله ثبت الحكم، فحيث تعذر ذلك، وكان تعبدًا، فإنا لا نقيس، فلا ترد علينا مواطن التعبد
(1)
.
وهذه المسألة ذات شقين: شق متفق عليه، وشق مختلف فيه:
أما المتفق عليه: فإنهم اتفقوا على منع إثبات حدٍّ مبتدأبالقياس، أو كفارة مبتدأة، كأن يقال مثلًا: من فعل معصية كذا، أو ضرب كذا، أو شتم آخر، فعليه حد كذا، كجلد أو قطع، أو يخرج كفارة مقدارها كذا، فهذا لا يجوز اتفاقًا.
قال السمعاني: فإن قيل: هل يصح إثبات حد مبتدأ بالقياس، أو كفارة مبتدأة؟
قلنا: لا طريق يوصل القياس إلى إثبات حد مبتدأ، وكذلك لا طريق يوصل إلى إثبات كفارة مبتدأه بالقياس
(2)
.
(1)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (324).
(2)
قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 901).
وقال تاج الدين السبكي:
فائدة: نحن وإن جوزنا القياس في الحدود، والكفارات، والرخص والتقديرات على الجملة، فلا ننكر وجدان ما لا يعلل، ويلتحق بمحض التعبد، وعلى هذا فلا بد من أمارة يعرف بها القسم الذي يجري فيه التعليل من غيره.
وجماع القول -عندنا- أنَّ كل حكم يجوز أن يستنبط منه معنى مُخَيَّل من كتاب أو نص سنة، أو إجماع، فإنه يعلل، وما لا يصح فيه هذا فلا يعلل، سواء أكان من الحدود والكفارات أم غيرها.
فإن قلت: هل يصح إثبات حد مبتدأ، أو كفارة مبتدأة بالقياس؟
قلت: لا يصح، ولكن ليس لما يتوهمون من نفي القياس في الحدود والكفارات؛ بل لأنه لا طريق توصل هنا إلى فهم العلة، ولو صح لنا معنى في ذلك، لما تحاشينا من التعلق به، فافهم هذا، واجمع به بينه وبين قول المصنف فيما سبق: إنَّ من شرط الأصل ألا يكون معدولًا به عن سنن القياس، كمقادير الحدود والكفارات.
واعلم أنَّ نفس مقادير الحدود والكفارات لا يفهم فيها معنى، فكيف يصح القياس فيها؟
قال الزركشي: قال بعضهم المراد بجريانه في الحدود زيادة عقوبة
في الحد لوجود علة تقتضي الزيادة، كزيادة التعزير في حق الشرب، وتبليغه إلى ثمانين قياسًا على حد القذف، أما إنشاء حد بالقياس على حد فلا يجوز بالاتفاق
(1)
.
وذكر الطوفي رحمه الله المذهبين في جريان القياس في الحدود، والكفارات، والمقدرات، وتضمن كلامه رحمه الله ضابط القياس في هذه الأشياء، فقال: جريان القياس في المقدرات، والحدود، والكفارات، كنصب الزكوات، وعدد الصلوات والركعات، وأروش الجنايات ونحوها، وحد الزاني، والقذف والشرب، وسائر الكفارات، هو مذهب أحمد، والشافعي، وابن القصار، والباجي من المالكية، وأكثر الناس، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه.
لنا: ما سبق من أنَّ إجماع الصحابة رضي الله عنهم على القياس من غير فرق، ومن أنا إذا فهمنا مناط الحكم، وأفادنا القياس الظن، قسنا، وإلا فلا
(2)
.
أما الشق الثاني: وهو قياس حد على حد ثابت، أو كفارة، أو المقادير، أو الجوابر، فيجوز على مذهب الشافعي، وعند أصحاب أبي
(1)
البحر المحيط للزركشي (7/ 72).
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 451).
حنيفة لا يجوز
(1)
.
وإليك بعض الأمثلة التي تبين لك أنَّ هذا الأصل للمذهبين لم يكن مطردًا في جميع المسائل:
الأول: إيجاب الكفارة بالإفطار بالأكل في رمضان قياسًا على الإفطار بالجماع.
قال به الحنفية، والمالكية، ومنعه الشافعية، والحنابلة، قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم: اختلافهم في جواز قياس المفطر بالأكل والشرب على المفطر بالجماع، فمن رأى أنَّ شبههما فيه واحد، وهو انتهاك حرمة الصوم جعل حكمهما واحدًا.
ومن رأى أنه وإن كانت الكفارة عقابًا لانتهاك الحرمة، فإنها أشد مناسبة للجماع منها لغيره، وذلك أنَّ العقاب المقصود به الردع قد يوضع لما إليه النفس أميل، وهو لها أغلب من الجنايات، وإن كانت الجناية متقاربة؛ إذ كان المقصود من ذلك التزام الناس الشرائع، وأن يكونوا أخيارًا عدولًا كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة:
(1)
قواطع الأدلة للسمعاني (3/ 896 - 897).
183]، قال: هذه الكفارة المغلظة خاصة بالجماع
(1)
.
ونظير هذه المسألة من جامع ناسيًا لصومه، فالشافعي، وأبو حنيفة يقولان: لا قضاء عليه، ولا كفارة.
وقال مالك: عليه القضاء دون الكفارة.
وقال أحمد وأهل الظاهر: عليه القضاء والكفارة.
وجه القول بعدم إيجاب القضاء والكفارة: القياس على الأكل والشرب ناسيًا الوارد في حديث أبي هريرة مرفوعًا: (إذا نسي فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)
(2)
.
ومن أوجب عليه القضاء فوجهه القياس على من نسي الصلاة.
قال ابن رشد: لكن إيجاب القضاء بالقياس ضعيف
(3)
.
قلت: ومع ذلك فهناك فرق، فالذي نسي الصلاة لم يأت بها أصلًا، فعليه أداؤها إذا ذكرها، أما هنا فهو قد أتى بالصيام، ثم نسيه، فأكل، أو شرب، أو جامع.
(1)
بداية المجتهد (1/ 540).
(2)
أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155).
(3)
المجموع للنووي (6/ 351)، بداية المجتهد لابن رشد (1/ 541 - 542) بتصرف يسير.
لكن يقال: إنَّ إثبات الحنفية للكفارة هنا ليس من باب القياس، وإنما هو من باب تنقيح المناط؛ حيث قالوا: الموجب للكفارة هو مطلق الإفطار، ومذهب الشافعي تقييد هذا المطلق بالجماع.
قال الزركشي: قال بعض الفقهاء: ما أجدر كلًّا من الإمامين أن ينتحل في هذه المسألة مذهب صاحبه. يعني أنَّ قياس القول بالقياس في الكفارات عدم تخصيصها بالوقاع دون سائر المفطرات، وقياس عدم القياس عدم إيجاب الكفارة في غير الوقاع، وهذا القول جهل بمدارك الأئمة، فإنهم وإن أثبتوا بالحديث المأمور به بالكفارة بمطلق الإفطار فهذا المطلق هو المقيد بالجماع
(1)
.
الثاني: أبطل أبو حنيفة قياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد؛ لأن حد الزنا لا يجب إلا بالزنا، فيكون التعليل واقعًا لإثبات الاسم، ولا يجوز إثبات الاسم اللغوي بالقياس.
الثالث: اشتراط الإيمان في الرقبة في كفارة الظهار، وسائر الكفارات، وهذا مذهب الجمهور مالك، والشافعي، وإسحاق، وظاهر مذهب أحمد.
والرواية الثانية عند أحمد، وقول أبي حنيفة عدم الاشتراط فيما عدا
(1)
البحر المحيط (5/ 57).
كفارة القتل.
استدل الجمهور بأنَّ المطلق في كفارة الظهار، وغيرها يحمل على المقيد من جهة القياس إذا وجد المعنى فيه، ولا بد من تقييده، فإنا أجمعنا على أنه لا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضررًا بينًا، فالتقييد بالسلامة من الكفر أولى.
ووجه القول الآخر: أنَّ الله أطلق الرقبة في هذه الكفارة، فوجب أن يجزئ ما تناوله الإطلاق
(1)
.
الرابع: اختلفوا في إيجاب الكفارة في قتل العمد، فأوجبها مالك، والشافعي على قاتل العمد كما في الخطأ.
قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ، فلأن تجب في العمد أولى.
وقال الثوري، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى.
قال ابن المنذر: وكذلك نقول؛ لأن الكفارات عبادات، ولا يجوز التمثيل
(2)
.
(1)
انظر المغني لابن قدامة (11/ 81، 82) ط. هجر.
(2)
تفسير القرطبي (3/ 289) سورة النساء آية (93).
الخامس: اختلفوا في إيجاب الكفارة في اليمين الغموس، فقال الجمهور (مالك وأبو حنيفة وأحمد): ليس في اليمين الغموس كفارة.
وقال الشافعي وجماعة: يجب فيها الكفارة قياسًا على اليمين في المستقبل، ولعموم قوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية، فهي من الأيمان المنعقدة؛ لأنها يمين بالله مقصودة.
واحتج الحنفية بأنَّ اليمين الغموس لا يتناولها اسم اليمين حقيقة، بل يتناولها مجازًا كبيع الحر، فلا تجب كفارة اليمين بما ليست بيمين، ولا يجوز إثبات اسم اليمين - وهو اسم لغوي- بالقياس الشرعي.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة
…
»
(1)
.
وللشافعي أن يستثني من الأيمان الغموس ما لا يقتطع بها حق الغير، أو يقول: إنَّ الأيمان التي يقتطع بها حق الغير قد جمعت الظلم، والحنث، فإن تاب، ورد المظلمة، وكفَّر سقط عنه جميع الإثم
(2)
.
السادس: وهو ما اختلف فيه التأصيل مع التفريع، وهو اختلافهم في
(1)
أخرجه مسلم (137) من حديث أبي أمامة بن ثعلبة البلوي.
(2)
انظر قواطع الأدلة (3/ 902)، بداية المجتهد (1/ 721 - 722) بتصرف.
وجوب الكفارة على المرأة إذا طاوعت زوجها على الجماع.
فأوجب عليها الكفارة أبو حنيفة ومالك وأصحابهما.
وقال الشافعي وداود: لا كفارة عليها.
وسبب اختلافهم: معارضة ظاهر الأثر للقياس، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة في الحديث بكفارة، والقياس أنها مثل الرجل؛ إذ كان كلاهما مكلفًا
(1)
.
لكن هذا الاختلاف بين التأصيل والتفريع له سبب:
قال الكاساني رحمه الله: وأما المرأة، فكذلك يجب عليها عندنا إذا كانت مطاوعة، وللشافعي قولان في قول لا يجب عليها أصلًا، وفي قول يجب عليها ويتحملها الرجل.
وجه قوله الأول: أنَّ وجوب الكفارة عرف نصًّا بخلاف القياس لما نذكر، والنص ورد في الرجل دون المرأة، وكذا ورد بالوجوب بالوطء، وأنه لا يتصور من المرأة؛ فإنها موطوءة، وليست بواطئة، فبقي الحكم فيها على أصل القياس.
ووجه قوله الثاني: أنَّ الكفارة إنما وجبت عليها بسبب فعل الرجل،
(1)
بداية المجتهد لابن رشد (1/ 543) التوفيقية.
فوجب عليه التحمل كثمن ماء الاغتسال.
أما وجه قول الحنفية في إيجاب الكفارة عليها فقال: ولنا أنَّ النص وإن ورد في الرجل، لكنه معلول بمعنى يوجد فيهما، وهو إفساد صوم رمضان بإفطار كامل حرام محض متعمدًا، فتجب الكفارة عليها بدلالة النص، وبه تبين أنه لا سبيل إلى التحمل؛ لأن الكفارة إنما وجبت عليها بفعلها، وهو إفساد الصوم.
ولبيان قول الشافعية أنَّ الكفارة وجبت بالنص على خلاف القياس.
قال الكاساني في مسألة إيجاب الكفارة بالإفطار بالأكل والشرب - وسبقت الإشارة إليها قريبًا-.
قال: وقال الشافعي لا كفارة عليه.
وجه قوله: أنَّ وجوب الكفارة ثبت معدولًا به عن القياس؛ لأن وجوبها لرفع الذنب والتوبة كافية لرفع الذنب، ولأن الكفارة من باب المقادير، والقياس لا يهتدي إلى تعيين المقادير، وإنما عرف وجوبها بالنص، والنص ورد في الجماع، والأكل والشرب ليسا في معناه؛ لأن الجماع أشد حرمة منهما حتى يتعلق به وجوب الحد دونهما، فالنص الوارد في الجماع لا يكون واردًا في الأكل والشرب، فيقتصر على مورد النص.
ولبيان وجه قول الحنفية قال: ولنا أيضًا الاستدلال بالمواقعة، والقياس عليها، أما الاستدلال بها، فهو أنَّ الكفارة في المواقعة وجبت لكونها إفسادًا لصوم رمضان من غير عذر، ولا سفر على ما نطق به الحديث، والأكل والشرب إفساد لصوم رمضان متعمدًا من غير عذر ولا سفر، فكان إيجاب الكفارة هناك إيجابًا ههنا دلالة.
والدليل على أنَّ الوجوب في المواقعة لما ذكرنا وجهان: أحدهما مجمل، والآخر مفسر.
أما المجمل: فالاستدلال بحديث الأعرابي
(1)
.
وأما المفسر: فلأنَّ إفساد صوم رمضان ذنب، ورفع الذنب واجب عقلًا، وشرًعا لكونه قبيحًا، والكفارة تصلح رافعة له؛ لأنها حسنة، وقد جاء الشرع بكون الحسنات من التوبة والإيمان، والأعمال الصالحات رافعة للسيئات، إلا أنَّ الذنوب مختلفة المقادير، وكذا الروافع لها لا يعلم مقاديرها إلا الشارع للأحكام، وهو الله تعالى فمتى ورد الشرع في ذنب خاص بإيجاب رافع خاص، ووجد مثل ذلك الذنب في موضع آخر كان ذلك إيجابًا لذلك الرافع فيه، ويكون الحكم فيه ثابتًا بالنص لا بالتعليل والقياس، والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة.
وجه القياس على المواقعة: هو أنَّ الكفارة هناك وجبت للزجر عن إفساد صوم رمضان صيانة له في الوقت الشريف؛ لأنها تصلح زاجرة، والحاجة مست إلى الزاجر، أما الصلاحية فلأنَّ من تأمل أنه لو أفطر يومًا من رمضان لزمه إعتاق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا لامتنع منه، وأما الحاجة إلى الزجر، فلوجود الداعي الطبعي إلى الأكل والشرب؛ لأن الجوع والعطش يقلل الشهوة، فكانت الحاجة إلى الزجر عن الأكل والشرب أكثر، فكان شرع الزاجر هناك شرعًا ههنا من طريق الأولى.
وعلى هذه الطريقة يمنع عدم جواز إيجاب الكفارة بالقياس؛ لأن الدلائل المقتضية لكون القياس حجة لا يفصل بين الكفارة وغيرها
(1)
.
وإنما أطلت في هذا النقل ليتبين لك قرب المذهبين مَنْ أجاز في الكفارات، ومن لم يجزه، وأنَّ الاختلاف في: هل يفهم من الكفارة معنى يصلح للتعدية أم لا؟
وليتبين أيضًا ما ذكرناه قبل ذلك أنَّ اختلاف التأصيل عن التفريع في المذهب الواحد إنما هو لعلة عنده، كما في هذه المسألة، والله أعلم.
ولذلك قال الطوفي: فكأن النزاع صار في مسألة أخرى، وهو جواز
(1)
بدائع الصنائع للكاساني (2/ 617 - 619) بتصرف.
فهم المعنى في الحدود ونحوها، فنحن نقول: يجوز فهمه في بعض صورها، فيصح القياس عليها إذا تحقق مناط حكم الأصل في الفرع، وهم يقولون: لا يجوز أن يفهم، فلا يصح القياس لتعذر تحقق مناط حكم الأصل في الفرع.
وحينئذ الأشبه ما قلناه؛ إذ جواز فهم المعنى في ذلك لا يلزم منه محال، ولا ينكره عاقل، فإن كان هذا هو محل الخلاف، وإلا عاد النزاع لفظيًّا لاتفاق الفريقين على امتناع القياس في التعبد، وجوازه حيث عقل المعنى، والله تعالى أعلم
(1)
.
السابع: قياس دم الفوات على دم التمتع في الحج:
ففي الموطأ عن مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، أنَّ هبار بن الأسود، جاء يوم النحر، وعمر بن الخطاب ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة. كنا نرى أنَّ هذا اليوم يوم عرفة، فقال عمر: اذهب إلى مكة، فطف أنت، ومن معك، وانحروا هديًا إن كان معكم، ثم احلقوا، أو قصروا، وارجعوا، فإذا كان عام قابل فحجوا وأهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
(2)
.
(1)
شرح مختصر الروضة (3/ 452).
(2)
منقطع: أخرجه مالك (154) من طريق سعيد بن يسار عن هبار بن الأسود وهو لم يدركه كما قال الذهبي وغيره ..
قال مالك: ومن قرن الحج والعمرة، ثم فاته الحج فعليه أن يحج قابلًا، ويقرن بين الحج والعمرة، ويهدي هديين: هديًا لقرانه الحج مع العمرة، وهديًا لما فاته من الحج
(1)
.
قال الباجي في (المنتقى): ويجب عليهم الهدي لأجل الفوات، والتحلل بغير ما أحرموا به، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، وهذا حكم كل من وجب عليه هدي يلزمه إخراجه، فلم يجده، فأما هدي الجزاء، وفدية الأذى فليس بلازم، بل هو مخير بينه، وبين غيره
(2)
.
قال الشنقيطي رحمه الله: فقد قاس عمر بن الخطاب رضي الله عنه دم الفوات على دم التمتع، حيث قال: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. ووجه قياس دم الفوات على دم التمتع، حتى صار بدله من الصوم كبدله، ذكره ابن قدامة قائلًا: إنَّ هدي التمتع، إنما وجب للترفه بترك أحد السفرين، وقضائه النسكين في سفر واحد، فيقاس عليه دم من فاته الحج بجامع أنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه، فصار كالتارك لأحد السفرين.
(1)
الموطأ رقم (860)، كتاب الحج، باب هدي من فاته الحج.
(2)
المنتقى للباجي (2/ 411).
قال الشنقيطي: ويقاس عليه أيضًا: كل دم وجب لترك واجب، كدم القران، وترك الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة، والرمي، والمبيت ليالي منى بها، وطواف الوداع، فالواجب فيه ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام.
الثامن: من أفسد حجه بالجماع، فالواجب فيه بدنة بقول الصحابة المنتشر الذي لم يظهر خلافه، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، كصيام المتعة. كذا قال عبد الله بن عمر
(1)
، وعبد الله بن عباس
(2)
، وعبد الله بن عمرو
(3)
رواه عنهم الأثرم، ولم يظهر في الصحابة خلافهم، فيكون إجماعًا، فيكون بدله مقيسًا على بدل دم المتعة
(4)
.
قال الشنقيطي: وأنَّ مذهب أحمد قياس كل دم وجب بفعل محظور، كاللبس، والطيب، وتقليم الأظافر، ونحو ذلك على فدية
(1)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (13248)، والحاكم (2375) وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعن عبد الله بن عمر، وابن عباس.
(2)
انظر ما قبله.
(3)
انظر ما قبله.
(4)
أضواء البيان (5/ 355)، المغني (5/ 448 - 449) دار هجر.
الأذى.
وقد قدمنا أنَّ قياس تلك الأشياء على فدية الأذى، مجمع عليه من الأئمة الأربعة، إلا أنَّ أبا حنيفة يخصصه بما فعل للعذر، ويوجب الدم دون غيره، فيما فعل من ذلك لا لعذر
(1)
.
فهذا قياس في الكفارات، والمقدرات، والجوابر، لكن يتبين فيه المعنى الجامع، وأيضًا لم يكن ابتداء كفارة، وإنما قياس على كفارة، وجوابر ثابتة، وبدل ثابت عن الذبح في مثل هذه المناسك، فكان أولى من تركه إلى غير بدل، والله أعلم.
التاسع: ومن ذلك: هل هناك أوقاص في زكاة النقدين، أم ما زاد على النصاب يحسب منه زكاة قل أو كثر؟
الجمهور على أنه لا أوقاص في النقدين، خلافًا لزكاة الأنعام؛ فإن فيها أوقاصًا، فما زاد على النصاب لا زكاة فيه حتى يبلغ النصاب الثاني.
مثلًا خمسة من الإبل فيها شاة، فإن كانت ستة فلا زكاة في السادس حتى تبلغ عشرة ففيها شاتان.
أما النقدان فالنصاب مئتا درهم، وفيها ربع العشر، فإن كانت مئتين وخمسة حسب ربع العشر منها جميعًا.
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (5/ 356).
أما أبو حنيفة: فقال بالأوقاص في النقدين قياسًا على الماشية، فإن كانت الفضة مئتي درهم، ففيها خمسة دراهم، ولا زكاة فيما زاد حتى تبلغ أربعين درهمًا فيأخذ منها درهمًا.
وهذا قياس في المقدرات خلافًا لأصله في ذلك.
ولأن الأصل أن يكون بعد كل نصاب عفو نظرًا لأرباب الأموال كما في السوائم؛ ولأن في اعتبار الكسور حرجًا وإنه مدفوع
(1)
.
(1)
انظر بدائع الصنائع للكاساني (2/ 409) بتصرف يسير.
الفصل الخامس:
الاستصحاب
الاستصحاب
الاستصحاب لغة: يقال: استصحب الرجل: دعاه إلى الصحبة. وكل ما لازم شيئًا فقد استصحبه.
وأصحبته الشيء: جعلته له صاحبًا، واستصحبته الكتاب وغيره.
ويقال: استصحبت الكتاب في سفري أو الرقيق، أي جعلته مصاحبًا لي، وكل شيء لازم شيئًا فقد استصحبه
(1)
.
الاستصحاب اصطلاحًا: التمسك بدليل عقلي، أو شرعي لم يظهر عنه ناقل
(2)
.
وقال ابن القيم: الاستصحاب: استفعال من الصحبة.
وهي: استدامة إثبات ما كان ثابتًا، أو نفي ما كان منفيًّا
(3)
.
(1)
لسان العرب (صحب)، المصباح المنير (صحب)، الصحاح للجوهري (صحب)(1/ 162).
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 147)، التحبير للمرداوي (3753).
(3)
إعلام الموقعين لابن القيم (2/ 100).
وعرفه الجرجاني: هو إبقاء ما كان على ما كان عليه لانعدام المغير، وهو الحكم الذي يثبت في الزمان الثاني بناء على الزمان الأول
(1)
.
وعرفه الشوكاني: أنه ما ثبت في الزمان الماضي، فالأصل بقاؤه في الزمان المستقبل
(2)
.
وعرفه الرازي والآمدي: هو التمسك بالحكم الثابت في حال البقاء لعدم الدليل المغير
(3)
.
والمراد عند العلماء من ماهية الاستصحاب: أن الشيء الذي علم وجوده في الماضي، ثم حصل تردد في زواله حكمنا ببقائه استصحابًا لوجوده السابق، وما علم عدمه في الماضي، ثم حصل تردد في وجوده حكمنا باستمرار عدمه استصحابًا لعدمه السابق وعلى هذا:
- من علمت حياته في وقت معين حكمنا باستمرار حياته، حتى يقوم الدليل على وفاته.
- ومن تزوج امرأة على أنها بكر، ثم ادعى الثيوبة بعد الدخول، فلا يقبل قوله بلا بينة استصحابًا لوجود البكارة؛ لأنها هي الأصل منذ
(1)
التعريفات للجرجاني (17).
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 680)، البحر المحيط للزركشي (6/ 17).
(3)
الإحكام للآمدي (3/ 22)
النشأة الأولى.
- ومن اشترى كلبًا على أنه من الكلاب المعلمة التي تحسن تتبع الآثار وتساعد في كشف الجريمة، أو اشتراه على أنه كلب صيد، فادعى فوات الوصف، فالقول قوله إلا إن ثبت خلافه استصحابًا للعدم السابق؛ لأن الأصل عدم هذا الوصف، وإنما يستفاد بالمران والتدريب
(1)
.
وبهذا يتبين لنا ما يعنيه علماء الأصول بهذا النوع من الاستدلال.
مكانته بين الأدلة:
قال الزركشي: قال الخوارزمي: هو آخر مدار الفتوى، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله، فالأصل بقاؤه، وإن كان في ثبوته، فالأصل عدم ثبوته. اه وهو حجة يفزع إليها المجتهد إذا لم يجد في الحادثة حجة خاصة
(2)
.
(1)
الوجيز في أصول الفقه د/ عبد الكريم زيدان. بتصرف يسير (264)، دار التوزيع والنشر الإسلامية القاهرة.
(2)
البحر المحيط للزركشي (6/ 17).
وجعل الطوفي استصحاب الحال الأصل الرابع من الأدلة المتفق عليها بعد الكتاب، والسنة، والإجماع، فقال في أول كتاب الأدلة: الأصول: الكتاب، والسنة، والإجماع، واستصحاب النفي الأصلي
(1)
.
وقال ابن عقيل: استصحاب الحال وهو البقاء على حكم الأصل، فهو أصل من أصول الدين، ودليل من أدلة الشرع ينبني عليها عدة مسائل
(2)
.
*
حجية الاستصحاب:
اختلف أهل العلم فى حجية الاستصحاب على أقوال:
القول الأول: أن الاستصحاب حجة يفزع إليها المجتهد، إذا لم يجد في الحادثة حجة خاصة.
وبه قال الحنابلة، والمالكية، وأكثر الشافعية، والظاهرية سواء كان في النفي أو الإثبات
(3)
، وحكاه ابن الحاجب عن الأكثر
(4)
.
الثاني: أنه ليس بحجة، وإليه ذهب أكثر الحنفية، والمتكلمين كأبي
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 5)، (3/ 147).
(2)
الواضح في أصول الفقه لابن عقيل (2/ 310)، مؤسسة الرسالة.
(3)
البحر المحيط للزركشي (8/ 14).
(4)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 174).
الحسين البصري، وأبي المظفر السمعاني من الشافعية
(1)
.
الثالث: أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله عز وجل، فإنه لم يكلف إلا ما يدخل تحت مقدوره، فإذا لم يجد دليلًا سواه جاز التمسك به، ولا يكون حجة على الخصم عند المناظرة، فإن المجتهدين إذا تناظروا لم ينفع المجتهد قوله لم أجد دليلًا على هذا؛ لأن التمسك بالاستصحاب لا يكون إلا عند عدم الدليل.
الرابع: أنه يصلح حجة للدفع لا للرفع، وإليه ذهب أكثر الحنفية، قال إلكيا الهراسي: ويعبرون عن هذا بأن استصحاب الحال صالح لإبقاء ما كان على ما كان، إحالةً على عدم الدليل، لا لإثبات أمر لم يكن، وقد قدمنا أن هذا قول أكثر المتأخرين من الحنفية.
الخامس: أنه يصلح للترجيح به لا غير، نقله الأستاذ أبو إسحاق عن الشافعي، وقال: إنه الذي يصح عنه، لا أنه يحتج به.
السادس: أن المستصحب إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه صح ذلك، وإن كان غرضه إثبات خلاف قول خصمه، من وجهة يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته، فليس له الاستدلال به.
كمن استدل على إبطال بيع الغائب، ونكاح المحرم، والشغار بأن
(1)
قواطع الأدلة للسمعاني (2/ 806).
الأصل أن لا عقد، فلا يثبت إلا بدلالة صح استدلاله، أما من استدل بالاستصحاب في مسألة الحرام أنه يمين توجب كفارة يمين، فإنه يستدل بأن الأصل أن لا طلاق، ولا ظهار، ولا لعان، فيعارض بالأصل أن لا يمين، ولا كفارة، فيتعارض الاستصحابان فيسقطان، حكى هذا المذهب الأستاذ أبو منصور البغدادي عن بعض أصحاب الشافعي
(1)
.
وذكر بعض أهل العلم أن الاستصحاب من الأدلة المختلف فيها، وذكرهم المذاهب السابقة في حكم الاحتجاج بالاستصحاب بإطلاقه فيه نظر؛ إذ إن بعض أنواعه متفق على وجوب العمل بها، وبعض الأنواع يندرج فيها الخلاف، وبعضها لا يندرج فيها الخلاف.
لذلك قال الزركشي: إذا عرفت هذا؛ فلا بد من تنقيح موضع الخلاف، فإن أكثر الناس يطلقه، ويشتبه عليهم موضع النزاع بغيره، فنقول للاستصحاب صور
(2)
.
•
صور الاستصحاب:
*
الأولى: استصحاب العدم الأصلي أو البراءة الأصلية:
وذلك كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره،
(1)
انظر البحر المحيط (6/ 18 - 20)، وإرشاد الفحول (2/ 680 - 681).
(2)
البحر المحيط (6/ 20).
كنفي صلاة سادسة، أو صوم شهر شوال مثلًا.
ومثاله: لو ادعى شخص على آخر دينًا، وأنكر المدعى عليه، فعلى المدعي الدليل؛ لأن الأصل عدم إشغال ذمة بدين إلا بدليل.
قال أبو الطيب: وهذا حجة بالإجماع أي عند القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع
(1)
، وهو قول أهل السنة خلافًا للمعتزلة.
قال أبو إسحاق الشيرازي: فأما استصحاب حال العقل فهو الرجوع إلى براءة الذمة في الأصل، وذلك طريق يفزع إليه المجتهد عند عدم أدلة الشرع، ولا ينتقل عنها إلا بدليل شرعي ينقله عنه، فإن وجد دليلًا من أدلة الشرع انتقل عنه سواء كان ذلك الدليل نطقًا، أو مفهومًا، أو نصًّا، أو ظاهرًا؛ لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم دليل شرعي، فأي دليل ظهر من جهة الشرع حرم عليه استصحاب الحال بعده
(2)
.
فالعمل بهذا النوع لا يكون إلا بعد البحث والتمعن بأدلة الشرع الأخرى ممن هو أهل لذلك.
ثم إن ابن حزم اعتمد على استصحاب البراءة الأصلية اعتمادًا كبيرًا لإبطال كل قول في الدين، أو مدع لحكم شرعي إذا لم يكن معه دليل
(1)
البحر المحيط للزركشي (6/ 20).
(2)
اللمع للشيرازي (291).
من الشارع بناءً على استصحاب العدم الأصلي الذي يقتضي براءة الذمة من تعلق أي شيء بها إلا بموجب نص شرعي؛ حيث إن الأصل براءة الذمة من لزوم جميع الأشياء إلا ما ألزمنا إياه النص، أو الإجماع، فإن حكم حاكم بخلاف ما قلنا نسخ حكمه.
*
القسم الثاني: استصحاب الحكم الشرعي (استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي) حتى يثبت خلافه:
وذلك كاستصحاب بقاء الملك، وبقاء النكاح، وبقاء شغل الذمة حتى يثبت خلافه، واستصحاب الدليل مع احتمال المعارض، إما تخصيصًا إن كان الدليل ظاهرًا، أو نسخًا إن كان الدليل نصًّا هذا أمر معمول به بالإجماع.
قال ابن حزم: إذا ورد النص من القرآن، أو السنة الثابتة في أمر ما على حكم ما، ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد انتقل، أو بطل من أجل أنه انتقل ذلك الشيء المحكوم فيه عن بعض أحواله، أو لتبدل زمانه، أو لتبدل مكانه، فعلى مدعي انتقال الحكم من أجل ذلك أن يأتي ببرهان من نص قرآن، أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة على أن ذلك الحكم قد انتقل، أو بطل، فإن جاء به صح قوله، وإن لم يأت به فهو مبطل فيما ادعى من ذلك، والفرض على الجميع الثبات على ما جاء به النص ما دام يبقى اسم ذلك الشيء المحكوم فيه عليه؛ لأنه اليقين، والنقلة دعوى
وشرع لم يأذن الله تعالى به، فهما مردودان كاذبان حتى يأتي النص بهما، ويلزم من خالفنا في هذا أن يطلب كل حين تجديد الدليل على لزوم الصلاة والزكاة، وعلى صحة نكاحه مع امرأته، وعلى صحة ملكه لما يملك
(1)
.
قال ابن القيم: ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع، وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذب المسألة أصلين متعارضين
(2)
.
وسيأتي أدلة هذا النوع في أدلة حجية الاستصحاب -إن شاء الله-
ومثاله: الملك عند حصول السبب، وشغل الذمة عند قرض أو إتلاف، فهذا وإن لم يكن حكمًا أصليًّا، فهو حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه.
ومثاله: استصحاب الطهارة، فإن وصف الطهارة إذا ثبت أبيحت الصلاة، فيستصحب هذا الحكم حتى يثبت خلافه، وهو الحدث.
ومثاله: رجل يسكن في شقة مدة طويلة فجاء خمسة رجال يريدون إخراجه من هذه الشقة بحجة أنها شقتهم، فوجوده في الشقة ثبتت بها
(1)
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/ 779، 780) دار الحديث.
(2)
إعلام الموقعين لابن القيم (2/ 102).
الملكية له، فهذا هو الأصل، فلا يخرج منها حتى يأتوا ببينة
(1)
.
*
القسم الثالث: استصحاب الأصل،
ومنه:
أولًا: استصحاب حكم الإباحة الأصلية للأشياء من طعام وشراب، أو حيوان، أو نبات، أو جماد، ولا يوجد دليل على تحريمها؛ لأن الإباحة هي الحكم الأصلي لموجودات الكون، وإنما يحرم منها ما يحرم بدليل الشرع، والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
ولا يتم الامتنان والتسخير إلا إذا كان الانتفاع بهذه المخلوقات مباحًا.
ثانيًا: الأصل في الأشياء الضارة، والخبيثة التحريم؛ لقوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»
(2)
.
(1)
الاستصحاب وأثره في الأحكام الفقهية (251) بحث في مجلة القلم، العدد الثالث يناير/ يونيو (2015 م).
(2)
صحيح بمجموع طرقه: أخرجه ابن ماجه (2341) عن ابن عباس مرفوعاً، وفيه جابر الجعفي ضعيف، وأخرجه مالك (31) عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرسلا وهو مرسل قوي، وأخرجه أحمد (2278) من حديث عبادة بن الصامت وفيه ضعف، وهو صحيح بمجموع طرقه.
ثالثًا: الأصل في الأشياء الطهارة حتى يرد دليل بالنجاسة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»
(1)
.
رابعًا: الأصل في الأبضاع الحرمة، حتى يرد دليل بحل امرأة لرجل بنكاح صحيح، أو ملك يمين، فمن شك في امرأة هل تزوجها أم لا؟ لم يكن له وطؤها استصحابًا لحكم التحريم إلى أن يتحقق، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله»
(2)
، فدل على أن الأصل في هذه الفروج الحرمة.
خامسًا: الأصل في الذبائح الحرمة، فمن وجد شاة مذبوحة في بلد فيها مسلمون ومجوس، فلا تحل له حتى يعلم أنها ذكاة مسلم؛ لأن الأصل فيها الحرمة؛ إذ حل الأكل متوقف على الذكاة الشرعية، فصار حل الأكل مشكوكًا.
بدليل قول النبي لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك وسميت فأمسك وقتل فكُل، وإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا خالط كلابًا، لم يذكر اسم الله عليها، فأمسكن وقتلن فلا تأكل، فإنك لا
(1)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري.
(2)
أخرجه مسلم (1218).
تدري أيها قتل، وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكُل، وإن وقع في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك»
(1)
.
سادسًا: الأصل في النفوس عصمتها للمعصوم، وهو المسلم، أو المعاهد، فلا تستباح نفس إلا بدليل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»
(2)
.
سابعًا: ومن هذه الأصول أيضًا: الأصل في العادات من مآكل، ومشارب، وملابس، وغيرها الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما ورد الدليل بتحريمه، قال الله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
ثامنًا: الأصل في العبادات المنع: أي أنه لا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله؛ لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (5484)، ومسلم (1929) والزيادة الأخيرة له.
(2)
أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه مسلم (1718) من حديث عائشة، وهو عند البخاري (2697) بلفظ «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد» .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في منظومته:
والأصل في مياهنا الطهارة
…
والأرض والثياب والحجارة
والأصل في الأبضاع واللحوم
…
والنفس والأموال للمعصوم
تحريمها حتى يجيء الحل
…
فافهم هداك الله ما يمل
والأصل في عاداتنا الإباحة
…
حتى يجيء صارف الإباحة
وليس مشروعًا من الأمور
…
غيرالذي في شرعنا مذكور
(1)
*
القسم الرابع: استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع:
فإذا ثبت الإجماع في حكم مسألة في حالة معينة، ثم اختلفت هذه الحالة وتغيرت صفتها، فهل يستمر الحكم المجمع عليه، ويستصحب إلى الحالة الثانية أو لا؟
وعرفه الهندي: بأن يحصل الإجماع على حكم في حال، فيتغير الحال، ويقع الاختلاف، فيستصحب حال الإجماع من لم يقل بغير الحال.
مثاله: أجمع أهل العلم على أن المرء إذا فقد الماء له أن يتيمم ويصلي بهذا التيمم، لكن إن وجد الماء بعد شروعه في الصلاة فما الحكم؟ هل يقطع الصلاة ويتوضأ، ويستأنف صلاته، أو يتم صلاته،
(1)
منظومة القواعد الفقهية لفهم النصوص الشرعية للشيخ السعدي.
ويستصحب الحكم السابق - وهو الصحة- المجمع عليه حال عدم رؤيته الماء إلى حال ما بعد الرؤية المتنازع فيه؟ قولان:
الأول: تبطل صلاته ويتوضأ، ويستأنف الصلاة من جديد، وهو قول أبي حنيفة وأحمد.
الثاني: لا تبطل الصلاة، بل يستمر فيها استصحابًا لصحة الصلاة قبل الشروع فيها، وهو قول مالك والشافعي.
ومثاله أيضًا:
جواز بيع أم الولد: حيث انعقد الإجماع على جواز بيع الأمة قبل أن تلد، فهل يستصحب هذا الحكم، فيجوز بيعها بعد أن تلد أم لا؟ قولان:
الأول: أنه لا يجوز بيعها بعد أن تلد، وهو قول الجمهور.
الثاني: يجوز بيعها بعد أن تلد استصحابًا لحكم الإجماع، وهو قول الظاهرية.
ومثاله: أوجب الحنفية والظاهرية الزكاة في الحلي استصحابًا لحكم الذهب قبل أن يصاغ حليًّا
(1)
.
(1)
إرشاد الفحول (2/ 682)، الاستصحاب وأثره في الأحكام الفقهية، مجلة القلم، العدد الثالث (252).
وهذا النوع هو محل الخلاف، فذهب الأكثرون أنه ليس بحجة منهم أبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، والغزالي.
وقال الماوردي، والروياني في كتاب «القضاء»: إنه قول الشافعي، وجمهور العلماء، فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب، بل إن اقتضى القياس، وغيره إلحاقه بما قبل ألحق به، وإلا فلا.
وذهب أبو ثور، وداود الظاهري إلى الاحتجاج به ونقله السمعاني عن المزني، والصيرفي، وابن سريج، وابن خيران من الشافعية، ورجحه الشوكاني قال: لأن المتمسك بالاستصحاب باق على الأصل، قائم في مقام المنع، فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذلك، فمن ادعاه جاء به
(1)
.
ورجح ابن القيم حجية هذا النوع فقال: ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة أن تبدل حال المحل المجمع على حكمه أو لا، كتبدل زمانه ومكانه وشخصه، وتبدل هذه الأمور وتغيرها لا يمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدل، فكذلك تبدل وصفه، وحاله لا يمنع الاستصحاب حتى يقوم دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلًا للحكم مثبتًا لضده كما جعل الدباغ
(1)
القواطع للسمعاني (2/ 799)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/ 682، 683).
ناقلًا لحكم نجاسة الجلد، وتخليل الخمرة ناقلًا للحكم بتحريمها، وحدوث الاحتلام ناقلًا لحكم البراءة الأصلية، وحينئذ فلا يبقى التمسك بالاستصحاب صحيحًا، وأما مجرد النزاع، فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع، والنزاع في رؤية الماء في الصلاة، وحدوث العيب عند المشتري، واستيلاد الأمة لا يوجب رفع ما كان ثابتًا قبل ذلك من الأحكام، فلا يقبل قول المعترض: إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع الحادث. فإن النزاع لا يرفع ما ثبت من الحكم، فلا يمكن للمعترض رفعه إلا أن يقيم دليلًا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلًا على نقل الحكم حينئذ، فيكون معارضًا في الدليل لا قادحًا في الاستصحاب، فتأمله فإنه التحقيق في هذه المسألة
(1)
.
*
القسم الخامس: الاستصحاب المقلوب:
ذكره بعض الأصوليين، وهو حجة عند جماعة من العلماء من المالكية والشافعية، وهو: الاستدلال بثبوت الأمر في الزمن الحاضر على ثبوته في الزمن الماضي لعدم ما يصلح للتغيير من الأول إلى الثاني.
مثل له بعض المالكية بالوقف إذا جهل مصرفه، ووجد على حالة،
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (2/ 106، 107). ط دار ابن الجوزي.
فإنه يجري عليها؛ لأن وجوده على تلك الحالة دليل على أنه كان كذلك في عقد الوقف، ومثل له المحلي بأن يقال في المكيال الموجود كان على عهده صلى الله عليه وسلم باستصحاب الحال في الماضي
(1)
.
وعليه تبنى مسألة: هل في المعادن -سوى النقدين- زكاة كالحديد، والصفر والرصاص، وغيرها؟
فمن قال ليس فيها زكاة - كمالك والشافعي-: استدلوا بأن تلك المعادن لا يؤخذ منها زكاة إلى اليوم فيدل، بالاستصحاب المقلوب أنها كانت كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ما يصلح لتغيير، وهذا بخلاف الركاز، ففيه الخمس بلا نزاع
(2)
.
أدلة حجية الاستصحاب:
الأول: قوله تعالى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] الآية.
ففي هذه الآية استصحاب حكم الإباحة لجميع الأشياء؛ لأنه عدد
(1)
حاشية العطار على جمع الجوامع (2/ 391) ط. الكتب العلمية، أضواء البيان (2/ 143 و 144).
(2)
أضواء البيان (2/ 308) سورة التوبة آية (64) المسألة السادسة.
المحرمات، فيكون ما عداها على الأصل، وعكس الحرمة هو الإباحة.
الثاني: عن عبد الله بن زيد قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال:«لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا»
(1)
.
قال ابن دقيق العيد: والحديث أصل في إعمال الأصل، وطرح الشك، وكأن العلماء متفقون على هذه القاعدة، ولكنهم يختلفون في كيفية استعمالها
(2)
.
ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم باستصحاب حكم الوضوء مع الشك في وجود الناقض حتى يدل الدليل على انتقاضه يقينًا
(3)
.
الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه»
(4)
، وللبيهقي بإسناد صحيح:«البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).
(2)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد (1/ 56) ط. الرسالة.
(3)
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله لعياض السلمي ص (202).
(4)
أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711)، واللفظ له.
(5)
البيهقي في الكبرى (10/ 252).
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأصل براءة ذمة المدعى عليه حتى يثبت شغلها بالبينة الصحيحة، وهذا عمل باستصحاب البراءة الأصلية
(1)
.
الرابع: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم:«فإن خالطها كلاب من غيرها، فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره»
(2)
.
قال ابن القيم: لما كان الأصل في الذبائح التحريم وشك هل وجد الشرط المبيح أم لا بقي الصيد على أصله في التحريم.
الخامس: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان»
(3)
.
قال ابن القيم: لما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمته أَمَرَ الشاك أن
(1)
أصول الفقه الذى لا يسع الفقيه جهله لعياض السلمي ص (202).
(2)
أخرجه البخاري (175، 5483)، ومسلم (1929).
(3)
أخرجه مسلم (571).
يبني على اليقين، ويطرح الشك ولا يعارض هذا رفعه للنكاح المتيقن بقول الأمة السوداء أنها أرضعت الزوجين
(1)
، فإن الأصل في الأبضاع التحريم، وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية، وقد عارض هذا الظاهر ظاهر مثله، أو أقوى منه، وهو الشهادة، فإن تعارضا تساقطا، وبقي أصل التحريم لا معارض له. اه
(2)
.
السادس: أن العقلاء من الخاصة والعامة اتفقوا على أنهم إذا تحققوا وجود الشيء أو عدمه، وله أحكام خاصة به، سوغوا ترتيب تلك الأحكام عليه في المستقبل من زمان ذلك الأمر حتى إن الغائب يراسل أهله، ويراسلونه بناء على العلم بوجودهم ووجوده في الماضي، وينفذ إليهم الأموال وغير ذلك بناء على ما ذكر، ولولا أن الأصل بقاء ما كان على ما كان لما ساغ لهم ذلك
(3)
.
*
أثر الاختلاف في جواز الاحتجاج بالاستصحاب:
الفرع الأول: الوضوء مما يخرج من البدن من غير السبيلين:
ذهب مالك والشافعي إلى أنه لا ينقض بخروج شيء من غير السبيلين عملًا بالاستصحاب؛ لأن الأصل عدم النقض حتى يثبت
(1)
أخرجه البخاري (88، 2052) من حديث عقبة بن الحارث.
(2)
إعلام الموقعين (2/ 101 - 102).
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 150).
الدليل بخلافه، ولم يثبت.
قال المحلي في شرح جمع الجوامع: الخارج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء عندنا استصحابًا لما قبل الخروج من نقائه المجمع عليه.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ما يخرج من البدن من النجاسات ينقض الوضوء، وإن كان خروجه من غير السبيلين
(1)
.
الفرع الثاني: الصلح مع الإنكار:
ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الصلح مع الإنكار باطل، واستدل بأن الأصل براءة الذمة من الحقوق، ولم يقم دليل على شغلها بالدين، فلا يصح الصلح
(2)
.
وذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد رحمهم الله إلى أن الصلح مع الإنكار جائز، واستدلوا بقوله تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، فهو عام يشمل أضرب الصلح الثلاثة: صلح مع الإقرار، وصلح
(1)
بدائع الصنائع للكاساني (1/ 224) دار الكتب العلمية، وحاشية العطار على جمع الجوامع (2/ 391) دار الكتب العلمية.
(2)
تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (173)، مؤسسة الرسالة.
مع السكوت، وصلح مع الإنكار
(1)
.
الفرع الثالث: حكم وجود الماء بعد الشروع في الصلاة للمتيمم:
القول الأول: تبطل صلاته ويتوضأ، ويستأنف الصلاة من جديد، وهو قول أبي حنيفة وأحمد.
القول الثاني: لا تبطل الصلاة، بل يستمر فيها استصحابًا للإجماع على صحة الصلاة قبل الشروع فيها، وهو قول مالك، والشافعي
(2)
.
الفرع الرابع: زكاة الذهب إذا صيغ حليًّا:
انعقد الإجماع على وجوب الزكاة في الذهب قبل أن يصاغ إذا بلغ النصاب، فهل إذا صيغ الذهب حليًّا يستصحب حكم الوجوب أم لا؟
القول الأول: لا تجب فيه الزكاة، وهو قول الجمهور مالك، والشافعي، وأحمد؛ لأن حالة الإجماع تغيرت من ذهب مكنوز إلى حلي مستعمل، كالماشية تتغير من سائمة إلى معلوفة، فلا يستصحب حكم الإجماع.
القول الثاني: تجب فيه الزكاة وهو قول أبي حنيفة، والظاهرية.
(1)
الأم للشافعي (8/ 256) دار الوفاء، البحر المحيط للزركشي (6/ 35) ط. الكويت.
(2)
البحر المحيط للزركشي (6/ 23).
قال ابن حزم: وأما حلي الذهب، فإنه قد أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في الذهب قبل أن يصاغ حليًّا إذا بلغ المقدار الذي ذكرنا، ثم اختلفوا في سقوطها إذا صيغ، فاستصحبنا الحال الذي أجمعنا عليها، ولم يسقط الاختلاف ما قد وجب باليقين، والإجماع
(1)
.
*
بعض القواعد والضوابط الفقهية المبنية على الاستصحاب:
1 -
اليقين لا يزول بالشك.
2 -
الأصل براءة الذمة.
3 -
الأصل بقاء ما كان على ما كان.
4 -
ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه.
5 -
الأصل في الأشياء الإباحة.
6 -
الأصل في الكلام الحقيقة.
7 -
الأصل في الصفات العارضة العدم.
8 -
الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، فمن نام عدة نومات أثناء اليوم، ثم في آخر اليوم اكتشف أنه جنب، ولم يتذكر زمان الجنابة «الاحتلام» ، فإنه يعيد من آخر نومة نامها.
(1)
الإحكام لابن حزم (3/ 159).
9 -
الأصل في المياه الطهارة.
10 -
الأصل في العبادة التوقف.
11 -
الأصل في الذبائح التحريم.
12 -
الأصل في البيع الحل.
13 -
الأصل في الأبضاع التحريم.
14 -
الأصل في الإنسان الحرية.
15 -
الأصل في الإنسان الجهل.
16 -
الأصل في الإنسان الفقر.
17 -
الأصل في المسلم عصمة النفس والدم والمال.
الفصل السادس:
شرع من قبلنا
شرع من قبلنا
وحَدُّه: الأحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى على من كان قبلنا، وقد وردت إلينا بنص صحيح من قرآن، أو سنة، أما في كتبهم فلا يعتمد؛ لأنها حُرِّفت
(1)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة» ، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «الأنبياء إخوة من عَلَّات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي»
(2)
.
قال النووي: قال العلماء: أولاد العلات. بفتح العين المهملة وتشديد اللام هم الإخوة لأب من أمهات شتى، وأما الإخوة من الأبوين فيقال لهم أولاد الأعيان.
(1)
الأساس في أصول الفقه (2/ 333)، تيسير الوصول إلى قواعد الأصول للفوزان (429).
(2)
أخرجه البخاري (3442، 3443)، ومسلم (2365).
قال جمهور العلماء: معنى الحديث: أصل إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة، فإنهم متفقون في أصول التوحيد، وأما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف
(1)
.
*
تحرير محل النزاع:
شرع من قبلنا على أقسام:
1 -
أصول التوحيد، وطاعة الله تعالى، والتحذير من الشرك، وأمور العقائد، والإيمان بالجنة والنار، والنهي عن الفساد والظلم بجميع أشكاله، كل هذه الأمور لا خلاف فيها بين الشرائع، ورسالات الأنبياء.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 116 - 117].
فالعقائد لا تتغير من شريعة إلى أخرى، فهي لازمة لكل أحد؛ لذلك احتج العلماء أن الله خالق لفعل العبد بقوله تعالى حاكيًا عن إبراهيم:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 95 -
(1)
شرح النووي (15/ 128).
96]، ولم يرد المعتزلة هذا بأنه شرع سابق
(1)
.
2 -
ما كان خاصًّا بالأمم السابقة، وقد نسخه الإسلام، فهذا ليس شرعًا لنا بالاتفاق.
كقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام: 146]، أي هذا التضييق إنما فعلناه بهم، وألزمناهم به مجازاة لهم على بغيهم، ومخالفتهم أوامرنا، كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)} [النساء: 160].
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)} [البقرة: 54].
قال سفيان بن عيينة: التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم، وكانت توبة بني إسرائيل القتل.
وقال القرطبي: فلما استحر فيهم القتل، وبلغ سبعين ألفًا عفا الله عنهم، قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما، وإنما رفع الله عنهم القتل؛ لأنهم
(1)
البحر المحيط للزركشي (6/ 471).
أعطوا المجهود في قتل أنفسهم، فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة
(1)
.
ومثل ذلك: تحريم الصيد يوم السبت، وغير ذلك من الأمور التي جاء النص فيها على أنها كانت خاصة بمن قبلنا، فلا يأتي فيها خلاف.
ومن ذلك وضع الأغلال والآصار التي كانت عليهم، كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وفي قوله تعالى:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] قال الله: قد فعلت.
ومن ذلك كان في شريعة سليمان عليه السلام يصنع له الجن التماثيل، كما في قوله تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13].
أما في شريعتنا، فقد ورد النهي عن التماثيل، فعن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه
(1)
تفسير القرطبي (1/ 366) دار الحديث.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته»
(1)
.
قال القرطبي: قال النحاس: قال قوم: عمل الصور جائز لهذه الآية، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح. وقال قوم: قد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها، والتوعد لمن عملها أو اتخذها، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحًا قبله، وكانت الحكمة في ذلك؛ لأنه بعث عليه السلام، والصور تعبد، فكان الأصلح إزالتها.
وقال: فإن قيل: كيف استجاز الصور المنهي عنها؟ قلنا: كان ذلك جائزًا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا، والله أعلم، وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرمًا
(2)
.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»
(3)
.
وكان السجود جائزًا في التحية كما في قصة يوسف عليه السلام ثم نسخ ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يصلح أن يسجد لبشر»
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (969).
(2)
تفسير القرطبي (7/ 558) دار الحديث. لم أقف عليه مسندا.
(3)
أخرجه البخاري (5950)، ومسلم (2109).
(4)
إسناده حسن: أخرجه أحمد (12614)، والنسائي الكبرى (9102) من حديث أنس بن مالك مرفوعاً.
3 -
ما كان في شرع من قبلنا، وجاءت الشريعة بتأييده، والأمر به، فهذا شرع لنا باتفاق.
مثل القصاص كتب على من قبلنا، كما في قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الآية.
وفي شرعنا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية.
وكما في رجم الزاني المحصن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما تجدون في التوراة في شأن الرجم» ، فقالوا: نفضحهم ويجلدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة، يقيها الحجارة
(1)
.
وكذلك الحكم في شريعتنا الرجم للمحصن إذا زنى.
(1)
أخرجه البخاري (3635، 6841)، ومسلم (1699).
4 -
ما وجد في كتبهم أو حكي من أخبارهم ولم يصل إلينا بسند صحيح:
فإن كان من الأحكام، فقد اتفق أهل العلم على أن الموجود بأيديهم من الأحكام والشرائع ممنوع اتباعه، إما لتهمة التحريف، وإما لتحقق النسخ.
وإن كان من باب المواعظ والقصص، فإن جاء في الكتاب والسنة ما يخالفه فهو مردود باتفاق، وإن جاء ما يؤيده فهو مقبول، وإن لم يأت ما يؤيده أو ما يخالفه فلا نصدق ولا نكذب، وقد يحكى على سبيل الموعظة، ولا نجزم بصحة نسبته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله، وكتبه، ورسله، فإن كان حقًّا لم تكذبوهم، وإن كان باطلًا لم تصدقوهم»
(1)
، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي
(1)
أحمد (17225)، أبو داود (3644)، وينظر البخاري (4485).
متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار»
(1)
.
قال الحافظ في الفتح: أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم؛ لأنه كان تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم، والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.
وقال مالك: المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن، أما ما علم كذبه فلا.
وقال الشافعي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم، وهو نظير قوله:«إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» ، ولم يرد الإذن، ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه
(2)
.
5 -
ما جاء به الرسل من الشرائع إلى الأمم السابقة، أو ما ذكر عنهم من أحكام، ونقلت إلينا بخبر صحيح في القرآن أو السنة الصحيحة، ولم
(1)
أخرجه البخاري (3461) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2)
فتح الباري بتصرف (6/ 604 - 605).
يرد في شريعتنا ما يؤيده كحكم لنا، ولا ما ينقضه، أو ينسخه، فهنا هو محل النزاع في هذه المسألة، وهو المراد بشرع من قبلنا، إذا أطلق عند الأصوليين.
وقد اختلف في الاحتجاج به على قولين:
القول الأول: أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو قول أكثر الشافعية، وأكثر الحنفية وطائفة من المتكلمين، وقال ابن القشيري: هو الذي صار إليه الفقهاء، واختاره ابن برهان، وقال إنه قول أصحابهم، واختاره الرازي، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد بن الحسن، واختاره أبو إسحاق الشيرازي في التبصرة، واختاره ابن الحاجب، وقال ابن السمعاني: وقد أومأ إليه الشافعي في بعض كتبه.
قال القرطبي: وذهب إليه معظم أصحابنا يعني المالكية، وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الذي تقتضيه أصول مالك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها التميمي
(1)
.، ورجحه الشنقيطي في مواضع كثيرة من تفسيره.
(1)
الواضح في أصول الفقه لابن عقيل (4/ 173)، شرح تنقيح الفصول للقرافي (233) دار الفكر، البحر المحيط للزركشي (6/ 42، 43)، إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 686).
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 -
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فأمره بالاقتداء بالأنبياء، وذلك بعد ذكر ثمانية عشر نبيًّا، وذلك يقتضي أن شرعهم شرع لنا قطعًا.
و رد: بأن المراد الهدى المشترك، وهو التوحيد، لاختلاف شرائعهم، والعقل هادٍ إليه، ثم أمر باتباعه بأمر محدد لا بالاقتداء.
وأجيب: بأن الشريعة من الهدى وهو عام؛ لأنه اسم جنس أضيف، وقد أمر بالاقتداء، وإنما بالناسخ كشريعة واحدة.
عن العوام قال: سألت مجاهدًا، عن سجدة في «ص» ، فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟ فقال: أوما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فكان داود ممن أُمِر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
2 -
قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
(1)
أخرجه البخاري (4807).
و «ما» عامة في جملة ما وصى به نوحًا، ووصى به إبراهيم، وموسى، وعيسى، وهي تدل على أن الشرعين سواء في وجوب العمل وهو المراد.
3 -
قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل: 123]، أمره باتباع ملة إبراهيم، وهي من شرع ما قبلنا.
وقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].
ورد أيضًا: بأن المراد التوحيد؛ لأن الفروع ليست ملة، ولهذا لم يبحث عنها.
وأجيب: بأن الفروع من الملة تبعًا كملة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنها دينه عند عامة المفسرين، والتوحيد لا يختص بإبراهيم، بل هو اعتقاد كل نبي قبله.
قال ابن الجوزي: ملته: دينه، وفيما أمر باتباعه من ذلك قولان:
أحدهما: أنه أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه، وهذا هو الظاهر.
والثاني: اتباعه في التبرؤ من الأوثان، والتدين بالإسلام، قاله أبو
جعفر الطبري
(1)
.
قال البغوي: قال أهل الأصول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورًا بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ في شريعته، وما لم ينسخ صار شرعًا
(2)
.
ثم أمره سبحانه بالإخبار بذلك بقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161]، وذلك يدل على أنه متعبد بشرع من قبله.
4 -
وقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] المراد من بعد موسى، ودلالة الآية من وجهين:
الأول: أنه جعلها مستندًا للمسلمين في الحكم، وهي نص في المسألة.
(1)
زاد المسير لابن الجوزي، سورة النحل (123).
(2)
معالم التنزيل للبغوي (5/ 51) دار طيبة.
الثاني: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]، وهو عام في المسلمين وغيرهم.
5 -
حديث أنس، أن الربيِّع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوا إلا القصاص فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتُكسَر ثنية الربيِّع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أنس، كتاب الله القصاص» ، فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره»
(1)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كتاب الله القصاص» ، وإنما القصاص في السن حكاه الله في القرآن عن التوراة في قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، فاستدل النبي صلى الله عليه وسلم بالآية.
وأجيب: بأنه قد يكون أوحى إليه القصاص في السن، وسمى ذلك في كتاب الله كما في قصة العسيف:«لأقضين بينكما بكتاب الله» ، وذكر
(1)
أخرجه البخاري (2703، 4500)، ومسلم (1675).
الجلد، والتغريب، وذكر الرجم للمرأة
(1)
.
وأيضًا: قد يكون الحكم من عموم قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] على قراءة الرفع على الابتداء، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، والكسائي
(2)
.
وأجيب: بأنه لا مانع من ذلك، ويكون من باب تظاهر الأدلة، فيكون الدليل السنة، وقراءة «الجروح» بالرفع، وشرع من قبلنا.
6 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الفجر، قال صلى الله عليه وسلم:«من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها» فإن الله قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]، قال يونس: وكان ابن شهاب يقرؤها: «للذِّكرى»
(3)
.
فاستدل صلى الله عليه وسلم على وجوب قضاء المنسية عند ذكرها بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)}
(1)
أخرجه البخاري (2695)، ومسلم (1697) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.
(2)
الكشف عن وجوه القراءات السبع، مكي بن طالب (1/ 409).
(3)
أخرجه مسلم (680)، وأخرج البخاري (597)، ومسلم (684) من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» {وأقم الصلاة لذكري} .
[طه: 14]، وإنما الخطاب فيها لموسى عليه السلام على ما دل عليه سياق القرآن
(1)
.
7 -
قال ابن عقيل: ومنها: أن الله سبحانه حكى لنا في كتابنا أحكامًا من الكتب الأولى، ولا يفيد ذكره لها إلا تعبدنا بها، فأما أن يوردها لنخالفها فلا، أو يذكرها لا لفائدة، فلا يجوز أيضًا، لم يبق إلا أنه ذكرها لنعمل بها، ونتمسك بالعمل بها إلى أن تقوم دلالة النقل عنها بالنسخ لها، فأما مع الاحتمال، وعدم نص يوجب النسخ لها فيجب أن نكون باقين على حكم الأصل، ونحرره قياسًا، فنقول: إنه حكم ثبت بطريق يثبت بمثله، فلا يرفع إلا بنص ينافيه كالآيتين من كتابنا، والخبرين المرويين عن رسولنا صلى الله عليه وسلم
(2)
.
قال الشنقيطي رحمه الله في سورة المائدة في مسألة قتل الرجل بالمرأة في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
السؤال الأول: ما وجه الاستدلال بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الآية، مع أنه حكاية عن قوم موسى، والله تعالى يقول:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 171، 172).
(2)
الواضح لابن عقيل (4/ 180).
48].
الجواب: أن التحقيق الذي عليه الجمهور، ودلت عليه نصوص الشرع، أن كل ما ذكر لنا في كتابنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، مما كان شرعًا لمن قبلنا أنه يكون شرعًا لنا، من حيث إنه وارد في كتابنا، أو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لا من حيث إنه كان شرعًا لمن قبلنا؛ لأنه ما قص علينا في شرعنا إلا لنعتبر به، ونعمل بما تضمن
(1)
.
8 -
ومنها: أن الشرع للنبي الأول جاء بلفظ مطلق، فاقتضى بقاؤه على الدوام، ما لم يصرح وينص على رفعه، وأن التمسك به مفسدة، والذي يوضح ذلك: أن نفس بعثة الرسول الثاني لا يجوز أن تكون مغيرةً حكم الرسول الأول، وإنما الذي يغير الشريعة الأولى، أو ينسخها تصريح في الشريعة الثانية بترك الأولى
(2)
.
قلت: ويؤيد هذا الأخير قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
وقوله تعالى {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (2/ 44) دار الحديث، سورة المائدة آية (32).
(2)
الواضح في أصول الفقه لابن عقيل (4/ 181) ط. الرسالة.
مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)} [المائدة: 46].
وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].
قال أبو زيد: والصحيح هذا المذهب، وهو أنه كان متعبدًا بشرع من قبله، إلا أن بقاء ذلك الشرع لا يثبت بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا بحكايته أنها ثابتة؛ لأن الله تعالى أنبأنا أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وخانوا في النقل فصاروا مردودي الشهادة؛ ولأن عداوة الدين كانت ظاهرة منهم، واتهموا بالحيل، واللبس فيما يظهرون من شر لبعض، فلم يصر كلامهم حجة علينا إلا ما نقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا أنها ثابتة بوحي متلو، وغير متلو
(1)
.
القول الثاني: أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا.
قال السمعاني: وقد ذهب إلى هذا جماعة من أصحابنا، وأكثر المتكلمين، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة.
وهو آخر قولي الشيخ أبي إسحاق كما قال في «اللمع» ، واختاره
(1)
قواطع الأدلة (2/ 484، 485).
الغزالي في آخر عمره، وقال ابن السمعاني إنه: المذهب الصحيح.
وقال: إن العقل لا يحيل إيجاب اتباع شريعة من قبلنا، غير أنه قد ثبت شرعًا أنا غير متعبدين بشيء من أحكام الشرائع المتقدمة، واختاره الرازي والآمدي.
وهو قول ابن حزم، قال في الإحكام: والصحيح أنه لا يحل الحكم بشيء منها في الدين، وهي سبعة أشياء: شرائع الأنبياء السالفين قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،
…
إلخ
(1)
.
وهو قول جمهور المعتزلة، واستدلوا بالأدلة التالية:
1 -
قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود
…
الحديث»
(2)
.
والشرعة: الشريعة، والمنهاج: الطريق، فدل على أنه لا يتبع الثاني الأول؛ لأن الشريعة لا تضاف إلا إلى من يخص بها، فأما التابع، فلا
(1)
انظر اللمع للشيرازي (179)، والإحكام لابن حزم (4/ 947) دار الحديث، القواطع للسمعاني (2/ 483)، البحر المحيط للزركشي (6/ 41).
(2)
أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521)، واللفظ له.
يكون له شرعة تخصه فتفيد الآية، والحديث اختصاص كل من الرسل بشريعة.
وأجيب عن هذا الاستدلال: بأنه لا تخلو شريعة ثانية من مخالفة لما قبلها بنوع نسخ لبعض فروعها، من تحريم مباح، أو إباحة محظور، أو إسقاط واجب؛ فلأجل ذلك الخلاف خصها باسم «شرعة» ، وأضافها إلى من شرعت له، كما يقول القائل: لكل فقيه مذهب، وإن اتفقوا في بعض المذاهب، واختلفوا في بعض، ولا تمنع مشاركتهم في بعض الشريعة من كون كل منهم له شريعة، كما أن مشاركتهم في التوحيد لا تمنع عندهم انفراد كل منهم بشريعة
(1)
.
ويمكن أن يجاب عن هذا، فيقال: إن هذه الآية تقتضي تفرد كل واحد من الأنبياء بشرعة ومنهاج إلا ما قام عليه الدليل
(2)
.
وأجيب أيضًا: أن اشتراك الشريعتين في بعض الأحكام لا ينفي اختصاص كل نبي بشريعة اعتبارًا بالأكثر
(3)
.
وقال الشنقيطي: قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}
(1)
الواضح لابن عقيل (4/ 183).
(2)
قواطع الأدلة للسمعاني (2/ 486).
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 177).
[المائدة: 48] لا يخالف ما ذكرنا -أي شرع ما قبلنا شرع لنا-؛ لأن المراد أن بعض الشرائع تنسخ فيها أحكام كانت مشروعة قبل ذلك، ويجدد فيها تشريع أحكام لم تكن مشروعة قبل ذلك
(1)
.
2 -
حديث جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب، فقال:«أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء، فيخبروكم بحق، فتكذبوا به، أو بباطل، فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني»
(2)
.
قالوا: فهذا دليل على أن الشرائع من قبل انتهت ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم.
والجواب: أن هذا الحديث فيما هو موجود في كتبهم، وصحائفهم، ولا يؤمن عليهم التحريف، والتبديل، وهذا خارج محل النزاع، إنما النزاع فيما أخبرنا الله عنهم من أخبارهم، وأحكامهم في القرآن، أو السنة الصحيحة، فضلًا عن ضعف الأثر المذكور عند البعض.
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (2/ 49).
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (15156)، وابن أبي شيبة (26421) ومداره على مجالد بن سعيد وهو ضعيف.
3 -
قالوا: لو كان شرعًا لنا، للزم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته تعلم كتبهم، والبحث عنها، والرجوع إليها عند تعذر النص في شرعه على حادثة ما، لكن ذلك لا يلزم بالإجماع، فلا يكون شرعهم شرعًا لنا.
4 -
لو كان شرعًا لنا، لما توقف النبي صلى الله عليه وسلم في الظهار واللعان والمواريث ونحوها من الأحكام على الوحي، لكن ثبت أنه توقف في الأحكام على الوحي، فدل على أن شرعهم ليس شرعًا لنا.
والجواب عن هذا: بأن كتبهم مزقت، فلم تنقل إلينا نقلًا موثوقًا به، فلذلك لم يطلب أحكام الوقائع العارضة له فيها، وكما سبق أن هذا خارج محل النزاع.
والكلام فيما صح عندنا من أحكامهم في القرآن أو السنة
(1)
.
وهذه المسألة لها صلة وثيقة بمسألة الإقرارات القرآنية، بل قد تكون مسألة الإقرارات القرآنية هي الفاصل في مسألة شرع من قبلنا:
والإقرارات القرآنية: سكوت عن قول يقال، أو شيء يفعل دون إنكاره
(2)
.
وإنما يفهم من تصرفات الشرع في شرع الأحكام أنه لو كان حرامًا
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 175 - 177).
(2)
الأساس في أصول الفقه. د. محمود عبد الرحمن (2/ 339).
لم يسكت عنه.
وقد وجدت له تسمية في بعض كتب الحنفية باسم بيان الحال.
قال الشاشي: وأما بيان الحال فمثاله: فيما إذا رأى صاحب الشرع أمرًا معاينة، فلم ينه عن ذلك كان سكوته بمنزلة البيان أنه مشروع.
وقال: فالحاصل أن السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بمنزلة البيان
(1)
.
قال في دستور العلماء: وأما بيان الحال: فهو الذي يكون بدلالة حال المتكلم كالسكوت، وغيره كما إذا قال أحد قولًا أو فعل فعلًا، مثل المعاملات التي فيما بينهم، فلم ينه عن ذلك، بل أقرهم، وسكت، أو حمدهم، وحسنهم فيدل سكوته مثلًا على أنها مباح في الشرع؛ إذ لا يتهم على الشارع الإقرار، والإصرار، والتحسين، والتحميد، على محذور منكور
(2)
.
وذلك كحديث الصحيحين، عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نعزل على
(1)
أصول الشاشي (165 - 166) دار الكتب العلمية.
(2)
دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون للقاضي عبد النبي الأحمد (1/ 176).
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل
(1)
.
وعند مسلم زاد إسحاق قال سفيان: لو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن
(2)
.
وإما أن يحكي القرآن قولًا أو فعلًا، ثم يسكت عن إنكاره، فأما القول فعرف بالاستقراء أنه لا يحكى ويكون باطلًا، ويسكت عنه
(3)
.
قال الشاطبي رحمه الله: كل حكاية وقعت في القرآن، فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها- وهو الأكثر- ردٌّ لها، أو لا، فإن وقع ردٌّ، فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها ردٌّ؛ فذلك دليل صحة المحكي وصدقه.
أما الأول: فظاهر، ولا يحتاج إلى برهان، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:{إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فأعقب بقوله:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] الآية.
وقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] الآية، فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله:
(1)
أخرجه البخاري (5209)، ومسلم (1440).
(2)
أخرجه مسلم (1440).
(3)
الأساس في أصول الفقه (2/ 340).
{بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136]، وبقوله:{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)} [الأنعام: 136]، ثم قال:{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] إلى تمامه، ورد بقوله:{سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)} [الأنعام: 138]، ثم قال:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ} [الأنعام: 139] الآية، فنبه على فساده بقوله:{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] زيادة على ذلك.
وقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4]، فرد عليهم بقوله:{فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)} [الفرقان: 4]، ثم قال:{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 8]، ثم قال تعالى بعدها:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الإسراء: 48].
وقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116]، ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن، قال:{سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} [البقرة: 116]، وقال:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} [الأنبياء: 26]، وقوله:{سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68] الآية.
وقال عن اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، فرد
عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64] إلى آخره، وأشباه ذلك.
ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر.
وأما الثاني فظاهر أيضًا، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها، فإن القرآن سُمِّي فرقانًا، وهدى، وبرهانًا، وبيانًا، وتبيانًا لكل شيء، وهو حجة الله على الخلق على الجملة، والتفصيل، والإطلاق، والعموم، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق، ثم لا ينبه عليه.
وأيضًا، فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم، ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه، فهو حق يجعل عمدة عند طائفة في شريعتنا، ويمنعه قوم، لا من جهة قدح فيه، ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك، فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا، ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط، ولو نبه على أمر فيه؛ لكان في حكم التنبيه على الأول، كقوله تعالى:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75] الآية.
وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41] الآية.
وكذلك قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ
وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46]؛ فصار هذا من النمط الأول.
ومن أمثلة هذا القسم - وهو ما يحكى من شرائع الأولين-: جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقًّا؛ كحكايته عن الأنبياء والأولياء، ومنه قصة ذي القرنين، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام، وقصة أصحاب الكهف، وأشباه ذلك.
قال الشاطبي: ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار، فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع، بقوله تعالى:{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر: 43 - 44] الآية؛ إذ لو كان قولهم باطلًا لرد عند حكايته
(1)
.
فسكوت القرآن عن الرد على قولهم دليل على صحته، وإذا كان قولهم صحيحًا فهم مخاطبون بفروع الشريعة، لكونهم يعذبون عليها عذابًا زائدًا على عذاب أصل الكفر
(2)
.
واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]،
(1)
الموافقات للشاطبي (3/ 299 - 300).
(2)
الأساس في أصول الفقه (2/ 342).
وأنهم: {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، أعقب ذلك بقوله:{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22]؛ أي: ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئًا، ولما حكى قولهم:{سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]؛ لم يتبعه بإبطال، بل قال:{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22]؛ دل المساق على صحته دون القولين الأولين.
وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم
(1)
.
ورأيت منقولًا عن سهل بن عبد الله التستري أنه سئل عن قول إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]؛ فقيل له: أكان شاكًا حين سأل ربه أن يريه آية؟ فقال: لا، إنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان، ألا تراه قال:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة: 260]، فلو عمل شكًّا منه لأظهر ذلك؛ فصح أن الطمأنينة كانت على
(1)
صحيح بمجموع طرقه: أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1557) من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ورواية سماك عن عكرمة ضعيفة، وأخرجه الطبراني في الأوسط (6113) من طريق الضحاك عن ابن عباس، وهو لم يسمع منه، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (1/ 151) من طريق قتادة عن ابن عباس، وهو لم يسمع منه، فيصح بمجموع هذه الطرق.
معنى الزيادة في الإيمان.
بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14]، فإن الله تعالى رد عليهم بقوله:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها، وما هو منها حق مما هو باطل.
ولما كان القرآن عدلًا كله، وصدقًا كله كان رده لغير الصواب، وإنكاره للمنكر المحكي على قدر ما فيه من الخلل والخطأ، فإذا كان الخطأ ناشئًا من عدم الصدق كذَّب القول، وإذا كان ناشئًا من سوء الاستدلال مع صحة القول في ذاته نبه على ذلك، فيسكت عن الصواب، ويرد الخطأ، وهو منهج دقيق، ومسلك عدل ينبغي على أتباع القرآن أن يتوخوه في فهمهم للقرآن، وتناولهم للقضايا، والقائلين بها من غير مجازفة في تخطئة أو تصويب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى عن المنافقين:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقون: 1]، فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل، فظاهرها حق، وباطنها كذب من حيث كان إخبارًا عن المعتقد، وهو غير مطابق، فقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] تصحيحًا لظاهر القول، وقال:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقون: 1] إبطالًا لما قصروا فيه.
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، فهذا منه امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء، فرد عليهم بقوله:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} [يس: 47]-على أحد وجهي التفسير-؛ لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر، وجواب أنفقوا أن يقال: نعم أو لا. وهو الامتثال أو العصيان فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا؛ إذ حاصله أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة؛ لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق، فكأنهم قالوا: كيف يشاء الطلب منا، ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم؟ وهذا عين الضلال في نفس الحجة.
وقال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79].
فقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام، لكن لما
كان المجتهد معذورًا مأجورًا بعد بذله الوسع قال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه
(1)
.
أمثلة على الاستدلال بشرع من قبلنا:
1 -
استدل محمد بن الحسن الشيباني على إجازة المهايأة بقصة صالح عليه السلام، وقومه في شرب الناقة:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)} [الشعراء: 155].
قال الكيا الهراسي: قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)} [القمر: 28] يدل على جواز المهايأة على الماء
(2)
. والمهايأة: الأمر المتوافق عليه، وهو قسمة المنافع على التعاقب، والتناوب
(3)
.
2 -
استدلوا على صحة الضمان، والجعالة بقوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72]، فكان الحمل بمعنى الجعالة لمن ينادي في العير
(1)
الموافقات للشاطبي (3/ 299 - 304) بتصرف، والأساس في أصول الفقه د. محمود عبد الرحمن (2/ 339 - 345) بتصرف.
(2)
أحكام القرآن. للكيا الهراسي (4/ 395).
(3)
التعريفات للجرجاني (1/ 686).
بالصواع.
3 -
الاستدلال على أن من حلف ليضربن عبده مائة سوط، فضربه بالعثكال: أنه يبرأ لقصة أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44].
قال الزركشي: اتفق العلماء على أن هذه الآية معمول بها في ملتنا، والسبب أن الملل لا تختلف في موجب الألفاظ، وفيما يقع برًّا وحنثًا
(1)
، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب المريض الذي وقع على الجارية ضربة واحدة بمئة شمراخ
(2)
.
4 -
الاستدلال على عدم تضمين الراعي إذا زكى الشاة المشرفة على الهلاك بالقياس على خرق الخضر السفينة لينتفع بها أهلها مرقوعة
(3)
.
(1)
البحر المحيط (6/ 43).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (4472)، وابن الجارود (817)، وابن ماجه (2574)، وغيرهم من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي مرفوعاً.
(3)
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله لعياض السلمي (192)، وانظر فتاوى شيخ الإسلام بذلك في مجموع الفتاوى (30/ 253).
5 -
قوله تعالى: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] يؤخذ منها عدم قص الرؤيا، وهو أصلٌ في جواز ترك إظهار النعمة، وكتمانها عند من يخشى حسده وكيده
(1)
.
6 -
النكاح على الإجارة: أي هل يصح أن يكون الصداق إجارة؟
قال ابن رشد: في المذهب «مالك» ثلاثة أقوال: قول بالإجازة، وقول بالمنع، وقول بالكراهة: والمشهور عن مالك الكراهة، ولذلك رأى فسخه قبل الدخول، وأجازه من أصحابه أصبغ، وسحنون، وهو قول الشافعي، ومنعه ابن القاسم، وأبو حنيفة إلا في العبد فإن أبا حنيفة أجازه.
وسبب اختلافهم أمران:
أحدهما: هل شرع من قبلنا لازم لنا حتى يدل الدليل على ارتفاعه، أم الأمر بالعكس، فمن قال هو لازم أجازه؛ لقوله تعالى:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] الآية، ومن قال ليس بلازم قال: لا يجوز النكاح بالإجارة
…
إلخ
(2)
.
(1)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 216).
(2)
بداية المجتهد لابن رشد (2/ 52 - 53) ط. التوفيقية.
7 -
من ذلك أيضًا: قول المالكية وغيرهم: إن القرينة الجازمة ربما قامت مقام البينة مستدلين على ذلك بجعل شاهد يوسف شق قميصه من دبر قرينة على صدقه، وكذب المرأة، في قوله تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} [يوسف: 26 - 28]، فذكره تعالى لهذا مقررًا له يدل على جواز العمل به، ومن هنا أوجب مالك حد الخمر على من استنكه، فشم في فيه ريح الخمر؛ لأن ريحها في فيه قرينة على شربه إياها.
8 -
وأخذ المالكية وغيرهم إبطال القرينة بقرينة أقوى منها من أن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب، جعلوا على قميصه دم سخلة، ليكون الدم على قميصه قرينة على صدقهم في أنه أكله الذئب، فأبطلها يعقوب بقرينة أقوى منها، وهي عدم شق القميص، كما بينه تعالى بقوله:{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} [يوسف: 18]
(1)
.
(1)
أضواء البيان (2/ 48، 49)، سورة المائدة، آية (32) بتصرف، وقد ذكر أمثلة أخرى أخذ الفقهاء حكمها من شرع من قبلنا فانظره، ط. دار الحديث.
9 -
قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب: فيمن حلفت بنحر ولدها، عليها كبش تذبحه، وتتصدق بلحمه، قال تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107]
(1)
.
10 -
استدل الإمام أحمد في القول بالقرعة بقصة زكريا، والاقتراع في كفالة مريم، وذي النون حيث ساهم
(2)
.
قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44].
قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 141]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه
(3)
.
11 -
استدل بعضهم على صحة بيع الفضولي إذا كان في مصلحة المالك بحديث أصحاب الغار
(4)
، فإن فيه تصرف الرجل في مال الأجير بغير إذنه، ولكنه لما ثمره له، ونماه، وأعطاه، أخذه، ورضي.
(1)
العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الفراء (3/ 753)، وانظر المسألة في بداية المجتهد (1/ 749)، ط. دار الحديث.
(2)
الواضح في أصول الفقه لابن عقيل (4/ 173).
(3)
أخرجه البخاري (2593)، ومسلم (2770) من حديث عائشة.
(4)
أخرجه البخاري (2215)، ومسلم (2743) من حديث عبد الله بن عمر.
وساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح، والثناء على فاعله، وأقره على ذلك، ولو كان لا يجوز لبينه، فبهذا الطريق يصح الاستدلال به لا بمجرد كونه شرع من قبلنا
(1)
.
12 -
جواز استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك من قصة سليمان عليه السلام في حكمه مع المرأتين كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا. يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى
(2)
.
قال القرطبي: وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة، وممارسة أحوال الخلق، وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية، وتوسمات نورية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
(3)
.
(1)
فتح الباري لابن حجر (4/ 500).
(2)
أخرجه البخاري (3427، 6769)، ومسلم (1720).
(3)
تفسير القرطبي (6/ 283 - 284) سورة الأنبياء (78، 79).
وفي قصة يوسف عليه السلام قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)} [يوسف: 76]، قال ابن العربي في أحكام القرآن: فيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل؛ إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلًا
(1)
.
وقال الكيا الطبري: قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] دليل على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه من الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق
(2)
.
13 -
قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 36 - 39]، قال ابن كثير رحمه الله: ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى، فقال:{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} [النجم: 38] إلى قوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] قال: ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله، ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا
(1)
أحكام القرآن لابن العربي (3/ 69).
(2)
تفسير القرطبي (5/ 196) دار الحديث، أحكام القرآن للجصاص (4/ 392) دار إحياء التراث.
لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص، ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما
(1)
.
*
مسألة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدًا بشرع من قبله قبل نبوته؟
مذهب مالك وأصحابه: أنه لم يكن متعبدًا بشرع من قبله قبل نبوته، وقال آخرون: كان متعبدًا بشرع من قبله.
قال القرافي: المختار أنه كان متعبِّدًا - بكسر الباء على أنه اسم فاعل-، ومعناه: أنه صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى ما عليه الناس فيجدهم على طريقةٍ لا تليق بصانع العالم، فكان يخرج إلى غار حراء يتحنث أي: يتعبد، ويقترح أشياء لقربها من المناسب في اعتقاده، ولم يكن يسافر ولا يخالط أهل الكتاب حتى يطلع على أحوالهم، فيبعد مع هذا غاية البعد أن يعبد الله تعالى بتلك الشرائع؛ ولأنه لو كان يتعبد بذلك لكان يراجع علماء تلك الشرائع، ولو وقع ذلك لاشتهر
(2)
.
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 260) سورة النجم.
(2)
البحر المحيط (8/ 40).
قال المازري والإبياري في «شرح البرهان» وإمام الحرمين: هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة في الأصول، ولا في الفروع البتة، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة، ولا يترتب عليها حكم في الشريعة البتة، وكذلك قاله التبريزي
(1)
.
قال الشوكاني: وهذا صحيح، فإنه لا يتعلق بذلك فائدة، باعتبار هذه الأمة، ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تبعد بها، وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته.
وأقرب هذه الأقوال: قول من قال: إنه كان متعبدًا بشريعة إبراهيم عليه السلام
(2)
.
وقال الدكتور محمد سليمان الأشقر: وقد نقل أصحاب السير وأصحاب السنن كثيرًا من أفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وليس المراد بنقولهم هذه أن تكون موضعًا لاستنباط الأحكام الشرعية، والاقتداء بما قال أو فعل، وإنما كان مرادهم أن ينقلوا ما يستدل به على أحواله التي تنفع في المعرفة بنبوته، وصدقه
(3)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: فهذه الأمور ينتفع بها في دلائل النبوة كثيرًا؛
(1)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (231 - 233) بتصرف.
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 685).
(3)
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم للأشقر (2/ 138، 139).
ولهذا يذكر مثل ذلك من كتب سيرته كما يذكر فيها نسبه وأقاربه، وغير ذلك بما يعلم أحواله، وكتب الحديث هي ما كان بعد النبوة أخص، وإن كان فيها أمور جرت قبل النبوة، فإن تلك لا تذكر لتؤخذ، وتشرع فعله قبل النبوة، بل قد أجمع المسلمون على أن الذي فرض على عباده الإيمان به، والعمل هو ما جاء به بعد النبوة.
ولهذا كان عندهم من ترك الجمعة والجماعة، وتخلى في الغيران، والجبال حيث لا جمعة، ولا جماعة، وزعم أنه يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم لكونه كان متحنثًا في غار حراء قبل النبوة في ترك ما شرع له من العبادات الشرعية التي أمر الله بها رسوله، واقتدى بما كان يفعل قبل النبوة كان مخطئًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكرمه الله بالنبوة لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء، أو نحو ذلك
(1)
.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان مصونًا عما يستقبح قبل البعثة وبعدها، بل تميز بمكارم الأخلاق قبل البعثة وبعدها، كما قالت خديجة رضي الله عنها: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها، ولم يذكر فيه إلا حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة، وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (18/ 10).
ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة، قال: فحله، فجعله على منكبيه، فسقط مغشيًّا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانًا صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وروى أبو داود في سننه، في كتاب الأدب: قول السائب بن يزيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي فنعم الشريك كنت لا تداري، ولا تماري
(2)
.
أما ما يذكر في أنه اشترك في حرب الفجار، وأنه كان يجهز النبل لأعمامه، فلم يرد بذلك سند صحيح
(3)
.
وقيل: لم يقاتل صلى الله عليه وسلم في فجار البراض، وعليه اقتصر في الوفاء، أي لم يرم فيه بأسهم، بل قال: كنت أنبل على أعمامي، أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموه
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (364)، ومسلم (340).
(2)
أخرجه أبو داود (4836)، أحمد (15502)، ابن ماجه (2287).
(3)
الطبقات لابن سعد (1/ 104 - 106) وينظر ما شاع ولم يثبت في السيرة، لمحمد بن عبد الله العوشن (16)
(4)
السيرة الحلبية للحلبي (1/ 185، 186).
الفصل السابع:
قول الصحابي
قول الصحابي
*
تعريف الصحابي:
اختلف العلماء في تعريف الصحابي على أقوال متباينة منها:
الأول: هو كل مسلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولو لحظة، وعقل عنه شيئًا؛ فهو صحابي، سواء كان ذلك قليلًا أو كثيرًا، ومات على ذلك.
قال البخاري في صحيحه: ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو رآه من المسلمين، فهو من أصحابه.
قال الحافظ: والذي جزم به البخاري هو قول أحمد والجمهور من المحدثين، وقول البخاري: من المسلمين. قيد يخرج به من صحبه، أو من رآه من الكفار، فأما من أسلم بعد موته منهم، فإن كان قوله: من المسلمين. حالًا خرج من هذه صفته، وهو المعتمد، ويرد على التعريف من صحبه، أو رآه مؤمنًا به، ثم ارتد بعد ذلك، ولم يعد إلى الإسلام فإنه ليس صحابيًّا اتفاقًا، فينبغي أن يزاد فيه «ومات على ذلك» ، مثال من ارتد ولم يعد، كربيعة بن أمية بن خلف أسلم في الفتح، وحدث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد في خلافة عمر، ولحق بالروم وتنصر.
أما من ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، لكن لم يره ثانيًا بعد عوده، فالصحيح أنه معدود في الصحابة مثاله: الأشعث بن قيس.
وهذه الرؤية والنبي صلى الله عليه وسلم على قيد الحياة الدنيوية، أما من رآه بعد موته، وقبل دفنه فليس بصحابي كأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي، وهو شاعر مخضرم أسلم، وأخبر بمرض النبي صلى الله عليه وسلم فسافر ليراه، فوجده ميتًا مسجى، فحضر الصلاة عليه والدفن، فلم يعد صحابيًّا.
وكذلك الرؤية مقيدة باليقظة، فمن رآه في المنام، وإن كان قد رآه حقًّا فليس بصحابي، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة، والله أعلم
(1)
.
قال ابن الصلاح: المعروف في طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الصحابة.
وهذا القول اختاره ابن الحاجب في مختصره
(2)
.
وقال ابن حجر في تعريف الصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة في الأصح.
والمراد باللقاء: ما هو أعم من المجالسة والمماشاة، ووصول
(1)
الفتح لابن حجر (7/ 5، 6) بتصرف.
(2)
تحقيق منيف الرتبة فيمن ثبتت له شريف الصحبة للعلائي (33 - 35).
أحدهما إلى الآخر، وإن لم يكالمه، ويدخل فيه رؤية أحدهما الآخر.
والتعبير باللقى أولى من قول بعضهم: الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يخرج حينئذ ابن أم مكتوم، ونحوه من العميان، وهم صحابة بلا تردد، واللقى في هذا التعريف كالجنس
(1)
.
الثاني: أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه ولو ساعة، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب، ولا روى عنه، ولا طالت مدة صحبته.
قاله الآمدي ناقلًا له عن أكثر الشافعية: فهذا التعريف زاد عليه ما يطلق عليه اسم الصحبة، ولو ساعة لطيفة، ومنهم من اشترط أن يكون بالغًا، لكن رده ابن حجر.
الثالث: أن الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم واختص به اختصاص المصحوب، وطالت مدة صحبته، وإن لم يرو عنه، حكاه الآمدي عن جماعة.
الرابع: من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عنه العلم أي يجمع بين الصحبة الطويلة، والرواية عنه.
الخامس: قول سعيد بن المسيب: لا يعد الصحابي إلا من أقام مع
(1)
نزهة النظر لابن حجر (45).
النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدًا، أو غزا معه غزوة فصاعدًا
(1)
.
قال العلائي: في عبارته ضيق يوجب أن لا يعد في الصحابة جرير بن عبد الله البجلي، ومن شاركه مثل وائل بن حجر، ومعاوية بن الحكم السلمي ممن لا خلاف في عدهم من الصحابة.
وقال ابن حجر: والعمل على خلاف هذا القول؛ لأنهم اتفقوا على عد جمع جم في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع
(2)
.
هذه أشهر المذاهب في تعريف الصحابي، والحاصل أن الصحبة لها اعتباران:
1 -
باعتبار الوضع اللغوي: تنطلق على القليل والكثير، سواء في مجالسة أو مماشاة، ولو ساعة يسيرة.
2 -
من حيث العرف: أنه لا ينطلق إلا على الصحبة الطويلة أو الكثيرة، لكن لا حد لتلك الكثرة إلا بما ينطبق عليه الاسم.
فجمهور المحدثين اعتبروا المعنى اللغوي للصحبة، فعدوا في الصحابة كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم اكتفاءً منهم باللقاء لقبول رواية الراوي، ولشرف رؤية النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا لأن تعلق المحدثين بالرواية لا
(1)
الطبقات لابن سعد (6/ 295، 296).
(2)
تحقيق منيف الرتبة للعلائي بتصرف (34، 37)، فتح الباري لابن حجر (7/ 5).
بالاجتهاد.
فشرف الصحبة حاصل للجميع سواء لازمه أم لم يلازمه، أو لم يحضر معه مشهدًا، أو كلمه أو ماشاه قليلًا، أو رآه من بعيد، أو في حال طفولته، ولكن من ليس له سماع منه فحديثه مرسل من حيث الرواية، وهم مع ذلك معدودون في الصحابة؛ لما نالوه من شرف الرؤية
(1)
.
أما الأصوليون فاعتبر فريق منهم المعنى العرفي؛ قالوا لأن الأمر عندهم يتعلق بأقوالهم، وأفعالهم، وفتاويهم، واجتهادهم، ولا ريب أن أقوال الصحابة واجتهادهم يتميز عن أقاويل غيرهم بما نالوا من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الصحبة إنما تؤثر في الاجتهاد والاستنباط إذا كان فيها ملازمة، أو طول صحبة، أو مشاهدة الوقائع والقضايا منه صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثر بمجرد الرؤية من بعيد، أو رؤية الأطفال، فكثير من الأعراب رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتدوا بعد وفاته، لذلك اشترط جمهور الأصوليين طول الصحبة بحسب العرف.
والحاصل: أنه لا يشترط فى الصحابى الملازمة لأن الصحبة فى اللغة جنس، فكل من لقي شخصًا يطلق عليه أنه صحبه، وإن كان زمنًا قليلًا، ولو كانت الملازمة أو طول الصحبة شرطًا لانتفت صحبة كثير من
(1)
نزهة النظر لابن حجر (46).
الصحابة ممن ثبتت صحبتهم يقينًا كما سبق، وهذا لا يعني أن الصحابة على درجة واحدة، من رآه فقط، كمن صحبه زمنًا، كمن طالت صحبته وملازمته.
لذلك قسم العلائي الصحابة إلى أقسام، فقال: والحاصل: أن تسمية الجميع باسم الصحابي له اعتبارات:
أحدها: من يصدق عليه الاستعمال العرفي قطعًا، وهؤلاء هم جمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم، ومن هاجر إليه من القبائل، وغزا معه، ولا ريب في أمثال هؤلاء.
الثاني: من يقرب من هؤلاء الذين هاجروا إليه، وأقاموا عنده أيامًا قلائل، ورجعوا إلى أماكنهم كوفد عبد القيس، ووفد ثقيف، وأمثالهم، وكمثل وائل بن حجر، ومعاوية بن الحكم السلمي، وجرير بن عبد الله البجلي، ومن لم يصحبه إلا مدة يسيرة من الأيام والليالي، ولكن حفظ وتعلم منه، وروى عنه عدة أحاديث، فهؤلاء أيضًا وأمثالهم يطلق عليهم اسم الصاحب حقيقة عرفية، وإن كانت مدة صحبتهم ليست طويلة لتحقق الاسم فيهم، وصدق الاتصاف بالصحبة لهم.
الثالث: من لقيه صلى الله عليه وسلم بمجالسة يسيرة، أو مبايعة، أو مماشاة، وكان مسلمًا إما بالغًا أو مميزًا، وعقل من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ما بأن أجلسه في حجره، أو مج في وجهه ماء، أو غير ذلك.
فلا ريب أن الإطلاق العرفي منتف عن أمثال هؤلاء، وأما الإطلاق اللغوي فهو قريب.
الرابع: من لم يجتمع به صلى الله عليه وسلم أصلًا، وإنما رآه من بعيد، وحكى شيئًا من أفعاله، أو لم يحك شيئًا مثل: أبي الطفيل عامر بن واثلة، وغيره ممن ليس له إلا مجرد الرؤية إما في حجة الوداع، أو غزوة الفتح، أو غزوة حنين، أو غير ذلك، أو كان مع أبيه فأراه النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد.
فلا ريب في أن الإطلاق اللغوي منتف عن هؤلاء قطعًا فضلًا عن الاستعمال العرفي.
وإنما أعطي هؤلاء حكم الصحبة لشرف ما حصل لهم من الرؤية له صلى الله عليه وسلم، ولدخولهم في القرن الذي أثبت صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون من أمته
(1)
.
قلت: هكذا ذكر أبا الطفيل في القسم الرابع، وأبو الطفيل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن
(2)
.
بل قال: أدركت ثمان سنين من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وولدت عام
(1)
تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة (41 - 43).
(2)
أخرجه مسلم (1275).
أحد
(1)
، فالله أعلم.
*
حجية أقوال الصحابة:
يمكن تقسيم أقوال الصحابة إلى عدة أقسام لتحرير محل النزاع:
الأول: إذا أجمعوا على قول في مسألة فإجماعهم حجة قطعًا، ودليله أدلة الإجماع، وقد سبقت.
الثاني: قول الصحابي إذا انتشر ولم يعلم له مخالف من الصحابة، وهو ما يسمى الإجماع السكوتي.
1 -
فمذهب مالك، وبعض الشافعية، وقديم قولي الشافعية أنه حجة، ويقدم على القياس
(2)
.
وجعله ابن القيم أصلًا من أصول فتاوى الإمام أحمد.
قال في أصول الإمام أحمد: ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع، بل من ورعه في العبارة يقول لا أعلم شيئًا
(1)
أخرجه أحمد (23799).
(2)
شرح مختصر الروضة (3/ 185).
يدفعه
(1)
، وقدم الصفي البغدادي هذه الرواية لأحمد
(2)
.
2 -
مذهب عامة المتكلمين، وجديد قولي الشافعي، واختاره أبو الخطاب أنه ليس بحجة، وهو الرواية الثانية للإمام أحمد، وهو مذهب الأشاعرة، والمعتزلة، والكرخي
(3)
.
قال العلائي رحمه الله: ويحتمل أن ينزل القولان للإمام الشافعي على حالين، وذلك بأحد طريقين:
أحدهما: أن يكون حيث أثبت القول أنه إجماع، أراد بذلك عصر الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن منصبهم الشريف لا يقتضي السكوت عن مثل ذلك مع مخالفتهم فيه، لما عرف من عادتهم، وهذا لا يجيء في حق غير الصحابة.
وحيث قال: لا ينسب لساكت قول. أراد بذلك من بعد الصحابة، وهذا أولى من أن يجعل له قولان متناقضان في المسألة من أصلها.
الثانية: أن يحمل نفيه على ما لم يتكرر من القضايا، أو لم تعم به البلوى، ويحمل القول الآخر «أي كونه إجماعًا أو حجة» على ما كان يتكرر، أو تعم به البلوى؛ لأن العمل بخبر الواحد بالقياس مما يتكرر،
(1)
إعلام الموقعين (1/ 54).
(2)
قواعد الأصول ومعاقد الفصول لعبد المؤمن بن عبد الحق (76).
(3)
قواعد الأصول ومعاقد الفصول (77)، شرح مختصر الروضة (3/ 185).
وتعم به البلوى، وكل من هذين الطريقين محتمل
(1)
.
وفرق الماوردي في كتابه «الحاوي» بين أن يكون فيما يفوت استدراكه كإراقة دم، أو استحلال فروج، فيكون إجماعًا؛ لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه، إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار المنكر، وبين أن يكون مما لا يفوت استدراكه، فيكون حجة؛ لأن الحق لا يخرج عنهم، وفي كونه إجماعًا يمنع الاجتهاد وجهان سواء كان القول حكمًا أو فتيا.
وقد سبق الكلام على مسألة الإجماع السكوتي في باب الإجماع.
القسم الثالث: قول الصحابي إذا لم يشتهر، ولم يخالفه غيره:
أن يقول الصحابي قولًا أو يحكم بحكم، ولم يثبت فيه اشتهار، ولا يؤثر عن غيره من الصحابة مخالفة في ذلك.
وهذه الصورة هي أكثر ما يوجد عنهم، وهي محل النزاع هنا، وللعلماء فيها أقوال متعددة والذي يتحصل من مذاهبهم:
الأول: أنه حجة مطلقًا، وهو مذهب مالك، وجمهور أصحابه، وسفيان الثوري، وجمهور أهل الحديث، وكثير من الحنفية كأبي يوسف، وأبي سعيد البرذعي، وأبي بكر الرازي، والشافعي في قوله
(1)
إجمال الإصابة في أقوال الصحابة للعلائي (1/ 24).
القديم، وهو رواية مشهورة عن أحمد، وبه قال أكثر أصحابه، وهو مقتضى أجوبته وتصرفاته في كثير من المسائل
(1)
.
واحتجوا بأدلة منها:
قال ابن القيم: وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، أما القديم فأصحابه مُقِرُّون به، وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة، وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدًّا، فإنه لا يحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة، وغاية ما يتعلق به من نقل ذلك أنه يحكي أقوالًا للصحابة في الجديد، ثم يخالفها، ولو كانت عنده حجة لم يخالفها، وهذا تعلق ضعيف جدًّا، فإن مخالفة المجتهد الدليل المعين لما هو أقوى في نظره منه لا يدل على أنه لا يراه دليلًا من حيث الجملة، بل خالف دليلًا لدليل أرجح عنده منه، وقد تعلق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر أقوال الصحابة موافقًا لها لا يعتمد عليها وحدها كما يفعل بالنصوص، بل يعضدها بضروب من الأقيسة، فهو تارة يذكرها ويصرح بخلافها، وتارة يوافقها ولا يعتمد عليها، بل يعضدها بدليل آخر، وهذا أيضًا تعلق أضعف من الذي قبله؛ فإن تظاهر الأدلة وتعاضدها وتناصرها من عادة أهل العلم قديمًا
(1)
إجمال الإصابة للعلائي (134)، شرح تنقيح الفصول للقرافي (350).
وحديثًا، ولا يدل ذكرهم دليلًا ثانيًا وثالثًا على أن ما ذكروه قبله ليس بدليل
(1)
.
وقال الشافعي في «الرسالة» في ذكر أقاويل الصحابة: قال: أفرأيت إذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلافًا، أتجد لك حجة باتباعه في كتاب، أو سنة، أو أمر أجمع الناس عليه، فيكون من الأسباب التي قلت بها خبرًا؟ قلت له: ما وجدنا في هذا كتابًا، ولا سنة ثابتة، ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة، ويتركونه أخرى ويتفرقون في بعض ما أخذوا به منهم. قال: فإلى أي شيء صرت من هذا؟ قلت: إلى اتباع قول واحد إذا لم أجد كتابًا، ولا سنة، ولا إجماعًا، ولا شيئًا في معناه يحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس، وقل ما يوجد من قول الواحد منهم لا يخالفه غيره من هذا
(2)
.
ونقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: والعلم طبقات:
الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة.
الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.
الثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم له مخالفًا منهم.
(1)
إعلام الموقعين (4/ 550، 551).
(2)
الرسالة (597، 598) ت: أحمد شاكر.
الرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم.
الخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات.
وذكر الشافعي رضي الله عنه في كتاب «الرسالة القديمة» ، بعد ذكر الصحابة رضي الله عنهم والثناء عليهم بما هم أهله، فقال: وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر استدرك به علم، واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا، والله أعلم
(1)
.
حجة هذا القول:
1 -
قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100].
ومن كان مرضيًّا عنه كيف لا يقتدى بفعله، ويتبع في قوله، والله تعالى أثنى على من اتبعهم، فإذا قالوا قولًا لم يخالف كتابًا ولا سنة، فاتبعهم متبع عليه كان محمودًا عليه على ذلك، ويستحق الرضوان
(2)
.
2 -
قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
(1)
المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (110) ت: د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، ط. دار الخلفاء للكتاب الإسلامي.
(2)
إجمال الإصابة (156)، إعلام الموقعين (4/ 556).
قال ابن القيم: شهد لهم الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف، ولا نهى فيها عن منكر، إذ الصواب معروف بلا شك، والخطأ منكر من بعض الوجوه، ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا كان هذا باطلًا علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضى أن قوله حجة
(1)
.
إيضاحه: أن قول الصحابي إذا لم يخالفه غيره في نازلة أو مسألة إذا كان خطأً، ولم يخالفه أحد يكون الصحابة لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، ويكونون قد اجتمعوا على ضلالة، وهذا ممتنع.
3 -
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وجه الاستدلال: أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة وسطًا أي: خيارًا عدولًا هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم، وأعمالهم، وإرادتهم، ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم، عليهم فلو
(1)
إعلام الموقعين (4/ 569).
كان علمهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأً مخالفة لحكم الله ورسوله، ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله إما مع اشتهار فتوى الأول، أو بدون اشتهارها؛ كانت هذه الأمة العدل الخيار قد أطبقت على خلاف الحق، بل انقسموا قسمين قسمًا أفتى بالباطل، وقسمًا سكت عن الحق، وهذا من المستحيل؛ فإن الحق لا يعدوهم، ويخرج عنهم إلى من بعدهم قطعًا، ونحن نقول لمن خالف أقوالهم: لو كان خيرًا ما سبقونا إليه
(1)
.
فإذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى؛ فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة، فيفتي فيها بعضهم بالخطأ، ولا يفتي فيها غيره بالصواب، ويظفر فيها بالهدى من بعدهم، والله المستعان
(2)
.
(1)
إعلام الموقعين (4/ 571) بتصرف يسير.
(2)
إعلام الموقعين (4/ 572).
وقريب من هذا المعنى:
4 -
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مروا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وجبت» ، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شرًّا، فقال:«وجبت» ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض»
(1)
.
قال ابن حجر: قوله: «أنتم شهداء الله في الأرض» أي: المخاطبون بذلك من الصحابة، ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم، قال: والصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين
(2)
.
والحاصل: أن الصحابة أولى الناس بهذا الحكم من غيرهم.
5 -
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة
(1)
أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949).
(2)
فتح الباري لابن حجر (3/ 281) دار الحديث.
أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»
(1)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن خير القرون قرنه مطلقًا، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيرًا من بعض الوجوه، فلا يكونون خير القرون مطلقًا، فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم، وسائرهم لم يفتوا بالصواب، وإنما ظفر بالصواب مَنْ بعدهم، وأخطأوا هم؛ لزم أن يكون ذلك القرن خيرًا منهم من ذلك الوجه
(2)
.
6 -
أن الصحابة رضي الله عنهم حضروا التنزيل، وفهموا كلام الرسول الله صلى الله عليه وسلم، واطلعوا على قرائن القضايا، وما خرج عليه الكلام من الأسباب والمحامل التي لا تدرك إلا بالحضور، وخصهم الله تعالى بالفهم الثاقب، وحدة القرائح، وحسن التصرف لما جعل الله فيهم من الخشية والزهد والورع إلى غير ذلك من المناقب الجليلة فهم أعرف بالتأويل، وأعلم بالمقاصد، فيغلب على الظن مصادفة أقوالهم، وأفعالهم الصواب، أو القرب منه، والبعد عن الخطأ هذا ما لا ريب فيه، فيتعين المصير إلى أقوالهم
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533).
(2)
إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 574، 575).
(3)
إجمال الإصابة للعلائي (163).
قال ابن القيم: الوجه الثالث والأربعون: أن الصحابي إذا قال قولًا، أو حكم بحكم، أو أفتى بفتيا، فله مدارك ينفرد بها عنا، ومدارك نشاركه فيها، فأما ما يختص به؛ فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم شفاهًا، أو من صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به، فلم يرو كل منهم كل ما سمع، وأين ما سمعه الصديق رضي الله عنه، والفاروق، وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى ما رووه؟ فلم يرو عنه صديق الأمة مائة حديث، وهو لم يغب عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من مشاهده، بل صحبه من حين بعث إلى أن توفي، وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم بقوله، وفعله، وهديه، وسيرته، وكذلك أجلة الصحابة، لكنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعظمونها، ويقللونها خوف الزيادة والنقص، ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، ولا يصرحون بالسماع، ولا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
7 -
قال العلائي: وهو المعتمد أن التابعين أجمعوا على اتباع الصحابة فيما ورد عنهم، والأخذ بقولهم، والفتيا به من غير نكير من أحد منهم، وكانوا من أهل الاجتهاد أيضًا، ومن أمعن النظر في كتب الآثار وجد التابعين لا يختلفون في الرجوع إلى أقوال الصحابي فيما
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (5/ 18، 19) بتصرف يسير.
ليس فيه كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ثم هذا مشهور أيضًا في كل عصر لا يخلو عنه مستدل بها، أو ذاكر لأقوالهم في كتبه، ولا يقال فيكون المخالف في ذلك خارقًا للإجماع؛ لما تقدم أن مخالفة الإجماع الاستدلالي والظني لا يقدح، وما نحن فيه من ذلك
(1)
.
القول الثاني: أنه ليس حجة مطلقًا.
قال العلائي: وإليه ذهب جمهور الأصوليين من أصحابنا «الشافعية» ، والمعتزلة، وعزاه الأصحاب إلى الجديد من قولي الشافعي.
وأومأ إليه أحمد بن حنبل، فجعل ذلك رواية ثانية عنه، واختاره أبو الخطاب من أصحابه، وإليه يميل محمد بن الحسن
(2)
.
واحتجوا بأدلة، منها:
1 -
قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، والرد إلى مذهب الصحابي يكون تركًا لهذا الواجب.
وجوابه: أن الرد إلى الله والرسول إنما يكون إذا كان الحكم المطلوب موجودًا في الكتاب أو السنة، فأما إذا لم يوجد ذلك في الكتاب
(1)
إجمال الإصابة للعلائي (127، 165، 166) ط. مؤسسة الرسالة.
(2)
إجمال الإصابة للعلائي (134)، البحر المحيط للزركشي (6/ 54).
ولا في السنة؛ فلا يكون في الرجوع إلى أقوال الصحابة تركًا للواجب، والقول باتباع مذهب الصحابي مشروط بعدم معارضته للكتاب أو السنة، إلا في تخصيص، أو حمل على أحد المحملين على ما في ذلك من الخلاف.
2 -
أن قول الصحابي ليس حجة على صحابي آخر، فتجوز مخالفته، فلو كانت حجة لما جازت مخالفته، وأيضًا فإن الصحابي ليس معصومًا، فيجوز عليه الخطأ والنسيان.
والجواب: أن هذا خارج محل النزاع، فإن صورة المسألة أن يوجد قول لصحابي، ولم يحفظ عن غيره مخالفته، أما إذا اختلفوا فيقدم من أقوالهم ما كان أقرب للكتاب والسنة.
القول الثالث: اتفاق الخلفاء الأربعة حجة:
وإليه ذهب أبو حازم القاضي من الحنفية، وحكاه جماعة من المصنفين رواية عن الإمام أحمد، والصحيح: أنه ليس بإجماع.
وحجة هذا القول: حديث العرباض بن سارية وفيه: «فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ»
(1)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه أحمد (17142)، أبو داود (4607)، الترمذي (2676)، ابن ماجه (42، 43) من حديث العرباض بن سارية مرفوعاً.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتمسك بسنتهم والعض عليها بالنواجذ، وذلك مجاز كناية عن ملازمة الأخذ بها، وعدم العدول عنها، ولا يلزم من ذلك مساواتها لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي مأمور بالعمل بها بشرط عدم وجود سنة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما كونه مختصًّا بالخلفاء الأربعة دون من بعدهم؛ فلما روى الترمذي عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» ، ثم قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان. ثم قال لي: أمسك خلافة علي. قال: فوجدناها ثلاثين سنة
(1)
.
ولكن قد يقال: الأحاديث الواردة في فضل الصحابة واتباعهم عامة، وهذا خاص.
فالجمع ممكن بأن الجميع حجة، ولكن عند التعارض -وعدم المرجح من السنة- يقدم قول الخلفاء الأربعة على قول غيرهم.
تنبيه: ما ثبت مخالفته للحديث، أو ما ثبت رجوعهم عنه للسنة؛ فلا يقتدى بهم فيه بلا شك.
(1)
إسناده حسن: أخرجه أحمد (21919)، الترمذي (2226)، أبو داود (4646) من حديث سفينة رضي الله عنه.
القول الرابع: أنه حجة إذا وافق القياس:
فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي.
قال الزركشي: نص عليه الشافعي رحمه الله في كتاب «الرسالة» ، فقال: وأقوال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو كان أصح في القياس، وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له موافقة، ولا خلافًا صرت إلى اتباع قول واحدهم، وإذا لم أجد كتابًا، ولا سنة، ولا إجماعًا، ولا شيئًا يحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس.
وقال ابن الرفعة في «المطلب» : حكى القاضي الحسين، وغيره من أصحابنا عن الشافعي أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة إذا عضده القياس، وكذا حكاه ابن القطان في كتابه، فقال: نقول بقول الصحابي إذا كان معه قياس.
وكذا قال القفال الشاشي، والقاضي في «التقريب» ، وابن أبي هريرة في «تعليقه» في باب الربا: عندنا أن الصحابي إذا كان له قول، وكان معه قياس، وإن كان ضعيفًا، فالمعنى إلى قوله أولى خصوصًا إذا كان إمامًا، ولهذا منع الشافعي بيع اللحم بالحيوان المأكول بجنسه، وغيره لأثر
أبي بكر الصديق رضي الله عنه
(1)
.
القول الخامس: أنه حجة إذا خالف القياس:
قالوا: لأن قوله إذا خالف القياس لا يكون إلا عن توقيف؛ إذ لا مجال للعقل في ذلك، وإن كان له فيه مجال لكنه عدل عما يقتضيه القياس، فعدوله عنه إنما يكون لخبر عنده فيه، وإلا يلزم أن يكون قائلًا في الدين بالتشهي من غير مستند، وذلك يقدح في دينه وعلمه، ولا ينبغي المصير إليه، فيتعين اتباع قوله
(2)
.
وحكاه الزركشي قولًا للشافعي، قال: تصرفات الشافعي في الجديد تقتضي أن قوله حجة بشرطين:
أحدهما: أن لا يكون للاجتهاد فيه مجال.
الثاني: أن يرد في موافقة قوله نص، وإن كان للاجتهاد فيه مجال، كما فعل في مسائل الفرائض مقلدًا زيدًا فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«أفرضكم زيد»
(3)
.
(1)
البحر المحيط (6/ 56، 57) بتصرف.
(2)
إجمال الإصابة (171).
(3)
البحر المحيط (6/ 63) والحديث أعل بالإرسال: أخرجه أحمد (12904)، الترمذي (3790)، ابن ماجه (154) بلفظ (أفرضهم زيد)، وقد أفرد ابن عبد الهادي رسالة في بيان أن هذا الحديث صوابه الإرسال فلتراجع.
وإليه ذهب الجويني إذا قطع الصحابي فيه القول ولم يتردد.
قال في البرهان: وأما ما قطعوا القول به، ولم تكن المسألة في مظنة الاجتهاد، فقالوا قولًا مخالًفا للقياس ما أرشد إليه نظر، ولا يدل عليه اعتبار من تقليد، أو غيره، ورأيناهم حاكمين قاطعين، فتحسين الظن بهم يقتضي أن يقال ما نراهم يحكمون من غير بينة، ولا مستند لهذا الحكم من قياس، فلعلهم لاح لهم مستند سمعي قطعي من نص حديث كان حكمهم بذلك، فيجب اتباعهم لهذا المقام
(1)
.
القسم الرابع: أن يختلف الصحابة في الحكم على قولين فأكثر:
أولًا: إذا كان مع أحد القولين سنة فهو المقدم بلا شك؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
مثاله: حديث التيمم للجنابة: عن شقيق قال: كنت جالسًا مع عبد الله، وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلًا أجنب فلم يجد الماء شهًرا كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم، وإن لم يجد الماء شهرًا. فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]،
(1)
البرهان للجويني (2/ 1361) ت: د. عبد العظيم الديب، توزيع دار الأنصار، بالقاهرة.
فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد. فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له فقال:«إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا» ، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه، فقال عبد الله: أولم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟!
(1)
.
ثانيًا: أقوالهم إذا انفردت عن معارض من السنة:
قال الآمدي في الإحكام: اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين إمامًا كان أو حاكمًا أو مفتيًا
(2)
.
ولا ريب أن ذلك بالنسبة إلى آحادهم بعضهم على بعض، وأما بالنسبة إلى من بعدهم إذا اختلفوا يرجع إلى الترجيح بأحد المرجحات المتصلة أو المنفصلة.
قال الموفق ابن قدامة في «الروضة» : إذا اختلف الصحابة على قولين
(1)
أخرجه البخاري (347)، ومسلم (368).
(2)
الإحكام للآمدي (4/ 182) تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي، دار الصميعي.
لم يجز للمجتهد الأخذ بقول بعضهم من غير دليل خلافًا لبعض الحنفية، وبعض المتكلمين أنه يجوز ذلك ما لم ينكر على القائل قوله؛ لأن اختلافهم إجماع على تسويغ الخلاف، والأخذ بكل واحد من القولين، ولهذا رجع عمر إلى قول معاذ في ترك رجم المرأة، وهذا فاسد؛ فإن قول الصحابة لا يزيد على الكتاب والسنة، ولو تعارض دليلان من كتاب أو سنة لم يجز الأخذ بواحد منهما بدون الترجيح، ولأننا نعلم أن أحد القولين صواب، والآخر خطأ، ولا نعلم ذلك إلا بدليل، وإنما يدل اختلافهم على تسويغ الاجتهاد في كلا القولين، أما على الأخذ به، فكلَّا، وأما رجوع عمر إلى معاذ؛ فلأنه بان له الحق بدليله فرجع إليه
(1)
.
مسائل ذكرها العلائي:
1 -
التخصيص بقول الصحابي:
قال الآمدي: مذهب الشافعي الجديد، وأكثر الفقهاء، والأصوليين أن مذهب الصحابي لا يكون تخصيصًا للعموم سواء كان هو الراوي، أم لم يكن، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه، والحنابلة، وعيسى بن أبان، وجماعة من الفقهاء.
(1)
روضة الناظر لابن قدامة (162) ط. دار الزاحم.
2 -
أن يكون الخبر محتملًا لأمرين، فيحمله الصحابي الراوي، أو المطلع عليه على أحدهما.
قال الآمدي: إن قلنا إن اللفظ المجمل ظاهر في جميع محامله كالعامِّ، فتعود المسألة إلى التخصيص بقول الصحابي، وإن قلنا بامتناع حمله على جميع محامله، فلا نعرف خلافًا في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه؛ لأن الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المجمل لقصد التشريع، وتعريف الأحكام، ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام.
والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره، فوجب الحمل عليه.
3 -
أن يكون الخبر ظاهرًا في شيء، فيحمله الصحابي على غير ظاهره، إما بصرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، أو بغير ذلك من وجوه التأويل، فالذي ذهب إليه أكثر العلماء أن يعمل بظاهر الحديث، ولا يخرج عنه لمجرد عمل الصحابي أو قوله، وذهب أكثر الحنفية إلى اتباع قول الراوي في ذلك.
وقال بعض المالكية: إن كان ذلك مما لا يمكن أن يدرك إلا بشواهد الأحوال والقرائن المقتضية لذلك، وليس للاجتهاد مساغ في ذلك اتبع قوله، وإن كان صرفه عن ظاهره يمكن أن يكون بضرب من
الاجتهاد تعين الرجوع إلى ظاهر الخبر.
4 -
أن تكون المخالفة بترك مدلول الحديث بالكلية.
مثل حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا
(1)
، ثم روي عن أبي هريرة بالتثليث
(2)
، فالذي ذهب إليه جمهور العلماء أنه لا يعدل عن الخبر الظاهر أو النص إلى مذهب الراوي
(3)
.
قال العلائي رحمه الله: ويتحصل فيما إذا اختلفت أقوال الصحابة رضي الله عنهم ثلاثة أقوال:
أحدها: سقوط الحجية، وأنه لا يعتمد قول منها.
الثاني: أن يؤخذ بأي قول منها بغير ترجيح.
الثالث: أنه يعدل إلى الترجيح وهو الأظهر.
والقول بالتخيير حكاه ابن عبد البر عن عمر بن عبد العزيز،
(1)
أخرجه البخاري (172)، ومسلم (279) من حديث أبي هريرة.
(2)
شاذ: أخرجه الدارقطني (196) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان وهو صدوق يهم وقد خالف فيه أصحاب أبي هريرة سندًا ومتناً فقد رووه عن أبي هريرة بلفظ سبع ورووه مرفوعاً.
(3)
إجمال الإصابة للعلائي (182 - 190) بتصرف، المستصفى للغزالي (2/ 780).
والقاسم بن محمد، وعن سفيان الثوري إن صح عنه.
قال: وهذا مذهب ضعيف، وقد رفضه أكثر الفقهاء وأهل النظر.
ثم بين رحمه الله المذهبين وأورد آثارًا عن عمر بن عبد العزيز والقاسم في مدح اختلاف الصحابة، وأنه توسعة على الأمة.
قال: وأما مالك والشافعي ومن سلك سبيلهما من أصحابهما، وهو قول الليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي ثور، وجماعة أهل النظر أن الاختلاف إذا تدافع فهو خطأ وصواب، والواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس على الأصول منها، وذلك لا يعدم، فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة، فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف، ولم يجز القطع إلا بيقين، فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد، واستعمل عند إفراط التشابه، والتشاكل، وقيام الأدلة على كل قول بما يعضده قوله صلى الله عليه وسلم:«البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، فدع ما يريبك لما لا يريبك»
(1)
.
(1)
إسناده صحيح: الشطر الأول أخرجه مسلم (2553) من حديث النواس بن سمعان، والشطر الأخير أخرجه الترمذي (2518) من حديث الحسن بن علي وسنده صحيح، وصححه الترمذي.
وأورد ابن عبد البر بسنده عن ابن وهب قال: قال لي مالك: يا عبد الله، أد ما سمعت وحسبك، ولا تحمل لأحد على ظهرك، واعلم إنما هوخطأ وصواب، فانظر لنفسك فإنه كان يقال: أخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره.
قال إسماعيل القاضي: إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في اجتهاد الرأي، فأما أن تكون توسعة لأن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا.
وعن المزني قال: قال الشافعي في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصير منها إلى ما وافق الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو كان أصح في القياس
(1)
.
القسم الخامس: قول الصحابي الذي لم يعرف عنه الأخذ من أهل الكتاب فيما ليس من الرأي والاجتهاد، وإنما هو من الغيب حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يصرح هذا الصحابي بنسبة هذا القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقول الصحابي في أشراط الساعة، وعذاب القبر، والجنة والنار، وأسباب النزول ممن لم يعرف عنه الأخذ من أهل
(1)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 161، 162) بتصرف.
الكتاب، كعمر وابن مسعود، وغيرهم إن قالوا مما لا يدرك بالاجتهاد ولا بالعقل؛ فهذه الأقوال حجة لها حكم الرفع، وإن لم يصرحوا بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
خلاصة ما سبق:
أن قول الصحابي حجة بشروط، وهي:
1 -
أن يكون الصحابي من الفقهاء المعتبرين، فإن كان من الصحابة الذين ليسوا بمعتبرين، ولا ممن عهد منهم العلم، فقوله ليس بحجة كقول سائر الناس مثل رجال البادية.
2 -
ألا يخالف نصًّا، فإن خالف نصًّا أخذ بالنص مهما كان الصحابي، ولو كان من أفقه الصحابة.
3 -
ألا يعارضه قول صحابي آخر، فإن عارضه قول صحابي آخر طلب المرجح من الكتاب والسنة، واتبع ما ترجح من القولين.
(1)
التحقيقات والتنقيحات السلفيات على متن الورقات (435)، وانظر الصحابة الذين اشتهروا بالأخذ من أهل الكتاب في كتاب (الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير) د/ رمزي نعناعة (123 - 164)، وكتاب (الإسرائيليات في التفسير والحديث) للدكتور محمد حسين الذهبي (55 - 71)، وذكر الكتابان من الصحابة الذين اشتهروا برواية الإسرائيليات أبا هريرة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن سلام، وتميم الداري، رضي الله عنهم جميعًا.
ب- إذا فعل الصحابي فعلًا، واشتهر بين الصحابة، ولم ينكر فهو قويٌّ يقوى بعدم الإنكار
(1)
.
تتمة وتلخيص:
في حجية قول الصحابي، يقول الدكتور محمود عبد الرحمن: نكتة المسألة والتي ذهل عنها الذاهلون أن قول الصحابي إن تضمن دليلًا كان حجة وإن لم يصرح بالدليل، وإن لم يتضمن دليلًا كان غير حجة في نفسه، ويرجح بينه وبين غيره من الأقوال المرجحات المعلومة، وهذا الدليل المتضمن يعرف بالقرائن، وكلهم حائمون في أقوالهم حول القرينة، فمنهم من يجعلها ما لا مجال للرأي فيه، وبعضهم يعبر عنها بموافقة القياس، وبعضهم رأى العكس، وهو أن مخالفة القياس قرينة وجود نقل لم ينقل، وإنما نقل مدلوله، وهو على صورة فتوى الصحابي، ومن قبل مطلقًا، فالقرينة عنده كونه صحابيًّا وَرِعًا لا يصدر في قول إلا عن دليل، وهذا هو المعهود في الصحابة، وأما القائل بالمنع مطلقًا فاكتفى بالرواية إذ ما من شيء يهم من أمر الدين إلا نقل
(2)
.
(1)
شرح نظم الورقات للشيخ ابن عثيمين (152 - 153).
(2)
الأساس في أصول الفقه د/ محمود عبد الرحمن (2/ 353 - 354).
*
مسائل فقهية بنيت على أقوال الصحابة:
1 -
مسألة القصر للمسافر:
قال ابن رشد: ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجماعة كثيرة إلى أن الصلاة تقصر في أربعة برد «البريد: أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال فيكون الأربعة برد ستة عشر فرسخًا = 48 ميلًا، والميل البري = 1609 مترًا، والميل البحري = 1852 مترًا»
(1)
.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاثة أيام، وإن القصر إنما هو لمن سار من أفق إلى أفق.
وقال أهل الظاهر: القصر في كل سفر قريبًا كان أو بعيدًا.
والسبب في اختلافهم: معارضة المعنى المعقول من ذلك اللفظ؛ وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر أنه لمكان المشقة الموجودة فيه مثل تأثيره في الصوم، وإذا كان الأمر على ذلك فيجب القصر حيث المشقة.
أما الذين اعتبروا المشقة، فسببه اختلاف الصحابة في ذلك، وذلك أن مذهب الأربعة برد روي عن ابن عمر، وابن عباس، ومذهب الثلاثة
(1)
بداية المجتهد لابن رشد (1/ 178).
أيام مروي أيضًا عن ابن مسعود وعثمان وغيرهما
(1)
.
وانظر الآثار الواردة عن هؤلاء الصحابة في مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، والبيهقي في سننه عن ابن عباس، وابن عمر: كان يصليان ركعتين، ويفطران في أربعة برد مما فوق ذلك
(2)
.
2 -
إذا طهرت الحائض بعد العصر أو قبل الغروب تصلي الظهر، والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر تصلي المغرب والعشاء.
قال ابن قدامة في «المغنى» : وإذا تطهرت الحائض، وأسلم الكافر، وبلغ الصبي قبل أن تغرب الشمس صلوا الظهر والعصر، وإن بلغ الصبي، وأسلم الكافر، وطهرت الحائض قبل أن يطلع الفجر صلوا المغرب والعشاء، وروي هذا القول في الحائض تطهر عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، وطاووس، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وربيعة، ومالك، والليث، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، قال الإمام أحمد: عامة التابعين يقولون بهذا القول، إلا الحسن وحده قال: لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها. وهو قول الثوري وأصحاب الرأي؛ لأن وقت الأولى خرج في حال عذرها.
(1)
بداية المجتهد بتصرف (1/ 179).
(2)
السنن الكبرى (3/ 137)، وقال الألباني: إسناده صحيح. إرواء الغليل (3/ 14 - 19)، ففيه جملة من الآثار مع الحكم عليها، والسلسلة الصحيحة (163).
ولنا: ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما بإسنادهم عن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عباس أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة: تصلي المغرب والعشاء، فإذا طهرت قبل أن تغرب الشمس صلت الظهر والعصر جميعًا
(1)
.
3 -
سجود التلاوة:
ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه سنة، والدليل ما رواه مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد، وسجد الناس معه، ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى، فتهيأ الناس للسجود، فقال: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا، إلا أن نشاء. فلم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا.
وكان هذا بمحضر من الصحابة، فلم ينكر عليه أحد، ولم ينقل عن
(1)
أثر عبد الرحمن بن عوف أخرجه البيهقي في الكبرى (1889)، وأخرجه الدارمي عن عطاء وطاووس ومجاهد رقم (891) وإسناده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن عوف (7282)(2/ 326)، وعبد الرزاق (1285) وابن أبي شيبة عن ابن عباس (7207) وعن ابن عباس أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 371) برقم (822)، وأثر الحسن أخرجه عبد الرزاق (1286)، وقال به ابن المنذر في الأوسط (2/ 372).
أحد منهم خلاف، فيكون إجماعًا
(1)
.
4 -
بيع العينة: وهي أن يشتري ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، وتسمى بيع الآجال، واختلف فيها:
أ- ذهب مالك، وأبو حنيفة، وأحمد إلى عدم جواز العقد؛ لأسباب:
1 -
سدًّا لذريعة الربا.
2 -
ما أخرجه عبد الرزاق من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد سألتها أم ولد زيد بن أرقم قالت: يا أم المؤمنين، إني بعت زيد بن أرقم جاريةً إلى عطائه بثمانمائة درهم نسيئة، واشتريتها منه بستمائة نقدًا، فقالت لها: بئس ما اشتريت، وبئس ما اشترى، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب
(2)
.
قالوا: وهذا الوعيد لا يقال من قبل الرأي؛ فله حكم المرفوع
(3)
.
ب- ذهب الشافعي رحمه الله إلى الجواز، وحجته القياس.
(1)
الموطأ (16/ 485)، المغني لابن قدامة (2/ 364، 365) ط. هجر.
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (14812، 14813) وغيره وفيه من لا يعرف.
(3)
انظر تهذيب السنن لابن القيم عون المعبود (9/ 342) ط دار الفكر.
قال: ولو اختلف بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، فقال بعضهم فيه شيئًا، وقال بعضهم بخلافه كان أصل ما نذهب إليه أنا نأخذ بقول الذي معه القياس، والذي معه القياس زيد بن أرقم، وجملة هذا أنا لا نثبت مثله على عائشة مع أن زيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالًا، ولا يبتاع مثله، فلو أن رجلًا باع شيئًا، أو ابتاعه نراه نحن محرمًا، وهو يراه حلالًا لم نزعم أن الله يحبط من عمله شيئًا
(1)
.
واحتج بأن القياس صحة البيعة الأولى، وصحة البيعة الثانية كما لو باعها لغيره، أو باعها له بمثل الثمن أو أكثر.
5 -
إرث المطلقة البائن إذا طلقت في مرض الموت.
اختلف فيها على قولين:
الأول: ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنها ترثه، وحجتهم في ذلك قضاء عثمان رضي الله عنه بذلك؛ لما روى مالك، عن ابن شهاب، عن طلحة بن عبد الله بن عوف: أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته البتة، وهو مريض، فورثها عثمان منه بعد انقضاء عدتها
(2)
.
قال ابن قدامة: واشتهر ذلك في الصحابة فكان إجماعًا، وامرأته هذه
(1)
الأم (4/ 160) دار الوفاء.
(2)
الموطأ (44/ 1191)، كتاب الطلاق، باب طلاق المريض.
هي تماضر بنت الأصبغ الكلبية
(1)
.
الثاني: ذهب الشافعي في الجديد من مذهبه إلى أنه لا إرث لها، وأن حكم الطلاق في حال الصحة والمرض سواء، واستدل بأمور منها:
1 -
أن الزوج لا يرث الزوجة في هذه الحالة، وكذلك لا ترثه هي، وأنه لا يملك رجعتها، وأنها لا تعتد بوفاته عدة وفاة أربعة أشهر وعشرًا، بل تعتد عدة مطلقة، وأنه ينكح أختها، وأربعًا سواها، فكل هذا يدل على أنها ليست بزوجة، وإن الله أقام التوارث بين الزوجين ما داما زوجين
(2)
.
(1)
المغني (7/ 217) دار الفكر.
(2)
انظر: الأم (6/ 642 - 644)، قول الصحابي وأثره في المسائل الفقهية (17، 18) أحمد الجميلي شبكة الألوكة.
الفصل الثامن:
المصالح المرسلة
المصالح المرسلة أو الاستصلاح
*
تعريف المصلحة المرسلة:
المصلحة لغة: المنفعة
(1)
.
قال ابن منظور: والصلاح ضد الفساد، والإصلاح الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح.
والاستصلاح: نقيض الاستفساد، وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه وأزال فساده
(2)
، صلح صلاحًا: زال عنه الفساد، صلح الشيء صلاحًا: كان نافعًا أو مناسبًا، واستصلح الشيء: طلب إصلاحه، والصلاح: الاستقامة والسلامة من العيب
(3)
.
والاستصلاح: استفعال من صلح يصلح، وهو اتباع المصلحة المرسلة، فإن الشرع أو المجتهد يطلب صلاح المكلفين باتباع
(1)
المعجم الوجيز (صلح).
(2)
لسان العرب (صلح).
(3)
المعجم الوجيز مجمع اللغة العربية (368)(صلح).
المصلحة المذكورة ومراعاتها.
والمصلحة: جلب نفع أو دفع ضر؛ لأن قوام الإنسان في دينه ودنياه، وفي معاشه ومعاده بحصول الخير، واندفاع الشر، وإن شئت قلت: بحصول الملائم، واندفاع المنافي.
مثاله: أن الإنسان لما كان يؤذيه غلبة الحر والبرد، احتاج في الصيف إلى رقيق اللباس، والتعرض للهواء البارد بالجلوس في أماكنه، وتبريدها بالماء ونحو ذلك؛ ليحصل له الروح الموافق، ويندفع عنه الكرب المنافي، وفي الشتاء على العكس من ذلك
(1)
.
والمرسلة: من أرسل الشيء: أطلقه وأهمله.
وحديث مرسل: إذا كان غير متصل الإسناد، وجمعه مراسيل.
والمرسلة: قلادة تقع على الصدر
(2)
.
وأرسل الشعر: أطلقه.
وشِعرٌ مرسل: لا يتقيد بقافية واحدة
(3)
.
والمرسلة: مأخوذة من الإرسال، وهو الخلو التام، وكذا الإطلاق
(1)
شرح مختصر الروضة (3/ 204، 205).
(2)
لسان العرب مادة: رسل.
(3)
المعجم الوجيز مادة رسل.
عن التقييد، ومن ذلك قولك: أرسلت الطائر من يدي، إذا أطلقته، وأرسلت الكلب إرسالًا: أطلقته من غير تقييد.
وقال المطرزي: الأملاك المرسلة: هي المطلقة التي تثبت بدون أسبابها من الإرسال خلاف التقييد، ومنه الوصية بالمال المرسل يعني: المطلق من غير تقييد بصفة الثلث أو الربع
(1)
.
فسميت مرسلة؛ لأنها لم تعتبر، ولم تلغ.
والمصالح المرسلة اصطلاحًا:
قال الخوارزمي: والمراد بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق.
وفسره الإمام الغزالي: بأن يوجد معنى يشعر بالحكم مناسب له عقلًا، ولا يوجد أصل متفق عليه، والتعليل المصور جارٍ فيه
(2)
.
وقيل هي: عبارة عن المصالح الملائمة لمقاصد الشارع، ولا يشهد لها أصل خاص بالاعتبار أو الإلغاء.
وقيل هي: الوصف المناسب الملائم الذي يترتب على تشريع
(1)
المغرب في ترتيب المعرب لبرهان الدين الخوارزمي (1/ 329)، الأساس في أصول الفقه د. محمود عبد الرحمن (2/ 372).
(2)
البحر المحيط للزركشي (6/ 76).
الحكم معه تحصيل منفعة أو دفع مضرة، ولم يقم دليل معين على اعتبار تلك المصلحة أو اعتبار إلغائها
(1)
.
وقيل: أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه
(2)
.
قاعدة: الدين مبني على جلب المصالح، ودرء المفاسد.
فآيات القرآن تمدح الإصلاح، وتأمر به، وتذم الفساد، وتنهى عنه.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 11 - 12].
وجعل الإصلاح من شروط التوبة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159 - 160].
وأمر بإصلاح الوصية الجائرة، ولا إثم على من غيرها ليصلح ما فيها من جور وإثم، قال تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} [البقرة: 182].
(1)
الأساس في أصول الفقه (2/ 374).
(2)
مجموع الفتاوى (11/ 343).
وأمر بالإصلاح لليتامى، قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)} [البقرة: 220].
ومن وظائف الرسل وأتباعهم إصلاح المجتمعات، قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)} [الأنعام: 48].
وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88].
وقال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)} [الأعراف: 35].
ولما استخلف موسى عليه السلام أخاه هارون عليه السلام على بني إسرائيل، وذهب لميقات ربه أوصاه بالإصلاح، قال تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف: 142].
والإصلاح أمان من العذاب، والإفساد في الأرض سبب الهلاك، قال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود:
117].
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [هود: 117] أي أهل القرى. {بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] أي: بشرك وكفر. {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 117] أي: فيما بينهم في تعاطي الحقوق، أي: لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط، ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب.
وقال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)} [يونس: 81].
وقال صالح لقومه في التحذير من الفساد: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء: 150 - 152].
ووصفهم الله تعالى بالفساد، فقال تعالى:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)} [النمل: 48].
ومدح تعالى من يريدون الإصلاح ويسعون لذلك، ووعدهم بالتوفيق، فقال في المطلقات: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا
إِصْلَاحًا} [البقرة: 228].
وفي الصلح بين الزوجين، قال تعالى:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، إلى غير ذلك من الآيات.
وفي مصالح الدنيا يأمر الله تعالى بالإصلاح وينهى عن الفساد كما رأيت في الآيات السابقة، ومن ذلك أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث تأبير النخل:«إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه»
(1)
.
فهذه قاعدة جليلة، تنبني عليها أحكام كثيرة.
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: وهنالك أصول أربعة أخرى محل اجتهاد الأصوليين، وهي مما تمس الحاجة إليها وهي:
1 -
شرع من قبلنا.
2 -
قول الصحابي إذا لم يوجد له مخالف من الصحابة.
3 -
استصحاب الأصل، أو البراءة الأصلية.
4 -
المصالح المرسلة، أو الاستصلاح، وهي في الحقيقة أخطر هذه الأصول من حيث دقة البحث، وسعة الجوانب، وشدة الحاجة
(1)
أخرجه مسلم (2361) من حديث طلحة بن عبيد الله.
المتجددة.
ومكمن الخطر في ادعاء المصلحة؛ لأنه ادعاء عام، وكلٌّ يدعيه لبحثه فيما يذهب إليه، ولن يذهب مجتهد فقط إلى حكم في مسألة لا نص فيها إلا وادعى أنه ذهب لتحقيق المصلحة، ولكن أي المصالح يعنون، إن المصلحة الإنسانية الخاصة أمر نسبي، وكل يدعيها فيما يذهب إليه، ومن هنا كان الخطر.
ولكن حقيقة المصلحة: هي المصلحة الشرعية التي تتمشى مع منهج الشرع في عمومه وإطلاقه، لا خاصة ولا نسبية، فهي التي يشهد لها الشرع الذي جاء لتحقيق مصالح جميع العباد، ومراعاة جميع الوجوه؛ لأن الشرع لا يقر مصلحة تتضمن مفسدة مساوية لها، أو راجحة عليها ظهر أمرها أو خفي على باحثها؛ لأن الشارع حكيم عليم.
كما أن المصلحة الشرعية تراعي أمر الدنيا والآخرة معًا، فلا تعتبر مصلحة دنيوية إذا كانت تستوجب عقوبة أخروية.
وفي هذا يكمن الفرق الأساسي بين المصلحة عند القانونيين الذين يقولون: حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله. وبين الأصوليين الشرعيين الذين يصدق على منهجهم أنه حيثما وجد الشرع فثم مصلحة العباد.
فإذا لم يوجد نص للشرع اجتهد العالم في النازلة ليرى هل هي محققة لمصلحة مما جاء الشرع لتحقيقها في العقيدة، أو النفس، أو المال، أو العرض، أو النسب، وأنها خالية من مفسدة تضر ببعض هذه الضرورات أم لا
(1)
.
*
أسماء المصلحة:
قال العز بن عبد السلام: ويعبر عن المصالح والمفاسد بالخير والشر، والنفع والضر، والحسنات والسيئات؛ لأن المصالح كلها خيور نافعات حسنات، والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات، وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح، والسيئات في المفاسد
(2)
.
قال الشاطبي: والشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، ودرء المفاسد عنهم.
وقال العز بن عبد السلام: الشريعة كلها مصالح إما درء مفاسد، أو جلب مصالح
(3)
.
وقال ابن القيم: إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح
(1)
مقدمة رسالة المصالح المرسلة للشنقيطي (11 - 13).
(2)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (1/ 8) دار البيان العربي.
(3)
قواعد الأحكام (1/ 11) دار البيان العربي.
العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه
(1)
.
قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115].
قال قتادة: صدقًا فيما قال، وعدلًا فيما حكم
(2)
. أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة، كما قال:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]
(3)
.
تنبيه: قسم العز بن عبد السلام أكساب العباد إلى ضربين: أحدهما: ما هو سببٌ للمصالح، وهو أنواع:
أحدها: ما هو سبب لمصالح دنيوية.
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 337) دار ابن الجوزي.
(2)
إسناده حسن: أخرجه الطبري (5/ 15).
(3)
تفسير ابن كثير (2/ 159، 160).
الثاني: ما هو سبب لمصالح أخروية.
الثالث: ما هو سبب لمصالح دنيوية وأخروية.
قال: وكل هذه الأكساب مأمور بها، ويتأكد الأمر بها على قدر مراتبها في الحسن والرشاد.
الضرب الثاني: من الأكساب ما هو سبب للمفاسد، وهو أنواع:
أحدها: ما هو سبب لمفاسد دنيوية.
الثاني: ما هو سبب لمفاسد أخروية.
الثالث: ما هو سبب لمفاسد دنيوية وأخروية.
وكل هذه الأكساب منهي عنها، ويتأكد النهي عنها على قدر مراتبها في القبح والفساد
(1)
.
وقال رحمه الله: وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل
(2)
.
وقال في موضع آخر: أما مصالح الآخرة وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع، وهي
(1)
قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (1/ 15) دار القلم.
(2)
السابق (1/ 11).
الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس المعتبر، والاستدلال الصحيح.
وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات، والتجارب، والعادات، والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته
(1)
.
قلت: الضرورات: الأشياء التي تدرك بالحس مثل: لذة الحلو.
والتجارب: مثل الزراعة والصناعة.
والظنون المعتبرة: مثل ظن التاجر الربح.
وقوله: فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته. قد يدل الشرع عليها مثل الأحاديث الواردة في الطب، والسفر رحمة بمن ليس له تجربة، وتأكيدًا لمن له تجربة، وحتى يثاب بموافقة الشرع.
فالمعيار الصحيح للمصلحة المعتبرة هو قصد الشرع، وأدلته دون الأهواء، وشهوات الناس، فالعقل وحده لا يستقل بدرك المصالح والمفاسد.
وأما قول الإمام العز بن عبد السلام: ومن أراد معرفة المناسبات، والمصالح، والمفاسد راجحها ومرجوها؛ فليعرض ذلك على عقله
(1)
السابق (1/ 13).
بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام
(1)
.
فمعناه المصالح الدنيوية التي لم يهدرها الشرع، أما مصالح الآخرة فلا تدرك إلا بالنقل كما قيل قبل ذلك
(2)
.
*
فصل: تقسيم المصالح بالنسبة إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار.
القسم الأول: ما شهد الشرع باعتباره:
وهو القياس الذي تقدم، وهي المصالح التي اعتبرها الشارع مصالح لدخولها في فلك النصوص، ومقاصد الشريعة، وهي بهذه حجة على كل مسلم لا يجوز إهمالها ولا استبدالها، ويعرف هذا الاعتبار بأحد مسالك العلة السابقة كالنص، والإيماء، والإجماع
…
إلخ.
مثال ذلك: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فهذا نص في اعتبار الذكورة والأنوثة في الميراث
(3)
.
ومثل: اعتبار الإسكار بالنسبة إلى تحريم الخمر، والصغر بالنسبة
(1)
السابق.
(2)
الأساس في أصول الفقه د/ محمود عبد الرحمن (2/ 372).
(3)
التأسيس في أصول الفقه (365).
إلى الولاية على المال
(1)
.
وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها، أو تباح لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى مصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظًا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لكونها المقصودة من شرعها لأدائها إلى المصالح المقصودة من شرعيتها كقطع السراق، وقطع الطريق، وقتل الجناة، ورجم الزناة، وجلدهم وتغريبهم، وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب
(2)
.
فهذه المصالح اعتبرها الشارع، وإن كان في ظاهرها مفاسد لكونها تؤدي إلى مصالح أكبر منها.
القسم الثاني: ما شهد الشرع بعدم اعتباره:
نحو المنع من زراعة العنب لئلا يعصر خمرًا؛ إذ في زراعته من المنافع الكثيرة التي تربو على تلك المفسدة.
(1)
المصدر السابق.
(2)
قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (1/ 19) دار القلم.
ونحو: المنع من الشركة في سكنى الدور بين الرجال والنساء خشية الزنا، فهذه مصلحة ملغاة لما فيها من المفاسد ما يربو على تلك المصلحة، وقد أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على جواز مساكنة الرجال والنساء في البلد الواحد، ولم ينقل عن أحد أنه قال يجب عزل النساء والرجال؛ لأن مصلحة تعاون الذكور والإناث على الدين والدنيا في البلد الواحد، بأن يكون الرجل ونساؤه في دارهم يتعاونون بأن يقدم كل بما يليق به من الخدمة أرجح من مصلحة قطع الذريعة إلى الزنا باجتماع الجنسين في البلد الواحد.
ومثال استلزام المصلحة مفسدة راجحة أو مساوية: كما لو طلب المسلمون فداء أسراهم من الكفار، فامتنع الكفار أن يقبلوا الفداء إلا بسلاح يعلم به أن ذلك السلاح ييسر لهم قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين.
ومثال ما شهد الشرع ببطلانه أيضًا: قول من يقول: أن الموسر كالملك ونحوه يتعين عليه الصوم في كفارة الوطء في رمضان، ولا يخير بينه وبين العتق والإطعام؛ لأن فائدة الكفارة الزجر عن الجناية على العبادة، ومثل هذا لا يزجره العتق والإطعام لكثرة ماله، فيسهل عليه أن يعتق رقابًا في قضاء شهوته، وقد لا يسهل عليه صوم ساعة، فيكون الصوم أزجر له، فيتعين.
فهذا وأمثاله ملغى غير معتبر؛ لأنه تغيير للشرع بالرأي وهو غير جائز، ولو أراد الشرع ذلك، لبينه أو نبه عليه في حديث الأعرابي أو غيره؛ إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإيهام التسوية بين الأشخاص في الأحكام مع افتراقهم فيها لا يجوز
(1)
.
والله تعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3].
والشرع لا يلغي اعتبار مصلحة، ويحكم بإهدارها إلا لتحصيل مصلحة أخرى أهم في نظر الشرع منها؛ لأن عتق الرقبة وإخراجها من الرق أهم في نظر الشرع من التضييق على الملك أو الغني بالصوم لينزجر بالتكفير بذلك
(2)
.
القسم الثالث: ما لم يشهد الشرع باعتباره ولا إلغائه:
وهي المصلحة المرسلة، وإنما قيل لها مصلحة؛ لأن المفروض تضمن الوصف المذكور لإحدى المصالح الثلاث: إما درء المفاسد وهو المعروف بالضروريات، وإما جلب المصالح وهو المعروف بالحاجيات، وإما الجري على مكارم الأخلاق وأحسن العادات وهو المعروف بالتحسينات أو التتميمات.
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 205، 206).
(2)
المصالح المرسلة للشنقيطي (19).
وقيل لها: مرسلة. لإرسالها أي إطلاقها عن دليل خاص يقيد ذلك الوصف بالاعتبار أو بالإهدار
(1)
.
*
أسماؤها:
1 -
المصالح المرسلة.
2 -
الاستدلال المرسل.
3 -
أطلق إمام الحرمين وابن السمعاني عليها اسم: الاستدلال.
4 -
الاستصلاح: أي طلب المصلحة.
5 -
المناسب المرسل، أو المرسل الملائم، أو المناسب الملائم
(2)
.
وهذا القسم على ثلاثة أضرب:
الأول: التحسيني الواقع موقع التحسين والتزيين، ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات، وحسن الأدب في السيرة بين الناس، كصيانة المرأة عن مباشرة عقد نكاحها بإقامة الولي مباشرًا لذلك؛ لأن المرأة لو باشرت عقد نكاحها، لكان ذلك منها مشعرًا بما لا يليق
(1)
المصالح المرسلة لشنقيطي (15 - 20).
(2)
المصالح المرسلة (20)، الأساس في أصول الفقه (2/ 376)، حجية المصلحة المرسلة مجلة الجامعة الإسلامية ملحق العدد (183).
بالمروءة من غلبة القحة، وقلة الحياء، وتوقان نفسها إلى الرجال، فمنعت من ذلك حملًا للخلق على أحسن المناهج وأجمل السير
(1)
.
قال الشاطبي: وأما التحسينات، فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.
وهي جارية في العبادات، وفي العادات، وفي المعاملات، وفي الجنايات، ففي العبادات كإزالة النجاسة وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات، والقربات، وفي العادات، كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات، والمشارب المستخبثات، والإسراف، والإقتار في المتناولات، وفي المعاملات، كالمنع من بيع النجاسات، وفضل الماء والكلأ، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة، وإنكاح نفسها، وفي الجنايات، كمنع قتل الحر بالعبد، أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد
(2)
.
الضرب الثاني: الحاجي أي الواقع في رتبة الحاجة، أي تدعو إليه
(1)
شرح مختصر الروضة (3/ 206).
(2)
الموافقات (2/ 9).
الحاجة، كتسليط الولي على تزويج الصغيرة؛ لحاجة تقييد الكفء خشية أن يفوت، فإن ذلك مما يحتاج إليه، ويحصل بحصوله نفع، ويلحق بفواته ضرر، وإن لم يكن ضروريًّا قاطعًا
(1)
.
وقال الشاطبي: وأما الحاجيات، فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.
قال: وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات: ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض، والسفر، وفي العادات كإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال، مأكلًا، ومشربًا، وملبسًا، ومسكنًا، ومركبًا، وما أشبه ذلك، وفي المعاملات كالقراض، والمساقاة، والسلم، وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات، كثمرة الشجر، ومال العبد، وفي الجنايات كالحكم باللوث، والتدمية، والقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك
(2)
.
(1)
شرح مختصر الروضة (3/ 207).
(2)
الموافقات للشاطبي (2/ 8، 9).
قال الطوفي تبعًا للغزالي: ولا يصح التمسك بهذين الضربين المذكورين من المصلحة -وهما التحسيني والحاجي- من غير أصل يشهد لهما بالاعتبار
(1)
.
قال الغزالي: لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل؛ لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس وسيأتي
(2)
.
الضرب الثالث: الضروري، أي الواقع في رتبة الضروريات، وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.
وهذه الضروريات هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض والنسب، والمال. والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها، ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع، أو المتوقع فيها، وذلك عبارة
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 207).
(2)
المستصفى للغزالي (1/ 556).
عن مراعاتها من جانب العدم.
فحفظ الدين من جانب الوجود: بالأمر بالإيمان، والنطق بالشهادتين، وأركان الإسلام، ومن جانب العدم: شرع الجهاد، عقوبة المرتد، والداعي إلى البدعة، وغير ذلك.
وحفظ النفس من جانب الوجود: إباحة الطعام والشراب، وما يحتاج إليه الإنسان، ومن جانب العدم: تحريم قتل النفس، شرع القصاص، الدية، وغير ذلك.
وحفظ العقل من جانب الوجود: أباح الطعام والشراب، والتداوي، وغيرها، ومن جانب العدم: حرم المسكرات، وشرع حد شارب الخمر؛ لأنها تزيل العقل، وبقاء العقل مقصود للشرع؛ لأنه آلة الفهم، وحامل الأمانة، ومحل الخطاب، والتكليف.
وحفظ العرض والنسل من جانب الوجود: أباح النكاح، وشرع للرضاع أحكام، والحضانة، والنفقات، وغير ذلك، ومن جانب العدم: حرم الزنا، وشرع الحد فيه، وحرم القذف؛ لأن في الاعتداء على العرض اختلاط الأنساب، وتلطيخ الفراش، وانقطاع التعهد عن الأولاد.
وحفظ المال من جانب الوجود: أباح المعاملات المالية كالبيع، والسلم، والقراض، والتجارة، وسائر الصنائع، ومن جانب العدم: حرم
السرقة، وعاقب عليها، وحرم الربا، والغرر، والغش، والاختلاس، وأكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك.
واعتبار المصالح المرسلة قصرها الغزالي في «المستصفى» ، والطوفي في «شرح مختصر الروضة» على الضروريات، لكن الغزالي في شفاء الغليل عمم القول بها في الضروريات، والحاجيات، فقال بعد ذكر الضروريات والحاجيات: ثم للشرع في هذا الجنس نوع تصرف، فلا ينبغي أن نغفل عنه، وهو إدارة الحكم على أمارة المصلحة من غير تتبع وجه المصلحة، وإنما الغرض التنبيه على مراتب المناسب، وأن حاصل جملتها يرجع إلى رعاية المقاصد، وأن المقصود قد يقع في محل الحاجة، وقد يقع في محل الضرورة، وقد يعلم كونها مقصودًا من جهة الشرع على القطع، وقد يظن ذلك
(1)
.
وقال في موضع آخر: أما الواقع من المناسبات في رتبة الضرورات، أو الحاجات -كما فصلناها-، فالذي نراه فيها: أنه يجوز الاستمساك بها إن كان ملائمًا لتصرفات الشرع، ولا يجوز الاستمساك بها إن كان غريبًا لا يلائم القواعد
(2)
.
(1)
شفاء الغليل للغزالي (168).
(2)
شفاء الغليل للغزالي (209).
وهذا هو الأولى؛ لأن الحاجة إذا كانت عامة تنزل منزلة الضرورة.
*
أقوال العلماء في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة:
القول الأول: جواز التمسك بالمصالح مطلقًا.
وهو مذهب مالك وبعض الشافعية ورجحه الطوفي
(1)
.
وقال القرافي: لنا أن الله تعالى إنما بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحصيل مصالح العباد عملًا بالاستقراء، فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع.
وقال: قد تقدم أن المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق؛ لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات، ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك
(2)
.
قال: وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى ب «الغياثي» أمورًا وجوزها وأفتى بها، والمالكية بعيدون عنها، وجسر عليها، وقالها للمصلحة المطلقة، وكذلك الغزالي في «شفاء الغليل» مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة.
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 210، 211)، شرح تنقيح الفصول للقرافي (350).
(2)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (351).
قال الزركشي: قال البغدادي في «جنة الناظر» : لا تظهر مخالفة الشافعي لمالك في المصالح، فإن مالكًا يقول: إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياتها وكلياتها، وألَّا مصلحة إلا وهي معتبرة في جنسها، لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة.
قال: وما حكاه أصحاب الشافعي عنه لا يعدو هذه المقالة؛ إذ لا أخص منها إلا الأخذ بالمصلحة المعتبرة بأصل معين، وذلك مغاير للاسترسال الذي اعتقدوه مذهبًا، فبان أن من أخذ بالمصلحة غير المعتبرة، فقد أخذ بالمرسلة التي قال بها مالك، إذ لا واسطة بين المذهبين
(1)
.
واستدل القائلون بهذا القول بأدلة منها:
1 -
ما جاء في رواية الصحيحين: وانتهرها بعض أصحابه، فقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به. فقالت: سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر
(2)
.
قال ابن حجر: المراد بقوله: حتى أسقطوا لها به. يقال: أسقط
(1)
البحر المحيط (6/ 13).
(2)
أخرجه البخاري (4757)، ومسلم (2770) من حديث عائشة.
الرجل في القول إذا أتى بكلام ساقط. والمراد: حتى صرحوا لها بالأمر، فلهذا تعجبت.
قال الشنقيطي: وبريرة مسلمة، وانتهارها من غير ذنب أذى لها بلا موجب، وأذى المسلم حرام، وكان مستند من انتهرها هو مطلق المصلحة المرسلة، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فهو تقرير منه للعمل بالمصلحة المرسلة في الجملة
(1)
.
2 -
أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يعملون بها من غير أن يخالف منهم أحد، فقد عملوا أمورًا لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو نقط المصحف وشكله وكتابته؛ لأجل حفظه في الأولين من التصحيف، وفي الثالث من الذهاب والنسيان، ولم يتقدم في هذه الأمور أمر ولا نظير.
3 -
حرق عثمان رضي الله عنه للمصاحف، وجمع الناس على مصحف واحد خوف الاختلاف، وكان ذلك بمحضر من الصحابة كما صرح بذلك علي بن أبي طالب، حيث قال: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف،
(1)
المصالح المرسلة (22) بتصرف.
وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعًا
(1)
.
4 -
تولية أبي بكر لعمر؛ لأنه لا مستند له فيها إلا المصلحة المرسلة على التحقيق، وقول بعضهم إنه من القياس خلاف الظاهر، يعنون قياس العهد على العقد.
5 -
ترك عمر الخلافة شورى بين ستة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض
(2)
.
6 -
تدوين الدواوين، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن لمعاقبة أهل الجرائم، فعل ذلك عمر رضي الله عنه.
7 -
هدم عثمان الدور المجاورة للمسجد عند ضيق المسجد لأجل مصلحة توسعته، وزاد الأذان الأول للجمعة عند الزوراء لكثرة الناس، ثم نقله هشام إلى المسجد، وكل ذلك لمطلق المصلحة
(3)
.
(1)
فتح الباري (9/ 23) دار الحديث حديث (4987) باب جمع القرآن، كنز العمال للمتقي الهندي (4777)، المصاحف لابن أبي داود (22، 23)، تفسير القرطبي (1/ 63) دار الحديث.
(2)
أخرجه البخاري (1392)، ومسلم (567).
(3)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (351)، مختصر الروضة للطوفي (3/ 213)، المصالح المرسلة للشنقيطي (22، 23).
القول الثاني: منع التمسك بها مطلقًا.
قال الزركشي: وهو قول الأكثرين منهم القاضي وأتباعه، وحكاه ابن برهان عن الشافعي، قال الإمام: وبه قال طوائف من متكلمي الأصحاب
(1)
.
وقال الآمدي: وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به، وهو الحق
(2)
.
وقال ابن قدامة: والصحيح أن ذلك ليس بحجة
(3)
.
وهذا مذهب الظاهرية الذين التزموا بالنصوص، وقد اعتبروا أن المصالح هي ما وردت بظاهر النصوص، فأخذوها عن طريقه، ورفضوها إذا لم يدل النص عليها دلالة ظاهرة، فكان ذلك رفضًا للمصالح المرسلة
(4)
.
(1)
البحر المحيط للزركشي (6/ 76).
(2)
الإحكام للآمدي (4/ 160).
(3)
روضة الناظر للطوفي (167).
(4)
الأساس في أصول الفقه. د/ محمود عبد الرحمن (2/ 381).
القول الثالث: إذا كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع، أو لأصل جزئي، جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا.
ونسبه ابن برهان في «الوجيز» إلى الشافعي، وقال: إنه الحق المختار.
وقال إمام الحرمين: ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى اعتماد تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة، بشرط ملاءمته للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول، لكن إذا قيدناه بهذا انسلخت المسألة من المصالح المرسلة، فإنه إذا شرط التقريب من الأصول الممهدة، وفسره بالملاءمة كان من باب القياس في الأسباب فيكون من قسم المعتبر، وبه يخرج عن الإرسال، ويعود النزاع لفظيًّا
(1)
.
القول الرابع: إذا كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة:
فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر، وهذا اختيار الغزالي والبيضاوي.
والمراد بالضرورية: ما يكون من الضروريات الخمس التي يجزم بحصول المنفعة منها، والكلية: أن تعم جميع المسلمين، لا لو كانت
(1)
البحر المحيط (6/ 77، 78).
لبعض الناس دون البعض، أو في حالة مخصوصة
(1)
.
قال الغزالي رحمه الله: الواقع في الرتبتين الأخيرتين -الحاجيات والتحسينات- لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل، إلا أنه يجري مجرى الشرع بالرأي، فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس، أما الواقع في رتبة الضرورات، فلا بُعْد في أن يؤدي إليه اجتهاد، وإن لم يشهد له أصل معين.
ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا، وغلبوا على دار الإسلام، وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلمًا معصومًا لم يذنب ذنبًا، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين، فيقتلونهم، ثم يقتلون الأسارى أيضًا، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال، فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعًا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، فكان هذا التفاتًا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق، وهو قتل
(1)
البحر المحيط (6/ 78، 79).
من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية
(1)
.
لكن ذهب الغزالي في (شفاء الغليل) إلى اعتبار الحاجيات أيضًا، فقال: أما الواقع من المناسبات في رتبة الضرورات، أو الحاجات -كما فصلناها-، فالذي نراه فيها: أنه يجوز الاستمساك بها إن كان ملائمًا لتصرفات الشرع، ولا يجوز الاستمساك بها إن كان غريبًا لا يلائم القواعد
(2)
.
*
سبب الخلاف في العمل بالمصلحة المرسلة:
ويرجع سبب الخلاف في العمل بالمصلحة المرسلة إلى اختلافهم في معنى الإرسال، فإنه قد يراد به معنيان:
الأول: قد يراد به أنه يوكل أمر تقدير المصلحة إلى العقول البشرية دون التقيد باعتبار الشارع، أو عدم اعتباره لها.
الثاني: قد يراد به ألا يتقيد المجتهد في حكمه على ما يستجد من الأحداث المختلفة بالقياس على أصل منصوص عليه، وأن يتقيد
(1)
المستصفى للغزالي (1/ 556، 557).
(2)
شفاء الغليل للغزالي (209).
بالمصالح والأهداف التي رمى إليها الشارع، ولو أن العلماء اتفقوا على أحد هذين المعنيين للإرسال ما اختلفوا في حكم العمل بالمصلحة المرسلة.
فإن من أنكر العمل بها لاحظ المعنى الأول، ولهذا يقول الشافعي رحمه الله حينما ينكر العمل بها: القول بالاستحسان قول بأن الله تعالى ترك بعض مصالح خلقه، فلم يشرع من الأحكام ما يحققه لهم، أو يحفظه عليهم، وهو مناقض لقوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36].
ويقول الغزالي: كل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فُهِم من الكتاب، والسنة، والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطرحة، ومن صار إليها فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع.
ومن جوز العمل بها لاحظ المعنى الثاني؛ ولهذا يقول الغزالي: وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودًا بالكتاب والسنة والإجماع؛ فليس خارجًا من هذه الأصول، لكنه لا يسمى قياسًا، بل مصلحة مرسلة؛ إذ القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، فتسمى لذلك مصلحة
مرسلة.
وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافًا، فذلك عند تعارض مصلحتين، ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى، ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحًا لكلمة الردة، وشرب الخمر، وأكل مال الغير، وترك الصوم، والصلاة؛ لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور، ولا يباح به الزنا، والقتل؛ لأنه مثل محذور الإكراه.
وأبحنا أكل مال الغير بالإكراه -عند الضرورة- لعلمنا أن المال حقير في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدم
(1)
.
لذلك يقول الطوفي: اعلم أن هؤلاء الذين قسموا المصلحة إلى معتبرة، وملغاة، ومرسلة ضرورية، وغير ضرورية تعسفوا وتكلفوا، والطريق إلى معرفة حكم المصالح أعم من هذا وأقرب، وذلك بأن نقول: قد ثبت مراعاة الشرع للمصلحة والمفسدة بالجملة إجماعًا، وحينئذ نقول: الفعل إن تضمن مصلحة مجردة حصلناها، وإن تضمن مفسدة مجردة نفيناها، وإن تضمن مصلحة من وجه، ومفسدة من وجه،
(1)
المستصفى (1/ 566 - 568)، مجموع الفتاوى (11/ 343 - 345)، الأساس في أصول الفقه (2/ 384، 385).
فإن استوى في نظرنا تحصيل المصلحة ودفع المفسدة؛ توقفنا على المرجح، أو خيرنا بينهما، وإن لم يستو ذلك، بل ترجح أحد الأمرين تحصيل المصلحة، أو دفع المفسدة، فعلناه؛ لأن العمل بالراجح متعين شرعًا
(1)
.
كما في قصة موسى والخضر، لما خرق الخضر السفينة، وأنكر موسى عليه بين له أن مفسدة خرق السفينة صغيرة بجوار مصلحة حفظ السفينة بأكملها من غصب الملك الظالم.
قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)} [الكهف: 79]، أي كل سفينة صالحة، فلما رآها مخرقة تركها لهم ثم قاموا بإصلاحها.
وزاد الشنقيطي رحمه الله ذلك المعنى بيانًا فقال: فالحاصل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية، وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها، ومن تتبع وقائع الصحابة، وفروع المذاهب علم صحة ذلك، ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ، وغاية
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 214).
الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة، وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها، أو مفسدة أرجح منها، أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال.
مثال ما عارض مصلحة أرجح منها: منع زراعة العنب لتحقيق مصلحة السلامة من عصر الخمر من العنب تعارض مصلحة أرجح منها، وهي انتفاع الناس بالعنب، والزبيب.
ومثال ما عارض مفسدة أرجح منها: ما اذا طلب المسلمون فداء أساراهم من الكفار، فامتنع الكفار أن يقبلوا الفداء إلا بسلاح يعلم به أن ذلك السلاح ييسر لهم قتل عدد الأسارى أو أكثر من المسلمين، فإن كان أكثر فهي مفسدة راجحة، وإن كان مساويًا فهي مفسدة مساوية.
ومثال ما أدى إلى مفسدة في ثاني الحال: ما صنعه قوم نوح عليه السلام في بادئ الأمر اتخذوا الصور والتماثيل لرجال صالحين يغوث ويعوق، ونسر، وود، وسواع لظنهم في ذلك مصلحة، وهي تذكيرهم بالطاعة والعبادة، لكنها مستلزمة لمفسدة في المآل، وهي أعظم المفاسد؛ إذ كان ذلك وسيلة إلى الكفر البواح والشرك بالله
(1)
.
وهذه الضوابط تنطبق على المصالح سواء الضرورية، أو الحاجية،
(1)
المصالح المرسلة للشنقيطي (36 - 39) بتصرف.
أو التحسينية.
تنبيه: المصالح المرسلة ليست أصلًا مستقلًّا من مصادر التشريع؛ لأن مرد المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب، والسنة، والإجماع.
لذلك فلا بد من ضبط المصلحة المرسلة بضوابط، وهي مع ما سبق:
1 -
أن لا تعارض نصًّا خاصًّا قطعيًّا.
2 -
أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع، وليس ذلك قاصرًا على الضروريات، بل تشمل الحاجيات، والتحسينات أيضًا
(1)
.
3 -
أن لا تدخل مجال العبادات، وما جرى مجراها من الأمور الشرعية.
فالمصلحة المرسلة تكون في باب المعاملات، والعادات، وما كان من باب الوسائل لتيسير العبادات.
4 -
أن تكون المصلحة محققة، أو يغلب على الظن تحققها.
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 344)، نفائس الأصول شرح المحصول للقرافي (9/ 4088).
أما الموهومة، أو المظنونة ظنًّا ضعيفًا؛ فلا يجوز العمل بها.
مثل: سلب الرجل الحق في الطلاق، وجعله بيد القاضي؛ لأن المنفعة في ذلك لا تساوي المنفعة التي تتحقق بتثبيت الطلاق بيد الرجل.
وقيل: لا يشترط فيها أن تكون عامة كما اشترطها الإمام الغزالي وغيره؛ لأن هناك كثيرًا من المصالح الخاصة التي تراعيها الشريعة، مثل: حفظ المال من السرف بالحجر على السفيه، فذلك نفع لصاحب المال ليجده عند رشده، أو يجده وارثه.
وكذلك مصلحة المرأة التي فقد زوجها، فقد أفتى عمر رضي الله عنه أنها تنكح إن طالت بها المدة.
وقد يقال إنها أيضًا عامة هنا لمصلحة هذا الجنس من السفهاء، أو جنس النساء. والله أعلم.
5 -
في المجتهد الذي يتبين المصلحة، أو يبني عليها الحكم؛ يجب أن يتصف بصفات المجتهد المعروفة من العلم بعلوم الشريعة، والتقوى، والورع، والبعد عن الهوى، ومسايرة الأهواء المشبوهة
(1)
.
(1)
المصلحة المرسلة وتطبيقاتها المعاصرة (103 - 109)، عبد الحميد علي حمد محمود، جامعة النجاح الوطنية، نابلس- فلسطين (2009) بتصرف.
6 -
ألا تؤدي إلى تفويت مصلحة أرجح منها، أو إلى ارتكاب مفسدة مساوية أو راجحة؛ لذلك امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من تغيير بناء الكعبة خوفًا من مفسدة ارتداد قريش عن الإسلام، ولا شك أن الحفاظ على إيمانهم وإسلامهم أرجح بكثير من تغيير بناء الكعبة.
فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهدٍ بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض وجعلت له بابين، بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، فبلغت به أساس إبراهيم»
(1)
.
(2)
.
•
نماذج تطبيقية معاصرة للمصلحة المرسلة:
1 -
في مجال السياسة الشرعية، وتشريع الأحكام والقوانين، ومن ذلك:
أ- مبدأ فصل السلطات.
ب- استحداث مؤسسة للقضاء، وتقسيم المحاكم حسب نوعية القضايا، فهناك محكمة الجنايات، والمحكمة التجارية، والابتدائية،
(1)
أخرجه البخاري (1586)، ومسلم (1333).
(2)
أخرجه البخاري (1584)، ومسلم (1333).
والاستئناف.
ج- تشريع القوانين التي تنظم حياة الناس، مثل:
- قانون المرور والسير لضبط حركة المرور، وتقليل المخالفات التي تؤدي إلى إزهاق أرواح الناس.
- قانون حماية البيئة للحد من التلوث المضر بالناس.
- قوانين حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراعات.
2 -
في مجال الاقتصاد:
مثل: إنشاء البنوك الإسلامية في العصر الحاضر، وإنشاء هيئة رقابية للبنك تراقب عمله، وتضبطه بضوابط الشرع
(1)
.
(1)
المصلحة المرسلة ضوابطها وبعض تطبيقاتها المعاصرة، د/ محمد زركطود (70 - 82) بتصرف كبير.
الفصل التاسع:
سد الذرائع
سد الذرائع
معناها لغة: قال ابن منظور: الذريعة: الوسيلة. وقد تذرع فلان بذريعة أي توسل، والجمع ذرائع. والذريعة، مثل الدريئة: جملٌ يختل به الصيد يمشي الصياد إلى جنبه، فيستتر به، ويرمي الصيد إذا أمكنه، وذلك الجمل يسيب أولًا مع الوحش حتى تألفه.
والذريعة: السبب إلى الشيء وأصله من ذلك الجمل. يقال: فلان ذريعتي إليك أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك.
قال ابن الأعرابي: سمي هذا البعير الدريئة والذريعة، ثم جعلت الذريعة مثلًا لكل شيء أدنى من شيء، وقرب منه، وأنشد:
وللمنية أسباب تقربها
…
كما تقرب للوحشية الذرع
(1)
واصطلاحًا: هو ما ظاهره مباح، ويتوصل به إلى محرم.
وبيانه: أن يظهر عقدًا مباحًا يريد به محرمًا مخادعةً، وتوسلًا إلى
(1)
لسان العرب (3/ 1498)(ذرع) دار المعارف.
فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق، ونحو ذلك.
وذكر ابن قدامة صورة من التحايل على بيع العينة، ثم قال: وهكذا لو أقرضه شيئًا، أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها، أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلًا إلى أخذ عوض عن القرض، فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم، وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: ذلك كله وأشباهه جائز إذا لم يكن مشروطًا في العقد، وقال أصحاب الشافعي: يكره أن يدخلا في البيع على ذلك؛ لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه
(1)
.
وقال القرافي: الذريعة: الوسيلة إلى الشيء. ومعنى ذلك: حسم مادة وسائل الفساد دفعًا له، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلةً إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل، وهو مذهب مالك رحمه الله
(2)
، وهو أيضًا مذهب أحمد رحمه الله.
قال الطوفي: ومن مذهبنا أيضًا سد الذرائع، وهو قول أصحابنا بإبطال الحيل، ولذلك أنكر المتأخرون منهم على أبي الخطاب، ومن
(1)
المغني لابن قدامة (6/ 116، 117).
(2)
شرح تنقيح الفصول (352، 353).
تابعه عقد باب في كتاب الطلاق يتضمن الحيلة على تخليص الحالف من يمينه في بعض الصور، وجعلوه من باب الحيل الباطلة، وهي التوصل إلى المحرم بسبب مباح، وقد صنف شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله كتابًا بناه على بطلان نكاح المحلل، وأدرج جميع قواعد الحيل، وبين بطلانها بأدلته على وجه لا مزيد عليه
(1)
.
قال الزركشي: قال الباجي: ذهب مالك إلى المنع من الذرائع، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز منعها.
وقال القرطبي: وسد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا
(2)
.
وقال القرطبي في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 104]، التمسك بسد الذرائع وحمايتها، وهو مذهب مالك، وأصحابه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وقد دل على هذا الأصل الكتاب والسنة
(3)
.
(1)
شرح مختصر الروضة (3/ 214).
(2)
البحر المحيط (6/ 82).
(3)
تفسير القرطبي (2/ 57).
*
الأدلة على قاعدة سد الذرائع:
1 -
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 104].
قال القرطبي: ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك، وهي سبٌّ بلغتهم، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ؛ لأنه ذريعة للسبِّ.
قال ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا. على جهة الطلب والرغبة من المراعاة، أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سبًّا، أي اسمع لا سمعت، فاغتنموها وقالوا: كنا نسبه سرًّا، فالآن نسبه جهرًا. فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فنزلت الآية، ونهوا عنها؛ لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ، وتقصد المعنى الفاسد فيه
(1)
.
2 -
قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فمنع من سبِّ آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك، وفي هذه دليل على وجوب الحكم بسد الذرائع.
3 -
قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ
(1)
تفسير القرطبي (2/ 57).
إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} [الأعراف: 163].
فحرم عليهم تبارك وتعالى الصيد في يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شُرَّعًا، أي: ظاهرة، فسدوا عليها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، وكان السد ذريعة للاصطياد، فمسخهم الله قردة وخنازير، وذكر الله لنا ذلك في معنى التحذير عن ذلك.
وقال ابن قدامة في «المغني» : ولنا أن الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها، فمسخهم قردة، وسماهم معتدين، وجعل ذلك نكالًا وموعظة للمتقين ليتعظوا بهم، ويمتنعوا من مثل أفعالهم
(1)
.
قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} [البقرة: 65 - 66].
قال بعض المفسرين: أي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
4 -
حرم الله تعالى الزنا، وحرم وسائله، وذرائعه:
قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)}
(1)
المغني (4/ 194) دار الفكر.
[الإسراء: 32]، وقال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] الآية.
ونهى النساء عن إبداء الزينة لغير المحارم، قال تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31] الآية، ونهى عن التبرج فقال تعالى:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] الآية.
وأمر بالحجاب، ونهى عن الخلوة بالنساء إلى غير ذلك من ذرائع الوقوع في الفاحشة.
5 -
(1)
.
فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في الحرام؛ وذلك سدًّا
(1)
أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599)، واللفظ له.
للذريعة
(1)
.
6 -
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» ، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال:«يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه»
(2)
، وفي رواية:«ويسب أمه فيسب أمه»
(3)
.
قال النووي رحمه الله: وفيه قطع الذرائع، فيؤخذ منه النهي عن بيع العصير ممن يتخذ الخمر، والسلاح ممن يقطع الطريق، ونحو ذلك، والله أعلم
(4)
.
قال ابن حجر رحمه الله: قال ابن بطال: هذا الحديث أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم، والأصل في هذا الحديث قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] الآية، واستنبط منه الماوردي منع بيع الثوب الحرير ممن يتحقق أنه يلبسه، والغلام الأمرد ممن
(1)
تفسير القرطبي (1/ 476).
(2)
أخرجه البخاري (5973).
(3)
أخرجه مسلم (90).
(4)
شرح النووي (2/ 91).
يتحقق أنه يفعل به الفاحشة، والعصير ممن يتحقق أنه يتخذه خمرًا
(1)
.
7 -
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»
(2)
.
قال القرطبي: قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم إنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك
(3)
.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ،
(1)
فتح الباري لابن حجر (10/ 487).
(2)
أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528).
(3)
تفسير القرطبي (1/ 476)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 654).
قالت: لولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا
(1)
.
قال النووي: قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية
(2)
.
8 -
حديث ابن عمرقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»
(3)
.
قال أبو عبيد الهروي: العينة هو أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به، فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم، وقبضها، ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضًا عينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم.
وسميت عينة؛ لحصول النقد لصاحب العينة، وذلك لأن العين هو
(1)
أخرجه البخاري (1330، 1390)، ومسلم (529).
(2)
شرح النووي لمسلم (5/ 16).
(3)
إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3462)، ومداره على أبي عبد الرحمن الخراساني، واستنكره عليه ابن عدي والذهبي.
المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره
(1)
.
قال ابن القيم في بيان تحريم العينة: لأنها وسيلة إلى الربا، والوسيلة إلى الحرام حرام.
9 -
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما الأعمال بالنيات»
(2)
.
قال ابن القيم: والمتوسل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرم إنما نيته المحرم، ونيته أولى به من ظاهر عمله.
قال ابن المنير: والاستدلال بهذا الحديث على سد الذرائع، وإبطال الحيل من أقوى الأدلة
(3)
.
10 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»
(4)
.
(1)
تفسير القرطبي (1/ 476).
(2)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907)، وأخرجه البخاري (6953) كتاب الحيل، باب في ترك الحيل.
(3)
فتح الباري لابن حجر (2/ 396).
(4)
إسناده حسن: أخرجه ابن بطة في إبطال الحيل حديث (56)، قال ابن القيم: بإسناد حسن. وحسنه الألباني في صفة الفتوى (28)، وفي السلسلة الضعيفة (1/ 608)، قال: إسناده جيد. وفي إرواء الغليل (5/ 375)، وقال ابن كثير: إسناده جيد. التفسير سورة البقرة آية (66).
11 -
حديث عمر بن الخطاب أنه بلغه أن فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها»
(1)
.
قال ابن القيم: جملوها يعني أذابوها وخلطوها، وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم، ويحدث لها اسم آخر وهو الودك، وذلك لا يفيد الحل، فإن التحريم تابع للحقيقة، وهي لم تتبدل بتبدل الاسم.
قال: ولهذا الأصل -وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله، أو إسقاط ما أوجبه الله عليه- أكثر من مئة دليل، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المُحَلِّل والمُحَلَّل له
(2)
، مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح، لما كان مقصوده التحليل، لا حقيقة النكاح.
قال الترمذى: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم من
(1)
أخرجه البخاري (2223)، ومسلم (1582) من حديث عبد الله بن عباس، وجملة (وأكلوا أثمانها) أخرجها البخاري (2224)، ومسلم (1583) من حديث أبي هريرة.
(2)
إسناده حسن: أخرجه الترمذي (1120) من حديث ابن مسعود مرفوعاً، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وورد عن عدد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وعقبة بن عامر، وغيرهم.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وذكر ابن القيم رحمه الله تسعة وتسعين وجهًا لسد الذرائع المفضية إلى الحرام في كتابه القيم إعلام الموقعين
(1)
.
*
قيمة سد الذرائع:
قال ابن القيم: وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان:
أحدهما: مقصود لنفسه.
والثاني: وسيلة إلى المقصود.
والنهي نوعان:
أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه.
والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة.
فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين
(2)
.
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 5 - 65) ط. ابن الجوزي.
(2)
إعلام الموقعين (4/ 66) ط. ابن الجوزي.
*
أقسام سد الذرائع:
قال القرافي رحمه الله: وأما الذرائع فقد أجمعت الأمة على أنها ثلاثة أقسام:
أحدها: معتبرٌ إجماعًا، كحفر الآبار في طرق المسلمين، وإلقاء السم في أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذٍ.
وثانيها: ملغًى إجماعًا، كزراعة العنب، فإنه لا يمنع خشية الخمر، والشركة في سكنى الدور خشية الزنا، فلا يمنع من ذلك.
وثالثها: مختلفٌ فيه، كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا
(1)
.
وقال القرطبي: وعليه -أي سد الذرائع- بنى المالكية كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها، وليس عند الشافعية كتاب الآجال؛ لأن ذلك عندهم عقود مختلفة مستقلة، قالوا: وأصل الأشياء على الظواهر لا على الظنون، والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها، وهذا هو الربا بعينه فاعلمه
(2)
، وبيوع الآجال
(1)
شرح تنقيح الفصول (353).
(2)
تفسير القرطبي (1/ 477).
هي بيع العينة، وتقدم إيضاحه.
وقسم ابن القيم رحمه الله الوسائل المفضية إلى المفاسد إلى أربعة أقسام:
الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة وليس لها ظاهر غيرها، مثل شرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، والزنا المفضي إلى اختلاط الأنساب وفساد الفراش ونحو ذلك، فالشريعة جاءت بالمنع من هذا القسم كراهة، أو تحريمًا حسب درجات المفسدة.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح لكن قصد بها التوسل إلى المفسدة، كمن يقصد بعقد النكاح التحليل، أو بعقد البيع الربا، ونحو ذلك.
الثالث: وسيلة موضوعة للمباح يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبًا، ومفسدتها أرجج من مصلحتها، مثال: الصلاة في أوقات النهي من غير سبب، وسب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها، ونحو ذلك.
فهذان القسمان هما محل النظر، وهما اللذان دلل ابن القيم على سد الذرائع فيهما من تسعة وتسعين وجهًا.
الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم، أو استحبابه، أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة والمفسدة
(1)
.
وهناك قسم خاص نبه عليه القرافي رحمه الله وهو: أن تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال إلى العدو، والذي هو محرم عليهم للانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة، وكدفع مال لرجل يأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن ذلك إلا به.
وكدفع المال للمحارب حتى لا يقتل هو، وهو صاحب المال، واشترط مالك فيه اليسارة.
قال: فحاصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها خاصة بنا.
واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، ويكره، ويندب، ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة، والحج.
وموارد الأحكام على قسمين:
الأول: مقاصد، وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
(1)
البحر المحيط (2/ 82)، إعلام الموقعين (3/ 554، 555) ط. ابن الجوزي.
الثاني: وسائل، وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحريمٍ أو تحليلٍ، غير أنها أخفض رتبةً من المقاصد في حكمها، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة، وينبه على اعتبار الوسائل قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، فأثابهم الله على الظمأ والنصب، وإن لم يكونا من فعلهم؛ لأنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة الوسيلة
(1)
.
فمعنى فتح الذرائع: الأخذ بالذرائع إذا كانت النتيجة مصلحة؛ لأن المصلحة مطلوبة.
تتمة: كيفية العلم بإفضاء الذرائع إلى مفسدة؟
1 -
بالتجربة والمشاهدة، كما في منع النبي صلى الله عليه وسلم بيع الثمر قبل بدو الصلاح بعد ما رأى ما يفضي إليه من النزاع والشقاق.
قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (353، 354) دار الفكر.
يتبايعون الثمار، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام، عاهات يحتجون بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك:«فإما لا، فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر» ، كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم
(1)
.
فهنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم منع بيع الثمر قبل بدو الصلاح لما ظهر بالتجربة والمشاهدة كثرة النزاع الناتج عن أكل المال بالباطل، الذي هو مفسدة الغرر الكثير المحرم، فلما ظهر ذلك نهى عنه.
2 -
يعلم من الحوافز الفطرية، والسنن الاجتماعية والكونية، وإن لم يتحقق ذلك في الواقع، وهو ما عبر عنه شيخ الإسلام بأن الطبع متقاض لإفضائها، ومن هذا الباب النهي عن سب آلهة المشركين؛ لأن هذا يحفزهم على مبادلة السب بمثله وفق مبدأ المعاملة بالمثل، وهذا هو مقتضى الجبلة البشرية، ولا يلزم أن ننتظر حتى يتحقق غلبة مبادلتهم السب لنمتنع عن سب آلهتهم، وعلى هذا أكثر الذرائع المحرمة شرعًا
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2193) و مسلم (1539).
(2)
قواعد الذرائع في المعاملات المالية، د/ سامي سويلم. ضمن فعاليات المؤتمر الخامس عشر للهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية (282).
كذلك ما كان طريقة العلوم، مثل علم الاقتصاد في إفضاء المعاملة إلى الربا، أو علم الطب في الإفضاء إلى الضرر، وهكذا.
مسائل بنيت على أصل أو قاعدة سد الذرائع:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين - مع كونه مصلحة-؛ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس، وقولهم: إن محمدًا يقتل أصحابه
(1)
.
2 -
حرم الله تعالى الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة، وحرم القطرة الواحدة منها، وحرم إمساكها للتخليل لئلا تتخذ القطرة ذريعة الى الحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب.
3 -
حرم الخلوة بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن سدًّا لذريعة ما يحاذر من الفتنة، وغلبات الطباع.
4 -
نهى عن التشبه بأهل الكتاب، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»
(2)
، وقوله:«إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (3518)، ومسلم (2584) من حديث جابر بن عبد الله.
(2)
أخرجه البخاري (3462)، ومسلم (2103) من حديث أبي هريرة.
(3)
إسناده حسن: أخرجه أبو داود (652) وابن حبان (2186) من حديث شداد بن أوس مرفوعاً.
5 -
حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، وقال:«إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»
(1)
، حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة، كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم.
6 -
نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع الرجل بين سلف وبيع
(2)
، وذلك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفًا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفًا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا.
7 -
ما رواه البخاري، عن عبد الله بن سلام أنه قال لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري: إنك بأرضٍ الربا بها فاشٍ، إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قتٍّ، فلا تأخذه فإنه ربا
(3)
.
فنهى المقرض عن قبول الهدية من المقترض، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية، فيكون ربا، فإنه يعود
(1)
حسن لطريقيه: أحمد (1/ 372)، والترمذي (1125) من طرق عن ابن عباس مرفوعاً.
(2)
إسناده حسن: أخرجه أحمد (2/ 178)، وأبو داود (3504)، والترمذي (1234) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(3)
أخرجه البخاري (3814).
إليه ماله، وأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض.
8 -
أن الوالي والقاضي والشافع ممنوع من قبول الهدية، وهو أصل فساد العالم، وإسناد الأمر إلى غير أهله، وتولية الخونة، والضعفاء والعاجزين، وقد دخل بذلك من الفساد ما لا يحصيه إلا الله، وما ذاك إلا لأن قبول الهدية ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته، وحبك الشيء يعمى ويصم، فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته مكافأة له مقرونة بشره، وإغماض عن كونه لا يصلح.
9 -
نهي المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخورًا
(1)
، وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال، وتشوفهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرج تفلة، وأن لا تتطيب، وأن تقف خلف الرجال، وأن لا تسبح في الصلاة إذا نابها شيء، بل تصفق ببطن كفها على ظهر الأخرى، كل ذلك سدًّا للذريعة، وحماية عن المفسدة
(2)
.
10 -
مسألة رتق غشاء البكارة: تمزق غشاء البكارة يحدث بأسباب مختلفة: جماع، أو وثبة، أو تعبث المرأة بيدها في فرجها، أو زنا، أو
(1)
أخرجه مسلم (443) من حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود بالنهي عن التطيب، وأخرجه مسلم (444) من حديث أبي هريرة بالنهي عن البخور.
(2)
انظر هذه المسائل وغيرها في إعلام الموقعين (4/ 5 - 65) ط. ابن الجوزي.
اغتصاب - والعياذ بالله-، ومن ثم اختلف الحكم:
1 -
إذا كان سبب التمزق حادثة، أو فعلًا لا يعد في الشرع معصية، ولا جماعًا في نكاح صحيح ينظر، فإن غلب على الظن أن الفتاة ستلاقي عنتًا وظلمًا بسبب الأعراف السائدة كان إجراء الرتق واجبًا؛ لما فيه من دفع مفاسد يغلب على الظن وقوعها، فإن غلب وقوع المفسدة، ولو في المآل جعلت كالمفسدة الواقعة، وإن لم يغلب على الظن كان إصلاح الغشاء مندوبًا، لكنه غير واجب لما فيه من دفع مفاسد محتملة.
2 -
إن كان التمزق حصل بوطء من عقد نكاح صحيح، فإنه يحرم رتقه سواء كانت المرأة متزوجة، أو مطلقة، أو أرملة؛ لأنه لا مصلحة فيه، بل هو عندئذ نوع من العبث الذي لا يقره الشرع.
3 -
إذا كان التمزق بسبب زنا اشتهر بين الناس، سواء كانت نتيجة صدور حكم قضائي على الفتاة بالزنا، أو كانت نتيجة تكرار الزنا منها، وإعلانها بذلك، واشتهارها بالبغاء، ففي هذه الحالة يحرم على الطبيب رتق غشاء البكارة لعدم وجود مصلحة؛ ولأنه لا يخلو من مفسدة من الكذب والتدليس على الخاطب والزوج عندما تتزوج.
4 -
إن كان سبب التمزق زنا لم يشتهر، وتابت الفتاة من هذه المعصية، وهي مقبلة على الزواج، وتخشى الفضيحة؛ كان الطبيب مخيرًا في إجراء عملية الرتق، أو عدم إجرائها، وذهب بعض العلماء إلى
عدم جوازه أيضًا؛ لما يترتب عليه من مفاسد من الغش والتدليس، وتساهل الفتيات في الزنا، وإقدام الأطباء على إجهاض الفتاة، ثم إجراء عملية الرتق، ودرء المفسدة هنا مقدم على جلب المصلحة
(1)
.
5 -
إن كان سبب التمزق هو الاغتصاب والإكراه، فالأولى في هذه الحالة جوازه للستر عليها، وهي لا ذنب لها في ذلك، والله أعلم.
قاعدة: كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع
(2)
.
قال الشيخ السعدي في منظومته:
وسائل الأمور كالمقاصد
…
واحكم بهذا الحكم للزوائد
أي أن الوسائل تعطى أحكام المقاصد، فإذا كان مأمورًا بشيء كان مأمورًا بما لا يتم إلا به، وما يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وكذلك الوسائل إلى سائر المعاصي المحرمة، وكذلك الزوائد أي المتممات مثل: الرجوع من الصلاة، والجهاد، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، ونحو ذلك
(3)
.
(1)
أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها، د/ محمد بن محمد المختار الشنقيطي، (428 - 434)، مكتبة الصحابة، جدة.
(2)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (353).
(3)
القواعد الفقهية للسعدي (33، 34).
*
ضوابط العمل بقاعدة سد الذرائع:
1 -
أن يكون الفعل المأذون فيه يفضي إلى المفسدة غالبًا، فإن كان إفضاؤه إلى المفسدة نادرًا لا غالبًا، فإنه لا يمنع ذلك، بل هو باق على الأصل.
2 -
أن تكون المفسدة المترتبة على فعل المأذون فيه مساوية لمصلحته، أو زائدة عليها، فما كان كذلك، فإنه يمنع؛ لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وتقليل المفاسد وتعطيلها.
3 -
لا يشترط في العمل بسد الذرائع قصد المكلف إلى المفسدة، بل يكفي كثرة قصد ذلك في العادة؛ ذلك لأن القصد لا ينضبط في نفسه غالبًا، إذ إنه من الأمور الباطنة التي يصعب اعتبارها، فاعتبرت مظنة القصد، ولو صح تخلفه.
4 -
ما منع سدًّا للذريعة أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه، كنظر الخاطب والطبيب إلى الأجنبية، فإنه يباح للحاجة إذا أمنت المفسدة
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في جواز صلاة النوافل ذوات الأسباب في أوقات النهي: فالنهي عن الصلاة فيها هو من باب سد الذرائع لئلا
(1)
ضوابط العمل بسد الذرائع، موقع د. خالد المصلح، على الشبكة العنكبوتية.
يتشبه بالمشركين، فيفضي إلى الشرك، وما كان منهيًّا عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة في نفسه يشرع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولا تفوت المصلحة لغير مفسدة راجحة، والصلاة لله فيه ليس فيها مفسدة، بل هي ذريعة إلى المفسدة، فإذا تعذرت المصلحة إلا بالذريعة شرعت، واكتفى منها إذا لم يكن هناك مصلحة، وهو التطوع المطلق، فإنه ليس في المنع منه مفسدة، ولا تفويت مصلحة لإمكان فعله في سائر الأوقات، وهذا أصل لأحمد، وغيره: في أن ما كان من باب سد الذريعة إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه، وأما مع الحاجة للمصلحة فلا
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/ 214).
الفصل العاشر:
العرف أو العادة
العرف أو العادة
العرف لغة: ضد النكر، والمعروف: ضد المنكر.
يقال: أولاه عرفًا، أي معروفًا، والعرف أيضًا: الاسم من الاعتراف، ومنه قولهم: له عليَّ ألفٌ عرفًا، أي اعترافًا، وهو توكيد، والعرف: عرف الفرس. وقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} [المرسلات: 1]، يقال هو مستعار من عرف الفرس، أي يتتابعون كعرف الفرس، ويقال: أرسلت بالعرف، أي بالمعروف
(1)
.
قال ابن فارس: «عرف» العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة.
فالأول العرف: عرف الفرس. وسمي بذلك لتتابع الشعر عليه، ويقال: جاءت القطا عرفًا عرفًا، أي بعضها خلف بعض، والأصل الآخر المعرفة والعرفان، تقول: عرف فلانٌ فلانًا عرفانًا ومعرفة. وهذا
(1)
الصحاح للجوهري (4/ 1401) عرف.
أمر معروف. وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه؛ لأن من أنكر شيئًا توحش منه ونبا عنه. والعرف: المعروف، وسمي بذلك؛ لأن النفوس تسكن إليه. قال النابغة:
أبى الله إلا عدله ووفاءه
…
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
(1)
والعرف: هو العادة الجارية بين الناس، أما عادات الإنسان الخاصة فلا تسمى عرفًا
(2)
.
وهو ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم
(3)
.
واصطلاحًا: هو ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول
(4)
.
وقال المرداوي: قال ابن عطية: معناه: كل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة.
وقال ابن ظفر في (الينبوع): العرف ما عرفه العقلاء بأنه حسن، وأقرهم الشارع عليه
(5)
.
(1)
معجم مقاييس اللغة (4/ 281) ط. دار الفكر، بتصرف يسير.
(2)
الأساس في أصول الفقه (2/ 435).
(3)
المعجم الوجيز (عرف)(415).
(4)
التعريفات للجرجاني (130).
(5)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3852).
فالحاصل أن العرف أو العادة: هو ما ألفه المجتمع واعتاده، وسار عليه الناس في حياتهم من قول أو فعل مما لا ترده الشريعة.
*
أقسام العرف:
ينقسم بعدة اعتبارات:
قال الشاطبي: العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا، أو نهى عنها كراهة أو تحريمًا، أو أذن فيها فعلًا وتركًا.
والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
فأما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية، كما في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، والتأهب للمناجاة وستر العورات، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها، وإن اختلفت آراء المكلفين فيها، فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا، ولا القبيح حسنًا، حتى يقال مثلًا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه، أو أن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح؛ فلنجزه، أو
غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان نسخًا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل
(1)
.
وأما الثاني - وهو المراد فى هذا المبحث -، فهو أقسام:
1 -
ينقسم من حيث القول والفعل إلى:
أ- العرف العملي: وهو ما اعتاده الناس من أعمال كالبيع بالمعاطاة، وتقسيم المهر إلى معجل، ومؤجل، ودخول الحمامات العامة بدون تعيين مدة المكث فيها، ولا مقدار الماء المستهلك، واعتبار تقديم الطعام للضيف إذنًا له بالتناول منه.
ب- العرف القولي: هو ما تعارف عليه الناس في بعض ألفاظهم بأن يريدوا بها معنى معينًا غير المعنى الموضوع لها، كتعارفهم لفظ الولد على الذكر دون الأنثى، واسم اللحم على غير السمك، وإطلاق اسم الدابة على ذوات الأربع من الحيوانات.
2 -
ينقسم من حيث غلبة العادة إلى:
أ- عوائد ثابتة أو عامة: وهي السائدة في سائر البلاد والأقاليم، كوجود شهوة الطعام، والشراب، والوقاع، والنظر، والكلام، والبطش،
(1)
الموافقات للشاطبي (2/ 241، 242) ط. مكتبة الأسرة.
والغضب، وأشباه ذلك، فهي عادات بحكم الجبلة، وقد يكون العرف العامُّ قوليًّا أو فعليًّا.
ب- عادات خاصة أو عرف خاص: وقد يكون خاصًّا ببعض البلاد دون بعض كالنقود والعيوب، وبعض صفات المروءة، فمثلًا: كشف الرأس في بعض البلاد قبيح، ومن خوارم المروءة، وفي بعض البلاد الأخرى كأهل المغرب غير قادح في المروءة، وهذا أيضًا يكون قوليًّا، ويكون عمليًّا:
فالقولي: كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور، واختلاف ألفاظ المدح والذم من بلد لآخر، فاللفظ قد يكون مدحًا في بلد دون أخرى، وكذلك الذم.
والعملي: كتقسيم المهر إلى معجل ومؤجل في بعض البلدان.
3 -
ينقسم من حيث الصحة والفساد إلى:
أ- العرف الصحيح: هو ما لا يخالف نصًّا من نصوص الشريعة، ولا يفوت مصلحة معتبرة، ولا يجلب مفسدة راجحة، كتعارف الناس أن ما يقدمه الخاطب إلى مخطوبته من ثياب ونحوها يعتبر هدية، ولا يدخل في المهر، وكتعارف الناس عقد الاستصناع، وتقسيم المهر إلى مقدم ومؤخر.
ب- العرف الفاسد: ما كان مخالفًا لنص الشارع، أو يجلب ضررًا، أو يدفع مصلحة كتعارف الناس استعمال العقود الباطلة، كالاستقراض بالربا من المصارف، أو من الأفراد، ومثل اعتيادهم الميسر كاليانصيب، وسباق الخيل، والورق، والنرد، ونحو ذلك، وكاعتياد النساء التبرج والسفور، فهذا عرف فاسد، وكاعتيادهم حرمان الإناث من الميراث في بعض البلدان، وكتعارف كثير من الناس كثيرًا من المنكرات في الأفراح والمآتم، وكتعارفهم على بيع الثمار قبل بدو صلاحها.
وحكمه: أنه لا تجب مراعاته؛ لأن في مراعاته معارضة دليل شرعي، أو إبطال حكم شرعي، فإذا تعارف الناس عقدًا من العقود الربوية، أو عقدًا فيه غرر وخطر؛ فلا يكون لهذا العرف أثر في إباحة هذا العقد.
حجية العرف:
العرف الصحيح الذي لا يخالف نصًّا، ولا يفوت مصلحة، ولا يجلب مفسدة راجحة يعتبر أصلًا عند العلماء من أصول الاستنباط تبنى عليه الأحكام، ومن أقوالهم الدالة على حجية العرف: العادة مُحَكَّمة، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.
قال القرافي: والعادة غلبة معنى من المعاني على الناس، فهذه العادة
يقضى بها عندنا
(1)
.
وقال الشاطبي رحمه الله: العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا كانت شرعية في أصلها، أو غير شرعية، أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعًا، أمرًا، أو نهيًا، أو إذنًا، أو لا، أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر، وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك، فالعادة جرت بأن الزجر سبب الانكفاف «بيانه: أن العادة جرت أن النفس تكف عن الجريمة، وتنزجر إذا علمت بالعقوبة» عن المخالفة، كقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، فلو لم تعتبر العادة شرعًا لم يتحتم القصاص، ولم يشرع إذ كان يكون شرعًا لغير فائدة، وذلك مردود بقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وكذلك البذر سبب لنبات الزرع، والنكاح سبب للنسل، والتجارة سبب لنماء المال عادة.
وجه ثان: أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك، ولنعتبر بشريعتنا، فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان واحد، أي التكاليف واحدة من الصلاة وغيرها، وهذا يدل على أن الشارع اعتبر العادات المطردة فيهم، ولو لم يعتبرها
(1)
شرح تنقيح الفصول (352).
لما كان هناك مانع من اختلاف التشريع، واختلاف الخطاب
(1)
.
وجه ثالث: وهو أنه لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح؛ لزم القطع بأنه لا بد من اعتباره العوائد، لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد دل على جريان المصالح على ذلك؛ لأن أصل التشريع سبب المصالح والتشريع دائم، فالمصالح كذلك، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع.
ووجه رابع: وهو أن العوائد لو لم تُعتَبر؛ لأدى إلى تكليف ما لا يطاق، وهو غير جائز أو غير واقع، وذلك أن الخطاب إما أن يعتبر فيه العلم والقدرة على المكلف به، وما أشبه ذلك من العاديات المعتبرة في توجيه المكلف أو لا، فإن اعتبر فهو ما أردنا، وإن لم يعتبر فمعنى ذلك أن التكليف موجه على العالِم والقادر، وعلى غير العالِم والقادر، وعلى من له مانع، ومن لا مانع له، وذلك عين تكليف ما لا يطاق
(2)
.
ومن الأدلة على حجية العمل بالعرف: اعتبار الشرع أعراف الناس في كثير من المسائل، ومن ذلك:
1 -
النفقة على الزوجات والأولاد، فأمر تعالى بالنفقة ولم يحدد
(1)
الموافقات للشاطبي (2/ 239) بتصرف.
(2)
الموافقات للشاطبي (2/ 244 - 246) ط. مكتبة الأسرة.
مقدارها، فهي حسب العرف والعادة، قال تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7].
وعن عائشة رضي الله عنها: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
(1)
.
قال النووي: وفي الحديث فوائد، ومنها: اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي
(2)
.
وقال الحافظ ابن حجر: وفيه اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قبل الشرع، وقال القرطبي: فيه اعتبار العرف في الشرعيات خلافًا لمن أنكر ذلك لفظًا، وعمل به معنى كالشافعية - كذا قال -، والشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي، أو لم يرشد النص الشرعي إلى العرف
(3)
.
2 -
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] الآية.
(1)
أخرجه البخاري (2211، 5364)، ومسلم (1714).
(2)
شرح مسلم للنووي (12/ 12).
(3)
فتح الباري لابن حجر (9/ 614).
فالأمر بالاستئذان في الأوقات التي جرت العادة فيها بالابتذال، ووضع الثياب، فابتنى الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه
(1)
.
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: «تحيضي في علم الله ستًّا أو سبعًا كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن»
(2)
.
قال الخطابي: يشبه أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير وجه التحديد من الستة والسبعة، لكن على معنى اعتبار حالها بحال من هي مثلها، وفي مثل سنها من نساء أهل بيتها.
فإن كانت عادة مثلها أن تقعد ستًّا قعدت ستًّا، وإن سبعًا فسبعًا.
وقال أحمد رحمه الله في المبتدأة غير المميزة: ترجع إلى الحالة الغالبة في النساء ستًّا أو سبعًا.
وقال ابن قدامة في أقل الحيض وأكثره: ولنا أنه ورد في الشرع مطلقًا من غير تحديد ولا حد له في اللغة، ولا في الشريعة، فيجب الرجوع فيه إلى العرف والعادة، كما في القبض، والإحراز، والتفرق وأشباهها
(3)
.
(1)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3853).
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (27474)، والترمذي (128)، وأبو داود (287) ومداره على عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو ضعيف.
(3)
تحفة الأحوذي للمباركفوري (1/ 295 - 297) دار الحديث.
4 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة»
(1)
.
وذلك أن أهل المدينة لما كانوا أهل نخل وزرع اعتبرت عادتهم في مقدار الكيل، وأهل مكة أهل تجارة اعتبرت عادتهم في الوزن، والمراد اعتبار ذلك فيما يتقدر شرعًا: كنصب الزكوات، ومقدار الديات، وزكاة الفطر، والكفارات، والسلم، والربا، وغير ذلك
(2)
.
وقيل: وينبني على هذه القاعدة ما اعتمده إمامنا وأصحابنا في أقل سن الحيض للمرأة، وأقل الحيض والطهر وأكثرهما، وثمن المثل، وكفء النكاح، وأكثر مدة الحمل وأقلها، وسن اليأس، ومهر المثل.
وضابط كل فعل رُتِّب عليه الحكم، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة: كإحياء الموات، والحرز في السرقة، والأكل من بيت الصديق، وما يُعَدُّ قبضًا، وإيداعًا، وإعطاء، وهدية، وغصبًا، والمعروف في المعاشرة، وانتفاع المستأجر.
ومن ذلك أيضًا: الرجوع للعادة في تخصيص عين، أو فعل، أو
(1)
إسناده صحيح: رواه أبو داود (3340)، والنسائي (2520)، وقال ابن الملقن في (تحفة المحتاج) (2/ 58): رواه أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح.
(2)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3855).
مقدار، يحمل اللفظ عليه: كالألفاظ في الأيمان، والأوقاف، والوصايا، والأقارير، والتفويضات، وإطلاق الدينار، والدراهم، والصاع، والمد، والوسق، والقلة، والأوقية، وإطلاق النقود في الحمل على الغالب، وصحة المعاطاة بما يعده الناس بيعًا، وهذا كثير لا ينحصر في عد
(1)
.
وقال ابن القيم: وقد أجري العرف مجرى النطق في أكثر من مئة موضع.
وذكر منها: نقد البلد في المعاملات، ودفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه من امرأة، أو خادم، أو ولد، وجواز التخلي في دار من أذن له بالدخول إلى داره، والشرب من مائه، والاتكاء على الوسادة المنصوبة، وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق، ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظًا لمالكها عليه كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعًا.
ومنها: لو حذ ثماره، أو حصد زرعه، ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه، وإن لم يأذن فيه لفظًا.
وهذا أكثر من أن نحصره، وعليه يخرج حديث عروة بن الجعد البارقي، حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى شاتين
(1)
التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3857).
بدينار، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بالدينار، والشاة الأخرى، فباع وأقبض وقبض بغير إذن لفظي، اعتمادًا منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع
(1)
.
وقال الشيخ السعدي في منظومته:
والعرف معمول به إذا ورد
…
حكم من الشرع الشريف لم يحد
قال: وهذا معنى قول الفقهاء: العادة مُحَكَّمة. أي معمول بها، فإذا نص الشارع على حكم، وعلق به شيئًا، فإن نص على حده وتفسيره، وإلا رجع إلى العرف الجاري، وذلك كالمعروف في قوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وهو الذي جرى عليه عرف الناس.
وكذلك لفظ القبض والحرز، وألفاظ العقود كلها يرجع فيها إلى عرف الناس، ومن هذا: إذا أمر أمرًا حمَّالًا، ونحوه بعمل شيء من غير إجارة، فله أجرة عادته
…
إلخ
(2)
.
ومن القواعد المبنية على العرف: الشرط العرفي كالشرط اللفظي.
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 316، 317) بتصرف.
(2)
منظومة القواعد الفقهية للشيخ السعدي وشرحها للشيخ حمد الحمد (38) بتصرف.
قال ابن القيم: ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي، وذلك كوجوب نقد البلد عند الإطلاق، ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظًا، فانصرف العقد بإطلاقه إليه، وإن لم يقتضه لفظه، ومنها السلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلًا لاشتراط سلامة المبيع عرفًا منزلة اشتراطها لفظًا، ومنها وجوب وفاء المسلم في مكان العقد، وإن لم يشترطه لفظًا بناءً على الشرط العرفي، ومنها لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل، أو يخيط بالأجرة، أو عجينًا لمن يخبزه، أو لحمًا لمن يطبخه، أو حبًّا لمن يطحنه، أو متاعًا لمن يحمله، ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك وجب له أجرة مثله، وإن لم يشترط معه ذلك لفظًا عند جمهور أهل العلم حتى عند المنكرين لذلك، فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به
(1)
.
ومن ذلك: منع النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه أن يتزوج ابنة أبي جهل على فاطمة.
فعن المسور بن مخرمة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهو يقول: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن
(1)
إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 318، 319).
أبي طالب أن يطلق ابنتي، وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»
(1)
.
وفي رواية قال: ثم ذكر صهرًا له من بني عبد شمس، فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن، قال «حدثني فصدقني، ووعدني فأوفى لي، وإني لست أحرم حلالًا ولا أحل حرامًا، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكانًا واحدًا أبدًا»
(2)
.
وفي لفظ: «عند رجل واحد أبدًا» قال: فترك علي الخطبة
(3)
.
قال ابن القيم: فيؤخذ من هذا أن المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا، وأن عدمه يملك الفسخ لمشترطه، وعلى هذا، فلو فرض أن المرأة من بيت لا يتزوج الرجل على نسائهم ضرةً، ولا يمكنونه من ذلك، وعادتهم مستمرة بذلك، كان كالمشروط لفظًا.
وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها لا تمكن إدخال الضرة عليها عادةً لشرفها، وحسبها، وجلالتها كان ترك التزوج عليها كالمشروط لفظًا سواء.
(1)
أخرجه البخاري (5230)، ومسلم (2449).
(2)
أخرجه البخاري (3110)، ومسلم (2449).
(3)
أخرجه مسلم (2449).
وعلى هذا فسيدة نساء العالمين، وابنة سيد ولد آدم أجمعين أحق النساء بهذا، فلو شرطه علي في صلب العقد كان تأكيدًا لا تأسيسًا
(1)
.
*
شروط اعتبار العرف لبناء الأحكام عليه:
1 -
أن لا يكون مخالفًا للنص، بأن يكون عرفًا صحيحًا، فإن كان مخالفًا للنص فلا عبرة به، كالتعامل بالربا، وأخذ الرشوة، وإدارة الخمور في الولائم، ومنكرات الأفراح، وكشف العورات، فهذا ونحوه غير معتبر بلا خلاف.
قال السرخسي: وكل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر
(2)
.
2 -
أن يكون مطردًا أو غالبًا، ومعنى الاطراد: أن تكون العادة كلية، بمعنى أنها لا تتخلف، وقد يعبر بالعموم، أي يكون العرف مستفيضًا شائعًا بين أهله، معروفًا عندهم، معمولًا به من قبلهم.
ومعنى الغلبة: أن تكون أكثرية، بمعنى أنها لا تتخلف إلا قليلًا، والغلبة والاطراد إنما يعتبران إذا وجدا عند أهل العرف لا في الكتب الفقهية لاحتمال تغيرها.
قال السيوطي: إنما تعتبر العادة إذا اطردت، فإن اضطربت فلا، وإن
(1)
زاد المعاد لابن القيم (5/ 108) ط. الرسالة بتصرف.
(2)
المبسوط للسرخسي (2/ 348)، دار الفكر.
تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف
(1)
.
3 -
أن يكون العرف الذي يحمل عليه التصرف موجودًا وقت إنشائه، بأن يكون حدوث العرف سابقًا عن وقت التصرف، ثم يستمر إلى زمانه فيقارنه، وعلى هذا يجب تفسير حجج الأوقاف، والوصايا، والبيوع، ووثائق الزواج، وما يرد فيها من شروط في زمانهم لا على عرف حادث بعدهم.
قال السيوطي: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر
(2)
.
وقال الشاطبي: العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار، والأمصار، والأحوال، كهيئات اللباس، والمسكن، واللين في الشدة، والشدة فيه، والبطء والسرعة في الأمور، والأناة والاستعجال، وما كان نحو ذلك. فلا يصح أن يقضى به على من تقدم البتة، حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج، فإذا ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة
(3)
.
(1)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 201).
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 216).
(3)
الموافقات للشاطبي (2/ 254) ط. مكتبة الأسرة.
4 -
ألا يعارض العرف تصريح بخلافه، أي ألا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه، إذ إن تحكيم العرف يعود إلى أن سكوت المتعاقدين عن الأمر المتعارف، وعدم اشتراطها إياه صراحة يعتبر إقرارًا منهما له، فإثبات الحكم العرفي في هذه الحالة هو من قبيل الدلالة، فإذا وقع تصريح بخلافه أصبحت هذه الدلالة باطلة لكون العرف أضعف من دلالة اللفظ، فيترجح جانبه عند المعارضة
(1)
.
كما إذا كان العرف في السوق تقسيط الثمن، واتفق العاقدان صراحة على الأداء، أو كان العرف أن مصاريف التصدير على المشتري، واتفقا على أن تكون على البائع، أو كان العرف أن مصاريف تسجيل العقار في الشهر العقاري على المشتري، واتفق الطرفان على جعلها على البائع.
*
من المسائل المبنية على العرف:
1 -
خدمة المرأة لزوجها:
عن علي رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها، وأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فانطلقت فلم تجده، ولقيت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها،
(1)
العرف وتطبيقاته المعاصرة. د/ سعود بن عبد الله الورقي (26).
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«على مكانكما» ، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري، ثم قال:«ألا أعلمكما خيرًا مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما، أن تكبرا الله أربعًا وثلاثين، وتسبحاه ثلاثًا وثلاثين، وتحمداه ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم»
(1)
.
قال علي: ما تركته منذ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين
(2)
.
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء، غير فرسه، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق، قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ،
…
قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقتني
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (3113)، ومسلم (2727)، واللفظ له.
(2)
أخرجه البخاري (5362)، ومسلم (2727).
(3)
أخرجه البخاري (5224)، ومسلم (2182)، واللفظ له.
وفي رواية: كنت أخدم الزبير خدمة البيت
…
الحديث
(1)
.
قال ابن القيم: فاختلف الفقهاء في ذلك، فأوجب طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت، وقال أبو ثور: عليها أن تخدم زوجها في كل شيء، ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها، وممن ذهب إلى ذلك مالك والشافعى وأبو حنيفة وأهل الظاهر، قالوا: لأن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع، لا الاستخدام وبذل المنافع. قالوا: والأحاديث المذكورة إنما تدل على التطوع ومكارم الأخلاق، فأين الوجوب منها؟
واحتج من أوجب الخدمة: بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه، أي قوله:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وأما ترفيه المرأة، وخدمة الزوج، وكنسه، وطحنه، وعجنه، وغسيله، وفرشه، وقيامه بخدمة البيت، فمن المنكر، والله تعالى يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقال:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، وإذا لم تخدمه المرأة، بل يكون هو الخادم لها، فهي القوامة عليه.
وأيضًا: فإن المهر في مقابلة البضع، وكل من الزوجين يقضى وطره
(1)
أخرجه مسلم (2182).
من صاحبه، فإنما أوجب الله سبحانه نفقتها، وكسوتها، ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادة الأزواج.
وأيضًا: فإن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف، والعرف خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة، وقولهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعًا وإحسانًا، يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل لعلي: لا خدمة عليها، وإنما هي عليك. وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدًا، ولما رأى أسماء والعلف على رأسها والزبير معه، لم يقل له: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها. بل أقره على استخدامها، وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية، هذا أمر لا ريب فيه
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل، ومناولة الطعام، والشراب، والخبز، والطحن والطعام لمالكيه وبهائمه: مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة. وهذا القول ضعيف كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء. فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف؛ بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان، وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على
(1)
زاد المعاد لابن القيم (5/ 170، 171) ط. الرسالة، فصل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم في خدمة المرأة زوجها.
مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف.
وقيل: وهو الصواب وجوب الخدمة؛ فإن الزوج سيدها في كتاب الله، وهو قوله تعالى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]؛ وهي عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله»
(1)
.
وعلى العاني والعبد الخدمة؛ ولأن ذلك هو المعروف، ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة. ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف. وهذا هو الصواب؛ فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال: فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة
(2)
.
وقال ابن جزى المالكي في باب النفقات: الواجب الثالث: نفقة الخادم. فإن كانت الزوجة ذات منصب وحال، والزوج مليء فليس عليها من خدمة بيتها شيء، ولزمه إخدامها، وإن كانت بخلاف ذلك والزوج فقير؛ فعليها الخدمة الباطنة من عجن، وطبخ، وكنس، وفرش،
(1)
أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله بدون لفظة «فإنهن عوان عندكم» ، وهي عند الترمذي.
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (34/ 90، 91).
واستقاء ماء إذا كان معها في البيت، وليس عليها غزل، ولا نسج، وإن كان معسرًا فليس عليه إخدام، وإن كانت ذات منصب وحال، ولا تطلق عليه بذلك، وإذا وجب عليه الإخدام فلا يجب عليه شراء خادم، بل يجوز أن يستأجر
(1)
.
2 -
اعتبار العادات في الأيمان:
فيرجع إليها في مطلق الأيمان، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: فمن حلف لا يأكل الرؤوس، فأكل رؤوس الحيتان لا يحنث؛ لأن عادة المتكلمين بهذا الكلام قد جرت أنه يريد بهذا الرؤوس التي تبان من أجساد الحيوان، وتقصد بالأكل دون ما كان منها تبعًا لأبدانها، ولا يكاد القائل يقول: أكلت الرؤوس. وهو يريد رؤوس الحيتان، وإنما يقال هذا، ويراد به رؤوس الغنم، وما يشبهها من الحيوان
(2)
.
3 -
اعتبار العرف في اللباس:
اللباس من الأمور التي يكون الأصل فيها الإباحة، لكن لها ضوابط شرعية، سواء في لباس المرأة، أو لباس الرجل، فلا يكون مخالفًا لنص شرعي.
(1)
القوانين الفقهية لابن جزى (379) ط. دار ابن حزم.
(2)
قواطع الأدلة في الأصول للسمعاني (2/ 846).
ولا يكون ثوب شهرة، وهذا يضبط بعرف الناس حسب البلدان، فقد يكون الثوب معتادًا في بلد، ولا يكون معتادًا في آخر.
قال السيوطي: قال الإمام في باب الأصول والثمار: كل ما يتضح فيه اطراد العادة فهو المحكم، ومضمره كالمذكور صريحًا، وكل ما تعارض الظنون بعض التعارض في حكم العادة فيه، فهو مثار الخلاف.
قال الشيخ جاد الرب رمضان رحمه الله: قول الإمام: ومضمره كالمذكور صريحًا. المضمر هو الخفي، والمذكور أي المنطوق، فالخفي كالمنطوق صريحًا.
فمثلًا: بيع الثمرة قبل النضج، وهي في تلك الحالة عرضة للآفات، فكيف يباع ما ليس معلومًا قدرًا وصفة فإن كان العرف مطردًا؛ فلا يمنع ذلك البيع تنزيلًا للعرف منزلة الشرط، وإن لم يكن العرف مطردًا؛ فلا بد من النص، وعلى ذلك كل ما يتضح اطراد العادة فيه، فالاطراد محكم، وينزل العقد على ما جرت به العادة
(1)
.
(1)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 201)، ط. دار الكتب العلمية، ت: محمد حسن الشافعي.
*
قواعد في العرف:
1 -
العادة غير موجبة شيئًا بنفسها بحال، وإنما هي قرينة للواجبات، أو منبئة عن المقاصد فيها، كالغسل؛ فإن الله تعالى قال:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، ولما كانت العادة جارية بأن يكون الغسل بالماء صرف الأمر إلى ذلك، وإن لم يجر له ذكر؛ لأن العادة جرت بذلك
(1)
.
2 -
العرف يكون ملزمًا إذا اجتمعت الشروط السابقة أصبح العرف ملزمًا ومعتبرًا في التشريع، أي يتحتم العمل به في نظر الناس، وهذا معنى قول الفقهاء: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، والمعروف بين التجار كالمشروط بينهم، والعادة مُحَكَّمة.
3 -
قال السيوطي: فصل في تعارض العرف مع الشرع، وهو نوعان:
أحدهما: أن لا يتعلق بالشرع حكم؛ فيقدم عليه عرف الاستعمال.
فلو حلف لا يأكل لحمًا لم يحنث بالسمك وإن سماه الله لحمًا، أو لا يجلس على بساط، أو تحت سقف، أو في ضوء سراج لم يحنث بالجلوس على الأرض، وإن سماها الله بساطًا، ولا تحت السماء، وإن سماها الله سقفًا، ولا في الشمس، وإن سماها الله سراجًا، أو لا يضع رأسه على وتد لم يحنث بوضعها على جبل، أو لا يأكل ميتة أو دمًا لم
(1)
قواطع الأدلة للسمعاني (2/ 845).
يحنث بالسمك والجراد والكبد والطحال، فقدم العرف في جميع ذلك؛ لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف.
والثاني: أن يتعلق به حكم، فيقدم على عرف الاستعمال، فلو حلف لا يصلي لم يحنث إلا بذات الركوع والسجود، أو لا يصوم لم يحنث بمطلق الإمساك، أو لا ينكح حنث بالعقد لا بالوطء، أو قال: إن رأيتِ الهلال فأنت طالق. فرآه غيرها، وعلمت به طلقت حملًا له على الشرع، فإنها فيه بمعنى العلم لقوله:«إذا رأيتموه فصوموا»
(1)
(2)
.
4 -
التقييد بالعرف المقارن للخطاب: اتفق العلماء على العرف العملي يقيد المطلق، فلو قال شخص لآخر موكلًا إياه: اشتر لي لحمًا، وكان ذلك في بلد اعتاد أهله أكل لحم الضأن، فإنه يتقيد في ذلك بشراء لحم الضأن دون غيره من أنواع اللحوم، بحيث لو اشترى غيره كان مخالفًا لإرادة الموكل، مع أن كلمة لحم مطلقة، ولكن الإطلاق مقيد بالعرف العملي.
(1)
أخرجه البخاري (1900)، ومسلم (1080) من حديث عبد الله بن عمر.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 204) ط. دار الكتب العلمية.
4 -
تخصيص العام بالعرف: اتفق الأصوليون على أن العرف القولي مخصص للعام.
قال ابن أمير حاج الحنفي: أما تخصيص العام بالعرف القولي، وهو أن يتعارف قوم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلا ذاك المعنى فاتفاق.
وقال القرافي المالكي في «الفروق» : الفرق الثامن والعشرون: بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ، ويخصصها، وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ، ولا يخصصها
(1)
.
وقال الإسنوي: لا إشكال في أن العادة القولية تخصص العموم، نص عليه الغزالي، وصاحب المعتمد، والآمدي، ومن تبعه؛ لأن الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية
(2)
.
وقال ابن رجب الحنبلي في القاعدة الحادية والعشرين بعد المائة: في تخصيص العموم بالعرف، وله صورتان:
إحداهما: أن يكون قد غلب استعمال الاسم العام في بعض أفراده،
(1)
الفروق للقرافي (1/ 377) ط. الرسالة.
(2)
نهاية السول للإسنوي (2/ 469، 470) ط. عالم الكتب.
حتى صار حقيقة عرفية، فهذا يختص به العموم بغير خلاف
(1)
.
واختلف الأصوليون في تخصيص العام بالعرف العملي المقارن على قولين:
الأول: أن العرف العملي يخصص العام. وهذا قول الحنفية، وجمهور المالكية كالباجي، والقرطبي، وابن رجب الحنبلي.
الثاني: أن العرف العملي لا يخص العام. وهذا قول الشافعية، والحنابلة، وبعض المالكية كالقرافي.
والقول بالتخصيص هو الراجح قياسًا على تقييد المطلق بالعرف العملي.
وقد قال الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المعرور بن سويد: «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»
(2)
.
قال الشافعي: هذا كلام مجمل يجوز أن يكون على الجواب، فسأل السائل عن مماليكه، وهو إنما يأكل تمرًا أو شعيرًا أو أدنى ما يقدر عليه
(1)
القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب (592) دار الآثار.
(2)
أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661) من حديث أبي ذر الغفاري.
من الطعام، ويلبس صوفًا أو أدنى ما يقدر عليه من اللباس، فقال:«أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون» ، وكان أكثر حال الناس فيما مضى ضيقة، وكان كثير ممن اتسعت حاله مقتصدًا فهذا يستقيم.
قال: والسائلون عرب، ولبوس عامتهم، وطعامهم خشن، ومعاشهم ومعاش رقيقهم متقارب، فأما من لم تكن حاله هكذا، وخالف معاش السلف والعرب، وأكل رقيق الطعام، ولبس جيد الثياب، فلو آسى رقيقه كان أكرم وأحسن، فإن لم يفعل فله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«للمملوك طعامه، وكسوته بالمعروف»
(1)
، والمعروف عندنا المعروف لمثله في بلده الذي به يكون، ولو أن رجلًا كان لبسه الوشي، والخز، والمروي، والقصب وطعمته النقي، وألوان لحم الدجاج والطر لم يكن عليه أن يطعم مماليكه، ويكسوهم مثل ذلك، فإن هذا ليس بالمعروف للمماليك
(2)
.
فلهذا خص الشافعي رحمه الله عموم الشرع بعادات المكلفين في تلك الأزمان.
(1)
أخرجه مسلم (1662) من حديث أبي هريرة.
(2)
الأم (6/ 262، 263)، ط. دار الوفاء، (5/ 101) ط. دار المعرفة.
ومثال ذلك: هل يأكل الناذر من نذره؟
ذهب الحنفية، والشافعية إلى عدم جواز أكل الناذر من المنذور مطلقًا.
قال الكسائي الحنفي في «بدائع الصنائع» في كتاب الحج: ولا يجوز له أن يأكل من دم النذر شيئًا.
وجملة الكلام فيه أن الدماء نوعان: نوع يجوز لصاحب الدم أن يأكل منه، وهو دم المتعة، والقران، والأضحية، وهدي التطوع إذا بلغ محله، ونوع لا يجوز له أن يأكل منه، وهو دم النذر، والكفارات، وهدي الإحصار، وهدي التطوع إذا لم يبلغ محله؛ لأن الدم في النوع الأول دم شكر، فكان نسكًا، فكان له أن يأكل منه، ودم النذر دم صدقة، وكذا دم الكفارة في معناه؛ لأنه وجب تكفير الذنب
(1)
.
وقال الإمام العمراني الشافعي: فإن كان نذر مجازاة بأن قال: إن شفى الله مريضي، أو قدم غائبي فعلي لله أن أهدي، أو أضحي شاة. لم يجز له أن يأكل منها؛ لأنه لزمه على وجه المجازاة فهو كجزاء الصيد
(2)
.
(1)
بدائع الصنائع للكاساني (3/ 301) ط. دار الكتب العلمية.
(2)
البيان للعمراني (4/ 458، 459)، دار المنهاج.
وذهب الحنابلة إلى عدم جواز أكل الناذر من الذبيحة المنذورة، عدا الأضحية فيجوز له الأكل منها.
قال ابن قدامة: وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور، وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما، وهو قول ابن عمر، وعطاء، والحسن، وإسحاق؛ لأن جزاء الصيد بدل، والنذر جعله لله تعالى بخلاف غيرهما، وقال ابن أبي موسى: لا يأكل من الكفارة أيضًا، ويأكل مما سوى هذه الثلاثة، ونحوه مذهب مالك
(1)
.
وذهب المالكية إلى أن الناذر إذا عين النذر للمساكين باللفظ أو النية؛ فلا يجوز له الأكل منه، وإن لم ينذر أو ينو يجوز له الأكل منه
(2)
.
فالناذر إن نوى في نذره أن يأكل منه أكل، وإن لم ينو، أو أطلق، فلا يأكل إلا أن تكون العادة الجارية في بلده أن الشخص إذا نذر شيئًا مما يؤكل أكل منه، فحينئذ يجوز له أن يأكل منه بناءً على العرف والعادة في ذلك، فيكون كلٌّ من العرف والنية مخصصًا للجزء الذي يأكله، فلا يكون داخلًا في المنذور به.
(1)
المغني لابن قدامة (5/ 445) دار هجر.
(2)
انظر فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك للشيخ عليش (1/ 207) ط. دار المعرفة.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: مصرف نذر الطاعة على ما نواه به صاحبه في حدود الشريعة المطهرة، فإن نوى باللحم الذي نذره للفقراء؛ فلا يجوز له أن يأكل منه، وإن نوى بنذره أهل بيته أو الرفقة التي هو أحدهم جاز له أن يأكل كواحد منهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
، وهكذا لو شرط ذلك في نذره أو كان ذلك هو عرف بلاده
(2)
.
تنبيه:
المراد بتخصيص العرف للعمومات هنا أقوال الناس التي خرجت منهم بصيغة العموم، فإن العرف يخصصها؛ إذ أول ما يتبادر لذهن المتكلم هو عرفه، بخلاف ما يأتي إن شاء الله تعالى - في مبحث العام والخاص في المجلد الثالث - وأن الجمهور على عدم تخصيص العام بالعرف، فالمراد بالعام هناك العام الوارد في كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب.
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة (23/ 390).
*
من الكتب المهمة في موضوع العرف والعادة:
1 -
قاعدة العادة مُحَكَّمة. دراسة نظرية تأصيلية تطبيقية، د. يعقوب الباحسين، دار الرشد.
2 -
المسائل الفقهية المبنية على العرف عند شيخ الإسلام ابن تيمية، إعداد: مشعل بن حمود بن فالح النفيعي.
3 -
العرف وتطبيقاته المعاصرة، د. سعود بن عبد الله الورقي.
4 -
إعلام الموقعين لابن القيم.
5 -
الأشباه والنظائر للسيوطي.
الفصل الحادي عشر:
الاستقراء
الاستقراء
الاستقراء لغة: التفحص والتتبع
(1)
، تتبع الجزئيات للوصول إلى نتيجة كلية
(2)
.
واصطلاحًا: هو تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشتمل على تلك الجزئيات
(3)
.
*
أنواع الاستقراء:
1 -
استقراء عام، وهو تصفح جميع الجزئيات ليحكم بحكمها على كلي يشملها.
أو هو ثبوت حكم كلي في الماهية لثبوته في كل جزئياتها، مثل كل حيوان متحرك، كل إنسان ناطق.
(1)
دستور العلماء للقاضي عبد النبي الأحمد (1/ 73).
(2)
المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية (2/ 722).
(3)
المستصفى للغزالي (1/ 41).
أو تتبع الأفراد، فيوجد الحكم في كل صورة منها، ما عدا الصورة التي فيها النزاع؛ فيعلم أن الصورة المتنازع فيها حكمها حكم الصور الأخرى التي ليست محل النزاع.
حكمه: هو حجة بلا خلاف، وهو عند أكثرهم يفيد القطع
(1)
.
مثاله: استدلال الجمهور بالاستقراء على أن أهل مكة لا بد أن يخرجوا إلى الحل للإحرام بالعمرة.
وبيانه: أن تتبع أفراد النسك، دل على أن كل نسك من حج، أو قران، أو عمرة، غير صورة النزاع لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم، حتى يكون صاحب النسك زائرًا قادمًا على البيت من خارج كما قال تعالى:{يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27]، فالمحرم بالحج، أو القران من مكة لا بد أن يخرج إلى عرفات، وهي في الحل، والآفاقيون يأتون من الحل لحجهم وعمرتهم، فجميع صور النسك غير صورة النزاع، لا بد فيها من الجمع بين الحل
(1)
البحر المحيط للزركشي (8/ 6).
والحرم، فيعلم بالاستقراء التام أن صورة النزاع -وهي اشتراط خروج أهل مكة للحل للإحرام بالعمرة- لا بد فيها من الجمع أيضًا بين الحل والحرم
(1)
.
2 -
الاستقراء الناقص: هو تصفح أغلب الجزئيات ليحكم بحكمها على كلي يشملها.
أو: هو ثبوت حكم كلي في الماهية لثبوته في أغلب جزئياتها.
مثل: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ.
وإنما كان هذا استقراءً ناقصًا؛ لأن التمساح لا يحرك فكه الأسفل فالحكم مختلف فيه.
حكمه: مختلف فيه، فمن الأصوليين من قال: لا يفيد الحكم لا قطعًا، ولا ظنًّا، ومن هؤلاء الإمام الرازي، وقد نص على ذلك في «المحصول» .
ومنهم من قال: يفيد الحكم ظنًّا، ولا يفيده قطعًا، وهو رأي الجمهور، ومنهم البيضاوي.
مثاله: استدلال الشافعية على عدم وجوب الوتر، بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاه على الراحلة.
واستقراء أفعاله صلى الله عليه وسلم أداءً وقضاءً أثبت أنه لم يفعل الواجبات على
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (5/ 207) دار الحديث.
الراحلة، فكان من ذلك دليلًا على عدم وجوب الوتر
(1)
.
*
من المجالات التي يستعمل فيها الاستقراء التام:
1 -
ما يمكن ملاحظة جزئياته جميعها:
يقول القرافي: من أراد القطع بقواعد أصول الفقه من الإجماع والقياس وغيرهما؛ فليتوجه إلى الاستقراء التام في أقضية الصحابة ومناظراتهم وأجوبتهم، وفتاويهم، ويكثر من الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة
(2)
. وذلك لأن استقراء قضايا الصحابة -مع صعوبته- يمكن استيعابه لانحصارهم.
ومن أمثلته قول الشنقيطي رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]: التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن؛ أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب
(3)
.
وقال ابن كثير رحمه الله: وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت
(1)
أصول الفقه. أبو النور زهير (4/ 201 - 202).
(2)
نفائس الأصول للقرافي (1/ 147) ط نزار الباز.
(3)
أضواء البيان للشنقيطي (2/ 5، 6).
عليه السبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي
(1)
.
ومنه ما ذهب إليه المحققون من المفسرين: من أن الحروف المقطعة في كتاب الله جيء بها بيانًا ودلالة على إعجاز القرآن؛ لاطراد ذكر هذه الحروف مع ذكر القرآن، وهو القول الصحيح في هذه المسألة لدلالة الاستقراء التام عليه في القرآن.
يقول الشنقيطي رحمه الله: أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه، فهو أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.
وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد، وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف.
قال ابن كثير: وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية.
ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت
(1)
تفسير ابن كثير، سورة المائدة آية (2).
بالحروف المقطعة يذكر فيها دائمًا عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه، وذكر ذلك بعدها دائمًا دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إعجاز القرآن، وأنه حق
(1)
.
فالقرآن محصور يمكن الإتيان على جميعه؛ فصحَّ ادعاء الاستقراء التام فيه إذا قيد المحكوم عليه بجهة يمكن استيعاب جزئياتها، مثل قولهم: كل ما في الظلمات والنور، فالمقصود به الهدى والضلال، إلا التي في أول الأنعام، فإن المقصود بها ظلمة الليل ونور النهار.
وقول الشنقيطي: كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير باستقراء القرآن
(2)
.
وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عسى في القرآن واجبة
(3)
.
2 -
التقسيم:
بأن يتتبع المستقرئ جزئيات، فيتوصل إلى أنها لا تدخل تحت نوع واحد، ولكنها أقسام تحت أمر كلي، بشرط أن يستقصي الأنواع حتى
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (3/ 6).
(2)
أضواء البيان (3/ 21).
(3)
تفسير الطبري (23/ 232)، وسندها صحيح.
يعلم أنه لم يبق قسم في الخارج غير ما ذكر.
مثاله: قول النحاة: الكلمة إما اسم أو فعل أو حرف. وقول علماء العقيدة: التوحيد أنواع ثلاثة: توحيد الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات.
ومع أن الاستقراء التام لو تيسر، فإنه أكثر اطمئنانًا وأرفع قيمة؛ إلا أن طبيعة العلوم تقتضي تعذر التام؛ ولذا اختص التام بمجالات محددة، أما الناقص فمجال استعماله غير محدود
(1)
.
*
الدليل على أن الاستقراء حجة:
1 -
ما أرشد إليه القرآن من كون الاستقراء مفيدًا للعلم أو غلبة الظن، ومن ذلك:
أ- الإنكار على ترك التدبر والنظر، كقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} [الأعراف: 184]، أي: إنهم إن تتبعوا أحواله وجزئيات حياته فيهم منذ نشأته إلى أن بلغ الأربعين، وسبروا صلاح حاله؛ لعلموا أنه ليس بمجنون، وهذا منهج الاستقراء.
(1)
الاستقراء ومجالاته في العلوم الشرعية، د/ محمد أيمن الزهر، بحث في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد (29) العدد الأول (2013)(456 - 457).
ب- أن الغالب على الناس المخالفة بشهادة الاستقراء بعد البعثة، قال تعالى:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]، وقال:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: 116]، وقال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103].
ج- قول نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} [نوح: 27]، قال في تتمة أضواء البيان: وكذلك بدليل الاستقراء، وهو دليل معتبر شرعًا وعقلًا، وهو أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وما آمن معه إلا قليل، كانوا هم ومن معهم غيرهم حمل سفينة فقط؛ فكان دليلًا على قومه أنه فُتِنُوا بالمال ولم يؤمنوا له، وهو دليل نبي الله موسى عليه السلام أيضًا على قومه.
فأُخبر نبي الله موسى عن قومه أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، وذلك من استقراء حالهم في مصر لما أراهم الآية الكبرى:{فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 20 - 24].
وبعد أن ابتلاهم الله بما قص علينا في قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)} [الأعراف: 133]
(1)
.
2 -
دلالة السنة:
ومما يستفاد من السنة في مشروعية الاعتماد على الاستقراء: ما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا»
(2)
، وهذا معناه أن استقراء هذه الظاهرة في أولاد فارس والروم الذي اطرد معها عدم إضرارهم؛ يدل على أنه قاعدة عامة في كل بني آدم، فاعتمد النبي صلى الله عليه وسلم على نتيجة الاستقراء وتوقف عن النهي
(3)
.
الترجيح بالاستقراء: ومن ذلك:
1 -
نوع الواو في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل
(1)
أضواء البيان (8/ 256)، (257) ط دار الحديث.
(2)
رواه مسلم (1442).
(3)
الاستقراء ومجالاته د/ محمد أيمن الزهر، بحث في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، (461).
عمران: 7]، فمن قال بأنها استئنافية وليست عاطفة؛ استدل بدلالة الاستقراء، قال الشنقيطي رحمه الله: ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة: دلالة الاستقراء في القرآن، أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئًا وأثبته لنفسه، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك، كقوله:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقوله:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، وقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فالمطابق لذلك أن يكون قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] معناه: أنه لا يعلمه إلا هو وحده. كما قاله الخطابي، وقال: لو كانت الواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7] للنسق؛ لم يكن لقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] فائدة، والقول بأن الوقف تام على قوله:{إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، وأن قوله:{وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7] ابتداء كلام، هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا
(1)
.
2 -
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، قال بعض العلماء: إن قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} [الأنفال: 64] في محل رفع بالعطف على اسم الجلالة، أي حسبك الله، وحسبك أيضًا
(1)
أضواء البيان (1/ 210).
من اتبعك من المؤمنين. وممن قال بهذا: الحسن، واختاره النحاس وغيره، كما نقله القرطبي. وقال بعض العلماء: هو في محل خفض بالعطف على الضمير الذي هو الكاف في قوله: {حَسْبَكَ} [الأنفال: 62] وعليه، فالمعنى حسبك الله، أي: كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين. وبهذا قال الشعبي، وابن زيد وغيرهما، وصدر به صاحب الكشاف، واقتصر عليه ابن كثير وغيره، والآيات القرآنية تدل على تعيين الوجه الأخير، وأن المعنى كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين؛ لدلالة الاستقراء في القرآن على أن الحسب والكفاية لله وحده، كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: 59]، فجعل الإيتاء لله ورسوله، كما قال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله. بل جعل الحسب مختصًا به وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، فخص الكفاية التي هي الحسب به وحده، وتمدح تعالى بذلك في قوله:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، وقال تعالى:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} [الأنفال: 62]، ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده.
وقد أثنى سبحانه وتعالى على أهل التوحيد والتوكل من عباده، حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران: 173]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [التوبة: 129]، الآية، إلى غير ذلك من الآيات
(1)
.
الاستدلال على أنه لا حد لأكثر الطهر إجماعًا:
قال النووي في «المجموع» : ودليلها في الإجماع ومن الاستقراء أن ذلك موجود مشاهد، ومن أظرفه ما نقله القاضي أبو الطيب في تعليقه قال: أخبرتني امرأة عن أختها أنها تحيض في كل سنة يومًا وليلة، وهي صحيحة تحبل وتلد ونفاسها أربعون يومًا
(2)
.
(1)
أضواء البيان (2/ 274) سورة الأنفال آية (64).
(2)
المجموع للنووي (2/ 409) ط الإرشاد.
الفصل الثاني عشر:
الاستحسان
الاستحسان
وقبل الكلام عن هذا المبحث إليك بعض المقدمات:
1 -
كل استحسان أفضى إلى الوقوع فى الإحداث فى الدين فهو رد.
2 -
كل استحسان عقلي لا يستند إلا للرأى المجرد أفضى إلى ترك العمل بالدليل الصحيح فهو رد.
3 -
كل استحسان عقلي أفضى إلى مخالفة مقصود الشارع فهو رد.
4 -
كل استحسان خالف أصول الشريعة وقواعدها العامة فهو رد.
5 -
كل استحسان عطل الدليل الصحيح عن دلالته الصحيحة فهو رد.
6 -
كل استحسان تضمن الترغيب فى عبادة لا دليل عليها فهو رد.
7 -
كل استحسان أيدته الأدلة وصدقته النصوص والقواعد فهو مقبول
(1)
.
لغة: هو استفعال من الحسن، وهو: اعتقاد الشيء حسنًا.
وإنما قلنا: اعتقاد الشيء حسنًا. ولم نقل: العلم بكون الشيء حسنًا. لأن الاعتقاد لا يلزم منه العلم الجازم المطابق لما في نفس الأمر؛ إذ قد يكون الاعتقاد صحيحًا إذا طابق الواقع، وقد يكون فاسدًا إذا لم يطابق، وحينئذ قد يستحسن الشخص شيئًا بناء على اعتقاده، ولا يكون حسنًا في نفس الأمر، وقد يخالفه غيره في استحسانه.
وقد استحسن بعض الناس عبادة الأصنام، وبعضهم عبادة الكواكب، وبعضهم غير ذلك، وهي أمور مستقبحة في نفس الأمر
(2)
.
واصطلاحًا: تعددت عبارات الأصوليين في تعريف الاستحسان، واختلف حكم الاحتجاج به بناء على تصور ماهيته، فقيل في تعريفه:
1 -
إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه.
أي لا يقدر أن يفصح عنه بعبارة.
(1)
أصول الفقه على منهج أهل السنة لفضيلة الشيخ وليد السعيدان (3/ 127) ط دار القلم.
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 190، 191).
وقد ذكر الآمدي هذا التعريف للاستحسان، وقال: لا نزاع في جواز التمسك بمثل هذا إذا تحقق المجتهد كونه دليلًا شرعيًّا، وإن عجز عن التعبير عنه، وإن نوزع في إطلاق اسم الاستحسان عليه، عاد النزاع إلى اللفظ، فرجع الأمر في هذا إلى أنه عمل بدليل شرعي؛ لأن النفوس يصير لها فيما تعانيه من العلوم والحرف ملكات قارة فيها تدرك بها الأحكام العارضة في تلك العلوم والحرف، ولو كلفت الإفصاح عن حقيقة تلك المعارف بالقول، لتعذر عليها، وقد أقر بذلك جماعة من العلماء، منهم ابن الخشاب (ت 567 هـ) ويسمي ذلك أهل الصناعات وغيرهم: دربة، وأهل التصوف: ذوقًا، وأهل الفلسفة ونحوهم: ملكة.
فعلى هذا لا يبعد أن يحصل لبعض المجتهدين دربة وملكة في استخراج الأحكام لكثرة نظره فيها، حتى تلوح له الأحكام سابقة على أدلتها وبدونها، أو تلوح له أحكام الأدلة في مرآة الذوق والملكة على وجه تقصر عنها العبارة، فإذا اتفق ذلك للمجتهد، وحصل له به علم أو ظن، جاز العمل به.
حكمه بهذا المعنى: منعه كثير من العلماء من جهة أن هذا يصير حكمًا في الشرع بما يشبه الإلهام، وأحكام الشرع إنما بنيت على ظواهر
الأدلة، فتدور معها وجودًا وعدمًا
(1)
.
2 -
وقيل: هو ما استحسنه المجتهد بعقله.
قال القرافي: هو الحكم بغير دليل، وهو اتباع للهوى فيكون حرامًا إجماعًا
(2)
.
وهذا النوع من الاستحسان هو الذي أنكره الجمهور، حتى قال الشافعي عنه: من استحسن فقد شرع.
قال الروياني: ومعناه أن ينصب من جهة نفسه شرعًا غير شرع المصطفى، وهذا باطل، قال تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقال الشافعي: الاستحسان تلذذ
(3)
.
ونسب القول به إلى أبي حنيفة رحمه الله، وأصحاب أبي حنيفة ينكرون هذا التفسير عنه
(4)
.
يقول عبد العزيز البخاري: وكل ذلك طعن من غير روية، وقدح من غير وقوف على المراد، فأبو حنيفة رحمه الله أجل قدرًا، وأشد ورعًا من
(1)
شرح مختصر الروضة (3/ 191 - 193).
(2)
شرح تنقيح الفصول (355).
(3)
البحر المحيط (6/ 14).
(4)
التحبير شرح التحرير بتصرف (8/ 3820) ط. الرشد.
أن يقول في الدين بالتشهي
(1)
.
وأوضح أن المراد بالاستحسان عنده هو ترجيح أحد القياسين على الآخر، فسمي أحد القياسين استحسانًا إشارة إلى أنه الوجه الأولى في العمل به لترجحه على الآخر.
3 -
قال الطوفي: وأجود ما قيل فيه -أي الاستحسان-: أنه العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص
(2)
.
قال الكرخي: هو العدول عما حكم به في نظائر مسألة إلى خلافه لوجه أقوى منه
(3)
.
قال الطوفي: مثاله قول أبي الخطاب في مسألة العينة: وإذا اشترى ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن الأول؛ لم يجز استحسانًا، وجاز قياسًا، فالحكم في نظائر هذه المسألة من الربويات الجواز، وهو القياس، لكن عدل بها عن نظائرها بطريق الاستحسان فمنعت، وحاصل هذا يرجع إلى تخصيص الدليل بدليل أقوى منه في نظر المجتهد.
(1)
كشف الأسرار شرح أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري (4/ 3) دار الكتاب العربي.
(2)
شرح مختصر الروضة (3/ 197).
(3)
شرح تنقيح الفصول (355).
ومثاله: ما قاله أحمد رحمه الله: أنه يتيمم لكل صلاة استحسانًا، والقياس أنه بمنزلة الماء حتى يحدث.
وبهذا المعنى: هو مذهب أحمد.
قال ابن قدامة: قال القاضي يعقوب: القول بالاستحسان مذهب أحمد رحمه الله، وهو أن تترك حكمًا إلى حكم هو أولى منه، وهذا مما لا يُنكَر، وإن اختلف في تسميته، فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى
(1)
.
قال أبو الوليد الباجي من المالكية: هو القول بأقوى الدليلين.
قال القرافي: وعلى هذا يكون حجة إجماعًا، وليس كذلك
(2)
.
قال الزركشي: واعلم أنه إذا حرر المراد بالاستحسان زال التشنيع، وأبو حنيفة بريء إلى الله من إثبات حكم بلا حجة. قال العارض المعتزلي في «النكت»: وقد جرت لفظة الاستحسان لإياس بن معاوية، ولمالك بن أنس في كتابه، وللشافعي في مواضع
(3)
.
وعن ابن القاسم، قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان.
(1)
روضة الناظر لابن قدامة (163).
(2)
شرح تنقيح الفصول للقرافي (355).
(3)
البحر المحيط للزركشي (6/ 88).
ولا يمكن أن يكون هذا هو ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو أنه ما ينقدح في نفس المجتهد، وتعسر عبارته عنه، فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم.
قال ابن العربي: الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء، والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته
(1)
.
قال أصبغ بن الفرج: الاستحسان في العلم يكون أبلغ من القياس.
وقال الباجي: ذكر محمد بن خويزمنداد معنى الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك: هو القول بأقوى الدليلين.
*
أنواع الاستحسان:
الاستحسان: هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى منه، على سبيل التخفيف، ولما كان ما يقتضي التخفيف ليس منضبطًا فإنهم لجأوا إلى وسائل تضبط لهم ذلك فنوعوا الاستحسان بحسبها.
(1)
الاعتصام للشاطبي (3/ 65).
•
وقد قسم علماء الحنفية الوجوه الدالة على الاستحسان إلى أقسام:
الأول: الاستحسان بالنص:
ويعبرون عنه بقولهم: ما ثبت بالأمر، وهو العدول عن حكم القياس، أو القواعد المقررة في الباب في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالكتاب أو بالسنة
(1)
.
والاستثناء بالنص قد يكون بسبب الضرورة، أو الحاجة، وسمي هذا الاستثناء بالنص؛ لأن إفراد هذه الصورة من القاعدة العامة جاء بنص، أما في باقي أنواع الاستحسان جاء بالاجتهاد.
أمثلة الاستحسان بالنص:
1 -
جواز الإجارة عند الأحناف؛ لأنها تمليك منفعة، والمنافع معدومة، والأصل أو القياس في المعدوم عدم صحة تملكه، ولا إضافة التمليك إليه، ولكنها استثنيت من هذا القياس بالنص، قال تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقال عن موسى والرجل الصالح:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، فتجويزها لحاجة الناس إليها.
(1)
الأساس في أصول الفقه. د. عبد الرحمن محمود (2/ 366).
2 -
جواز السلم: وهو بيع ما ليس عند الإنسان، والقاعدة العامة عدم جواز بيع المعدوم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تبع ما ليس عندك»
(1)
، لكن رخص في السلم بالنص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»
(2)
، فشرع لشدة الحاجة إليه، ولأجل ما فيه من مصلحة.
ونازع بعض العلماء في تسمية هذا النوع استحسانًا؛ لأن الأحكام ثبتت بالنص، وليست بالاستحسان، فتسميته استحسانًا هي حشر للشيء في غير موضعه.
ويجاب: بأن المسألة اصطلاحية، ولا مشاحة في الاصطلاح، وعلماء الحنفية وغيرهم ممن أخذ بالاستحسان كانوا بصدد تقرير نظرية شرعية عامة تتعلق بالفروع المستثناة من كم نظائرها، وبالأدلة التي يمكن أن تصلح سندًا للاستثناء، وهذا لا يعارض أن الأحكام ثابتة بالنصوص، كما لا يبرر سلب حق العلماء في جمع المتشابهات،
(1)
إسناده صحيح: أبو داود (3503)، الترمذي (1232)، النسائي (4613) من حديث حكيم بن حزام.
(2)
أخرجه البخاري (2240)، ومسلم (1604) واللفظ له، من حديث عبد الله بن عباس.
والتوفيق فيما بينها، وإعطائها اسم نظرية ما
(1)
.
الثاني: الاستحسان بالإجماع:
ومقتضاه: العدول عن مقتضى القواعد في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالإجماع.
ومن أمثلة ذلك:
أ- عقد الاستصناع: الاستئجار على تحصيل الصنائع، فالقياس يقتضي عدم جوازه؛ لأنه بيع معدوم من كل وجه، لكن عدل عن هذا الحكم إلى جوازه؛ لتعامل الأمة به من لدن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير، فصار إجماعًا عمليًّا
(2)
.
ب- تجويز دخول الحمام من غير تعيين الأجرة، وتقدير مدة اللبس، مع أن القياس يمنع ذلك؛ لأن دخول الحمام إجارة، ولا بد فيها من بيان المدة، كما أنها واردة على استهلاك العين، ولا بد من بيان مقداره، ففيها جهالتان: في المعقود عليه، وفي المدة، وكل واحدة تكفي في إفساد الإجارة، ولكنها أبيحت استحسانًا، وتساهلوا في أمرها، وانعقد إجماعهم على ذلك.
(1)
الاستحسان حقيقته أنواعه حجيته، د/ يعقوب الباحسين (85، 86) بتصرف.
(2)
الأساس في أصول الفقه د/ محمود عبد الرحمن (2/ 336).
الثالث: الاستحسان بالضرورة:
ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ وفق الأصل العام، أو القواعد المقررة، أو القياس أمرًا متعذرًا أو ممكنًا، لكنه يلحق بالمكلف مشقة وعسرًا شديدين، فيعدل بها عن أن يحكم فيها بمثل ما حكم به في نظائرها للسبب المذكور
(1)
.
مثاله:
1 -
تطهير الحياض والآبار بعد تنجيسها، يعني الحكم بتطهيرها بنزحها حتى يذهب أثر النجاسة من لون أو طعم أو ريح.
وذلك أن الحياض والآبار لو قيس تطهيرها على تطهير الأواني لما أمكن؛ لأنه لا يمكن غسل البئر والحوض كما يغسل الإناء والثوب، لأن ما ينبع في البئر، أو يصب في الحوض لا بد أن يلاقي نجسًا فينجس، فلا تتحقق طهارته، ولكن الشارع حكم بطهارتهما للضرورة
(2)
.
2 -
جواز نظر الطبيب إلى المرأة الأجنبية لمداواتها، فينظر إلى موقع المرض مع أنه أجنبي عنها لغرض مداواتها، وحفظ حياتها، وكذلك نظر الخاطب، والقاضي الذي يحكم، والشاهد عليها.
(1)
الاستحسان للباحسين (100).
(2)
الأساس في أصول الفقه (2/ 336)، الاستحسان للباحسين (102).
قال السرخسي: والمرأة عورة مستورة، ثم أبيح النظر إلى بعض المواضع منها للحاجة والضرورة، فكان ذلك استحسانًا لكونه أرفق بالناس
(1)
.
الرابع: الاستحسان بالقياس الخفي:
وقد صوره السرخسي بأنه قياسان: أحدهما جلي ظاهر ضعيف أثره، والآخر خفي قوي أثره، فيسمى استحسانًا أي قياسًا مستحسنًا، فالترجيح بالأثر لا بالخفاء والوضوح.
فسموا ما ضعف أثره قياسًا، وما قوي أثره استحسانًا، وقُدِّم على الأول وإن كان جليًّا؛ لأن العبرة بقوة الأثر دون الجلاء والظهور.
مثاله: الدنيا ظاهرة والعقبى باطنة، لكن أثرها وهو الدوام والخلود وصفو العيش أقوى من أثر الدنيا، وهو ضد ذلك، والنفس في البدن أظهر من القلب، لكن القلب أقوى أثرًا لدوران صلاح الجسد وفساده مع صلاح القلب وفساده
(2)
، وجودًا وعدمًا، كما ورد به النص
(1)
الاستحسان للباحسين (104، 105).
(2)
أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: «
…
ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
الصحيح
(1)
.
ومثال ذلك: أن القياس يقتضى أن سؤر سباع الطير نجس كسؤر سباع البهائم بجامع تحريم الأكل فيهما، والاستحسان يقتضي أنه طاهر فرقًا بينهما بأن سباع البهائم إنما تنجس سؤرها لمجاورته رطوبة فمها ولعباها، بخلاف سباع الطير فإنها تشرب بمنقارها، وهو عظم يابس طاهر خال عن مجاورة نجس، وإذا كان عظم الميتة طاهرًا فعظم الحي أولى، فهذا أثر قوي باطن، فسقط له حكم القياس الظاهر
(2)
.
ومثاله: دخول حقوق الارتفاق كالشرب، والطريق، والمسيل في الوقف، وإن لم ينص الواقف على ذلك استحسانًا قياسًا على الإجارة، وإن كان قياس الوقف على البيع أظهر، والبيع لا بد فيه من النص على ذلك.
زاد بعض المالكية أنواعًا أخرى من الاستحسان منها:
الخامس: الاستحسان بالمصلحة:
والمقصود به: أن الداعي إلى إخراج جزئية ما عن حكم القياس، أو القاعدة هو المصلحة التي يتحقق بها رفع الحرج والمشقة عن الناس،
(1)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 200).
(2)
الأساس في أصول الفقه. د/ محمود عبد الرحمن (2/ 367).
وتيسير معاملاتهم.
مثاله: تضمين الأجير المشترك وإن لم يكن صانعًا، كتضمين صاحب الحمام الثياب، وتضمين صاحب السفينة، وتضمين السماسرة المشتركين، وتضمين حمال الطعام دون غيره من الحمالين؛ لأن الطعام تسرع إليه الأيدي كثيرًا.
فهنا استثناء من القاعدة العامة: وهي براءة المؤتمن بالبراءة الأصلية، وعدم تضمينه الذي هو شأن الإجارة. فترك هذا الوجه لوجه أقوى منه للمصلحة، وهي المحافظة على أموال الناس من الضياع نظرًا لكثرة الخيانة بين الناس، وقلة الأمانة، ولو لم يتضمن الأجير لامتنع كثير من الناس من دفع أمتعتهم إليه خوفًا عليها من الضياع، أو التلف، أو الخيانة.
السادس: الاستحسان بالعرف:
وهو العادات والأعراف الجارية بين الناس في الجزئيات التي يكون الآخذ بالعرف أو العادة فيها مخالفًا للأقيسة والقواعد المقررة
(1)
.
وهو كثير عند المالكية يليهم الحنفية، ثم باقي المذاهب.
مثاله: الحكم بعدم حنث من حلف لا يأكل اللحم بأكل السمك،
(1)
الاستحسان للباحسين (107).
والأصل أنه يحنث؛ لأن السمك لحم، قال تعالى:{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12]، ولكن قالوا: لا يحنث استحسانًا؛ لأن العرف جرى على التفريق بين اللحم والسمك، وأن السمك لا يسمى لحمًا في العرف.
ومثاله: جواز استئجار جمل ليحمل عليه محملًا وراكبين إلى أحد البلدان، مع أن القياس يمنع ذلك لما في هذه الإجارة من الجهالة التي قد تفضي إلى المنازعة، لكن هذه الجهالة تصرف إلى المتعارف عليه، وهو المحمل المعتاد فلا يفضي إلى المنازعة.
ومثل ذلك في عصرنا: استئجار السيارات اللوري، أو الباصات لنقل الركاب وأمتعتهم في الشركات التي لا تتطلب تعيين المحمولات.
قال الشاطبي: والرابع: أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف، فإنه رد الأيمان إلى العرف مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف، كقوله: والله لا دخلت مع فلان بيتًا، فلا يحنث بدخوله معه المسجد، وما أشبه ذلك.
ووجهه: أن اللفظ يقتضي الحنث بدخول كل موضع يسمى بيتًا في اللغة، والمسجد يسمى بيتًا فيحنث على ذلك، إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه، فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا
يحنث
(1)
.
السابع: الاستحسان بنزارة الشيء وتفاهته:
وسماه ابن العربي المالكي: الاستحسان بترك مقتضى الدليل في اليسير لنزارته وتفاهته.
قال الشاطبي: ووجه ذلك: أن التافه في حكم العدم، ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب، وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة، وهما مرفوعان عن المكلف.
مثاله: جوز الإمام مالك أن يُستَأْجَر الأجير بطعامه، وإن كان لا ينضبط مقدار أكله ليسارة أمره، وخفة خطبه، وعدم المشاحة فيه.
تجويز التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة، وتجويز الجهالة اليسيرة كجهالة الوصف في الوكالة استحسانًا كأن يوكله وكالة عامة، فيقول: ابتع لي ما رأيت؛ لأن مبنى التوكيل على التوسعة، وفي اشتراط عدم الجهالة اليسيرة حرج، وهو مرفوع
(2)
.
(1)
الاعتصام للشاطبي (3/ 68) ط. التوحيد ت/ مشهور.
(2)
الاعتصام (3/ 71)، المراطلة: بيع الذهب بالذهب موازنة أي يجعل هذا ذهبه في كفة والآخر ذهبه في الكفة الأخرى.
الثامن: الاستحسان بمراعاة الخلاف:
وهو إعمال لكل واحد من الدليلين فيما هو فيه أرجح
(1)
.
قال الشاطبي: وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة.
وأورد عن أبي العباس بن القباب ما يعني تصحيح التصرف المخالف بعد الوقوع أو فوات الأوان.
وقال الشاطبي: ووجهه: أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال؛ لأنه ترجح عنده، ولم يترجح له في بعضها، فلم يراعه
(2)
.
وذكر الشاطبي أمثلة، وذكر عن أبي العباس بن القباب أمثلة نذكر بعضها:
1 -
مسألة امرأة المفقود: أنه إن قدم المفقود قبل نكاحها فهو أحق بها، وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت، وإن كانت بعد العقد، وقبل البناء فقولان، فإنه يقال: الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعًا لعصمته، فلا حق له فيها، ولو قدم قبل تزوجها، أو ليس بقاطع للعصمة، فكيف تباح لغيره في عصمة المفقود؟
(1)
الاستحسان للباحسين (120).
(2)
الاعتصام للشاطبي (2/ 125 - 126) مكتبة الأسرة.
وما روي عن عمر وعثمان
(1)
في ذلك أغرب، وهو أنهما قالا: إذا قدم المفقود يخير بين امرأته، أو صداقها، فإن اختار صداقها بقيت للثاني، فأين هذا من القياس؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما
(2)
.
2 -
ومثاله: من نسي تكبيرة الإحرام، وكبر للركوع، وكان مع الإمام أنه يتمادى مراعاة لقول من قال: إن ذلك يجزئه. فإذا سلم الإمام أعاد هذا المأموم
(3)
.
3 -
ومن أمثلته عند المالكية: فالمالكية والحنابلة في المشهور عنهم يرون نجاسة جلد الميتة سواء دبغ أم لم يدبغ، وقال الشافعية والحنفية بأن الجلد سواء كان من ميتة أو من مذبوح غير مأكول اللحم يطهر بالدباغ.
(1)
صحيح بمجموع طرقه: أخرجه عبد الرزاق (12317) وفيه انقطاع، وفي (12318) وفيه انقطاع، وفي (12320) وفيه انقطاع، وفي (12321) وفيه ضعف لكنه يصحح بمجموع هذه الطرق، قال مالك:" وأدركت الناس ينكرون الذي قال بعض الناس على عمر بن الخطاب أنه قال: يخير زوجها الأول إذا جاء في صداقها أو في امرأته ".
(2)
الاعتصام للشاطبي (3/ 82).
(3)
الاعتصام للشاطبي (3/ 77) ط. التوحيد.
فالمجتهد المالكي القائل بمراعاة الخلاف يعمل بمقتضى دليله في عدم جواز الصلاة على جلد الميتة المدبوغ، فإذا وقعت نازلة، ووقع ذلك فإنه يصحح الصلاة، ويعتبر دليل المخالف، فهو في هذه الحالة عمل بدليله ابتداءً، وبدليل المخالف بعد وقوع النازلة لما له في النفس من اعتبار، فمراعاة الخلاف كما يلاحظ في المثال تكون بعد الوقوع.
فالعمل بدليل المخالف يعد استثناءً مما يقتضيه دليل المذهب الراجح عندهم، والتيسير فيه واضح نظرًا لتصحيح التصرف، وعدم إلغائه، أو ترك الاعتداد به
(1)
.
قلت: قد يمثل لذلك إن صح المثال: الرضاع المحرم عند المالكية، وهو مطلق الرضاع قليلًا أو كثيرًا، وعند الشافعية والحنابلة خمس رضعات يحرمن، فالمالكي يمنع الزواج بسبب الرضاع ابتداءً سواءً رضعة واحد أو أكثر، فإذا وقع الزواج ودخل بها وأنجب أولادًا، وكان الرضاع أقل من خمس رضعات فيمكن إمضاء هذا النكاح، وتصحيحه مراعاة لخلاف من اشترط الخمس.
تنبيه: بالرغم من أن الشافعية يرفضون الاستحسان أصلًا، إلا أنهم
(1)
الاستحسان حقيقته أنواعه حجيته تطبيقاته المعاصرة للباحسين (122، 123) بتصرف.
ممن يأخذ بمراعاة الخلاف، ومن قواعدهم: الخروج من الخلاف مستحب. ومما ذكر من فروعها عندهم: كراهة صلاة المنفرد خلف الصف خروجًا من خلاف من أبطلها، وكراهة مفارقة الإمام بدون عذر، والاقتداء خلال الصلاة خروجًا من خلاف من لم يجز ذلك
(1)
.
وذكر هذه القاعدة السيوطي في «الأشباه والنظائر» ، فقال: فروعها كثيرة جدًا لا تكاد تحصى، فمنها استحباب الدلك في الطهارة، واستيعاب الرأس بالمسح، وغسل المني بالماء، والترتيب في قضاء الصلوات
…
إلخ.
وقال: لمراعاة الخلاف شروط:
أحدها: أن لا يوقع مراعاته في خلاف آخر.
الثاني: أن لا يخالف سنة ثابتة، فلا يعتد بخلاف الحنفية بإبطالهم الصلاة برفع اليدين.
الثالث: أن يقوى مدركه بحيث لا يعد هفوة، ومن ثم كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه، ولم يبال بقول داود إنه لا يصح
(2)
.
(1)
الاستحسان للباحسين (125).
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 296 - 299) دار الكتب العلمية.