المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

جامع المسائل والقواعد في علم الأصول والمقاصد المجلد الرابع   ‌ ‌الاجتهاد، الفتوى، التقليد، وعلم - جامع المسائل والقواعد في علم الأصول والمقاصد - جـ ٤

[عبد الفتاح مصيلحي]

فهرس الكتاب

جامع المسائل والقواعد

في علم الأصول والمقاصد

المجلد الرابع

‌الاجتهاد، الفتوى، التقليد، وعلم المقاصد

تأليف

عبد الفتاح بن محمد بن مصيلحي

ص: 1

المجلد الرابع

وفيه فصلان:

• الفصل الأول: الاجتهاد، الفتوى، التقليد.

• الفصل الثاني: مقاصد الشريعة.

ص: 3

‌الفصل الأول:

الاجتهاد، والفتوى، والتقليد

وفيه ثلاثة مباحث:

• المبحث الأول: الاجتهاد.

• المبحث الثاني: الفتوى.

• المبحث الثالث: التقليد.

ص: 4

‌المبحث الأول: الاجتهاد.

•‌

‌ تعريف الاجتهاد:

الاجتهاد لغة: بذل الوسع فيما فيه كلفة، قال الماوردي: مأخوذ من جهاد النفس وكدها في طلب المراد

(1)

.

وفي الاصطلاح: وهو بذل الجهد في استخراج الأحكام من شواهدها الدالة عليها بالنظر المؤدي إليها.

وقال بعضهم: الاجتهاد هو طلب الحق بقياس وغير قياس.

وقال بعضهم: ما اقتضى غالب الظن في الحكم المقصود.

وقال بعضهم: طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه

(2)

.

وقيل: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط

(3)

.

(1)

تشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي (4/ 563).

(2)

قواطع الأدلة للسمعاني (2/ 302).

(3)

البحر المحيط للزركشي (8/ 227).

ص: 5

وقد اشتمل هذا التعريف على الضوابط الآتية:

أ- أن الاجتهاد هو بذل الوسع في النظر في الأدلة، فهو بذلك أعم من القياس؛ إذ القياس هو إلحاق الفرع بالأصل، أما الاجتهاد فإنه يشمل القياس وغيره.

ب- أن الاجتهاد لا يجوز إلا من فقيه، عالم بالأدلة وكيفية الاستنباط منها؛ إذ النظر في الأدلة لا يتأتى إلا ممن كان أهلًا لذلك.

ج- أن الاجتهاد قد ينتج عنه القطع بالحكم أو الظن به، وذلك ما تضمنه قيد «الاستنباط» .

د- وقد تضمن قيد «بطريق الاستنباط» بيان أن الاجتهاد إنما هو رأي المجتهد واجتهاده، وذلك محاولة منه لكشف حكم الله، ولا يسمى ذلك تشريعًا؛ فإن التشريع هو الكتاب والسنة، أما الاجتهاد فهو رأي الفقيه أو حكم الحاكم

(1)

.

•‌

‌ نبذة تاريخية عن الاجتهاد:

بدأ الاجتهاد الجزئي في العهد النبوي، سواء كان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم على قول، كما سنرى، أم كان من الصحابة الذين كانوا يعرضون اجتهاداتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقر الصواب الذي يتفق مع الشرع،

(1)

البحر المحيط للزركشي (8/ 227)، معالم أصول الفقه للجيزاني (464).

ص: 6

وينكر الخطأ الذي يخالف الدين.

ثم مر الاجتهاد بثلاثة أطوار رئيسية، وهي:

الطور الأول: بدأ الاجتهاد رويدًا رويدًا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتقاله للرفيق الأعلى، فتصدى كبار الصحابة وعلماؤهم، وفقاؤهم وقضاتهم وولاتهم للاجتهاد، لبيان حكم الله تعالى فيما يستجد من أحداث، مما ليس له حكم منصوص عليه في الكتاب والسنة، وأدوا وظيفتهم كاملة، وغطوا أحكام ما وقع في عصرهم، وإن كان قليلًا إلى حد ما.

ولما انتشر الإسلام، وزادت الفتوحات، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وامتدت الدولة الإسلامية إلى عواصم الأمم الأخرى، وبلاد الحضارات السائدة، توسع الصحابة ثم التابعون في الاجتهاد، وازدهرت الحركة الفقهية، وبرز الفقهاء المجتهدون من التابعين إلى أن بلغوا الذروة والقمة في القرن الثاني الهجري، وسار الاجتهاد بعد ذلك على وتيرة واحدة، وزخم كبير طوال قرنين تقريبًا، وبلغ الفقه الإسلامي أوجه، ونما، وازدهر، واستجاب لحاجات الناس ومقتضيات تطور الحياة، وأنتج ثروة فقهية زاهرة، مع بعض الخمول أحيانًا، وتراجع بعض الفقهاء والعلماء عن مسابقة الركب، واللحاق بالمقدمة، وفي ذات الوقت بدأ يظهر التقليد للأئمة والعلماء والمذاهب في مختلف

ص: 7

الأصقاع والبلدان، ولكن كان أكثر العلماء والفقهاء مجتهدين، حتى المحدثون منهم، كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، وجميع القضاة، ومعظم الولاة والخلفاء، وأكثرهم يجتهد ويستنبط الأحكام من المصادر المختلفة بطرق الاجتهاد السليمة، وكانت جماهير الأمة يستفتونهم، ويأخذون عنهم، ويتبعون آراءهم وأحكامهم.

الطور الثاني: وذلك ابتداء من منتصف القرن الرابع الهجري حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، أي: حوالي ألف سنة، وبدأ الاجتهاد في أول هذا الطور يتراجع، ويتجزأ، ويضطرب، ويتخلخل، ثم بدأ يتسرب إليه أنصاف العلماء ومن دونهم الذين بدأوا يتطاولون على الاجتهاد، ويخرج على الأمة والناس بالأوهام والسخافات، وما يتناقض مع الشرع، ويتعارض مع قواعد أصول الفقه، ويتجاوز ضوابط الاجتهاد، وضعفت الأمة، وبدأ الانحطاط في المجتمع والدولة، مما دعا العلماء الغيورين على الدين أن يتصدوا لهذه الآراء الواهية، وأن يقفوا أمام أدعياء العلم، وأن يعلنوا إغلاق باب الاجتهاد ليوصدوا هذا الباب أمام من ليس أهلًا للاجتهاد والنظر، ويقطعوا الطريق أمام أصحاب الأهواء من مختلف الفرق والمذاهب، وانحصر الاجتهاد غالبًا في مجتهد المذهب، ومجتهد المسائل، ومجتهد التخريج، ومجتهد الترجيح

، وأصبح أكثر الفقهاء والعلماء من هذه الطبقات،

ص: 8

وإن ظهر لبعضهم اجتهادات قيمة، وآراء سديدة، وبزغ بينهم مجتهدون، ولكنهم قلة.

ونتج عن ذلك جمود الفقه الإسلامي، وركود الحركة الفقهية، وطغيان التقليد، والاقتصار على المتون، واختصار الكتب، وتدوين الشروح، والحواشي، والموسوعات المذهبية، أو المقارنة بين المذاهب، والتزام جماهير الأمة اتباع المذاهب المتعددة التي استقرت وشاعت، ثم اختفى بعضها وانقرض كمذهب الأوزاعي، والمذهب الظاهري، وسيطرت المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي على معظم أرجاء البلاد الإسلامية، وبقي إلى جانبهم المذهب الزيدي، والإمامي الجعفري، والإباضي.

ونتج عن هذه الحالة -مع إقفال باب الاجتهاد- البقاء على وحدة الأمة الإسلامية، والحفاظ على الثروة الفقهية الموروثة من الطور الأول، وفي ذات الوقت وقف الفقه عن مجاراة الحياة، ووقف الفقهاء والعلماء وراء الركب، وأحس الناس بعجز العلماء، وقصور الأحكام، وخاصة مع التعصب المذهبي، والالتزام بمذهب دون غيره، ورافق ذلك الضعف السياسي، وتسلط الدول الأخرى على البلاد الإسلامية شيئًا فشيئًا، فتحلل الناس والحكام من الأحكام الشرعية جزئيًّا، والتمسوا الحلول المستوردة من القوانين والأنظمة الأجنبية إلى أن

ص: 9

غابت معظم الأحكام الشرعية عن معظم البلاد الإسلامية، وتسرب الغزو الفكري، والنظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الغربية، حتى وصل الأمر إلى التشكيك بالإسلام، وفصل الدين والشرع عن الدولة والمجتمع، والهجوم على القرآن والسنة، والطعن أو الغمز أو اللمز صراحة أو ضمنًا بالفقه الإسلامي، وانتهى معظم المسلمين إلى الحضيض، مع تسرب ومضات خاطفة لظهور بعض المجتهدين الذين يصرون على استمرار الاجتهاد.

الطور الثالث: أحس العلماء الغيورون بالوضع الراهن السيء، وتلمسوا الحلول لإنقاذ الأمة، وأيقنوا أن فتح باب الاجتهاد هو أحد الوسائل المهمة لحل المشكلة، وعادوا إلى إحياء قواعد أصول الفقه، والاجتهاد في القضايا المعاصرة والمستجدة، وفتحت الجامعات الإسلامية، وكليات الشريعة، وظهرت كوكبة من العلماء في القرن الرابع عشر تدعو للصحوة الإسلامية والتشريعية، والعودة إلى الينابيع، وإكمال العمل الذي كان في العهود السابقة للسلف الصالح، وأنشئت المجامع الفقهية، ومجمع البحوث، والمؤتمرات والندوات التي ضمت في جنباتها كبار علماء العصر الذين أدلوا بدلوهم، وأثبتوا أن فضل الله لا ينقطع؛ ولا ينحصر بجيل وأفراد، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، لكن ولجه من هو له أهل، واندس فيه من ليس أهلًا له، بل

ص: 10

هجم عليه غير المختصين أصلًا بالدين والشريعة، ثم بدأ الأمر يتمحص لمن يستحق أن يكون أهلًا للاجتهاد بجدارة، حتى قال الشوكاني رحمه الله: ومن حصر فضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على ما تقدم عصره، فقد تجرأ على الله عز وجل، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبدهم الله بالكتاب والسنة

(1)

.

وعادت دراسة أصول الفقه ليتم تطبيقها، ومنها أهلية الاجتهاد وشروطه وضوابطه، ليمارسها العلماء، ويعملوا بموجبها، ويؤكدوا صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان، وأن كل واقعة في الكون تتصل بالإنسان لها حكم شرعي يجب على العلماء والفقهاء بيانه

(2)

.

•‌

‌ مكانة الاجتهاد:

تظهر أهمية الاجتهاد ومكانته من خلال النقاط التالية:

1 -

الاجتهاد حكم شرعي:

إن الاجتهاد حكم شرعي مقرر ثابت بالنصوص والإجماع، وهو مهم للغاية، ويجب ممارسته وتطبيقه والعمل به وجوبًا شرعيًّا، فيثاب

(1)

إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 215).

(2)

الوجيز في أصول الفقه للزحيلي (2/ 271).

ص: 11

فاعله، ويعاقب الأهل له بتركه، وإذا تركه الجميع أثموا، فالاجتهاد -في حد ذاته- عبادة، وتعبد لله تعالى في وسائله وغايته، وتقرب لرضوانه في الدنيا والآخرة، ليفوز المجتهد بمكانة العلماء الثابتة شرعًا.

وإن تعطيل الاجتهاد، أو ادعاء غلقه، والعزوف عنه، يعطل حكمًا أساسيًّا مهمًّا في الشرع، كإقامة الدولة الإسلامية، والجهاد، وأركان الإسلام، وينعكس أثره السيء على سائر المسلمين، والأمة، والمجتمع، والدعوة، والتطور، والحياة، ومستقبل المسلمين، ومكانتهم في الأرض، وتحت الشمس، وبين الأمم، كما حصل في العصور الأخيرة.

2 -

أحكام النوازل والمستجدات:

إن الاجتهاد هو الوسيلة الوحيدة للمسلمين لإيجاد الأحكام والحلول للمشكلات الطارئة، والنوازل الواقعة، والمستجدات المتلاحقة، بغية معرفة حكم الله تعالى فيها، وتسهيل حياة المسلمين، وتيسير ظروفهم وأحوالهم وشؤونهم، وبيان مصالحهم في ضوء الشريعة الغراء، بجلب المصالح والمنافع لهم، ودفع المضار والمفاسد، والهلاك والضرر عنهم، وحمايتهم من السيطرة التشريعية الأجنبية، أو الاستعمار التشريعي، واستيراد الأحكام من الأعداء، وإبعاد الجمود الفكري والعقلي والشرعي عن حياتهم.

ص: 12

3 -

صلاحية الشريعة:

إن الاجتهاد هو الوسيلة الوحيدة التي تؤكد صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وتبين خصائص الشريعة وسماتها وواقعيتها ومرونتها وقدرتها على التطبيق، ومجاراتها لتطور الحياة، وكانت السلاح الوضاء أمام العلماء والدعاة في الدعوة لتطبيق شرع الله وأحكامه ودينه في جميع الأعصار والأمصار، وإلا تعطلت الشريعة، وفقدت سر بقائها، وتعرض أهلها للغزو الفكري والتشريعي ليحل محل الفقه الإسلامي.

4 -

الثروة الفقهية التشريعية:

إن الاجتهاد في العصور الأولى، وحتى في المراحل اللاحقة، كان الوسيلة الوحيدة حيث أعطى الأمة الإسلامية ثروة فقهية زاخرة، وتراثًا غزيرًا، تضاهي بها العالم، ويندر وجود مثيلها عند أمة أخرى، وزود المسلمين بملايين المؤلفات والمصنفات والموسوعات والمجلدات والكتب الفقهية التي عول عليها العالم أجمع في العصور الحديثة، والنهضة المعاصرة، ويستفيد منها المسلمون، ويتخيرون ما يقوى دليله، ويصلح للعصر، ثم يجتهدون فيما وراءه.

ولا يزال الاجتهاد -بل يجب أن يكون- السلاح الذي يعول عليه المسلمون اليوم في إغناء شعوبهم أولًا، وتزويد العالم ثانيًا بالحلول

ص: 13

الشرعية التي تنبثق من الأصول الشرعية، لتحقيق مصالح الناس بأفضل الوسائل، وأنجع المناهج، ويكفي أن نشير مثلًا إلى ما حققه الاجتهاد المعاصر في الاقتصاد الإسلامي، وبيان الأحكام الشرعية المؤصلة للمؤسسات المالية الإسلامية، كالمصارف، والتأمين، والسوق المالية، وسائر المعاملات المعاصرة مما ينعم به المسلمون اليوم، وبربطهم بدينهم وعقيدتهم وتراثهم، ويحقق مصالحهم، ويدفع عنهم غائلة النظم المادية الأخرى.

5 -

إعمال الفكر والعقل:

إن الاجتهاد -بحد ذاته- يغذي فكر المسلمين عامة، والعلماء خاصة، ويمنحهم الإثراء العقلي، والتفتح الذهني، وتشغيل الدماغ والعقل فيما يعود بالخير والنفع على الأمة والإنسانية، ويساهم في تطوير البحث النظري والشرعي، ويوسع مدارك المتعلمين والمتفقهين على جميع المستويات، ويعمق الحوار الجاد، والمناظرات العلمية الفاعلة والنافعة للناس، وبالتالي يتجدد الفكر بدلًا من الجمود والتعطيل، والمحاكاة والتقليد الذي يساهم بتهيئة النفوس للاستعمار الفكري والثقافي والتشريعي، فالاجتهاد يطرد ذلك، ويجعل العلماء والفقهاء والمجتهدين والأمة في المكان الذي يحبه الله ويرضاه، ويدعو إليه ويرغب به.

ص: 14

6 -

الارتباط بمصادر التشريع:

إن الاجتهاد العملي يعمق الارتباط بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، ويحكم الصلة بآثار الصحابة والتابعين، ويتفاعل مع فتاوى السلف والخلف، ويوثق الصلة باللغة العربية والتراث العظيم، وتاريخ التشريع الإسلامي في مختلف أطواره، فيستفيد المجتهد من كل ذلك، ثم يبدع وينتج ويستخرج الأحكام الشرعية التي تنفع الناس، ويوجد الحلول الإسلامية لمجريات الحياة.

7 -

الارتباط بالواقع والحياة:

إن المجتهد في قضايا عصره يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحياة الناس، وهموم الأمة، والنوازل التي تقع، فيكون مجتهدًا وعالِمًا واقعيًّا يفهم حياته وعصره، ولا يبقى في البرج العاجي الخالي من الناس، ويقطع عنه أحلام الماضي، والتغني بالآباء والأجداد، بل يعيش مع أهل العصر، ويكشف لهم الطريق الشرعي لمعاملاتهم على ضوء الكتاب والسنة وسائر مصادر التشريع الإسلامي

(1)

.

(1)

الوجيز في أصول الفقه للزحيلي (2/ 301).

ص: 15

•‌

‌ أركان الاجتهاد:

الاجتهاد له ثلاثة أركان، وهي:

1 -

نفس الاجتهاد:

وهو العمل والفعل الذي يبذل فيه المجتهد وسعه لنيل حكم شرعي من الأدلة المقررة شرعًا عن طريق الاستنباط والاستدلال والقياس وغيره، مما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة، أو مما لم يسبق فيه إجماع، وسبق تعريف الاجتهاد، وسيرد لاحقًا- إن شاء الله- مجاله، وشروطه.

2 -

المُجتهِد:

وهو الفقيه الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد، وصار عنده ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها، وبشروطها التي سترد.

3 -

المُجتهَد فيه:

وهو الحكم الشرعي العملي أو العلمي الذي ليس فيه دليل قطعي، فالحكم هو الوصف للحادثة أو الواقعة، والشرعي لإخراج الأمور العقلية التي لا تحتمل الاجتهاد، ولأن الحق فيها واحد لا يتعدد، ولا يحتمل الاختلاف، والعملي هو الذي يقتضي عملًا بالقلب أو اللسان أو الأعضاء والجوارح مما يدخل في كسب المكلف إقدامًا أو إحجامًا،

ص: 16

والعلمي هو ما تضمنه علم الأصول من المظنونات التي يستند العمل إليها، وعبارة «ليس فيه دليل قاطع» لتخرج الأحكام الثابتة بالدليل القطعي، مما يحرم فيه الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد ظن، والظن لا يقوى ولا يعارض القطع، وذلك كوجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وصيام رمضان، والحج، وما اتفقت عليه الأئمة، وأجمع عليه الفقهاء من أحكام الشرع الجلية

(1)

.

•‌

‌ شروط المجتهد:

1 -

أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده، كآيات الأحكام وأحاديثها.

2 -

أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه، كمعرفة الإسناد ورجاله، وغير ذلك.

3 -

أن يعرف الناسخ والمنسوخ، ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ، أو مخالف للإجماع.

4 -

أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص، أو تقييد، أو نحوه، حتى لا يحكم بما يخالف ذلك.

5 -

أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ،

(1)

الوجيز في أصول الفقه للزحيلي بتصرف يسير (2/ 286).

ص: 17

كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، ونحو ذلك ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات.

6 -

أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها.

7 -

قال الشاطبي: من شروطهم فى العالم بأي علم أن يكون عارفًا بأصوله وما ينبنى عليه ذلك العلم، قادرًا على التعبير عن مقصوده، عارفًا بما يلزم عنه، قائمًا على دفع الشبه الواردة عليه فيه، غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة

(1)

.

8 -

لا يشترط فيه حفظ القرآن ولا أدلة الأحكام -كما قال بعضهم- وكذلك في الأحاديث، بل يكفيه معرفة مواقع الآيات من القرآن، وكذلك الأحاديث من السنة.

9 -

أن يكون عالمًا بالقياس، حيث إن أكثر من نصف الفقه مبني عليه، فيعرف أركانه، وشروطه، وقوادحه.

قال الإمام أحمد: لا يستغني أحد عن القياس

(2)

.

10 -

معرفة مقاصد الشريعة، بأن يفهم المجتهد مقاصد الشرع العامة من تشريع الأحكام، وأن يكون خبيرًا بمصالح الناس،

(1)

الموافقات للشاطبي (1/ 62).

(2)

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 500).

ص: 18

وأحوالهم، وعاداتهم، وأعرافهم.

11 -

أن يكون عدلًا مجتنبًا للمعاصي القادحة في العدالة، وهذا الشرط يشترط لجواز الاعتماد على فتواه، فمن ليس بعدل لا تقبل فتواه.

بل قيل إن المجتهد الفاسق لو أظهر دليله، وكان دليلًا صالحًا للاحتجاج به، فإن كان المستمع لهذه الفتوى عالمًا مدركًا لصحة الدليل، ووجه دلالته على الحكم؛ فإنه يعمل بفتوى ذلك الفاسق، اعتمادًا على الدليل الصحيح، وليس اعتمادًا على اجتهاد ذلك المجتهد الفاسق.

وإن كان المستمع لهذه الفتوى لا يدرك صحة الدليل ولا يعلم؛ فإنه لا يعمل بفتواه.

•‌

‌ حكم الاجتهاد:

هو فرض كفاية، فإذا قام به البعض الكافي سقط عن الباقين.

• وقد ينتقل إلى فرض العين، كما هو فى حق المجتهد لنفسه، فلا يجوز للمجتهد أن يقلد غيره، بل يجب عليه الاجتهاد، وأن يعمل باجتهاده، وكذلك فى حق المجتهد لغيره إذا تعين عليه الحكم.

• وقد يكون مندوبًا كالاجتهاد في الحوادث التي لم توجد بعد.

ص: 19

• وقد يكون الاجتهاد حرامًا، وذلك في صور منها:

1 -

إذا اجتهد فى مخالفة نص أو إجماع.

2 -

إذا اجتهد فأخرج قولًا غير القولين المختلف فيهما.

3 -

اجتهد من لم يبلغ رتبه الاجتهاد بعد.

•‌

‌ مسألة: تجزؤ الاجتهاد:

اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

الأول: أنه يجوز تجزؤ الاجتهاد، فالشخص العارف لمسألة معينة، وأدلتها وطرق النظر فيها، وما يتعلق بها، فإنه يجوز أن يجتهد فيها ويعمل باجتهاده، وهذا مذهب الجمهور.

والأدلة على ذلك:

1 -

أنه لو كان العلم بجميع مسائل الفقه شرطًا لبلوغ درجة الاجتهاد، وشرطًا لقبوله منه؛ لكان توقف بعض الصحابة، وبعض الأئمة عن الفتيا في بعض المسائل، وعدم قدرتهم على ذلك مخرجًا له عن الاجتهاد.

2 -

أن بعض مسائل الفقه لا صلة لها بالمسائل الأخرى، فلا تضره إذا لم يعرفها أو غفل عنها.

ص: 20

•‌

‌ مراتب المجتهدين:

المجتهد إما مستقل أو غير مستقل، وغير المستقل أربعة أقسام، فتكون مراتب المجتهدين خمسًا، وهي:

1 -

المجتهد المستقل المطلق:

وهو الذي توفرت فيه الشروط السابقة، وكان له قواعد لنفسه، وأصول خاصة يعتمد عليها، ويبني عليها أحكام الفقه، ويمارسها في الاجتهاد، وكان اجتهاده في عامة أبواب الفقه، ويبذل جهده في معرفة النوازل والوقائع وما يسأل عنه، وهذا هو المجتهد المطلق المستقل.

وهذا الصنف قد يصعب توفره الآن، وخاصة مع اتساع العصر، وتنوع العلوم، وكثرة الوقائع والنوازل، والاعتماد على التخصص العام، والتخصص الفرعي الدقيق في مختلف العلوم وفي شؤون الحياة.

ومن أمثلة المجتهد المطلق فقهاء الصحابة والتابعين والأئمة الذين جاؤوا بعدهم واشتهروا بالاجتهاد المطلق كأبي حنيفة، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، والليث بن سعد، والثوري، وابن جرير الطبري، وأبي ثور، وابن المنذر، وغيرهم كثير.

2 -

المجتهد المطلق غير المستقل:

وهو الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد كالصنف السابق، لكن لم

ص: 21

يضع لنفسه قواعد ينفرد بها، بل التزم طريقة إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهو مجتهد مطلق منتسب، فهو لم يقلد إمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقته في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيرًا منه على أهله، فوجده صوابًا، وأولى من غيره، وذلك مثل أبي يوسف ومحمد وزفر من الحنفية، وابن القاسم وأشهب من المالكية، والبويطي والزعفراني والمزني من الشافعية.

3 -

المجتهد المقيد:

ويسمى: المجتهد في المذهب، أو مجتهد التخريج؛ لأنه مقيد في مذهب إمام معين، وعاملٌ على تقرير أصوله بالدليل، ولا يتعدى أصوله وقواعده، ويتقنها مع فقهها وأدلة مسائلها، وفي ذات الوقت فإنه يعرف القياس، ويقدر على التخريج والاستنباط على أصول إمامه، ويلحق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه، كالحسن بن زياد الكرخي والطحاوي من الحنفية، والأبهري وابن أبي زيد من المالكية، وأبي إسحاق الشيرازي وأبي إسحاق المروزي من الشافعية، وغيرهم.

ويقوم مجتهد التخريج بنشاط في أقوال إمامه، فإذا أفتى الإمام في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين، نقل حكم كل منهما إلى الأخرى، وصار في كل مسألة قولان بالاجتهاد والتخريج، ما لم يفرق الإمام بينهما، أو يقرب الزمن.

ص: 22

4 -

مجتهد الترجيح:

وهو فقيه النفس، الحافظ لمذهب إمامه، العارف بأدلته، القائم بتقريرها، ثم يصور ويحرر للمسائل الجديدة، ويمهد لها ويقررها، ويزيف ما يخالفها، ويرجح بين أقوال الإمام، ووجوه الأصحاب، مثل القدوري والمرغيناني صاحب «الهداية» من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب والشيخ خليل من المالكية، وأبي الطيب الطبري وأبي حامد الإسفراييني والرافعي والنووي من الشافعية، والقاضي أبي يعلى وابن قدامة وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، وغيرهم كثير في كل مذهب، ممن لم يخل منهم عصر.

5 -

مجتهد الفتيا:

وهو الفقيه الذي يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه، ويعتمد عليه في نقل المذهب والفتوى به فيما يحكيه من كتب المذهب، ومنصوصات الإمام، وتفريعات الأصحاب المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم، فإن لم يجد حكمًا منقولًا في مذهبه، أعطى ما في معناه مما يدركه بأدنى فكر وتأمل، وأنه لا فارق بين الأمرين، وهذا النوع أكثر من أن يحصى في كل مذهب، وفي كل عصر ممن يتصدر للفتوى والتعليم، وهم المسمون اليوم بالعلماء والفقهاء والمختصين بالشريعة، وهم القائمون على الاجتهاد الجزئي، وبيان أحكام النوازل

ص: 23

والمستجدات، ويتولون الإفتاء وبيان الأحكام للناس

(1)

.

•‌

‌ مجالات الاجتهاد:

الاجتهاد يكون في الظنيات فقط، وذلك يشمل:

1 -

النص قطعي الثبوت ظني الدلالة: وهذا يكون في الآية التي دل لفظها على الحكم دلالة ظنية، وكذلك الحديث المتواتر. مثل قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فهذا قطعي الثبوت ظني الدلالة؛ لأن لفظ القرء مجمل، ويحتمل أن يكون معناه الحيض أو الطهر، فيجتهد هنا المجتهد للوصول إلى المراد.

2 -

النص ظني الثبوت قطعي الدلالة: وهذا يكون في خبر الواحد الذي دل معناه دلالة قطعية مع ظنية الثبوت فيه، فيعمل المجتهد في البحث في سنده، وطرق وصوله إلينا، وحال رواته. مثل قوله صلى الله عليه وسلم:«في كل خمس من الإبل شاة»

(2)

، فهذا نص قطعي الدلالة لا يحتمل إلا معنى واحد.

3 -

النص ظني الثبوت والدلالة معًا: وهذا يكون في خبر الواحد

(1)

صفة الفتوي لابن حمدان (16)، التخريج عند الفقهاء والأصوليين للباحسين (311)، الوجيز في أصول الفقه للزحيلي (2/ 294).

(2)

أخرجه البخاري (1454) من حديث أبي بكر الصديق مرفوعًا.

ص: 24

الدال على معناه دلالة ظنية، وكذلك هو ظني الثبوت، فيجتهد المجتهد هنا في أمرين:

الأول: إثبات سنده، وحال رواته من العدالة والضبط، ونحو ذلك.

الثاني: دلالة الحديث على المراد منه.

4 -

الاجتهاد فيما لا نص فيه ولا إجماع: وهذا يكون في حادثة لم يرد في حكمها نص، ولا إجماع؛ فيبذل المجتهد وسعه في إدراك حكم هذه المسألة، بالضوابط والقواعد، والأدلة التي أرشده إليها الشرع.

•‌

‌ طريقة الاجتهاد:

إن المجتهد إذا عرضت له قضية أو مسألة، فإنه يسير حسب الخطوات والمراحل التالية:

1 -

الرجوع إلى النصوص القطعية، فإن وجد فيها حكم المسألة بدلالة قطعية، قال به، والتزمه، وأفتى به، ولا يجوز له مطلقًا مخالفته والخروج عنه.

فإن كانت الدلالة ظنية للنصوص القطعية، لكن اجتهد فيها السابقون، واتفقوا على حكم، كان إجماعًا، والتزم به، وعمل بموجبه، وأفتى به كالسابق.

فإن لم يتفقوا على حكم، وكان لكل منهم رأي، فإن كان السابقون

ص: 25

من الصحابة، أخذ بما يعتقده في قول الصحابي، من اتباع أحدهم وعدم الخروج عنهم، أو الاجتهاد مثلهم، كما هو مبين في مذهب الصحابي.

وإن لم يكن المجتهدون السابقون من الصحابة، وجب على المجتهد أن يبذل وسعه وينظر في الأدلة، ويجتهد، سواء وافق رأيه رأي أحدهم، أو خالف الجميع.

2 -

الرجوع إلى النصوص الظنية الثبوت، أو ظنية الثبوت والدلالة، ويعمل بالخطوات السابقة في النصوص القطعية الثبوت الظنية الدلالة.

3 -

عند عدم النص، فإن اجتهد السابقون وأجمعوا على رأي، صار له حكم الإجماع، وإن اختلف الصحابة، عمل برأيه في مذهب الصحابي، وإن كان الاختلاف من غيرهم، لزمه الاجتهاد.

4 -

ولا بد للمجتهد أن يرجع إلى النصوص لعله يجد فيها دلالة على الواقعة المعروضة عليه بالنص، أو الظاهر، وسائر أنواع الدلالات، ويجهد نفسه في معرفة مقاصد الشريعة، واستنباط العلل؛ ليطبق ذلك على الواقعة.

5 -

إن لم يجد المجتهد لذلك حكمًا من الاجتهاد في النصوص، اتجه إلى جمع كل ما يتصل بالواقعة من معان لغوية، ونصوص قرآنية، وأحاديث نبوية، وأقاويل السلف، وأوجه القياس الممكنة، واتجه بقلبه

ص: 26

مخلصًا لمعرفة حكم الله تعالى فيها من دون تعصب أو تحمل، أو تهور أو تقصير، فما وصل إليه اجتهاده، فهو حكم الله تعالى - عند المجتهد - الذي يجب عليه التزامه، والعمل به، والفتوى فيه.

واستحسن الشوكاني منهج الشافعي رحمه الله، الذي حكاه عنه الغزالي، ولخص فيه طريقة الاجتهاد فقال: إذا وقعت الواقعة للمجتهد، فليعرضها على نصوص الكتاب، فإن أعوزه، عرضها على الخبر المتواتر، ثم الآحاد، فإن أعوزه لم يخض في القياس، بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب، فإن وجد ظاهرًا، نظر في المخصصات من قياس وخبر، فإن لم يجد مخصصًا، حكم به، وإن لم يعثر على ظاهر من كتاب ولا سنة، نظر إلى المذاهب، فإن وجدها مجمعًا عليها، اتبع الإجماع، وإن لم يجد إجماعًا، خاض في القياس، ويلاحظ القواعد الكلية أولًا، ويقدمها على الجزئيات، فإن عدم قاعدة كلية، نظر في المنصوص ومواقع الإجماع، فإن وجدها في معنى واحد، ألحق به، وإلا انحدر به إلى القياس، فإن أعوزه، تمسك بالشبه، ولا يعول على طرد

(1)

.

(1)

إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 224).

ص: 27

ويبين الماوردي رحمه الله وجوه الاجتهاد ومنهجه، ويقسمها إلى ثمانية أقسام، وهي:

أحدها: ما كان حكم الاجتهاد مستخرجًا من معنى النص، كاستخراج علة الربا من البر، فهذا صحيح غير مدفوع عنه عند جميع القائلين بالقياس.

القسم الثاني: ما كان مستخرجًا من شبه النص، كالعبد في ثبوت تملكه، لتردد شبهه بالحر في أنه يملك؛ لأنه مكلف، وشبهه بالبهيمة في أنه لا يملك؛ لأنه مملوك، وهذا صحيح وليس بمدفوع عنه عند من قال بالقياس ومن لم يقل، غير أن من لم يقل بالقياس جعله داخلًا في عموم أحد الشبهين، ومن قال بالقياس جعله ملحقًا بأحد الشبهين.

القسم الثالث: ما كان مستخرجًا من عموم النص، كالذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، يعم الأب والزوج، والمراد به أحدهما، وهذا صحيح يوصل إليه بالترجيح.

القسم الرابع: ما كان مستخرجًا من إجمال النص، كقوله تعالى في متعة الطلاق:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، فصح الاجتهاد في إجمال قدر المتعة باعتبار حال الزوجين.

ص: 28

القسم الخامس: ما كان مستخرجًا من أحوال النص، كقوله تعالى في متعة الحج:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، فأطلق صيام الثلاثة في الحج، فاحتمل: قبل عرفة، وبعدها، وأطلق صيام السبعة إذا رجع، فاحتمل: إذا رجع في طريقه، وإذا رجع إلى بلده، فصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين.

القسم السادس: ما كان مستخرجًا من دلائل النص، كقوله تعالى في نفقة الزوجات:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين، بأنه أكثر ما جاءت به السنة في فدية الأذى لكل مسكين مدان، واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد، بأقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء في شهر رمضان، لكل مسكين مد.

القسم السابع: ما كان مستخرجًا من أمارات النص، كاستخراج دلائل القبلة فيمن خفيت عليه من قوله:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} [النحل: 16]، فصح الاجتهاد في القبلة بالأمارات الدالة عليها من هبوب الرياح ومطالع النجوم.

القسم الثامن: ما كان مستخرجًا من غير نص، ولا أصل، فقد اختلف في صحة الاجتهاد فيه بغلبة الظن على وجهين:

ص: 29

أحدهما: لا يصح الاجتهاد بغلبة الظن حتى يقترن بأصل؛ لأنه لا يجوز أن يرجع في الشرع إلى غير أصل، وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي، ولذلك أنكر الاستحسان؛ لأنه تغليب ظن بغير أصل.

والوجه الثاني: يصح الاجتهاد به؛ لأن الاجتهاد في الشرع أصل، فجاز أن يستغني عن أصل، وقد اجتهد العلماء في التعزير على ما دون الحدود بآرائهم في أصله من ضرب وحبس، وفي تقديره بعشر جلدات في حال، وبعشرين في أخرى، وبثلاثين في أخرى، وليس لهم في هذه المقادير أصل مشروع، والفرق أن الاجتهاد بغلبة الظن يستعمل مع عدم القياس

(1)

.

• نقض الاجتهاد:

‌نقض الاجتهاد

هو هدمه وإلغاؤه وإبطال العمل به، ويأخذ إحدى الصور الثلاث، بحسب موقعه، إما في العمل به والتطبيق في الحياة، وإما في الإفتاء، وإما في القضاء، سواء كان النقض من نفس المجتهد الأول، أو من غيره.

والمبدأ العام في نقض الاجتهاد واحد في الصور الثلاث، وقد يختلف الأمر في الأثر المترتب على النقض من صورة إلى أخرى.

(1)

البحر المحيط للزركشي (4/ 520).

ص: 30

والمبدأ العام في نقض الاجتهاد له شقان:

الشق الأول: وجوب نقض الاجتهاد:

إذا كان الاجتهاد مخالفًا لنص صريح في القرآن الكريم، أو السنة الشريفة، ولو كانت سنة آحاد صريحة، أو مخالفًا لإجماع، فإنه ينقض باتفاق العلماء والأئمة والمذاهب، سواء من نفس المجتهد أو من غيره؛ لأن هذا الاجتهاد -أصلًا- باطل؛ لمخالفة النص والإجماع، فيلغى ولا يجوز العمل به في الحياة العملية، ولا يجوز الإفتاء به، ولا القضاء به، وإن عمل به، فيجب الرد، وإذا صدر فيه حكم قضائي، نقض، وإذا أفتى به شخص يجب الرجوع عنه وإبلاغ من أفتاه ليرجع.

وأضاف الحنفية والمالكية والشافعية بأن الاجتهاد ينقض إذا خالف قياسًا جليًّا، وهو ما تكون العلة فيه صريحة في الأصل، أو تكون في الفرع أشد منها في الأصل كالضرب والتأفيف، أو تكون العلة مساوية تمامًا، ولا فرق نهائيًا بين الأصل والفرع كالمرأة قياسًا على الرجل في الكفارة وغيرها، وخالف في ذلك الحنابلة وقالوا: لا ينقض الاجتهاد بمخالفة القياس مطلقًا، ولو كان جليًّا على الصحيح عندهم.

وزاد الإمام مالك بنقض الاجتهاد إذا خالف القواعد الشرعية، وزاد بعض المتأخرين بنقض الاجتهاد وإلغائه إذا خالف المذاهب الأربعة؛ لأن ذلك بمثابة الإجماع، أو المعلوم من الدين بالضرورة، وقال ابن

ص: 31

حجر: أو كان اجتهادًا لا دليل عليه قطعًا.

وإن كان الاجتهاد معتمدًا على نص قطعي أو إجماع أو قياس جلي فإنه لا ينقض بالاتفاق؛ لأنه يعتمد على دليل لا يجوز خلافه ولا الاجتهاد ضده.

•‌

‌ الشق الثاني: عدم نقض الاجتهاد:

إذا كان الاجتهاد مبنيًّا على الرأي، خارج الحالات السابقة في الشق الأول، فإنه لا ينقض باجتهاد آخر، وهذا ما نصت عليه القاعدة الفقهية الأصولية «الاجتهاد لا ينقض بمثله» ، وبعبارة أخرى «الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد» .

ومجال هذا الاجتهاد في المسائل الظنية التي لم يرد فيها دليل قاطع، ولا إجماع، أو في المسائل المستجدة، فإن الاجتهاد فيها لا ينقض باجتهاد مثله بالاتفاق؛ لأنه لو نقض الأول بالثاني لجاز أن ينقض الثاني بثالث؛ لأنه ما من اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير، وذلك يؤدي إلى عدم الاستقرار؛ ولأن الاجتهاد الأول ظني، ويعتمد على دليل ظني، والثاني ظني ويعتمد على دليل ظني، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، ونقض هذا الاجتهاد يؤدي إلى نقض النقض، ويتسلسل الأمر فتضطرب الأحكام ولا يوثق بها.

ص: 32

•‌

‌ آثار تغير الاجتهاد، ونقض الاجتهاد وعدمه:

إذا اجتهد مجتهد، أو حاكم، بما يخالف الدليل القطعي من نص أو إجماع أو قياس جلي، وما مر في الشق الأول، فإن حكمه ينقض باتفاق العلماء، سواء كان من قبل المجتهد، أو الحاكم، أو من مجتهد آخر، أو حاكم آخر؛ لمخالفة الدليل، ولأنه يكون باطلًا، وكل ما بني على باطل فهو باطل، وتنعدم الآثار التي بنيت على الحكم الأول، وهذا له أمثلة من عمل الصحابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، إذا اجتهدوا ثم وجدوا نصًّا، نقضوا اجتهادهم.

وإذا كان الاجتهاد ظنيًّا، وقلنا لا ينقض باجتهاد آخر باتفاق، لكن تغير الرأي بعد ذلك، فإن الأثر العملي يختلف حسب حالة المجتهد نفسه، أو المفتي، أو القاضي.

1 -

أثر تغير الاجتهاد على نفس المجتهد:

إذا رأى المجتهد حكمًا معينًا، ثم تغير ظنه، فإن لم يعمل بالأول فلا شيء في ذلك، ويجب عليه العمل بالثاني، وإن عمل بالأول لزمه أن ينقض اجتهاده وما يترتب عليه، كما إذا خالع المجتهد زوجته بعد طلاقها مرتين، وأداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ، ليس بطلاق، فتزوجها بعد ذلك بمقتضى هذا الاجتهاد، ثم تغير اجتهاده وأداه إلى أن الخلع طلاق، لزمه أن يفارقها، ولا يجوز له إمساكها، عملًا بمقتضى اجتهاده

ص: 33

الثاني؛ لأنه صار معتقدًا أن الاجتهاد الأول خطأ، والثاني صواب يجب العمل به، وهذا ليس نقضًا للاجتهاد بالاجتهاد، بل هو ترك العمل بالاجتهاد الأول.

مثاله أيضًا: لو رأى المجتهد أن الولي ليس شرطًا في صحة العقد للمرأة الرشيدة، فتزوجها من غير ولي، ثم تغير اجتهاده ورأى أن الولي شرط في صحة الزواج، فيلزمه مفارقة تلك المرأة، ولا يحل له البقاء على الزواج بها، وهو ترك للعمل بالاجتهاد الأول.

وهذا الكلام في المثالين إذا لم يكن القاضي قد حكم بصحة النكاح في الحالتين، فإن حكم بهما القاضي، فلا يلزم الزوج مفارقة المرأة؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، ويترك المخالف مذهبه ويلتزم بمذهب الحاكم.

2 -

أثر تغير اجتهاد الحاكم:

إذا اجتهد القاضي فيما يصح الاجتهاد فيه مما لم يرد فيه نص أو إجماع، وقضى في واقعة بما اجتهد به، ثم حصلت واقعة مماثلة للأولى، فاجتهد فيها، وتغير اجتهاده، فإنه لا ينقض الحكم السابق، وذلك تطبيقًا دقيقًا للقاعدة السابقة «الاجتهاد لا ينتقض بمثله»: لأن النقض يؤدي -كما قلنا- إلى اضطراب القضاء، وعدم استقرار الأحكام، وشلل القضاء بعدم إنهاء المنازعات، وبالتالي عدم الوثوق

ص: 34

بحكم الحاكم، وبقيت الخصومات على حالها، واستمر التشاجر والتنازع وانتشار الفساد والعدوان والظلم، وهذا يتنافى مع المصلحة التي وجد القضاء لأجلها، والحكمة التي نصب لها الحكام.

والأمثلة في تاريخ القضاء الإسلامي كثيرة منذ عهد الصحابة، كتغير اجتهاد عمر رضي الله عنه في المسألة المشتركة الحجرية في الميراث، وقرر القاعدة المشهودة «تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي»

(1)

، ويؤيد ذلك ما جاء في كتاب عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وفيه:«لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه نفسك، أن تراجع الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل»

(2)

.

والأصل في هذه القاعدة إجماع الصحابة رضي الله عنهم، كما نقله ابن الصباغ رحمه الله، وأن أبا بكر رضي الله عنه قضى في مسائل، ثم خالفه فيها عمر رضي الله عنه، ولم ينقض اجتهاده، وعلته أن الاجتهاد الثاني ليس بأقوى من الأول، فيصح ما فعله بالاجتهاد الأول الذي تقوى بالقضاء والعمل، ثم يغير الحكم في المستقبل.

(1)

صحيح بمجموع طرقه: أخرجه عبد الرزاق (19005)، والدارمي (671)، والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 331).

(2)

أخرجه الدارقطني في السنن (4472)، والبيهقي في الصغير (3259)، ويمكن أن نحكم بما حكم به ابن كثير في مسند الفاروق، فقال: هو كتاب مشهور لابد للقضاة من معرفته والعمل به.

ص: 35

وكذلك لا ينقض اجتهاد مجتهد باجتهاد مجتهد آخر، بل كل مجتهد عليه أن يحترم اجتهاد الآخر لعدم المرجح.

وكذلك الأمر لو كان بين قاضيين، بأن قضى شافعي مثلًا بعدم الشفعة للجار، أو بطلان الزواج بغير ولي، ثم رفعت نفس القضية لقاض حنفي مثلًا يرى الشفعة للجار، أو صحة النكاح بغير ولي، فلا يجوز أن ينقض قضاء الأول، ويجب عليه تنفيذه، ويحكم في القضايا الأخرى بما يراه.

وهذا مبدأ قانوني مقرر في محاكم النقض والتمييز إذا تغير اجتهادها، فإنه لا يسرى ذلك على الأحكام السابقة، ويسمى في اصطلاحهم «بعدم رجعية القوانين والقرارات»

(1)

.

•‌

‌ مسألة: تغير الاجتهاد:

يجوز للمجتهد أن يكون له قولان في وقتين مختلفين، وذلك بأن يكون له اجتهاد وفيه رأي معين، ثم يجتهد في نفس المسألة فيصل إلى اجتهاد آخر ورأي جديد مخالف للأول، وهذا جائز باتفاق.

(1)

المستصفى للغزالي (367)، الوجيز في أصول الفقه للزحيلي (2/ 341).

ص: 36

‌وأسباب تغير الاجتهاد

كثيرة، أهمها:

1 -

وجود دليل جديد:

إن الاجتهاد يتبع الدليل، فإذا وجد المجتهد دليلًا أقوى من دليل الاجتهاد الأول، أو أصح منه، أو أقرب دلالة، فيجب عليه الأخذ بالأقوى والأصح؛ لأنه أقرب إلى الحق والصواب.

2 -

تغير الزمان:

إذا كان الحكم السابق مبنيًّا على العرف، أو مصلحة الناس، ثم تغير العرف أو تغيرت مصلحة الناس، وجب تغير الحكم الشرعي، وهو المقرر في قاعدة «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» ؛ وذلك لتحقيق المصلحة، ودفع المفسدة، وأمثلة ذلك كثيرة، كالإفتاء بجواز أخذ الأجرة أو الراتب على تعليم القرآن، والقيام بالشعائر الدينية كالإمامة والخطابة؛ لتغير العرف بسبب انقطاع المكافآت والعطايا التي كانت تدفع من بيت المال للمشتغلين بهذه الوظائف، والحكم بتضمين الصناع لأموال الناس التي تهلك في أيديهم محافظة على الأموال من الضياع، وتحقيقًا لمصلحة المجتمع، والقول بجواز التسعير دفعًا للضرر العام وتحقيقًا لمصلحة الناس، ومثله إفتاء الفقهاء المتأخرين بعدم جواز القضاء بعلم القاضي لتغير الزمان والحفاظ على حقوق الناس.

ص: 37

3 -

مراعاة الضرورة وتطور الزمان:

وذلك كالحكم بطهارة سؤر سباع الطير كالصقر والنسر مراعاة للضرورة؛ لعدم إمكان الأعراب وسكان الصحارى من الاحتراز منها، وصحة بيع العقار اليوم بذكر صحيفته العقارية «السجل العقاري» حسب التنظيمات الحاضرة.

4 -

اختلاف البلدان:

قد يكون لبعض البلاد أعراف خاصة، وتنظيمات معينة، ومعاملات خاصة، واهتمامات متميزة، وهي مما يجب مراعاته عند الاجتهاد ومعرفة الأحكام التي تناسب هذا البلد دون غيره.

ومن هنا ظهر بعض الاختلاف في الأحكام بين أهل مكة وأهل المدينة؛ لأن مكة تعتمد على التجارة، ولا تعرف الزراعة وما يتعلق بها، وأهل المدينة يعتمدون على الزراعة، وتقل فيهم التجارة.

ولهذه الأسباب مجتمعة أو متفرقة كان المجتهد يغير اجتهاده إذا انتقل من بلد إلى آخر، كما حصل مع الإمام الشافعي عندما غير اجتهاده في مسائل عديدة عندما انتقل من الحجاز إلى العراق، ثم استقر في مصر، وكتب مذهبه الجديد، وخالف فيه بعض اجتهاداته التي عرفت بالمذهب القديم.

ص: 38

ومن هنا أيضًا تتغير الفتوى للأسباب السابقة، أو لبعضها، مما يجب مراعاته.

ويختلف الأمر في أثر تغيير الاجتهاد من المجتهد نفسه إذا عمل بالرأي الأول، أو أفتى به غيره وعمل به، أو قضى به القاضي

(1)

.

•‌

‌ مسألة: هل كل مجتهد مصيب؟

اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن المصيب واحد من المجتهدين، فإذا حدثت حادثة ولم يوجد عليها دليل قاطع في حكمها من نص أو إجماع، فيطلب أهل الاجتهاد حكم هذه الحادثة، فمن أدركه كان مصيبًا، ومن لم يدركه كان مخطئًا لا إثم عليه.

وهذا مذهب جمهور العلماء وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر»

(2)

، وهذا صريح في أن المجتهد يصيب ويخطئ، ويؤجر المجتهد المصيب أجران، ويؤجر المخطئ أجرًا ولا إثم عليه.

(1)

الوجيز في أصول الفقه. الزحيلي بتصرف يسير (2/ 340).

(2)

أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من طريق بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص مرفوعاً.

ص: 39

2 -

قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، وهذا فيه دلالة على أن الحق واحد، والمصيب واحد، وأن الحق في تلك الواقعة أصابه سليمان، فخصصه الله بفهم الحق في تلك الواقعة، وعدم فهم داود عليه السلام للحق في تلك الواقعة؛ فلو كانا مصيبين معًا لما كان لاختصاص سليمان بالفهم في تلك الواقعة معنى.

وهذا أيضًا فيه دلالة أن الإثم محطوط عن المجتهد المخطئ، وذلك بدليل مدح الله لكل من داود وسليمان، فقال تعالى:{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].

3 -

فعل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم انتشرت عنهم وقائع ومسائل خطأ بعضهم بعضًا فيها، وصرحوا بلفظ الخطأ والإنكار، من ذلك:

- قول عمر رضي الله عنه في قضية قضاها: والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ

(1)

.

- لما كتب كاتب عمر: هذا رأي الله ورأي عمر. قال له عمر: بئس ما قلت، أكتب: هذا ما رآه عمر، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ

(1)

ذكره الجصاص في الفصول (3/ 364)، والقاضي أبو يعلى (4/ 1191) في العدة، ولم أجده مسندًا عن عمر.

ص: 40

فمن عمر

(1)

.

- قول ابن مسعود رضي الله عنه لما سئل عن المفوضة هل لها مهر؟ قال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمن الشيطان

(2)

.

- لما ورث زيد بن ثابت الإخوة مع الجد، اعترض عليه ابن عباس، فقال: ألا يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابنًا، و لا يجعل أبا الأب أبًا

(3)

.

فهذا فيه دلالة على أن الصحابة رضي الله عنهم قد اتفقوا على أن الحق واحد يصيبه بعض المجتهدين، ويخطئه آخرون.

المذهب الثاني: أن كل مجتهد في الفروع مصيب، وأن حكم الله

(1)

إسناده صحيح: أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3582)، والبيهقي في الكبرى (20348)، وغيرهما من طريق مسروق عن عمر قوله.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه النسائي (3354)، وعبد الرزاق (10898) من طريق منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قوله.

وأخرجه أحمد (18460)، وأبو داود (2116) من طريق خلاس بن عمرو عن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود قوله، وهو سند صحيح أيضاً.

(3)

رجاله ثقات: أخرجه أبو بكر الباغندي في جزء له (14) من طريق قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قوله، وعلقه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 381).

ص: 41

تعالى لا يكون واحدًا معينًا، بل هو تابع لظن المجتهد.

فحكم الله تعالى في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وغلب على ظنه.

وهذا مذهب أبي بكر الباقلاني، والغزالي، وأكثر المعتزلة.

واستدلوا بأدلة:

1 -

قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5].

فالله تعالى أخبر أن القطع والترك بأمر الله تعالى، فهما صوابان مع كونهما ضدين.

وأجيب عن ذلك: أن هذا من باب الواجب المخير، والعلماء لم يمنعوا أن يرد حكم الله بالتخيير بين الأشياء، إنما منعوا أن يكون الحكم من المجتهد، وضده من مجتهد آخر، وكلاهما صواب.

2 -

حديث: «ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»

(1)

، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة لما أمرهم ألا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة، وقد اختلفوا، فمنهم من صلى في الطريق، ومنهم من لم يصل

(1)

أخرجه البخاري (946)، ومسلم (1770) من طريق نافع عن ابن عمر مرفوعاً.

ص: 42

وصل، فدل على أن كل مجتهد مصيب.

وأجيب على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة اجتهادهم، وكلٌّ عمل بما أداه إليه اجتهاده.

ولكن ليس الكل مصيبًا للحق، وإن كان فعلهم صوابًا «الاجتهاد» في أن كلًّا قد فعل وأدى ما عليه، فهناك فرق بين الإصابة والصواب كما قال الشوكاني: وأما استدلالهم بتصويب كل طائفة ممن صلى قبل الوصول إلى بني قريظة لمن خشي فوت الوقت، وممن ترك الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»

(1)

.

فالجواب عنه: على أن ترك التثريب لمن قد عمل باجتهاده، لا يدل على أنه قد أصاب الحق، بل يدل على أنه قد أجزأه ما عمله باجتهاده، وصح صدوره عنه؛ لكونه قد بذل وسعه في تحري الحق، وذلك لا يستلزم أن يكون هو الحق الذي طلبه الله من عباده، وفرق بين الإصابة والصواب؛ فإن إصابة الحق هي الموافقة، بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ الحق ولم يصبه، من حيث كونه قد فعل ما كلف به، واستحق الأجر عليه، وإن لم يكن مصيبًا للحق وموافقا له

(2)

.

(1)

انظر ما قبله.

(2)

إرشاد الفحول (2/ 1072).

ص: 43

•‌

‌ مسألة: هل كل من يجتهد يتردد بين الأجر والأجرين؟

وضع النبى صلى الله عليه وسلم شرطين للتردد بين الأجر والأجرين، وهما إذا اجتهد الحاكم، أي لا بد أن يكون حاكمًا عالما، وأن يجتهد، فإن لم يجتهد الحاكم وأفتى؛ فهو آثم وإن أصاب الحق.

وكذلك إن اجتهد الجاهل فهو آثم، وإن أصاب الحق؛ لأنه لم يصب الحق، ولكن الحق الذى أصابه؛ لأن الجاهل لا يدري طرق الاجتهاد ولا أصوله، فلا يتردد بين الأجر والأجرين إلا إذا كان من أهل العلم ويجتهد للفتوى.

قال النووي: أجمع العلماء على أن هذا فى حاكم عالم أهلًا للحكم، فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم، فلا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته للحق اتفاقية فهو عاص في جميع أحواله

(1)

.

•‌

‌ مسألة: هل يجوز الاجتهاد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم

اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز الاجتهاد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا.

وهو الصحيح، والأدلة على ذلك كثيرة منها:

(1)

شرح مسلم للنووي (256/ 6).

ص: 44

أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم فوض الحكم في بني قريظة إلى سعد بن معاذ حيث رضوا بحكمه، فحكم سعد فيهم برأيه واجتهاده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له:«لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات»

(1)

.

ب- اجتهاد عمرو بن العاص لما أجنب في ليلة شديدة البرد، وخشي على نفسه إن اغتسل أن يهلك، فتيمم وصلى بأصحابه الفجر، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاده

(2)

.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز الاجتهاد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا:

أ- إن كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم قد رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حكم وقائع قد حصلت لهم، و لو كان الاجتهاد جائزًا في زمانه لاجتهدوا بأنفسهم، فلما رجعوا إليه دل ذلك على عدم الجواز.

وأجيب عن ذلك: بأن رجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور لا يدل على منعهم من الاجتهاد بالكلية.

فالأمر محتمل أنهم رجعوا إليه فيما لم يظهر لهم فيه وجه الحكم بالاجتهاد، أو أنه يحتمل أن الذي رجع إليه لم تتوفر فيه شروط

(1)

أخرجه البخاري (3804)، ومسلم (1768) من طريق أبي أمامه سهل بن حنيف عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.

(2)

صحيح بمجموع طرقه: أخرجه أحمد (17812)، وأبو داود (334) من حديث عمرو بن العاص مرفوعاً.

ص: 45

المجتهد.

ب- أن الصحابة رضي الله عنهم يمكنهم معرفة الحكم عن طريق الوحي القاطع، وإذا كان يمكنهم معرفة الحكم معرفة قطعية فلا يجوز ردهم إلى الاجتهاد المفيد للظن.

وأجيب عن ذلك: أن ذلك منتقد بوقوع الاجتهاد من بعض الصحابة رضوان الله عليهم.

وكذلك لا مانع من الحكم بالظن والظاهر؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما اختصم عنده رجلان فقال: «إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو ما أسمع»

(1)

.

•‌

‌ مسألة: هل يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد؟

أولاً: اتفق العلماء على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية، ومنها أمور الحرب، وغيرها، بدليل وقوعه منه صلى الله عليه وسلم؛ حيث صالح غطفان مقابل ثمار المدينة، ولم تتم هذه المصالحة بسبب مخالفة رؤساء أهل المدينة، ووقوعه في تأبير النخل - بعد قدومه المدينة.

ثانياً: اتفق العلماء - أيضا - على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق مناط الحكم، ومنه الأقضية، وفصل الخصومات، ونحو ذلك.

(1)

أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713) من حديث أم سلمة مرفوعاً.

ص: 46

ثالثاً: اختلف العلماء في جواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في غير ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول جمهور العلماء؛ لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: عموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر: 2] حيث إن الله قد أمر أهل البصائر أن يعتبروا ويقيسوا الأشياء بما يماثلها، وهو عامٌّ وشامل لجميع أهل البصائر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى أهل البصائر، وأرفعهم منزلة، فكان بالاعتبار أولى.

الدليل الثاني: قياس نبينا صلى الله عليه وسلم على داود وسليمان عليهما السلام.

بيانه: أنه لما اعتدت غنم قوم على زرع آخرين، ذهب صاحب الزرع وصاحب الغنم يتخاصمان إلى داود عليه السلام ليحكم بينهما، فحكم بينهما بحكم، وخالفه فيه سليمان عليه السلام - وحكم - أي: سليمان - بحكم آخر، فكان حكمهما بالاجتهاد، بدليل: أن سليمان لو لم يحكم بالاجتهاد لما قال تعالى: «ففهمناها سليمان» ، وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد، لا بطريق الوحي، وإذا جاز لداود وسليمان عليهما السلام الاجتهاد، فإنه يجوز الاجتهاد لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا فرق، والجامع: النبوة في كل.

ص: 47

الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشارك أمته فيما لم يرد فيه تخصيص له، أو تخصيص لهم، والاجتهاد قد أمرت أمته به لإيجاد أحكام شرعية للحوادث المتجددة، لكي تكون الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فهو يشارك أمته في الاجتهاد، فيجوز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد مثل غيره، وليس في العقل ما يحيله في حقه ويصححه في حقنا، ولهذا أوجب عليه وعلينا العمل باجتهادنا في مضار الدنيا ومنافعها.

الدليل الرابع: أنه لا يلزم من فرض تعبده صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد محال عقلًا، ولا يؤدي إلى مفسدة، وكل ما كان كذلك كان جائزًا عقلًا، فتعبده بالاجتهاد جائز عقلًا.

الدليل الخامس: وقوع الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن متعبدًا بالاجتهاد لما وقع منه، فقد اجتهد في حوادث شتى، منها: اجتهاده في أسرى بدر، حيث أخذ الفداء مقابل إطلاق الأسرى، وهذا بالاجتهاد، وستأتي أمثلة على ذلك في المسألة التالية.

المذهب الثاني: لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم.

وهو مذهب بعض الشافعية، وحُكِي عن أبي منصور الماتريدي، وهو ظاهر مذهب ابن حزم.

ص: 48

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قادر على معرفة الحكم بالوحي الذي يفيد العلم قطعًا وصريحًا، وكل من كان قادرًا على العلم القطعي لا يجوز له العمل بالظن، فلا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم العمل بالظن الحاصل بالاجتهاد، فلا يجوز له الاجتهاد.

وجوابه:

أنا لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على معرفة الحكم بالوحي؛ لأن الوحي ليس في اختياره ينزل عليه متى شاء، ولذلك قد يضطر إلى الاجتهاد في الأمور التي لا تقبل التأجيل.

الدليل الثاني: أنه قد ثبت أن قول النبي صلى الله عليه وسلم نص قاطع، وحجة قاطعة على من سمعه شفاها أو بلغه عن طريق التواتر، والاجتهاد لا يفيد إلا الظن، فهنا حصل تضاد بين قوله صلى الله عليه وسلم، حيث قلنا بإفادته القطع، وبين اجتهاده حيث إنه لا يفيد إلا الظن، فالقطع غير الظن فكيف يجتمعان؟!

وجوابه:

أنه لو قيل له: إن ظنك علامة على حكم الله - تعالى - فيكون قد استيقن الظن والحكم معاً، فلا تنافي بين معرفته الحكم بالوحي، ومعرفته إياه بالاجتهاد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما ظن الحكم بالاجتهاد فإنه يقطع

ص: 49

بكونه حكم الله في الحادثة.

الدليل الثالث: لو جاز الاجتهاد للرسول صلى الله عليه وسلم: لأجاب عن كل واقعة سئل عنها، ولما انتظر الوحي؛ لأن الاجتهاد هو الوسيلة لمعرفة الحكم فيما لا قاطع فيه، لكنه صلى الله عليه وسلم توقف في اللعان، والظهار، وانتظر الوحي، فهذا يدل على عدم جواز القياس.

وجوابه:

إن توقف صلى الله عليه وسلم عن الاجتهاد في بعض الوقائع والحوادث وانتظاره للوحي لا يلزم منه عدم تعبده بالاجتهاد في جميع الحوادث؛ لأننا لا نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد حال حدوث الحادثة، بل كان ينتظر الوحي، فإذا لم ينزل عليه وحي وخشي الفوات اجتهد.

وعلى هذا، فإنه يحتمل أن يكون تأخره بسبب السعة في الوقت.

ويحتمل أن يكون بسبب أنه لم ينقدح في ذهنه اجتهاد الآن.

ويحتمل أن يكون سبب توقفه حيث إن بعض المسائل لا تقبل الاجتهاد، أو هي مما نهي فيه عن الاجتهاد.

الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3 - 4].

وجه الدلالة: أن هذه الآية بينت أن كل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم وحي،

ص: 50

وإذا كان الأمر كذلك، فلا يبقى للاجتهاد مجال، ولكان الاجتهاد في حقه نطقاً عن الهوى المنفي عنه بالآية الكريمة، فالضمير في قوله تعالى:«إن هو» يرجع إلى النطق المذكور في الآية في ضمن قوله: «وما ينطق عن الهوى» ، وهو عامٌّ.

وجوابه:

يجاب عن ذلك بجوابين:

الجواب الأول: لا نسلم عموم الآية، بل إن الآية وردت لرد ما كان يقوله الكفار بأن ما يأتي به صلى الله عليه وسلم من القرآن ليس وحيًا من عند الله، بل هو افتراء منه على الله تعالى، فالضمير في قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4] يرجع إلى القرآن، فيكون تقدير الآية كذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق فيما ينطق به من القرآن من هوى نفسه، ما القرآن إلا وحي يوحى إليه من الله تعالى، فعلى هذا تنفي الآية: أن يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بغير القرآن، ولا تمنع الآية من ذلك.

الجواب الثاني: سلمنا أن الآية عامة في جميع ما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن وغيره، إلا أن ذلك لا ينفي اجتهاده صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان متعبدًا بالاجتهاد بواسطة الوحي لما كان اجتهاده نطقًا عن الهوى، بل كان بالوحي، وما حكم به باجتهاده إما صواب من أول الأمر، أو يحتمل الخطأ في بادئ أمره، لكن الله تعالى يرشده إلى الصواب، أو يقره عليه،

ص: 51

فلا يحتمل غير الحق.

•‌

‌ بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه يجوز - بناءًا على المذهب الأول - أن يكتفي المجتهد بالاستدلال على حكم مسألة بدليل ظني مع أنه قادر على الاستدلال عليه بدليل قطعي.

كما يجوز على هذا المذهب الاجتهاد في أوقات الصلاة والقبلة مع إمكان الصبر إلى اليقين، أما بناءًا على المذهب الثاني فلا يجوز كل ذلك.

•‌

‌ مسألة: هل وقع الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم

لقد اختلف القائلون: بجواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم فيما بينهم هل وقع الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو لا؟ على مذهبين:

المذهب الأول: أن الاجتهاد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب بعض الحنفية، وكثير من المالكية ومنهم ابن الحاجب، وكثير من الشافعية ومنهم: الآمدي، وفخر الدين الرازي، وكثيرمن الحنابلة ومنهم: أبو الخطاب، وابن قدامة، لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قد استشار أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في الأسرى يوم بدر، فأخذ برأي أبي بكر، حيث وافق رأيه رأي النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ

ص: 52

الفداء مقابل إطلاق سراح الأسرى، فعاتبه الله تعالى بقوله:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: 67 - 68]، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هاتين الآيتين

(1)

.

فلو لم يكن الرسول قد وقع منه الاجتهاد وعمل به لما عوتب، لأنه لا عتاب على العمل بالوحي.

الدليل الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أعلن فرضية الحج سأله الأقرع بن حابس رضي الله عنه: لعامنا هذا أم للأبد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «هو للأبد، ولو قلت لعامنا لوجب»

(2)

.

وجه الدلالة: أنه لو لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم الاختيار لما قال ما قال، وكون الاختيار له صلى الله عليه وسلم في أن يقول:«لعامنا» ظاهره الاختيار بالاجتهاد، أي: له الحق في أن يقول ذلك بالاجتهاد.

الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن ينزل ببدر دون الماء، قال له الحباب بن المنذر: إن كان هذا بوحي فنعم، وإن كان الرأي والمكيدة

(1)

أخرجه مسلم (1763) من حديث عمر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (2505) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 53

فانزل بالناس دون الماء، لنحول بينه وبين العدو، فقال لهم: ليس بوحي، وإنما هو رأي واجتهاد، ورجع إلى قوله

(1)

، ورحل وذهب إلى الموضع الذي أشار به الحباب، فهذا صريح في وقوع الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم.

الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال بشأن مكة:

«لا يختلى خلاها، ولا يعتضد شجرها

» قال له العباس: إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال صلى الله عليه وسلم:«إلا الإذخر»

(2)

.

فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم قول العباس الطالب للتخفيف إلا بالاجتهاد ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة، فكان الاستثناء بالاجتهاد.

اعتراض على هذا:

قال قائل - معترضًا -: إن هذا الدليل يحتمل احتمالات هي:

الأول: أنه يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا بالوحي بالاستثناء عندما يسأله العباس.

الثاني: أنه يحتمل أن جبريل عليه السلام كان حاضرًا، فأشار إليه

(1)

أخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 31) من طرق عن الزهري، ومحمد بن يحيى، وعاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، وعنهم مرسلًا عن النبي صلى الله عليهم وسلم.

(2)

أخرجه البخاري (112)، ومسلم (1355) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

ص: 54

بقبول طلب العباس.

الثالث: أنه يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يستثني الإذخر فسبقه العباس.

وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال.

وجوابه:

يجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول عامٌّ لجميع الاحتمالات وهو: أن هذه الاحتمالات مجرد تصورات لا دليل عليها، وما لا دليل عليه لا يعتد به.

الجواب الثاني خاص في الاحتمال الثالث - وهو: كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد استثناء الإذخر فسبقه العباس - وهو: أنا لا نسلم بذلك؛ لأن المستثنى لا يجوز تأخيره عن المستثنى منه، حذرًا من التلبيس، وقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم من الجملة التي تفيد حرمة قطع الإذخر من غير أن يستثني إلى أخرى وهي: «ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل قتيلًا فهو بخير النظرين

»، وحين ذاك قال العباس ما قال.

ص: 55

المذهب الثاني: أن الاجتهاد لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم.

وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وكثير من المتكلمين.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أنه لو وقع من النبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد لاستفاض نقله؛ لكونه حادثاً غريبًا بالنسبة له صلى الله عليه وسلم، لكنه لم ينقل إلينا؛ فدل ذلك على أنه لم يقع منه صلى الله عليه وسلم.

جوابه:

أن الاجتهاد وقع منه صلى الله عليه وسلم، واستفاض، ونقل إلينا بطرق مختلفة

تكفي لإثبات أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في أمور، وقد سبقت الأمثلة على ذلك، ولا يلزم من عدم اطلاع بعض الناس عليها أنه لم يقع.

الدليل الثاني: أنه لو وقع الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم للزم من ذلك اختلاف اجتهاداته - كعادة المجتهدين - ولو اختلفت اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم لاختلفت أحكامه التي يصدرها فيتهم بسبب ذلك بتغير رأيه، وبوضع الشريعة، لكنه لم تتغير أحكامه، ولم يتهم بذلك، فينتج أن لم يقع منه الاجتهاد.

ص: 56

جوابه:

أن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ليس مثل اجتهادات غيره تتغير وتتبدل في قضايا متشابهة، بحيث يوجه إليه هذه التهمة، وعندما أخطأ في بعض اجتهاداته مما يكون سببًا في تغيير نتائجها: نزل الوحي لتصحيح هذا الخطأ، فمنع السبب في توجيه تلك التهمة إليه صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون مجتهدًا من غير أن يصدر منه ما يوجب هذا الاتهام، فلا يتخذ عدم توجيه هذه التهمة إليه ذريعة لإنكار اجتهاده.

•‌

‌ بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين على جواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وكونه وقع منه ذلك الاجتهاد أو لم يقع، فإنه لا يغير من المعنى والحكم شيئاً.

•‌

‌ مسألة: هل يجوز الخطأ في اجتهاده صلى الله عليه وسلم

لقد اختلف القائلون: إن الاجتهاد وقع منه صلى الله عليه وسلم في جواز الخطأ في اجتهاده صلى الله عليه وسلم.

المذهب الأول: أنه يجوز الخطأ في اجتهاده صلى الله عليه وسلم.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية:

الدليل الأول: قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ

ص: 57

لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: 43].

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن للذين تخلفوا عن غزوة تبوك: بين الله تعالى في هذه الآية الخطأ في ذلك.

الدليل الثاني: قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67].

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ المال عوضًا عن أسرى بدر: بين الله تعالى له أنه ألم يصب بترك قتل هؤلاء الأسرى، وعاتبه في ذلك.

الدليل الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إلي، ولعل أحدكم يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار»

(1)

.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين هنا أنه يقضي بما لا يكون حقًّا في نفس الأمر، وهذا يدل على أنه يقع منه الخطأ في اجتهاده.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز الخطأ في اجتهاده صلى الله عليه وسلم

وهو مذهب بعض الشافعية.

(1)

أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713) من حديث أم سلمة مرفوعاً.

ص: 58

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

وجه الدلالة: أن الله - تعالى - قد أمرنا - هنا - باتباع حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو جاز عليه الخطأ في حكمه لكنا قد أمرنا باتباع الخطأ، والشارع لا يمكن أن يأمر بذلك.

وجوابه:

هذا منقوض بأن الله - تعالى - قد أمر العامي باتباع قول المجتهد والمفتي مع جواز خطئه، فلو كان ما ذكروه صحيحًا للزم من ذلك: أن الله تعالى أمر باتباع الخطأ، وهذا لا يقوله أحد.

الدليل الثاني: أن المقصود من البعثة وإظهار المعجزة: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحكام الشرعية؛ إقامة لمصالح الخلق، فلو جاز الخطأ على النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه.: للزم من ذلك التردد في قوله، والشك في حكمه، وذلك مما يخل بمقصود البعثة، وهذا محال.

وجوابه:

أن المقصود من البعثة إنما هو تبليغه عن الله - تعالى -: أوامره،

ص: 59

ونواهيه، والمقصود من إظهار المعجزة: إظهار صدقه فيما يقوله من الرسالة، والتبليغ عن الله تعالى، وذلك مما لا يتصور خطأه فيه بالإجماع.

بخلاف ما يحكم به عن اجتهاده، فإنه لا يقول فيه عن وحي، ولا بطريق التبليغ، فتطرق الخطأ إليه في ذلك لا يوجب الإخلال بمعنى البعثة.

بيان نوع الخلاف:

الخلاف هنا لفظي؛ لأن ما حكم به باجتهاده صلى الله عليه وسلم إما أن يكون صوابًا من أول الأمر، أو يحتمل الخطأ في بادئ الأمر، لكن الله تعالى يرشده إلى الصواب، فهو صواب في نهاية الأمر

(1)

.

•‌

‌ مسألة: هل يجوز للمجتهد أن يقول في الحادثة الواحدة قولين متضادين في وقت واحد؟

الصحيح أنه لا يجوز ذلك، فلا يجوز له أن يقول في الحادثة الواحدة قولين متضادين كالتحريم والإباحة في وقت واحد.

(1)

المهذب في أصول الفقه (5/ 2337)، وما بعدها.

ص: 60

•‌

‌ مسألة: هل يجوز للمجتهد أن يقلد غيره؟

اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول: لا يجوز له تقليد غيره مطلقًا، فالمجتهد حقه الاجتهاد، ولا يقلد أحدًا، حتى لو اجتهد العالم فوصل إلى حكم باجتهاده، فخالف به عامة العلماء فيلزمه اجتهاده، ولا يلزم بأقوال غيره من العلماء، وهو مذهب الجمهور.

المذهب الثاني: أنه يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر مطلقًا، وهو مذهب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، وهو رواية عن أحمد.

واستدلوا بعموم قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

المذهب الثالث: أنه يجوز أن يقلد المجتهد مجتهدًا آخر أعلم منه إذا تعذر عليه الاجتهاد.

المذهب الرابع: أنه يجوز له أن يقلد الواحد من الصحابة إذا كان قد ترجح في نظره على غيره ممن خالفه، وإن استوى في نظره فإنه يتخير في تقليد من شاء، ولا يقلد غير الصحابة.

المذهب الخامس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة، والواحد من التابعين فقط.

ص: 61

المذهب السادس: أنه يجوز له أن يقلد مجتهدًا آخر فيما يخصه دون ما يفتي به.

المذهب السابع: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا إذا خشي أن يفوت الوقت لو اشتغل بالاجتهاد

(1)

.

والراجح: عدم الجواز إلا للحاجة.

•‌

‌ مسألة: إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة ذكرها، ووجدت تلك العلة في مسألة أخرى؟

إذا نص المجتهد في مسألة على حكم، وعلل الحكم بعلة، ووجدت مسألة أخرى متحققة فيها تلك العلة التي نص عليها، فإن مذهبه فيها هو مذهبه في المنصوص عليها، أما إذا نص على حكم في مسألة معينة، ولم يذكر علة ذلك الحكم، ووجدت مسألة أخرى تشبهها؛ فلا يجوز أن يحكم في هذه المسألة بحكم المنصوص عليها

(2)

.

(1)

المهذب في علم أصول الفقه (5/ 2375) بتصرف.

(2)

المهذب في علم أصول الفقه (5/ 2376).

ص: 62

•‌

‌ مسألة: إذا روي عن مجتهد في مسألة واحدة روايتان مختلفتان، وصح هذا النقل عنه، ففيه تفصيل:

أولًا: أنه لا يجوز أن يقول كل واحدة منهما في وقت واحد وفي حالة واحدة كما سبق.

ثانيًا: إذا قال المجتهد هذين الحكمين المختلفين في تلك المسألة في حالتين، فلا يخلو إما أن لا نعلم الرواية الأخيرة، أو نعلم:

فإن لم نعلم الرواية الأخيرة من هذا المجتهد، فإننا ننظر في الروايتين أيهما أشبه بأصول ذلك المجتهد، فإننا نجعلها مذهبًا له، وتكون الأخرى مشكوكًا فيها.

فإن علمنا الرواية الأخيرة، فقد اختلف العلماء في ذلك، والصحيح أن الرواية الأخيرة لهذا المجتهد هي مذهبه في المسألة، وتكون الرواية الأولى قد رجع عنها فلا تضاف إليه، وقيل: لا تصح الأخيرة مذهبًا له، إلا إذا صرح بالرجوع عن الأولى

(1)

.

(1)

المهذب في علم أصول الفقه (5/ 2382).

ص: 63

•‌

‌ مسألة: هل يجوز خلو عصر من مجتهد؟

قال ابن مفلح: لا يجوز خلو العصر عن مجتهد عند أصحابنا وطوائف.

قال بعض أصحابنا: ذكره أكثر من تكلم في الأصول في مسائل الإجماع، ولم يذكر ابن عقيل خلافه إلا عن بعض المحدثين.

وقال الآمدي: جوزه آخرون، وهو المختار؛ لأنه لو امتنع لكان لغيره، والأصل عدمه.

وفي الصحيحين: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).

وقال: التفقه فرض كفاية، ففي تركه اتفاق الأمة على باطل

(1)

.

قال الزركشي:

مسألةٌ: يجوز خلو العصر عن المجتهد عند الأكثرين وجزم به في «المحصول» ، وقال الرافعي: الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم، ولعله أخذه من الإمام الرازي، أو من قول الغزالي في «الوسيط»: قد خلا العصر عن المجتهد المستقل، ونقل الاتفاق فيه عجيبٌ،

(1)

أصول الفقه لابن مفلح (4/ 1552).

ص: 64

والمسألة خلافيةٌ بيننا وبين الحنابلة، وساعدهم بعض أئمتنا، والحق أن الفقيه الفطن القيَّاس كالمجتهد في حق العامي، لا الناقل فقط.

وقالت الحنابلة: لا يجوز خلو العصر عن مجتهدٍ، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق والزبيري، فقال الأستاذ: وتحت قول الفقهاء: لا يخلي الله زمانًا من قائمٍ بالحجة، أمرٌ عظيمٌ، وكأن الله تعالى ألهمهم ذلك، ومعناه أن الله تعالى لو خلى زمانًا من قائمٍ بحجةٍ زال التكليف، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة وإذا زال التكليف بطلت الشريعة، وقال الزبيري: لن تخلو الأرض من قائمٍ لله بالحجة في كل وقتٍ ودهرٍ وزمانٍ، ولكن ذلك قليلٌ في كثيرٍ، فأما أن يكون غير موجودٍ - كما قال الخصم - فليس بصوابٍ، لأنه لو عدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها، ولو عطلت الفرائض كلها لحلت النقمة بذلك في الخلق، كما جاء في الخبر:«لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس»

(1)

، ونحن نعوذ بالله أن نؤخر مع الأشرار. انتهى.

وقال ابن دقيق العيد: هذا هو المختار عندنا، لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان، وقال في شرح خطبة «الإلمام»: والأرض لا تخلو من قائمٍ لله بالحجة، والأمة الشريفة

(1)

أخرجه مسلم (2949) من حديث ابن مسعود مرفوعًا.

ص: 65

لا بد لها من سالكٍ إلى الحق على واضح المحجة، إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى، ويتتابع بعده ما بقي معه إلى قدوم الأخرى، ومراده بالأشراط الكبرى: طلوع الشمس من مغربها مثلًا، وله وجهٌ حسنٌ، وهو أن الخلو من مجتهدٍ يلزم منه إجماع الأمة على الخطأ، وهو ترك الاجتهاد الذي هو فرض كفايةٍ

(1)

.

قال السيوطي: لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد:

ذهب الحنابلة إلى أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد مطلق أو مقيد لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله»

(2)

، قالوا ولأن الاجتهاد فرض كفاية؛ فيستلزم انتفاؤه اتفاق المسلمين على الباطل.

واختار الشيخ ابن دقيق العيد أنه لا يجوز خلوه عن مجتهد ما لم يتداعى الزمان بنزول القواعد بأن تأتي أشراط الساعة الكبرى، كذا نقله عنه ابن السبكي في جمع الجوامع.

والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة، والأمة الشريفة لا بد فيها من سالك إلى الحق على واضح المحجة إلى أن يأتي أمر الله من أشراط

(1)

البحر المحيط (8/ 240).

(2)

أخرجه البخاري (3640)، ومسلم (1921) من حديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا.

ص: 66

الساعة الكبرى وتتابع بعده ما لا يبقى معه إلا قدوم الآخرة.

وهذا الكلام استنبطه الشيخ تقي الدين من الحديث المذكور، ومن قول على رضي الله عنه: لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة؛ لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا

(1)

.

وقال الشوكانى: ولا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد فرضًا يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد، ويدل لذلك: عن المغيرة بن شعبة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)

(2)

.

وقال: وما قاله الغزالي رحمه الله: من أنه قد خلا العصر عن المجتهد، قد سبقه إلى القول به القفال، ولكنه ناقض ذلك، فقال: إنه ليس بمقلدٍ للشافعي، وإنما وافق رأيه رأيه، كما نقل ذلك عنه الزركشي، وقال: قول هؤلاء القائلين بخلو العصر عن المجتهد، مما يقضي منه العجب، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم، فقد عاصر القفال، والغزالي، والرازي، والرافعي، من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعةٌ منهم، ومن كان له إلمامٌ بعلم التاريخ، واطلاعٌ على أحوال علماء الإسلام في كل عصرٍ لا يخفى عليه مثل هذا، بل قد

(1)

تقرير الأستاذ في تفسير الاجتهاد للسيوطي (1/ 33، 34).

(2)

أخرجه البخاري (3116)، ومسلم (156) من حديث جابر مرفوعاً.

ص: 67

جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتبره أهل العلم في الاجتهاد.

وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار أن الله عز وجل رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه الأمة من كمال الفهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالةٌ من الجهالات.

وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين، وصعوبته عليهم، وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضًا دعوى باطلةٌ، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهمٍ أن الاجتهاد قد يسره الله.

وقال: ولما كان هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعيةً، فها نحن نوضح لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم، ممن لا يخالف مخالفٌ في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد، فمنهم ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن سيد الناس، ثم تلميذه زين الدين العراقي، ثم تلميذه ابن حجرٍ العسقلاني، ثم تلميذه السيوطي، فهؤلاء ستةأعلامٍ كل واحدٍ منهم تلميذ من قبله، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق المعرفة، وكل واحدٍ منهم إمامٌ كبيرٌ في الكتاب والسنة، محيطٌ بعلوم الاجتهاد إحاطةً

ص: 68

متضاعفةً، عالمٌ بعلومٍ خارجةٍ عنها

(1)

.

•‌

‌ الاجتهاد في العصر الحاضر:

أحس المسلمون عامة، والعلماء خاصة منذ مطلع القرن الرابع عشر الهجري، والعشرين ميلادي بضررورة العودة إلى رحاب الشريعة الغراء في التطبيق والحياة، وأدركوا عوامل الخمود والكسل والركود التي سبقت ذلك، فشمروا عن ساعد الجد، وطالبوا بالالتزام بالشرع الحنيف، وساهموا في فتح الكليات والجامعات والمعاهد، ودرسوا مختلف العلوم الإسلامية، وخاصة أصول الفقه، والفقه المقارن بين المذاهب، والموازنة مع القوانين الأجنبية المستوردة، وأَدْلَوا بدلوهم تدريجيًّا في الاجتهاد، وبيان الأحكام في النوازل والمستجدات، ومارسوا الاجتهاد عمليًّا، وتعالت أصواتهم بالدعوة مجددًا إلى فتح باب الاجتهاد، وإنهاء دعوى أو فتوى غلق باب الاجتهاد، وطلبوا من العلماء الذين تتوفر فيهم شروط الاجتهاد أن يتولوا القيام به، ولو جزئيًّا، ليعود الأمر إلى الأصل الشرعي، وقرر معظم العلماء أن باب الاجتهاد لم يغلق أصلًا، وإنما وضعت القيود عليه خشية العبث به، ولوجود الموانع أمامه، وإذا زال المانع عاد الممنوع، وأن الأمة والعلماء مدعوون قطعًا لتحصيل شروط الاجتهاد، ثم العمل بموجبه،

(1)

إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 213)، وما بعدها بتصرف.

ص: 69

وأن فضل الله على عباده لم ولن ينحصر في وقت دون آخر، ولم ولن يتحدد بجيل دون آخر، وأن الخير في هذه الأمة حتى تقوم الساعة، ويجب أن تنفض عن كواهلها عوارض الكسل والخمود، لتمارس نشاطها الفقهي والاجتهاد.

وإن الظروف المعاصرة تستدعي الاجتهاد وتوجبه لسببين رئيسين:

السبب الأول: الصحوة الإسلامية المعاصرة، والمرافقة للتطور التقني في تدوين الكتب الشرعية في علوم القرآن، وعلوم السنة، وأصول الفقه، والموسوعات الفقهية، وإحياء التراث، وتحقيقه، ونشره، وسهولة الطباعة لأمهات الكتب في مختلف العلوم، مما يسهل على العلماء الزاد العلمي، وييسر لهم سبل الاجتهاد.

السبب الثاني: التطور المعاصر في مختلف شؤون الحياة، وكثرة المستجدات والنوازل والوقائع التي تحتاج إلى بيان الأحكام الشرعية لها، ووجود التحدي من الأنظمة والتشريعات الوافدة من الاتجاه المعاكس، والنظريات المادية، والهيمنة الفكرية، والعولمة، والغزو الثقافي والتشريعي، وظهور الاستعمار القانوني المعاصر.

وذلك بالإضافة إلى الدواعي الشرعية السابقة لضرورة الاجتهاد، وحتمية وجوده، وأهميته، وأداء وظيفته.

ص: 70

وظهر في العصر الحاضر المجامع الفقهية، والندوات، والمؤتمرات التي تجمع كبار العلماء لبحث القضايا المعاصرة، والاجتهاد الجماعي فيها، وإصدار الفتاوى بالاتفاق أو بالأغلبية لبيان الحلول الشرعية لقضايا الأمة والمجتمع والمؤسسات والشركات والأفراد، واختيار الآراء المناسبة من مختلف المذاهب بما يوافق روح العصر، والتقدم والرقي، والمكتشفات العلمية الحديثة.

وظهر في معظم البلاد العربية والإسلامية هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث، ودار الفتوى، ومنصب المفتي العام، ودوائر الشؤون الإسلامية، بالإضافة إلى أساتذة الفقه وأصول الفقه وتاريخ التشريع والفقه المقارن في الكليات والجامعات والمعاهد العليا ممن يجيدون البحث العلمي، ويكتبون البحوث المحكمة والمعمقة، ويقدمون الدراسات والأوراق للندوات والمؤتمرات ومجامع الفقه، إضافة إلى كبار القضاة الذين يتمرسون على فصل المنازعات والاختلافات التي لم يسبق لها مثيل، فيجتهدون في إصدار الأحكام الشرعية فيها، ويستقر عليها العمل، وتصبح سوابق قضائية، وتنتقل من بلد إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، وتجمع في مدونات، وتطبع وتنشر.

وهكذا يحافظ الاجتهاد في عصرنا الحاضر -كما كان في السابق- على حياة التشريع، ومرونة الفقه، وتطوره، وفعاليته، ويحافظ الاجتهاد

ص: 71

على بقاء الفقه الإسلامي في المعاملات، ويتطلع إليه الخاصة والعامة لحل المشكلات، وإيجاد الحلول الموافقة للشرع للمعضلات التي رانت على القلوب بعد سيطرة الفكر المادي، والاستعمار التشريعي.

وإذا كان الاجتهاد المطلق، والمجتهد المستقل، يصعب حصوله اليوم، فإن سائر أنواع الاجتهاد، وسائر طبقات المجتهدين، ومراتبهم، موجودة، وإن معظم شروط الاجتهاد -اليوم- متحققة ومتوفرة، وستبقى حتى تقوم الساعة، وهو ما عبر عنه الغزالي والشهرستاني وابن عبد السلام والسيوطي وغيرهم، وهو ما ينادي به كبار العلماء والفقهاء في هذا العصر، لتظل راية الشرع عالية خفاقة بإذن الله تعالى

(1)

.

(1)

الوجيز في أصول الفقه للزحيلي (2/ 308).

ص: 72

‌المبحث الثاني: الفتوى

•‌

‌ تعريف الفتوى:

الفتوى لغة: قال ابن منظور: أفتاه في الأمر أبان له، وأفتى الرجل في المسألة واستفتيته فيها فأفتاني إفتاء

يقال: أفتيت فلانًا رؤيا رآها إذا عبرتها له، وأفتيته في مسألة إذا أجبته عنها

يقال: أفتاه في المسألة إذا أجابه

والفتيا والفُتْوى والفَتْوى: ما أفتى به الفقيه

(1)

.

والاستفتاء لغة: طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)} [الكهف: 22]، وقد يكون بمعنى مجرد سؤال، ومنه قوله تعالى:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات: 11]، قال المفسرون: أي اسألهم.

الفتوى اصطلاحًا: بيان الحكم الشرعي

(2)

.

(1)

أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (1/ 22).

(2)

معالم أصول الفقه للجيزاني (1/ 504).

ص: 73

•‌

‌ والقضاء شبيه بالفتوى إلا أن بينهما فروقًا:

منها: أن الفتوى إخبار عن الحكم الشرعي، والقضاء إنشاء للحكم بين المتخاصمين.

ومنها: أن الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي أو غيره، بل له أن يأخذ بها إن رآها صوابًا، وله أن يتركها ويأخذ بفتوى مفت آخر، أما الحكم القضائي فهو ملزم، وينبني عليه أن أحد الخصمين إذا دعا الآخر إلى فتاوى الفقهاء لم نجبره، وإن دعاه إلى قاض وجب عليه الإجابة، وأجبر على ذلك، لأن القاضي منصوب لقطع الخصومات وإنهائها.

ومنها: أن المفتي يفتي بالديانة - أي على باطن الأمر، وبدين المستفتي، والقاضي يقضي على الظاهر.

قال ابن عابدين: مثاله إذا قال رجل للمفتي: قلت لزوجتي: أنت طالق قاصدًا الإخبار كاذبًا، فإن المفتي يفتيه بعدم الوقوع، أما القاضي فإنه يحكم عليه بالوقوع

(1)

.

ومنها: أن حكم القاضي جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه أوله، وفتوى المفتي شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره، فالقاضي يقضي قضاء معينا على شخص معين، والمفتي يفتي حكمًا

(1)

رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (4/ 306).

ص: 74

عامًّا كليًّا: أن من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا.

ومنها: أن القضاء لا يكون إلا بلفظ منطوق، وتكون الفتيا بالكتابة والفعل والإشارة

(1)

.

•‌

‌ أهمية منصب الفتوى وخطورته:

ويمكن إيضاح ذلك فيما يأتي:

1 -

أن المفتي موقع عن رب العالمين. قال ابن القيم: «وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟!

فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يَعُدَّ له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127]، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفًا وجلالة».

2 -

أن المفتي من شأنه إصدار الفتاوى في ساعته بما يحضره من

(1)

الموسوعة الفقهية الكويتية (32/ 21).

ص: 75

القول، فلا يتهيأ له من الصواب ما يتهيأ لمن أطال النظر وتثبت كالقاضي.

3 -

أن فتوى المفتي - وإن لم تكن ملزمة - حكم عام يتعلق بالمستفتي وبغيره، فالمفتي يحكم حكمًا عامًّا كليًّا أن من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا، بخلاف القاضي فإن حكمه جزئي خاص على شخصٍ معينٍ لا يتعداه إلى غيره

(1)

.

•‌

‌ تنبيهات:

1 -

باب الفتوى له صلة قوية بباب الاجتهاد والتقليد، بل إن الفتوى فرع عن الاجتهاد والتقليد، إذ المفتي هو المجتهد، والمستفتي هو المقلد، لذا فإن كثيرًا من مباحث الفتوى يرجع فيها إلى ما تقدم من مباحث الاجتهاد والتقليد.

فمن ذلك:

2 -

أنواع المفتين كأنواع المجتهدين: فبعضهم مجتهد مطلق وبعضهم مقيد، وبعضهم مجتهد في جميع المسائل، وبعضهم في مسألة أو باب معين، على ما مضى في أقسام الاجتهاد، ولا يجوز للمفتي أن يتجاوز مرتبته.

(1)

معالم أصول الفقه للجيزاني (504).

ص: 76

3 -

يجوز للمفتي أن يفتي أباه وابنه وشريكه ومن لا تقبل شهادته له؛ لأن الإفتاء حكمه عام يجري مجرى الرواية لا مجرى الشهادة.

4 -

لا يجوز للمفتي أن يأخذ أجرة على فتواه من أعيان من يفتيهم، ويجوز له أن يأخذ من بيت المال ما يغنيه إن احتاج لذلك.

وأما الهدية فإن كانت بغير سبب الفتوى جاز قبولها، والأولى أن يكافئ عليها، وإن كانت بسبب الفتوى كره قبولها لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء.

ويحرم قبول الهدية إن كانت سببًا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره.

5 -

يجوز للحي تقليد الميت والعمل بفتواه؛ لأن الأقوال لا تموت بموت قائليها، وهذا ما عليه عمل جميع المقلدين في أقطار الأرض، فإن خير ما بأيديهم من التقليد تقليد الأموات.

6 -

لا يجوز للمستفتي تتبع الرخص، والتخير بين أقوال المفتين بالرأي المجرد والتشهي، بل عليه أن يرجح قدر استطاعته القول الأقرب للصواب في نظره.

وإذا كان تتبع الرخص لا يجوز للمستفتي، فعلى المفتي ألا يُعينه على ذلك إلا إنْ عَلِمَ منه حُسْنَ القصد فله أن يدله على حيلةٍ جائزةٍ لا

ص: 77

شبهة فيها

(1)

.

•‌

‌ حكم الإفتاء والاستفتاء:

المراد من الحكم هنا الوصف الشرعي من حيث الوجوب والندب والإباحة والحرمة والكراهة، وهذا يتناول المستفتي والمفتي.

لما كان حكم الفتوى مما تتطرق إليه الأحكام التكليفية الخمسة حسن توضيح ذلك فيما يأتي:

أ- حكم الإفتاء في الأصل جائز فقد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يفتون الناس، فمنهم المكثر في ذلك والمقل، وكذلك كان في التابعين وتابعيهم ومن بعدهم.

فلا بد للناس من علماء يسألونهم، ومفتين يستفتونهم، قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال»

(2)

.

ب- وقد يكون الإفتاء واجبًا، وذلك إذا كان المفتي أهلًا للإفتاء، وكانت الحاجة قائمة، ولم يوجد مفتٍ سواه، فيلزمه والحالة كذلك

(1)

معالم أصول الفقه. الجيزاني (516).

(2)

ضعيف: أخرجه أبوداود (336)، وابن ماجه (572)، أعله أبوحاتم، وأبوزرعة، وأبوداود، وغيرهم.

ص: 78

فتوى من استفتاه، لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159]، وقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} [آل عمران: 187].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة»

(1)

.

ج- وقد يكون الإفتاء مستحبًّا إذا كان المفتي أهلًا، وكان في البلد غيره، ولم تكن هنالك حاجة قائمة.

د- وقد يحرم على المفتي الإفتاء، وذلك إذا لم يكن عالمًا بالحكم، لئلا يدخل تحت قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].

فجعل الله القول عليه بلا علم من المحرمات التي لا تباح بحال، ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه أبوداود (3658)، والترمذي (2649) من طرق عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة مرفوعًا، وقد أورد الدارقطني في العلل طرق هذا الحديث والاختلافات فيه، ورجح وصوب هذا الطريق، وصححه الألباني.

ص: 79

وكذلك يحرم الإفتاء فيما إذا عرف المفتي الحق؛ فلا يجوز له أن يفتي بغيره، فإن من أخبر عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدًا، وقد قال تعالى:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]. والكاذب على الله أعظم جرمًا ممن أفتى بغير علم.

هـ- ويكره للمفتي أن يفتي في حال غضب شديد، أو جوع مفرط، أو هم مقلق، أو خوف مزعج، أو نعاس غالب، أو شغل قلبٍ مستول عليه، أو حال مدافعة الأخبثين.

بل متى أحس من نفسه شيئًا من ذلك يخرجه عن حال اعتداله، وكمال تثبته وتبينه أمسك عن الفتوى.

وعلى كلٍّ، فالضابط لحكم الإفتاء النظر إلى المصالح والمفاسد.

قال ابن القيم: « ..... هذا إذا أمن المفتي غائلة الفتوى، فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها أمسك عنها، ترجيحًا لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما. وقد أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن نقض الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم لأجل حدثان عهد قريش بالإسلام، وأن ذلك ربما نفَّرهم عنه بعد الدخول فيه.

وكذلك إن كان عقل السائل لا يحتمل الجواب عما سأل عنه، وخاف المسئول أن يكون فتنة له، أمسك عن جوابه.

ص: 80

وفي المسألة الآتية «أنواع الفتاوى» بيان لبعض الأحكام المتعلقة بالفتوى مما يتصل بالنظر إلى المصلحة والمفسدة.

•‌

‌ مسألة: أنواع الفتاوى:

أولًا: بالنسبة لقصد السائل فإن الأسئلة تتنوع إلى أنواع، وبحسبها تكون الفتوى: فقد يرد السؤال عن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد يرد السؤال عن قول إمام بعينه، وقد يرد السؤال عما ترجح لدى المفتي.

والواجب على المفتي أن يجيب السائل عما سأل.

ففي القسم الأول عليه أن يبين حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا عرفه، لا يسعه غير ذلك.

وفي القسم الثاني له أن يخبر عن قول ذلك الإمام، لكن عليه أن يتثبت وألا ينسب القول إلى ذلك الإمام إلا إذا علم يقينًا أنه قوله ومذهبه.

وفي القسم الثالث له أن يخبر بما عنده مما يغلب على ظنه أنه الصواب بعد بذل الجهد والنظر.

ثانيًا: بالنسبة لوقوع الحادثة أو عدم وقوعها تتنوع الفتاوى إلى ما يأتي:

1 -

أن يسأل المستفتي عما وقع له، وهو محتاج إلى السؤال، وقد

ص: 81

حضره وقت العمل فيجب على المفتي - إن لم يوجد غيره - المبادرة إلى جوابه على الفور، ولا يجوز تأخير بيان الحكم عن وقت الحاجة.

2 -

أن يسأل عن الحادثة قبل وقوعها له، فهذه لا تخلو من ثلاث حالات:

أ- أن يكون في المسألة نص من كتاب أو سنة أو إجماع، فيجوز للمفتي ولا يجب عليه بيان الحكم، وذلك بحسب الإمكان.

ب- أن تكون الحادثة بعيدة الوقوع أو غير ممكنة الوقوع، وإنما هي من المقدرات، فيكره للمفتي الكلام فيها؛ لأن السلف كانوا يكرهون الكلام عما لم يقع، ولأن الفتوى بالرأي إنما تجوز للضرورة وليست هناك ضرورة.

ج- أن تكون الحادثة غير نادرة الوقوع، وغرض السائل الإحاطة بعلمها، ليكون على بصيرة إذا وقعت، فيستحب للمفتي الجواب بما يعلم إن رأى المصلحة في ذلك

(1)

.

•‌

‌ شروط المفتي:

قال ابن الصلاح: أما شروطه وصفاته: أن يكون مكلفًا مسلمًا، ثقة مأمونًا، متنزهًا من أسباب الفسق ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن

(1)

معالم أصول الفقه للجيزاني (506)، وما بعدها.

ص: 82

كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد.

ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر صحيح التصرف والاستنباط مستيقظًا

(1)

.

•‌

‌ صفات المفتي:

قال أبوعبد الله أحمد بن حنبل:

أولها: أن تكون له نيةٌ، فإن لم يكن له نيةٌ لم يكن عليه نورٌ ولا على كلامه نورٌ.

والثانية: أن يكون له علمٌ وحلمٌ ووقارٌ وسكينةٌ.

الثالثة: أن يكون قويًّا على ما هو فيه، وعلى معرفته.

الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.

الخامسة: معرفة الناس.

وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة؛ فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه

(2)

.

(1)

أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (1/ 85).

(2)

إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 152).

ص: 83

• وفي الجملة فإن هناك آدابًا للمفتي والمستفتي وإصدار الفتوى تُجمَل فيما يلي:

•‌

‌ آداب المفتي في نفسه:

1 -

أن يقصد المفتي بعمله وجه الله تعالى، والتقرب إليه في بيان حكم الله تعالى ودينه وشرعه، ولا يفتي طمعًا في منصب، أو مغنم، أو جاه، أو خوفًا من حاكم أو سلطان، ويخلص النية لله تعالى.

2 -

أن يتصف المفتي بالتقوى؛ لأنه أمين على دين الله وشرعه، ومبلغ عن الله تعالى؛ لأنه من ورثة الأنبياء، فيجب أن يتخلق بأخلاقهم، وأن يتجنب أسباب الفسق وخوارم المروءة.

3 -

أن يتصف المفتي بالعلم والحلم والوقار والسكينة؛ لأنه موقع عن رب العالمين، ويتمثل فيه الشرع القويم، ويتجنب الرياء والسمعة في عمله.

4 -

أن يكون المفتي ظاهر الورع، مشهورًا بالديانة الظاهرة، وحسن السريرة الباطنة، قال النووي رحمه الله: وكان مالك رحمه الله يعمل بما لا يلزمه الناس، ويقول: لا يكون عالمًا حتى يعمل بخاصة نفسه بما لا يلزمه الناس، مما لو تركه لم يأثم، وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة

ص: 84

(1)

.

5 -

أن يكون المفتي فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، متيقظًا لما يعرض عليه، بعيدًا عن الغفلة خشية الوقوع في مكائد المستفتين وشباكهم.

6 -

ينبغي ألا يفتي حال تغير خلقه، وانشغال قلبه بما يمنعه من التأمل، كالغضب، والجوع والعطش، والحزن والفرح الغالب، والنعاس، والملل، والضجر من حر أو برد، والمرض، ومدافعة الحدث، وكل ما يشغل القلب، ويمنع الاعتدال.

7 -

أن يتصف المفتي بالرفق في تفهم سؤال المستفتي، وأن يكون واسع الصدر معه، وأن يصبر عليه، فلا يضيق ذرعًا بجهل السائل، ولا بإلحاحه، أو تطويله، أو تطويل السؤال وتكراره.

8 -

أن يكون المفتي مستقل الإرادة في الفتوى، فلا يخشى بها الناس، فيغير الحكم طمعًا في ترغيب، أو خوفًا من ترهيب، وأن يتجنب الفتاوى التي تملى عليه صراحة أو دلالة، فلا يكون مفتيًا للسلطة الحاكمة بحسب أهوائها، أو ما يتناسب مع توجهاتها واتجاهاتها، وخاصة في هذا الزمان، فإن أكثر الحكام لا يطبقون شرع الله، ويتحايلون

(1)

آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (1/ 18).

ص: 85

عليه، ويحاولون أن يلبسوا أعمالهم عباءة الشرع والدين باستصدار الفتاوى، والحصول على موافقة المفتي وأعوانه.

قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا هاب الرجل شيئًا، لا ينبغي أن يحمل على أن يقوله

(1)

(2)

.

•‌

‌ آداب إصدار الفتوى:

1 -

يجب على المفتي اتباع الحكم المفتى به بالدليل، وذلك بذكر حجته إذا كان نصًّا واضحًا مختصرًا، وخاصة إذا كان المستفتي فقيهًا عالمًا، لا عامِّيًّا، وبشكل أخص إذا كانت الفتوى عامة، وتعلق وتنشر على الناس.

2 -

يجب على المفتي الالتزام بالأحكام المجمع عليها، ويحرص على بيان الأحكام المتفق عليها بين المذاهب.

3 -

إذا كانت الفتوى مختلفًا فيها بين المذاهب، وكان المفتي مذهبيًّا، فيجب عليه اعتماد القول المعتمد الراجح في المذهب، كما سبق، ويجب أن يكون اعتماده على الكتب الموثوقة في المذهب التي تنص على القول الراجح المعتمد، ويتجنب الأقوال الضعيفة

(1)

مختصر التحرير شرح الكوكب المنيرلابن النجار (4/ 588).

(2)

الوجيز للزجيلي (2/ 394).

ص: 86

المرجوحة، أما إن كان مجتهدًا فيفتي باجتهاده دون تقيد بمذهب.

4 -

يجب على المفتي أن يحرص في الفتوى على موافقة الشرع، وتحقيق المقاصد الشرعية، والمصالح العامة، ويتجنب الفتوى حسب أهواء الناس ورغباتهم، أو حسب أهواء الحكام وميولهم، ويجب أن يتحرى المصلحة العامة، ويتحرز ما يؤدي إلى فتنة، أو يلحق أذى بالناس، أو يؤدي إلى التنازع أو تفريق الصفوف، وعليه الامتناع عن الفتوى إن علم أن المستفتي يريد بالفتوى اتباع الهوى، وليس الحق، وأنه يريد استغلالها للترويج لأمر غير مشروع.

وإذا أصدر الحاكم حكمًا يوافق الشرع وله دليل شرعي معتبر، ويراه المفتي حقًّا، فلا مانع من تأييده.

5 -

يحرم التساهل في الفتوى، ومن عُرِف به حَرُم استفتاؤه ووجب منعه، ومن التساهل أن لا يتثبت، ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، إلا إذا تقدمت في السابق، فلا بأس من المبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة، ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يريد نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره.

6 -

إذا تكرر الاستفتاء في حادثة، وتذكر المفتي الأولى ودليلها الشرعي، أو حكمها في المذهب المنتسب إليه، أفتى بذلك مباشرة، وإن

ص: 87

لم يذكر الدليل والحكم المذهبي، فيجب تجديد النظر والبحث، على الأصح.

7 -

يجوز للمفتي التشديد والتغليظ في الفتوى لمصلحة، وإن كان لا يرى ذلك، لكن فيه تأويل، زجرًا للمستفتي.

8 -

يجب على المفتي أن تكون فتواه صريحة جازمة واضحة محددة، فلا يقتصر على ذكر الخلاف، أو القولين فيها؛ لأن مقصود المستفتي بيان ما يعمل به، فينبغي الجزم بما هو الراجح، فإن لم يعرفه، توقف حتى يظهر له، ولأن الفتوى غير الواضحة لا تفيد المستفتي، ولا تحقق الغرض من الفتوى، فيجب أن يجزم بما هو الراجح.

9 -

أن يتجنب المفتي الخوض في المسائل الكلامية، بل يمنع المستفتي وسائر العامة من الخوض في ذلك، ليقتصروا على الإيمان جملة، وعلى أركانه، وكذا في آيات الصفات والأخبار المتشابهة، فإن الفتوى لا تغني فيها ولا تفيد، وكذا تجنب الفتوى فيما لا وجود له كالرق والعتق والعبيد، والكلام عن اختلاف الصحابة والسلف واقتتالهم، فلا جدوى من ذلك، والأصل في الفتوى السؤال عما يوجب عملًا، ويبعد عن محرم وشر وضرر، ولا يدخل فيها الأمور النظرية

(1)

.

(1)

الوجيز للزحيلي (2/ 397).

ص: 88

•‌

‌ آداب المستفتي:

1 -

يجب على المستفتي الاستفتاء إذا نزلت به حادثة ليعلم حكم الله تعالى فيها، ويلتزم به، وإن لم يجد ببلده من يستفتيه، وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت المسافة؛ لأن ذلك يتعلق بالدين، والحلال والحرام.

2 -

يجب على المستفتي قطعًا البحث عمن تتوفر فيه أهلية الفتوى لإفتائه، وعليه أن يسأل أهل العلم الشرعي حصرًا، وخاصة الملتزمين بالتقوى؛ لأن التحري في أمر الدين واجب، ويسأل من عرف علمه وعدالته.

3 -

يجوز للمستفتي أن يسأل بنفسه، وله أن يبعث ثقة يعتمد خبره ليستفتي له، وله الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره به ثقة أنه خطه، أو كان يعرف خطه، ولم يتشكك فيه، وأن يكون كاتب السؤال ممن يحسن السؤال، ويحدد الغرض منه، مع وضوح الخط واللفظ.

4 -

ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي، وأن يظهر له الاحترام والإجلال في كلامه وكتابه، وألا يسيء في ألفاظه وكلامه ومخاطبته، ولا يسأله وهو مشغول، أو في حالة ضجر أو هم، أو نحو ذلك مما يشغل القلب، ولا يدع الدعاء لمن يستفتيه.

5 -

إذا استفتى في مسألة أو قضية، ثم حدثت تلك القضية، فيلزم

ص: 89

المستفتي تكرير السؤال في الصحيح عند الحنابلة؛ لاحتمال تغير نظر المفتي، وعند الشافعية وجهان، والأصح منهما لا يلزمه تجديد السؤال؛ لأنه عرف الحكم الأول، والأصل استمرار المفتي عليه

(1)

.

(1)

الوجيز في أصول الفقه للزحيلي (2/ 400).

ص: 90

‌المبحث الثالث: التقليد

•‌

‌ تعريف التقليد والاتباع:

التقليد لغة: وضع الشيء في العنق حال كونه محيطًا به، ويسمى ذلك الشيء قلادة، ومنه تقليد الهدي في الحج، أي: وضع القلادة في عنق ما يُهدى إلى الحرم من النَّعَم، وجمع القلادة قلائد

(1)

.

والتقليد اصطلاحًا: أخذ مذهب الغير من غير معرفة دليله

(2)

.

فالمقلد يعتقد صحة ما يقوله غيره، ويتبعه عليه من غير معرفة الدليل الذي أوجب القول، سواء كان ذلك قولًا أو فعلًا، عملًا أو تركًا، ويسمى المقلد عاميًّا، وهذا يشمل كل إنسان غير مجتهد في الشرع، ولو كان عالمًا وخبيرًا في علم آخر.

ويخرج من التعريف المجتهد إذا عرف الدليل، ووافق اجتهاده

(1)

المصباح المنير (2/ 512)، القاموس المحيط (312).

(2)

الوجيز في أصول الفقه للزحيلي (2/ 355)، المستصفى للغزالي (370)، البحر المحيط للزركشي (6/ 316).

ص: 91

اجتهاد مجتهد آخر، فإنه لا يسمى تقليدًا، كقولهم: أخذ الشافعي بمذهب مالك في كذا، وأخذ أحمد بمذهب الشافعي في كذا؛ لأنه عند معرفة دليله حق المعرفة يكون قد أخذ الحكم من الدليل، لا من المجتهد السابق، فيكون إطلاق الأخذ بمذهبه فيه تجوُّز.

وكذلك فإن الرجوع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى المعلوم بالضرورة، وإلى الإجماع، ورجوع القاضي إلى شهادة الشاهد، ليس بتقليد حقيقة؛ لقيام الحجة بذلك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو نفس الحجة والدليل.

•‌

‌ الفرق بين التقليد والاتباع

(1)

:

فرَّق كثير من العلماء بين التقليد الذي يأخذ فيه الشخص بقول غيره بدون معرفة دليله، وبغير حجة تظهر له، بل بمجرد الاقتناع والثقة والمحاكاة، حتى لا يعرف دليل القول، ولا معنى قوله، وإنما يسلم به، ويلتزمه فيه، ويسير على هداه.

أما الاتباع فهو الأخذ بقول الآخر بعد معرفة دليله، والطريق الذي أخذ به، فيقتنع بالقول مع الدليل، ثم يتبعه، فيكون تابعًا طريق المتبوع، ولذلك فإن معظم الأصحاب لإمام المذهب هم تابعون له؛ لمعرفتهم الحكم مع الدليل، وكذلك معظم الباحثين والدارسين للفقه المذهبي

(1)

إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 450)، الوجيز في أصول الفقه للزحيلي (2/ 356).

ص: 92

يعتبرون تابعين للمذهب، وليسوا مقلدين له.

ولذلك فكل من خرج عن الاجتهاد ممن ذكرناه سابقًا، ولم يبلغ درجة الاجتهاد، بل يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، والإجماع، والمعلوم بالضرورة فهذا اتباع، وليس تقليدًا، وكذا اتباع المجتهد لقول مجتهد آخر، يسمى اتباعًا، وليس تقليدًا.

•‌

‌ تاريخ التقليد والاتباع

(1)

:

إن التقليد لأقوال العلماء المجتهدين ظهر منذ عصر الصحابة رضوان اللَّه عليهم، فكان معظم الصحابة غير مجتهدين، ويسألون كبار الصحابة و فقهاءهم عن الأحكام، فيأخذون بها دون الاستفسار عن الدليل.

ولكن لم يكن للصحابة مذهب كامل، واستمر الأمر كذلك في عهد التابعين، إلى أن ظهر كبار الأئمة المجتهدين، وصار لهم أتباع، واستقرت مذاهبهم، وبدأ التقليد بشكل واضح في منتصف القرن الثاني الهجري، كما سبق، ثم ظهر التقليد للمذهب بمعناه الكامل في أوائل القرن الرابع الهجري، واستمر إلى اليوم.

قال الشوكاني رحمه الله: إن التقليد (للمذهب» لم يحدث إلا بعد

(1)

المصدر السابق.

ص: 93

انقراض خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة، إنما كان بعد انقراض عصر الأئمة الأربعة، وإنهم كانوا على نمط مَنْ تقدمهم من السلف في هجر التقليد، وعدم الاعتداد به، وإن هذه المذاهب إنما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين

(1)

.

•‌

‌ تقليد المفضول

(2)

:

يجوز تقليد المجتهد المفضول، مع وجود الأفضل عند الأكثر من المذاهب الأربعة؛ لأن العامي أو المستفتي لا يمكنه الترجيح ومعرفة الفاضل والمفضول، ولو كُلِّف ذلك لكان تكليفًا بضرب من الاجتهاد، وهو لا يستطيعه، ولأن اللَّه تعالى قال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]، ولم توجب الآية تعيين الأفضل دون المفضول، ولأن المفضول من الصحابة والسلف كان يفتي مع وجود الفاضل، واشتهر ذلك وتكرر، ولم ينكر ذلك أحد، فدل على جواز استفتائه مع القدرة على استفتاء الفاضل لكن قال أكثر العلماء: إنه يلزم العامي في الأصح أن يقلد الأرجح من المجتهدين متى بان له ذلك، وخالف

(1)

القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني (44).

(2)

الغيث الهامع لأبي زرعة العراقي (714)، شرح مختصر ابن الحاجب للأصفهاني (3/ 367).

ص: 94

بعضهم في ذلك، وقال النووي رحمه الله: وهذا وإن كان ظاهرًا، ففيه نظر؛ لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم

(1)

.

•‌

‌ تقديم الأعلم على الأورع

(2)

:

يقدم في تقليد المجتهدين الأعلم على الأورع في الأصح، لأنَّ الظن الحاصل بالأعلم أقوى، ولأنه لا تعلق لمسائل الاجتهاد بالورع، فإن استوى المجتهدون تخير العامي في تقليد أحدِهم متى سكنت نفسه إليه واطمأنت إلى علمه.

•‌

‌ طرق معرفة العامي للمفتي:

1 -

انتصاب ذلك الشخص للفتيا بمشهد من العلماء.

2 -

أخذ الناس عنه واجتماعهم على سؤاله.

3 -

أن يخبره عدل ثقة عنده أنه عالم، وغير ذلك.

•‌

‌ فتوى المقلد:

قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]، وأهل الذكر هم أهل العلم، والمقلد ليس من أهل العلم المتبوعين، وإنما هو تابع لغيره.

(1)

البحر المحيط للزركشي (8/ 366).

(2)

مختصر التحرير شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 573).

ص: 95

فأمره الله بالسؤال، وهذا دليل على عدم العلم، فأثبت له عدم العلم، وقال سبحانه:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].

قال أبو عمر بن عبد البر وغيره: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودًا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: وهذا كما قال أبو عمر، فإن الناس لا يختلفون فى أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن دليل، وأما بدون دليل فإنما هو تقليد

(2)

.

وقال الشوكاني: التقليد جهل وليس بعلم

(3)

.

وحكى ابن القيم في جواز الفتوى بالتقليد ثلاثة أقوال:

أحدها: لا تجوز الفتوى بالتقليد؛ لأنه ليس بعلم، وهو قول أكثر الأصحاب، وجمهور الشافعية.

الثانى: أن ذلك جائز في ما يتعلق بنفسه، ولا يجوز أن يقلد في ما يفتى به غيره.

الثالث: أن ذلك جائز عند الحاجة، وعدم العالم المجتهد، وهو

(1)

إعلام الموقعين لابن القيم (2/ 11).

(2)

إعلام الموقعين (1/ 6).

(3)

القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني (1/ 2).

ص: 96

أصح الأقوال وعليه العمل

(1)

.

•‌

‌ أقسام التقليد

(2)

:

التقليد قسمان: محمود، ومذموم.

1 -

التقليد المحمود:

يعتبر التقليد محمودًا في الفروع، وذلك لصنفين:

الصنف الأول: تقليد العاجز عن الاجتهاد، ممن لا تتوفر فيه شروطه، فإنه لا يقدر على التوصل إلى الحكم الشرعي بنفسه، ولم يبق أمامه إلا اتباع من يرشده إلى الحق من أهل النظر والاجتهاد إلى ما يجب عليه من التكاليف.

الصنف الثاني: تقليد العالم إذا علم أن الذي يقلده لا يخطئ فيما قلده فيه، فيلزمه القبول بمجرده، وهذا يشمل أربعة أشخاص:

أ - تقليد النبي صلى الله عليه وسلم، بناء على أن قوله يسمى تقليدًا.

ب- المخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من صحابي، أو تابعي ثقة، وكذا كل راوٍ عدل ثقة ضابط؛ لأن تقليده اتباع لما رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

(1)

إعلام الموقعين (1/ 8).

(2)

الوجيز للزحيلي (3/ 367).

ص: 97

ج- المجمعون على حكم، فتقليدهم واجب فيما أجمعوا عليه؛ لأنه اتباع للإجماع.

د- تقليد الصحابي في رأيه واجتهاده على أحد القولين الذي يعتبر قول الصحابي دليلًا شرعيًّا.

2 -

التقليد المذموم أو المحرم:

وهذا يتضمن أربعة أنواع، وهي:

أ- التقليد الذي يتضمن الإعراض عما أنزل اللَّه، مما لا يجوز الالتفات إليه، كتقليد الآباء والرؤساء والزعماء والطواغيت.

ب- التقليد الذي يتعارض مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو مع الإجماع، أو مع ما عُلِم من الدِّين بالضرورة.

ج- التقليد بعد ظهور الحجة، وإقامة الدليل على خلاف قول المقلَّد.

د- تقليد من يعلم المقلد أنه ليس أهلًا لأن يؤخذ قوله، كأنصاف العلماء، وعلماء السلطان الذين يفتون بما يهوى، وبما يُملَى عليه.

وهذه الأنواع الأربعة هي التي يحمل عليها ما ورد في القرآن والسنة من ذم التقليد، وعليها يحمل كل ما نقل عن العلماء في ذم التقليد، وهو كثير ثابت عن الأئمة الأربعة في النهي عن تقليدهم، وذم من أخذ

ص: 98

بأقوالهم بغير دليل ولا حجة.

ونقل عن مالك رحمه الله أنه قال: أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافقه فاتركوه

(1)

.

قال الشافعي رحمه الله: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب، وفيها أفعى تلدغه ولا يدري، وروى المزني عن الشافعي في أول مختصره أنه لم يزل ينهى عن تقليده، وتقليد غيره

(2)

.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا، وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال

(3)

.

وقال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلناه

(4)

.

وقال السيوطي: ما زال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد ويحضون عليه، وينهون عن التقليد ويذمونه ويكرهونه، وقد صنف

(1)

إيقاظ همم أولي الأبصار لصالح العمري المالكي (72).

(2)

التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (1/ 40).

(3)

إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 469).

(4)

المدخل إلي السنن الكبرى للبيهقي (210).

ص: 99

جماعة في ذم التقليد كالمزني، وابن حزم، وابن عبد البر، وأبي شامة، وابن قيم الجوزية

(1)

.

وقال القرافي: مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد

(2)

.

•‌

‌ مسألة: هل يجوز التقليد في الأصول

(3)

؟

اختلف النقل عن الجمهور والسلف اختلافًا كبيرًا فمنهم من ينقل عن الجمهور والسلف الجواز، ومنهم من ينقل عنهم المنع، ومن ذلك:

قال شيخ الإسلام: أما في المسائل الأصولية، فكثير من المتكلمين، والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد حتى على العامة والنساء، حتى يوجبوه في المسائل التي تنازع فيها فضلاء الأمة، قالوا: لأن العلم بها واجب، ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص.

وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك، فإن ما وجب علمه إنما يجب

(1)

الرد علي من أخلد إلي الأرض للسيوطي.

(2)

البحر المحيط للزركشي (8/ 328).

(3)

الدرر اللوامع شرح جمع الجوامع لأحمد بن إسماعيل الكوراني (4/ 165)، الفائق في أصول الفقه للأرموي الشافعي (2/ 418)، المسودة لآل تيمية (461)، تشنيف المسامع للزركشي (4/ 623).

ص: 100

على من يقدر على تحصيل العلم، وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق، فكيف يكلف العلم بها، وأيضًا فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص، بل بطرق أخرى من اضطرار، وكسب، وتقليد ممن يعلم أنه مصيب، وغير ذلك

(1)

.

وقال الأرموي: التقليد في الأصول جائز عند أكثر السلف والفقهاء وبعض المتكلمين

(2)

.

وقال الشوكاني: فيا لله العجب من هذه المقالة -عدم إيمان المقلد- التي تقشعر لها الجلود، وترجف عند سماعها الأفئدة، فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة، وتكليف لهم بما ليس في وسعهم، ولا يطيقونه، وقد كفى غالب الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها الإيمان الجملي، ولم يكلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بين أظهارهم بمعرفة ذلك، ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته

(3)

.

وقال بعضهم أن قول الجمهور المنع، للإجماع على وجوب المعرفة، ولقوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، فأمر

(1)

مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/ 112).

(2)

الفائق في أصول الفقه للأرموي (2/ 418).

(3)

إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 241).

ص: 101

بالعلم بالوحدانية، والتقليد لا يفيد العلم، وقد ذم الله تعالى التقليد في الأصول، وحث عليه في الفروع، فقال في الأصول:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23]، وحث على السؤال في الفروع بقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]

(1)

.

وبالنظر في أقوالهم، وما يضربون من الأمثلة يتبين وجه الجمع، وهو أن من يمنع يقصد بذلك أصول الإيمان والتوحيد، كالإيمان بوجود الله، واستحقاقه للعبودية، وإثبات ربوبيته، وألوهيته، ونحو ذلك، ومن يجيز يريد ما هو أبعد من ذلك مما يحتاج إلى النظر مما لا يقوى عليه العامي، كالنظر في أدلة الأسماء والصفات وإثباتها، ونفي أقوال المبطلين، وأوجه الاستدلال عليها من النصوص، فهذا لايقوى عليه العامي المقلد ولا يستطيعه، فأجازوا له التقليد في مثل هذا.

وبهذا الجمع تتضح أقوال العلماء، ويَذهب الإشكال، ويُفَض الإجمال، ويزول التعارض.

(1)

تشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي (4/ 623).

ص: 102

•‌

‌ مسألة: هل يجوز التقليد في الفروع

(1)

؟

في ذلك تفصيل:

أولًا: لقد أجمع العلماء على أن أركان الإسلام - وهي: الصوم، والصلاة، والزكاة، والحج - لا يجوز فيها الاجتهاد؛ لأنه ثبت بالتواتر ونقلته الأُمَّة خلفًا عن سلف، فمعرفة العامي فيها توافق معرفة العالم فيها، كما تتفق معرفة الجميع فيما يحصل بأخبار التواتر من البلدان كالهند، والصين.

ثانيا: أما فروع الدين - غير ما سبق - كالبيوع، والأنكحة، والعتاق، والحدود، والكفارات، وبعض جزئيات وتفاصيل العبادات، ونحو ذلك من الأحكام الفقهية فقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنه يجوز للعامي، أو طالب العلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد أن يقلد المجتهد، والأخذ بفتواه.

وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:

الدليل الأول: الإجماع على جواز ذلك قبل ولادة ذلك المخالف؛

(1)

التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 433)، شرح مختصر أصول الفقه للجراعي (3/ 444)، نشر البنود علي مراقي السعود عبد الله الشنقيطي (2/ 335)، المهذب للنملة (5/ 2392).

ص: 103

حيث إن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم كانوا يُسألون عن الأحكام فيفتون، وكان السائل يتبع المجتهد والمفتي فيما يقول، وكان العلماء يبادرون إلى الإجابة من غير إشارة إلى ذكر الدليل، أو طريق الحكم، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير من أحد، فكان إجماعًا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقًا.

الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

وجه الدلالة: أن هذا دلَّ على أنه يرد الحكم إلى أهل الاستنباط وهم المجتهدون.

الدليل الثالث: أنه لا خطر ولا محذور في تقليد العامي للمجتهد في الفروع؛ لأن المجتهد لو أخطأ فلا إثم عليه، بل له أجر، إذن لا خطر على المقلد في هذا.

الدليل الرابع: أن الإجماع قد انعقد أن العامي إذا نزلت به حادثة فإنه يلزمه فيها حكم شرعي، وهو بين أمرين لا ثالث لهما:

الأمر الأول: إما أن يعرف حكم حادثته بنفسه بواسطة الاستدلال.

الأمر الثاني: أن يعرف حكمها عن طريق التقليد.

أما الأمر الأول فلا يمكن؛ لأنه إذا أراد معرفة حكم حادثته بنفسه

ص: 104

فإنه لا بد أن يبدأ بتعلم العلم، فيعرف الأدلة، وكيفية ترتيبها، والناسخ منها والمنسوخ، وأقوال العلماء في كل دليل، ومعرفة ما يعارض ذلك الدليل، وكيفية فك ذلك التعارض، وهذا كله إذا كان قابلًا للتعلم، وكذلك تعلم القياس وشروط كل ركن من أركانه، وهذه المعرفة لا يمكنه تحصيلها إلا في زمان طويل، قد يذهب عمره وهو لم يصل إلى حكم شرعي لحادثته.

إذن لا يمكن للعامي أن يعرف حكم حادثته بنفسه بواسطة الاستدلال. فلم يبق إلا الأمر الثاني وهو أن يعرف حكمها عن طريق تقليده لغيره من المجتهدين.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز التقليد في الفروع، بل يلزم العوام الاجتهاد والنظر في الدليل.

وهو مذهب معتزلة بغداد، وبعض العلماء.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: أنه قد لا يثق العامي بالمجتهد الذي أفتاه؛ فيكون فعله مفسدة، فيحتاج العامي أن يفهم دليل المجتهد ليزول شكه، ويكون واثقًا من الحكم الذي قاله له المجتهد.

ص: 105

وجوابه:

يجاب عن ذلك بجوابين:

الجواب الأول: أن المجتهد لو أخبر العامي بالدليل الذي اعتمد عليه، فإن هذا لا يفيد شيئاً؛ لأن العامي لا يعرف وضعه وطريقه وكيفية الاستفادة منه - كما قلنا ذلك فيما سبق -.

الجواب الثاني: أن هذا الدليل منتقض بخبر الواحد، فإن العالم لا يأمن أن يكون المخبر قد كذب عليه، فيكون بأخذه ما جاء في الخبر والاستدلال به فاعلًا للمفسدة، ولكنه يأخذ المجتهد ممن توفرت شروط الراوي فيه ما يرويه.

الدليل الثاني: قياس الفروع على الأصول، فكما أنه لا يجوز للعامي التقليد في أصول الدين، فكذلك لا يجوز في الفروع.

وجوابه:

أن هذا القياس قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ويفرق بينهما من وجهين:

الوجه الأول: أن طرق مسائل أصول الدين من التوحيد، والنبوات عقلية يحتاج الإنسان فيها إلى تنبيه يسير، فلا ينقطع عمرالإنسان ومعاشه فيها. أما الفروع فنظرًا إلى كثرة أدلته، وتنوعها، وتشعبها،

ص: 106

وتجدد الاجتهاد فيها، وأنه لا يتم إلا بأمور شرعية لا يمكن ضبطها ومعرفتها إلا بطول بحث، وسعة نظر واطلاع، وهذا يفضي إلى الانقطاع عن المعاش الذي به قوام الدنيا.

الوجه الثاني: أن مسائل الفروع يطلب فيها ما يغلب على ظنه أنه الحق، وذلك يحصل للعامي بقول المفتي وهو المجتهد، كما يحصل للعالم بخبر الواحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم. بخلاف مسائل الأصول، فلا بد من الجزم فيها.

وكذلك فإن مسائل الأصول منها ما يجوز فيه التقليد كما سبق، فالتقليد في الفروع من باب أولى.

•‌

‌ أحكام تتعلق بالتقليد

(1)

:

يتعلق بالتقليد عدة أحكام، أهمها:

أولًا: الالتزام بمذهب معين: إن طريق العامي، وغير المتأهل للاجتهاد لمعرفة الأحكام الشرعية هو التقليد، وعليه أن يسأل أهل العلم عما يحتاج إلى معرفته من أحكام شرعية.

وبعد استقرار المذاهب الأربعة بين الناس، وقيام أتباع المذاهب

(1)

إرشاد الفحول (2/ 252)، البحر المحيط (8/ 374)، إعلام الموقعين (6/ 203)، المسودة (512).

ص: 107

ببيان الأحكام الشرعية حسب مذهب كل منهم، فهل يجب على الإنسان الالتزام بمذهب فقهي معين؟

يكاد أن يتفق العلماء على أن المستفتي إذا سأل عن مسألة وعرف حكمها وعمل به، فليس له أن يرجع عنه، ليأخذ بغيره في نفس الواقعة؛ لما فيه من استقرار التعامل، وحسم باب النزاع في معاملات الناس، فإن لم يعمل به جاز له الرجوع.

وإذا عمل الشخص في واقعة بمذهب إمام، ومفت معين، فلا يلزمه الالتزام به أو بمذهبه، ويجوز له أن يسأل غيره، وبالتالي يعمل في الواقعة الأخرى بمذهب آخر؛ ولا يلزمه الاستمرار على مذهب معين، ويجوز له الانتقال منه إلى مذهب آخر، لأن اللَّه تعالى أوجب الالتزام بقول اللَّه تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يوجب التزام قول آخر، ولا واجب إلا ما أوجبه اللَّه ورسوله، ولم يوجب اللَّه والرسول التزام مذهب معين، وليس التزام مذهب نذرًا حتى يجب الوفاء به، وكل ما أوجبه اللَّه تعالى أنه طلب سؤال أهل العلم والاختصاص، فقال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]، ولأن المستفتين المقلدين في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يلتزموا بمذهب معين، أو إمام معين، أو عالم معين، بل يسألون من يتهيأ لهم دون تقييد بواحد دون آخر، ولأن الالتزام بمذهب دون غيره يؤدي إلى الحرج والمشقة، وإن تعدد

ص: 108

العلماء والمختصين نعمة وفضيلة ورحمة للأمة، وهذا قول جمهور الفقهاء والأصوليين.

ثانيًا: مخالفة المذهب

(1)

:

إذا التزم شخص بمذهب معين، فيجوز له -في الأصح- مخالفة مذهب إمامه في بعض الجزئيات لحاجة أو لدليل؛ لأن التزامه بالمذهب غير متعين وغيرم ملزم؛ لأنه لا واجب إلا ما أوجبه اللَّه ورسوله، ولم يثبت أن اللَّه ورسوله أوجب على أحد أن يتمذهب بمذهب أحد الأئمة أو أحد العلماء.

ثالثًا: تقليد غير الأئمة الأربعة

(2)

:

إن مذاهب الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم اللَّه تعالى قد لقيت القبول والانتشار، ثم عكف العلماء عليها بالدراسة والتمحيص والاستدلال والتخريج، وشاعت هذه المذاهب، واستقرت في معظم بلاد العالم الإسلامي.

وبقي في الكتب والمصادر أقوالٌ لأئمة مجتهدين كأعيان الصحابة

(1)

الوجيز للزحيلي (2/ 371).

(2)

التقرير والتحبير لابن أمير حاج (3/ 354)، الرد علي من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب الحنبلي.

ص: 109

وكبار التابعين، أو كالمذاهب المنقرضة كمذهب الليث والأوزاعي وابن جرير الطبري، والظاهرية، مع مذاهب الجعفرية والزيدية والإباضية، فهل يجوز الأخذ والإفتاء من غير المذاهب الأربعة؟

قال أكثر المتقدمين والمتأخرين: لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة، لأنها غير مدونة، ولا مضبوطة، ولم تثبت صحتها، ويشك في نقلها، بخلاف المذاهب الأربعة فإنها منقحة، ومضبوطة، ومدوّنة، واعتنى بها الأصحاب في كل مذهب في النقل والتدليل والتصحيح والترجيح والتدقيق، واستقرت فيها الأحكام، لذلك تطمئن النفس إلى الأخذ بها؛ لقربها من الحق، وبعدها عن الخطأ.

قال إمام الحرمين رحمه الله: أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله عنهم، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا فنظروا، وبوّبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل؛ لأنهم أوضحوا طرق النظر، وهذبوا المسائل وبينوها وجمعوها

(1)

.

وقال ابن الصلاح رحمه الله: يتعين تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم؛ لأن مذاهب الأربعة قد انتشرت، وعلم تقييد مطلقها، وتخصيص

(1)

البرهان في أصول الفقه للجويني (2/ 177).

ص: 110

عامها، ونشرت فروعها، بخلاف مذاهب غيرهم

(1)

.

قال النووي رحمه الله: وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الأولين، وإن كانوا أعلم وأعلى درجة ممن بعدهم، لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم، وضبط أصوله وفروعه، فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناهلين لمذاهب الصحابة والتابعين القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها، الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها كمالك وأبي حنيفة وغيرهما

(2)

.

وقال الشيخ ابن الصلاح: لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة في إفتاء أو قضاء

(3)

.

وأجاز بعض العلماء تقليد غير الأئمة الأربعة في غير الإفتاء، وتوسط العز بن عبد السلام رحمه الله، وقال: إن المدار على ثبوت المذهب عند المقلد، وغلبة الظن على صحته عنده، فحيث ثبت عنده مذهب من المذاهب صح له أن يقلده، ولو كان صاحب المذهب من

(1)

نهاية السول للإسنوي (406).

(2)

المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 55).

(3)

حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 58).

ص: 111

غير الأئمة الأربعة

(1)

.

والراجح والله أعلم: أن الأمر يدور على غلبة الظن بالصواب سواء في المذاهب الأربعة أو غيرها، وإن كان الغالب أن الصواب يكون في المذاهب الأربعة، أو في أحدها لما وجدت من الرعاية والعناية، وأنها استوعبت الأدلة من القرآن والسنة بشكل صحيح وكامل، بالإضافة لاعتمادها على سائر المصادر التشريعية، لكن لا مانع للجان التشريع، ومجامع الفقه، وعند الاجتهاد الجماعي أن تختار قولًا من غير المذاهب الأربعة باعتبار دليله، ووجهة نظره، ومراعاة للمصلحة أو لتطور الظروف، واختلاف الأحوال، وإن لم يتوثق النقل الصحيح الكامل؛ لأن العبرة بالدليل، وبشرط تبني هذا الرأي من أولي الأمر، كأنه مباح أمر به الحاكم فصار واجبًا في التطبيق والالتزام، كتولي القضاء للمرأة، واعتبار الطلاق الثلاث طلقة في هذا العصر، والأخذ بالوصية الواجبة، وغير ذلك، وهو ما يقع العمل به عند وضع القوانين والأنظمة المستمدة من الشريعة واختيار بعض الآراء فيها للمصلحة ومقتضيات الزمن والعصر وحالة المسلمين.

(1)

الوجيز للزحيلي (2/ 373).

ص: 112

رابعًا: التلفيق وتتبع الرخص

(1)

:

نتج عن تقليد المذاهب مسألة التلفيق بينها، وذلك أن يأخذ الشخص في قضية واحدة ذات أركان، أو جزئيات بقولين أو أكثر، كل قول من مذهب، لينتج حقيقة مركبة لا يقرها أحد الأئمة، أو لا تتفق مع أي مذهب بمفرده، سواء عمل في الواقعة بالقولين معًا، أو عمل بأحدهما مع بقاء أثر الثاني، فكل مذهب يقرر بطلان تلك الحقيقة الملفقة.

مثاله: أن يكتفي المصلي في وضوئه بمسح بعض الرأس حسب المذهب الشافعي، ثم يلمس امرأة أجنبية، فيريد أن يقلد أبا حنيفة أو مالكًا بعدم نقض الوضوء باللمس، ثم يريد الصلاة، فهذا الوضوء حينئذ لم يقل به هؤلاء الأئمة، فالشافعي يبطله لنقضه باللمس، وأبو حنيفة يبطله لعدم مسح ربع الرأس، ومالك لا يقره لعدم مسح جميع الرأس.

ومثاله: أن يتزوج رجل امرأة بلا ولي حسب رأي الحنفية، وبلا شهود حسب رأي المالكية.

(1)

البحر المحيط للزركشي (8/ 380)، التحبير شرح التحريرللمرداوي (8/ 4090)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 577)، الوجيز للزحيلي (2/ 374).

ص: 113

ومثاله: أن يطلق شخص زوجته ثلاثًا، ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل حسب رأي الشافعية، ثم يصيبها الصبي، ثم يطلقها مع عدم العدة حسب رأي الإمام أحمد وذلك لتحل لزوجها الأول.

فهذا التلفيق ممنوع؛ لأنه أشبه باللعب، ويناقض اتفاق العلماء بمنع إحداث قول ثالث إذا افترق العلماء على قولين، وهذا فرع أيضًا عن نظرية التقليد.

أما التلفيق بأخذ رأي مذهب مثلًا في الوضوء، ثم الأخذ برأي مذهب آخر في وضوء آخر، فلا مانع، أو الأخذ برأي مذهب آخر في جزئية في الوضوء لكنها لا تتنافى مع المذهب الأول، كمن توضأ كاملًا مع السنن حسب المذهب الشافعي، ومسح جميع رأسه، ودلك الأعضاء، ثم لمس امرأة أجنبية، فيجوز له أن يصلي بذلك الوضوء باعتبار أنه لم ينقض حسب المذهب الحنفي والمالكي، وهذا فرع عن المسألة الثانية في جواز مخالفة الشخص لمذهبه.

لكن يشترط في التلفيق الجائز، أو تقليد مذهب آخر في نفس المسألة، شرطان:

1 -

ألا يؤدي ذلك للتهرب من الأحكام.

2 -

ألا يؤدي ذلك لتتبع الرخص.

ص: 114

فالشرط الأول: كمن يلفق في الأخذ في مسألة من مذهبين للتهرب من الزكاة مثلًا، أو لتحليل الحرام.

والشرط الثاني: يؤدي إلى إسقاط التكاليف في كل مسألة مختلف فيها، ويدل على قلة الورع في الدِّين، وعدم الهمة لأداء الأعمال لاكتساب الأجر والثواب.

وإن تتبع الرخص: يعني أن يأخذ الشخص من كل مذهب ما هو أهون عليه، وأيسر مما يطرأ من المسائل.

واختلف العلماء في حكم تتبع الرخص، فقال المالكية والحنابلة في الأصح والغزالي والسبكي والشاطبي وغيرهم: يمتنع تتبع الرخص في المذاهب؛ لأنه اتباع لأهواء النفس، وميل للهوى، وقال ابن عبد البر وابن حزم: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط التكاليف، وقال الحنفية في الراجح، وأكثر أصحاب الشافعي وبعض المالكية كالقرافي: يجوز تتبع رخص المذاهب؛ لعدم وجود مانع في الشرع، وأنه سلوك للأخف، لكن القرافي قيّد ذلك بألا يترتب عليه باطل عند جميع من قلدهم، وقيد غيره ذلك بألا يكون الشخص قد باشر التصرف وفق القول الأول.

وقال بعض العلماء بفسق من تتبع الرخص، وقال آخرون: لا يفسق.

ص: 115

وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد «الخليفة» فرفع إليَّ كتابًا لأنظر فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق .. ، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بحرق ذلك الكتاب.

والراجح: أنه لا مانع من الأخذ بالرخص من المذاهب عند الحاجة للفرد، أو للجماعة في التشريع، وعند وضع الأنظمة من اللجان المختصة، أما التزام ذلك وتتبعه للفرد فإنّه يدل على رقة الدِّين، وضعف اليقين، وقلة الورع، ويخشى على صاحبه من التفلت والتهرب من أحكام الشرع وتكاليفه، وخاصة في حقوق العباد والمعاملات والمحظورات.

خامسًا: دعوى الإلهام

(1)

:

يزعم بعض الناس أن العلم إلهام من اللَّه تعالى، ويزعمون أن اللَّه تعالى يلهمهم، ويلقي في قلوبهم أحكامًا ليعملوا بها، ويفتوا الناس بها.

وهذه دعوى باطلة، وحذَّر العلماء منها؛ لأنها سبيل لإلغاء الأحكام الثابتة بالنصوص، أو الزيادة عليها، أو فتح باب للتهرب من الشريعة

(1)

إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 201)، الوجيز للزحيلي (2/ 376).

ص: 116

والزيادة عليها.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: على العالم ألا يقول إلا من جهة العلم، وجهةُ العلم: الخبر اللازم بالقياس بالدلائل على الصواب، حتى لا يكون صاحب العلم أبدًا متبعًا خبرًا وطالب خبر بالقياس، كما يكون متَّبع البيت بالعيان، وطالب قصده بالاستدلال بالأعلام مجتهدًا، ولو قال بلا خبر لازم ولا قياس، كان أقرب من الإثم من الذي قال وهو غير عالم، وكان القول لغير أهل العلم لازمًا.

ثم قال: ولم يجعل اللَّه لأحد بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بَعْدُ الكتابُ والسنة والإجماع والآثار، وما وصفتُ من القياس عليها، ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب اللَّه ....

ونقل الزركشي عن القفال رحمهما اللَّه تعالى قوله: ولو ثبتت العلوم بالإلهام، لم يكن للنظر معنى، ولم يكن في شيء من العالَم دلالة ولا عبرة

(1)

.

(1)

البحر المحيط للزركشي (8/ 114).

ص: 117

‌الفصل الثاني:

علم المقاصد

وفه أربعة مباحث:

• المبحث الأول: المبادئ العشرة لعلم المقاصد.

• المبحث الثاني: نشأة علم المقاصد.

• المبحث الثالث: أقسام علم المقاصد.

• المبحث الرابع: حاجة الناس إلى علم المقاصد.

ص: 119

‌المبحث الأول:

المبادئ العشرة لعلم المقاصد

قال الصبان:

إن مبادئ كل فن عشرة

الحد والموضوع ثم الثمرة

وفضله ونسبة والواضع

والاسم الاستمداد حكم الشارع

فمسائل والبعض بالبعض اكتفى

ومن درى الجميع حاز الشرفا

•‌

‌ أولًا: الحد:

مقاصد الشريعة: هي اسمٌ ولقبٌ لعلم من علوم الشريعة الإسلامية، وهذا الاسم يتركب من لفظين: لفظ مقاصد، لفظ الشريعة.

المقاصد لغة: جمع مقصد، من الفعل قصد، ويأتي على معان منها:

1 -

الاعتماد، والتوجه، واستقامة الطريق، قال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9].

2 -

التوسط، وعدم الإفراط والتفريط، قال تعالى:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19]، وفي الحديث:«والقصد القصد تبلغوا»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري (6463) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

ص: 121

الشريعة لغة: تطلق في اللغة على مورد الماء ومنبعه ومصدره، كما تطلق على الدين وأحكامه

(1)

.

والشريعة ما شرعه الله لعباده من أحكام ليهتدوا بها، أو بعبارة أخرى هي الأحكام التي تضمنها القرآن والسنة، وبها مصالح العباد في العاجل والآجل.

•‌

‌ التعريف الاصطلاحي لمقاصد الشريعة:

لم يوجد عند العلماء المتقدمين تعريف واضح أو محدد، أو دقيق لمقاصد الشريعة، وإنما وجدت كلمات وجمل لها تعلقٌ ببعض أنواعها وأقسامها، وببعض تعبيراتها ومرادفاتها، وبأمثلتها وتطبيقاتها، وبحجيتها وحقيقتها، ومن تلك الكلمات التي كانوا يستخدمونها: المصلحة

(2)

، والحكمة

(3)

، .........................................

(1)

وجه إطلاق الشريعة على منبع الماء ومصدره: أن الماء مصدر حياة الإنسان، والحيوان، والنبات، وأن الدين الإسلامي مصدر حياة النفوس، وصلاحها، وتقدمها، وسلامتها في الدنيا والآخرة؛ فالشريعة الإسلامية مصدر كل الخير والرخاء والسعادة في العاجل والآجل، في المعاش والمعاد، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

(2)

تشمل جلب المصلحة ودرء المفسدة.

(3)

وهناك كتب عديدة تحمل اسم: حكمة التشريع، أو حكمة الشريعة. فالفقهاء يبحثون دائمًا عن الحكمة من التشريع، كما يبحثون عن الحكم، فالحكم فقه، والحكمة فقه الفقه.

ص: 122

والعلة

(1)

، والمنفعة، والغرض

(2)

، والغايات، والأهداف، والمرامي، والأسرار

(3)

، والمعاني، والمغزى، والمراد، وغير ذلك.

وكثرة الأسماء وتعدد المعاني لذات الشيء تدل على فضله وأهميته.

قال الدكتور الريسوني: ومنذ القرن الرابع إلى القرن الثامن وما بعده، نجد كلمة المقاصد هي التي استحوذت على هذا المعنى الذي نتحدث عنه، دون أن تلغي غيرها؛ لأن اللفظ الواحد لن يكون كافيًا وشافيًا في التعبير عن هذا المعنى العظيم الجليل المتعدد الأبعاد والجوانب

(4)

.

تنبيه: المقاصد إذا أطلقت قصد بها مقاصد الشارع من أحكامه؛ لأن

(1)

العلة: وصف ظاهر منضبط، وأحيانًا تكون مرادفة للحكمة والمقصد، وأحيانًا لا، فالعلة استعملت بمعاني متعددة، قال الشاطبي: أما العلة؛ فالمراد بها: الحِكَم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي (1/ 410).

(2)

وربما عند المتقدمين في القرن الأول والثاني والثالث والرابع كان مصطلح الغرض، والمراد أكثر استعمالًا. محاضرات في مقاصد الشريعة للريسوني (27).

(3)

وكتاب الموافقات الذي هو أشهر كتاب تحدث عن المقاصد اسمه (عنوان التعريف بأسرار التكليف)، فالمقصود بالأسرار هنا ليس ما يزعمه الصوفية، إنما سر المسألة أي لبها ودقائقها التي لا تنال إلا بالتعليم والفهم والخبرة، ومعرفة المقاصد تحتاج لكل ذلك.

(4)

محاضرات في مقاصد الشريعة (28).

ص: 123

المقاصد تنقسم باعتبارات كثيرة

(1)

.

فمقاصد الشارع هي:

الغايات، والآثار، والحِكَم، والمعاني التي تتعلق بخطاب الشارع وأحكامه.

أو: الغايات، والآثار، والحِكَم، والمعاني التي جاءت الشريعة لأجل تحقيقها، والتي ترجع إلى تحقيق المصالح، ودرء المفاسد في الدنيا والدين

(2)

، وذلك إما بجلب نفعٍ، أو دفع ضررٍ، أو تحقيق مصلحة، أو درء مفسدة، فالشريعة لها مقاصد وغايات وأهداف جاءت لتحقيقها من خلال الأحكام الشرعية التي تضمنها القرآن والسنة، وهما الوحي المنزل من عند رب العالمين.

قال الدكتور مسفر بن علي القحطاني: فأحكام الشريعة لا تخلو من هذه الثلاثة

(3)

:

1 -

الوصف الظاهر المنضبط وهو العلة.

2 -

ما في الفعل من نفع أو ضرر، ويعبر عنه بالمصالح والمفاسد.

(1)

وسيأتي إن شاء الله ذكر أقسامها.

(2)

مدخل إلى مقاصد الشريعة للدكتور أحمد الريسوني.

(3)

أثر مقاصد الشريعة في تعميق الوعي الحضاري لمسفر بن علي القحطاني.

ص: 124

3 -

ما يترتب على التشريع من جلبٍ للمنافع، أو درءٍ للمفاسد، ويسمى مقصد الشارع.

وهذه سمة ملازمة لكل أحكام الشرع، فما من حكم إلا وهو فيه سعادة العباد في العاجل والآجل.

فثبت ولله الحمد بما لا يدع مجالًا للشك: أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا

(1)

.

الخلاصة: أن المقاصد الشرعية هي الإرادة التشريعية للحاكم

(2)

.

فهي جملة ما أراده الشارع الحكيم من مصالحٍ تترتب على الأحكام الشرعية، كمصلحة الصوم، والتي هي بلوغ التقوى وغيرها، ومصلحة الجهاد التي هي درء العدوان والذب عن الأمة، ومصلحة الزواج والتي هي غض البصر، وتحصين الفرج، وإنجاب الذرية، وإعمار الكون، وغير ذلك.

وهذه المصالح كثيرة ومتنوعة، وهي تُجمَع في مصلحة كبرى وغاية كلية: هي تحقيق عبادة الله، وإصلاح المخلوقين، وإسعادهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ

(1)

الموافقات للشاطبي (2/ 9).

(2)

محاضرات في مقاصد الشريعة (124).

ص: 125

وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]

(1)

.

•‌

‌ ثانيًا: الموضوع:

موضوع علم المقاصد هو: المصالح والمفاسد، والأحكام الشرعية. فالمصالح من حيث جلبها، والمحافظة عليها، وبيان مراتبها، والمفاسد من حيث درؤها، ودرء ما يدعو إليها وبيان مراتبها، والأحكام الشرعية من حيث جلبها للمصالح، ودرؤها للمفاسد.

•‌

‌ ثالثًا: الثمرة:

سيأتي بيانه في بحث مستقل - إن شاء الله تعالى -.

•‌

‌ رابعًا: فضله:

الفضل يتناسب مع الثمرة، فكلما كانت الثمرة عالية، كان الفضل عظيمًا، ولما كانت ثمرة المقاصد تعم الأمة جميعًا، وتبين للناس صلاحية هذا الدين لكل عصر ومصر، وتظهر حكمة التشريع، وتبين للناس محاسن الإسلام، كان علمًا عظيم الفضل جليل القدر، لا يُستغْنَى عنه ولا يُهمَل.

(1)

المصدر السابق.

ص: 126

•‌

‌ خامسًا: نسبته:

هو من علوم الشريعة عامة، ومن علوم الآلات خاصة، وارتباطه وثيق وظاهر بأصول الفقه، فكل من تكلم عن المقاصد من المتقدمين، كان يذكره في ثنايا الكلام عن أصول الفقه.

ونسبته إلى غيره التباين والاختلاف، ومع ذلك فمن المقرر أن علوم الشريعة يخدم بعضها بعضًا.

•‌

‌ سادسًا: الواضع:

يعد واضع علم المقاصد هو الإمام الشاطبي رحمه الله؛ إذ كانت المقاصد متناثرة في كتب أهل العلم، فجاء الشاطبي، واستخرجها، ونقحها، وهذبها، واعتنى بها بصورة كبيرة، وأفرد لها جزءًا في كتابه الموافقات، وهو «أبو المقاصد» كما يسميه العلماء.

وأول من أفرد المقاصد بتصنيف مستقل هو الطاهر بن عاشور، وهو «أبو المقاصد الثاني» كما يلقبه بعض الباحثين، ثم تتابع الناس على التأليف والتصنيف في هذا العلم الجليل، فرضي الله عن الجميع.

•‌

‌ سابعًا: الاسم:

علم المقاصد، أو مقاصد الشريعة، أو مقاصد الشرع، أو مقاصد الأحكام، وأحيانًا بالإفراد «مقصد» ، وهذا هو الذي شاع عند

ص: 127

المتأخرين، وبعض المعاصرين يسميه بفلسفة التشريع.

وقد سبق بيان المصطلحات المرادفة له عند المتقدمين.

•‌

‌ ثامنًا: الاستمداد:

علم المقاصد كغيره من العلوم الشرعية يستمد من الكتاب، والسنة، واجتهادات العلماء بالضوابط والشروط المذكورة في كتب الأصول، واستنباطها يحتاج لتدبر وتأمل، واستقراء

(1)

طويل لأحكام الشريعة.

فمثلًا مقصد حفظ العرض

(2)

من المقاصد الخمس الكلية التي جاءت الشريعة لتحقيقها، والتي ثبتت بالاستقراء وبتتبع جزئياته وفروعه، والتي منها: تشريع الزواج والحث عليه، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم التبرج والسفور، وتحريم النظر بشهوة، واللمس، والخضوع بالقول، وتشريع الحجاب، والعفة، والستر والحشمة، واتخاذ العقوبات والزواجر المتعلقة بذلك كالرجم والجلد، ومدح المتعففين والأطهار، وتقريع المستهزئين والشاذين، وذم المتهاونين والمقصرين، والحث على الصوم، والصبر، والاحتساب عند انتفاء

(1)

الاستقراء عمومًا هو تقرير أمر كلي بتتبع جزئياته.

(2)

بتصرف من كتاب الاستقراء ودوره في معرفة مقاصد الشريعة للدكتور نور الدين الخادمي.

ص: 128

القدرة على الزواج.

فكل هذه الجزئيات وغيرها تحتاج لتدبر وتأمل واستقراء، وقد شكلت هذه الجزئيات بمجموعها مقصد حفظ العرض وصونه ورعايته.

•‌

‌ تاسعًا: حكم الشارع:

فرض كفاية على جماعة المسلمين، وفرض عين على المجتهدين.

•‌

‌ عاشرًا: مسائله:

مسائل علم المقاصد: ما يتعلق بأفعال الشارع، وأدلته، وأحكامه، والمكلف بهذه الأحكام، ويدخل تحت ذلك مسائل منها:

1 -

اعتبار مقاصد الشرع، وطرق معرفتها، ووسائلها، وأقسامها، وقواعدها، وخصائصها.

2 -

علاقة المصالح والمفاسد بالأحكام الشرعية والأدلة الشرعية، وبيان علل التشريع.

ص: 129

‌المبحث الثاني:

نشأة علم المقاصد

وفيه ست مسائل:

• أولًا: هل كان علم المقاصد موجودًا في زمن النبوة؟

• ثانيًا: مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم للمقاصد.

• ثالثًا: مراعاة الصحابة رضي الله عنهم للمقاصد.

• رابعًا: تدوين المقاصد عند المتقدمين.

• خامسًا: تدوين المقاصد عند المتأخرين.

• سادسًا: اهتمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله بالمقاصد.

ص: 131

‌المسألة الأولى:

هل كان علم المقاصد موجودًا في زمن النبوة؟

علم المقاصد واحد من علوم الاجتهاد التي لا غنى للفقيه المجتهد عنها، وجاءت نشأته في ثنايا أصول الفقه عند الكلام على العلل المناسبة، وكانت أصوله ممتزجةً مع التشريع منذ صدر الإسلام، وهكذا سائر العلوم الشرعية كلها تجد لها أصولًا في الكتاب والسنة، وإن لم ينص عليها صراحة

(1)

.

ومن ذلك مثلًا: جاءت نصوص كثيرة تدل على قاعدة التيسير ورفع الحرج والمشقة، وهذه القواعد من أجلِّ مقاصد الشريعة الإسلامية،

(1)

وجاءت الإشارة إليه في كتب الأصول عند المتقدمين، فمن ذلك ما قاله العز بن عبد السلام رحمه الله: ومن تبع مقاصد الشريعة في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص أو إجماع أو قياس خاص. قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 189).

ثم بدأ علم المقاصد يستقل ابتداء مما كتبه الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات) حيث أفرد له جزءًا مستقلًّا، مرورًا بإبراز وإظهار الطاهر بن عاشور رحمه الله له، ثم تتابع الناس عليه بين مقل ومستكثر.

ص: 133

ومن هذه النصوص قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال صلى الله عليه وسلم:«يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»

(1)

.

عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسرٌ، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة»

(2)

.

بل إن البعثة النبوية نفسها عُلِّلَت بمقاصد عظيمة، بكونها رحمة وخيرًا، وصلاحًا للناس أجمعين، وإتمامًا لمكارم الأخلاق، فقد قال الله تعالى في شأن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ، وفي رواية:

(1)

أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734) من حديث أنس مرفوعًا.

(2)

أخرجه البخاري (39) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

ص: 134

«صالح الأخلاق»

(1)

.

الخلاصة: علم المقاصد كغيره من العلوم الشرعية نزل يوم نزل الوحي من السماء.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد (273)، وأحمد (2/ 381) وغيرهما من حديث أبي هريرة به، وله شاهد يقويه، وأما لفظ:"مكارم الأخلاق" ففيها خلاف، ولها شاهد عند البخاري (3861)، ومسلم (2474) أن أخا أبي ذر قال:"رأيته يأمر بمكارم الأخلاق" يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 135

‌المسألة الثانية:

مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لمقاصد الشريعة

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي مقاصد الشريعة، وهذا يظهر جليًّا واضحًا لمن تتبع سيرته، ولنأخذ أمثلة على ذلك:

1 -

لما سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: «نعم» قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إن قومك قصرت بهم النفقة» قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: «فعل ذلك قومك، ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض

(1)

.

المقصد المراعى: دفع مفسدة التنفير عن الإسلام، ووأد الخلاف، والحفاظ على جماعة المسلمين، فترك النبي صلى الله عليه وسلم إعادة بناء الكعبة على

(1)

أخرجه البخاري (7243)، ومسلم (1333 [405]) من حديث عائشة مرفوعًا.

ص: 136

قواعد إبراهيم، مع رغبته في ذلك، وكونه هو الأكمل

(1)

بلا خلاف، وذلك مراعاةً لنفوس الناس وخشية حدوث ضرر على دينهم بسبب ذلك، ومراعاة لهذا المقصد العظيم.

قال ابن الملقن: وقوله: «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت» : يريد أنهم لقرب عهدهم بالجاهلية فربما أنكرت نفوسهم خراب الكعبة، ونفرت قلوبهم، فيوسوس لهم الشيطان ما يقيض شيئًا في دينهم، وهو كان يريد ائتلافهم وتثبيتهم على الإسلام، وقد بوب عليه البخاري باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا في أشد منه

(2)

.

2 -

لما أراد المسلمون قتل عبد الله بن أبي بن سلول، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»

(3)

.

المقصد المراعى: نشر الدين، وعدم الصد عنه، ووأد الخلاف، والحفاظ على جماعة المسلمين.

(1)

اختلف العلماء في إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم، هل كان واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وأكثر العلماء على عدم وجوبه، والاتفاق على أنه الأكمل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه لواجبٍ أعلى ومقصد أسمى.

(2)

التوضيح شرح الجامع الصحيح لابن الملقن (11/ 302).

(3)

أخرجه البخاري (4905)، ومسلم (2584 [63]) من حديث جابر مرفوعًا.

ص: 137

قال ابن حجر: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين، فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام، ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال:«لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» ، فلما حصل الفتح، ودخل المشركون في الإسلام، وقل أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين، وحملهم على حكم مر الحق، ولاسيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين

(1)

.

(1)

فتح الباري لابن حجر العسقلاني (8/ 336).

ص: 138

‌المسألة الثالثة:

مراعاة الصحابة للمقاصد

فالصحابة رضي الله عنهم هم أول الفقهاء، وأول المفسرين، وأول الأصوليين، وأول المقاصديين، وقُل نحو ذلك في جميع العلوم الإسلامية

(1)

.

ومن استقرأ سير الصحابة رضي الله عنهم، لا يشك قط في أن الصحابة كانوا يراعون المقاصد الشرعية ولا يهملونها.

قال ابن القيم رحمه الله: النوع الأول: رأي أفقه الأمة، وأبر الأمة قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلفًا، وأصحهم قصودًا، وأكملهم فطرةً، وأتمهم إدراكًا، وأصفاهم أذهانًا، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول؛ فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبتهم إلى صحبته؛ والفرق بينهم وبين مَنْ

(1)

محاضرات في مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني تحت عنوان: الصحابة أول المقاصديين (47).

ص: 139

بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل، فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم

(1)

.

ويقول أيضًا: وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها وأتبع له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده، ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعدل عنه إلى غيره البتة

(2)

.

وقال الشاطبي رحمه الله حين خشي أن يُتلَّقى كتابه الموافقات بشيء من الاستغراب وأن ينكر عليه: فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغر الظان أنه شيءٌ ما سمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله، وحسبك من شرٍّ سماعه، ومن كل بدعٍ في الشريعة ابتداعه؛ فلا تلتفت إلى الإشكال دون اختبارٍ، ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبارٍ، فإنه بحمد الله أمرٌ قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار

(3)

.

ويصفهم أيضًا رحمه الله فيقول عنهم: الذين عرفوا مقاصد الشريعة

(1)

إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 63).

(2)

إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 168).

(3)

الموافقات للشاطبي (1/ 13).

ص: 140

فحصلوها، وأسسوا قواعدها وأصلوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها

(1)

.

والأئمة والفقهاء والمجتهدون حين أسسوا الفكر المقاصدي، والأسس المقاصدية كانوا دائمًا يستحضرون فعل الصحابة في نوازل كثيرة

(2)

.

فالمقاصد كانت مدار الاجتهاد في القرون المشهود لها بالخيرية، وكانت تتحقق وظيفتها دون أن تفرد لها التعريفات والتسميات التطبيقية، الأمر الذي نلاحظه عند أي تتبع لاجتهاد الصحابة وسبب اختلافهم في تنزيل الأحكام على محالها

(3)

.

ومن ذلك:

1 -

اجتماع الصحابة رضي الله عنهم في ثقيفة بني ساعدة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لتولية إمام.

عن عمر بن الخطاب قال: قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف

(1)

الموافقات للشاطبي (1/ 7).

(2)

محاضرات في مقاصد الشريعة للريسوني (56).

(3)

من كلمات الأستاذ: عمر عبيد حسنة، في تقديمه لكتاب (الاجتهاد المقاصدي) لنور الدين الخادمي (1/ 21).

ص: 141

عنا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكرٍ، فقلت لأبي بكرٍ: يا أبا بكرٍ انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالى عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجلٌ مزملٌ بين ظهرانيهم. فقلت: من هذا؟

فقالوا: هذا سعد بن عبادة. فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك. فلما جلسنا قليلًا تشهد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهطٌ، وقد دفت دافةٌ من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالةً أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكرٍ، وكنت أدارى منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكرٍ: على رسلك. فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكرٍ فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمةٍ أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها، حتى سكت. فقال: ما ذكرتم فيكم من خيرٍ فأنتم له أهلٌ، ولن يُعرَف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريشٍ، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين

ص: 142

الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي، وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالسٌ بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثمٍ، أحب إلي من أن أتأمر على قومٍ فيهم أبو بكرٍ، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئًا لا أجده الآن. فقال قائلٌ من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، يا معشر قريشٍ. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكرٍ. فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة. فقال قائلٌ منهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمرٍ أقوى من مبايعة أبي بكرٍ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعةٌ أن يبايعوا رجلًا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فسادٌ، فمن بايع رجلًا على غير مشورةٍ من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرةً أن يقتلا

(1)

.

المقصد المراعى: إقامة إمام يقيم للمسلمين أمر دينهم ودنياهم، ووأد الخلاف، والحفاظ على جماعة المسلمين.

(1)

أخرجه البخاري (6830) من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا.

ص: 143

ولما حضرت الوفاة أبا بكر استخلف على المسلمين عمر لهذا الغرض أيضًا -رضي الله عن الجميع-، فصدقت فراسة الصحابة في أبي بكر، وصدقت فراسة أبي بكر في عمر حين اجتهد في العهد بالخلافة من بعده له رضي الله عنه، فلقد قام بالخلافة أتم القيام، حيث كان إمامًا ناصحًا لله ولرسوله ولدين الإسلام، وتابع عمر أبا بكر في هذا المقصد، فجعل الأمر في ستة من أفاضل الصحابة

(1)

، وهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين-.

2 -

جمع القرءان في عهد أبي بكر (الجمع الأول).

فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت: لعمر كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال

(1)

أخرجه البخاري (3700) من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا.

ص: 144

زيد: قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال»

(1)

.

المقصد المراعى: حفظ كتاب الله، وخشية ضياعه بموت القراء.

وكان هذا الجمع عبارة عن نقل القرآن، وكتابته في مصحف مرتب الآيات أيضًا، مقتصرًا فيه على ما لم تنسخ تلاوته مستوثقًا له بالتواتر، والإجماع، وكان الغرض منه تسجيل القرآن، وتقييده بالكتابة مجموعًا مرتبًا خشية ذهاب شيء منه بموت حملته وحفاظه.

3 -

جمع القرآن في المصحف وحرق ما سواه (الجمع الثاني).

عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه، أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في

(1)

أخرجه البخاري (4986) من حديث زيد بن ثابت به.

ص: 145

القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى

(1)

.

المقصد المراعى: حفظ الكتاب من التحريف، ووأد الخلاف، والحفاظ على جماعة المسلمين.

يقول العلامة الزرقاني في «مناهل العرفان» : اتسعت الفتوحات في زمن عثمان واستبحر العمران، وتفرق المسلمون في الأمصار والأقطار، ونبتت ناشئة جديدة كانت بحاجة إلى دراسة القرآن، وطال عهد الناس بالرسول والوحي والتنزيل، وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، فأهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب، وأهل الكوفة يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود، وغيرهم يقرأ بقراءة أبي موسى الأشعري، فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء، ووجوه القراءة بطريقة فتحت باب الشقاق والنزاع في قراءة القرآن أشبه بما كان بين الصحابة قبل أن يعلموا أن القرآن نزل على سبعة أحرف، بل كان هذا الشقاق أشد لبعد عهد هؤلاء بالنبوة وعدم وجود الرسول بينهم يطمئنون إلى حكمه ويصدرون جميعًا عن رأيه، واستفحل الداء حتى كفَّر بعضهم بعضًا، وكادت تكون فتنة في الأرض وفساد كبير، ولم

(1)

أخرجه البخاري (4987) من حديث حذيفة به.

ص: 146

يقف هذا الطغيان عند حد، بل كاد يلفح بناره جميع البلاد الإسلامية، حتى الحجاز، والمدينة، وأصاب الصغار والكبار على سواء.

أخرج ابن أبي داود في «المصاحف» من طريق أبي قلابة أنه قال: لما كانت خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون، فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى كفر بعضهم بعضًا؛ فبلغ ذلك عثمان، فخطب، فقال: أنتم عندي تختلفون فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافًا

(1)

.

وصدق عثمان، فقد كانت الأمصار النائية أشد اختلافًا ونزاعًا من المدينة والحجاز، وكان الذين يسمعون اختلاف القراءات من تلك الأمصار إذا جمعتهم المجامع، أو التقوا على جهاد أعدائهم يعجبون من ذلك، وكانوا يمعنون في التعجب والإنكار كلما سمعوا زيادة في اختلاف طرق أداء القرآن.

وتأدى بهم التعجب إلى الشك والمداجاة، ثم إلى التأثيم والملاحاة، وتيقظت الفتنة التي كادت تطيح فيها الرؤوس، وتسفك الدماء وتقود المسلمين إلى مثل اختلاف اليهود والنصارى في

(1)

أخرجه ابن أبي داود في (المصاحف)(1/ 95) من طريق أبي قلابة لما كان في خلافة عثمان

، ولكن أبو قلابة لم يدرك زمن عثمان.

ص: 147

كتابهم

(1)

.

فائدتان مهمتان مما سبق:

الأولى: وأد الخلاف، والحفاظ على جماعة المسلمين من أسمى المقاصد وأجلها، ومن الواجبات المقدمة في الشرع دائمًا، فمن أجله ترك النبي صلى الله عليه وسلم إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم مع كونه الأكمل بلا خلاف

(2)

، ومن أجله ترك هارون بني إسرائيل على ما هم عليه، وعلل ذلك لموسى قائلًا:{إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)} [طه: 94]، ومن أجله ترك النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين ولم يقتلهم مع كونهم أخطر على الإسلام من الكفار، وعلله بقوله:«لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»

(3)

، وذلك فيه صدٌّ عن الدين وتفرقةٌ لجماعة المسلمين، ومن أجله صلى عبد الله بن مسعود خلف عثمان بن عفان رضي الله عنهما بالإتمام في منى، مع أنه يقول بالقصر وهي السنة، وعلل ذلك قائلًا:«الخلاف شر»

(4)

.

(1)

مناهل العرفان للزرقاني (1/ 256).

(2)

أخرجه البخاري (126)، ومسلم (1333) واللفظ له، من حديث عائشة مرفوعًا.

(3)

أخرجه البخاري (4907)، ومسلم (2584) من حديث جابر مرفوعًا.

(4)

صحيح لطرقه: أخرجه أبو داود (1960)، وغيره، وفيه جهالة، وأخرجه البزار (1641)، وفيه راو ضعيف، وأخرجه أبو يعلى (5377)، وفيه جهالة، كلهم من حديث ابن مسعود به.

ص: 148

فوأد الخلاف والحفاظ على جماعة المسلمين من التفرق والاختلاف مقصدٌ شرعي، وواجبٌ ديني، لا يعادله واجبٌ في الشريعة، فلا تكاد تجد شيئًا يقدم عليه.

الثانية: المقاصد الشرعية هي القاعدة لبناء التشريع بأصوله وفروعه، والأحكام الشرعية، والنظر فيها يكون من خلال مقاصد الشريعة.

ص: 149

‌المسألة الرابعة:

المؤلفون في العصر القديم

•‌

‌ القرن الرابع الهجري:

ألف الحكيم الترمذي كتاب «الصلاة ومقاصدها» يتحدث فيه عن مقاصد الصلاة ويعلل أفعالها، ويجتهد في استنباط حكمها وفوائدها.

وفيه أيضًا ألف أبو بكر الشاشي المعروف بالقفال الكبير كتابه «محاسن الشريعة» .

•‌

‌ سمة هذا العصر:

كانت المؤلفات فيه يغلب عليها الاهتمام بالعلل الجزئية، والتعليلات التفصيلية، والبحث عن حكمها، والتنصيص عليها.

•‌

‌ القرن الخامس:

انتقلت حركة الاهتمام بالمقاصد والكتابة فيها من طور التعليلات الجزئية والتفصيلية، إلى طور التأصيل والتنظير للمقاصد بصفة عامة، وأثمر فيما بعد ما نعرفه اليوم من مقاصد، ومصطلحات، وتقسيمات،

ص: 150

وضروريات خمس

(1)

.

فمثلًا: إمام الحرمين الجويني رحمه الله من الأئمة الذين نظروا وأصلوا وأعطوا مصطلحات وتقسيمات، وأسهموا في تشييد البناء المقاصدي، كالتقسيم الثلاثي للمقاصد «ضروريات، وحاجيات، وتحسينات» ، وله كتابه المشهور «البرهان في أصول الفقه» .

ثم جاء أبو حامد الغزالي امتدادًا لشيخه الجويني، وهو من أقوى المعللين لكافة الأحكام من عبادات ومعاملات، وله كتاب «المستصفى» ، وألف العز بن عبد السلام في كتاب «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» يتحدث فيه عن المصالح والمفاسد، والمفاضلة والترجيح، والتقديم والتأخير بين المصالح والمفاسد.

•‌

‌ القرن الثامن:

جاء الشاطبي رحمه الله فأظهر علم المقاصد وبينه، وهو المؤسس والمنظر له، وجعل له كيانًا مستقلًّا وأفرد له جزءًا كاملًا في كتابه «الموافقات» ، فجمع فيه ما تفرق في غيره، وأخذ ممن سبقوه وطورها وعضدها وقعد لها، كمسألة ترك الشريعة الأمر بما تهواه الأنفس وتشتهيه تعويلًا منها وحوالة على الجبلة والفطرة، وكذلك ما تكرهه

(1)

محاضرات في مقاصد الشريعة للدكتور الريسونى (68).

ص: 151

الجبلات، فإن الشريعة لا تنشغل بإبعاد الناس عنه؛ لأن في الجبلة ما يكفي من الكراهية والنفور منه

(1)

.

وأضاف عليها بعض المباحث أيضا، كموضوع: مقاصد المكلفين

(2)

، وفتح الباب في بيان طرق إثبات المقاصد، وهو مبحث في غاية الأهمية، وقد تناول الكلام فيه في صفحات قليلة في خاتمة كتابه.

ولذا يعتبر الشاطبي هو واضع علم المقاصد ويلقب ب «أبو المقاصد» .

(1)

الموافقات للشاطبي (2/ 305)، وانظر مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور (377). دار القلم (مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانيةٌ).

(2)

الموافقات للشاطبي (2/ 876).

ص: 152

‌المسألة الخامسة:

المؤلفون في العصر الحديث

لما مات الشاطبي ودفن رحمه الله، دفن معه كتابه الموافقات لمدة ستة قرون استمر فيها انحدار المسلمين وتقدم الأوربيين، وفي مطلع القرن الثالث عشر الهجري طبع كتاب الموافقات أولى طبعاته في تونس سنة (1302 هـ)، فكانت هذه الولادة الثانية للكتاب.

وذاع خبر الكتاب وانتشر، وكانت نتيجته أن تلقفه الشيخ محمد عبده، فصار يحث على قراءته ونشره، وكان من أثر ذلك أن قام تلميذه الشيخ عبد الله دراز بنشر الكتاب في مصر، وقام تلميذه الآخر رشيد رضا بنشر كتاب الاعتصام، ومن مصر انتشر الكتابان وشاع تداولهما في الأقطار العربية.

وأما تونس البلد الذي طبع فيها الكتاب أول مرة، فكان التجاوب مع الكتاب كبيرًا جدًّا عند علماء الزيتونة الذين احتفوا بالكتاب أيما احتفاء، فدرَسوه ودرَّسوه وبدأ البحث والتنقيب عن المقاصد، وبدأت المقاصد تأخذ طورًا جديدًا، وفي هذه الأجواء والحقبة الزمنية المهمة في علم المقاصد ظهر عالم جليل هو الشيخ الطاهر بن عاشور، وهو

ص: 153

رائد هذا العلم في العصر الحديث، وهو الذي ذاع وانتشر خبره وصيته، خاصة في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» ، ولا يذكر اسم المقاصد إلا وذكر معه ابن عاشور، حتى إن بعض الباحثين يطلق عليه «أبو المقاصد الثاني» ، وقد تابع الطاهر بن عاشور الشاطبي في مسألة «طرق إثبات المقاصد» ، فالشاطبي جعلها خاتمة كتابه، وابن عاشور جعلها في القسم الأول من الكتاب

(1)

، فرحمة الله على الجميع.

وابن عاشور هو أول من درس كتاب الموافقات، ومقاصد الشريعة في الجامعة، وهذا التدريس استمر عدة سنوات، أفضى به أن تكون له استدراكات وتتمات لعمل الشاطبي

(2)

.

وبعد إبراز ابن عاشور للمقاصد؛ اهتم العلماء بالمقاصد وأعادوا النظر والبحث فيما كتبه العلماء السابقون في المقاصد، وبحثوا ونظروا بأسلوب علمي رصين ومنهجية علمية متأنية فيما كتبه هؤلاء العلماء، فظهرت بحوث ودراسات علمية وأكاديمية تتعلق بعلم المقاصد عند الشاطبي، والعز بن عبد السلام، والقرافي، وابن تيمية، وابن عاشور، وأُفرِد علم المقاصد بالمصنفات والبحوث والرسالات الجامعية مما جعله سهلًا متناولًا، ولله الحمد.

(1)

مقاصد الشريعة (103).

(2)

بتصرف من محاضرات في مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني.

ص: 154

‌المسألة السادسة:

اهتمام شيخ الإسلام ابن تيمية

وتلميذه ابن القيم-رحمهما الله- بالمقاصد:

ابن تيمية رحمه الله من العلماء الذين كشفوا عن مقاصد الشريعة، وأبلوا بلاء حسنًا في الدفاع عنها ومعرفتها وتفصيلها، ولا يكاد يخلو كلام له عن الشريعة، وإبراز مصالحها، ومفاسد مخالفتها، وبيان حكمها ومقاصدها.

فابن تيمية وابن القيم وإن لم يصنفوا في المقاصد، غير أن تصانيفهم تدل على علو شأنهم في ذلك، فهما بدون تردد من رواد هذا المجال، ومن عظمائه وأجلائه.

يقول الأستاذ الدكتور عياض بن نامي السلمي: ثم جاء ابن تيمية أيضًا، فاهتم بالمقاصد اهتمامًا كبيرًا في كتبه جميعًا، واعتنى بها عناية قل أن تجدها عند من في عصره، وهناك رسالة دكتوراه مطبوعة باسم «المقاصد عند ابن تيمية» للدكتور يوسف بدوي، والذي يطلع على هذه الرسالة يجد أن صاحبها قد نقل عن ابن تيمية نصوصًا صريحة في

ص: 155

اهتمامه بالمقاصد، وفي عمله بها مثل قوله: أصل الدين، وأساسه، وعموده، ورأسه المقاصد. كذلك نقل عنه أنه يرى أن العلم بالمقاصد شرط لبلوغ رتبة الاجتهاد

(1)

.

ولغلبة المقاصد على ابن تيمية فتراه مثلًا في شرحه لحديث: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائعٌ، إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ، إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله

(1)

شرح مقاصد الشريعة لعياض السلمي.

ص: 156

ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه»

(1)

.

فيحلله ويشرحه تحليلًا مقاصديًّا، فيقول: فلما ذكر في أول الحديث ما أوجبه من العدل، وحرمه من الظلم على نفسه وعلى عباده، ذكر بعد ذلك إحسانه إلى عباده مع غناه عنهم، وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعةٍ لأنفسهم، ولا دفع مضرةٍ إلا أن يكون هو الميسر لذلك، وأمر العباد أن يسألوه ذلك، وأخبر أنهم لا يقدرون على نفعه ولا ضره مع عظم ما يوصل إليهم من النعماء، ويدفع عنهم البلاء، وجلب المنفعة ودفع المضرة إما أن يكون في الدين أو في الدنيا، فصارت أربعة أقسامٍ: الهداية والمغفرة، وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدين، والطعام والكسوة وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدنيا، وإن شئت قلت: الهداية والمغفرة يتعلقان بالقلب الذي هو ملك البدن، وهو الأصل في الأعمال الإرادية، والطعام والكسوة يتعلقان بالبدن: الطعام لجلب منفعته، واللباس لدفع مضرته. وفتح الأمر بالهداية، فإنها وإن كانت الهداية النافعة هي المتعلقة بالدين، فكل أعمال الناس تابعةٌ لهدي الله إياهم

(2)

.

ويقول الدكتور يوسف البدوي في كتابه «مقاصد الشريعة عند ابن

(1)

أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر مرفوعًا.

(2)

الفتاوى لابن تيمية (18/ 171).

ص: 157

تيمية» في الفصل السادس تحت عنوان: «تأصيل القواعد المقاصدية» : يعتبر هذا الإسهام من أبرز إسهامات ابن تيمية في علم المقاصد، حيث قدم لنا ثروةً كبيرةً وعظيمةً من القواعد المقاصدية، كيف لا وأبو العباس رحمه الله هو صاحب الباع الطويل في استقراء الشريعة وأدلتها وأحكامها ومقاصدها

(1)

.

ثم ذكر صاحب الكتاب خمس عشرة قاعدة مقاصدية انتقاها من كتب ابن تيمية رحمه الله ومنها

(2)

:

1 -

الدين تحصيل الحسنات والمصالح، وتعطيل السيئات والمفاسد.

2 -

الباطل من العبادات ما لم يحصل به مقصوده، ولم يترتب عليه أثره، فلم يكن فيه المنفعة المطلوبة منه.

3 -

المصالح الفرعية مكملة للمصالح الأصلية.

4 -

مبنى الشريعة على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع.

5 -

قصد الشارع من المكلف مخالفة هواه، حتى يكون عبدًا لله طوعًا، كما هو عبدٌ لله كرهًا.

(1)

مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، للدكتور يوسف البدوي (557).

(2)

المصدر السابق (558).

ص: 158

6 -

الشارع لا يأمر إلا بمصالح العباد في المعاش والمعاد.

7 -

إنما أوجب الله الواجبات وحرم المحرمات؛ لما يتضمن ذلك من المصالح لخلقه ودفع المفاسد عنهم.

قال الأستاذ عمر عبيد حسنة: وإن كان الإمام المجدد ابن تيمية رحمه الله هو أحد رواد أو بناة الاجتهاد المقاصدي، وإن لم يفرد له كتابًا أو بحثًا خاصًّا به، حيث كانت له اجتهادات جريئة خالف فيها بعض الفقهاء؛ لأن تطبيق بعض الاجتهادات الفقهية النظرية المجردة السائدة في عصره، والتقليد المذهبي بعيدًا عن واقع الناس، فوَّت كثيرًا من المصالح، وتعارض مع مقصد الشارع في بناء الأسرة والمجتمع، بحيث كانت هناك فجوة تتسع بين بعض اجتهادات الفقهاء وقضايا المجتمع ومصالح العباد، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن اجتهاد الإمام ابن تيمية هو في الحقيقة اجتهاد مقاصدي، وإن استقراء المقاصد عند شيخ الإسلام يحتاج إلى باحثين لإغناء الرؤية الاجتهادية بأصول فقهية مقاصدية على غاية من الأهمية

(1)

.

ومثل شيخه سار ابن القيم رحمه الله، فكلامه يدل على ذلك وعلى اهتمامه بالمقاصد، وله فتاوى تدل على مراعاته لها، فمثلًا: يقول في

(1)

مقدمة كتاب الاجتهاد المقاصدي لنور الدين الخادمي (1/ 36).

ص: 159

«إعلام الموقعين» : فصل: لا بد من اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ.

وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ، وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدًا لها مريدًا لموجباتها، كما أنه لا بد أن يكون قاصدًا للتكلم باللفظ مريدًا له، فلا بد من إرادتين: إرادة التكلم باللفظ اختيارًا، وإرادة موجبه ومقتضاه. بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ؛ فإنه المقصود واللفظ وسيلة، وفي المحلى: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في امرأة قالت لزوجها: سمني، فسماها الظبية، فقالت: لا. فقال لها: ما تريدين أن أسميك؟ قالت: سمني خلية طالق. فقال لها: فأنت خلية طالق. فأتت عمر بن الخطاب، فقالت: إن زوجي طلقني. فجاء زوجها فقص عليه القصة، فأوجع عمر رأسها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها

(1)

.

وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان

(2)

.

مع أن الرجل قد تكلم بالطلاق بلفظين مختلفين، ولكن البحث عن قصده ومراده يبطل هذه الحيل، ولذا سماه ابن القيم «الفقه الحي» .

ويقول أيضًا رحمه الله: إن ما حرم سدًّا للذريعة يباح للحاجة، فلهذا

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في الكبرى (14997)، وأورده ابن حزم في المحلى (9/ 460)، وفيه من لا يعرف.

(2)

إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 55).

ص: 160

كان من فتواه أنه نص على أن من كان في قافلة، ومعه ذهب خام ويريد أن يضربه نقودًا، فله أن يدفعه للصائغ، ويقدر الصائغ كم سيكون من دينار، ويأخذه دنانير وينصرف مع رفقته، فمقصد ابن القيم من ذلك أنه لو انتظر الصائغ حتي يصنع دنانير؛ لأدى ذلك إلى فوات الرفقة، وتعرضه للهلاك، ولقطاع الطرق، ونظر إلى مقصد آخر، وهو أن هذا الشخص لم يكن مقصوده التحايل للوصول إلى الربا، وإنما مقصده أن يأخذ الدنانير مضروبة

(1)

.

وكذلك رد ابن القيم رحمه الله على من لم ير اعتبار المقاصد، فقال: وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ، ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجلٍ قيل له: لا تسلم على صاحب بدعةٍ، فقبل يده ورجله، ولم يسلم عليه. أو قيل له: اذهب فاملأ هذه الجرة، فذهب فملأها ثم تركها على الحوض، وقال: لم تقل: ايتني بها. وكمن قال لوكيله: بع هذه السلعة. فباعها بدرهمٍ، وهي تساوي مائةً، ويلزم من وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع، ويلزم به الموكل، وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضعٍ، وكمن أعطاه رجلٌ ثوبًا، فقال: والله لا ألبسه لما له فيه من المنة، فباعه وأعطاه ثمنه فقبله

(2)

.

(1)

شرح مقاصد الشريعة للدكتور عياض بن نامي السلمي.

(2)

إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 94).

ص: 161

‌المبحث الثالث:

أقسام المقاصد

وفيه أربعة مسائل:

• أولًا: أقسام المقاصد باعتبار جهة صدورها.

• ثانيًا: أقسام المقاصد باعتبار الخطاب والأحكام.

• ثالثًا: أقسام المقاصد باعتبار النظر في الأحكام.

• رابعًا: أقسام المقاصد باعتبار الحاجة إليها.

ص: 162

‌المسألة الأولى:

أقسام المقاصد باعتبار جهة صدورها

تنقسم المقاصد باعتبار جهة صدورها إلى:

1 -

مقاصد الشارع.

2 -

مقاصد المكلف.

وهذا أول تقسيم للمقاصد ذكره الشاطبي رحمه الله في «الموافقات» .

أما الأول وهو مقاصد المكلفين: فهو ما تتجه إليه إرادتنا ونيتنا عند القول والفعل، أي ما يقصده المكلف في سائر تصرفاته، وهذا النوع ليس موضوع البحث، ولكن يكفينا فيه أن نعلم أن الشارع له مقصود من أحكامه، وأمر المكلفين أن يسعوا إلى هذه المقاصد بحيث تكون مقاصدهم موافقة لمقاصد الشارع.

قال الشاطبي رحمه الله في وجوب موافقة قصد المكلف من عمله قصد الشارع: قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل

ص: 163

موافقًا لقصده في التشريع

(1)

.

والنوع الثاني وهو مقاصد الشارع، وهو ما سنتناوله بالتوضيح بإذن الله عز وجل.

(1)

الموافقات للشاطبي (3/ 23).

ص: 164

‌المسألة الثانية:

أقسام المقاصد باعتبار الخطاب والأحكام

تنقسم المقاصد باعتبار الخطاب والأحكام إلى:

1 -

مقصود الخطاب «النص» .

2 -

مقصود الأحكام.

‌أولًا: مقصود الخطاب:

ويعبر عنه أحيانًا بمراد الشارع من النص قرآنا أو سنة، أي ما الذي أراده الله من خطابه؟ ماذا قصد من هذا النص، ومن هذه العبارة؟ ومن هذه الآية والحديث؟ ما المعنى المقصود والحكم المقصود؟

(1)

.

فالأصل في الألفاظ أن تحمل على ظاهرها دون تأويل، ويستعمل هذا الاصطلاح «مقصود الخطاب» غالبًا عندما يتوارد على النص الشرعي معنيان: أحدهما غير مقصود، والثاني هو المقصود، وقد يكون الأول هو المتبادر إلى الفهم عند قراءة النص لأول وهلة، ولكن بشيء

(1)

محاضرات في مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني (9).

ص: 165

من التأمل والتدبر وإعمال القرائن التفسيرية يتبين لنا المقصود والمراد، فيقال حينئذٍ: مقصود الشارع من خطابه كذا.

ولبيان هذا الأمر فلا بد أن تعلم أن النص الشرعي عادةً يتجاذبه اتجاهان: أحدهما يقف عند حرفية الألفاظ دون النظر إلى مقاصد الشريعة ومراميها، مكتفيًا بما يعطيه ظاهرها

(1)

، واتجاه آخر يتحرى مقاصد الخطاب ومراميه، ويستند هذا الاتجاه إلى التسليم العام بكون الشريعة ذات مقاصد وحكم مرعية في عامة أحكامها

(2)

.

وستأتي الأمثلة على ذلك -إن شاء الله-.

•‌

‌ أهمية معرفة مقاصد الخطاب

(3)

:

مقاصد الخطاب وإن لم تكن موضوعنا، إلا أنه يجدر التنبيه عليها والاهتمام بها، فالخطاب العربي فيه مرونة وسعة وتفنن بخلاف غيره من سائر اللغات، ويفسح مجالًا للمتلقي لإعمال الذهن والفكر، فقد يستعمل اللفظ ويراد به غير ظاهره، وقد يستعمل ويراد به غير حقيقته، وقد يراد الشيء ولا يصرح به، وإنما يشار إليه ويكنى، وقد يذكر الشيء بلازمه لا بذاته، وقد يتكلم العربي ببعض الكلمات ويترك لك البعض

(1)

مدخل إلى مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني.

(2)

المصدر السابق.

(3)

محاضرات في مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني بتصرف (10) وما بعدها.

ص: 166

لتفهمه من تلقاء نفسك، بل إن العرب كانت تستعمل اللفظ وتريد به ضده، ومن هنا تظهر أهمية معرفة مراد الشارع ومقصوده من كلامه، فالتقصير في فهمه والزيادة عليه يفسد الفهم من بدايته، فآخذ الأمور ببادئ الرأي وببادئ النظر وبالخواطر الأولى، دون النظر في القرائن الأخرى وإعمال الفكر فيها، عادة لا ينجو من الزيادة في المعنى، والنقصان منه.

ولو كانت الألفاظ وحدها كافية لفهم المراد من المتكلم، لما كان أي معنى للتفقه في الدين:«من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»

(1)

، ولما كان هناك معنى لقوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

فلماذا يحتاج إلى التدبر لو كانت الألفاظ التي ألقيت إلينا حصل بها المعنى؟ ففهم المراد من الألفاظ في أحيان كثيرة يحتاج إلى تدبر وتأمل، وجمع النصوص في الباب الواحد؛ حتى يفهم المعنى ولا يزاد عليه ولا ينقص.

أمثلة:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران:

(1)

أخرجه البخاري (4907)، ومسلم (2584) من حديث جابر مرفوعًا.

ص: 167

130].

ما معنى أكل الربا؟ هل المقصود هو الأكل المعروف؟ فإذا ما وقفنا عند مجرد الألفاظ، فالربا لا يؤكل وغير قابل للأكل، إذن فالمعنى المتداول للأكل غير مقصود في هذا النص، بمعنى أن قوله تعالى:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] ليست كعبارة: لا تأكلوا الخنزير مثلًا.

فمعنى الآية: لا تنفقوا على أكلكم الأموال المحصلة من الربا. ولو وقفنا عند هذا الحد؛ لصح أن يقال: إن سوى الأكل لا تشمله الآية، كالإنفاق من أجل اللبس مثلًا، أو التنزه، أو السكن وغير ذلك، ولا شك أن مقصود الشارع من خطابه هو تحريم الربا بكل صور استعماله، فالتحريم للربا بكل معانيه، وليس من أجل الأكل فقط، ولكن عبر بالأكل؛ لأن المآل هو الأكل، والغرض الأشهر والأكثر هو الأكل، قال القرطبي: يأكلون يأخذون، فعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأخذ إنما يراد للأكل

(1)

.

فالآية تشمل من تعامل بالربا ولو لم يأكل منه أو ينفق درهمًا، وكل هذا يعرف بالتدبر وبالنظر في النصوص الأخرى ذات الصلة، كقوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

تفسير القرطبي (3/ 348).

ص: 168

«لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهده، وكاتبه»

(1)

.

2 -

قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وقوله جل شأنه:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23].

ما المقصود بتحريم الميتة؟ هل لمسها، أو النظر إليها، أو أكلها، أو الانتفاع بشيء منها، أو حيازتها؟

وما المقصود بتحريم الأمهات؟ هل اللمس، أم المحادثة، أم النظر، أم النكاح؟ فعبارة التحريم في الآيتين واحدة، فهل مضمون التحريم واحد؟ وهل التحريم على الإطلاق؟

والجواب الشافي يكون في البحث فيما وراء اللفظ، وفيما حواليه، وما يتصل به من معان أخرى وتفعيل القواعد الشرعية، فالله أعطاك نصًّا، وأعطاك معه نصوصًا أخرى، وأعطاك عقلًا وفكرًا.

فنقول: مقصود الشارع من تحريم الميتة هو تحريم أكلها، ومقصوده من تحريم الأمهات هو تحريم النكاح، وعلم ذلك بالقاعدة الأصولية التي تقول: إذا علق الحكم بعينٍ رجع عرفًا لما أعدت له هذه العين. فالحلال والحرام لا يتعلقان بذوات إنما يتعلقان بأفعال مرتبطة

(1)

أخرجه مسلم (1598) من حديث جابر مرفوعًا.

ص: 169

بتلك الذوات

(1)

.

وهذا ما أشار إليه الطاهر بن عاشور رحمه الله فقال: وإضافة التحريم إلى ذات الميتة وما عطف عليها هو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، ومحمله على تحريم ما يقصد من تلك العين باعتبار نوعها نحو:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، أو باعتبار المقام نحو:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. فيقدر في جميع ذلك مضاف يدل عليه السياق، أو يقال: أقيم اسم الذات مقام الفعل المقصود منها للمبالغة، فإذا تعين ما تقصد له قصر التحريم والتحليل على ذلك، وإلا عمم احتياطًا، فنحو:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، متعين لحرمة تزوجهن، وما هو من توابع ذلك كما اقتضاه السياق، فلا يخطر بالبال أن يحرم تقبيلهن أو محادثتهن

(2)

.

3 -

قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103].

فالوقوف مع اللفظ دون غيره يقتضي تكليف للنبي صلى الله عليه وسلم بأخذ قدرٍ غير محدد من أموال الناس، ولكن بالنظر للقرائن التفسيرية، وجمع النصوص، وتعميل القواعد الأصولية، وبشيء من التأمل والتدبر؛ يتبين

(1)

الإعلام في أصول الأحكام للمؤلف (29).

(2)

التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور (173).

ص: 170

لنا: أن الخطاب موجه لعموم المسلمين، وبخاصة ولاة الأمور، وأن الأموال لها صفة مخصوصة، والقدر الذي سيؤخذ منهم مخصوص على سبيل الوجوب، والفئة التي ستعطي والتي ستأخذ فئة مخصوصة، فهذا هو معنى مقصود الخطاب.

4 -

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه»

(1)

.

فلو نظرنا إلى مجرد ظاهر الألفاظ واكتفينا بما تعطيه من أحكام، وتجاهلنا غاية الشارع ومراميه، لقلنا: إن إفراغ البول عن طريق الشاحنات، أو عن طريق قارورة مثلًا لا يشمله النهي، وأنه يجوز لغيره أن يغتسل في هذا الماء، ويجوز أن يتغوط في الماء ثم يغتسل منه، فمعظم هذه المعاني لا يشملها النص الملفوظ، فهل يقال: بأن هذا مقصود الشارع من خطابه؟ قطعًا لا، فهذا ينافي تمامًا حكمة الباري جل وعلا، وتأباه الفطرة والعقل، فأي عقل وأي شرع يحرم البول المباشر في الماء الراكد وإن كانت قطرات، ثم يبيح وضع أضعافها من البول؛ لأنها وصلت بطريق غير مباشر؟

(2)

.

ومثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأضحية بالعوراء، فهل تجوز العمياء؟

(1)

أخرجه البخاري (239)، ومسلم (282) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

(2)

الإعلام في أصول الأحكام للمؤلف (129).

ص: 171

قطعًا لا يجوز، بل هو من باب أولى؛ لأن تحريم الأدنى دليل على تحريم الأعلى

(1)

.

فلو أخذت هذه الألفاظ مجردة عن معانيها دون النظر والتدبر؛ لخرجت الأحكام بعيدة كل البعد عن مقصود الشارع.

بل حتى ألفاظ الخطاب الدنيوي لا بد فيها من مراعاة القصود والغايات

فمثلًا: لو اجتمعت الأسرة على الطعام وقال الوالد لولده: املأ لي كوبًا من الماء. فملأه الولد ولم يحضره؛ لأنه أخذ باللفظ المجرد عن المعنى والقصد، لو فعل الولد ذلك لكان مقصرًا مستحقًا للعتاب، إذ ليس هذا المقصود، إنما مقصود والده أن يملأه ويحضره له ليشرب، وهذا يفهم بالنظر لحالهم وهم على الطعام.

وابن القيم رحمه الله يقسم الناس في تعاملهم مع النصوص الشرعية إلى قسمين: قسمٌ يسأل: «ماذا قال» ، وقسمٌ يسأل:«ماذا أراد» .

فقال رحمه الله: وهذا أمر يعم أهل الحق والباطل، لا يمكن دفعه، فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة، والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة، فإذا دُعِي إلى غداء فقال: والله لا أتغدى. أو قيل

(1)

المصدر السابق (130).

ص: 172

له: نم. فقال: والله لا أنام. أو: اشرب هذا الماء. فقال: والله لا أشرب. فهذه كلها ألفاظ عامة نقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي العام إلى آخر العمر، والألفاظ ليست تعبدية، والعارف يقول: ماذا أراد؟ واللفظي يقول: ماذا قال؟ كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78]، فذم من لم يفقه كلامه»

(1)

.

فختامًا نقول: مقصود الشارع من خطابه، وإن لم يكن موضوع البحث والشرح، إلا أنه لا يمكن إغفاله، فقد يجعلنا نتكلم عن أحكامٍ ومقاصد ليست مقصودة من خطاب الشارع، فالبحث عن مقاصد الشارع في أحكامه لا يستقيم إلا بعد معرفة مقصود الشارع من خطابه، فهو الذي سيُبني عليه، ومن هنا تتجلى أهميته، وبهذا تدرك سبب جعل بعض العلماء الظاهرية في منزلة العوام، وقالوا: إن الإجماع لا يتوقف عليهم، لكونهم أهملوا النظر في مقاصد الخطاب، واكتفوا بظواهر الألفاظ دون مراعاة المعاني والقصود.

(1)

إعلام الموقعين لابن القيم (2/ 385).

ص: 173

وأما مقاصد الأحكام فهي

(1)

: الغايات والفوائد والمصالح التي تتحقق من العمل بمقتضى هذه الأحكام، فبعد إدراك ما أراده الشارع من خطابه «مقصود الخطاب» يجيء معرفة الغايات التي يرمي إلى تحقيقها، والفوائد التي تترتب على العمل به، والمصالح التي قصدها الشارع بوضع التشريع.

فحينما نأخذ نصًّا من نصوص الشرع، فأول خطوة في البحث عن المقاصد، هي البحث عن مقصود الكلمة: ماذا أريد بها؟ هل هو هذا المعنى الحرفي الظاهر؟ هل هو المعنى الثاني؟ هل هو المعنى المجازي؟ هل هو المعنى البعيد؟ أم المتبادر القريب؟

(2)

، فهذه الخطوة الأولى، ثم إذا أدركنا قصد الشارع ومراده من خطابه واستخرجنا الحكم الشرعي المقصود من هذا الخطاب، تأتي الخطوة الثانية وهي البحث عن مقصود الشارع ومراده من هذا الحكم الذي استخرجناه.

أمثلة:

في مثال الربا المتقدم، قلنا: إن مقصود الشارع في خطابه النهي عن الربا بكل صوره ومعانيه، أما مقاصد الأحكام هو أن نتساءل: لماذا حرم

(1)

سبق ذكر تعريفها عند الحديث عن المبادئ العشرة.

(2)

محاضرات في مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني (10).

ص: 174

الله الربا

(1)

؟ ما الحكمة والغاية من تحريم الربا؟ ما الثمرة والفائدة في تحريم الربا؟ ما المصلحة المجلوبة وما المفسدة المدفوعة من تحريم الربا؟ ما السر والمغزى من تحريم الربا؟ ما هي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية من تحريم الربا؟ وكذلك نفس الأسئلة في تحريم الميتة، ونكاح الأمهات.

فالإجابة عن ذلك: مقاصد الأحكام.

وفي المثال الثاني في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، تبين لنا بالنظر للقرائن التفسيرية وبشيء من التأمل والتدبر؛ أن الخطاب موجه للمسلمين، وبخاصة ولاة الأمور، وأن الأموال لها صفة مخصوصة، والقدر الذي سيؤخذ منهم مخصوص على سبيل الوجوب، فهذا مقصود الخطاب كما سبق.

فإن قيل: لِمَ يؤخذ هذا المال من الأغنياء؟ ولماذا تدفع إلى أصناف بأعينهم؟ ولماذا هذا القدر دون غيره؟ وما الغاية من ذلك؟ وما الأبعاد الاجتماعية والنفع الذي يعود على الأمة بذلك؟.

فالجواب على هذه الأسئلة وجنسها يتضمن بيان مقاصد الأحكام، فتكون بمعنى الفوائد والغايات المتوخاة من وراء العمل بالأحكام،

(1)

السؤال هنا ليس استنكارًا أو اعتراضًا -حاشا لله-، بل لإدراك حكمة الله من تشريعه.

ص: 175

وهو ما يقصده العلماء عند الحديث عن مقاصد الشريعة

(1)

.

مثال آخر: قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].

فلو تساءلنا وقلنا: ما الحكمة والسر والمقصد من تحريمها؟ أمن أجل قذارتها؟ أم نجاستها؟ أم لنتنهاوعفونتها؟ أم لضررها الصحي؟ أم لشيء آخر؟

فالجواب عن هذه الأسئلة هو ما نعنيه بمقاصد الشريعة.

قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، عرفنا أن هذا هو الخلع، وأنه يكون في حالات وله شروط، فيأتي بعد ذلك البحث المقاصدي: هل له حكمة؟ هل له فائدة للمرأة أم للرجل أم للاثنين معًا؟ ما المفسدة التي يدفعها والمصلحة التي يجلبها؟ فهذا هو البحث المقاصدي عن أحكام الشريعة.

وفي نهي الشريعة عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها، والجمع بين الأختين؛ يظهر لنا جليًّا مقصود الشارع العظيم من درأ المفاسد، والوحشة، وقطع الأرحام.

(1)

المدخل للريسوني بتصرف.

ص: 176

‌المسألة الثالثة:

أقسام المقاصد باعتبار النظر للأحكام

(1)

تنقسم المقاصد باعتبار النظر للأحكام إلى: عامة، وخاصة، وجزئية.

1 -

المقاصد العامة (في كل أبواب الشريعة أو معظمها):

هي المعاني والحكم الملحوظة في جميع أحوال التشريع، أو معظمها، كحفظ الضروريات الخمس، ورفع الحرج، ودفع الضرر، وإقامة العدل، وإخراج العبد من داعية هواه إلى عبادة الله.

وحتى نستطيع القول بأن هذا المقصد من مقاصد الشريعة العامة، فلا بد من توافر بعض الشروط فيها، وهي: أن تكون ثابتة ظاهرة منضبطة مطردة

(2)

.

(1)

بالنظر إلى أحكام الشريعة كلها نكون أمام المقاصد الإجمالية (العامة)، وبالنظر إلى بضعة جوانب منها نكون أمام المقاصد الخاصة، وبالنظر إلى كل حكم على حدته نكون أمام المقاصد الجزئية.

(2)

هذه الشروط ذكرها الطاهر بن عاشور رحمه الله في كتابه مقاصد الشريعة (209).

ص: 177

والمراد بالثبوت: أن تكون تلك المعاني مجزومًا بتحقيقها، أو مظنونًا ظنًّا قريبًا من الجزم.

والمراد بالظهور: الاتضاح، بحيث لا يختلف الفقهاء في تشخيص المعنى، ولا يلتبس على معظمهم.

والمراد بالانضباط: أن يكون للمعنى حد معتبر لا يتجاوزه، ولا يقصر عنه.

والمراد بالاطراد: أن لا يكون المعنى مختلفًا باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار.

2 -

المقاصد الخاصة (في باب من أبواب الشريعة):

هي التي تكون في باب من أبواب التشريع، أو في جملة من أبواب متجانسة ومتقاربة، كالتي تكون في العقوبات، أو المعاملات المالية، أو نظام الأسرة، أو القضاء، أو غيرها.

ومعرفتها غالبًا تكون أيسر من معرفة المقاصد العامة لحصرها، ولاختصاصها بموضوع واحد.

3 -

المقاصد الجزئية (في كل حكم جزئي):

هي التي راعاها الشرع عند كل حكم على حدته، كالإشهاد في المعاملات حفظًا للحقوق، والنهي عن الجمع بين الأختين، أو بين

ص: 178

البنت وعمتها أوخالتها حفاظًا على صلة الرحم، ودرءًا للقطيعة.

•‌

‌ فائدة:

العبودية هي مقصد المقاصد، وغاية الغايات، وكل المقاصد الكلية والجزئية تدور في فلكها.

قال الشاطبي رحمه الله: المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبدٌ لله اضطرارًا

(1)

.

العلاقة بين الأنواع الثلاثة

(2)

:

هي علاقة تكاملية، فلا يمكن إدراك المقاصد الكلية إلا من خلال معرفة المقاصد الخاصة، ولا تدرك المقاصد الخاصة إلا من خلال المقاصد الجزئية، فالعامة تتكون من الخاصة، والخاصة تتكون من الجزئية.

(1)

الموافقات للشاطبي (2/ 289).

(2)

بداية القاصد د. مسعود صبري.

ص: 179

‌المسألة الرابعة:

أقسام المقاصد باعتبار الحاجة إليها

تنقسم المقاصد باعتبار الحاجة إليها إلى ثلاثة أقسام

(1)

: مقاصد ضرورية، ومقاصد حاجية، ومقاصد تحسينية.

•‌

‌ الضروريات:

هي التي تتوقف عليها حياة الناس فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت اختل نظام الحياة في الدنيا، وحل العقاب في الآخرة

(2)

.

فبعد تتبع واستقراء طويلين، انتهى العلماء إلى ملاحظة أن مقاصد الشريعة ومصالحها الكبرى التي تدور حولها معظم أحكامها أو كلها، تجتمع في مصالح خمسٍ سموها: الضروريات الخمس. وسماها بعضهم: الأصول الخمس، والكليات الخمس. ولعل أول من ذكرها واضحة كاملة هو الإمام الغزالي

(3)

، وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل، قال الغزالي رحمه الله: ومقصود الشرع من

(1)

وقد قسمها الطاهر بن عاشور إلى هذا التقسيم باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة، انظر كتابه (267)، والبعض يقسمها باعتبار المصالح التي جاءت بحفظها.

(2)

بداية القاصد إلى علم المقاصد للدكتور مسعود صبري (52).

(3)

مدخل إلى مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني (85).

ص: 180

الخلق خمسةٌ: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحةٌ، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدةٌ، ودفعها مصلحةٌ

(1)

.

بل ذهب الشاطبي رحمه الله أن هذا مما اتفقت عليه كل الشرائع، فقال: فقد اتفقت الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس -وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل- وعلمها عند الأمة كالضروري

(2)

.

وقال الغزالي: وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملةٌ من الملل، وشريعةٌ من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق

(3)

.

قال في المراقي:

فحفظها حتم على الإنسان

في كل شرعة من الأديان

(4)

وقال الجزائري

(5)

:

قد أجمع الأنبيا والرسل قاطبة

على الديانة بالتوحيد في الملل

(1)

المستصفى للغزالي (1/ 174).

(2)

الموافقات للشاطبي (1/ 31).

(3)

المستصفى للغزالي (1/ 174).

(4)

مراقي السعود (2/ 179).

(5)

المصدر السابق.

ص: 181

وحفظ نفس ومال معهما نسب

وحفظ عقل وعرض

(1)

غير مبتذل

الأدلة عليها:

مستند العلماء في ذلك هو تتبع واستقراء أحكام الشريعة، غير أن هناك نصوصًا نبهت عليها ودلت عليها بالإشارة، قال ابن عاشور رحمه الله: وقد علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع، لا بدليل واحد، وأصل واحد معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر

(2)

.

ومن هذه الأدلة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)} [الممتحنة: 12].

فقوله تعالى: {عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] إشارة إلى حفظ الدين وأنه في المقدمة.

وقوله: {وَلَا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة: 12] إشارة إلى حفظ المال.

وقوله جل شأنه: {وَلَا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] إشارة إلى حفظ العرض.

(1)

البعض يقول حفظ النسب، وبعضهم يقول النسل، وبعضهم يقول البضع.

(2)

مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور (269).

ص: 182

وقوله جل وعز: {وَلَا يَقْتُلْنَ} [الممتحنة: 12] إشارة إلى حفظ النفس.

وبقي من الضروريات الخمس العقل، فهو يدخل ضمنًا في حفظ النفس؛ لأنه جزء منها وليس كيانًا مستقلًّا، ولأنه شرط في حفظ الأربعة، وقد بايع المسلمون رجالًا ونساءً رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الكليات.

فعن عبادة بن الصامت، وكان من الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أصحابه ليلة العقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه «تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا؛ فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله؛ فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه» ، قال: فبايعته على ذلك

(1)

.

وقد جاء أيضًا التنصيص عليها متفرقًا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا

(1)

أخرجه البخاري (3892)، ومسلم (1709)، واللفظ للبخاري، من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا.

ص: 183

يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} [الإسراء: 26]، {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141]، {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام: 152]، {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام: 151]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} [البقرة: 73].

وعن ابن مسعود- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»

(1)

.

وعنه رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك» . قلت: إن ذلك لعظيم. قلت: ثم أي؟ قال: «وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك» ، قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»

(2)

.

ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى شرع ما يوصل إليها «الكليات الخمس» ونهى عما يضادها

(3)

، فأمر الله بالعبادات على نحو ما بينه

(1)

أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676)، واللفظ له، من حديث ابن مسعود مرفوعًا.

(2)

أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86) من حديث ابن مسعود مرفوعًا.

(3)

هذا ما يسميه العلماء بالحفظ من جانب الوجود، والحفظ من جانب العدم.

ص: 184

رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل العبادات توقيفية، ونهى عن الابتداع في الدين، وجعله ردًّا على صاحبه، وذلك لحفظ الدين

(1)

.

وأوجب تناول ما تقوم به الحياة من طعام وشراب وغيره، وحرم المسكرات والمخدرات، وتبني الأفكار الهدامة لحفظ النفس والعقل.

وشرع الزواج، وحث عليه، ورتب عليه الأجر، وحرم الزنا، وتوعد فاعله، وحرم تأجير الأرحام لحفظ النسل.

وأباح البيع، وحرم الربا، والغرر، وأوجب الزكاة، وندب إلى الصدقة عمومًا، وجعلها تزكية للنفس والمال، وحرم السرقة، وقطع الطريق لحفظ المال.

بل ورتبت الشريعة أشد العقوبات على انتهاكها، وهي الحدود: حد الردة، وحد الزنى، وحد السكر، والقصاص.

فائدة: ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاث متتابعة: الشرك، والزنا، وقتل النفس، ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة، الجريمة الأولى قتل للفطرة، والثانية جريمة قتل للجماعة، والثالثة جريمة قتل للنفس المفردة، إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة، والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة،

(1)

حفظ الدين هو أهم المقاصد ولبها، ومنه يتفرع غيره، ولا يستقيم إلا به.

ص: 185

منتهية حتمًا إلى الدمار، والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات مجتمع مهدد بالدمار، ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات؛ لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار

(1)

.

المقصود بحفظ الضروريات:

المقصود هو إيجادها، وصيانتها في حدها الأدنى الذي لا تقوم ولا تدوم إلا به، أما التوسع بما يزيد على الحد الضروري فيدخل في الحاجيات والتحسينات

(2)

.

كيفية حفظها:

حفظ هذه الضروريات يكون بأمرين:

أحدهما: ما يقيم أصل وجودها.

والثاني: ما يدفع عنها الاختلال الذي يعرض لها.

وهو ما سماه العلماء في الأول بالحفظ من جهة الوجود، وفي الثاني بالحفظ من جهة العدم.

قال الشاطبي: والحفظ لها يكون بأمرين: ما يقيم أركانها ويثبت

(1)

في ظلال القرآن لسيد قطب (3/ 1231).

(2)

مدخل إلى مقاصد الشريعة للدكتور للريسوني (92).

ص: 186

قواعدها، وذلك عبارةٌ عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارةٌ عن مراعاتها من جانب العدم

(1)

.

•‌

‌ أولًا: حفظ الدين

(2)

:

وهي الضرورة العظمى التي لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وهي التي لأجلها ابتلى الله أحب الخلق إليه وهم أنبياؤه ورسله، وشرع سبحانه شرائع خاصة لحماية هذا الدين وحفظه

(3)

.

ولا شك أن حفظه مقدم على غيره، فهو لب المقاصد وروحها، ولا قيام لها إلا به، وبضياعه تضيع المقاصد الأخرى، فإذا فسد الدين اغتيلت النفوس، وانتهكت الأعراض، وسرقت الأموال، فتضيع وتفسد المقاصد بفساده وتنصلح بصلاحه، فهو كالمضغة بالنسبة للجسد، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، فاللهم احفظ

(1)

الموافقات للشاطبي (2/ 18).

(2)

لا يخفى عليك أن الدين المقصود هو الإسلام المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وما عداه فباطل.

(3)

الرسالة الندية في القواعد الفقهية للمؤلف (25).

ص: 187

علينا ديننا

(1)

.

قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، فهذه الآية تشير إلى أن اتباع الأهواء يلزم منه الفساد، وذلك لأن أهواء الناس تختلف وتتضاد ومصالحهم تتعارض، فإذا لم يكن هناك دين يضبط المصالح وينظم الحياة فإن كل شخص سيفعل ما يراه مصلحة له بحسب ما يمليه عليه هواه، فيحصل الاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض والأنساب

(2)

، وقد شبه الله سبحانه من فقدوا الدين، ولم يستنيروا بنوره كالأموات، فقال:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122]، فشبه الإنسان قبل إيمانه بالميت، وشبه الكفر بالظلمات لكون صاحبه يتخبط بغير هدى، فالناس بغير الدين ليسوا على شيء، كما قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى

(1)

وها أنت ترى بعينك من فسد دينه قد يسرق ويزني ويقتل، ثم يتحايل الناس على القوانين الوضعية، إذ لا هَمَّ لهم إلا النجاة من العقوبة الدنيوية.

(2)

مقاصد الشريعة الإسلامية للدكتور محمد سعد اليوبي (203).

ص: 188

الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68]

(1)

.

وهذا هو الذي فهمه الغلام في قصة أصحاب الأخدود حين أرسله الملك مع جنده ليقتلوه، فنجا فصار بين واجبين وضرورتين: حفظ النفس، وحفظ الدين. فإما أن ينجو بنفسه ويحافظ عليها من الهلاك، وإما أن يقدم واجب الدعوة إلى الله ويذهب مرة أخرى ليدعو الملك وأتباعه، فقدم الواجب الأعلى وهو الدعوة إلى الله وحفظ الدين، ومن أجله شرع الله الهجرة من بلاد الكفار لبلاد المسلمين.

ومثله في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80 - 81].

قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: وأما تصرفه في قتل الغلام فتصرف بوحي من الله جارٍ على قطع فساد خاص علمه الله، وأعلم به الخضر بالوحي، وأراد الله اللطف بأبويه بحفظ إيمانهما وسلامة العالم من هذا الطاغي، لطفًا أراده الله خارقًا للعادة جاريًا على مقتضى سبق علمه، ففي هذا مصلحة للدين بحفظ أتباعه من الكفر، وهو مصلحة خاصة فيها حفظ الدين

(2)

.

(1)

مقاصد الشريعة الإسلامية للدكتور محمد سعد اليوبي (187).

(2)

التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (16/ 13).

ص: 189

فحفظ الدين مقدمٌ ولا ريب، فلا يبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى.

الله تعالى تكفل بحفظ الدين وشرع الوسائل لحفظه:

ومما ينبغي الإشارة إليه أن الله تكفل بحفظ الدين قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، وقال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

قال ابن كثير رحمه الله: هذه أكبر نعم الله عز وجل على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]: أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم

(1)

.

ومع ذلك شرع الله الوسائل لحفظ دينه

(2)

، وحثت عليها الشريعة

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 26).

(2)

وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.

ص: 190

ورغبت فيها، ووعد الله من صبر وتمسك بدينه، مع شدة الفتن والابتلاء بأن آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فجمعوا بين خيري الدنيا والآخرة، فقال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148]

(1)

، فجعل الله أمامهم القدوة، وعلمهم كيف يثبتون في الابتلاء والمحن بالدعاء والاستغفار، وختم الآيات بالجزاء، وهو ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وأعظمه رضا الله ومحبته.

•‌

‌ كيفية حفظ الدين:

حفظ الدين يكون من جانب الوجود ومن جانب العدم، ويكون حفظه على مستوى الأفراد، ولعموم الأمة، فحفظ الدين بالنسبة لعموم الأمة، أي دفع كل ما شأنه أن ينقض أصول الدين القطعية، ويدخل في ذلك حماية البيضة، والذب عن الحوزة الإسلامية بإبقاء وسائل تلقي الدين من الأمة حاضرها وآتيها

(2)

.

(1)

الرسالة الندية للمؤلف (26).

(2)

مقاصد الشريعة للطاهر ابن عاشور (271).

ص: 191

•‌

‌ حفظ الدين من جانب الوجود:

وذلك يكون بالمحافظة على ما يقيم أركانه ويثبت قواعده، والمحافظة على ما به قيامه وثباته ومن ذلك: العمل به، والحكم به، والدعوة إليه، والجهاد من أجله

(1)

.

إن أي مبدأ من المبادئ مهما سمت معانيه وقويت حججه وبراهينه، وحسنت صياغة نصوصه لا يكون له أثره الفعال ما دام غير مطبق عملًا في واقع الحياة، وإن النصوص التي تضمنته لتنسى ولو حفظت، وإن معانيه لتضيع مهما فهمت

(2)

، فأعظم ما ينفع الناس مسلمين وكافرين، العمل بالإسلام وإقامته كمنهج حياة، فيحفظ الدين من جانب الوجود فلا يكون عملًا إلا به، ولا حكمًا إلا له، ولا تكون دعوة إلا به وإليه، ولا جهادًا إلا من أجله.

(1)

ويصلح الجهاد أن يوضع تحت الحفظ من جانب العدم بالنظر إلى جهاد الدفع.

(2)

الإسلام وضرورات الحياة لعبد الله بن أحمد قادري (1/ 27).

ص: 192

•‌

‌ حفظ الدين من جانب العدم:

وذلك بدرء الفساد الواقع أو المتوقع عليه، ويكون أيضًا برد كل ما يخالفه من أقوال، وأفعال، واعتقاد، وما يطرأ عليه من أمور تفسده وتذهب به، فترك الأقوال الفاسدة والمذاهب المنحرفة والمعتقدات الباطلة التي تتسرب إلى عقول المسلمين؛ لأن فيها ضياعًا للدين، وهذه مهمة الأمة جميعًا، جماعات وفرادى، علماء وعوام، حكامًا ومحكومين، وقد قيد الله في كل عصر ومصر من يذب عن شرعه ودينه.

قال أبو العباس رحمه الله: فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه؛ كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين، ولهذا قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159]، فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها فلعنهم اللاعنون حتى البهائم، كما أن معلم الخير يصلي عليه الله، وملائكته، ويستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في جوف البحر، والطير في جو السماء

(1)

.

وجعل الله من وسائل حفظ هذا الدين أن اختار من خلقه حرَّاسًا

(1)

مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/ 187).

ص: 193

لهذا الدين، وعلماء أفذاذًا قاموا بحفظ حماه وحرسوا مداخله، فلم يدخله التحريف والتغيير، فكانوا للمفسدين والمحرفين بالمرصاد.

ومما ذكره العلماء رحمهم الله من أولى أوليات الحاكم المقدمة هي حفظ الدين.

وهذا ما فهمه الصديق والصحابة رضي الله عنهم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام مقام النبي صلى الله عليه وسلم الصدِّيقُ رضي الله عنه وأرضاه- في إقامة الحق، وحفظ الدين، وصيانة أهله، فقاتل من ارتد من العرب موفقًا رشيدًا، وانتظم به ما كان منتشرًا بعد قبض نبيه صلى الله عليه وسلم.

قال الماوردي: والذي يلزمه -أي الحاكم- من الأمور العامة عشرة أشياء:

أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدعٌ أو زاغ ذو شبهةٍ عنه أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خللٍ، والأمة ممنوعةً من زللٍ

(1)

.

ومن أجل حفظ الدين هذه الغاية الكبرى قال صلى الله عليه وسلم «إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصرأحدكم امرأة فليأت

(1)

الأحكام السلطانية للماوردي (1/ 40).

ص: 194

أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه»

(1)

.

وقال «إذا الرجل دعا زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت على التنور»

(2)

.

كل ذلك من أجل حفظ الدين، لئلا يغلب على الإنسان داعي الشيطان والهوى.

•‌

‌ ثانيًا: حفظ النفس:

والمقصود بحفظ النفس حفظ الأرواح من التلف أفرادًا وعمومًا

(3)

، والمقصود بالأنفس التي عنيت الشريعة بحفظها هي الأنفس المحترمة في نظر الشريعة، وهي المعصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان، فقتل النفس المعصومة مستقبح في الشريعة الربانية، وقد شرع الإسلام عدة وسائل للمحافظة على النفس منها:

1 -

حرم الله قتل النفس المعصومة، وتوعد القاتل بأشد الوعيد الذي لا تكاد تجد مثله في القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ

(1)

أخرجه مسلم (1403) من حديث جابر مرفوعًا.

(2)

إسناده حسن: أخرجه الترمذي (1160)، والنسائي في (الكبرى)(8971)، وغيرهما من حديث طلق بن علي مرفوعًا، وفيه قيس بن طلق صدوق.

(3)

مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور (271).

ص: 195

وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]. وفي الحديث: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة»

(1)

.

بل واعتبرت الشريعة قتل نفسٍ واحدةٍ بمثابة قتل الناس جميعًا، قال تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

وقال أبو هريرة: دخلت على عثمان يوم الدار، فقلت: جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين. فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعًا وإياي معهم؟ قلت: لا. قال فإنك إن قتلت رجلًا واحدًا فكأنما قتلت الناس جميعًا، فانصرف مأذونًا لك، مأجورًا غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل

(2)

.

وحتى لو كانت هذه النفس نفسك فليس لك أن تفرط فيها، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء: 29].

عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن

(1)

أخرجه البخاري (3166) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا.

(2)

رجاله ثقات، أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2937).

ص: 196

أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمت على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال:«يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب!» ، قلت: يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله عز وجل:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا

(1)

.

2 -

أوجبت الشريعة القصاص في القتل العمد، والدية والكفارة في القتل خطأً، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92]

3 -

أمر الله تعالى بتوفير المأكل والمشرب والمسكن لحفظ النفس

(1)

صحيح لطرقه: أخرجه أبوداود (334)، والدارقطني في سننه (681) وغيرهما من حديث عمرو بن العاص، وله طرق ومتابعات فيها بعض الاختلاف الذي لايضر.

ص: 197

وصيانتها من الهلاك والتلف، قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، وأحل له ما حرمه عليه إذا كان ذلك سيحفظ عليه حياته كأكل الميتة وشرب الخمر، قال جل شأنه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} [البقرة: 173].

4 -

أجازت الشريعة للمضطر أن يقول كلمة الكفر إذا كان ذلك سيدفع عنه ويحفظ عليه نفسه، شريطة أن يكون قلبه مطمئنًّا بالإيمان، قال تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].

5 -

تشريع الرخص ورفع الحرج والمشقة التي تلحق بالنفس وتسبب لها ضررًا، كرخصة الفطر في رمضان بسبب المرض والسفر والكبر الذي لا تقوى معه النفس على الصيام، قال تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

6 -

الزواج من أجل التناسل والتكاثر وإيجاد النفوس، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

7 -

إعلان الجهاد حفظًا للنفوس وحماية للمستضعفين، قال تعالى:

ص: 198

{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 75].

8 -

أوجب الشرع على المسلم إنقاذ من يتعرض للقتل ظلمًا، أو يتعرض لخطر إن استطاع أن ينقذه، قال رب العزة سبحانه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» ، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال:«تأخذ فوق يديه»

(1)

.

9 -

أذن لمن يُعتَدى عليه أن يدفع عن نفسه وإن مات على ذلك فهو شهيد، قال صلى الله عليه وسلم «ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد»

(2)

.

وغير ذلك من الأمور التي شرعها الله حفاظًا على النفس، كالنهي عن التقاء المسلمين بسيفيهما، والنهي عن الإشارة لأخيه بالحديدة، وغيرها.

(1)

أخرجه البخاري (2444) من حديث أنس مرفوعًا.

(2)

إسناده حسن: أخرجه أبو داود (4772)، والترمذي (1421)، والنسائي في الكبري (3543) وغيرهم من حديث سعيد بن زيد، وفيه راو لا بأس به.

ص: 199

•‌

‌ ثالثًا: حفظ العقل:

العقل هو مناط التكليف، وبه كرم الله الإنسان وفضله على سائر المخلوقات، وتهيأ للقيام بالخلافة في الأرض وحمل الأمانة، قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].

والعقل الإسلامي الذي بناه الوحي هو عقلٌ غائي تعليلي تحليلي برهاني استقرائي استنتاجي قائسٌ مقاصدي، يدرك أن الله لم يخلقنا عبثًا، وأنه ما من شيء في الوجود من المخلوقات، فضلًا عن أحكام الشريعة وتنظيم الحياة؛ إلا وله علةٌ وسبب، ولقد كان الإنسان أو العقل الإنساني في الأمم السابقة محلًّا للصراع والتمزق بين الوحي والعقل، وبين المعجزة

(1)

والسبب

(2)

، حتى جاءت الرسالة المحمدية فبينت دور العقل، وموضعه الصحيح ومكانته التي لا ينبغي أن يزاد عليها أو ينقص.

ولعل من الأمور الملفتة عند الحديث عن الشريعة والعقل، هي أن المعجزة الإسلامية «القرآن الكريم» تميزت عن سائر المعجزات

(1)

المعجزة هي: السنة الخارقة للعادة التي تظهر على يد نبي. والأسباب هي: السنن الجارية في الكون بإذن الله.

(2)

مقدمة الاجتهاد المقاصدي لنور الدين الخادمي (1/ 9 - 12).

ص: 200

السماوية السابقة بأنها معجزة عقلية، تخاطب العقل وتشحذ همته، وتقوده للاجتهاد والتفكير والإيمان؛ فمن أهم ما يميز الشريعة المحمدية أنها أعطت العقل مساحة للتفكر والتدبر، وجاءت بما يحفظ عقول الناس وأفهامهم، ومن أمثلة ذلك:

1 -

أمرت الشريعة بإعماله في آيات الله المسطورة والمنظورة، ورتبت الأجر على ذلك، بغض النظر عن الإصابة، فالمهم أن نبدأ بإعمال العقل وفق الضوابط والأصول الشرعية، ذلك أن الله لم يثب على الخطأ في شيء، وإنما غاية فضله التجاوز عنه:«إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»

(1)

، إلا في حالة إعمال الفكر والاجتهاد فلم يتجاوز عن الخطأ فحسب، وإنما أثاب عليه، فلله الحمد على آلائه.

2 -

تحريم كل ما من شأنه أن يضر العقل أو يعطله، كالمسكرات والخمر وغيرها، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90].

(1)

إسناده صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه (7219)، والطبراني في الصغير (765)، وغيرهما من حديث ابن عباس مرفوعًا.

ص: 201

3 -

أمر الله بالتدبر والتفكر واتباع البرهان، ونبذ التقليد غير القائم على الحجة، كما في قوله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24]، وقوله:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117]، وقوله:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111].

4 -

كما دعت الشريعة إلى تنمية العقل ماديًّا ومعنويًّا:

ماديًّا بالغذاء الجيد الذي يقوي الجسم، وينشط الذهن، ومن هنا كره للقاضي أن يقضي وهو جائع أو غضبان أو مشوش العقل ومشغول البال، وقدم الطعام على الصلاة إذا حضرا معًا.

أما معنويًّا فبالتأكيد على طلب العلم من طرقه وسبله المرضية، والحث عليه والترغيب فيه، وبجعل حد أدنى منه واجبًا على كل مسلم ومسلمة، فلم يأمر الله في كتابه بالاستزادة من شيء من الدنيا إلا من العلم، قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].

5 -

رفع مكانة العقل، وتكريم أولي العقول، قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، ولم تساو الشريعة بين من أعمل عقله وحاز العلم، وبين من فقده، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو

ص: 202

الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وفي الحديث:«ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»

(1)

: أي ذوو الألباب والعقول.

6 -

منع العقل من الخوض في الغيبيات دون علم يأتيه من الوحي، إذ كيف يدرك العقل ما يفوق مداركه، وهذا من لطف الله بالعباد، إذ لو فتح هذا الباب لضلت فيه العقول والأفهام، قال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]، وبين سبحانه أنه سبيل الشيطان، فقال:{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 169].

7 -

كما فتح له باب الاجتهاد في الأحكام، والنظر فيما لا نص فيه، وفي المستجدات والحوادث، ودعا للقياس وإلحاق النظائر ببعضها والمسألة بشبيهاتها، وكل ذلك وغيره يدل على قيمة ومكانة العقل في الإسلام.

8 -

جعل دية العقل دية كاملة، وكأن من جنى على عقل الإنسان فكأنما جنى على بدنه كله وقتله، ونقل ابن المنذر الإجماع على

(1)

أخرجه مسلم (432) من حديث أبي مسعود مرفوعًا.

ص: 203

ذلك

(1)

، وغير ذلك من التشريعات المبينة لمكانة العقل وأهميته.

•‌

‌ رابعًا: حفظ النسل:

حفظ النسل يأتي بمعنيين:

الأول: حفظ النوع الإنساني على الأرض بواسطة التناسل

(2)

، فبهذا المعنى يعد من كليات الشريعة وضرورياتها؛ لأنه يعادل حفظ النفوس، كما قال الطاهر بن عاشور رحمه الله.

الثاني: حفظ انتساب النسل إلى أصله، فقد يقال: إن عده من الضروريات غير واضح، إذ ليس بالأمة من ضرورة إلى معرفة أن زيدًا هو ابن عمرو، وإنما ضرورتها في وجود أفراد النوع وانتظام أمرهم

(3)

.

وقد يجاب: بأنه بمعرفة انتساب النسل إلى أصله تحفظ الأعراض، وتصان عن الاتهام.

(1)

الإجماع لابن المنذر (1/ 132).

(2)

مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور (273).

(3)

مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور (274).

ص: 204

ومن أجل تحقيق مقصد حفظ النسل والعرض شرع الإسلام المبادئ والتشريعات التالية:

1 -

الزواج: فقد شرع الإسلام الزواج ورغب فيه، ودعا إليه، ورتب عليه الأجر والثواب، فقال صلى الله عليه وسلم:«وفي بضع أحدكم صدقة»

(1)

.

2 -

تحريم الاعتداء على الأعراض، ولذا حرم الله الزنا، وجعل حده من أشد الحدود، وجرم القذف، وحد له عقوبة رادعة، قال تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، وقال:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4]، وقال صلى الله عليه وسلم:«خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائةٍ ونفي سنةٍ، والثيب بالثيب جلد مائةٍ، والرجم»

(2)

.

3 -

جعل الموت دفاعًا عن العِرض والأهل شهادة، فقال صلى الله عليه وسلم:«من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر مرفوعًا.

(2)

أخرجه مسلم (1690) من حديث عبادة بن الصامت.

(3)

إسناده حسن: أخرجه أبو داود (4772)، والترمذي (1421)، والنسائي في الكبري (3543)، وغيرهم من حديث سعيد بن زيد، وفيه راو لا بأس به.

ص: 205

4 -

حرم الوسائل والمقدمات التي تقع من شأنها ضياع هذا المقصد العظيم، فقال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]، والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله؛ لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، خصوصًا هذا الأمر الذي في كثير من النفوس أقوى داع إليه.

ووصف الله الزنا وقبحه بأنه {كَانَ فَاحِشَةً} [النساء: 22]: أي إنما يستفحش في الشرع والعقل والفطر؛ لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله، وحق المرأة، وحق أهلها أو زوجها، وإفساد الفراش، واختلاط الأنساب، وغير ذلك من المفاسد

(1)

.

ومن أجل هذا المقصد العظيم حفظ العرض؛ حرم الله النظر، وأمر بغض البصر للرجال والنساء سواء، وحرم اللمس والمصافحة، وحرم الغناء الذي هو بريد الزنا، وأمر بتيسير الزواج وعدم تعسيره، وأمر النساء أن يقرن في بيوتهن، وأمر بالحجاب وعدم إبداء الزينة لغير المحارم، وترك التعطر والضرب بالأرجل، وحرم الخلوة بالأجنبية، ونهى عن سفر المرأة بغير محرم، وجعل للبيوت حرمة عظيمة فلا

(1)

تفسير السعدي (1/ 457).

ص: 206

يجوز دخولها ولا النظر فيها بغير إذن، وغير ذلك.

•‌

‌ خامسًا: حفظ المال:

كما هو شأن الإسلام دائمًا مع النزعات الفطرية للإنسان يبيح إشباعها، ويلبي مطالبها مع التهذيب والترشيد؛ لتتحقق مصالح العباد، كان هذا شأنه مع تملك المال وحبه، فأباح الملكية الفردية وشرع في ذات الوقت من النظم والتدابير ما يتدارك الآثار الضارة التي قد تنجم عن طغيان هذه النزعة، من فقدان للتوازن الاجتماعي، فالمال به قوام الحياة، ويستحيل أن يهمل الشرع الحكيم جانبًا مهمًّا من جوانب الحياة، والذي لا تستقيم الحياة بدونه، فالمال شقيق الروح من حيث إنه سبب قوامها وبه صلاحها؛ ولذلك جمع الله بينهما في وصية واحدة، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [النساء: 29 - 30].

ومن ثم اعتبر الإسلام المال ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانية، وشرع من التشريعات والتوجيهات ما يشجع على اكتسابه وتحصيله، ويكفل صيانته وحفظه وتنميته، ومن ذلك:

1 -

الحث على السعي لكسب الرزق وتحصيل المعاش، فقد حث

ص: 207

الإسلام على كسب الأموال باعتبارها قوام الحياة الإنسانية، واعتبر السعي لكسب المال -إذا توفرت النية الصالحة وكان من الطرق المباحة- ضربًا من ضروب العبادة، وطريقًا للتقرب إلى الله، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15]، وقال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].

2 -

رفع منزلة العمل وأعلى من قدر العمال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»

(1)

.

3 -

أوجب الوفاء بحقوق العمال المادية والمعنوية، يقول صلى الله عليه وسلم: فيما يرويه عن ربه «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعط أجره»

(2)

.

4 -

أباح وأقر الإسلام أنواعًا من العقود، كالبيع والإجارة والرهن والشركة وغيرها، وحرم اكتساب المال بالوسائل غير المشروعة والتي تضر بالآخرين، ومنها الربا؛ لما له من آثار تخل بالتوازن الاجتماعي،

(1)

أخرجه البخاري (2072) من حديث المقدام مرفوعًا.

(2)

أخرجه البخاري (2227) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

ص: 208

قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقال:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، ومنع الشرع إنفاق المال في الوجوه غير المشروعة، ونهى عن تبذيره وإسرافه، وحث على إنفاقه في سبل الخير، قال تعالى:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 26 - 27].

وكل ذلك مبني على قاعدة من أهم قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي وهي: أن المال مال الله، وأن العبد مستخلف فيه. قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، وقال:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]،

ومن هنا توعد الله الممسكين المكنزين للذهب والفضة المانعين فضل ما لم تعمل يداهم، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} [التوبة: 34].

6 -

كما حرم الاعتداء على مال الغير بالسرقة أو السطو أو التحايل، وشرع العقوبة الرادعة على ذلك، قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]، وقال

ص: 209

صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»

(1)

، وأوجب الضمان على من أتلف مال غيره.

7 -

سن التشريعات الكفيلة بحفظ أموال القصر، والذين لا يحسنون التصرف في أموالهم، من يتامى وصغار حتى يبلغوا سن الرشد، ومن هنا شرع تنصيب الوصي عليه، قال تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا} [النساء: 6]، وقال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، ومن ذلك الحجر على البالغ إذا كان سيئ التصرف في ماله، قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5].

9 -

إقامة المعاملات المالية على الرضا والعدل، فالعقود لا تمضي على المتعاقدين إلا إذا كانت عن تراض وعدل، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].

وبهذه التشريعات، وغيرها الكثير حفظ الإسلام المال، وصانه عن الفساد والتلف، والحمد لله على شرعه وحكمه.

(1)

أخرجه مسلم (2564) من حديث ابي هريرة مرفوعًا.

ص: 210

•‌

‌ الحاجيات:

مرتبة الحاجيات يقع فيها أكثر الإشكالات، فعليها مدار تحديد الضروريات والتحسينيات، فما فوقها هو الضروريات، وما دونها هو التحسينيات؛ فإذا تحدد معنى الحاجة فما فوقها هو الضروري، وما دونها هو التحسيني؛ ولذا فهي معترك علمي فقهي سياسي.

والحاجيات: هي التي يحتاج الناس إليها احتياجًا لا يبلغ إلى حد الضرورة، ولكن فقدهم لها ينشأ عنه ضيق وحرج ونكد، ومن شأن الاستمرار في فقدها واختلالها إلحاق الضرر بالضروريات

(1)

.

وعرفها الطاهر بن عاشور فقال: هو ما تحتاج الأمة إليه لاقتناء مصالحها، وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاته لما فسد النظام، ولكنه كان على حالة غير منتظمة؛ فلذلك كان لا يبلغ مبلغ الضروري

(2)

.

الأدلة عليها:

قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقال جل شأنه:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:

(1)

مدخل إلى مقاصد الشريعة للريسوني.

(2)

مقاصد الشريعة (276).

ص: 211

185].

ويمثل لها الأصوليون بالبيوع والإجارات

(1)

، والسلم

(2)

، والقراض

(3)

، والمساقاة

(4)

.

ومثالها في حفظ الدين: ضبط تفاصيل العبادات التي لو غابت تحدث بلبلة وغموضًا، وتفتح باب التكاسل لدى المكلفين.

ووضع الرخص في أوقات الضيق والحرج، والتي تخفف عن المكلف، وترفع عنه المشقة، ولولاها لعمد الناس إلى ترك كثير من العبادات والتكاليف حال الحرج كالفطر للمريض وللمسافر، والتيمم عند تعذر الماء، والجلوس في الصلاة لمن لا يقوى على القيام.

ومثالها في حفظ النفس: مشروعية التوسع في الاستمتاع بالطيبات من الطعام والشراب والملبس، فهذا ليس ضروريًّا لبقائها، ولكن قد يسبب غيابه حرجًا ومشقة، قال العز بن عبد السلام: فالضرورات: كالمآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والمراكب

(1)

الإجارة: هي عقد على منفعة مباحة معلومة من عين معينة، أو موصوفة في الذمة لمدة معلومة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم.

(2)

السلم: هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقدم.

(3)

القراض: هو دفع شخص لغيره مالًا ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما.

(4)

المساقاة: هي معاملة على تعهد شجر بجزء من ثمرته.

ص: 212

الجوالب للأقوات وغيرها مما تمس إليه الضرورات

(1)

.

ومثالها في حفظ النسل: إقامة العلاقات الزوجية والأسرية على أسس متينة ومحكمة، ونظام كامل، فاختلال هذه الأحكام لا يفضي مباشرة إلى تعطيل النسل، لكنه يؤدي لإلحاق الضرر بحفظ الكيان وهو الأسرة.

ومثالها في حفظ العقل: تزويده بالعلم، وصقله بالفكر والنظر والتدبر، وإخراجه من الجهل والغفلة المؤدية بعد حين إلى إلحاق ضرر بالضروريات.

فالحاجيات مكملة للضروريات بدفع ما يمسها ويؤثر فيها، ولو من بعد.

قال الشاطبي: فالأمور الحاجية إنما هي حائمةٌ حول هذا الحمى؛ إذ هي تتردد على الضروريات

(2)

.

قاعدة: الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة

(3)

.

هذه القاعدة قد قررها الجويني رحمه الله وتابعه الناس على ذلك،

(1)

قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (2/ 71).

(2)

الموافقات للشاطبي (2/ 32).

(3)

البرهان في أصول الفقه للإمام الجويني (2/ 82).

ص: 213

وهذه القاعدة يتم الاستدلال بها كثيرًا في النوازل العامة.

وقد يتجاوز البعض ويقول: الحاجة تنزل منزلة الضرورة الخاصة. وهي ليست بهذا الإطلاق، فالذي ينزل منزلة الضرورة الخاصة هي الحاجة العامة.

ثمرة القاعدة:

الضرورة في حق الفرد تُجَوِّز كثيرًا من المحرمات، وتقتضي عددًا من التسهيلات والتخفيف، والضرورة تقدر بقدرها، وتستدعى وجود حكم لها، وكذلك الحاجة العامة؛ فإذا كانت هناك حاجة عامة للناس، فإنها كذلك تفتح العديد من الأبواب المغلقة، فالأمر إذا ضاق اتسع، فمثلًا: بيع السلم. لو طبقنا عليه القواعد العامة؛ لقلنا بعدم الجواز، فمن القواعد العامة في البيع أن يكون المبيع موجودًا، وهذا لا ينطبق على بيع السلم؛ لأنه بيعٌ لمعدوم

(1)

، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لحكيم بن حزام:«لا تبع ما ليس عندك»

(2)

، لكن حاجة الناس دعت إليه فجوزه الشرع، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون

(1)

مقطع صوتي للدكتور عبد الكريم زيدان رحمه الله.

(2)

صحيح لشاهده: أخرجه الترمذي (1232)، وأبو داود (3503) وغيرهما من حديث حكيم بن حزام، ولكن فيه ضعف يسير، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه النسائي في الكبرى (6204) بسند حسن.

ص: 214

بالتمر السنتين والثلاث، فقال:«من أسلف في شيءٍ، ففي كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ»

(1)

، وبعض الفقهاء يعللون جوازه بحاجة الناس إليه.

•‌

‌ التحسينيات:

هي ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها، حتى تعيش مطمئنة، مرغوبًا في الاندماج فيها والتقرب منها

(2)

، وهي المتممات للأشياء

(3)

.

ويدخل في التحسينات: كل مصلحة ومنفعة لا تصل إلى حد الضرورة أو الحاجة، ولكن فيها نوع إفادة للناس

(4)

.

ويمكن القول بأن التحسينات هي: الأخذ بمحاسن العادات، ومكارم الأخلاق، والتي تقع موقع التحسين، والتزيين، والتيسير، وتجنب الأحوال المدنسات.

فالعبد ليس مضطرًا للتحسينات، ولا محتاجًا إليها حاجة كبيرة، ولا تختل حياته بفقدها، ولا يقع في مشقة وحرج بتركها، ولكنها أمور مكملة كما نسميه الآن من المكملات.

(1)

أخرجه البخاري (2240)، ومسلم (1604) من حديث ابن عباس مرفوعًا.

(2)

مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور (277).

(3)

الرسالة الندية للمؤلف (35).

(4)

مدخل إلى مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني (99).

ص: 215

ويمثل العلماء لها بنوافل العبادات، وآداب المعاملات، ومحاسن العادات والفطرة، وآداب الأكل والشرب من التسمية، والأكل باليمين ونحوهما، والنهى عن القزع، والنهي عن بيع الرجل على بيع أخيه، وخطبته على خطبة أخيه، والأمر بالطهارة وترك النجاسات، والختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، ومظاهر الجمال والتزيين عمومًا من غير إسراف، فكل هذا يدخل في المصالح التحسينية التي اعتبرها الشرع، فالمحافظة عليها يزيد الإنسان ويضفي على الحياة كمالًا وجمالًا وسموًّا، ولا شك أن هذا مما قصدت إليه الشريعة، ولعلك لو تأملت قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»

(1)

لفهمت المقصود.

تنبيه مهم:

يظهر مما سبق أنه ليس المراد بالتحسينات المستحبات فقط، بل قد تكون مستحبات وقد تكون واجبات، فمنها: تشريع الولي في النكاح، فإنه من تحسينات الزواج، إذ يقبح أن تتولى المرأة زواجها بنفسها،

(1)

إسناده صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد (273)، وأحمد (2/ 381) وغيرهما من حديث أبي هريرة، وله شاهد يقويه.

ص: 216

والولي من واجبات النكاح وشروطه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بوليٍّ»

(1)

، ومنها قص الشارب، وهو من المستحبات ومن التحسينات، ومنها إزالة النجاسة وهي شرط للصلاة وهي من التحسينيات، ومن هنا تعلم أن الشرع الحنيف ما ترك مصلحة إلا ودلنا على الاهتمام بها وحفظها، سواء كانت من الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، وما ترك مضرة أو مفسدة إلا وحذرنا منها ونهانا عنها.

فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا.

•‌

‌ العلاقة بين الأنواع الثلاثة:

التحسينيات مكملة للحاجيات، والحاجيات مكملة للضروريات، فكل درجة أقل تعتبر مكملة لما فوقها؛ فالمصالح التحسينية خادمة للمصالح الحاجية، والضرورية، والمصالح الحاجية خادمة للمصالح الضرورية.

قال الشاطبي: إن كل حاجيٍّ وتحسينيٍّ إنما هو خادمٌ للأصل الضروري، ومؤنسٌ به، ومحسنٌ لصورته الخاصة، إما مقدمةً له، أو

(1)

إسناده صحيح: أخرجه أحمد (6/ 46)، وأبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وغيرهم من حديث عائشة مرفوعًا.

ص: 217

مقارنًا، أو تابعًا، وعلى كلِّ تقديرٍ، فهو يدور بالخدمة حواليه، فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته

(1)

.

الضرورة والحاجة يتفقان في أن الناس في حاجةٍ إليهما، وأن كلًّا منها يحتاج إلى حكم يعالجه، ويفترقان في أن الحاجة تتسم باستمراريتها، والضرورة غالبًا تكون مؤقتة طارئة

(2)

.

(1)

الموافقات للشاطبي (2/ 42).

(2)

مقطع صوتي للدكتور عبد الكريم زيدان رحمه الله.

ص: 218

‌المبحث الرابع:

حاجة الناس إلى معرفة مقاصد الشريعة،

وسوء استخدام بعض الناس لها:

لافتة: إذا كانت المقاصد أرواح الأعمال

(1)

كما يقول الشاطبي رحمه الله، فإن العجب كل العجب أن يعيش الناس بلا مقاصد، أي بلا أرواح، فالفقه بلا مقاصد فقه بلا روح، والفقيه بلا مقاصد فقيه بلا روح، إن لم نقل: إنه ليس بفقيه، والمتدين بلا مقاصد متدين بلا روح، والدعاة إلى الإسلام بلا مقاصد هم أصحاب دعوة بلا روح

(2)

.

فعلم المقاصد تعم فائدته المسلمين أفرادًا وجماعات على اختلاف مراتبهم وتفاوتهم، فيستفيد منه عوام المسلمين، وطالب العلم، والمجتهد، والفقيه، والمتدين، والداعية إلى الله، فعلم المقاصد وبيانه فيه نفع عام للعباد جميعًا، ومن ذلك: حاجة المكلفين عمومًا إلى المقاصد.

(1)

الموافقات للشاطبي (3/ 44).

(2)

مدخل إلى مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني (17).

ص: 219

لا ريب أن لله مرادًا وحِكَمًا وأسرارًا من أحكامه وتشريعه وخلقه، فهل يجدر بالعبد الذي خلق للعبودية أن يجهل مراد الله في أحكامه وخلقه؟ وكيف يرضي ربه، وهو لا يعرف مراده وغايته؟ فما من مكلف إلا وهو بحاجة لمعرفة مقاصد الشريعة، فبها تقوم الدنيا والدين، وإليك بيان بعض ذلك، وبعض ثمرات وفوائد المقاصد التي تعم كل المكلفين:

1 -

حصول الطمأنينة الكاملة بصلاحية وملاءمة أحكام الشرع لكل زمان ومكان

(1)

، وهذا أمرٌ تشتد الحاجة إليه في هذا الزمان، مع كثرة المضلين والداعين لتنحية الشريعة، وحبسها في دور العبادة.

قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: أما في النحو الرابع

(2)

فاحتياجه فيه

(3)

ظاهر، وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا، وفي هذا النحو أثبت مالك رحمه الله حجية المصالح المرسلة، وفيه أيضًا قال الأئمة بمراعاة كليات الشريعة الضرورية، وألحقوا بها الحاجية

(1)

شرح مقاصد الشريعة للدكتور عياض بن نامي السلمي.

(2)

يقصد به حكم المستجدات والحوادث.

(3)

أي احتياج الفقيه لمعرفة مقاصد الشريعة ليستنبط حكم المستجدات.

ص: 220

والتحسينية

(1)

.

فباب الاجتهاد المقاصدي يبقى مطلوبًا ومهمًّا ومفتوحًا طالما كانت حركة المجتمعات في تطور ونمو وامتداد، وتغير وتبدل في المصالح وطبيعة المشكلات، فالاجتهاد المقاصدي دليل خلود هذا الدين

(2)

.

2 -

بيان محاسن الشريعة وكيف أنها راعت مصالح العباد في الدنيا والدين، بل الشريعة كلها مبناها على جلب المصالح للناس، ودرء المفاسد عنهم، فالحاجة ملحة إلى بيان محاسن الشريعة، وما رمت إليه، وتسليط الضوء على المقاصد الخمس الكبرى مثلًا، «وهي غاية ما يتمناه الإنسان» ، وتعليل أحكامها وبيانها للناس، وكذلك مسألة التعدد والميراث مثلًا، فكثيرًا ما تتهم الشريعة بظلمها للمرأة، فلو بينا مقصود الشارع ومراده وحكمته من التعدد والميراث ونحوها مع بيان أمره التشريعي؛ لكان ذلك أوقع في قلوب الناس.

قال ابن القيم رحمه الله: ثم جاءت الشريعة الكاملة الفاضلة المحمدية، التي هي أكمل شريعة نزلت من السماء على الإطلاق، وأجلها وأفضلها، وأعلاها، وأقومها بمصالح العباد في المعاش

(1)

مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور (108).

(2)

مقدمة الاجتهاد المقاصدي (35).

ص: 221

والمعاد، بأحسن من ذلك كله، وأكمله، وأوفقه للعقل والمصلحة

(1)

.

وقال في موضع آخر: إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالح كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خيرٍ في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسومٌ قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي

(1)

إعلام الموقعين لابن القيم (2/ 57).

ص: 222

بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة

(1)

.

فمثلًا: دعوة الإسلام للعتق وفك الرقاب: الإسلام الدين الذي كرم الله به البشرية جاء متشوفًا لفك الرقاب والعتق، وقد عد ذلك من قبيل المقاصد الشرعية التي تواردت على تثبيتها نصوصٌ، وأحكامٌ، ومعانٍ شرعيةٌ كثيرةٌ، ومن ذلك:

تشريع الأحكام الواردة في العتق، وتكثير طرق التحرير، والحث عليه، والترغيب فيه، وترتيب الأجر العظيم، والنجاة من النار على ذلك، فقد ثبت أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار، فقد حصل بعتق رقبة واحدة تكفير جميع الخطايا، وجعل بعض مصارف الزكاة في شراء العبيد، وعتقهم وتحريرهم، وجعل العتق من الوجوه المقدمة للكفارات الواجبة في قتل الخطأ، والجماع في نهار رمضان، والظهار، وحنث الأيمان، وأمره جل وعلا بمكاتبة العبيد إن طلبوا المكاتبة.

وإليك بعض النصوص من الكتاب: قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]،

(1)

إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 337).

ص: 223

وقال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وقال:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وقال تعالى:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} [البلد: 11 - 13]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33].

ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله؟» قالت: في السماء. فأقرها وقال لسيدها: «اعتقها فإنها مؤمنةٌ»

(1)

.

وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أعتق رقبةً، أعتق الله بكل عضوٍ منها عضوًا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه»

(2)

.

وأيضًا في تشريع القصاص، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179]. قال ابن القيم رحمه الله: في ضمن هذا الخطاب ما هو كالجواب لسؤال مقدر: إن في إعدام هذه

(1)

أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي مرفوعًا.

(2)

أخرجه البخاري (6715)، ومسلم (1509 [22]) واللفظ له، من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

ص: 224

البنية الشريفة، وإيلام هذه النفس وإعدامها في عدم مقابلة إعدام المقتول؛ تكثير لمفسدة القتل، فلأية حكمة صدر هذا ممن وسعت رحمته كل شيء، وبهرت حكمته العقول؟ فتضمن الخطاب جواب ذلك بقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].

وذلك لأن القاتل إذا توهم أنه يُقتَل قصاصًا بمن قتله؛ كف عن القتل وارتدع، وآثر حب حياته ونفسه، فكان فيه حياة له ولمن أراد قتله.

ومن وجه آخر: وهو أنهم كانوا إذا قُتِل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قَتَلوا به كل من وجدوه من عشيرة القاتل وحيِّه وقبيلته، وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يعم ضرره، وتشتد مؤنته، فشرع الله تعالى القصاص، وأن لا يقتل بالمقتول غير قاتله، ففي ذلك حياة عشيرته وحيِّه وأقاربه، ولم تكن الحياة في القصاص من حيث إنه قُتِل، بل من حيث كونه قصاصًا، يؤخذ القاتل وحده بالمقتول لا غيره، فتضمن القصاص الحياة في الوجهين.

•‌

‌ المصلحة الإيمانية والقلبية (المعنوية):

اعتبرت الشريعة المصالح القلبية والاهتمام بها وإقامتها، فالمصالح المادية تفرض نفسها على حياة الناس، ولا تحتاج إلى كثير كلام، فالناس يطلبون ما يقيم حياتهم من مصالح دنيوية من أكل وشرب ومركب، وما يحتاج لبيانٍ هي المصالح القلبية والإيمانية «المعنوية»

ص: 225

من تزكية للنفس وترويضها، واكتساب حسن الأخلاق؛ فهذه المصالح قد يصيبها الضمور والإغفال ولذا وجب التنبيه عليها، فحينما ذكر الله تعالى الزكاة قال:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، لم يعللها بتعليل اقتصادي، أو التكافل الاجتماعي، وما إلى ذلك من فوائد الزكاة ومصالحها، ومقاصدها الصحيحة الموجودة فيها، لكنه عللها بالمصلحة الإيمانية والقلبية {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، فنبه الشارع الناس على المصلحة الأعلى والأهم، والتي قد يصيبها الإغفال والضمور.

ومثله أيضًا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].

قال ابن عاشور رحمه الله: حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردًا فردًا؛ إذ منها يتكون المجتمع، وقوله: لعلكم تتقون. بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع

(1)

.

ومثل ذلك لما نهى الله تعالى عن الخمر، قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

(1)

التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور (2/ 158).

ص: 226

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90 - 91]، فالفقهاء حين يعللون تحريم الخمر يقولون: من أجل الإسكار، وذهاب العقل، وأنها رجس. وهذا كله صحيح، لكن القرآن جلَّى أمرًا آخر أهم، وهو فساد ذات البين وضياع الأخلاق، والغفلة عن ذكر الله تعالى، وهذه كلها مفاسد إيمانية وقلبية وأخلاقية، وابن تيمية رحمه الله ممن ركز على المصالح الإيمانية، وانتقد من قصر نظره على المقاصد الدنيوية المادية، فقال رحمه الله: وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها، وما ينفعها من حقائق الإيمان، وما يضرها من الغفلة والشهوة، كما قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]، وقال تعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29 - 30]، فتجد كثيرًا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن

(1)

.

ولأن المصلحة القلبية مقدمة على مصلحة البدن، قدم الفقهاء في

(1)

مجموع الفتاوى لابن تيمية (32/ 233).

ص: 227

كتبهم العبادات على المعاملات، وبهما تتم مصلحة القلب والبدن.

وقد جمع الله بين المصلحة الدنيوية والأخروية «الإيمانية» في تشريعه للقصاص، فقال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179]، فجمع الشارع بين حفظ المصلحة الدنيوية وهي حفظ الحياة، والمصلحة الإيمانية وهي تحصيل التقوى، بل إن الله تعالى لما أمر الناس جميعًا بعبادته وحده، ونبذ ما يعبد من دونه، جعل غاية ذلك تحصيل المصالح الإيمانية القلبية، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21]، قال ابن عاشور رحمه الله: ولما كانت التقوى نتيجة العبادة جُعِل رجاؤها أثرًا للأمر بالعبادة؛ فإن التقوى هي الغاية من العبادة، فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة العابد أو عند إرادة الخلق

(1)

.

3 -

بيان أن الشريعة توافق العقل والفطرة ولا تخالفهما:

فلا تعارض بين النقل والعقل، فالعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، بل يشهد له ويؤيده؛ لأن الذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل، ويستحيل أن يرسل إليه ما يفسده، ولو وجد تعارض

(1)

التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور (1/ 330).

ص: 228

فلأمرين: إما أن النص لم يثبت، أو أن العقل لم يفهم المراد من النص. فلن نجد نصًا صحيحًا يخالف عقلًا صريحًا من كل الوجوه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والمقصود أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره كله حقٌّ يصدق بعضه بعضًا، وهو موافقٌ لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة والقصود الصحيحة لا يخالف العقل الصريح، ولا القصد الصحيح، ولا الفطرة المستقيمة، ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يَظُنُّ تعارضها مَنْ صَدَّقَ بباطل من النقول، أو فهم منه ما لم يدل عليه

(1)

.

4 -

ومن ثمرات وفوائد المقاصد ومعرفتها أيضًا: الفهم الصحيح والتطبيق السليم للإسلام، وللتكاليف، وللاستخلاف في الأرض، وإزالة بعض الإشكالات

(2)

، فقد التبس على كثير من الناس مثلًا مفهوم الحضارة، وقد تأثر كثير من شباب المسلمين اليوم بالحضارة الغربية، وصاروا يطبقون كل ما يرونه ويسمعونه، حتى لو كان ذلك مناقضًا لدين الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

(3)

، فالحضارة ليست هي الغاية التي خُلِق الإنسان من أجلها، إنما هي وسيلة للمقصود الأعلى والغاية الكبرى،

(1)

مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/ 580).

(2)

مقاصد الشريعة للخادمي.

(3)

للاستزادة انظر: مآلات الخطاب المدني، للدكتور ابراهيم السكران.

ص: 229

وهي عبادة الله وحده لا شريك له.

5 -

دفع السآمة، وتنشيط العباد، والحث على الالتزام بأحكام الشريعة، وامتثال التكليف الشرعي على الوجه الأكمل، فالسائر إلى الله تعالى تتناوبه فترات وهنٍ وضعفٍ، وقد يكون عرضة للسآمة والضجر، وللتلكؤ والانقطاع، فيأتي بالأعمال على غير وجهها، ودون استحسانها وإتقانها، خاصة إذا كانت العبادة فيها مشقة بدنية أو نفسية؛ فمعرفة مقاصد الأعمال تدعو للصبر، والمواظبة، وتدفع التلكؤ والبطالة.

قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 98 - 99]: فأما كونها تعليلًا، فلزيادة الحث على الامتثال للأمر بأن الاستعاذة تمنع تسلط الشيطان على المستعيذ; لأن الله منعه من التسلط على الذين آمنوا المتوكلين، والاستعاذة منه شعبة من شعب التوكل على الله; لأن اللُّجْأَ إليه تَوَكُّلٌ عليه، وفي الإعلام بالعلة تنشيط للمأمور بالفعل على الامتثال إذ يصير عالمًا بالحكمة

(1)

.

فالمقاصد تزيل الكَلَل، وتسدد العمل، وتسد الخلل، وفي الأمثال

(1)

التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور (14/ 278).

ص: 230

قالوا: من عرف ما قصد هان عليه ما طلب.

وفي غزوة حنين لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم، وأكثر من العطاء لأهل مكة، والمؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار مثلهم استاء بعض الأنصار الكرام رضي الله عنهم وحين بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم مقصده في ذلك انشرحت صدورهم واطمأنوا، وذهب عنهم ما أصابهم

(1)

.

ولقد كان من الممكن أن يقال لهم: هذا حكم الله ورسوله فارضوا به وسلموا تسليمًا، وليس لكم أن تتقدموا ولا أن تتكلموا. وهذا كلام صحيح لا غبار عليه، ولكن حين يكون هذا مُعزَّزًا ببيان المقاصد والحِكَم، ولا سيما في موارد الاستشكال والالتباس يكون أصح وأتم، ويكون التصرف اللازم أنسب وأسلم، فيزيل ما عنده من شكوك وظنون وريب، فيحصل عندها الاطمئنان القلبي

(2)

.

6 -

تصحيح قصد المكلف ليكون موافقًا لمقصود الشارع وتحقيق العبودية لله؛ فالعبودية هي مقصد المقاصد وغاية الغايات، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، قال الشاطبي رحمه الله: المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية

(1)

أخرجه البخاري (4330)، ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم مرفوعًا.

(2)

مدخل إلى مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني (24).

ص: 231

هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبدٌ لله اضطرارًا

(1)

.

7 -

بيان أن بعثة الرسل وشريعة الله ما جاءت إلا لجلب المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وهذا المعنى جاء بعبارات مختلفة عن الأئمة رضي الله عنهم فالإمام الجويني يعبر عنه بعبارة «الأغراض الدفعية والنفعية» ، ويعبر عنه الغزالي والشاطبي بعبارة «حفظ المصالح من جانب الوجود والعدم» .

ويقول الدكتور الريسوني

(2)

: إن عبارة الجويني أسبق وأوجز مع زيادة في المعنى، فالدفع والنفع يساويان جلب ودرء المصلحة والمفسدة، وكلمة الأغراض تعبر عن قصد الشرع، وعلى كلٍّ فتنوع العبارات «دفع ونفع، جلب ودرء، وجود وعدم» ، يثير الانتباه إلى أن الشريعة جاءت لإصلاح الناس، وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

8 -

الجهل بمقاصد الشرع من أحكامه يجعل الأعمال صورًا بلا روح، ومن هنا وقع كثيرٌ من الناس في باب الحيل؛ إذ إنهم أخذوا الأحكام بصورها دون النظر لما قصده الشارع منها، فأجازوا المُحَلِّل، والعينة، وغيرها لكون صورة العمل صحيحة.

(1)

الموافقات للشاطبي (2/ 289).

(2)

محاضرات في مقاصد الشريعة للريسوني.

ص: 232

9 -

حفظ نظام الأمة وبقاء قوتها وهيبتها، وهذا بإظهار مقاصدها العالية التي هي نفع الناس في الأولى والآخرة، فما من منفعة مطلوبة ولا مضرة مرهوبة إلا داخلة في مقاصد الشريعة.

•‌

‌ حاجة المجتهدين إلى المقاصد:

المجتهدون من جملة المكلفين، فاحتياجهم للمقاصد زائدٌ لما حملوه من العلم والفقه؛ فلا يكفي الفقيه أن يعرف دلالات الألفاظ على المعاني، بل لا بد له من معرفة أسرار التشريع والأغراض العامة للشريعة التي قصدها الشارع من أحكامه،

فالمقاصد هي قبلة المجتهدين، ولا يكون المجتهد إلا بمعرفة مقاصد الشريعة، حتى إن الشاطبي رحمه الله في كتابه «الموافقات» نص على أنه لا اجتهاد إلا بعد التمكن من المقاصد وفهمها، فقال رحمه الله: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. الثاني: التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها

(1)

.

ومثله الطاهر بن عاشور رحمه الله فقال: تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء: فهم النصوص، ودلالة النصوص،

(1)

الموافقات للشاطبي (5/ 41).

ص: 233

والقياس، وحكم المستجدات، والتسليم التعبدي؛ فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها

(1)

.

والفقهاء يعتمدون على قواعد فقهية وأصولية، وكثير من هذه القواعد تندرج تحت مقاصد الشريعة، كقاعدة: المشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، والضرورة تقدر بقدرها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التساوي.

فمقاصد الشريعة تعمل على:

1 -

ضبط عملية الإفتاء للمجتهد، فكل نص ينظر فيه الفقيه لا بد من حضور المقاصد فيه ليكون فهمه سديدًا وفق مراد الشارع، فالمقاصد هي الإرادة التشريعية للحاكم جل وعلا، فكيف تغيب عن الأذهان؟ فإهمال النظر في مقاصد الشريعة وعدم اعتبارها واحد من أسباب الخطأ؛ لأن الشارع طلب من المجتهدين أن يوافق استنباطهم واجتهادهم في كل مسألة مقاصد الشريعة العامة.

يقول الشيخ عبد الله دراز: أما بالنسبة للمجتهد بوجهٍ خاص، فإن عليه أن يحدد المقصد الشرعي في حكم كل مسألة على حده؛ ليتمكن من تبين صحة أو دقة اندراجها في المقاصد العامة للتشريع التي اتجهت

(1)

مقاصد الشريعة لابن عاشور (107).

ص: 234

جملة التكاليف إلى تحقيقها اعتبارًا للجزئي بالكلي، وهذا لون من الجهد العقلي الاجتهادي

(1)

.

2 -

التقليل في الخلاف بين العلماء ونبذ التعصب، وقد أشار الطاهر بن عاشور رحمه الله في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» إلى هذا، فقال: هذا كتاب قصدت منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها، والاحتجاج لإثباتها، لتكون نبراسًا للمتفقهين في الدين، ومرجعًا بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلًا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف، حتى يستتب بذلك ما أردناه غير مرة من نبذ التعصب، والفيئة إلى الحق إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببلالة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت النوازل، وبفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب، وتبارت في مناظرتها تلكم المقانب

(2)

.

3 -

الترجيح بين الأدلة عند التعارض، فمقاصد الشريعة ليست دليلًا خارجيًّا ولا دليلًا إضافيًّا، بل هي دليل مع كل دليل، ودليل في كل دليل، وهي جزء من كل دليل؛ فالشريعة أحكامٌ تنطوي على مقاصد،

(1)

حاشية الموافقات (3/ 24).

(2)

مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور، المقدمة (85).

ص: 235

والمقاصد تؤخذ من الأحكام، فهناك تمازجٌ كاملٌ؛ ولذا فهي من المرجحات عند تطاير الشرر.

4 -

استنباط علل القياس، ومن ثم بيان الحكم الشرعي على وجه صحيح، فالقياس نظرٌ إلى المقاصد، ولا يعرف القياس الصحيح من الفاسد إلا بمعرفة مقاصد الشرع، وكذلك المصلحة المرسلة فهي مبنية على مقصود الشارع، وما علمناه من حرص الشرع على جلب المصلحة ودرء المفسدة.

5 -

بيان حكم المستجدات، فهناك مستجدات لم ينص عليها الشارع بعينها ولا نجد لها مثيلًا في الكتاب والسنة، لكن حكمها يندرج تحت الكليات العامة للشريعة، وهنا يتجلى دور المقاصد، واعتبار المصالح، قال العز بن عبد السلام: ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقادٌ أو عرفانٌ بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماعٌ ولا نصٌّ ولا قياسٌ خاصٌّ، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك. ومثل ذلك أن من عاشر إنسانًا من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل وردٍ وصدرٍ ثم سنحت له مصلحةٌ أو مفسدةٌ لم يعرف قوله فإنه يعرف بمجموع ما عهده من

ص: 236

طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة

(1)

.

وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم مع قربهم من التشريع وقلة المستجدات إلا أنهم راعوا مقاصد الشريعة وفعلوها، فنحن في عصرنا هذا أحوج لذلك.

قال الشيخ نور الدين الخادمي: فكثيرًا من الأمثلة الفقهية التي تبناها التابعون سواء بنقلها عن الصحابة، أو ببيانها من قبلهم تدل بجلاء على اهتمامهم البالغ، وتعويلهم على المقاصد الشرعية في معالجة النوازل وتأطير الحوادث والمستجدات

(2)

.

بعد كل هذا لم يبق شك أبدًا أن علم مقاصد الشريعة لا بد منه للمجتهد الفقيه، حتى يستطيع أن يفتي للناس في كل أمر مستجد؛ لتبقى هذه الشريعة خالدة صالحة لكل زمان ومكان

(3)

.

•‌

‌ حاجة الداعية إلى المقاصد:

الدعاة اليوم في أشد الحاجة لمعرفة مقاصد الشريعة وبيانها، وإبراز محاسنها، ورفع الإشكالات، وإنصاف ديننا المفترى عليه خاصة في ظل التحديات الفكرية والإعلامية التي تواجهنا، فالدعاة اليوم أكثر

(1)

قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (2/ 189).

(2)

الاجتهاد المقاصدي للخادمي (1/ 109).

(3)

مقاصد الشريعة عند ابن القيم، للدكتور سميح عبد الوهاب الجندي (90).

ص: 237

اضطرارًا لذلك عن أمس، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، ومن البصيرة أن تكون عالمًا بمقاصد الدين ومراميه، فبقدر معرفة الداعي منه تكون بصيرته.

قال العلامة شاه ولي الله الدهلوي رحمه الله: وأولى العلوم الشرعية عن آخرها فيما أرى وأعلاها منزلة، وأعظمها مقدارًا، هو علم أسرار الدين الباحث عن حجج الأحكام، وأسرار خواص الأعمال، إذ به يصير الإنسان على بصيرة بما جاء به الشرع

(1)

.

(1)

حجة الله البالغة للشاه ولي الله الدهلوي (1/ 4).

ص: 238

•‌

‌ سوء استخدام الناس للمقاصد في العصر الحديث:

هذا الأمر من الأمور المهمة التي ينبغي فهمها وإدراكها، ولأهميته وجدت الحاجة ملحة للتنبيه عليه؛ نظرًا لما نراه في عصرنا الحاضر من دعاةٍ يعطلون أحكام الباري بدعوى العمل بمقاصد الشريعة، فليس معنى أن الشريعة موافقة لكل زمان ومكان أن تُلوَى أعناق النصوص لتوافق هوى الناس ورغباتهم، فهذا المنزلق كان سببًا في انحراف بعض الناس.

قال الأستاذ عمر عبيد حسنة: وهنا لا بد من التنبيه على بعض المخاطر التي قد تصاحب الاجتهاد المقاصدي، ذلك أن قضية المقاصد أو التوسع بالرؤية والاجتهاد المقاصدي، دون ضوابط منهجية وثوابت شرعية، يمكن أن تشكل منزلقًا خطيرًا ينتهي بصاحبه إلى التحلل من أحكام الشريعة، أو تعطيل أحكامها باسم المصالح، ومحاصرة النصوص باسم المصالح، واختلاط مفهوم المصالح بمفهوم الضرورات، في محاولة لإباحة المحظورات، فتتوقف الأحكام الشرعية باسم الضرورة تارة، وتارة باسم تحقيق المصلحة، وتارة تحت عنوان النزوع إلى تطبيق روح الشريعة لتحقيق المصلحة، فيستباح الحرام، وتوهن القيم، وتغير الأحكام وتعطل، ويبدأ الاجتهاد من خارج النصوص، ومن ثم يبرز التفسير المتعسف للنصوص من هذا الاجتهاد

ص: 239

الخارجي، وكأن النصوص في الكتاب والسنة -والتي ما شرعت إلا لتحقيق المصالح، وكانت الدليل والسبيل لبناء الاجتهاد المقاصدي- إذ بها تتحول لتصبح العقبة أمام تحقيق المصالح، وأن تعطيل المصالح كان بسبب تطبيقها، لذلك لا بد من إيقافها والخروج عليها، في محاولة بائسة لفصل العقل عن مرجعية الوحي، واستقلاله بتقدير المصالح والمفاسد والتحسين والتقبيح، بحيث يصبح مقابلًا للوحي، بدل أن يكون قسيمًا له، مهتديًا به، منطلقًا منه

(1)

.

وقال أيضًا: وأخطر ما في التدين من آفات، هو الفهوم المغشوشة والمعوجة لقيم الدين، والتفتيش عن المسوغات والمشروعيات لواقعنا وأهوائنا ومسالكنا، فتنقلب المعادلة، فبدل أن يكون هوانا تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، نجعل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبعًا لأهوائنا وفلسفاتنا، ونعيش تدينًا معوجًا، تسوده تحريفات الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويلات الجاهلين، فتغيب المقاصد والغايات، ونكون من الأخسرين أعمالًا، ونحن نحسب أننا نحسن صنعًا

(2)

.

وهذا أيضًا لا يعني أن نهمل مقاصد الشريعة مخافة انحراف الناس، فسوء الاستعمال للمقاصد وغيرها موجود، وليس معنى هذا أن يهمل

(1)

مقدمة الاجتهاد المقاصدي لنور الدين الخادمي (1/ 33).

(2)

مقدمة الاجتهاد المقاصدي لنور الدين الخادمي (26).

ص: 240

العلم ويترك، وإلا لتركنا باب القياس، والاجتهاد أيضًا، وغيره بنفس العلة، فسوء استعمال الناس للمقاصد «خاصة في هذا العصر» ، ولي أعناق النصوص بحجة مراعاة المقاصد، لا ينبغي أن يكون سببًا في عزوف الناس عن المقاصد ودراستها، فالتطبيق الخاطئ للوسيلة لا يجوز إلغاءها، وإنما يقتضي تصويبها لتؤتي ثمارها.

•‌

‌ بعض الأمثلة على سوء استعمال الناس للمقاصد:

ومن ذلك قولهم: المسلم اليوم لم يعد يستسيغ الكثير من الأحكام الشرعية، كتعدد الزوجات، والجلد، والرجم، أو كما في عدة المرأة المطلقة بأن تعتد ثلاثة قروء، والأرملة تتربص أربعة أشهر وعشرًا، والمقصد الأساسي من هذا الاحتياط إنما هو التثبت من حصول الحمل من عدمه، والحال أن وسائل الكشف تمكننا من معرفة ذلك يقينًا، خلال نصف أقصر العدتين، ولذلك ارتفعت عديد من الأصوات تنادي بضرورة الاجتهاد في الأحكام النصية نفسها

(1)

.

(1)

صاحب هذا الضلال ألف كتابا أسماه (مقاصد الشريعة بين التشريع الإسلامي، وطموح المجتهدين، وقصور الاجتهاد) ينتقد فيه الطاهر بن عاشور؛ لأنه أبقى أحكام الشريعة كما هي، فيقول: ويبدو أن ابن عاشور قد نزع هذا المنزع لمجرد إثبات أهلية المقاصد للبت في ما يعرض من قضايا، من دون مناقضة الأحكام الشرعية المتوارثة. انظر كتاب محاضرات في مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني.

ص: 241

فهم يريدون إلغاء أحكام الشريعة وتبديلها، وجعلها قابلة للحذف والتبديل والإلغاء والنقص والزيادة، وكل ذلك تحت غطاء المقاصد، وبإضفاء الصبغة الشرعية لهذا التبديل والتحريف، حتى يبدو الأمر وكأنه شرعي.

وقال آخرون: إن قصد الشريعة من الحدود هو الزجر والردع، والجلد والرجم والحدود وسيلة لذلك، فإذا حصل الردع والزجر بأي وسيلة أخرى فقد حصل مقصود الشارع.

والحق: أن النصوص الشرعية لا تتعارض مع المقاصد الشرعية؛ لأن المصدر واحد، فالشريعة أحكام تنطوي على مقاصد، ومقاصد تنطوي على أحكام، فمقاصد الشريعة دليل مع كل دليل، ودليل في كل دليل، وجزء من كل دليل، فتفهم النصوص الخاصة في ضوء المقاصد العامة بفهم أهل العلم والديانة، من غير تحريف للنص، ولا تعطيل لمقصد الشارع.

تنبيه مهم:

إن الحقيقة الواضحة، والسنة الربانية الثابتة المقررة أن المرء يُؤتَى من سوء فهمه، وخبث طويته ونيته؛ لذا لو نُظِر لما سبق من مسائل ذكروها وأثاروها لمناقضة حكم الشرع استنادًا للمصالح والمقاصد في نظرهم كالعدد، والحدود، ونحوها قد تجد أن هذه المسائل لها

ص: 242

مجموعة من المقاصد، فنظروا إلى بعضها دون بعض، وقد تكون هناك مقاصد زائدة أيضًا لا يعلمها الناس، فقد قال تعالى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، وقال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، ومنها قد يكون تحقيق المقاصد بغير ما شرع الله أمر خاطئ ومتوهم.

ومن ذلك: ما ذكروا في الحدود ونحوها، وأن هناك زواجر أخرى تغني عنها وتُحَقِّق المقصود، فالواقع يظهر كذب ذلك، وبهتانه وزوره؛ ولقد جرب العالم كله زواجر بقوانين وضعوها غير شريعة الله تعالى، فباءت كلها بالفشل الذريع، وعادوا بخيبة وحسرة، وحوادث القتل والزنا والاغتصاب وغيرها، ونسبتها المروعة، وزيادتها المفزعة، بل وتفشيها في العالم لَخَيْر شاهد على ذلك.

فتبين بذلك أمور منها:

1 -

أن لا حكم أحسن من حكم الله سبحانه وتعالى.

2 -

وانه لا تعارض بين الشرع ومقاصده، بل كله يدور في فلك واحد؛ إذ هما من عند إله واحد.

3 -

أنه لا سبيل لتحقيق مصالح العباد على الوجه الأكمل ودرء المفاسد عنهم إلا باتباع شرع الله وأحكامه؛ لذا حكم الله تعالى أن

ص: 243

حكمه أحسن الحكم فقال تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وأن هديه أقوم الهدي قال تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].

الخلاصة:

ومن هنا يتلخص مبحث المقاصد في أمور منها:

1 -

أن مدار الدين والأحكام يبدأ، ويدور، وينتهي عند مقاصد الشريعة.

2 -

أن مقاصد الشريعة العامة هي تحقيق المصالح للعباد، ودرء المفاسد عنهم.

3 -

أن لا مصلحة حقيقية للعباد إلا بما وافق نصوص الوحي من الكتاب والسنة، وإن توهم البعض غير ذلك، فإنما هو من التدليس والتلبيس، والعي في الأفهام، والنقص في الأديان.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه.

ص: 244

‌الخاتمة

هذا آخر ما تم جمعه وتحقيقه من مسائل أصول الفقه والمقاصد، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

فالفضل والمنة لله على التوفيق، وعلى الدوام، وعلى الإعانة حتى النهاية، فله الحمد في الأولى وفي الآخرة.

وأسأله سبحانه كما وفقنا للعمل وإتمامه أن يمن علينا وعلى أعمالنا جميعها بالقبول، وأن ينفع بها، وأن يجعلها في موازين الحسنات، وأن يتجاوز عن زلاتنا وأخطائنا إنه عفو غفور، حليم كريم.

وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه.

ص: 245

‌الأسئلة النظرية، والتطبيقات العملية

ص: 247

‌أولًا: الأسئلة النظرية

السؤال الأول: اكتب كلمة صواب أمام العبارة الصواب، وكلمة خطأ أمام العبارة الخطأ مع تصويب الخطأ:

1 -

اتفاق الخلفاء الأربعة ليس إجماعًا، وكذلك اتفاق الأئمة الأربعة.

2 -

القراءات الشاذة ليست قرآنًا.

3 -

يحمل المتشابه على المحكم، ويرجع فى المنسوخ إلى حكم الناسخ.

4 -

ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة ليس تشريعًا.

5 -

شرع من قبلنا الذى لم يثبت بشرعنا شرع لنا.

6 -

الفرض والواجب مترادفان.

7 -

الإجماع يكون من جميع الأمة.

8 -

قول الصحابي لا يخصص النص مطلقًا.

ص: 249

9 -

لابد للإجماع من مستند؛ لذا يلزم إبراز الدليل طالما أن الإجماع صحيح.

10 -

القياس دليل من أدلة الأحكام؛ لذا فإنه يثبت حكمًا جديدًا.

11 -

إذا اختلف فى المسألة على قولين فهذا يفتح المجال للبحث، وإحداث أقوال أخرى، فهذا من خلاف التنوع.

12 -

قياس العكس أقوى من قياس العلة.

13 -

من شروط العلة أن تكون مؤثرة، ومناسبة، ومنضبطة؛ لذا فإنها لا تتعدد لحكم واحد.

14 -

لابد للمجمل من بيان، ومن كمال الشريعة الاستقصاء فى البيان.

15 -

كما أن المجمل يحتاج إلى بيان، فإن العام يحتاج إلى بيان.

16 -

لابد من وجود العلة فى الفرع بنفس الدرجة الموجودة فى الأصل حتى ينتقل الحكم إلى الفرع.

17 -

حديث «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» مثال للعام الباقي على عمومه.

18 -

لابد للإجماع من مستند فى عين المسألة المجمع عليها.

ص: 250

19 -

لابد من معرفة التاريخ حتى نقول بالنسخ.

20 -

أكثر الإجماعات قوة هي التي نقلها الحافظ الكبير ابن عبد البر الأندلسى رحمه الله.

21 -

ليس هناك حاجة لنقل الإجماع على الأحكام الثابتة بأدلة صحيحة صريحة.

22 -

القياس والعموم يشتركان في أن كليهما إلحاق مسكوت عنه بمنطوق.

23 -

كل تأويل يرفع النص أو جزءًا منه فهو باطل.

24 -

الأصل في اللفظ المشترك أنه يحمل على جميع معانيه.

25 -

حكاية الصحابي للحديث بلفظ عام لا يفيد العموم لأنه قول صحابي.

26 -

كل ما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

27 -

أكثر العمومات مخصصة.

28 -

يصح الاستثناء من غير الجنس فى العام والمطلق.

29 -

مفهوم الموافقة يسمى «دلالة النص، والقياس الجلي، ومفهوم الأولى، وفحوى الخطاب» .

ص: 251

30 -

مفهوم المخالفة أضعف من المنطوق؛ لذا لا يصح تخصيص المنطوق بمفهوم المخالفة.

31 -

قال صلى الله عليه وسلم: «الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن» يصح الأخذ بمفهوم التقسيم هنا، فلا تستأذن الثيب.

32 -

إذا تعارض القياس مع مفهوم المخالفة يقدم القياس.

33 -

النسخ جائز شرعًا وعقلًا.

34 -

النسخ قصر الحكم على بعض الأزمان، والتخصيص قصر الحكم على بعض الأفراد.

35 -

لابد من الجمع بين النصوص الشرعية، وأقوال الفقهاء لدرء التعارض.

ص: 252

• السؤال الثاني: ما الفرق بين كل مما يأتي:

1 -

الأدلة الإجمالية، والأدلة التفصيلية.

2 -

الحكم عند الأصوليين، وعند الفقهاء.

3 -

ثواب العمل، وثواب الفضل.

4 -

التزاحم، والتداخل.

5 -

الواجب العيني، والواجب الكفائي.

6 -

الواجب، والفرض عند الأحناف.

7 -

مطلق الأمر، والأمر المطلق.

8 -

المندوب، والمكروه.

9 -

السبب الوقتي، والسبب المعنوي.

10 -

الأحكام التكليفية، والأحكام الوضعية.

11 -

المحكم، والمتشابه.

12 -

الاستحسان، والمصالح المرسلة.

13 -

قول الجمهور، والإجماع.

14 -

تحقيق المناط، وتنقيح المناط.

15 -

العرف الصحيح، والعرف الفاسد.

ص: 253

16 -

الاستغراق الشمولي، والاستغراق البدلي.

17 -

فحوى الخطاب، ولحن الخطاب.

18 -

مفهوم الصفة، ومفهوم اللقب.

19 -

التخصيص، والتنصيص.

20 -

السبب، والعلة.

21 -

الركن، والشرط.

22 -

التخصيص، والنسخ.

23 -

النسخ، والصرف.

24 -

التقييد، والنسخ.

25 -

النسخ، والبداء.

26 -

العلم، وفهم الخطاب.

27 -

المفتي، والقاضي.

28 -

الاجتهاد، والتقليد.

29 -

الجمع، والترجيح.

30 -

العلة، والحِكْمَة.

ص: 254

السؤال الثالث: ما المقصود بالعبارات الآتية:

1 -

لا تلازم بين الصحة والثواب.

2 -

قد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببًا وشرطًا وعلة.

3 -

الإباحة منصبة على الجزئيات لا على الكليات.

4 -

المنصوص عليه لا ينتقض حكمه، وإن تخلفت علته.

5 -

التفاضل بين الواجبات.

6 -

المندوب ليس جنسًا واحدًا.

7 -

الآيات المحكمات هن أم الكتاب.

8 -

انقراض عصر المجمعين.

9 -

الإجماع الكاذب.

10 -

عمل أهل المدينة.

11 -

زلة العالم مضروب بها الطبل.

12 -

لا ينسحب الخلاف على أكثر مما حكي فيه.

13 -

مسالك العلة.

14 -

الاستصحاب المقلوب.

15 -

الاستقراء.

ص: 255

16 -

من استحسن فقد شرع.

17 -

الاحتمال المعتبر يسقط الاستدلال لا الدليل.

18 -

التنصيص على بعض أفراد العام ليس تخصيصًا.

19 -

العبرة بعموم اللفظ، وليس بخصوص السبب.

20 -

لا أعلم نزاعًا.

21 -

القياس لا يثبت حكمًا جديدًا.

22 -

صورة السبب قطعية الدخول فى العام.

23 -

الاستثناء معيار العموم.

24 -

البيان يحدث بكل ما يزيل الإشكال.

25 -

ليس كل الأحكام يدخلها النسخ.

26 -

ما نهي عنه سدًّا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة.

27 -

ليس كل مجتهد مصيبًا.

28 -

المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.

29 -

الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة.

30 -

الضروريات الخمس.

ص: 256

‌ثانيًا:

التطبيقات العملية

ص: 257

‌التطبيق العملي الأول:

مثل لكل مما يأتي:

1 -

أسلوب خبري.

2 -

أسلوب إنشائي.

3 -

أسلوب خبري إنشائي.

4 -

أسلوب إنشائي خبري.

5 -

واو تقتضي الترتيب.

6 -

واو تنافي الترتيب.

7 -

لام تفيد التعليل.

8 -

لام تفيد الإباحة.

9 -

تزاحم واجبان.

10 -

تزاحم واجب مع سنة.

11 -

مندوب لزم بالشروع، وآخر لم يلزم.

12 -

مندوب قدم على واجب.

ص: 259

13 -

مندوب بأصل وضعه.

14 -

مندوب مضيق.

15 -

واجب مضيق.

16 -

فرض كفايه تحول إلى فرض عين.

17 -

مباح بالجزء مطلوب بالكل.

18 -

محرم وصف بالكراهة.

19 -

واجب موسع انقلب إلى مضيق.

20 -

مكروه وجب فعله.

21 -

محرم لذاته.

22 -

محرم لغيره.

23 -

تزاحم محرمات.

24 -

حكم تكليفي وضعي.

25 -

عبد انعدمت فيه الأهليتان.

26 -

شرط صحة.

27 -

شرط وجوب.

ص: 260

28 -

شرط قبول.

29 -

اجتماع الشرط والسبب والمانع فى شيء واحد.

30 -

مباح انقلب إلى حرام.

31 -

مانع من الابتداء دون الدوام.

32 -

مانع من الدوام دون الابتداء.

33 -

مانع من الدوام والابتداء.

34 -

وسيلة تفضي إلى محرم، ولكنها غير ممنوعة.

35 -

دليل قطعي الدلالة والثبوت.

36 -

دليل قطعي الثبوت ظني الدلالة.

37 -

دليل ظني الثبوت قطعي الدلالة.

38 -

موطن احتجاج بقراءة شاذة.

39 -

قراءة شاذة شهد لها الدليل.

40 -

عالم بالحكم غير مكلف.

41 -

جاهل بالحكم مكلف.

42 -

أمر يفيد الوجوب.

ص: 261

43 -

أمر يفيد الإرشاد.

44 -

أمر يفيد الامتنان.

45 -

أمر يفيد التراخى.

46 -

مأمور به ليس بواجب.

47 -

أمر خرج للإباحة.

48 -

منهي عنه خرج إلى الكراهة.

49 -

نهي صرف بالقول.

50 -

نهي صرف بالفعل.

51 -

أمر بعد حظر، ويفيد الوجوب.

52 -

أمر بعد حظر، ويفيد الإباحة.

53 -

نهي يقتضي فساد المنهي عنه.

54 -

نهي لا يقتضي فساد المنهي عنه.

55 -

قياس صحيح.

56 -

قياس فاسد لوجود الفارق.

57 -

قياس فاسد لعدم معرفة العلة.

ص: 262

58 -

قياس فاسد لمصادمة النص.

59 -

قياس الدلالة.

60 -

قياس العكس.

61 -

قياس الشبة.

62 -

القياس الصوري.

63 -

علة منصوص عليها.

64 -

علة مستنبطة.

65 -

علة ثبتت بالإجماع.

66 -

وصف طردي.

67 -

وصف مُلغَى.

68 -

وصف مؤثر.

69 -

استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للقياس.

70 -

علة ثبتت بالإيماء.

71 -

وصف اعتبر فى موطن، وألغي فى آخر.

72 -

قول صحابي حجة.

ص: 263

73 -

قول صحابي ليس بحجة.

74 -

عرف معتبر.

75 -

عرف غير معتبر.

76 -

شرع من قبلنا شرع لنا.

77 -

شرع من قبلنا وليس شرعًا لنا.

78 -

عام باق على عمومه.

79 -

عام أريد به الخصوص.

80 -

عام مخصوص.

81 -

عام نزل على سبب خاص.

82 -

صورة نادرة دخلت فى العموم إجماعًا.

83 -

حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

84 -

نكرة فى سياق الإثبات تفيد العموم.

85 -

استثناء متصل حقيقة.

86 -

استثناء متصل حكمًا.

87 -

استثناء من الاستثناء.

ص: 264

88 -

مستثنى أكبر من المستثنى منه.

89 -

استثناء من غير الجنس من القرآن.

90 -

استثناء من غير الجنس من السنة.

91 -

تخصيص الكتاب بالكتاب.

92 -

تخصيص الكتاب بالسنة.

93 -

تخصيص الكتاب بالإجماع.

94 -

تخصيص السنة بالكتاب.

95 -

تخصيص السنة بالإجماع.

96 -

عام لا يصح تخصيصه.

97 -

حد دخل فى المحدود، وآخر لم يدخل.

98 -

احتجاج الصحابة بالعموم.

99 -

احتجاج النبى صلى الله عليه وسلم بالإطلاق.

100 -

مطلق باق على إطلاقه.

101 -

مطلق صح تقييده، وآخر لم يصح.

102 -

ظاهر مؤول تأويلًا صحيحًا.

ص: 265

103 -

ظاهر مؤول تأويلًا فاسدًا.

104 -

حقيقة شرعية.

105 -

حقيقة عرفية.

106 -

مجمل بُيِّنَ بالقول.

107 -

مجمل بُيِّنَ بالفعل.

108 -

مجمل بُيِّنَ بالإشارة.

109 -

مجمل بُيِّنَ بالإقرار.

110 -

بيان أُخِّر عن وقت الخطاب.

111 -

إلحاق مسكوت عنه بمنطوق.

112 -

مفهوم موافقة أولى.

113 -

مفهوم موافقة مساوٍ.

114 -

ما نسخ حكمه، وبقي لفظه.

115 -

ما نسخ لفظه، وبقي حكمه.

116 -

ما نسخ لفظه، وحكمه.

117 -

نسخ القرآن بالسنة.

ص: 266

118 -

نسخ السنة بالإجماع.

119 -

نسخ وقع على مفهوم.

120 -

تعارض نص مع ظاهر.

121 -

تعارض حاظر مع مبيح.

122 -

مجتهد يحرم اجتهاده.

123 -

موطن اجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

124 -

مفتي لا تجب عليه الفتوى.

125 -

مقلد يجب عليه الفتوى.

126 -

مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم للمقاصد.

127 -

مراعاة الصحابة رضوان الله عليهم للمقاصد.

128 -

سوء استخدام بعض الناس للمقاصد.

129 -

خطأ ترتب عليه أجر.

130 -

تنصيص على بعض أفراد العام.

131 -

مجتهد يجوز له التقليد.

132 -

دلالة إيماء.

ص: 267

133 -

دلالة إشارة.

134 -

دلالة اقتضاء.

135 -

حكم له أكثر من علة.

ص: 268

‌التطبيق العملي الثاني:

اذكر حكم ما يأتي مع ذكر القاعدة:

1 -

المزاحمة من أجل تقبيل الحجر الأسود.

2 -

إذا أسلمت المرأة فى دار الكفر.

3 -

شراء السواك.

4 -

بيع العنب لمن يتخذه خمرًا.

5 -

من نسي قراءة الفاتحة فى الصلاة.

6 -

إخراج الزكاة قبل موعدها.

7 -

الصلاة فى أرض مغصوبة.

8 -

صبي لم يميز بلغ ماله النصاب، وحال عليه الحول.

9 -

صبي لم يميز ترك قراءة الفاتحة عمدًا فى الصلاة.

10 -

صبي مميز أتلف أساس الجار عن غير عمد.

11 -

ترك النوم كلية.

ص: 269

12 -

رجل استُودِع أمانة، فتركها فى موضع نسيانًا، فذهبت عليه.

13 -

طلاق السكران.

14 -

من فاتته صلاة الجمعة.

15 -

أكل الضب.

16 -

عقود الاستصناع.

17 -

طلَّق ثلاثًا فى مجلس واحد.

18 -

إجماعٌ خالف نصًّا.

19 -

إجماعٌ خالف قياسًا.

20 -

قياسٌ خالف عرفاً.

21 -

من جامع فى نهار رمضان ناسيًا صومه.

22 -

من تيمم، ثم وجد الماء بعد الشروع فى الصلاة.

23 -

سجود التلاوة.

24 -

نذر أن يصوم أيامًا فصام يومين.

25 -

قال لزوجته أنت طالق، ثم قال بعد مدة إن شاء الله.

26 -

قال لزوجته أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا.

ص: 270

27 -

قال لزوجته أنت طالق إن كلمت زيدًا، ودخلت الدار، فكلمت زيدًا، ولم تدخل الدار.

28 -

قال لزوجته أنت طالق إن كلمت زيدًا، أو دخلت الدار، فكلمت زيدًا، ولم تدخل الدار.

29 -

قال لزوجته أنت طالق أن «بفتح الهمزة» كلمت زيدًا.

30 -

قتل رجلًا ثم لاذ بالفرار، ودخل الحرم.

31 -

ظاهر من امراته فأطعم مسكينًا واحدًا ستين مرة.

32 -

الأضحية بالعمياء.

33 -

تحية المسجد.

34 -

قطع يد السارق إلى المرفق.

35 -

صيام المرأة وزوجها حاضر بدون إذنه.

36 -

تغطية الفم فى الصلاة.

37 -

الصلاة فى ثوب من حرير.

38 -

حكم صلاة من أتى كاهنًا.

39 -

تحية المسجد فى وقت النهى.

40 -

الرهن فى الحضر.

ص: 271

41 -

الكافر الذى يصد عن سبيل الله هل ذنبه أو إثمه أعظم من المسالم.

42 -

تحرير الرقبة فى كفارة اليمين.

43 -

صلاة العبد الآبق.

44 -

البول قائمًا.

45 -

مسح اليد فى التيمم إلى المرفق.

46 -

استخدام الصوف والوبر من الميتة.

47 -

حكم نقض الوضوء من مس الذكر.

48 -

وجد لمعة في القدم لم يمسها ماء الوضوء بعد الصلاة.

49 -

حكم زواج الربيبة التي لم تُرَبَّ في حجره.

50 -

حكم من جامع في نهار رمضان مدعيًا جهله للحكم.

ص: 272

‌التطبيق العملي الثالث:

على أي القواعد والضوابط بنيت الأحكام الآتية:

1 -

النكاح بغير ولي فاسد وليس باطلًا.

2 -

التعامل بالربا قبل العلم لا إثم عليه.

3 -

لا يجب الوضوء للصلاة لمن توضأ من قبل.

4 -

جواز بيع لبن الآدمي.

5 -

جواز قطع شوك الحرم.

6 -

الأخذ بقول ابن عباس فى الفدية للحامل والمرضع.

7 -

عدم الأخذ بقول ابن عباس فى الفدية للحامل والمرضع.

8 -

لا يجب تحصيل النصاب للزكاة.

9 -

من حلف ألا ياكل لحمًا فأكل سمكًا لم يحنث، مع تسمية الشرع للسمك لحمًا.

10 -

شراء السواك مندوب.

11 -

لا يصح اعتبار شهادة الصحابى بشهادة رجلين قياسًا على

ص: 273

خزيمة بن ثابت.

12 -

قول بعض المفسرين فى تفسير قوله تعالى «والفجر» قال: هو النهار كله.

13 -

الدباغ يطهر جميع الجلود.

14 -

الدباغ لا يطهر إلا جلود مأكول اللحم.

15 -

جواز أكل كلب البحر وخنزيره.

16 -

جواز التطهر بالماء المستعمل.

17 -

المصالح المرسلة معتبرة شرعًا بخلاف الأحاديث المرسلة مع اتفاقهما فى الإرسال.

18 -

العمرة من التنعيم ليس خاصًّا بعائشة رضي الله عنها.

19 -

قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] تحريم أكل الميتة.

20 -

قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] يدل على أنه يجوز للصائم أن يصبح جنبًا.

21 -

جواز الفطر للصائم المتطوع.

22 -

جواز مس الذكر باليمين عند قضاء الحاجة.

23 -

تصح العبادات من الطفل، ولا تجب عليه.

ص: 274

24 -

إذا أتلف الصبى شيئًا يضمنه وليه.

25 -

من نذر أن يصوم يومًا بعينه، فلم يصمه وجب عليه القضاء.

26 -

القول بأن الختان عادة قول شاذ.

27 -

جواز إعطاء فقراء أهل الذمة من الكفارات والنذور.

28 -

المطلقة ثلاثًا فى مرض الموت ترث.

29 -

المغمى عليه لا يجب عليه القضاء.

30 -

الخارج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء.

31 -

جواز استعمال الحكام للحيل التى تستخرج بها الحقوق.

32 -

الاقتصار فى غسل الإناء الذى ولغ فيه الكلب على ثلاث غسلات.

33 -

جواز التقاط ما بقي من ثمار الغير بغير إذنه.

34 -

من حلف ألا ياكل الرؤوس فأكل رؤوس الحيتان لا يحنث.

35 -

الوتر ليس واجبًا لأن النبى صلى الله عليه وسلم صلاه على الراحلة.

36 -

وجوب الغسل من المني الخارج بغير لذة.

37 -

جواز التضحية بالخنثى من بهيمة الأنعام.

38 -

صحة صلاة من تكلم ناسيًا.

ص: 275

39 -

بطلان صلاة مَنْ تكلم ناسيًا.

40 -

شهادة القاذف مردودة ولو تاب.

41 -

عدم اشتراط النصاب فى الزكاة.

42 -

وجوب الزكاة فى كل ما أخرجت الأرض.

43 -

جواز قصر الصلاة في كل سفر.

44 -

وقوع الطلاق بالقول، والكتابة، والإشارة.

45 -

وجوب التتابع فى صيام كفارة اليمين.

46 -

الذى ظاهر من امرأته يجوز له وطؤها قبل الإطعام، ولا يجوز قبل الصيام.

47 -

المطلقة ثلاثًا غير الحامل لا تجب النفقة عليها.

48 -

يجوز للمحرم أن يلبس الخفين بدون قطع.

49 -

إذا طهرت الحائض قبل الغروب يجب عليها صلاتي الظهر والعصر.

50 -

لو قال لوكيله طلق زوجتى فلا يطلقها إلا مرة واحدة.

51 -

القول بأن قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] خطاب موجه للمسلمين وخاصة أولياء الامور.

ص: 276

‌التطبيق العملي الرابع:

اذكر القواعد والضوابط الأصولية المشابهة

للقواعد والضوابط الحديثية الآتية:

1 -

الجرح يقدم على التعديل إن كان مُفَسَّرًا.

2 -

كلام الأقران يطوى ولا يروى.

3 -

الحديث الصحيح ينقسم إلى صحيح لذاته، وصحيح لغيره.

4 -

الحديث الصحيح هو ما اتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة.

5 -

الحديث الضعيف لا يترتب عليه حكم.

6 -

إذا خالف الثقة من هو أوثق منه فحديثه شاذ.

7 -

اذا خالف الضعيف الثقات فحديثه منكر.

8 -

زيادة الثقة مقبولة.

9 -

لا تقبل رواية المدلس إلا إذا صرح بالتحديث.

10 -

تتعدد مصطلحات وأساليب الجرح والتعديل.

ص: 277

11 -

الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه يحسن بمجموع طرقه.

12 -

شروط تحمل الرواية تختلف عن شروط آدائها.

13 -

لا بد من معرفة الإدراج فى الحديث.

14 -

تلغى بعض أوصاف التعديل من المتساهلين إذاخالفت جرح المتوسطين والمتشددين.

ص: 278

‌التطبيق العملي الخامس:

وصِّف المسائل الآتية

(أي تحت أي المواضيع يمكن وضعها):

1 -

بسم الله الرحمن الرحيم.

2 -

لا إله إلا الله.

3 -

قال تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].

4 -

عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار» ، وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.

5 -

عن عبد الله رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية: {الذين آمنوا ولم يلبسواإيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه:{يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].

6 -

قال تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل

ص: 279

27 -

قال صلى الله عليه وسلم «الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن» .

28 -

قال صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم» .

29 -

قال صلى الله عليه وسلم «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» .

30 -

الزوال لصلاة الظهر.

31 -

قال صلى الله عليه وسلم «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» .

32 -

قال صلى الله عليه وسلم «وفى بضع أحدكم صدقة» .

33 -

قال تعالى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36].

34 -

قال تعالى {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64].

35 -

الإحرام للنكاح.

36 -

الإفطار للمسافر.

37 -

قال صلى الله عليه وسلم «إن هذه الحشوش محتضرة فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث» .

38 -

شرب الخمر لمن به غصة.

39 -

حرق الغنائم عند العجز عن حملها.

40 -

قال صلى الله عليه وسلم «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» .

ص: 282

‌التطبيق العملي السادس:

استخرج القواعد الأصولية والأحكام الفقهية

من الأدلة الآتية:

1 -

عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن فى الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور»

(1)

.

2 -

عن جابر رضي الله عنه قال: «أهَلَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وقدم عليٌّ من اليمن، وقال أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة، فيطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي، فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت» ، وحاضت عائشة، فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت، قالت: يا رسول الله ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج،

(1)

أخرجه البخاري (1829)، ومسلم (1198) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.

ص: 284

فأمر عبد الرحمن بن أبى بكر يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج)

(1)

.

3 -

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من باع نخلًا قد أُبِّرَتْ

(2)

فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع»

(3)

.

4 -

عن ابن عمر رضي الله عنه قال «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد فى السفر عن ركعتين وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (1651) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(2)

قد أُبِّرَتْ: من التأبير وهو التلقيح وهو أن يشق طلع الإناث، ويؤخذ من طلع الذكور، فيوضع فيها ليكون الثمر بإذن الله أجود.

(3)

أخرجه البخاري (2204)، ومسلم (1543) من حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا.

(4)

أخرجه البخاري (1102) من حديث ابن عمر.

ص: 285

‌التطبيق العملي السابع:

استخرج الأحكام الشرعية من الأدلة الآتية

موضحًا سبب ذلك:

1 -

قوله تعالى {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31].

2 -

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صام ومن شاء ترك» .

3 -

قال صلى الله عليه وسلم «أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي» .

4 -

قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} [البقرة: 178].

5 -

قال صلى الله عليه وسلم «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» .

6 -

قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ

ص: 286

عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة: 187].

7 -

قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} [النساء: 43].

8 -

قال صلى الله عليه وسلم لمن قدم أوأخر فى الحج «افعل ولا حرج» .

9 -

قوله تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} [البقرة: 230].

10 -

قوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور: 2].

11 -

قال صلى الله عليه وسلم «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» .

ص: 287

12 -

قال صلى الله عليه وسلم «من شرب فى إناء ذهب أو فضة فإنما يجرجر فى بطنه نار حهنم» .

13 -

نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.

14 -

قال صلى الله عليه وسلم «تسحروا فإن فى السحور بركة» .

15 -

سئل صلى الله عليه وسلم أنصلى فى مرابض الغنم قال «نعم» .

16 -

قال تعالى {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33].

17 -

قال صلى الله عليه وسلم «لا يشربن أحد منكم قائمًا فمن نسي منكم فليستقئ» .

18 -

قال صلى الله عليه وسلم «ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع» .

ص: 288

‌التطبيق العملي الثامن:

اذكر القواعد الأصولية

المشابهة للقواعد الفقهية الآتية:

1 -

الوسائل لها أحكام المقاصد.

2 -

اليقين لا يزول بالشك.

3 -

الواجب يسقط مع العجز.

4 -

الضرورات تبيح المحظورات.

5 -

الميسور لا يسقط بالمعسور.

6 -

درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

7 -

إذا تزاحم عدد المصالح يقدم الأعلى من المصالح.

8 -

يسقط الإثم بالخطأ والنسيان.

9 -

الأحكام لا تتم إلا بوجود الشروط وانتفاء الموانع.

10 -

لا يسقط الضمان بالخطأ والنسيان.

ص: 289

‌التطبيق العملي التاسع:

اجمع الآيات والأحاديث فى كل مسألة من المسائل الآتية، ثم ابحث فى حكمها بما معك من الأدلة والقواعد، دون الرجوع إلى كتب الفقه لتحصل لك الدربة على استنباط الأحكام واستخدام القواعد الأصولية فى ضوء النصوص الشرعية، وبعد استخراج الأحكام راجع كتب الفقه وكلام العلماء لتعلم الصواب من الخطأ:

1 -

حكم استقبال القبلة أو استدبارها فى البول والغائط.

2 -

الوضوء من لمس المرأة.

3 -

حكم قراءة الفاتحة للمأموم.

4 -

سجود السهو في النقصان والزيادة.

5 -

حكم زكاة الحلي.

6 -

أيهم أفضل فى الحج: المفرد أم القارن أم المتمتع.

7 -

حكم بيع الغرر.

8 -

حكم النكاح بغير ولي.

9 -

حكم صيام المريض الذى لا يرجى برؤه.

10 -

حكم طلاق المرأة فى حيضها.

ص: 290

‌المصادر والمراجع

• القرآن الكريم.

‌كتب التفسير وعلوم القرآن:

• تفسير الطبري.

• تفسير ابن كثير.

• تفسير البغوي دار طيبة.

• زاد المسير لابن الجوزي.

• تفسير النكت والعيون للماوردي.

• التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزى.

• تفسير روح المعاني للألوسي.

• التفسير البسيط للواحدي.

• تفسير مقاتل.

• الدر المنثور للسيوطي.

ص: 291

• الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن طالب.

• التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.

• في ظلال القرآن لسيد قطب.

• صفوة التفاسير للصابوني.

• تفسير السعدي.

• تفسير ابن عثيمين.

• أحكام القرآن للكيا الهراسي.

• أحكام القرآن للجصاص دار إحياء التراث.

• التبيان في آداب حملة القرآن للنووي.

• القراءات الشاذة أحكامها وآثارها للدكتور إدريس حامد.

• القراءات الشاذة ضوابطها والاحتجاج بها في الفقه وفي العربية، للدكتور عبد العاطي، دار ابن عفان.

• تأويل مشكل القرآن لعبد الله بن مسلم الدينوري، المكتبة العلمية.

• الإتقان للسيوطي.

• تفسير الرازي دار الفكر.

• محاسن التأويل للقاسمي.

ص: 292

• تفسير أضواء البيان للشنقيطي.

• أحكام القرآن لابن العربي دار الكتب العلمية.

• الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي بن طالب.

• كتاب الإسرائيليات في التفسير والحديث. دكتور محمد حسين الذهبي.

• تفسير القرطبي دار الحديث.

• فتح القدير للشوكاني.

• فضائل القرآن للقاسم بن سلام.

• المصاحف لابن أبي داود.

• دفع إيهام الاضطراب للشنقيطي.

• مناهل العرفان للزرقاني.

• الصحابة الذين اشتهروا بالأخذ عن أهل الكتاب في كتاب الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير، دكتور رمزي نعناعة.

‌كتب السنة:

• موطأ مالك.

• صحيح البخاري.

ص: 293

• صحيح مسلم.

• سنن أبي داود.

• سنن الترمذي.

• السنن الكبرى للنسائي.

• سنن ابن ماجه.

• مسند الإمام أحمد.

• سنن الدارمي.

• مسند أبي يعلى.

• معجم الطبراني الكبير.

• سنن الدارقطني.

• صحيح ابن خزيمة.

• مصنف ابن أبي شيبة.

• مصنف عبد الرزاق.

• مستدرك الحاكم.

• السنن الكبرى للبيهقي.

ص: 294

• العلل للدارقطني.

• تهذيب سنن أبي داود لابن القيم.

• العلل لابن أبي حاتم.

• معرفة السنن والآثار للبيهقي.

• المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي. ت محمد ضياء عبد الرحمن دار الخلفاء للكتاب الإسلامي.

• الأوسط لابن المنذر.

• كنز العمال للمتقي الهندي.

• الحلية لأبي نعيم.

• مسائل أحمد رواية ابنه صالح.

• مسند الحميدي.

• السنن لسعيد بن منصور.

• صحيح ابن حبان.

• السنن الصغرى للبيهقي.

• السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني.

• السلسة الضعيفة للشيخ الألباني.

ص: 295

‌كتب شروح السنة:

• شرح مسلم للنووي.

• شرح مشكل الآثار للطحاوي.

• التمهيد لابن عبد البر.

• عون المعبود لشرف الحق العظيم آبادي.

• شرح السنة للبغوي.

• إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد.

• شرح عمدة الأحكام مع حاشية الصنعاني لابن دقيق العيد.

• الاستذكار لابن عبد البر.

• غريب الحديث لابن قتيبة.

• النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ط دار ابن الجوزي.

• فيض الباري للكشميري الهندي دار الكتب العلمية.

• معالم السنن للخطابي.

• فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام لابن عثيمين.

• عارضة الأحوذي لابن العربي.

• المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي.

ص: 296

• نيل الأوطار للشوكاني دار ابن الجوزي.

• الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن. دار العاصمة.

• سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني.

• فتح الباري للحافظ ابن حجر. دار الحديث.

• التوضيح شرح الجامع الصحيح لابن الملقن.

• تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري.

• الإمام في بيان أدلة الأحكام العلامة الزايد.

• البدر المنير لابن الملقن.

• الأحكام الوسطى لعبد الحق الإشبيلي.

‌كتب العقيدة:

• درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية.

• السنة لابن أبي عاصم.

• حجة الله البالغة للشاه ولي الله الدهلوي.

• الاعتقاد للبيهقي.

‌كتب الفقه والفتاوى:

• الفقيه والمتفقه للخطيب.

ص: 297

• مجموع الفتاوى لابن تيمية. طبعة مجمع الملك فهد.

• المقنع في فقه الإمام أحمد لابن قدامة.

• حاشية ابن عابدين. طبعة دار الفكر بيروت.

• المجموع للنووي. دار الفكر بيروت.

• الوجيز في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي.

• المدخل الفقهي للزرقا.

• الإبهاج شرح المنهاج للسبكي. طبعة مكتبة الكليات الأزهرية.

• النجم الوهاج شرح المنهاج لأبي البقاء الشافعي.

• بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد. طبعة التوفيقية.

• إقامة الدليل على إبطال التحليل لابن تيمية. دار الكتب العلمية.

• الفتاوى الكبرى لابن تيمية.

• الأم للشافعي. ط دار الوفاء.

• مجموع فتاوى ورسائل لابن عثيمين.

• مغني المحتاج لشمس الدين الخطيب الشربيني. دار إحياء التراث العربي.

• بدائع الصنائع للكاساني. ط الكتاب العربي.

ص: 298

• الخراج ليحيى بن آدم.

• الأموال لأبي عبيد.

• المبسوط للسرخسي ط دار المعرفة.

• المغني لابن قدامة. ط هجر.

• التحرير للمقدوري. ط دار السلام.

• تطبيقات الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها، دكتور محمد المختار الشنقيطي، مكتبة الصحابة.

• الفروق للقرافي ط دار الرسالة.

• البيان للعمراني الشافعي ط دار المنهاج.

• فتاوى اللجنة الدائمة.

• تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي.

• فتح العلي المالك في الفنون على مذهب مالك للشيخ عليش دار المعرفة.

• كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي لعبد العزيز البخاري دار الكتاب العربي.

• التأويل عند أهل العلم لأبي محمد الحسن بن العلي الكتاني.

ص: 299

• شرح مشكلات الهداية صدر الدين علي بن علي بن أبي العز الحنفي.

• حاشية العطار.

‌كتب الأصول والمقاصد والقواعد الفقهية:

• الرسالة للشافعي.

• البحر المحيط للزركشي دار الكتب.

• أحكام الفصول للباجي.

• الورقات للجويني.

• مختصر التحرير شرح الكوكب المنير لابن النجار.

• جمع الجوامع للسبكي.

• المنتهى لابن الحاجب.

• مختصر الروضة للطوفي.

• المنهاج للبيضاوي.

• الموافقات للشاطبي.

• البرهان للجويني.

• المستصفى للغزالي.

ص: 300

• قواطع الأدلة لأبي المظفر السمعاني.

• شرح تنقيح الفصول للقرافي.

• التداخل بين الأحكام في الفقه الإسلامي لخالد بن سعدبن فهد الخشلان.

• العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الفراء.

• الإعلام في أصول الأحكام، للمؤلف عبد الفتاح بن محمد بن مصيلحي.

• مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي مكتبة العلوم والحكم.

• روضة الناظر لابن قدامة دار الريان.

• شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي دار الكتب العلمية لعضد الدين بن عبد الرحمن الإيجي.

• تيسير علم أصول الفقه للجديع مؤسسة الرسالة.

• الوجيز في أصول الفقه للزحيلي دار الخير دمشق.

• الإحكام للآمدي المكتب الإسلامي.

• المهذب في أصول الفقه المقارن للدكتور عبد الكريم النملة مكتبة الرشد.

ص: 301

• مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية لصالح بن محمد آل عمير.

• المنثور في القواعد الفقهية للزركشي وزارة الأوقاف الكويتية.

• حاشية البناني على شرح جمع الجوامع للعطار.

• نهاية السول على منهاج الوصول للإسنوي.

• أصول الفقه عياض السلمي دار التدمرية بالرياض.

• أصول الفقه للخضري.

• القواعد الفقهية لنادية العامري.

• الجامع لمسائل أصول الفقه للدكتور عبد الكريم النملة مكتبة الرشد بالرياض.

• الأصول من علم الأصول للشيخ ابن عثيمين.

• إعلام الموقعين لابن القيم.

• أصول الفقه لأبي زهرة.

• أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف.

• شرح اللمع للشيرازي.

• النوازل الأصولية للدكتور أحمد بن عبد الله الضويحي.

ص: 302

• الأساس في أصول الفقه للدكتور محمود عبد الرحمن.

• إرشاد الفحول للشوكاني ط دار السلام.

• المسودة لآل تيمية طبعة دار الكتاب العربي.

• مقاصد الشريعة عند ابن القيم للدكتور سميح بن عبد الوهاب الجندي.

• الإجماع لابن المنذر.

• الأحكام السلطانية للماوردي.

• الرسالة الندية في القواعد الفقهية للمؤلف عبد الفتاح بن محمد بن مصيلحي.

• الإسلام وضرورات الحياة لعبد الله قادري الأهدل.

• مقاصد الشريعة الإسلامية للدكتور محمد سعد اليوبي.

• بداية القاصد إلى علم المقاصد للدكتور مسعود صبري.

• شرح مقاصد الشريعة للدكتور عياض السلمي.

• مقاصد الشريعة عند ابن تيمية للدكتور يوسف البدوي.

• مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور ط دار القلم.

• الاستقراء ودوره في معرفة مقاصد الشريعة للدكتور نور الدين الخادمي.

ص: 303

• أثر مقاصد الشريعة في تعميق الوعي الحضاري مسفر بن علي بن محمد القحطاني.

• مدخل إلى مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني.

• القول المفيد. محاضرات في مقاصد الشريعة للدكتور الريسوني.

• معالم أصول الفقه لأهل السنة والجماعة لمحمد بن حسن الجيزاني.

• نهاية الوصول في دراية الأصول للأرموي الهندي.

• أصول الفقه لابن مفلح.

• نثر الورود على مراقي السعود للشنقيطي.

• الاستعداد لرتبة الاجتهاد من الحكم الشرعي إلى نهاية الكتاب لعبد الرحمن بن صالح بن إبراهيم رسالة ماجستير.

• حجية مفهوم المخالفة وشروطه للدكتور محمود شاكر.

• التلويح على التوضيح للتفتازاني.

• تلقيح الأفهام العلية لشرح القواعد الفقهية لوليد السعيدان.

• المنخول للغزالي.

ص: 304

• شرح نظم الورقات لأحمد بن عمر الحازمي دروس صوتية مفرغة.

• شرح الورقات للفوزان.

• الشرح الكبير لمختصر الأصول من علم الأصول لمحمود بن محمد بن مصطفى المنياوي.

• تعليق الشيخ عبد الرازق عفيفي على الإحكام للآمدي.

• المطلق والمقيد للدكتور حمد بن حمد.

• أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء للدكتور محمد حسن عبد الغفار.

• شرح مراقي السعود للدكتور مصطفى بن كرامة محاضرات صوتية.

• المختصر شرح مختصر ابن الحاجب.

• نفائس الأصول في شرح المحصول للقرافي.

• أصول الفقه على منهج أهل الحديث زكريا بن غلام الباكستاني.

• تشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي.

• المعتصر من شرح مختصر الأصول من علم الأصول محمود بن محمد المنياوي.

• الأمر والنهي عند الأصوليين لعزة كامل مصطفى.

ص: 305

• الاعتصام للشاطبي.

• شرح العمد لأبي الحسين البصري.

• التقريب والإرشاد للباقلاني.

• الانتقاء لابن عبد البر.

• نهاية الأرب للنويري.

• فواتح الرحموت لابن النظام.

• الفروق للقرافي طبعة دار عالم الكتب.

• نصب الراية للزيلعي.

• التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي، المكتبة الأزهرية للتراث.

• شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح للتفتازاني.

• أهمية الإجماع في بناء التشريعات وتحقيق سيادة الأمة عند الدكتور عبد الرزاق الشهوري، والدكتور عبد الحق الإدريسي.

• مجلة جيل حقوق الإنسان العدد 34.

• التحقيق والبيان شرح البرهان للإبياري ط وزارة الشؤون الإسلامية قطر.

ص: 306

• النبذة الكافية في أصول الفقه لابن حزم ط دار الكتب العلمية.

• المعيار للوتشريسي.

• إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصرلعلي بن محمد بن عبد الملك الكتامي.

• رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب للسبكي ط عالم الكتب.

• معراج المنهاج شرح منهاج الوصول لمحمد بن يوسف الجزري.

• الأشباه والنظائر للسبكي دار الكتب العلمية.

• شرح نظم الورقات لابن عثيمين دار ابن الهيثم.

• اللمع للشيرازي.

• مفتاح الوصول في بناء الفروع على الأصول للتلمساني.

• الوجيز في أصول الفقه المالكي لمحمد عبد الغني.

• شرح الورقات للخضيري.

• التحبير شرح التحرير للمرداوي مكتبة الرشد.

• نفائس الأصول شرح المحصول للقرافي.

• العلة عند الأصوليين لمبارك عامر.

• مباحث العلة في القياس عند الأصوليين لعبد الحكيم السعدي.

ص: 307

• شفاء الغليل في بيان الشبه والمثيل ومسالك التعليل للغزالي.

• غاية الوصول شرح لب الأصول للشيخ زكريا الأنصاري ط الحلبي.

• الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي.

• إجابة السائل شرح بغية الآمل لمحمد بن إسماعيل الصنعاني.

• الحاصل من المحصول لتاج الدين الأرموي ط جامعة قابوس.

• الغيث الهامع شرح جمع الجوامع للعراقي، دار الكتب العلمية.

• حاشية العطار على جمع الجوامع.

• نبراس العقول في تحقيق القياس عند علماء الأصول لعيسى بن منون.

• المذاهب وأدلتها مجلة الشريعة العدد 42.

• قياس الشبه دكتور محمود عبد الرحمن، دار اليسر.

• نشر البنود على مراقي السعود لعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي.

• التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب لخليل بن إسحاق.

ص: 308

• التلخيص في أصول الفقه للجويني ط دار البشائر الإسلامية.

• رفع الحرج في الشريعة الإسلامية للدكتور باحسين ط مكتبة الرشد.

• اختلاف الأئمة العلماء للوزير ابن هبيرة ط دار الكتب العلمية.

• الوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان دار التوزيع والنشر الإسلامية.

• الواضح في أصول الفقه لابن عقيل ط مؤسسة الرسالة.

• الاستصحاب وأثره في الأحكام الفقهية، بحث في مجلة القلم العدد الثالث.

• منظومة القواعد الفقهية لفهم النصوص الشرعية للشيخ السعدي.

• أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله لعياض السلمي.

• تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ط مؤسسة الرسالة.

• أصول الشاشي لنظام الدين أحمد بن محمد الشاشي ط دار الكتب العلمية.

• التحقيقات والتنقيحات السلفيات على متن الورقات للشيخ مشهور.

• قول الصحابي وأثره في المسائل الفقهية أحمد الحجيلي.

ص: 309

• قواعد الأحكام في مصالح الأنام لسلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام، دار البيان العربي.

• المصالح المرسلة للشنقيطي.

• حجية المصالح المرسلة، مجلة الجامعة الإسلامية.

• المصلحة المرسلة وتطبيقاتها المعاصرة، عبد الحميد علي حمد محمود، جامعة نجاح الوطنية، نابلس فلسطين.

• المصلحة المرسلة ضوابطها وبعض تطبيقاتها المعاصرة، دكتور محمود زركطود.

• قواعد الذرائع في المعاملات المالية، دكتور سامي سويلم، ضمن فعاليات المؤتمر الخامس عشر للهيئات الشرعية والمؤسسات المالية الإسلامية.

• ضوابط العمل بسد الذرائع، موقع الدكتور خالد المصلح.

• الاستحسان حقيقته وأنواعه وحجيته للباحسين.

• قواعد الذرائع في المعاملات المالية سامي سويلم المؤتمر الخامس عشر للهيئات الشرعية والمؤسسات المالية الإسلامية.

• القوانين الفقهية لابن جزى ط دار ابن حزم.

ص: 310

• العرف وتطبيقاته المعاصرة دكتور سعود بن عبد الله الورقي.

• وقائع الإصابة والأحوال وأثرها في تعميم الأحكام لمحمود عبد الرحمن عبد المنعم.

• أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية للأشقر.

• إجمال الإصابة لخليل بن كيكلدي ت محمد سليمان الأشقر ط مؤسسة الرسالة.

• أدلة التشريع المختلف فيها لعبد العزيز الربيعة.

‌كتب علوم الحديث، وعلوم القرآن:

• مقدمة ابن الصلاح طبعة دار الفكر.

• تغليق التعليق للحافظ ابن حجر.

• مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية.

‌كتب التاريخ والسير:

• التاريخ الكبير للبخاري.

• تاريخ بغداد للخطيب.

• صفة الصفوة لابن الجوزي.

• وفيات الأعيان لابن خلكان.

ص: 311

• مناقب الشافعي لابن أبي حاتم الرازي.

• الفهرست لابن النديم.

• مقدمة ابن خلدون.

• طبقات الشافعية للسبكي.

• طبقات الشافعيين لابن كثير.

• سير أعلام النبلاء للذهبي.

• الضعفاء للعقيلي.

• الطبقات الكبرى لابن سعد.

• الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر.

• ما شاع ولم يثبت في السيرة لمحمد بن عبد الله العوشن.

• السيرة الحلبية لعلي بن برهان الدين الحلبي.

• تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة لخليل بن كيكلدي الدمشقي.

ص: 312

‌كتب اللغة:

• لسان العرب لابن منظور.

• المصباح المنير للفيومي طبعة المكتبة العلمية.

• القاموس المحيط للفيروز آبادي طبعة مؤسسة الرسالة.

• الغريبين في القرآن والحديث لأحمد بن محمد الهروي طبعة مكتبة نزار الباز.

• الصحاح للجوهري طبعة دار العلم للملايين.

• المغرب في ترتيب المعرب لناصر بن عبد السيد أبى المكارم بن على، أبي الفتح برهان الدين الخوارزمي المطرزى.

• المعجم الوجيز لمجمع اللغة العربية.

• معجم مقاييس اللغة لابن فارس طبعة دار الفكر.

‌كتب الأدب والأخلاق:

• الحلم لابن أبي الدنيا.

• مجمع الأحكام والأمثال في الشعر العربي لأحمد قبش.

• تذكرة السامع لابن جماعة.

• إحياء علوم الدين للغزالي.

ص: 313

• أدب الدنيا والدين للماوردي.

• التبصرة لابن الجوزي.

• جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.

‌كتب أخرى:

• ديوان الشافعي تحقيق خفاجي.

• التعريفات للجرجاني.

• مدارج السالكين لابن القيم.

• بدائع الفوائد لابن القيم.

• الحدود للباجي.

• العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لابن الجوزي.

• محاسن الاصطلاح للبلقيني.

• دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون للقاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري.

• التعريفات للمناوي.

• نزهة النظر لابن حجر.

• زاد المعاد لابن القيم ط الرسالة.

ص: 314