الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جزء من الكلام على حديث شداد بن أوس "إذا كنز الناس الذهب والفضة"
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، رحمه الله تعالى:
خرَّج الإمام أحمد (1) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» .
وخرجه الترمذي (2) مختصرًا، وابن حبان في "صحيحه"(3)، والحاكم (4) وصححه.
وله طرق متعددة عن شداد.
وفي بعض طرقه "أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم أن يدعوا بهذه الكلمات في الصلاة، أو في دبر الصلاة"(5).
فقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا أَنْتُمْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ": إشارة إِلَى أن كنز هذه الكلمات، أنفع من كنز الذهب والفضة.
فإن هذه الكلمات نفعها يبقى، والذهب والفضة يفنى، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا
(1)(4/ 123).
(2)
برقم (3407).
(3)
كما في "الإحسان"(935).
(4)
(1/ 508).
(5)
أخرجه أحمد (4/ 125).
وَخَيْرٌ أَمَلًا} (1) وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (2).
وقد رُوي أن سليمان بن داود عليهما السلام مرَّ في موكبه، ومعه الإنس والجن بحرَّاث، فَقَالَ الحراث: لقد أوتي ابن داود ملكًا عظيمًا! فأتاه سليمان فَقَالَ له: تسبيحة واحدة خير من ملك سليمان؛ لأنّ التسبيحة تبقى، وملك سليمان يفنى (3).
وفي الحديث المشهور عن ثوبان أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (4) فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا نَتَّخِذُ؟ قَالَ: «لِيَتَّخِذَ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً صَالِحَةً، تُعِينُ أَحَدُكُمْ عَلَى إِيمَانِهِ» (5).
قال بعضهم: إِنَّمَا سمي الذهب ذهبًا لأنّه يذهب، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض: يعني تنفض بسرعة، فلا بقاء لهما. فمن كنزهما فقد أراد بقاء ما لا بقاء له، فإنَّ نفعهما ما هو إلا بإنفاقهما في وجوه البر وسبل الخير.
قال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار! لا ينفعانك حتى يفارقانكَ فما داما مكنوزين فما يضران ولا ينفعان، وإنما نفعهما بإنفاقهما في الطاعات.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاً يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية (6).
والآية ذم ووعيد لمن يمنع حقوق ماله الواجبة من الزكاة، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والإنفاق في النوائب.
(1) الكهف: 46.
(2)
النحل: 96.
(3)
أخرجه أبو نعيم في "زياداته عَلَى زهد ابن المبارك"(210).
(4)
التوبة: 34.
(5)
أخرجه أحمد (5/ 278، 282)، والترمذي (3094)، وابن ماجه (1856).
(6)
التوبة: 34، 35.
وفي "صحيح مسلم"(1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاً فِضَّةٍ، لاً يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» .
وفي "صحيح البخاري"(2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ"، ثُمَّ تَلَا:{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3).
وفيه أيضاً (4) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَفِرُّ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ فَلَا يَزَالَ يَطْلُبُهُ، حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ، فَيُلْقِمَهَا فَاهُ".
وفي "صحيح مسلم"(5) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٌ، لَاَ يُفْعَلُ فِيهِ حَقُّهُ، إِلا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ فَيُنَادِيَهُ: خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَّأْتَهُ، فَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ، فَإِذَا رَأَى أَنْ لاً بُدَّ مِنْهُ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضِمَهَا قَضْمَ الْفَحْلِ".
والشجاع: الحية الذكر، والأقرع: الَّذِي قد تمعط شعر فروة رأسه لكثرة سمه.
فلهذا ورد الشرع بالأمر باكتناز ما يبقى نفعه بعد الموت، من الإيمان والأعمال الصالحة والكلمات الطيبة، فإن نفع ذلك يبقى، وبه يحصل الغنى الأكبر.
(1) برقم (987).
(2)
برقم (1403، 4565).
(3)
آل عمران: 180.
(4)
برقم (6957).
(5)
برقم (988).
قال ابن مسعود (1): نعم كنز الصعلوك [البقرة وآل عمران، يقوم بهما](*) في آخر الليل.
وآخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، أعطيته هذه الأمة مع سورة الفاتحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.
وفي بعض الآثار الإسرائيلية: كنز المؤمن ربه.
يعني أنه لا يكنز سوى طاعته وخشيته، ومحبته والتقرب إِلَيْهِ، فمن كان كنزه ربه، وجده وقت حاجته إِلَيْهِ.
كما في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"(2).
أنت كنزي أنت ذخري
…
أنت عزِّي أنت فخري
كيف أخشى الفقرَ إذا
…
كنتَ أمني عند فقرِي
من كانَ اللَّهُ كنزَه فقد ظفرَ بالغنِى الأكبرِ
قال بعض العارفين: من استغنى بالله أمن من العدم، ومن لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر من ذكر الموت أكثر من الندم.
تنقضي الدُّنْيَا وتفنى
…
والفتى فيها معنّى
ليس في الدُّنْيَا نعيم
…
لا ولا عيش مهنّا
يا غنيًّا بالدنانير
…
محب الله أغنى
(1) أخرجه الدارمي في "سننه"(3398) بذكر آل عمران دون البقرة.
(*) سورة آل عمران يقوم بها: "نسخة".
(2)
أخرجه أحمد (1/ 293، 307)، والترمذي (2516). وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن رجب في شرح الحديث التاسع عشر من "جامع العلوم والحكم"(1/ 460 - 461).
وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه عليَّ، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة وغيرهم.
وأصح الطرق كلها طريقُ حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي. كذا قاله ابن منده وغيره.
والمقصود هنا شرح الكلمات التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكنزها، وأشار إِلَى أن نفعها خير من الذهب والفضة، وهي تتضمن طلب العبد من ربه لأهم الأمور الدينية.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ" المراد بالأمر: الدين والطاعة.
فسأل الثبات عَلَى الدين إِلَى الممات {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (1) الذين قالوا: ربنا الله كثير، ولكن أهل الاستقامة قليل.
كان عمر يقول في خطبته: "اللهم اعصمنا بحفظك، وثبتنا عَلَى أمرك".
فالاستقامة والثبات، لا قدرة للعبد عليه بنفسه، فلذلك يحتاج أن يسأل ربه.
كان الحسن إذا قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (1) يقول: اللهم أنت ربنا، فارزقنا الاستقامة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» .
فقِيلَ لَهُ في ذلك، فَقَالَ:"إِنَّ القَلْبَ بَيْنَ أصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمُهُ أَقَامَهُ وإِنَّ شَاءَ أَنْ يُزِيغُهُ أَزَاغَهُ"(2).
وفي رواية الترمذي (3): قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ:"نَعَمْ" ثم ذكر الحديث.
كيف يأمن من قلبه بين أصبعين؟
كيف يطيب عيش من لا يدري بما يختم له؟
(1) فصلت: 30.
(2)
أخرجه أحمد (6/ 91، 250)، والنسائي وفي "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(11/ 6059) من حديث عائشة.
وأخرجه أحمد (3/ 112، 257)، والترمذي (2140)، وابن ماجه (3834)، من حديث أنس. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
وأخرجه الترمذي (3587) من حديث عاصم بن كليب الجَرْمِي عن أبيه عن جده. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
(3)
برقم (2140)، وحسنه.
كم من عامل خاشع وقع عَلَى قصة عمله؟ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} (1)«رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَقَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» (2).
كان بعض الصالحين يسرد الصيام، فَإِذَا أفطر بكى، ويقول: أخشى أن يكون حظي منه الجوع والعطش.
في "الصحيح"(3): "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ثُمَّ َيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ".
كم من عامل يعمل الخير، إذا بقي يينه وبين الجنة ذراع، وشارف مركبه ساحل النجاة، ضربه موج الهوى فغرق؟!
المحنة العظمى أن أمرك كله بد من لا يبالي بوجودك ولا عدمك، كم أهلك قبلك مثلك؟
كان الحسن يبكي ويطيل البكاء ويقول: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي.
قال أبو الدرداء: ما أهون العباد عَلَى الله إذا عصوه (5)!
(1) الغاشية: 3، 4.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 373، 441)، والنسائي في "الكبرى"(2/ 239)، وابن ماجه (1690) من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود.
(4)
المائدة: 17.
(5)
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(14/ 389/1).
يا قلب إِلَى ما تطالبني
…
بلقاء الأحباب وقد رحلوا
أرسلتك في طلبي لهم
…
لتعود فضعت وما حصلوا
سلم واصبر واخضع لهم
…
كم مثلك قبلك قد قتلوا
ما أحسن ما علقت به
…
آمالك منهم لو فعلوا
العبد يحتاج إِلَى الثبات في طول حياته، وأحوج ما يحتاج إِلَيْهِ عند مماته.
في الطبراني (1): صلى الله عليه وسلم «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاً إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقُولُوا: الثَّبَاتَ الثَّبَاتَ ، وَلاً قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» .
ويحتاج إِلَى الثبات أيضاً بعد الموت، قال الله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2).
وفي "الصحيح"(3) أنها نزلت في سؤال القبر يُسأل المؤمن في قبره فيشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
وفي "سنن أبي داود"(4) أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت يقول: "سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ".
من دخل في الطاعة فهو يحتاج إِلَى الثبات عليها.
يا معشر التائبين، أنتم تقاتلون جنود الهوى بجنود التقوى، فاصبروا وصابروا ورابطوا، لا تقولوا جنود الهوى لا طاقة لنا بها، ولكن اصبروا إِنَّ الله مع الصابرين.
يا جنود العزائم اثبتوا واحذروا هتيكة (5) الهزيمة {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (6).
(1) في "المعجم الصغير"(2/ 125). وقال: لم يروه عن صفوان بن سليم إلا عمر بن محمد.
(2)
إبراهيم: 27.
(3)
أخرجه البخاري (1369)، ومسلم (2871) من حديث البراء.
(4)
برقم (3221).
(5)
الهتيكة: الفضيحة "لسان العرب" مادة: (هتك).
(6)
الأنفال: 65.
لا تجزعن من كل خطب عرى
…
ولا تُري الأعداء ما يشمتوا
يا قوم بالصبر ينال المنى
…
إذا لقيتم فئة فاثبتوا
يا قوم الثبات الثبات، والمدوامة المداومة إِلَى الممات.
"أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ"(1).
قال الحسن: إِنَّ الله لم يجعل لعلم المؤمن أجلاً دون الموت، ثم قرأ:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (2).
وفي "الصحيح"(3) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ (4)، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا".
يا معشر التائبين، صوموا اليوم عن شهوات الهوى، لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمد باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
وما إلا ساعة ثم تنقضي
…
ويذهب هذا كله ويزول
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} (5).
{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} (6).
من سار في طريق العبودية إِلَى لقاء الحبيب، فلا بد من مواصلة السير حتى يصل، فإن وقف في الطريق أو رجع هلك، فإن اشتد عليه ألم السير، فليذكر راحة الوصول وقد زال التعب.
(1) أخرجه أحمد (6/ 165)، ومسلم (782) من حديث عائشة.
(2)
الحجر: 99.
(3)
أخرجه البخاري: (6463).
(4)
الدُّلجة: سير السحر أو سير الليل كله. "اللسان" مادة: (دلج).
(5)
الانشقاق: 6.
(6)
العنكبوت: 5.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
…
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به
…
وقت المسير وفي أعقابها حادي
إذا اشتكت من كلال السير أوعدها
…
روح القدوم فتحيا عند ميعادي
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ".
العزيمة عَلَى الرشد مبدأ الخير، فإن الإنسان قد يعلم الرشد وليس له عليه عزم، فَإِذَا عزم عَلَى فعله أفلح.
"والعزيمة: هي القصد الجازم المتصل بالفعل.
وقيل: استجماع قوى الإرادة عَلَى الفعل.
ولا قدرة للعبد عَلَى ذلك إلا بالله، فلهذا كان من أهم الأمور سؤال الله العزيمة عَلَى الرشد.
وفي "المسند"(1) عن عمران بن حصين قال لرجل: قل اللهم قني شر نفسي، واعزم لي عَلَى أرشد أمري.
فالعبد يحتاج إِلَى الاستعانة بالله، والتوكل عليه في تحصيل العزم، وفي العمل بمقتضى العزم بعد حصول العزم.
قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (2).
"والرشد: هو طاعة الله ورسوله.
قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (3).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى"(4).
(1)(4/ 444).
(2)
آل عمران: 159.
(3)
الحجرات: 7.
(4)
أخرجه مسلم (780).
والرشد ضد الغي.
قال الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (1).
فمن لم يكن رشيدًا، فهو إما غاوٍ، وإما ضال.
كما قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2).
فالغاوي من تعمد خلاف الحق، والضال من لم يتعمد.
والعزم نوعان:
أحدهما: عزم المريد عَلَى الدخول في الطريق، وهو من البدايات.
والثاني: العزم عَلَى الاستمرار عَلَى الطاعات بعد الدخول فيها، وعلى الانتقال من حال كامل، إِلَى حال أكمل منه، وهو من النهايات.
ولهذا سمى الله تعالى خواص الرسل أولوا العزم -وهم خمسة- وهم أفضل الرسل.
فالعزم الأول يحصل للعبد [به](*) الدخول في كل خير، والتباعد من كل شر؛ إذ به يحصل للكافر الخروج من الكفر والدخول في الإسلام، وبه يحصل للعاصي الخروج من المعصية والدخول في الطاعة، فَإِذَا كانت العزيمة صادقة، وصمم عليها صاحبها، وحمل عَلَى هوى نفسه وعلى الشيطان حملة صادقة، ودخل فيما أمر به من الطاعات فقد فاز.
وعون الله للعبد عَلَى قدر قوة عزيمته وضعفها، فمن صمم عَلَى إرادة الخير أعانه وثبته، كما قيل:
عَلَى قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي عَلَى قدر الكرام المكارم
(1) البقرة: 256.
(2)
النجم: 2.
(*) زيادة يقتضيها السياق.
لما أفضت الخلافة إِلَى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، بعد سليمان بن عبد الملك، فأول ما اشتغل به دفن سليمان، فلما رجع من دفنه، وصفت له مراكب الخلافة فوقف وأنشد:
ولولا النُّهَى ثم التقى خشية الردى
…
لعصيت في حب الصّبا كل زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى
…
له عودة أخرى الليالي الغوابر
ثم قال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، قربوا لي بغلي.
فركب دابته التي كان يركبها أولاً، وسار مستصحبًا لتلك العزيمة، فعلم الله صدقه فيها فأعانه عليها.
فأول ما بدأ به أنه سار لن يديه أهل الموكب، فنحاهم وقال: إِنَّمَا أنا رجل من المسلمين ثم نزل فقعد، فقام الناس بين يديه، فأقعدوا، وقال: إِنَّمَا يقوم الناس لرب العالمين.
ثم عزم عَلَى رد المظالم، فأدركته القائلة، وكان قد تعب وسهر تلك الليلة لموت سليمان بن عبد الملك، فدخل ليقيل ثم يخرج فيرد المظالم وقت صلاة الظهر.
فجاء ابنه عبد الملك فَقَالَ له: أتنام وما رددت المظالم؟
فَقَالَ: إذا صليت الظهر رددتها.
فَقَالَ عبد الملك: ومن لك أن تعيش إِلَى الظهر؟! وإن عشت فمن لك أن تبقى لك نيتك؟!
فقام وخرج ونادى: الصلاة جامعة.
فاجتمع الناس فرد المظالم، وجاء بكتب القرى والأملاك -التي كانت في يده من إقطاع بني أمية- فمزقها كلها، ورد تلك القرى إِلَى بيت مال المسلمين.
وكان يقول: إِنَّ لي نفسًا تواقة! ما نالت شيئًا إلا تاقت إِلَى ما هو أفضل منه! فلما نالت الخلافة، وليس فوقها في الدُّنْيَا - منزلة، تاقت إِلَى الآخرة.
وإذا كانت النفوس كبارُا
…
تعبت في مرادها الأجساد
لما ولي الخلافة، سمعوا في بيته صريخًا عاليًا من النساء.
فسئل عن ذلك فقيل: إِن خير امرأته وجواريه، فَقَالَ: من أرادت منكن أن تذهب فلتذهب، ومن أرادت أن تقيم فلتقم، وليس لها مني نصيب، فإني قد نزل بي أمرٌ شغلني عنكن، فبكين إياسًا منه.
ذاكروه مرة شيئًا مما كان فيه قبل الخلافة من النعيم فبكى، حتى بكى الدم!
وكان أكثر ما يقتات به حال خلافته، العدس والزيت، فَإِذَا عوتب عَلَى ذلك يقول: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدًا في النار.
ودخل مرة عَلَى بناته وقد كن تعشين بعدس فيه بصل، فكرهن أن يشم منهن رائحة ذلك، فلما رأينه هربن، فبكى وقال: يا بناتي إما تفعلن (أن)(1) تتعشين الألوان ويذهب بأبيكن إِلَى النار.
وكان يقول لأولاده: إِنَّ أباكم خير بين أن تفتقروا ويدخل الجنة، وبين أن تستغنوا ويدخل النار، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أَحَبّ إِلَيْهِ.
كم أحمل في هواك ذلاًّ وعنا
…
كم أصبر فيك تحت ضر وضنا
لا تطردني فليس لي عنك غنا
…
خذ روحي إِن أردت روحي ثمنا
كان يقول لبعض أعوانه: إذا رأيتني ملت عن الحق، فضع يدك في تلبابي، ثم هزني فقل: ما تصنع يا عمر؟!
من أجلك قد تركت خدي أرضا
…
للشامت والحسود حتى ترضى
مولاي إِلَى متى بهذا أحظى
…
عمري يفنى وحاجتي ما تقضى
(1) بالأصول، ولعلها زائدة.
لا زال ينحل جسمه حتى
…
كانت أضلاعه يعدهامن رآه عدًّا.
حبي والفراق أورثاني سقما
…
هذا جسدي يعد عظمًا عظما
دعني فالشوق قد كفاني خصما
…
يا سهم البين قد أصبت المرمى
أخفي شجني ولوعتي تبديه
…
والدمع ينم بالذي أخفيه
قلبي قلق يحب من يضنيه
…
لا أعذله فما به يكفيه
كم كان يُعذل عَلَى حاله ويُلام؟! والمحبة تنهاه أن يصغي إِلَى عذل أو ملام:
لو قطعني الغرام إربًا إربًا
…
ما ازددت عَلَى الملام إلا حبا
لا زلت بكم أسير وجد وصبا
…
حتى أقضي عَلَى هواكم نحبا
ما زالت به المحبة حتى رقته إِلَى درجة الرضى بمُرِّ القضاء، فكان يقول: أصبحت ومالي سرور في غير مواقع القضاء والقدر.
ومات أعوانه عَلَى الخير كلهم في أيام متوالية: ابنه عبد الملك، وأخوه سهل، ومولاه مزاحم.
فكان يقول بعد موتهم في مناجاته: أنت تعلم أني ما ازددت لك إلا حبًّا، ولا فيما عندك إلا رغبة.
ولما دفن ابنه عبد الملك -وكان أَحَبّ الخلق إِلَيْهِ- قال: ما زلت أرى فيه السرور وقرة العين من يوم ولد إلي يومي هذا، فما رأيت فيه أمرًا قط أقر لعيني من أمر رأيته فيه اليوم.
وكتب إِلَى الأمصار أن الله أَحَبّ قبضه، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله، فإن خلاف ذلك لا يصلح في بلائه عندي، وإحسانه إليَّ، ونعمته عليَّ.
إِنَّ كان سكان الغضا
…
رضوا بقتلي فرضا
والله لا كنت لما
…
يهوى الحبيب مبغضا
صرت لهم عبدًا وما
…
للعبد أن يعترضا
إخواني، الخير كله منوط بالعزيمة الصادقة عَلَى الرشد، وهي الحملة الأولى التي تهزم جيوش الباطل، وتوجب الغلبة لجنود الحق.
زجر الحق فؤادي فارعوى
…
وأفاق القلب مني وصحا
هزم العزم جيوشًا للهوى
…
سادتي لا تعجبوا إِنَّ صلحا
قال أبو حازم: إذا عزم العبد عَلَى ترك الآثام، أتته الفتوح.
يشير إِلَى ما يُفتح عليه بتيسير الإنابة والطاعة، ومقامات العارفين.
سئل بعض السلف متى ترتحل الدُّنْيَا من القلب؟ قال: إذا وقعت العزيمة ترحلت الدُّنْيَا من القلب، ودرج القلب في ملكوت السماء، وإذا لم تقع العزيمة اضطرب القلب ورجع إِلَى الدُّنْيَا.
من صدق العزيمة يئس منه الشيطان، ومتى كان العبد مترددًا طمع فيه الشيطان، وسوفه ومناه.
يا هذا كلما رآك الشيطان، قد خرجت من مجلس الذكر كما دخلت وأنت غير عازم عَلَى الرشد، فرح بك إبلس، وقال: قد فديت من لا يفلح! يا من شاب ولا تاب! ولا عزم عَلَى الرشد ولا أناب! لقد أفرحت الشيطان وأسخطت الرحمن!
وإذا تكامل للفتى من عمره
…
خمسون وهو إلى التقى لا يجنح
عكفت عليه المخزيات فماله
…
متأخر عنها ولا متزحزح
وإذا رأى الشيطان غرة وجهه
…
حيَّا وقال فديت من لا يفلح
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ" هذا كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا أن يقول في دبر كل صلاة: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"(1).
فهذا أمران:
أحدهما: شكر العم، وهو مأمور به، قال تعالى:{وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (2)، وقال:{وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (3) والشكر بالقلب واللسان والعمل بالجوارح.
فالشكر بالقلب: الاعتراف بالنعم للمنعم، وأنها منه وبفضله، وجاء من حديث عائشة مرفوعًا:"مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرُهَا"(4).
ومن الشكر بالقلب محبة الله عَلَى نعمه، ومنه حديث ابن عباس المرفوع:"أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ (*) بِهِ مِنْ (النِّعَمِ) (**) "(5).
قال بعضهم: إذا كانت القلوب جبلت عَلَى حب من أحسن إليها، فواعجبًا لمن لا يرى محسنًا إلا الله، كيف لا يميل بكليته إِلَيْهِ؟!
وقال بعضهم:
إذا أنت لم تزدد على كل نعمة
…
لمؤتيكها حبًّا فلست بشاكر
إذا أنت لم تؤثر رضى الله وحده
…
عَلَى كل ما تهوى فلست بصابر
والشكر باللسان: الثناء بالنعم وذكرها، وتعدادها وإظهارها.
(1) أخرجه أحمد (5/ 245، 247).
(2)
البقرة: 152.
(3)
النحل: 114.
(4)
أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الشكر"(47).
(*) يغذوكم: أي يرزقكم.
(**) نعمة: "نسخة" وهي موافقة لرواية الترمذي.
(5)
أخرجه الترمذي (3789) قال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه ..
قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1).
وفي حديث النعمان بن بشير المرفوع (2): «التَّحَدُّثُ بِالنَّعَمِ شُكْرٌ، وتركها كفر» .
وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر النعم شكرها.
وكان يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرًا، وأن أكفرها بعد معرفتها، أو أنساها فلا أثني بها.
قال فضيل: كان يقال من شكر النعمة أن تحدث بها.
وجلس ليلة هو وابن عيينة يتذاكران النعم إِلَى الصباح.
والشكر بالجوارح: أن لا يستعان بالنعم إلا عَلَى طاعة الله عز وجل، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه.
قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (3) قال بعض السلف: لما قِيلَ لَهُم هذا، لم تأت عليهم ساعة إلا وفيهم مصل.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول حتى تتورم قدماه، ويقول:«أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» (4).
ومر ابن المنكدر بشاب يقاوم امرأة، فَقَالَ: يا بني، ما هذا جزاء نعمة الله عليك!
العجب ممن يعلم أن كل ما به من النعم من الله، ثم لا يستحيي من الاستعانة بها عَلَى ارتكاب ما نهاه!
(1) الضحى: 11.
(2)
أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الشكر"(63).
(3)
سبأ: 13.
(4)
البخاري (1130)، ومسلم (2819).
هب البعث لم تأتنا رسله
…
و (جاحمة)(1) النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق
…
حياء العباد من المنعم
من كثرت عليه النعم فليقيدها بالشكر، وإلا ذهبت.
إذا كنت في نعمة فارعها
…
فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله
…
فشكر الإله يزيل النقم
ودخل خالد بن صفوان عَلَى عمر بن عبد العزيز فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إِنَّ الله لم يرض أن يكون أحدٌ فوقك، فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر له منك. فبكى عمر حتى غشي عليه.
الأمر الثاني: حسن العبادة، وحسنها إتقانها والإتيان بها عَلَى أكمل وجوهها.
وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإحسان فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (2).
فأشار إِلَى مقامين:
أحدهما: أن يعبد الله العبدُ مستحضرًا لرؤية الله إياه، ويستحضر قرب الله منه، واطلاعه عليه، فيخلص له العمل، ويجتهد في إتقانه وتحسينه.
والثاني: أن يعبده عَلَى مشاهدته إياه بقلبه، فيعامله معاملة حاضر لا معاملة غائب، وقد وصَّى صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يصلي صلاة مودع؛ يعني يستشعر أنه يصلي صلاة لا يصلي بعدها صلاة أخرى، فيحمله ذلك عَلَى إتقانها، وتكميلها، وإحسانها.
وقد وردت أحاديث فضائل الأعمال مقيدة بإحسان العمل، كما في
(1) كل نار توقد عَلَى نار: جحيم، وهي جاحمة. "اللسان" مادة:(جحم).
(2)
أخرجه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب. وأخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة.
حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عز وجل» .
خرَّجه البخاري تعليقًا (1)، وفي رواية:"وقيل: ائتنف العمل".
وفي "صحيح مسلم"(2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا عز وجل".
وفيه أيضاً (3) عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ» .
وفيه أيضاً (4) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلَامِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلَامِ، أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» .
وكان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان.
قال بعض السلف: إِنَّ الرجلين ليقومان في الصف، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
كم بين من تصعد صلاته لها نور وبرهان كبرهان الشمس، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وبين من تُلَّفُ صلاته كما يُلَّفُ الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني؟!
ولهذا قال ابن عباس وغيره: صلاة ركعتين في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه!
(1) برقم (41).
(2)
البخاري (42)، مسلم (129).
(3)
برقم (235).
(4)
أخرجه (120)، وكذا البخاري (6921).
قال بعض السلف: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟!
يشير إِلَى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1).
ولهذا قال من قال من الصحابة: لو علمت أن الله قبل مني ركعتين، كان أَحَبّ إليّ من كذا وكذا.
فمن اتقى الله فى العمل قبله منه، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه.
والتقوى في العمل أن يأتي به عَلَى وجه إكمال واجباته الظاهرة والباطنة، وإن ارتقى إِلَى الإتيان بآدابه وفضائله كان أكمل.
والقبول هنا يراد به: الرضا بالعمل، والمدح لعامله، والثناء عليه في الملأ الأعلى، ومباهاة الملائكة.
وقد يراد بالقبول الثواب عَلَى العمل، وإن لم يرض به، ولم يمدح عامله، فيجازى عليه بأنواع من الجزاء، فضلاً من الله وإحسانًا، وإن لم يرض عن عامله.
كما رُئي بعض العُلَمَاء المفرطين في النوم، فسئل عن حاله فَقَالَ: غفر لي، وأعرض عني وعن جماعة من العُلَمَاء لم يعملوا بعلمهم.
ويطلق القبول عَلَى إسقاط الفرض بالعمل، وإن لم يثب عليه بثواب غير سقوط العقوبة، والمطالبة بأداء الفرض به.
والعارفون كلهم إِنَّمَا يطلبون القبول بالوجه الأول -وهو الرضا- ويخافون من فواته أشد الخوف.
قال مالك بن دينار: وددت أن الله إذا جمع الخلائق يقول لي: يا مالك.
فأقول: لبيك. فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة، فأعرف أنه قد رضي عني، ثم يقول لي: يا مالك كن اليوم ترابًا، فأكون ترابًا.
(1) المائدة: 27.
كان بعضهم يقول في سجوده:
متى ألقاك وأنت عني راض
…
وعذبتني بكثرة الإعراض
وأعتاض ولست عنه بالمعتاض
…
يا من بوصاله شفا أمراضي
هل أنت علي ساخط أم راضي
رضاه أكبر من الجنة ونعيمها، فليس للعارفين هم سواه.
لعلك غضبان وقلبي غافل
…
سلام عَلَى الدرارين إِن كنت راضيًا
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا".
القلب واللسان هما عبارة عن الإنسان، كما يقال: الإنسان بأصغَرَيه بقلبه ولسانه.
وخرج ابن سعد (1) بن روايه عروة بن الزبير مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أشج عبد القيس -وكان رجلاً دميمًا- فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّه لَا يَسْتَقِي فِي مسوك الرِّجَال، وَإِنَّمَا يحْتَاج من الرجل إِلَى أصغريه لِسَانه وَقَلبه".
وقال المتنبي:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
…
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
فمن استقام قلبه ولسانه، استقام شأنه كله.
فالقلب السليم: هو الَّذِي ليس فيه شيء من محبة ما يكرهه الله، فدخل في ذلك سلامته من الشرك الجلي والخفي، ومن الأهواء والبدع، ومن الفسوق والمعاصي -كبائرها وصغائرها- الظاهرة والباطنة، كالرياء والعجب، والغل والغش، والحقد والحسد وغير ذلك.
(1) في "الطبقات"(5/ 557) من طريق عبد الحميد بن جعفر عن أبيه مرسلاً.
وهذا القلب السليم هو الَّذِي لا ينفع يوم القيامة سواه، قال تعالى:{لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (1) إذا سلم القلب لم يسكن فيه إلا الرب، في بعض الآثار يقول الله: ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن (2).
ساكن في القلب يعمره (3)
…
لست أنساه فأذكره
غاب عن سمعي وعن بصري
…
فسويداء القلب تبصره
متى سكن في القلب غير الله، فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى.
أردناكم صرفًا فلما مزجتم
…
بعدتم بقدر التفاتكم عنا
وقلنا لكم لا تُسكنوا القلب غيرنا
…
فأسكنتم الأغيار ما أنتم منا
سلامة الصدور من الرياء والغل، والحسد والغش والحقد، وتطيرها من ذلك أفضل من التطوع بأعمال الجوارح.
قال بعضهم: ما بلغ عندنا من بلغ بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسلامة الصدور، وسخاوة النفوس والنصيحة.
وكثرة أعمال الجوارح مع تدنس القلب بشيء من هذه الأوصاف لا تزكوا، وهو كزرع في أرض كثيرة الآفات لا يكاد يسلم ما ينبت فيها.
وأما اللسان الصادق: فهو من أعظم المواهب من الله والمنح، وفي الحديث:"أَعْظَمِ الْخَطَايَا اللِّسَانُ الْكَذُوبُ".
وكذلك اللسان الصادق أعظم الحسنات.
(1) الشعراء: 88 - 89.
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا ما ذكروه في الإسرائيليات، ليس له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: وسع قلبه محبتي ومعرفتي. "الفتاوى"(18/ 122).
(3)
المراد سكون محبته والإيمان به والتعلق به في قلب العبد.
وروى أبو نعيم بإسناده أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان جالسًا، فأقبل إِلَيْهِ تُبَيْع الحميري، فَقَالَ عبد الله: قد أتاكم أعرف من علينا. فلما جلس قال له عبد الله: أخبرنا عن الخيرات الثلاث! والشَّرَّات الثلاث! قال: نعم، الخيرات الثلاث: لسان صدوق، وقلب تقي، وامرأة صالحة؟ والشَّرَّات الثلاث: لسان كذوب، وقلب فاجر، وامرأة سوء. فَقَالَ عبد الله: قد قلت لكم!
وفي "الصحيح"(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ؛ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» .
وفيه أيضاً (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: -"آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ".
فالكذب أساس النفاق الَّذِي بني عليه، كما أن الصدق أساس الإيمان.
قال ابن مسعود: إِنَّ الكذب لا يصلح في جد ولا هزل. ثم تلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3).
وقال كعب بن مالك: إِنَّ من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا. قال: إِنَّمَا نجاني الله بالصدق.
قال بعضهم: حقيقة الصدق أن يصدق العبد في موطن يرى أنه لا ينجيه فيه إلا الكذب.
وكان الربيع بن حراش موصوفًا بالصدق -يقال: إنه لم يكن يكذب قط- وكان له ابنان عاصيان للحجاج -وكان يطلبهما- فقدما عَلَى أبيهما، فبعث الحجاج إِلَى الربيع، وقال: سيعلم بنو عبس أن شيخهم اليوم يكذب. فَقَالَ له:
(1) أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607) واللفظ لمسلم.
(2)
البخاري (33)، ومسلم (59).
(3)
التوبة: 19.
أين ابناك؟ فَقَالَ: تركتهما في البيت، والله المستعان. فَقَالَ: قد عفونا عنهما بصدقك!
ومتى طهر اللسان من الكذب، طهر من غيره من الكلام السيئ المحرم، واستقام حال العبد كله، ومتى لم يستقم اللسان فسد حال العبد كله.
وربما يعبر عن صدق اللسان باستقامة المقال كله، كما في قوله تعالى:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (1) وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (2) يريد الثناء عليهم بحق.
وكما تنقسم الأعمال إِلَى صدق وغير صدق -والمراد بالصدق ماله نفع ودوام- فكذلك أقوال الصدق، قد يراد بها ما هو حق له نفع وثبات، وجاء من حديث أنس مرفوعًا:"لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ، حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ" خرجه الإمام أحمد (3).
ويروى من حديث أبي سعيد رفعه: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا"(4).
وقال مطرف: من صفا عمله صفا لسانه، ومن خلط خُلّط له!
وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أحدًا لسانه منه عَلَى بال، إلا رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله.
ومن مراسيل زيد بن أسلم: "ما من عضو من الأعضاء، إلا وهو يشتكي إِلَى الله ما يلقى من اللسان عَلَى حدته".
(1) الشعراء: 84.
(2)
مريم: 5.
(3)
في "المسند"(3/ 198).
(4)
في "الجامع"(2407).
قال الحسن: اللسان أمير البدن، فَإِذَا جنى عَلَى الأعضاء شيئًا جنت، وإذا عفى عفت!
وقد رُوي عن طائفة من السلفى أن اللسان ترجمان القلب، والقلب ملك الأعضاء، وبقية الجوارح جنوده، فَإِذَا صلح الملك وترجمانه صلحت الجنود كلها، وإذا فسد فسدت الجنود كلها.
فَإِذَا كان الملك سليمًا من الهوى، والترجمان صادقًا أمينًا، فالرعية معهما في عافية؛ وإن كان الملك جائرًا، والترجمان غير أمين، فلا تسأل عن فساد حال الرعية معهما، ومتى كان الترجمان غير أمين فقد يلبس، ولكن حال الجائر لا يخفى!
وفي "الصحيحين"(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَلَا إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ".
وقد تقدم (2) حديث أنس المرفوع: صلى الله عليه وسلم "لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ".
وفي "المسند" أيضاً (3) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ".
وفي "سنن ابن ماجه"(4) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "قلنا يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: ذو القلب المخموم (5)، واللسان الصادق.
قلنا: قد عرفنا اللسان الصادق فما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الَّذِي لا إثم فيه ولا غل، ولا بغي ولا حسد".
(1) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
(2)
في "المسند"(3/ 198).
(3)
في "المسند"(1/ 387).
(4)
برقم (4216).
(5)
المخموم: أي نقي من الغل والحسد. "اللسان" مادة: (خمم).
وفي "المسند"(1) عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا، وَلِسَانَهُ صَادِقًا، وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً، وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً، وَجَعَلَ أُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً، وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً، فَأَمَّا الْأُذُنُ فَتَسمِعٌ، وَالْعَيْنُ مُقِرَّةٌ بِمَا يُوعَى الْقَلْبُ، فَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِيًا".
وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ (2) سَخِيمَةَ (3) صَدْرِي" خرجه الترمذي (4).
وسخيمة الصدر: ما فيه من الغل والغش، والحسد ونحو ذلك.
قال خالد الربعي: أمر سيدُ لقمان لقمانَ، بذبح شاة وقال له: ائتني بأطيبها مضغتين. فأتاه باللسان والقلب! فَقَالَ له: أما وجدت فيها أطيب من هذين؟! قال: لا. ثم أمره أن يذبح شاة أخرى، وقال له: ألق أخبثها مضغتين فألقى اللسان القلب! فَقَالَ له: أما كان فيها أخبث من هذين؟! قال: لا. فسأله عن فعله الأول والثاني، فَقَالَ: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا!
تعاهد لسانك إِنَّ اللسان
…
سريع إِلَى المرء في قتله
وهذا اللسان بريد الفؤاد
…
يدل الرجال عَلَى عقله
إذا سلم القلب وصدق اللسان، ترجم اللسان الصادق عن القلب السليم بأنواع السلامة، فهذا المسلم الَّذِي سلم المسلمون من لسانه ويده.
وإذا فسد القلب فسد اللسان، فترجم عن القلب بأنواع الفساد، وهذا الفاجر المعلن بفجوره.
(1)(5/ 147).
(2)
واسلل: أي انتزاع الشيء وإخراجه في رفق. "اللسان" مادة: (سلل).
(3)
السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس. "اللسان" مادة: (سخم).
(4)
برقم (3551). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
فإن ترجم عن القلب الفاسد بالسلامة، فهذا اللسان الكذوب، وهو المنافق الَّذِي يختلف ظاهره وباطنه، وقوله وفعله.
يا من يقول بلسانه ما ليس في قلبه، لا تبع ما ليس عندك، لا تنسب أحكام فرعون إِلَى موسى!
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ".
هذا سؤال جامع لطلب كل خير، والاستعاذة من كل شر، وسواء علمه الإنسان أو لم يعلمه.
وهذا السؤال العام، بعد سؤال تلك الأمور الخاصة من الخير، هو من باب ذكر العام بعد الخاص.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويأمر بها.
كما خرجه الإمام أحمد (1) وابن ماجه (2) وابن حبان في "صحيحه"(3) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا الدعاء: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآَجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَلَمْ أَعْلَمْ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ مَا قَضَيْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ أَنْ تَجْعَلَ عَاقِبَتَهُ لِي رُشْدًا".
وخرجه الحاكم (4) وعنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالْكَوَامِلِ» وذكر الحديث.
(1) في "المسند"(6/ 134).
(2)
برقم (3846).
(3)
كما في "الإحسان"(869).
(4)
في "المستدرك"(521، 522).
وخرجه الفريابي في "كتاب الدعاء"، وفي رواية له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:«يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالْجَوَامِعِ مِنَ الدُّعَاءِ» فذكره.
وخرج الترمذي (1) من حديث أبي أمامة قال: "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعَوْتَ بِدُعَاءٍ كَثِيرِ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمْ بِمَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتَ المُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ البَلَاغُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ".
وسمع سعد بن أبي وقاص ابنًا له يدعو يقول: اللهم إني أسألك الجنة، ونعيمها وإستبرقها -ونحو من هذا- وأعوذ بك من النار، وسلاسلها، وأغلالها. فَقَالَ: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ» وقرأ هذه الآية: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2)، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. خرجه الإمام أحمد (3).
وخرج الطبراني (4) وغيره من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في
دعاء له طويل: "الَّلهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَخَوَاتِمَهُ، وَجَوَامِعَهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ".
وخرج أبو داود (5) من حديث عائشة قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ» .
(1) برقم (3521). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2)
الأعراف: 55.
(3)
برقم (1/ 172).
(4)
في "المعجم الكبير"(717).
(5)
برقم (1469).
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ".
ختم الدعاء بالاستغفار فإنه خاتمة الأعمال الصالحة.
وقوله: "وأستغفرك لما تعلم" يعم جميع ما يجب الاستغفار منه من ذنوب العبد، وقد لا يكون العبد عالمًا بذلك كله، فإن من الذنوب ما لا يشعر العبد بأنه ذنب بالكلية كما في الحديث المرفوع:"الشِّرْكَ أَخْفَى مِنْ هَذِهِ الأُمَّة مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا. قَالُوا: فَكَيْفَ نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ"(1).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» .
ومن الذنوب ما ينساه العبد ولا يذكره وقت الاستغفار، فيحتاج العبد إِلَى استغفار عام من جميع ذنوبه -ما علم منها وما لم يعلم- والكل قد علمه الله وأحصاه، فلهذا قال:"وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ". قال الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (2).
قال إبراهيم التيمي: لأنا عَلَى ذنوبي التي لا أذكرها أخوف مني عَلَى الذنوب التي أذكرها! لأني أستغفر من التي أذكرها.
من أهمته ذنوبه صارت نصب عينيه، ولم ينسها، ومن لم تهمه ذنوبه هانت عليه فنسيها، فلم يذكرها إِلَى يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى.
إذا نشر ديوان السيئات ضج أرباب الجرائم من صغارها قبل كبارها،
(1) أخرجه أحمد (4/ 403).
(2)
المجادلة: 6.
ويَقُولُونَ: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (1).
قال ابن مسعود (2): إِنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنّه فى أصل جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار عَلَى أنفه فَقَالَ به هكذا.
قال عون بن عبد الله: جرائم التائبين منصوبة بالندامة نصب أعينهم، لا تقر للتائب في الدُّنْيَا عين كلما ذكر ما اجترح عَلَى نفسه.
قال الفضيل: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله.
قال كعب (3): إِنَّ العبد ليعمل الذنب الصغير فيحقره ولا يندم عليه، ولا يستغفر الله عنه، فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطود؛ ويعمل الذنب العظيم فيندم عليه، ويستغفر الله منه، فيصغر عند الله حتى يغفره له.
قال: وأصاب رجل ذنبًا فحزن عليه، فجعل يجيء ويذهب ويقول: بما أرضي ربي؟ فكتب صديقًا.
وقال أبو أيوب الأنصاري: إِنَّ الرجل ليعمل بالمحقرات حتى يأتي الله وقد أحطن به، ويعمل بالسيئة فيفرق منها حتى يأتي الله آمنًا.
وقال بعض السلف: إِنَّ الرجل لتعرض عليه ذنوبه يوم القيامة، فيرى ذنبًا فيقول: أما إني كنت مشفقًا منك، فيغفر له.
وقال بعضهم: كفاك همك بذنبك -من توبتك- إقلاعًا وإنابة.
وقال الأوزاعي: كان يقال: من الكبائر أن تعمل الذنب فتحقره.
ومن هنا قال بعضهم: لا تنظر إِلَى صغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت؟!
(1) الكهف: 49.
(2)
أخرجه الترمذي (2497).
(3)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(7151).
وقال أويس لهرم بن حيان: لا تنظر إِلَى صغر ذنبك، ولكن انظر من عصيت؟ فإن صَغّرت ذنبك فقد صَغّرت الله، وإن عَظّمت ذنبك فقد عَظّمت الله!
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من ذكر خطيئة عملها، فوجل قلبه منها، فاستغفر الله منها، لم يحسبها شيئًا حتى يمحوها عند الرحمن.
قال الفضيل في قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (1) قال: هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها.
كان السلف لقلة ذنوبهم يعدونها.
قال رياح القيسي: لي نيف وأربعون ذنبًا، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة.
ركب ابن سيرين الدين، فَقَالَ: هذا بذنب أذنبته منذ أربعين سنة، قلت لرجل: يا مفلس.
فذكر ذلك لأبي سليمان، فَقَالَ: قَلَّتْ ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا، وكثرت ذنوبنا فلم نعرف من أين نؤتى.
كان معروف الكرخي رحمه الله ينشد:
أي شيء تريد مني الذنوب
…
شغفت بي فليس عني تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتني
…
رحمة لي فقد علاني المشيب
ما للمذنبين أحد يرجعون إِلَيْهِ غير الله، وإلى ذلك أشار بقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (2).
(1) ق: 33.
(2)
آل عمران: 135.
ما يأمل الخطاءون إلا رحمة من أسبل عَلَى خطاياهم ذيل الكرم فسترها، لولا أن حلمه وسع الخلق لهلكوا.
قال هارون بن رئاب: حملة العرش أربعة يتجابون بالتسبيح يقول اثنان منهم: سبحانك وبحمدك، عَلَى حلمك بعد علمك؟ ويقول الآخران: سبحانك وبحمدك عَلَى عفوك بعد قدرتك؛ لما يرون من ذنوب بني آدم.
وقال محمد بن النضر الحارثي: أصبت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول: يا ابن آدم، لو يعلم الناس منك ما أعلم لنبذوك، فقد سترت عليك، وغفرت لك عَلَى ما كان منك، ما لم تشرك بي شيئًا.
وفي "الصحيحين"(1) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيَدْعُو العَبْدَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ وَيَقُولُ: أَتَذْكُرُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَذْكُرُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَلَا يَزَال يُقَرِّرُهُ حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ".
إخواني: هب أنه تجاوز عن الزلل، فأين ما يلقاه العاصي عند تقريره بذنوبه من الحياء والخجل؟!
العارفون يشتد قلقهم من الحياء من الله عند الوقوف بين يديه.
قال بعضهم: ما يمر بي أشد من الحياء من الله.
(1) أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768).
وكان الفضيل يقول: واسوأتاه منك، وإن غفرت!
وقال غيره: لو خيرت بين أن أبعث فأوقف بين يديه، ثم يأمر بي إِلَى الجنة، وبين أن لا أبعث لاخترت أن لا أبعث، ولا أريد الجنة!
وقال آخر: لو أمر بي من الموقف إِلَى النار لكان أهون عليّ من أن يقفني بين يديه ثم يأمر بي إِلَى الجنة!
قال أبو هريرة: يُدْنِي اللَّهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيَسْتُرُهُ مِنَ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا، وَيَدْفَعُ إِلَيْهِ كِتَابَهُ فِي ذَلِكَ السَّتْرِ فَيَقُولُ: اقْرَأْ يَا ابْنَ آدَمَ كِتَابَكَ، فَيَقْرَأُ، فَيَمُرُّ بِالْحَسَنَةِ فَيَبْيَضُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيُسَرُّ بِهَا قَلْبُهُ! فَيَقُولُ اللَّهُ: أَتَعْرِفُ يَا عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: إِنِّي قَبِلْتُهَا مِنْكَ، فَيَسْجُدُ فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَعُدْ فِي كِتَابِكَ فَيَمُرُّ بِالسَّيِّئَةِ فَيَسْوَدُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيَوْجَلُ لَهَا قَلْبُهُ، وَتَرْعَدُ مِنْهَا فَرَائِصُهُ، وَيَأْخُذُهُ مِنَ الْحَيَاءِ مِنْ رَبِّهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ! فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ يَا عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ أَعْرِفُ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ! فَيَسْجُدُ، فَلَا يَرَى مِنْهُ الْخَلَائِقُ إِلَّا السُّجُودَ! حَتَّى يُنَادِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: طُوبَى لِهَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ قَطُّ! وَلَا يَدْرُونَ مَا قَدْ لَقِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهَ عز وجل، فِيمَا قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ.
أستغفِرُ الله ممّا يَعلمُ الله
…
إنَّ الشَّقيَّ لَمَن لا يَرحَمُ الله
هَبهُ تَجَاوَز لِي عَنْ كُلِّ مَظْلَمَةٍ
…
يَا سَوْأَتَا مِنْ حَيَاتِي يَوْمَ أَلْقَاهُ
ما أحلمَ الله عمن لا يُراقبُه
…
كُلٌّ مُسيءٌ ولكن يَحلمُ الله
فاسْتَغفِرُ الله مما كان من زَللٍ
…
طُوبى لمن كَفَّ عما يَكرهُ الله
طُوبى لمَن حَسُنَت سَريرتُه
…
طُوبى لمَن يَنتهي عمَّا نهى الله
آخر الكلام عَلَى الحديث، والحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى محمد وعلى آله وصحبه وسلم آمين.
***