الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فهذا بحث في الحج والعمرة وأعمالهما، وما يتعلق بهما من أحكام، أَعَدَّه أخي في الله، فضيلة الشيخ محمد حلاوة- حَفِظه الله- وقد اعتَنى فيه بصحة المادة الحديثية وسلامتها، فخَرَّج الأحاديث والآثار، وحَكَم عليها بما تستحقه صحة أو ضعفًا، وأورد أقوال أئمة الفقه من مصادرها، ورَجَّح ما يقتضي ما صححه من الدليل رجحانه.
فجزاه الله خيرًا، ونَفَع به، ووَفَّقه لمزيد من العلم النافع والعمل الصالح.
وهذا، ولأخي محمد- حَفِظه الله- عدد من المصنفات النافعة في الفقه، مثل «أحكام الطهارة» و «الصيام» و «الزكاة» فاللهَ أسأل أن ينفع به وبعلمه.
وصلى الله على نبينا محمد وسلم.
والحمد لله رب العالمين.
كتبه
أبو عبد الله
مصطفى بن العدوي
(2)
رمضان (1442 هـ)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شَرَع الحج إلى بيته الحرام، وجَعَله أحد أركان الإسلام، ونَهَى الحاج عن ارتكاب المعاصي والمخالفات والآثام، وغَفَر لمَن حج واعتمر ما اكتسب من الذنوب والآثام، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا على مر الليالي والأيام.
وأشهد أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شَرَع الشرائع وأَحْكَم الأحكام، وجَعَل الحج سببًا لدخول الجنة دار السلام، ووسيلةً لتكفير الذنوب والآثام. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبد الله ورسوله، أفضل الخَلْق وصفوة الأنام، وأفضل مَنْ صلى وصام، وأدى مناسك الحج على الكمال والتمام.
أنت الذي قَوَّمْتَ ميزان الورى
…
ومحوتَ ظُلْم العدل في الميزانِ
آسيتَ أيتامًا كَفَلْتَ أراملًا
…
أَسْعَدْتَ محرومًا رَحِمْتَ العاني
أَنْقَذْتَ مسكينًا حَمَيْتَ مُشَرَّدًا
…
أَسْعَدْتَ مكروبًا هَدَيْتَ الجاني
صلى عليك الله وسَلَّمَا
…
يا رحمة بُعِثَتْ من الرحمنِ
اللهم صَلِّ على صاحب النفس الرضية، والطَّلْعة البهية، والمُهجة التقية، واليد الوفية، وعلى آله وصحبه، تلك النخبة الأبية، الأئمة الأعلام، شموس الدُّجَى ومصابيح الظلام، وعلى التابعين ومَن تَبِعهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام.
أما بعد:
فإِنَّ مِنْ أعجب ما يدهش ألباب العقلاء، ويأخذ بقلوب الأصفياء، ويحار في ذكره المفكرون والعظماء، ويقف عن ترجمته الخبراء والعلماء، ويَعجز عن وصفه الفصحاء والبلغاء- جَذْب النفوس لبيت الله الحرام.
إلى قِبلة الرُّوح رُوحي سَمَتْ
…
وطَرْفي إليها أطال النظَرْ
أَحن إليها وأشتاقها
…
وكم من فؤاد إليها انفطَرْ
هناك الهدى والمُنى والسَّنا
…
وطَيْف من الأمل المُنتظَرْ
هناك بداياتنا أُمَّة
…
تسامت وميلاد خير البشَرْ
وإِنَّ مِنْ أعظم علامات اليُمْن، وأمارات الخير، وتباشير النصر لهذه الأمة العظيمة العزيزة بدينها- حبها لبيت بارئها، ولَهْفها لِحَرَم خالقها، وتَحَقَّقَتْ دعوة الخليل:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37].
هنا بمكة آي الله قد نَزَلَتْ
…
هنا تربى رسول الله خير نبي
هنا الصحابة عاشوا يَصنعون لنا
…
مجدًا فريدًا على الأيام لم يشب
هنا، مكة مهد الدين والإسلام، اصطفاها الرحمن، وتَنَزَّل في جنباتها القرآن، وفيها وُلد ونشأ وبُعث سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
بلدة ترنو إليها الأبصار، وتمتد إليها الأعناق، وتَعْلَق بها الخواطر، وتَلْهَج بها الأفكار.
لا تُنكِروا شوقي إلى أُم القُرى
…
وتَهتُّكي بين الورى من ذكرها
أبدًا بقلبي لا تَزال ربوعها
…
وبناظرَيَّ مَصِيفها وربيعها
بلد تَطْرَب القلوب لذكره، وتشتاق الأفئدة لحُسْنه، إنه مكة، الاسم الخالد في قلب كل مؤمن، على ثراها نزلت الهداية، ومِن رُباها رُفعت للحق أعظم راية وكانت البداية.
أُمَّ القرى يا جنة اليوم والغد
…
ويا زينة الماضي التليد المجدد
أعز بلاد الله في الأرض موطنًا
…
ومولد خير الأنبياء محمد
إن الله تعالى جَعَل الكعبة مَهْوَى أفئدة المسلمين، وقِبلة المصلين، ومَثابة للعَالَمين، وأَمْنًا للخائفين، ومأوى للمذنبين والمُقصِّرين، يَطلبون عنده العفو والمغفرة من رب العالمين، قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
كيف لا يكون هُدًى، ومنه انبثق فجر الإسلام ونور الإيمان؟!
كيف لا، وقد جَعَلها الله قيامًا للناس أجمعين، وهي قِبلة للمسلمين، ومَهْبِط الوحي على النبي الأمين؟!
كيف لا، وكم مِنْ نفوس دخلته فآبت وتابت واستقامت؟! وكم مِنْ قلوب دخلته فاطمأنت وسكنت؟! كيف لا والقلوب والأبدان تتوجه إليه كل يوم مرات ومرات، ولو
كانت في قاع البحار أو فوق السحاب؟!
يا مكة الخير يا أرض المَسَرَّاتِ
…
يا مَشْرِق النور يا مَهْد النُّبواتِ
يا دُرَّة في جبين الكون ساطعة
…
يا عبيرًا لأرواح زكياتِ
وكيف لا ننتشي شوقًا إلى بلد
…
نهفو له كل يوم خَمْس مراتِ
بيتٌ سطع نوره، وأشرقت بهجته، وراقت نضارته، وتألق حُسنه!
بيت تتحرك إليه النفوس، وتتلهف له القلوب، وتثور شجون الحب، وتُنْفَق فيه الأموال، وتُتْرَك من أجله الأوطان؛ طاعة واستجابة لنداء الواحد الديان؛ لترتوي النفوس وتطمئن القلوب وتزكو الجوارح؛ لتزداد من الحسنات وتتقرب من رب الأرض والسموات، ترجو الجنان والعتق من النيران.
في البيت الحرام تُسْكَب العَبَرات، وتُجَدَّد التوبات، وتَصعد الزَّفَرات، وتُسَح الدمعات، وتُسْمَع الآهات.
في البيت الحرام يكون الأُنس بالرحمن، ويتخلص القلب من الأحزان، وتنطلق الرُّوح من العصيان.
في البيت الحرام تُضاعَف الحسنات، وتُحَط الغَدَرات، وتُعَظَّم السيئات، وتُغْفَر الزلات.
فالناظر حول الكعبة بيت الله الحرام يرى رجالًا أتقياء، ونساء خَيِّرات، وشبابًا أصفياء، بتلك النفوس المؤمنة الزمان يزدهر، والأيام تحتفل، والأرض في طرب.
حَيِّ الشباب شباب أُمتنا الذي
…
هَجَر الرِّعاع وسار للرحمنِ
متوجهًا للبيت يَبغِي رحمة
…
متوثبًا بالنور والإيمانِ
العين تَفرح حين تُبْصِر ما تَرَى
…
من دعوة وإنابة الشُّبَّانِ
علماءنا ودُعاتَنا بُشْرَى لكم
…
يا مَنْ بَنيتم عاليَ البُنيانِ
ولتفرحي يا أمتي فلقد بدا
…
فجر الهداية واضحًا لعِيَانِ
والشِّيب قد خَفُّوا على عَجْز بهم
…
لِلِقاء خالقهم بغير هوانِ
قَطَعُوا الفيافي والقفار لعلهم
…
يَحْظَوْنَ بالرحمات والغُفرانِ
هَذِي سطور قد كَتَبْتُ حروفها
…
بالحُب والإشفاق للإخوانِ
والنصح منكم يا أَحبةُ مَطْلَبِي
…
ليَزول ما في القول من نقصانِ
ولتستروا خَلاتنا ولتصفحوا
…
فالصفح منكم غاية الإحسانِ
واللهَ أسأل أن يُعمِّم نفعها
…
وتصير خير زاد للركبانِ
ثم الصلاة على النبي محمد
…
ما طاف معتمر على الأركانِ
فالحج عبادة عظيمة، مِنْ أَجَلّ العبادات، وقربة من أعظم القربات، فيه الانطراح بين يدي الواحد العَلَّام، وتجديد العهد مع الله على الإسلام، وبه تُمْحَى الخطايا والآثام، ويُباهِي الله تعالى بعباده ملائكته الكرام، وقبل ذلك وبعده الركن الخامس من أركان الإسلام، وأحد مبانيه العظام، وشَهِد النص بأنه من أفضل الأعمال وأنه من الجهاد، ويَهدم ما كان قبله من الذنوب والآثام، وأن المتابعة بينه وبين والعمرة تَنفي الفقر والذنوب كما يَنفي الكِير خَبَث الحديد.
فالحج عبادة تُفْضِي بالعبد إلى مغفرة الذنوب، وتُخَلِّصه من ماضٍ تراكمت فيه الأوزار، وتفاقمت فيه الشرور والآثام والخطايا، التي تنوء بها الجبال، فيرجع بذلك العبد إلى أهله بعد أداء حجه طاهر القلب، زكي النفس، مشرق الرُّوح، نقي الوجدان، نظيف الظاهر والباطن من الذنوب، مستقيمًا على هَدْي الفطرة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» .
وإن مما يُفرح القلب، ويَشرح الصدر، ويُمتع الأرواح، ويبعث الأمل- ذلك الإقبال العالمي، ولا سيما في شهر الغفران وحج بيت الحرام.
مُتدفِّقون كأنهم أنهارُ
…
أَنَّى اتجهتَ جلالةٌ ووقارُ
فالناظر يرى تباشير النصر والتأييد والعز والتمكين لهذه الأمة.
لَبَّيْكَ فاح الكون من نَفَحاتها
…
وتَعَطَّرَتْ منها ربوع الوادي
هذا الرحيل إلي ربوع لم تَزَلْ
…
تُهْدِي إلى الدنيا براعة هادِ
فهل رأيتَ لباسًا قَطُّ أَجَلَّ من لباس المُحْرِمين؟ وهل رأيتَ رُءوسًا أعز من رءوس المُحَلِّقين؟ وهل مَرَّ بك رَكْبٌ أشرف من ركب الطائفين؟ وهل مَرَّ بك مشهد كمشهد ليلة سبع وعشرين؟
لله دَرُّ ركائب سارت بهم
…
تَطوي القفار الشاسعات عن الدجى
رحلوا إلى البيت الحرام وقد شجا
…
قَلْبَ المُتيَّم منهم ما قد شجا
نَزَلُوا بباب لا يَخيب نزيله
…
وقلوبهم بين المخافة والرجا
جموع ملبية، وأعين باكية، وعَبَرات ساكبة، وألسنة ذاكرة، وقلوب خاشعة، ونفوس خاضعة، وأيدٍ داعية، وجِباه ساجدة.
إليك إلهي قد أتيتُ ملبيًا
…
فبَارِك إلهي حجتي ودعائيا
قصدتُك مضطرًّا وجئتك باكيًا
…
وحاشاك ربي أن تَرُد بكائيا
أتيتُ بلا زاد وَجُودك مطمعي
…
وما خاب مَنْ يهفو لجودك ساعيا
إليك إلهي قد حَضَرْتُ مُؤمِّلًا
…
خلاص فؤادي من ذنوبي ملبيا
فها هي قوافل حُجاج بيت الله الحرام، وجموع ضيوف الرحمن، ووفود المَلِك العَلَّام، أتت من كل فَجٍّ عميق، أتوا عبر القارات والبحار، وقَطَعُوا الفيافي والأجواء والقفار؛ ليَشهدوا منافع لهم، يدفعهم الإيمان وتقودهم الرغبة، ويحدوهم الشوق، ويُحفزهم الأمل فيما عند الله عز وجل؛ استجابة لأمر الله سبحانه لخليله عليه السلام:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].
فيا ضيوف الرحمن، وفود المَلِك العَلَّام، يا مَنْ تجشمتم الصِّعاب، وركبتم المَشاقّ والأخطار، وقطعتم الفيافي والقِفار، والأجواء والبحار، وتركتم الأوطان والأموال والأولاد، لا لشيء إلا لأداء فريضة الحج على الوجه الأكمل والطريق الأمثل؛ هنيئًا لكم سلامة الوصول وحصول المأمول.
أهلًا وسهلًا والسلام عليكمُ
…
وتحية منا تُزَفّ إليكمُ
أحبابَنا ما أَجْمَلَ الدنيا بكم
…
لا تَقْبُح الدنيا وفيها أنتمُ
فمرحبًا بوفد الرحمن وضيوف البيت الحرام، فلهم منا أجمل وأسمى تحية وإكبار.
أهلًا وسهلًا بالحجيج ومرحبًا
…
تزهو بها الدنيا وتَخْضَرّ الرُّبا
غنت طيور الشوق في إحساسه
…
فلكم أصاخ الكون منه وأطربا
يا حُجاج بيت الله، اتقوا الله واشكروه على ما هيأ لكم من الوصول إلى بيته العتيق،
والاجتماع حول هذه الكعبة المشرفة، حيث تُسْكَب العبرات، وتَتنزل الرحمات، وتُرْفَع الدرجات، وتقال العثرات، وتُكَفَّر السيئات، وتُغْفَر الذنوب والخطيئات.
فيا لها من مواقف تُهَذَّب فيها النفوس، وتَصْقُل فيها القلوب، وتحيا فيها الضمائر، وتصفو فيها المشاعر، ويَفرح بها أهل الإيمان!
عبدَ الله، إن من نعمة الله عليك زيارة البيت العتيق، يوم أن حُرِمه كثير من العالمين، فحالت بينهم وبينه المصائب والأقدار، ما بين مُقْعَد على الفراش، كانت زيارة البيت من أعظم مناه، فوافاه الأجل قبل رؤياه. وما بين فقير، ليس عنده من الزاد ما يُبلغه إياه. وما بين شارد تائه عن الله ورضاه. فاغتَنِم هذه الفرصة.
حُجاجَ بيت الله الحرام، اعلموا إن من أهم مقاصد الحج تحقيق التوحيد، فلقد أَوْدَع الله تعالى في مناسك الحج أعظم مظاهر التوحيد! ففي الطواف حول البيت العتيق يتجلى معنى الالتفاف حول الكعبة، فيجتمع حولها المسلمون ليُعلنوا توحيدهم لله ونَبْذهم لكل صور الشرك ومظاهر الوثنية، قال تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
يا نازلين بأرض مكة والحَرَمْ
…
والطائفين بركنه والمُلتزَمْ
هذي نصيحة مشفق مُتوجِّل
…
أَرْعِ لها سمعًا وبالنصح التَزِمْ
يا زائرًا للبيت تلك وصية
…
اشْدُد بها عضدًا وبالحق استَقِمْ
تلك الوصايا قد حواها ديننا
…
لنُشيد رفعتنا ونَبني ما انهدمْ
قد حاز هذا الدينُ كل فضيلة
…
شَهِدَتْ له حتى الفرنجة والعجمْ
ثم الصلاة على الذي بسماحة
…
مَلَك القلوب وقادها نحو القِممْ
يا حُجاج بيت الله الحرام، هل تذكرتم - وأنتم تَحلّون في رحاب هذا البيت العتيق- أباكم إبراهيم عليه السلام، وابنه إسماعيل، وهما يَرفعان القواعد من البيت؟!
وهل تذكرتم نبيكم المصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو يقوم بالدعوة إلى الله من هذه البقاع المقدسة؟!
هل تذكرتم كيف نَمَتْ دوحة الإيمان، وترعرعت دعوة الإسلام، التي حَمَلها رجال صَدَقُوا ما عاهدوا الله عليه؟!
ثم هل تفكرتم فيما آل إليه أمركم في هذا الزمان، وعَرَفتم ما السبب في ذلك الخِذلان؟
إنه-والله- التساهل في أمر هذا الدين، ووجود الخلاف والفُرقة بين أبناء المسلمين، هو الذي سبب تسلط أعداء الإسلام على أمة الإسلام، واحتلال مقدسات المسلمين وإحلال الفساد والدمار فيها.
هل تذكرتم- يا إخوة الإسلام، ويا أيها الحُجاج الكرام- وأنتم تنعمون في ظل هذا البيت الآمن- أخاه المسجد الأقصى المبارك الذي يئن تحت وطأة الاحتلال الغاشم، من أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
حُجاج بيت الله، عَظِّموا شعائر ربكم وشرائعه {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] واعقدوا العزم الأكيد على العمل بدينكم، مصدر عزكم ونصركم وسعادتكم في الدنيا والآخرة، واعلموا أن في أيام الحج صورًا وعظات، وعبرًا وآيات، واكتساب علم وخبرات، وحصول منافع ودفع سيئات، ودوام ذكر وعبرات، قال تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28].
عبادَ الله، إنَّ أَعْظَم أركان الحج: الوقوف بعرفة، فعن عَائِشَة: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» .
أراد هؤلاء رضا الرحمن، إنهم جاءوا يرجون الجنان، إنهم جاءوا من أقاصي البلدان يرجون العتق من النيران، إنهم جاءوا وَكُلهم وجل وخوف من الديان، وكأن كل واحد منهم يقول بلسان حاله:
إليك إلهي قد شددتُ رحاليا
…
وأقبلتُ في شوق أَبُثك ما بيا
أتيتُك بعد اليأس أدنو ملبيًا
…
إلى العفو ظمآنًا إلى الصفح صاديا
فلما استبد اليأس واستحكم الهوى
…
قصدتُك يا مولاي أطوي الفيافيا
أتيتُ إلى أفياء بيتك عَلَّني
…
أُريح ضميري من عناء شقائيا
فلَبَّيْكَ رَبَّ البيت لَبَّيْكَ ما سَرَى
…
إلى البيت عبد من عبيدك عانيا
رَأَى كل باب غير بابك مُوصَدًا
…
فآب إلى أعتاب بابك ثاويا
يقول ابن القيم في وصفِ يوم عرفة:
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي
…
كموقفِ يوم العَرْض بل ذاك أعظمُ
ويدنو به الجبارُ جل جلاله
…
يُباهِي بهم أملاكَه فَهْو أَكْرَمُ
يقول: عبادي قد أتَوْنيِ محبة
…
وإني بهم بَرٌّ أَجُودُ وأُكْرِمُ
فأُشْهِدكم أني غفرتُ ذنوبهم
…
وأعطيتُهم ما أَمَّلُوه وأُنْعِمُ
يسعى الحاج بين الصفا والمروة استذكارًا لسعيِ هاجر أُم إسماعيل؛ فإنها لَمَّا استسلمت لأمر اللهِ وانقادتْ لمشيئتِه، رَفَع اللهُ قَدْرها وأعلى شأنها، وأزال عنها البأساء والضراء، ومَنَحها وابنَها الخير والرخاء.
أخرجَ البخاريُّ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال:«جَاءَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِهَاجَرَ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ عليه السلام، وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا» ولم يضيعهما الله، حيث فَجَّر لهما زمزم، وأَسْبَغَ عليهما مِنْ بركاته وأَنْعَمَ، واجتمع الناس إليهم من كل سبيلٍ، فتحققت بذلك دعوة أبينا إبراهيم الخليل:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، وما زالت زمزم- والحمد لله بَرَكة مِنْ إنعام الله عليهما، وأثرًا طيباً مِنْ آثارهما.
فتُذكِّرنا الصفا والمروة وزمزم بهاجر التي ضربت أروع الأمثلة في التوكل في الله، حينما قالت لزوجها:«آللهُ أمرَك بهذا؟ قال: نعمْ. قالت: إذنْ لا يُضَيِّعُنا» لم تَجعل عَقْدها مع إبراهيم، بل جَعَلَتْ عَقْدها مع الله، فلم تَشترط شروطًا؛ لعِلمها أن الله لا يضيعها، تَرَكها إبراهيم عليه السلام في وادٍ غير ذي زرع، لا أُنس ولا أنيس؛ لأنه عَقَد عقدًا مع الله، ومَن تَوكَّل على الله، فإنه يَنال من فضائله وثمراته بحَسَب تحقيقه له، ما لا يَخطر له على بال ولا يدور في خيال، ولا يحيط به مقال.
والتوكل هو جماع الإيمان، مَنْ سَرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. لا تَدَعْ قلبك يتعلق بما عند الناس وبما في أيديهم، واجعل تعلقك بربك، وارمِ بهمومك وأسرارك وما عندك بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأَقْبِل عليه بالدعاء في جوف الليل وهجير النهار، وبكثرة ترددك على أبوابه ستُفتح لك أبواب الرحمة.
أيها المؤمن، تعالَ وانظر بقلبك وقالبك كيف شَكَر الله لأم إسماعيل؟! فإنها لَمَّا صَدَقَتْ في إيمانها خَلَّد الله ذكرها بزمزم، وجَعَل السعي عبادة من العبادات اقتداء بها، وجَعَل ببركتها مكة المباركة التي تهوي أفئدة الناس إليها.
ففي زمن يتكالب فيه أعداء الأمة على المرأة المسلمة، مستخدمين كل ما بوُسعهم من سبل وقوة، زاعمين أن الإسلام لم يُعْطِ المرأة حقها بل أهانها! انظر أيها المسلم المعتز بدينه، كيف مَجَّد الإسلام هذه المرأة، وجَعَلها بركة على العالمين؟!
وقد أَكَّد النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حق المرأة، ووجوب رعايتها والتخويف من الاعتداء عليها، فقال صلى الله عليه وسلم:«فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ» .
أين المتشدقون العابثون الكاذبون على الله ودينه، بأنه حقر المرأة وظَلَمها وأقصاها، ولم يَجعل لها وزنًا؟!
أيتها المسلمة الحرة الأبية، كوني حرة بالإسلام والحجاب والعفاف والفضيلة.
والحج من أكثر العبادات ذِكرًا لله، بَدْءًا من التلبية إلى الختام، قال تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
لو يَعلم العبد ما في الذِّكر من شرف
…
أمضى الحياةَ بتسبيح وتهليل
لو يَعلم الناس ما في الذِّكر من شرف
…
لم يُلهِهم عنه تجميع الدنانير
تُعَلِّمنا مناسك الحج حُسْن الخُلق، وقد تجلى ذلك في تواضع النبي صلى الله عليه وسلم في حجه في مواقف شتى، فليس من الآداب رفع الأصوات والقيل والقال، والحديث في الجَوَّال بصوت عالٍ مزعج لغير حاجة.
تُعَلِّمنا مناسك الحج الدقة والتنظيم في المكان والزمان، فليس لأحد أن يقف بعرفة في يوم النحر. وفي ذلك رَدٌّ على الذين يظنون أن الإسلام دين فوضى ولا تنظيم فيه.
حُجاج بيت الله الحرام، اعلموا أن من أهم مقاصد الحج تحقيق معاني الأخوة الإسلامية، ففي الحج تتساوى الرءوس، ولا تستطيع أن تُفَرِّق بين غني وفقير، أو بين شريف ووضيع، أو بين رئيس ومرءوس؛ فالكُل يَلبس البياض إشارة إلى فقره وحاجته إلى الله تعالى، وإلى أنه لن يَخرج من الدنيا إلا بهذا الإزار والرداء، لا فضل هنا لأحد على أحد بمال أو جاه أو لون أو نَسَب أو أي غرض من أغراض الدنيا، إنما يَشرف الإنسان في هذا الموضع بالتقوى.
فتتجلى في الحج رُوح المساواة والوحدة، فالوحدة تَرى معناها في الحج واضحًا جليًّا! وحدة في المشاعر، وحدة في الشعائر، وحدة في الهدف، وحدة في العمل، وحدة في القول، لا عصبية ولا عنصرية لِلَون أو جنس أو طبقة، فالناس من آدم، وآدم من تراب، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
أرى الناس أصنافًا ومن كل بقعة
…
إليك انتهوا من غربة وشتات
تَساوَوْا فلا أنساب فيها تَفاوُت
…
لديك ولا الأقدار مختلفات
هنا تَظهر الرابطة الإسلامية، وتُدفَن العصبية والنعرات الجاهلية، هنا الأقرب لله أكثرهم تقوى، لا مال ولا نَسَب. هنا تَظهر صورة الإسلام بجماله وروعته وعظمته.
هنا الأماني هنا الأمجاد قد رُفعت
…
هنا المعالي هنا القربى هنا الرحمُ
هنا القلوب استفاقت من معاقلها
…
هنا النفوس أتت للحق تزدحمُ
هنا رُوَاء هنا فجر هنا أمل
…
هنا كتاب هنا لوح هنا قَلَمُ
فباجتماع المسلمين في بلادهم المقدسة وتعاونهم، تتقارب قلوبهم وإن تباعدت أجسادهم، وتجتمع كلمتهم وإن تَفَرَّقَ شملهم، وتنتظم صفوفهم وإن تبعثرت وجهاتهم، فيصبحون على كثرتهم وتَعَدُّد أوطانهم وتباعد بلادهم- جسدًا واحدًا، وإذا اشتكى عضوًا منه تداعى له سائره بالحُمى والسهر.
فيجب علينا أن نَشعر بعمق تلك الوحدة في حياتنا، فنتحسس من خلالها آلام المضطهدين والمعذبين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حيث يسامون على أيدي أعداء الله ألوان العذاب والتنكيل.
إن أمة الإسلام اليوم بحاجة مَاسَّة إلى الاستفادة من مواسم الإسلام المباركة، وآثارها العظيمة ومنافعها الجمة؛ لتنطلق للإصلاح من هذه البقاع المباركة، فمتى تظل الأمة تراوح مكانها؟ وتأسى على أوضاعها؟ وتندب حظها؟ دون تحرك جاد في العمل للإسلام وبالإسلام.
وبما تَقَدَّم من أهمية هذا الركن العظيم، وما يعتري المسلم فيه من عوارض تحتاج إلى أحكام وأجوبة، ولتفريط كثير من المسلمين - من أسف - فى تحصيل فقه الحج، وقصورِهم عن معرفة أحكامه وسُننه وآدابه؛ رَغِبتُ فى إعداد هذا الكتاب وتأليفه، وتَعنَّيتُ لتحبيره جهدي، مُستلهمًا من المولى عز شأنه التسديد والتوفيق، سائلًا إياه أن يكون لحُجاج بيت الله دليلًا ونبراسًا، ولطالب العلم أصلًا وأساسًا.
على كف الندى أُهْدِي كتابي
…
وأُرخي في محبتكم رِكابي
فإن كان الذي أُهْدي يسيرًا
…
ففيض الوُد أكمل في النِّصابِ
وسَميتُه «جَمْع السبائك لأحكام المناسك» .
وكان عملي في هذا الكتاب هو جَمْع مسائل الحج:
فإن كانت المسألة من مواضع الإجماع، حاولتُ قدر استطاعتي توثيق هذا الإجماع من مظانه المعتبرة، وبَينتُ هل هذا الإجماع منخرم أم لا؟
وإذا كانت المسألة من مسائل الخلاف، قمتُ بعرض المسألة الخلافية بذكر كل قول، ثم القائل به، لا سيما المذاهب الأربعة، ثم الأدلة من القرآن والسُّنة.
وقد التزمتُ فيه ما صَحَّ عن النبي العدنان، مع ذكر بعض الأحاديث الضعيفة لبيان ضعفها، أو للرد على مَنْ استَدل بها.
وكذلك ذَكَرْتُ الآثار عن الصحابة الأبرار والتابعين الأخيار، ورجَّحتُ ما يقتضي الدليل رُجحانه.
ثم لما كانت هناك مسائل نازلة في الحج، لم أجد فيها أقوالًا للصحابة ولا التابعين، ذَكَرْتُ أقوال أهل العلم المعاصرين.
وكم تمنيتُ أن يكون هذا الكتاب فريدًا في بابه، يجد فيه طالب العلم نَهْمته والناسك بُغيته.
وقد قسمتُ هذا الكتاب إلى ثلاثة وعشرين بابًا:
الباب الأول: مقدمة في الحج. والباب الثاني: شروط الحج.
والباب الثالث: آداب السفر. والباب الرابع: المواقيت.
والباب الخامس: الأنساك الثلاثة. والباب السادس: الإحرام.
والباب السابع: دخول مكة. والباب الثامن: الطواف.
والباب التاسع: السعي.
والباب العاشر والحادي عشر والثاني عشر: يوم التروية ويوم عرفة، و المزدلفة.
من الباب الثالث عشر حتى الباب الثامن عشر: أعمال يوم النحر، مِنْ رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة والهَدْي والتحلل.
والباب التاسع عشر، والعِشرون: أعمال أيام التشريق من مبيت بمنى ورمي الجمار.
والباب الحادي والعِشرون: طواف الوداع. والباب الثاني والعِشرون: نوازل الحج.
والباب الثالث والعِشرون: أحكام تختص بالعمرة.
وهذا ترتيب منطقي، فأول ما يفعله مَنْ أراد الحج أن يَتعلم فضل الحج وحكمه وشروطه. ثم إذا أراد السفر للحج، تَعَلَّمَ آداب السفر. وفي طريقه يمر بالمواقيت ويُحْرِم منها. ثم دخول مكة والطواف والسعي، ثم يوم التروية ويوم عرفة، والوقوف بمُزدلِفة، وأعمال يوم النحر من رمي ونَحْر وحَلْق، وطواف وسعي. ثم أعمال أيام التشريق، من مبيت بمنى ورَمْي الجمار، ثم طواف الوداع لتوديع البيت ومفارقته.
وبعد أن أضنيتُ نفسي في جمع هذا الكتاب، قمتُ بعرض ما جمعتُه على شيخنا المِفضال مصطفى بن العدوي- حَفِظه الله - فراجعه على دَيدنه في سماحة خلقه، وبِرِّه بطلاب العلم، فقَدَّم له، فأفدتُ من تسديد ألحاظه وتصويب ألفاظه.
فله مني شكر لا ينقطع مداه، وثناء لا يُبلغ منتهاه، ودعاء مدى الحياة؛ فقد كان له فضل عليَّ في سلوك جادة العلم والتحصيل، وما كتبتُ في أبحاثي إلا زهرة من بستانه، فقد كان عونًا لي بعد الله على طلب العلم، وكيفية بحث المسائل، والحُكم على الأحاديث في ضوء قواعدِ الجَرْح والتعديل، وفي حل كل ما يشكل عليَّ.
فكم أَذْكُره في خَلَواتي، وأدعو له في صلواتي، فجزاه الله خير الجزاء وأوفاه، وجَعَل ما قَدَّمه في ميزان حسناته يوم يلقى مولاه.
وأسأله سبحانه أن يُسْعِده بجنته، ويشمله برحمته، وأن يُكْرِمه بمغفرته، وأن يمتعه بالصحة والعافية، وأن يُمِد في عمره على طاعته، وأن يرزقه مزيد العلم النافعِ والعمل الصالح، وأن ينفع بعلمه وسعيه الإسلام والمسلمين، وأن يبارك له في أزواجه وأهله وذريته أجمعين.
كما أشكر لكل مَنْ شارك وساهم في إعداد الشاملة التي يَسَّرَتْ وسَهَّلَتْ على الباحثين طرق البحث، فشَكَر الله سعيهم وغَفَر ذنبهم، وجَعَل كل ذلك في ميزان حسناتهم.
وإني لأعلم أن هناك مَنْ هو أكثر أهلية مني لهذا العمل الجلل، ولكني أذكر قول القائل:
وما كنتُ أهلًا للذي قد كتبتُه
…
وإني لفي خوف من الله نادمُ
ولكنني أرجو من الله عفوه
…
وإني لأهل العلم لا شك خادمُ
ولِما آمُل من ثواب ونجاة في اليوم المشهود لمن خدم هذا الدين، تجرأتُ على الشأن الكئود، فأسأل الله أن يتقبله مني في اليوم الموعود.
رب تَقَبَّلْ عملي
…
ولا تُخيِّب أملي
أَصْلِح أموري كلها
…
قبل حلول أجلي
ولم أدخر جهدًا في هذا البحث إلا بذلتُه في تحريره وتنقيحه وتقريره، ولا أدعي الكمال والتمام والعصمة من الزلل والخطأ والنسيان؛ فقد قيل: أَبَى الله أن يصح إلا كتابه.
ولله دَرّ مَنْ قال:
كم من كتاب قد تصفحتُه
…
وقلتُ في نفسي أصلحتُه
حتى إذا طالعتُه ثانيًا
…
وجدتُ تصحيفًا فصححتُه
وما أَحْسَنَ ما قاله العماد الأصفهاني: «إني رأيتُ أنه لا يَكتب إنسان كتابًا في يومه، إلا قال في غده: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيد هذا لكان يُستحسَن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل! وهذا من أعظم العِبَر، وهذا دليل استيلاء النقص على جملة
البشر، فسبحان مَنْ تَنزَّه عن النقص».
فمَن وقف فيه على تقصير أو خلل، أو عَثَر فيه على تغيير أو زلل، فليَعذر أخاه في ذلك متطولًا، أو ليُصْلِح منه ما يَحتاج إلى إصلاح متفضلًا؛ فالتقصير من الأوصاف البشرية، فليست الإحاطة بالعلم إلا لبارئ البرية؛ فهو الذي وَسِع كل شيء علمًا، وأحصى مخلوقاته عينًا واسمًا.
سَطَّره لنفسه
…
قائله وجامعه
فليَعْفُ عن زلاته
…
ناقله وسامعه
فألتمس من النبلاء الأماجد تقويم ما اعْوَجَّ ونَدَّ، والتنبيه إلى ما نَدَّ عنه القلم.
وَإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الخَلَلَا
…
فَجَلَّ مَنْ لَا عَيْبَ فِيهِ وَعَلَا
فالمرجو ممن صَرَف وجهه إليه بعين الرضا والرغبة لديه- أن يُصْلِح خطأه وسقطته، ويزيل زلَله وهفوته بعد المراجعة والتأمل والإمعان، لا بمجرد النظر والعِيان
(1)
.
وما مِنْ كاتب إلا سيَفنى
…
ويبقى الدهرَ ما كَتَبَتْ يداهُ
فلا تَكتب بكفك غير شيء
…
يَسُرك في القيامة أن تراهُ
وأسأل الله عز وجل أن يَجعل كتابي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينشره في العالمين، وأن ينفعني به والمسلمين، وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم الدين.
وأسأله أن يُعِزنا بالإسلام، وأن يجعلنا من أنصار هذا الدين.
كما أسأله أن يَجزي عنى والديَّ أعم الجزاء والمثوبة، وأن يَرحم والداتي، وأن يُمتِّع والدي بالصحة والعافية، وأن يُنوِّرَ أوقاته بالهدى والتُّقى، وأن يرزقهما جنة الفردوس.
يا رب ارحم مَنْ عَلَّمني ووالدي وكن بهم
…
بهم برًّا رحيمًا
(1)
ولا أقصد هذا الصنف من الناس.
وقد أَحْسَن مَنْ قال فيهم:
إِنْ يَسْمَعُوا سُبَّةَ طَارُوا بِهَا فَرَحًا
…
مِنِّي وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ
…
وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وأَحْسَن مَنْ قال:
إِنْ يَعْلَمُوا الْخَيْرَ أخْفَوْهُ وَإِنْ عَلِمُوا
…
شَرًّا أَذَاعُوا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا كَذَبُوا
واكتب لهم أجر الذي سَطَّرتُه
…
واقبله واقبلنا فذاك رجانا
اللهم كما مَنَنْتَ عليَّ بإكمال هذا السِّفر المبارك، وأعنتني على تحصيله، وتَفَضَّلْتَ عليَّ بالفراغ منه بعد مدة مديدة؛ امنن عليَّ بقَبوله، واجعله لي ذخيرةَ خير عندك بمنك وكرمك وَجُودك، وأَجْزِل لي المثوبة بما لاقيتُه في جمعه وكتابته من التعب والنَّصَب، وانفع به مَنْ تَلَقَّاه بالقَبول، وقَصَد الانتفاع به من عبادك؛ ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي؛ فإن هذا هو المَقصِد المهم من تأليفه.
واجعله خالصًا لوجهك الكريم، وتَجَاوَزْ عني ما خطر لي من خواطر السوء مما يخالف الإخلاص. واغفر لي ما لا يطابق مرادك؛ فإني لم أقصد في جمع أبحاثي فيه إلا إصابة الحق وموافقة ما ترضاه، فإن أخطأتُ فأنت غافر الخطيات، ومُسْبِل ذيل السَّتر على الهفوات.
بِالذُّلِّ قَدْ وَافَيْتُ بَابَكَ عَالِمًا
…
أَنَّ التَّذَلُّلَ عِنْدَ بَابِكَ يَنْفَعُ
اجْعَلْ لِيَ مِنْ كُل خَطْأٍ مَخْرَجًا
…
وَاسْمَحْهُ لِي يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمَفْزَعُ
مَا لِي سِوَى قَرْعِيْ لِبَابِكَ حِيلَةٌ
…
وَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ
واللهَ أسأل أن يُخْلِص نيتي ويُحْسِن طويتي، ويتقبل عملي ويُنْجِح أملي.
هذا، وما كان من توفيق فمن الواحد المنان، وما كان من خطأ أو نسيانٍ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، والله المستعان.
إذا لم يكن عَوْن من الله للفتى
…
فأَكْثَرُ ما يَجني عليه اجتِهادهْ
وصَلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسَلِّم.
كتبه
محمد بن علي حلاوة
01010637466
الباب الأول مقدمة في الحج
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: تعريف الحج.
المبحث الثاني: حُكْم الحج.
المبحث الثالث: حُكْم جاحد الحج.
المبحث الرابع: مرات الحج الواجبة.
المبحث الخامس: فَضْل الحج.
المبحث السادس: حُكْم تَكرار الحج للنساء.
المبحث السابع: من مقاصد الحج.
المبحث الثامن: هل يجب الحج على الفور أم على التراخي؟
المبحث الأول: تعريف الحج:
الحج لُغة: بفتح الحاء وكسرها لغتان، معناهما: القصد إلى الشيء المُعَظَّم
(1)
.
والحج شرعًا: هو قَصْد البيت الحرام والمشاعر المقدسة؛ تَعبُّدًا لله عز وجل لأداء المناسك، على وجه مخصوص، في زمن مخصوص.
•
شرح التعريف:
«هو قَصْد البيت الحرام والمشاعر المقدسة» إخراج مَنْ قَصَد البيت فحَسْب لأداء العمرة؛ لأن المشاعر لا تُقصَد إلا في حال الحج، كعرفة ومُزدلِفة ومِنًى.
«تَعبُّدًا لله عز وجل» يَخرج به كل قصد ليس خالصًا لله.
«لأداء المناسك» مِنْ إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة
…
وغير ذلك من أعمال الحج. وَيخرج به مَنْ قَصَد مكة والمناسك لعمل أو تجارة، بدون أداء المناسك.
«على وجه مخصوص» ويُقصَد به أداء المناسك على الكيفية الواردة في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أَكَّد على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:«خذوا عني مناسككم» .
«في زمن مخصوص» أي: أَشْهُر الحج: شَوَّال، وذي القعدة، وذي الحجة
(2)
.
المبحث الثاني: حُكْم الحج:
الحج أحد مباني الإسلام الخمسة، وهو فَرْضُ عَيْن على المُكلَّف المستطيع، مرة واحدة في العمر.
وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]
(3)
.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ
(1)
«لسان العرب» (2/ 226)، و «أنيس الفقهاء» (ص: 48).
(2)
«البناية» (4/ 138)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 2)، و «المغني» (5/ 5).
(3)
قال ابن العربي: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا مِنْ أَوْكَدِ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ، إذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ:(لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا) فَقَدْ وَكَّدَهُ وَأَوْجَبَهُ. فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّ بِأَبْلَغِ أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ؛ تَأْكِيدًا لِحَقِّهِ، وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَتَقْوِيَةً لِفَرْضِهِ. «أحكام القرآن» (ص: 385).
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ»
(1)
.
المبحث الثالث: حُكْم جاحد الحج:
مَنْ أَنْكَر وجَحَد وجوب الحج فهو كافر بالنص والإجماع، إلا إذا كان حديث عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة عن العلم وأهله؛ لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
قال ابن تيمية: فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرَ حَجَّ الْبَيْتِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
(2)
.
المبحث الرابع: مرات الحج الواجبة:
يجب الحج مرة واحدة في العمر على المستطيع بالسُّنة والإجماع:
أما السُّنة فما رواه مسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا» فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ»
(3)
.
وأَجْمَع العلماء على وجوب الحج على المستطيع، مَرَّةً واحدة في العُمْر
(4)
.
وقد وقع خلاف في المسألة، وحُكِم عليه بالشذوذ، وبأنه مُخالِف للإجماع.
قال الحَطَّاب: وَقَالَ بَعْضُ مَنْ شَذَّ: إِنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ:«إِنَّ اللهَ يَقُولُ: وَإِنَّ عَبْدًا أَصْحَحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَأَوْسَعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ، تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَا يَفِدُ إِلَيَّ، إِلَّا مَحْرُومٌ»
(5)
.
(1)
رواه البخاري (8)، ومسلم (16).
(2)
«شرح العمدة» (1/ 76)، و «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (2/ 126).
(3)
رواه مسلم (1337).
(4)
وقد نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 51)، والحَطَّاب في «مواهب الجليل» (2/ 465)، والنووي في «شرح مسلم» (8/ 72)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 6) وغيرهم كثير.
(5)
ضعيف: رواه جماعة عن العلاء بن المُسَيَّب، واختُلِف عنه:
رواه خَلَف بن خليفة، عن العلاء، عن أَبيه، عن أَبي سعيد، مرفوعًا، به. عند أبي يعلى (1031).
ورواه الثوري عنه، عن أَبيه- أو: عن رَجُل- عن أبي سعيد، به موقوفًا، عند عبد الرزاق (8826).
ورواه الفاكهي (951) من طريق عبد الرزاق، ولكن حصل خلاف من وجهين: الأول: أنه أورده مرفوعًا. والثاني جَزَم برواية العلاء عن أبيه. وفي إسناده (محمد بن أبي عُمَر العَدَني) قال أبو حاتم: كان رجلًا صالحًا، وكان به غفلة. فأخشى أن يكون وهم في رفع هذه الرواية، وقد استَغرب ابن عَدي رواية الثوري لهذا الحديث عن العلاء، وذَكَر أن هذا حديث يُعْرَف بخَلَف. كما في «الكامل» (3/ 513).
ورواه ابن فُضَيْل واختُلف عنه: فرواه مَرَّة عن العلاء، عن يونس بن خَبَّاب، عن أَبي سعيد. ورواه مَرَّة أخرى، فذَكَر بين يونس وأبي سعيد مجاهدًا. ذَكَرهما الدارقطني في «علله» (5/ 465) مع ذكر طرق أخرى، وعَقَّب بقوله: ولا يصح منها شيء.
وقال أبو حاتم بعد ذكر طرقه: هو مضطرب. وقال أبو زُرْعَة: والصحيح: عن العلاء، عن أبيه، عن أبي سعيد، مرفوعًا. «العلل» (1/ 291).
والحاصل: أن أرجح الطرق: (المسيب عن أبي سعيد) والمسيب لم يَسمع منه، قال ابن مَعين: لم يَسمع المسيب بن رافع من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلا البراء. رواية الدُّوري (4/ 19).
وفي الباب عن أبي هريرة عند البيهقي (10491) وغيره من طرق، عن صَدقَة بن يزيد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أَبيه، عن أَبي هريرة، به. وهذا السند مُنْكَر، أخطأ فيه صدقة.
قال ابن عَدي: فلعل صدقة هذا سَمِع بذكر العلاء، فظَن أنه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة. وكان هذا الطريق أسهل عليه. وإنما هو العلاء بن المُسَيَّب، عن أبيه، عن أبي سعيد.
قال البخاري: عن العلاء بن عبد الرحمن منكر، ولا أعلم يرويه عن العلاء غير صدقة، وإنما يَروي هذا خَلَف بن خليفة، وهو مشهور، ورُوي عن الثوري أَيضًا، عن العلاء بن المُسَيَّب، عن أبيه، عن أبي سعيد الخُدري. «الكامل» (5/ 123).
وقال أبو حاتم وأبو زُرْعَة: هذا عندنا مُنْكَر من حديث العلاء بن عبد الرحمن، وهو من حديث العلاء بن المسيب أشبه. «علل الحديث» (1/ 291).
وأخرجه الخطيب في «المُوضح» (1/ 152) من طريق عَبَّاد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وفي إسناده: قيس بن الربيع، صدوق، تَغَيَّر لَمَّا كَبِر، وأَدْخَل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فحَدَّث به. وعَبَّاد- واسمه عبد الله- لَيِّن.
قال ابن العَرَبِيّ: رِوَايَةُ هَذَا الْحَدِيثِ حَرَامٌ، فَكَيْفَ إِثْبَاتُ حُكْمٍ بِهِ؟! يَعْنِي أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ لِشُذُوذِهِ. «عارضة الأحوذي» (4/ 28، 29).
ونوقش بأن هذا الحديث لا يصح. ولو صح فهو محمول على الاستحباب في هذه المدة.
* * *
المبحث الخامس: فَضْل الحج:
1 -
الحج المبرور من أفضل الأعمال عند الله تعالى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ» قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ»
(1)
.
2 -
أفضل الجهاد حج مبرور، فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ:«لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ»
(2)
.
3 -
الحج من أسباب مغفرة الذنوب، فَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
(3)
.
4 -
الحج يَهدم ما كان قبله، فَعَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ. قَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟!» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»
(4)
.
5 -
الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ»
(5)
.
(1)
رواه البخاري (26)، ومسلم (83).
(2)
رواه البخاري (1520).
(3)
رواه البخاري (1521).
و (الرَّفَثُ): الْجِمَاعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى التَّعْرِيضِ بِهِ، وَعَلَى الْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ.
قَوْلُهُ: «وَلَمْ يَفْسُقْ» أَيْ: لَمْ يَأْتِ بِسَيِّئَةٍ.
قَوْلُهُ: «رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» أَيْ: بِغَيْرِ ذَنْبٍ. «فتح الباري» (3/ 382).
(4)
رواه مسلم (121)
(5)
رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
6 -
المتابعة بين الحج والعمرة تَنفي الفقر والذنوب، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ»
(1)
.
(1)
حَسَن، وله ثلاثة طرق عن ابن عباس:
الطريق الأول: طريق عمرو بن دينار، وله إسنادان:
- فرواه أبو عَتَّاب سهل بن حماد، عن عَزْرَة بن ثابت، عن عمرو، به. عند النَّسَائي (2650).
وسهل بن حماد الدلال صدوق، ولكن قد نص على تفرده بذلك الدارقطني. كما في «أطراف الغرائب» (2471). ومع ذلك فهذا الإسناد أحسن ما يُرْوَى به حديث ابن عباس، وقد حَسَّنه الذهبي كما في «السِّيَر» (13/ 148).
- ورواه شُعَيْب، عن الربيع، عن عمرو، به، عند ابن عَدي (4/ 5)، وشُعَيْب بن صفوان الثقفي مقبول. «التقريب» (2803)، والربيع بن رُكَيْن الفَزَاري قد تَرجم له البخاري وابن أبي حاتم، ولم يَذكرا فيه جَرْحًاً ولا تعديلًا. انظر:«التاريخ الكبير» (3/ 274)، و «الجَرْح والتعديل» (3/ 460).
الطريق الثاني: طريق عطاء: أخرجه الطبراني (11428) وعلته ما قاله العُقَيْلي: يحيى بن صالح الْأَيْلِي، رَوَى عنه يحيى بن بُكَيْر مناكير. «الضعفاء» (4/ 409)، وكذا ابن عَدي. «الكامل» (10/ 635).
وقد تَفَرَّدَ به يحيى بن صالح الأيلي، واضطرب فيه: فرواه مرة عن ابن جُريج، عن عطاء. ومَرَّة: عن إسماعيل بن أُمية، عن عطاء. وقد أشار إلى تفرده الدارقطني. انظر «أطراف الغرائب» (2628).
الطريق الثالث: عن يوسف بن مِهْرَان: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (3814) وفي إسناده علي بن زيد بن جُدْعَان، ضعيف. «التقريب» (4734).
ولهذا الحديث شواهد:
1 -
حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد (3669)، والترمذي (817): عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، به.
وقد أُعِل هذا السند بعلتين:
إحداهما: أن في إسناده عاصم بن بَهْدَلة، وهو ابن أبي النَّجُود، وقد تُكُلِّم في حفظه، وأنه كان يخطئ.
وقد قال ابن حجر: صدوق، له أوهام، فمِثله لا يتحمل التفرد.
وقال المُعَلِّمي: له أوهام، ولم يُخَرَّج له في «الصحيحين» إلا مقرونًا. «الفوائد المجموعة» (2/ 2).
وقد تَفَرَّد بهذا المتن عن شقيق، فأين أصحاب شقيق؟! ولذا استغربه غير واحد من أهل العلم.
قال أبو نُعَيْم: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ، تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ. «حِلية الأولياء» (4/ 110).
وقال الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. «سُنن الترمذي» (2/ 176).
وقال البَزَّار: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. «مُسْنَد البزار» (5/ 134).
العلة الثانية: أن أَبا خالدٍ الأحمر له أوهام، وقد قال فيه الحافظ: صدوق يخطئ، قد ذَكَره العُقَيْلي في ترجمته في الضعفاء، كالمُستنكِر له، وقد ذَكَر الدارقطني أنه تَفَرَّدَ به. كما في «أطراف الغرائب» (3926) فمِثله لا يتحمل مثل هذا التفرد.
وأخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 566) وفي السند محمد بن حُمَيْد، ضعيف.
2 -
حديث عمر: ومداره على عاصم بن عُبَيْد الله، وهو ضعيف، وقد اضطرب فيه، ورُوي مرة من مسند عمر بن الخطاب عند أحمد (167)، ومرة من مسند عامر بن ربيعة، عند أحمد (15694) وقال الدارقطني: يرويه عاصم، ولم يكن بالحافظ
…
وكان يضطرب فيه. وقال يعقوب بن شيبة: ولا نَرى هذا الاضطراب إلا من عاصم، وقد بَيَّن ابن عُيينة ذلك. «تاريخ دمشق» (25/ 259).
3 -
حديث ابن عمر، وله أربعة طرق عنه:
الأول: أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (869، 870)، وفي إسناده إبراهيم الخَوْزِيّ، متروك.
الثاني: ورواه الحارث في «بغية الباحث» (368) بسنده عن ابن عمر.
وفي إسناده هَوْذَة بن خليفة، وهو وإن كان حَسَن الحديث إذا توبع، ولكن قد تَفَرَّدَ به. وقد قال ابن مَعين: هوذة لم يكن بالمحمود. قيل له: لِمَ؟ قال: لم يأتِ أحد بهذه الأحاديث كما جاء بها، وكان أُطْروشًا. انظر «تهذيب الكمال» (30/ 320).
ولم يخرجه غير الحارث بن أبي أسامة، ولو كان صحيحًا فأين أصحاب الصحاح والسُّنن؟
الثالث: أخرجه الطبراني (13651) من طريق حَجاج بن نُصَيْر، وهو ضعيف.
الرابع: أخرجه الطبراني في «الشاميين» (170) وفي إسناده عثمان بن سعيد الصيداوي وشيخه، ولم أقف لهما على ترجمة. وفيه انقطاع بين الشَّعْبي وابن عمر، قاله أبو حاتم. فهذا إسناد ساقط.
4 -
حديث جابر بن عبد الله، وله ثلاثة طرق عنه:
الأول: عن عمرو بن دينار: أخرجه البزار «كَشْف» (1147) وفي إسناده محمد بن مسلم الطائفي، قال الذهبي: فيه لِين وقد وُثِّق. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ من حفظه، وبِشر بن المنذر الرملي، فإن كان قال فيه أبو حاتم:(كان صدوقًا) فقد ذَكَره العُقَيْلي في «الضعفاء» وقال: في حديثه وهم.
الثاني: عن عبد الله بن عَقيل: عند الطبراني في «الأوسط» (4977)، وفيه ابن أبي زياد، ضعيف.
أما الثالث، فهو رواية محمد بن المنكدر: أخرجه ابن عَدي في «الكامل» (6/ 219) وفي إسناده محمد بن عبد الله العَمِّي، لَيِّن الحديث. «التقريب» (6058) وذَكَره ابن عَدي في ترجمته مُستنكِرًا له.
5 -
حديث أبي هريرة: أخرجه الحارث في «بغية الباحث» (366) وفيه داود بن المُحَبِّر، متروك.
فهذه كل الأحاديث الواردة في هذا المعنى، وقد تبين أنه ليس فيها حديث ثابت بنفسه، ولكن فيها طرق يمكن أن يُعضِّد بعضها بعضًا، وهذا الحديث في الفضائل فقد يُحَسَّن الحديث بمجموع الطرق.
7 -
الحاج في ضمان الله عز وجل، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ فِي ضَمَانِ اللهِ عز وجل: رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ اللهِ عز وجل، وَرَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل، وَرَجُلٌ خَرَجَ حَاجًّا»
(1)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه الحُمَيْدي (1121) من طريق أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به.
المبحث السادس: حُكْم تَكرار الحج للنساء:
يُستحَب تَكرار الحج للنساء لتضافر الأدلة على ذلك.
فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ:«لَكِنَّ أَحْسَنَ الجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَا أَدَعُ الحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وَجْه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَب النساء إلى تَكرار الحج بقوله: «لَكِنَّ أَحْسَنَ الجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ» وذلك ظاهر من فَهْم عائشة إذ قالت: فَلَا أَدَعُ الحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ولكن يشكل عليه ما ورد عن أبي واقد الليثي قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَزْوَاجِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصُرِ»
(2)
.
(1)
البخاري (1861).
(2)
ضعيف، ومدار هذا الحديث على زيد بن أسلم، واختُلف عليه في الوصل والإرسال من وجهين:
الأول: رواه الدَّرَاوَرْدِيّ، عن زيد، عن ابن لأَبي واقد الليثي، عن أبيه، به. أخرجه أبو داود (1722).
وابن أبي واقد قد سُمي ب (واقد) بن أبي واقد، عند أحمد (21905).
الثاني: رواه مَعْمَر عن زيد بن أَسْلَم، مرسلًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم، به. أخرجه عبد الرزاق (8812).
وقد أُعِل هذا الحديث بعلتين:
الأولى: أن ابن أبي واقد- واسمه واقد- مُختلَف في صحبته، وقد تفرد بالرواية عنه زيد بن أَسْلَم.
قال ابن حجر: واقد الليثي يقال: له صحبة. وقيل: بل هو من الثالثة.
قال ابن القطان: إسناده فيه علة، وهي أن ابن أبي واقد هذا لا يُعْرَف له اسم ولا حال. «بيان الوهم والإيهام» (5/ 61). وقال المنذري: وواقد هذا شبيه بالمجهول، كما في «تهذيب السُّنن» (2/ 276).
الثانية: أنه أُعِل بالإرسال، فمدار الحديث على زيد بن أسلم، واختُلف عليه: فرواه الدَّرَاوَرْدِيّ على الرفع. وخالفه مَعْمَر، فرواه عن زيد مرسلًا، ومَعْمَر أوثق من الدَّراوَرْدِيّ.
ولهذا الحديث شواهد:
الأول: عن أُم سلمة: أخرجه أبو يعلى (6885) عن المَخْرَمِيّ، عن عثمان الأخنسي، عن عبد الرحمن بن يربوع، عن أُمّ سلمة، به. ورواه ابن سعد في «الطبقات» (10/ 197) بإسقاط أُمّ سلمة.
قال ابن حِبان: عُثْمَانُ الأخنسى يعْتَبر حَدِيثه من غير رِوَايَة المخرمي عَنهُ لِأَن المخرمي لَيْسَ بِشَيْء فِي الحَدِيث (7/ 203).
الثاني: عن أبي هريرة: أخرجه أحمد (9765) وفي إسناده صالحٍ، مَوْلَى التَّوْأَمَة، وفيه ضعف.
الثالث: عن ابن عمر: أخرجه ابن حِبان (3706) وفي إسناده عاصم بن عمر، وهو ضعيف.
وَجْه الدلالة: هذه الحَجة ثم ظهورَ الحُصُر معناه: ثم لا تَخرجن من بيوتكن لحجة أخرى وتَلزمن الحُصُر. فظاهره يدل على منع نسائه بعد حجهن معه من الحج.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: بأن هذا الحديث منكر؛ لأنه كيف يَنْهَى النبي نساءه عن تَكرار الحج، ثم يذهبن للحج ويخالفن أمره؟!
(1)
.
فَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: «أَذِنَ عُمَرُ رضي الله عنه لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ»
(2)
.
الوجه الثاني: بحَمْل قوله صلى الله عليه وسلم: «هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصُرِ» على أن المراد به أنه لا تجب عليكن، ولا يَلزمكن إلا هذه الحَجة.
المبحث السابع: من مقاصد الحج:
•
المَقصِد الأول: تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة لله:
لأن الله تعالى ما أَمَر ببناء البيت إلا لذلك، كما قال سبحانه:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] وتطهير البيت إنما يكون بتطهيره من الشرك والأوثان، وكذا من الأوساخ والأدران.
فالعلاقة واضحة بين التوحيد والحج؛ ولذا فإن سائر المناسك مبنية على التوحيد.
ودل على ذلك أمور كثيرة، منها:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج في السَّنة التاسعة حين فُرِض الحج؛ لأن الشرك كانت آثاره بادية في المسجد الحرام، حيث كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، ويُحَوِّلون الحج إلى موسم ومِهرجان للوثنية، فبَعَث النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصِّديق أميرًا على الحج، وأَمَره أن يبين للناس أمرين:«لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»
(3)
.
(1)
قال الذهبي: وهذا منكر، فما زلن يَحججن. «ميزان الاعتدال» (4/ 330).
(2)
البخاري (1860).
(3)
أخرجه البخاري (369)(1622)، ومسلم (1347) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الثاني: أن شعار الحاج منذ إحرامه هو التلبية، وهي لا تَخرج إلا عن إعلان توحيد الله عز وجل، وإخلاص العبادة له وحده. فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ
…
» ولقد شاء الله أن يكون الإهلال بالحج بهذا الشعار ليعلم الحاج نبذ الشرك والأوثان، وإخلاص العبادة للواحد الديان.
الثالث: روي بأن النبي صلى الله عليه وسلم في ركعتي الطواف كان يَقرأ سورتي (الكافرون) و (الإخلاص)، فسورة (الكافرون) تُبيِّن البراءة من الشرك وأهله، وسورة (الإخلاص) فيها تقرير للتوحيد
(1)
.
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالتوحيد عندما صَعِد على الصفا.
ففي «مسلم» عن جابر- وفيه-: حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ
…
».
ولا يَبدأ أول شوط بالتوحيد فحَسْب، بل يقوله في كل شوط من أشواط السعي.
الخامس: في يوم عرفة الذي فيه قال النبي: «الحَجُّ عَرَفَةُ» فالله يباهي بأهل عرفة الملائكة لتوحيدهم، بقوله:«مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» بحجهم ووقوفهم إلا وجه الله، فروى مسلم عن عائشة: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ- مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» .
السادس: أن الله أَمَر الحُجاج والمعتمرين بإخلاص حجهم وعمرتهم لربهم، بقوله:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وفي هذا إشعار بأن تحقيق التوحيد أهم مقاصد الحج.
•
المقصد الثاني: تزكية النفس:
من مقاصد الحج تطهير النفس من الأخلاق المذمومة، وتزكيتها للوصول إلى حقيقة التقوى التي هي مَقصِد كل عبادة، قال تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
معنى (الرفث) في الآية شامل لأمرين:
(1)
وهذا المعنى في حديث جابر عند مسلم، وهذه الفقرة انتُقدتْ على مسلم، وسيأتي تفصيل ذلك.
أحدهما: مباشرة النساء بالجماع ومقدماته.
والثاني: الكلام بذلك، كأن يقول المُحْرِم لامرأته: إن أحللنا، فَعَلْنا كذا وكذا.
والمراد ب (الفسوق): المعاصي كلها؛ لأن الفاسق: الخارج من الطاعة إلى المعصية. ومنه قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50].
ويَدخل فيها الذبح للأصنام؛ لعموم قوله: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].
ويَدخل فيها محظورات الإحرام.
ويَدخل فيها سِباب المسلم؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ» .
ويَدخل فيها التنابز بالألقاب؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11].
ويَدخل فيها الحج بالمال الحرام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» .
وقال الشاعر:
إِذَا حَجَجْتَ بِمالٍ أَصْلُهُ دَنِسٌ
…
فَما حَجَجْتَ وَلَكِنْ حَجَّتِ العِيرُ
لَا يَقْبَلُ اللَهُ إِلَّا كُلَّ طَيِّبَةٍ
…
مَا كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَهِ مَبرُورُ
ومِن الفسق المنهي عنه: إيذاء الحُجاج والتعدي عليهم، والاستهزاء والسخرية بهم.
والمراد بالجدال في الحج: هو مماراة الصاحب حتى يغضبه، والمنازعة والسِّباب والمِراء والخصومات
…
وغير ذلك مما ينبغي أن يَتنزه عنه الحاج.
والحج الذي لا رفث ولا فسوق فيه: هو الحج المبرور الذي يترتب عليه مغفرة الذنوب، لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
(1)
.
•
المَقصِد الثالث: تحصيل تقوى الله:
مِنْ أهم مقاصد الحج تحصيل تقوى الله، قال تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] فلما نهاهم الله في الحج عن إتيان القبيح قولًا وفعلًا، مِنْ الرفث والفسوق والجدال، حثهم على فعل الجميل بقوله، وأخبرهم بأنه عالم به، فقال:
(1)
أخرجه البخاري (1819).
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197].
وقوله: {وَتَزَوَّدُوا} في سفركم إلى الحج، من الطعام وما يَحتاج إليه المسافر.
ورَوَى البخاري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ. فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]
(1)
.
وكثرة زاد الرجل في سفره من مكارم الأخلاق، فربما واسى إخوانه من هذا الزاد. وإطعام الطعام من أعظم أفعال البر، كما قال تعالى:{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
وإذا كان الله أَمَرَنا بالتزود من الطعام والشراب للسفر في الدنيا، فقد أَرْشَدنا إلى التزود في سفر الآخرة بزاد التقوى؛ فزادُ التقوى خير زاد؛ لأنه الزاد الموصل إلى النعيم المقيم في الجنة يوم القيامة، وإلى رضوان الله.
فقد نبهت الآية إلى العناية بزاد الآخرة وهو التقوى؛ لأن مدار النجاة عليه، ولأنه السبيل لاكتساب الفضائل، ولأنه يَعصم صاحبه من الندم يوم القيامة، كما قيل:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
…
وَلَاقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ
…
فَتَرَصَّدْ لِلْأَمْرِ الذِي كَانَ أَرْصَدَا
وقد خَتَم الله الآية بالأمر بالتقوى، فقال:{وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] وخَصَّ أُولي الألباب بالخطاب؛ لأنهم المنتفعون بخطاب الله على الحقيقة.
وقد تَكرر ذكر التقوى في آيات الحج؛ لأنها المقصودة من الحج
(2)
وقد بَيَّن الله
(1)
ومدار هذا الحديث على عمرو بن دينار، عن عكرمة، واختُلف عليه في الوصل والإرسال:
فرواه ورقاء، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به، أخرجه البخاري (1523).
ورواه ابن عُيينة، عن عمرو، عن عكرمة مرسلًا. أخرجه سعيد بن منصور في «تفسيره» (347)، وابن أبي حاتم (1839) وقال: والمرسل أَصح.
(2)
وكذا عند قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] خَتَم الآية بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]. وكذا في رمي الجمرات، قال تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} وخَتَم الآية بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] وتقوى الله بامتثال أوامره واجتناب معاصيه.
تبارك وتعالى أنه لا يَرضى شيئًا من أفعال الحج إلا ما كان مصاحبًا للتقوى، فقال:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
فلن تقع هذه اللحوم ولا الدماء المهراقة بالنحر موضع القَبول، إلا إذا كان الباعث عليها هو تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيم أمره والتقرب إليه والإخلاص له.
قال السعدي: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا يَنال اللهَ من لحومها ولا دمائها شيء؛ لكَوْنه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب والنية الصالحة؛ ولهذا قال:{وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخرًا ولا رياء ولا سمعة، ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يَقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشر الذي لا لب فيه، والجسد الذي لا رُوح فيه.
•
المَقصِد الرابع: ذِكر الله تعالى والدعاء من أعظم مقاصد الحج:
ولذا فالذِّكر والدعاء ملازمان للحج قبل وأثناء وبعد أداء نسكه؛ ولذا لا يخلو نسك من أنساك الحج من الذِّكر والدعاء.
فالإحرام الذي فيه نية الدخول في النسك ذِكر بالقلب.
والتلبية بعد الإحرام ذِكر باللسان، ويُستحب لزوم التلبية ولا يَنقطع الحاج عنها إلا عند رمي جمرة العقبة.
ثم الطواف يَبدأ بالتكبير وهو ذِكر. وكلما حاذى الحَجَر الأسود كَبَّر.
ثم يَتوجه الحاج إلى مَقام إبراهيم، ويصلي ركعتين خلف المَقام، يَذكر فيهما ربه.
ثم يتجه الحاج إلى الصفا، فيصعد عليها ويَذكر الله ويدعوه، فعن جابر قال: فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]«أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» . فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ.
وفي يوم عرفة يُكْثِر من الذِّكر والتلبية والتكبير والدعاء. وفي حديث جابر الطويل: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ
…
وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا صلى الله عليه وسلم بعد الزوال
يدعو الله) حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ.
وفي مزدلفة يُستحَب له الوقوف عند المَشْعَر الحرام، ويَستقبل القبلة ويَذكر الله عز وجل ويدعوه، قال الله: عز وجل {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] أي: إذا دفعتم من عرفات بعد تمام وقوفكم فيها، ووصلتم إلى مزدلفة، فاذكروا الله عِنْدَ المَشْعَر الحرام- بالتلبية والتكبير، وصلاة العِشاءين والفجر، وذِكر الله ودعائه بعد الفجر.
وفي حديث جابرالطويل: «حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» .
ثم يَذهب إلى مِنًى ليَرمي جمرة العقبة بسَبْع حصيات، يُكَبِّر مع كل حصاة، وهذا ذِكر، ثم يقف طويلًا يدعو الله عند الجمرة الصغرى والوسطى.
وعند النحر يَذكر الله، قال تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] والمراد بالذِّكر هنا هو التسمية على الذبيحة.
وعَنْ عَائِشَةَ
…
وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ:«بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ» ثُمَّ ضَحَّى بِهِ. وهذا ذِكر ودعاء.
وفي أيام التشريق، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ عز وجل» .
وقد أَمَر الله تعالى بالإكثار من ذكره بعد قضاء المناسك، فقال:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] لأن أهل الجاهلية كانوا إذا فرغوا من حجهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأَمَر الله أهل الإسلام إذا قَضَوْا مناسكهم أن يُكْثِروا من ذكر الله أكثر من ذكر هؤلاء. فسبحانه له النعمة.
وفي ختام الآيات يُرشِد الله عباده إلى الدعاء بعد كثرة ذكره؛ لأنه أدعى للقَبول، وذَمَّ الله مَنْ يَقصر دعواته في الحج على طلب متاع الدنيا وملذاتها الفانية، ومَدَح مَنْ يسأله خيرَي الدنيا والآخرة، فقال تعالى:{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 200، 201].
فالذِّكر مُلازِم للحج، فبعد كل عمل من أعمال الحج اذكروا الله، فبعد الإحرام اذكروه
بالتلبية، وعند الطواف ورَمْي الجمار كَبِّروه، واذكروا اسم الله على الذبيحة يوم النحر، وبعد الفراغ من نسككم وفي سائر أوقاتكم
(1)
.
وكذا الدعاء، فالحج سفرة تعبدية معمورة بالذِّكر والدعاء، من أول ما يضع رجله في الغرز مسافرًا، ثم الدعاء يكون في كل مَنْسَك من مناسك الحج، في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة، وبعد رمي الجمرة الصغرى والوسطى، وعند ختام المناسك.
•
المَقصِد الخامس: تعظيم حرمات الله وشعائره:
في سياق الحديث عن الحج ومناسكه قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].
قال السعدي: وحرمات الله: كل ما له حرمة وأَمَر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحَرَم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أَمَر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها إجلالها بالقلب ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل ولا متثاقل
…
وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، كما قال تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ومنها الهدايا والقربان للبيت، وتَقَدَّمَ أن معنى تعظيمها: إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يَقدر عليه العبد.
وابن كَثير يَرَى أن تعظيم الحرمات يكون باجتناب المحرمات، وتعظيم الشعائر يكون بفعل الأوامر مع الإجلال والمحبة والقيام بها وتكميل العبودية على خير وجه.
ومِن تعظيم شعائر الله وحرماته: إكرام الوافدين من الحُجاج والعُمَّار، والتيسير عليهم، وتوفير سُبُل الراحة لهم، وإرشاد ضالهم، وإقالة عثراتهم، والتعاون معهم، والحذر من ظلمهم وإيقاعهم في الحرج والضيق باستغلالهم، وزيادة الأسعار عليهم دون سبب.
ومِن أعظم ما ينبغي تعظيمه من محارم الله وشعائره: المسجد الحرام، وهو موضع الهُدَى والبركة. {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] وهو البيت الذي دعا الله عباده إلى زيارته، وفَرَض عليهم ذلك مرة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
(1)
«التسهيل لتأويل التنزيل» (3/ 239) بتصرف، لفضيلة الشيخ مصطفى بن العدوي.
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فينبغي لكل مسلم تعظيم هذا البيت، والتأدب عند زيارته، واغتنام الأوقات فيه بالعبادة والصلاة والذِّكر وتلاوة القرآن، والحرص على نظافته وطهارته، والحذر من الإخلال بحرمته وانتهاك قدسيته، وإرادة السوء فيه.
والحاصل أن تعظيم حرمات الله يكون بما يلي:
أولًا- تعظيم الله تعالى الذي له الخَلْق والأمر، وهو المعبود المطاع وحده.
ثانيًا- تعظيم الأمر والنهي، وهو مقتضى الخضوع لحكمه تعالى، وتحكيم شرعه في جميع شئون الحياة
(1)
.
•
المَقصِد السادس: تحصيل المنافع:
إن شهود المنافع وتحصيلها من أهم مقاصد الحج، قال تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27، 28] وهذه المنافع دينية ودنيوية.
• ومن المنافع الدينية للحج:
1 -
مغفرة الذنوب وتكفير ما سَبَق من الخطايا والسيئات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
(2)
.
2 -
دخول الجنة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ»
(3)
.
3 -
حصول التقوى؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
•
ومن المنافع الدنيوية:
1 -
الإصابة من لحوم الهَدْي والذبائح؛ لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ
(1)
«مقاصد الحج» (ص: 58) د. عادل الشدي، وهي رسالة صغيرة الحجم، لكنها كبيرة النفع، أسأل الله أن يجازي مؤلفها خير الجزاء.
(2)
رواه البخاري (1521).
(3)
رواه البخاري (1773).
مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33].
2 -
المكاسب في التجارة؛ لعموم قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]
(1)
.
3 -
تحقيق التكافل الاجتماعي، والعطف على الفقراء المساكين؛ لعموم قوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وتحقيق التعارف بين أهل الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
قال الشنقيطي: وَمِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ تَيَسُّرُ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَقْطَارِ الدُّنْيَا، فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، فِي أَمَاكِنَ مُعَيَّنَةٍ؛ لِيَشْعُرُوا بِالْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِتُمْكِنَ اسْتِفَادَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فِيمَا يَهُمُّ الْجَمِيعَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَهُوَ تَشْرِيعٌ عَظِيمٌ مِنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.
4 -
تحقيق معاني الوحدة والأخوة الإسلامية، ففي الحج تختفي الفوارق بين الناس من الغِنى والفقر، والجنس واللون
…
وغير ذلك، وتتوحد وجهتهم نحو خالق واحد، وبلباس واحد، يؤدون نفس الأعمال في زمن واحد ومكان واحد. بالإضافة إلى ما يكون بين الحجيج من مظاهر التعاون على البِر والتقوى، والتواصي بالحق
(2)
.
•
المَقصِد السابع: إشاعة الأمن بين المسلمين:
فمِن مقاصد الحج إشاعة الأمن بين المسلمين، ولقد دعا إبراهيم ربه بأن يَسُود الأمن البلد الحرام، فقال:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] وقد استجاب الله دعاءه فلم يَصِل
(1)
روى البخاري (2050): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو المَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الإِسْلَامُ، فَكَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ، فَنَزَلَتْ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ.
قال ابن قُدامة: أَمَّا التِّجَارَةُ وَالصِّنَاعَةُ، فَلَا نَعْلَمُ فِي إِبَاحَتِهِمَا اخْتِلَافًا. «المغني» (5/ 174).
وقال الجَصَّاص: وَعَلَى هَذَا أَمْرُ النَّاسِ مِنْ عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فِي مَوَاسِمِ مِنًى وَمَكَّةَ، فِي أَيَّام الْحَجِّ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ، إِلَّا شَيْئًا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَهُ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ فقال: إِنِّى أُكْرِي إِبِلِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْحَجَّ، أَفَيُجْزِينِي؟ قَالَ: لَا وَلَا كَرَامَةَ. وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. «أحكام القرآن» (1/ 386).
(2)
«الموسوعة الفقهية الكويتية» (2/ 34).
إليها جبار إلا قَصَمه الله، كما فَعَل بأصحاب الفيل.
ووَصَف الله مكة بأنها البلد الأمين، فقال:{وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] وامْتَنَّ على أهل مكة بنعمة الأمن، فقال:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4] وإذا كان ذلك كذلك، فهل يليق بمسلم أن يُخيف الحُجاج، ويَنشر الرعب بين ضيوف الرحمن وفي بلد الله الحرام؟!
قال ابن كَثير في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]: يَعْنِي: حَرَمُ مَكَّةَ إِذَا دَخَلَهُ الْخَائِفُ يَأْمَنُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ
(1)
.
فإذا كان هذا فِعل أهل الجاهلية بالحَرَم، فكيف يكون فِعل أهل الإسلام؟! وإذا كان الأمن في مكة يَعُم الشجر والحيوان، فكيف بمن يُرَوِّع حُجاج بيت الله الحرام؟!
•
المَقصِد الثامن: إظهار الافتقار إلى الله سبحانه:
فالحاج يبتعد عن الترفه والتزين، ويَلبس ثياب الإحرام، مُتجرِّدًا عن الدنيا وزينتها، فيُظْهِر عجزه ومسكنته، ويكون في أثناء المناسك ضارعًا لربه عز وجل، مفتقرًا إليه، ذليلًا بين يديه، منقادًا بطواعية لأوامره، مجتنبًا لنواهيه سبحانه، سواء عَلِم حكمتها أم لم يَعلم.
•
المَقصِد التاسع: في الحج تذكير بالآخرة، ووقوف العباد بين يدي الله تعالى:
فالمشاعر تَجمع الناس من مختلف الأجناس في زي واحد، مكشوفي الرءوس، يُلَبُّون دعوة الخالق عز وجل، وهذا المشهد يُشْبِه وقوفهم بين يديه سبحانه يوم القيامة في صعيد واحد، حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا خائفين وجلين مشفقين! وذلك مما يَبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته والإخلاص له في العمل.
•
المَقصِد العاشر: أن أداء فريضة الحج فيه شُكْر لنعمة المال وسلامة البدن:
ففي الحج شُكْر هاتين النعمتين العظيمتين، حيث يُجْهِد الإنسان نفسه، ويُنْفِق ماله في التقرب إلى الله تبارك وتعالى
(2)
.
(1)
ومِن العَجَب أن أهل الجاهلية كان لهم نصيب من تعظيم البلد الحرام ومراعاة حرمته! فكان أحدهم يَلْقَى قاتل أبيه أو أخيه في البلد الحرام، فلا يَعْرِض له حتى يَخرج من البلد الحرام. وإِذا أصابتهم غارة أو اعتداء، لجئوا إِلى الحرم للاحتماء به. «صحيح الأثر» (ص: 58).
(2)
«الموسوعة الكويتية» (17/ 26، 27).
المبحث الثامن: هل يجب الحج على الفور أم على التراخي؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الحج واجب على الفور عند تحقق شروطه، ويأثم المرء بتأخيره. وهو أصح الروايتين عن أبي حنيفة، ومنقول عن مالك، وهو قول أحمد
(1)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة:
أما القرآن، فقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
وَجْه الدلالة: أن مَنْ استطاع الحج، فقد وَجَبَ عليه أن يبادر به على الفور إذا كان فرضه؛ إذ لا يَدري ماذا يَعْرِض له، فربما يموت أو يفتقر أو يَمرض.
وأما السُّنة، فما رَوَى مسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا» فهذا أَمْر، والأمر يكون على الفور؛ ولهذا غَضِب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحُديبية، حين أَمَرهم بالإحلال وتباطئوا.
وقد ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ - فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي أَمَر بتعجيل الحج، وهذا يقتضي أن الحج على الفور، وأن
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 119)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 3)، و «الإنصاف» (3/ 287).
(2)
ضعيف: ومداره على أبي إسرائيل، عن فُضَيْل بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، فرواه الثوري، به، عند أحمد (2867).
وَرَوَاهُ وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي إِسْرَائِيلَ، بِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ، أَوْ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ» أخرجه أحمد (1834) وأبو إسرائيل المُلائِيّ سيئ الحفظ.
وقد وردت متابعة عند الطبراني (738) من طريق عبد الكريم- وهو ابن مالك الجَزَري، عن سعيد، به.
رجال هذا السند ثقات غير فُرَات بن سلمان، فله ترجمة في «الميزان» (3/ 342)، ووثقه أحمد. وقال ابن عَدي: أرجو أنه لا بأس به.
وهذا السند وإن كان ظاهره الصحة، إلا أنه مُعَل؛ لأن هذا حديث أَبي إسرائيل؛ ولذا أَعْرَضَ عن ذكر سند الطبراني أصحاب السُّنن والمسانيد، وقد استَنكر الإمام أحمد هذا الحديث على أبي إسرائيل المُلائِيّ، فقد سأله عبد الله عنه في «العلل» (2539) فقال: خَالَفَ النَّاسَ فِي أَحَادِيثَ. وذَكَر هذا الحديث منها: «مَنْ أراد الحج، فليتعجل
…
».
الإنسان لا يَدري ما يَعرض له، فقد يَطرأ عليه العجز عن القيام بأوامر الله، ولو أَخَّر الحج عن السَّنة الأولى فقد يموت فيَفوت الفرض، وتفويت الفرض حرام
(1)
.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»
(2)
.
قال ابن تيمية: فَإِذَا كَانَ الْقَضَاءُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، فَأَنْ تَجِبَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ الْأَدَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى
(3)
.
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللهِ وَلَمْ يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]
(4)
.
(1)
«شرح العمدة» (1/ 208).
(2)
إسناده صحيح، ومدار هذا الحديث على يحيى بن أبي كَثير عن عكرمة. واختُلف عنه على وجهين:
الأول: رواه حَجَّاج بن الصَّوَّاف، عن يحيى بن أبي كَثير، عن عكرمة، عن الحَجَّاج بن عمرو، به. أخرجه أحمد (1833) وقد صَرَّح عكرمة بسماعه من الحَجَّاج.
وذهب الترمذي إلى صحة هذا الطريق بقوله: وَحَجَّاجٌ الصَّوَّافُ لَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ عَبدَ اللهِ بْنَ رَافِعٍ، وَحَجَّاجٌ ثِقَةٌ حَافِظٌ. وقَالَ ابْنُ المَدِينِيِّ: الحَجَّاجُ عَنْ يَحيَى أَثْبَتُ. «السُّنن الكبرى» (10/ 418)
الثاني: رواه مَعْمَر عند أبي داود (1854)، ومعاوية بن سَلَّام عند الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (617)، وسعيد بن يوسف عند الطبراني (3214) فجعلوا بين عكرمة والحَجاج عبدَ الله بن رافع، قال البخاري: رِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ أَصَحُّ.
والحاصل: أن عكرمة سَمِعه من الحَجَّاج مَرَّة، وسَمِعه من عبد الله بن رافع عن الحَجَّاج مَرَّة، فحَدَّث به على الوجهين، قال ابن حجر: فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ عِكْرِمَةُ سَمِعَهُ مِنَ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ، ثِقَةٌ. «فتح الباري» (4/ 7).
قلت: وهذا من المزيد في متصل الأسانيد؛ لأن عكرمة قد صَرَّح بسماعه من الحَجَّاج.
(3)
«شرح العمدة» (1/ 208).
(4)
منكر: أخرجه الترمذي (819)، وفي إسناده الحارث الأعور وهلال بن عبد الله، وضَعْفهما شديد. وقال البخاري: حديث هلال في الحج منكر. قال ابن عَدي: وغير محفوظ. «ذخيرة الحُفاظ» (4/ 2419).
وله شواهد:
1 -
حديث أبي أُمَامَةَ: ومداره على ليث عن ابن سابط، واختُلف عليه في الوصل والإرسال:
فرواه شَريك، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أُمَامَة، به. أخرجه الدارمي (1811).
ورواه الثوري وأبو الأحوص كلاهما، عن ليث، عن ابن سابط، مرسلًا. عند ابن أبي شيبة (15054).
وقد رَجَّح المرسل البيهقي وابن عبد الهادي في «نَصْب الراية» (4/ 412)، و «التلخيص» (2/ 223).
وعلى كل حال، فمداره على ليث بن أبي سُلَيْم، وهو ضعيف.
2 -
حديث أبي هريرة، أخرجه ابن عَدي (11088)، وفي إسناده يزيد بن سفيان، وهو متروك.
وفي الباب عن ابن مسعود، وهو حديث موضوع. ولا يصح في الباب حديث. والله أعلم.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ: يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا
(1)
.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ السَّبِيلَ، حِينَ سُئِلَ: مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
(2)
.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الحَجَّ أَحَدُ الأَرْكَانِ، فَكَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ. وَلِأَنَّ وُجُوبَهُ بِصِفَةِ التَّوَسُّعِ يُخْرِجُهُ عَنْ رُتْبَةِ الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَخَّرُ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ، وَلَا يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ فِعْلِهِ
(3)
.
القول الآخَر: أن الحج يجب على التراخي. وهو قول الشافعي
(4)
.
واستدلوا لهذا القول بالقرآن والسُّنة والمعقول:
أما القرآن، فاستدلوا بأن الحج فُرِض سَنة ست من الهجرة بقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] والنبي لم يحج إلا في السَّنة العاشرة، فدل ذلك على التراخي.
واعتُرض عليه بما قاله ابن القيم: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فَإِنَّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَيْسَ فِيهَا فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الِابْتِدَاءِ
(5)
.
وأما السُّنة، فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ
…
فَقَالَ: زَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: «صَدَقَ»
(6)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (15061) عن الحَكَم، عن عَدِيّ بن عَدِيّ، عن أبيه، به.
(2)
ضعيف جدًّا: أخرجه الترمذي (824). وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخُوزِي، وهو متروك.
(3)
«المغني» (5/ 37).
(4)
«المجموع» (7/ 103). وهوقول محمد بن الحسن، كما في «بدائع الصنائع» (2/ 119)
(5)
«زاد المعاد» (2/ 96)، و «الذخيرة» (3/ 181).
(6)
أخرجه مسلم (12).
وَجْه الدلالة: هذا الحديث صريح في وجوب الحج، والرجل هو ضِمَام بن ثَعْلَبَة، وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم كان سَنة خَمْس من الهجرة، وقد أَخَّر النبي صلى الله عليه وسلم الحج إلى سَنة عَشْر، فدل ذلك على أن الحج على التراخي.
ونوقش بأن قدوم ضِمَام كان سَنة تِسع؛ لأن آية وجوب الحج كانت في العام التاسع {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
ولِأَنَّ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَ عَامَ الْوُفُودِ، وَفِيهِ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ.
وأما المعقول، فما قاله النووي: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِأَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ وَفَعَلَهُ، يُسَمَّى مُؤَدِّيًا لِلْحَجِّ لَا قَاضِيًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
(1)
.
والراجح: أن الحج يجب على الفور؛ لأن آية وجوب الحج كانت في العام التاسع.
وقد أَخَّر النبي صلى الله عليه وسلم الحج إلى السَّنة العاشرة لأسباب ذَكَرها ابن قدامة، فقال: وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ سَنَةَ تِسْعٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، أَوْ كَرِهَ رُؤْيَةَ الْمُشْرِكِينَ عُرَاةً حَوْلَ الْبَيْتِ، فَأَخَّرَ الْحَجَّ حَتَّى بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ يُنَادِي: أَنْ «لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ» . وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَّرَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِتَكُونَ حَجَّتُهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ فِي السَّنَةِ الَّتِي اسْتَدَارَ فِيهَا الزَّمَانُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَيُصَادِفَ وَقْفَةَ الْجُمُعَةِ، وَيُكْمِلَ اللَّهُ دِينَهُ
(2)
.
* * *
(1)
«المجموع» (7/ 106).
(2)
«المغني» (5/ 37). وسُئِل ابن تيمية: عَنْ رَجُلٍ خَرَجَ حَاجًّا إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ، فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ إنْ كَانَ خَرَجَ إلَى الْحَجِّ حِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، مَاتَ غَيْرَ عَاصٍ. وَإِنْ فَرَّطَ بَعْدَ الْوُجُوبِ مَاتَ عَاصِيًا، وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَّفَ مَالًا، فَالنَّفَقَةُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. «مجموع الفتاوى» (26/ 21).
خلاصة الباب الأول: مقدمة في الحج
تعريف الحج شرعًا: هو قَصْد البيت الحرام والمشاعر المقدسة؛ تَعبُّدًا لله عز وجل لأداء المناسك، على وجه مخصوص، في زمن مخصوص.
حُكْم الحج، هو أحد مباني الإسلام الخمسة، وهو فَرْضُ عَيْن على المُكلَّف المستطيع، مَرَّة واحدة في العُمر.
حُكْم جاحد الحج، قد اتَّفَق المسلمون على أن مَنْ جَحَدَ وجوب الحج فإنه كافر.
مرات الحج الواجبة، يجب الحج مرة واحدة في العُمر، بالإجماع.
فَضْل الحج: الحاصل أن الحج له من الفضل ما ثبتت به الأدلة، من أنه أحد أركان الإسلام وأهم دعائمه العظام، وأنه من أفضل الأعمال الجسام، وأنه يَهدم ما كان قبله من الذنوب والآثام، وأن مَنْ حج فلم يَرفث ولم يَفسق فإنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأن النص قد شَهِد أنه من الجهاد، وأن المتابعة بين الحج والعمرة تَنفي الفقر والذنوب كما يَنفي الكِير خَبَث الحديد.
حُكْم تَكرار الحج للنساء، يُستحَب تَكرار الحج للنساء؛ لتضافر الأدلة على ذلك.
وأما ما ورد عن أبي واقد الليثي قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَزْوَاجِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصُرِ» أي: لا تَخرجن من بيوتكن لحَجة أخرى وتَلزمن الحُصُر، فظاهره يدل على منع نسائه بعد حجهن معه من الحج، فهو حديث منكر.
من مقاصد الحج: تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة لله، وتزكية النفس، وإقامة ذكر الله، وتحصيل تقوى الله
…
وغير ذلك من المقاصد.
الحج واجب على الفور عند تحقق شروطه، ويأثم المرء بتأخيره.
* * *
الباب الثاني: شروط الحج والنيابة فيه
وفيه تمهيد وفصلان:
الفصل الأول: شروط الحج.
الشرط الأول: الإسلام، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حُكْم حج الكافر.
المبحث الثاني: مَنْ حج الفريضة، ثم ارتد ثم تاب وأسلم، فهل يجب عليه الحج من
جديد؟
الشرط الثاني: العقل، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: لا يجب الحج على المجنون.
المبحث الثاني: هل يصح الحج من المجنون؟
الشرط الثالث: البلوغ، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حُكْم حج الصبي.
المبحث الثاني: حج الصبي قبل البلوغِ لا يجزئه عن حَجة الإسلام.
المبحث الثالث: ما يفعله الصبي من أعمال الحج بنفسه، وما يفعله عنه وليه.
الشرط الرابع: الحرية، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: لا يجب الحج على العبد.
المبحث الثاني: إذا حج العبد لم يجزئه عن حج الفريضة.
الشرط الخامس: الاستطاعة، وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
تمهيد: تعريف الاستطاعة.
المبحث الأول: اشتراط الاستطاعة في وجوب وإجزاء الحج، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الاستطاعة شرط في وجوب الحج.
المطلب الثاني: الاستطاعة ليست شرطًا في إجزاء الحج.
المبحث الثاني: أقسام الاستطاعة في الحج أربعة:
القسم الأول: أن يكون قادرًا ببدنه وماله، فهذا يَلزمه الحج بنفسه بالإجماع.
القسم الثاني: أن يكون عاجزًا بماله وبدنه، فهذا يَسقط عنه الحج بالإجماع.
القسم الثالث: أن يكون قادرًا ببدنه عاجزًا بماله، فلا يَلزمه الحج بلا خلاف، إلا أهل مكة.
القسم الرابع: أن يكون قادرًا بماله، عاجزًا ببدنه عجزًا لا يُرجَى زواله، فهل يجب عليه الحج بالإنابة؟ وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المريض الذي لا يستطيع الحج بنفسه.
المطلب الثاني: هل يجب الحج على مَنْ كان قادرًا بماله، عاجزًا ببدنه؟
المبحث الثالث- شروط الاستطاعة:
المطلب الأول: شروط الاستطاعة العامة للرجال والنساء:
الشرط الأول: الاستطاعة البدنية، وتشمل صحة البدن، والقدرة على السير والركوب.
الشرط الثاني: الاستطاعة المالية، وتشمل الزاد والراحلة، والنفقة فاضلًا عن دَينه ونفقته، وحاجاته الأصلية.
الشرط الثالث: الاستطاعة الأمنية، والمراد بها أمن الطريق.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: المراد بأمن الطريق، وهو متمثل الآن في (تصريح للحج).
المطلب الثاني: مَنْ قَدَّم للحج ولم يَحصل على تصريح للحج، فهل يتعلق الحج بذمته أم يَسقط؟
المطلب الثالث: شروط الاستطاعة الخاصة بالنساء:
الشرط الأول: المَحْرَم.
الشرط الثاني: عدم العِدَّة.
تمهيد
يجب الحج على كل مسلم، عاقل، بالغ، حُر، مُستطِيع، بالإجماع
(1)
.
فشروط الحج خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة.
قال ابن قُدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا يَجِبُ بِخَمْسِ شَرَائِطَ: الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافًا.
تنقسم شروط الحج إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: شروط وجوب وصحة (وهي الإسلام والعقل). (فشروط وجوب) فلا تجب على كافر ولا مجنون، (وصحة) فلا تصح منهما; لأنهما ليسا من أهل العبادات.
القسم الثاني: شروط للوجوب والإجزاء، وهو البلوغ والحرية، وليسا بشرط للصحة، فلو حَجَّ الصبي والعبد صح حجهما، ولم يُجزئهما عن حَجة الإسلام.
القسم الثالث: شرط للوجوب فقط، وهو الاستطاعة، فلو تَجَشَّمَ غيرُ المُستطِيع المَشَقة، وسار بغير زاد وراحلة فحَجَّ، كان حَجُّه صحيحًا مُجْزِئًا، كما لو تَكَلَّفَ القيام في الصلاة والصيام- مَنْ يَسقط عنه، أجزأه
(2)
.
(1)
قال ابن حزم: اتفقوا أَنْ الحُر المُسْلِم العاقل البالغ، الصحيح الجسم، الذي يجد زادًا وراحلة، فإن الحج عليه فَرْض. «مراتب الإجماع» (ص: 41).
وقد نَقَل الإجماع على ذلك: النووي في «المجموع» (7/ 19)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 7)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 84)، والقرطبي في «تفسيره» (4/ 150)، والشربيني في «مغني المحتاج» (1/ 462) وغيرهم كثير.
(2)
«المغني» (5/ 7).
الفصل الأول: شروط الحج
الشرط الأول: الإسلام،
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حُكْم حج الكافر:
لا يجب الحج على الكافر، ولا يصح منه، ولا يجزئ عنه إن وقع منه.
ودل على ذلك النص والإجماع:
أما النص، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54].
وَجْه الدلالة: أنه إذا كانت النفقات لا تُقْبَل منهم لكفرهم، مع أن نفعها مُتَعَدٍّ، فالعبادات الخاصة أَوْلَى ألا تُقْبَل منهم، والحج من العبادات الخاصة، فلا يُقْبَل من كافر.
وأما الإجماع، فلا خلاف أنه لا يصح حجُّ مَنْ ليس بمسلم
(1)
.
المبحث الثاني: " مَنْ حج الفريضة، ثم ارتد ثم تاب وأسلم، فهل يجب عليه الحج من جديد؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا تجب عليه حجة الإسلام مُجدَّدًا بعد التوبة عن الردة. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(2)
.
القول الآخَر: مَنْ حج الفريضة، ثم ارتد ثم تاب وأسلم، عليه أن يُعِيد الحج والعُمرة. وهو قول الحنفية والمالكية.
واحتجوا بقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
(1)
«بداية المجتهد» (2/ 83).
وقال النووي: فَالْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ لَا يُطَالَبُ بِالحَجِّ فِي الدُّنْيَا، بِلَا خِلَافٍ، فَإِذَا اسْتَطَاعَ فِي حَالِ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ، إِلَّا أَنْ يَسْتَطِيعَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ فِي الْكُفْرِ لَا أَثَرَ لَهَا. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. «المجموع» (7/ 19).
(2)
«المجموع» (7/ 9)، و «الإنصاف» (3/ 275)، و «كَشَّاف القناع» (2/ 378).
وَجْه الدلالة: أن الآية دلت على أن إحباط الردة للعمل، فيجب عليه حجة جديدة.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: بأن قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] هذا دليل مُطْلَق يدل على أن الردة تُحْبِط الأعمال، وهو مُقَيَّد بمن ارتد، فلم يَزَل مُرتدًّا حتى مات على الكفر؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] فلو ارتد ثم عاد للإسلام، فإن أعماله الصالحة السابقة للردة لا تَبطل.
الثاني: ما قاله ابن حزم: وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فِيهَا: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك الَّذِي عَمِلْت قَبْلَ أَنْ تُشْرِكَ) وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا تَجُوزُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بَعْدَ الشِّرْكِ إِذَا مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ، لَا إِذَا أَسْلَمَ
(1)
.
وقد أفتت اللجنة الدائمة بأن مَنْ كان مسلمًا فحج، ثم ارتد بارتكابه ما يُخرجه من ملة الإسلام، ثم تاب وعاد إلى الإسلام، أجزأته حجته تلك عن حجة الإسلام؛ لكونه أدى الحج وهو مسلم. وقد دل القرآن على أن عمل المرتد قبل ردته إنما يَحبط بموته على الكفر؛ لقوله عز وجل:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]
(2)
.
الشرط الثاني: العقل،
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: لا يجب الحج على المجنون:
فلا يجب الحج على المجنون، ولا تجزئ عن حجة الإسلام إن وقعت منه.
ودل على ذلك النصُّ والإجماع:
أما النص، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ الْقَلَمُ
…
وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».
وأما الإجماع، فقد أَجْمَع العلماء على أنه لا يجب الحج على المجنون
(3)
.
(1)
«المُحَلَّى» (5/ 322).
(2)
«فتاوى اللجنة الدائمة» (11/ 27).
(3)
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن المجنون إذا حُج به ثم صح، أن ذلك لا يُجْزِئه عن حَجة الإسلام. (ص: 73)، وكذا نَقَل الإجماع: النووي في «المجموع» (7/ 20)، والمَرْداوي في «الإنصاف» (8/ 12).
المبحث الثاني: هل يصح الحج من المجنون؟
اختَلف أهل العلم في صحة حج المجنون على قولين:
القول الأول: لا يصح الحج من المجنون، ولو أَحْرَم عنه وليه.
وهو قول للحنفية، وقول للمالكية، ووَجْه للشافعية، وهو مذهب الحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ الْقَلَمُ
…
وعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».
وَجْه الدلالة: أن المراد برفع القلم عدم تكليفهم، فدل ذلك على أن المجنون ليس من أهل التكليف، وعلى عدم صحة العبادة منه.
وأما المعقول، فاستدلوا بأن العقل مَناط التكليف، وبه تَحصل أهلية العبادة، والمجنون ليس أهلًا لذلك، فلا معنى لنُسُكه، أَشْبَهَ العجماوات. وإذا كانت الأعمال بالنيات، فالمجنون لا نية له ولا قَصْد، فكيف يصح حجه؟!
القول الآخَر: يصح الحج من المجنون بإحرام وليه عنه.
وهو قول أكثر الحنفية، والمالكية في المشهور، والشافعية، ورواية للحنابلة
(2)
.
واستدلوا لذلك بالقياس، فإذا كان يَجوز حج الصبي غير المُميِّز، مع أنه لا نية له، فكذا يَجوز حج المجنون.
واعتُرض عليه بأن الصبي لا يقاس على المجنون؛ لأن الصبي يؤمر بالصلاة والصوم للتمرين على الطاعات وتعويده العبادات، بخلاف المجنون. وإذا كان التكليف مرفوعًا عن المجنون والصبي، فقد استُثني الصبي بالنص، فقد رَفَعَتِ امرأة صبيًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ» وبقي المجنون على الأصل.
والراجح: أنه لا يصح حج المجنون؛ لأنه لا نية له، والأعمال بالنيات. والله أعلم.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 121)، و «مواهب الجليل» (3/ 426)، و «المبدع» (3/ 26).
(2)
«المُدوَّنة» (1/ 299)، و «المجموع» (7/ 20)، و «الإنصاف» (3/ 388).
الشرط الثالث: البلوغ،
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حُكْم حج الصبي:
البلوغ ليس شرطًا لصحة الحج، وقد أجمعوا على صحة حج الصبي المُميِّز
(1)
.
واختلفوا في حج الصبي غير المُميِّز على قولين:
القول الأول: يصح حجه. وهو مذهب المالكية في المشهور، والشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فما رواه مسلم: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ:«نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»
(3)
.
وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ
(4)
.
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ حَجُّ الصَّبِيِّ وَيَنْعَقِدُ، سَوَاءٌ كَانَ مُمَيِّزًا أَمْ لَا.
قال الطحاوي: الْحَدِيثُ إِنَّمَا فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ لِلصَّبِيِّ حَجًّا، وَهَذَا مِمَّا قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ جَمِيعًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ لِلصَّبِيِّ حَجًّا، كَمَا أَنَّ لَهُ صَلَاةً.
القول الآخَر: لا يصح حج الصبي غير المُميِّز. وبه قال أبو حنيفة، ومالك في رواية
(5)
.
واستدلوا بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل، وإذا كان القلم رُفِع عن الصبي فكيف يُقْبَل حجه؟!
(1)
الصبي المُميِّز: (هو الذي يَفهم الخطاب ويُحْسِن رد الجواب ومقاصد الكلام. ولا يُضْبَط بسن مخصوصة، بل يختلف باختلاف الأفهام. وقيل: هو الذي عَقَل الصلاة والصيام). «مواهب الجليل» (3/ 435)، و «المجموع» (7/ 29).
فقد نَقَل غير واحد الإجماع على صحة وقوع الحج من الصبي قبل البلوغ. فقَالَ الْقَاضِي: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ الْحَجِّ بِالصِّبْيَانِ. وَإِنَّمَا مَنَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِمْ، بَلْ هُوَ مَرْدُودٌ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. «شرح مسلم» (9/ 99)، وكذا نَقَله الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 257).
(2)
«المدونة» (1/ 298)، و «مغني المحتاج» (1/ 461)، و «المغني» (3/ 7. 2).
(3)
أخرجه مسلم (1336).
(4)
أخرجه البخاري (1858).
(5)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 458)، و «بداية المجتهد» (2/ 83).
ونوقش بأن المراد برفع القلم رَفْع الإثم، وليس إبطال ما يفعله من خير، فقد يُؤْجَر على الصدقة والحج. وبأنه إذا كان لا يُكْتَب عليه سيئات، فلا مانع أن يُكْتَب له حسنات.
واستدلوا بأن الصبي غير المُميِّز لا نية له، فكيف ينعقد إحرامه؟!
ونوقش بأن النية لا تَلزمه، بل تَسقط عنه لعدم الاستطاعة، ويَنوي عنه الولي، كالزكاة.
والراجح: أنه يصح حج الصبي المُميِّز وغير المُميِّز؛ لِما صح أن امرأة رَفَعَتْ صبيًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»
(1)
.
المبحث الثاني: حج الصبي قبل البلوغ لا يجزئه عن حَجة الإسلام:
أَجْمَع أهل العلم على سقوط فرض الحج عن الصبي حتى يَبلغ؛ فإِنْ حَجَّ الصبي قبل البلوغ لم يجزئه عن حجة الإسلام، وتجب عليه حجة أخرى إذا بَلَغ
(2)
.
وَفِي قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ القَلَمُ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ حَجَّ الصَّبِيِّ تَطَوُّعٌ، وَلَمْ يُؤَدِّ بِهِ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضًا مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْفَرْضُ
(3)
.
المبحث الثالث: ما يفعله الصبي بنفسه من أعمال الحج، وما يفعله عنه وليه:
ما يفعله الصبي من أعمال الحج على قسمين:
القسم الأول: ما يَقدر عليه الصبي بنفسه، كالوقوف بعرفة والمبيت بمُزدلِفة ومِنًى، فإنه يَلزمه فعله، ولا تَجوز فيه النيابة. ومعنى لزوم فعله أنه لا يصح أن يُفْعَل عنه لعدم الحاجة إليه، لا بمعنى أنه يأثم بتركه لأنه غير مكلف.
(1)
قال ابن عبد البر: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُحَجُّ بِالصِّبْيَانِ. وَهُوَ قَوْلٌ لَا يُشْتَغَلُ بِهِ وَلَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ بِأُغَيْلِمَةِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَحَجَّ السَّلَفُ بِصِبْيَانِهِمْ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّبِيِّ:«لَهُ حَجٌّ» وَلِلَّذِي يَحُجُّهُ أَجْرٌ، يَعْنِي بِمَعُونَتِهِ لَهُ وَقِيَامِهِ فِي ذَلِكَ بِهِ، فَسَقَطَ كُلُّ مَا خَالَفَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ. «التمهيد» (1/ 103).
(2)
نَقَل الإجماع على عدم إجزاء الحج إلا بالبلوغ: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 73)، والترمذي في «السُّنن» (2/ 233). وقال ابن عبد البر: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ حَجَّ صَغِيرًا قَبْلَ الْبُلُوغِ، أَوْ حُجَّ بِهِ طِفْلًا، ثُمَّ بَلَغَ، لَمْ يُجِزْهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. «الاستذكار» (4/ 398).
وقد حُكي في هذه المسألة خلاف شاذ عن فِرقة لم يَلتفت العلماء إلى قولها، قال القاضي عياض: وأجمعوا أنه لا يجزئه إذا بَلَغ من الفريضة، إلا فِرقة شذت، فقالت: إنه يجزئه. ولم يَلتفت العلماء إلى قولها. «إكمال المُعْلِم» (4/ 442)، ويُنظَر «الاستذكار» (4/ 399).
(3)
«التمهيد» (1/ 108).
القسم الثاني: ما لا يَقدر عليه، فإنه يفعله عنه وليه
(1)
.
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ طَافَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فِي خِرْقَةٍ
(2)
.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحُجُّ بِصِبْيَانِهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَرْمِيَ رَمَى، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ رَمَى عَنْهُ
(3)
.
الشرط الرابع: الحرية،
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الحج لا يجب على العبد:
أَجْمَع العلماء على أن الحرية شرط في وجوب الحج، فلا يجب على العبد
(4)
.
المبحث الثاني: إذا حَجَّ العبد، لم يجزئه عن حج الفريضة:
إذا حَجَّ العبد لم يجزئه عن حج الفريضة، ولزمه الحج إذا أُعْتِق
(5)
.
ودل على ذلك القرآن والسُّنة:
أما القرآن، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ مِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا بِالْإِذْنِ، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ، فالْمَمْلُوكُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ خَارِجٌ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ، بِدَلِيلِ عَدَمِ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ لِسَيِّدِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ
(6)
.
(1)
قال ابن قُدامة: إنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ، لَزِمَهُ فِعْلُهُ، وَلَا يَنُوبُ غَيْرُهُ عَنْهُ فِيهِ، كَالْوُقُوفِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَنَحْوِهِمَا، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ عَمِلَهُ الْوَلِيُّ عَنْهُ. «المغني» (5/ 52). وقال ابن المنذر: فأما الصبي الذي لا يَقدر على الرمي، فكل مَنْ حَفِظتُ عنه من أهل العلم يَرى الرمي عنه. «الإشراف» (3/ 329).
(2)
ضعيف لانقطاعه، وفيه نكارة؛ لأن ابن الزبير وُلِد في السَّنة الأولى من الهجرة، وحَجَّ أبو بكر في العام التاسع والعاشر. رواه عبد الرزاق (9239)، وابن أبي شيبة (14882).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (13843): حدثنا عبد الأعلى، عن عُبَيْد الله بن عمر، عن نافع، به.
(4)
وحَكَى الإجماع على ذلك: ابن قُدامة في «المغني» (5/ 7)، والنووي في «المجموع» (7/ 19)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 41)، والشربيني في «مغني المحتاج» (1/ 462) وغيرهم كثير.
(5)
قال ابن المنذر: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، إلَّا مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ خِلَافًا، عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا حَجَّ فِي حَالِ صِغَرِهِ، وَالْعَبْدَ إِذَا حَجَّ فِي حَالِ رِقِّهِ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَعَتَقَ الْعَبْدُ، أَنَّ عَلَيْهِمَا حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، إِذَا وَجَدَا إِلَيْهِمَا سَبِيلًا. «المغني» (5/ 44).
(6)
«التمهيد» (1/ 108).
وأما السُّنة، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ، فعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ عُتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى»
(1)
.
وَجْه الدلالة: أن الحج لا يجزئه، وأنه إذا أُعْتِقَ بعد ذلك لزمته حجة الإسلام.
وقد ذهب القاسم بن محمد ومجاهد والظاهرية إلى أن العبد إذا حج ثم أُعْتِقَ، تُجْزئ
(1)
ضعيف، أُعِلَّ بالوقف، ورُوي عن ابن عباس من طريقين:
الأول: طريق أبي ظَبْيَان:
ومدار هذا الطريق على شُعبة، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيَان، عن ابن عباس.
واختُلف عن شُعبة في الرفع والوقف: فرواه محمد بن المِنهال عن يزيد بن زُرَيْع- عن شُعبة، به- مرفوعًا. أخرجه ابن خُزيمة (3050)، والطبراني في «الأوسط» (2731) واللفظ له.
ورواه الحارث بن سُريج عن يزيد، به. أخرجه ابن عَدي (4086) وقال: وهذا الحديث معروف ب (محمد بن المنهال، عن يزيد بن زُرَيْع) وأظن أن الحارث بن سُرَيْج هذا سرقه منه، وهذا الحديث لا أعلم يرويه عن يزيد بن زُرَيْع غيرهما. ورواه ابن أبي عَدي وجماعة معه عن شُعبة موقوفًا.
ورواه ابن أبي عَدي عند ابن خُزيمة (3050)، وعبد الوهاب عند البيهقي (8688) عن شُعبة موقوفًا.
وأخطأ الحاكم حين أخرجه (1792) من طريق أبي الوليد، ومحمد بن كَثير، قالا: ثنا شُعبة، به مرفوعًا وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ولذا تَعَقَّبه البيهقي بقوله: تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ مُحَمَّدُ بْنُ المِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ شُعْبَةَ مَوْقُوفًا. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الصَّوَابُ. «السُّنن» (10/ 274).
وصَحَّح ابن خُزيمة الموقوف، إذ قال: هَذَا، عِلْمِي، هُوَ الصَّحِيحُ بِلَا شَكٍّ. (3/ 490)
وقال الخطيب: لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَّا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ غَرِيبٌ. «تاريخ بغداد» (9/ 101).
الطريق الثاني: طريق أبي السَّفَر: فرواه مالك بن مِغْوَل، عن أبي السَّفَر قال: قال ابن عباس، به موقوفًا بلفظ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ، وَافْهَمُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ
…
» فذَكَره، أخرجه الشافعي (940).
ولكن يُشْكِل عليه ما رواه ابن أبي شيبة (15105) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظَبيان، عن ابن عباس قال: «احفظوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس، أيما عبدٍ حَجَّ
…
» به.
قال ابن المُلَقِّن: وهذا ظاهر في رفعه، بل قطعي. وكذا قال في «البدر المنير» (6/ 18).
وهذا اللفظ وهم، والصواب قوله:«أَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ، وَافْهَمُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ» فقَصَد ابن عباس أن يُفْهَم كلامه، ولا يزاد فيه ما ليس منه.
ومما يؤكد صحة الرواية الموقوفة: ما قاله البخاري: وقال أَبو ظَبيان وأبو السَّفَر، عن ابن عباس: «أَيُّما صَبِيٍّ حَجَّ
…
» وهذا المعروف عن ابن عباس. «التاريخ الكبير» (1/ 198).
وفي الباب: مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «الْمَرَاسِيلِ» (134) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُرْسَلًا، وَفِيهِ رَاوٍ مُبْهَمٌ.
وله شاهد عن جابر، أخرجه ابن عَدِيّ (5894) وفي إسناده حَرَام بن عثمان، قال الشافعي: الرِّوَايَةُ عَنْ حَرَامِ حَرَامٌ.
عن حَجة الإسلام
(1)
.
واستدلوا بأن العبد إذا حج بإذن سيده ونواه عن الفريضة، فإنه يجزئه؛ لأننا نقول: لا يجب عليه الحج لأنه كالفقير، والفقير لو حج حال فقره وتَكلَّف المشقة، يَسقط عنه الفرض. فكذلك العبد إذا حج بإذن سيده، فإنه يَسقط عنه الفرض.
الشرط الخامس: الاستطاعة:
وفيه تمهيد، وثلاثة مباحث:
تمهيد: تعريف الاستطاعة:
لغة: هي الطاقة والقُدرة على الشيء.
والمستطيع هو القادر في ماله وبدنه، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، وضابطه: أن يَحصل على التأشيرة والتذكرة، بعد قضاء الواجبات والنفقات والحاجات الأصلية
(2)
.
المبحث الأول: اشتراط الاستطاعة في وجوب وإجزاء الحج، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الاستطاعة شَرْط في وجوب الحج:
لا خلاف في اشتراط الاستطاعة في وجوب الحج
(3)
.
المطلب الثاني: الاستطاعة ليست شرطًا في إجزاء الحج:
فَلَوْ تَجَشَّمَ غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ الْمَشَقَّةَ، وَسَارَ بِغَيْرِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ فَحَجَّ، كَانَ حَجُّهُ صَحِيحًا مُجْزِئًا، كَمَا لَوْ تَكَلَّفَ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ المَذَاهَبِ الأَرْبَعَةِ
(4)
.
قال ابن مفلح: الاسْتِطَاعَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي إِجْزَاءِ الحَجِّ؛ لأِنَّ خَلْقًا مِنَ الصَّحَابَةِ حَجُّوا، وَلَا شَيْءَ لَهُمْ، وَلَمْ يُؤْمَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْإِعَادَةِ. وَلِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ إِنَّمَا شُرِطَتْ
(1)
«المُحَلَّى» (5/ 14).
(2)
«المصباح المنير» (2/ 380)، و «فتح القدير» (2/ 417)، و «القوانين الفقهية» (ص: 86).
(3)
نَقَل الإجماع: ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 41)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 7)، والقرطبي في «تفسيره» (4/ 150)، والنووي في «المجموع» (7/ 19) وغيرهم كثير.
(4)
«البحر الرائق» (2/ 335)، و «مواهب الجليل» (3/ 447)، و «المجموع» (7/ 20).
لِلْوُصُولِ، فَإِذَا وَصَلَ وَفَعَلَ أَجْزَأَهُ، كَالْمَرِيضِ
(1)
.
المبحث الثاني: أقسام الاستطاعة:
أقسام الاستطاعة في الحج أربعة:
القسم الأول: أن يكون قادرًا ببدنه وماله، فهذا يَلزمه الحج بنفسه بالإجماع
(2)
.
القسم الثاني: أن يكون عاجزًا بماله وبدنه، فهذا يَسقط عنه الحج بالإجماع
(3)
.
القسم الثالث: أن يكون قادرًا ببدنه عاجزًا بماله، فلا يَلزمه الحج بلا خلاف
(4)
.
القسم الرابع: أن يكون قادرًا بماله، عاجزًا ببدنه عجزًا لا يُرجَى زواله، فهل يجب عليه الحج بالإنابة؟ وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المريض الذي لا يستطيع الحج بنفسه.
مَنْ لا يَثبت على الراحلة غير مستطيع، فلا يجب عليه الحج؛ لعموم قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ:«نَعَمْ»
(5)
.
وقد نُقِل الإجماع بعدم وجوب الحج على مَنْ لم يستطع أن يَثبت على الراحلة
(6)
.
والحاصل أن المريض لا يخلو من حالين:
الأول: أن مِنْ المرضى مَنْ يستطيع الحج فيجب عليه، ولا سيما في وقتنا الحاضر، مع التقدم العلمي وتطور وسائل المواصلات، فقد يحج رَجُل على كرسي.
(1)
«المبدع في شرح المقنع» (3/ 87)، وانظر «المغني» (5/ 7).
(2)
وقد نَقَل الإجماع على ذلك: النووي في «المجموع» (7/ 19)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 7)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 41).
(3)
«مجموع الفتاوى» (8/ 439). قال ابن العربي: إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَغْصُوبًا، لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ إِلَى الْحَجِّ بِإِجْمَاعٍ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ إِجْمَاعًا. «أحكام القرآن» (ص: 389).
(4)
قال ابن قُدامة: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالًا يَسْتَنِيبُ بِهِ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. «المغني» (5/ 21).
(5)
رواه البخاري (1513)، ومسلم (1334).
(6)
«تفسير القرطبي» (4/ 150).
الثاني: أن مِنْ المرضى مَنْ لا يستطيع أن يقوم مِنْ على سريره، فمِثل هذا لا يجب عليه الحج؛ لأن الحج إنما فَرَضه الله على المستطيع إجماعًا.
المطلب الثاني: هل يجب الحج على مَنْ كان قادرًا بماله، عاجزًا ببدنه؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يجب على مَنْ أَعْجَزه كِبَر أو مرض لا يُرجَى برؤه- أن يقيم مَنْ يحج عنه إن كان له مال. وهو المشهور عن الحنفية، ومذهب الشافعية، والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
وَجْه الدلالة: فمَن استطاع الحج ببدنه وماله، فقد وجب الحج في حقه. فإن كان عاجزًا عن الحج ببدنه، مستطيعًا بماله، فإنه يَلزمه أن يقيم غيره مُقامه
(2)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ:«نَعَمْ»
(3)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ المرأة على وصف الحج على أبيها بأنه فريضة، مع عجزه عنه ببدنه، ولو لم يجب عليه لم يُقِرها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يمكن أن يُقِر على خطأ، فدل على أن العاجز ببدنه القادر بماله يجب عليه أن ينيب.
القول الآخَر: أن مَنْ كان قادرًا بماله عاجزًا ببدنه، فإنه لا يجب عليه الحج، ولا يجب عليه إرسال مَنْ ينوب عنه. وهو قول للحنفية، ومذهب المالكية
(4)
.
واستدلوا بأن مَنْ كان عاجزًا ببدنه فهو غير مستطيع بنفسه، فلا يجب عليه.
ونوقش بأنه إن كان عاجزًا عن الحج ببدنه، لزمه أن يقيم غيره بماله مُقامه.
والراجح: أن مَنْ كان قادرًا على الحج بماله عاجزًا ببدنه، فإنه يجب عليه الحج،
(1)
«المبسوط» (4/ 275)، و «المجموع» (7/ 94)، و «المغني» (5/ 22).
(2)
«المُحَلَّى» (7/ 56).
(3)
رواه البخاري (1513)، ومسلم (1334).
(4)
«بداية المجتهد» (2/ 85)، و «أحكام القرآن» (1/ 378).
بإرسال مَنْ ينوب عنه؛ نظرًا إلى أنه مستطيع بغيره، فيَدخل في قوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . ولذا يقال: (الخليفة مستطيع لِفتح بلد كذا) وإن كان مريضًا؛ لأنه مستطيع لذلك بأمره وطاعة الناس له. ويقال في العُرْف: (فلان مستطيع لبناء دار) وإن كان لا يفعله بنفسه، وإنما يفعله بماله أو بأعوانه. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ المرأة على وصف الحج على أبيها بأنه فريضة، مع عجزه عنه ببدنه، فدل ذلك على أن مَنْ كان قادرًا بماله دون بدنه، فإنه يجب عليه أن يقيم مَنْ يحج عنه.
المبحث الثالث: شروط الاستطاعة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: شروط الاستطاعة العامة للرجال والنساء.
الشرط الأول: الاستطاعة البدنية، وتشمل صحة البدن والقدرة على السير والركوب.
الشرط الثاني: الاستطاعة المالية، وتشمل الزاد والراحلة، والنفقة فاضلًا عن دَينه ونفقته وحاجاته الأصلية.
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: اشتراط الزاد والراحلة (التأشيرة والتذكرة والنفقة):
قال ابن تيمية: إِذَا اسْتَطَاعَ الْحَجَّ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِالْإِجْمَاعِ
(1)
.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ:«الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
(2)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ! فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
وَجْه الدلالة: و (تزودوا) يا مَعْشَر الحجيج من الطعام والشراب والزاد، ما تَبلغون به حجكم، وتَرجعون به إلى دياركم، (واتقوا) أي: اجتَنِبوا أذى الناس بسؤالكم إياهم
(3)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» (26/ 21). وقد نَقَل الإجماع الجَصَّاص في «أحكام القرآن» (2/ 35).
وقال ابن الهُمَام: الْقُدْرَةَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ شَرْطُ الْوُجُوبِ، لَا نَعْلَمُ خِلَافَهُ. «فتح القدير» (2/ 419).
(2)
ضعيف جدًّا: أخرجه ابن ماجه (2896)، وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخُوزِيّ، وهو متروك.
(3)
«التسهيل لتأويل التنزيل» (3/ 226) للشيخ مصطفى بن العدوي، حَفِظه الله.
فالحاصل: يُشترط في وجوب الحج الاستطاعة المالية، وتشمل أربعة أمور:
الأول: أن يَملك من المال ما يصل به إلى مكة، من تأشيرة وتذكرة ذَهابًا وإيابًا.
الثاني: أن يكون معه من النقود في سفره ما يكفي حوائجه الأصلية، مَطْعمًا وملبسًا وغيرهما، مما لا بد منه على ما يليق بحاله، من غير إسراف ولا تقتير.
الثالث: أن يَترك نفقة عياله ومَن تَلزمه نفقتهم من مطعم وملبس ومسكن، وكل ما يليق بهم عادة، من غير إسراف ولا تقتير، مدة ذَهابه وإيابه.
الرابع: أن يَقضي دَيْنه قبل سفره؛ لأن الدَّيْن من حقوق العباد، وهو من حوائجه الأصلية، فهو آكد، وسواء كان الدَّين لآدمي أو لِحَقّ الله تعالى كزكاة في ذمته
(2)
.
المسألة الثانية: مَنْ وجب عليه الحج، وأراد أن يتزوج، وليس عنده من المال إلا ما يَكفي لأحدهما. فهذا لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: مَنْ اشتدت حاجته إلى الزواج، مثل أن يكون شابًّا شديد الشهوة، ويَخشى على نفسه من الوقوع في الزنا. فهذا يكون الزواج في حقه مُقَدَّمًا على الحج. نُقِل الاتفاق على ذلك
(3)
.
ودل على ذلك الكتاب والسُّنة والمعقول:
أما الكتاب، فقوله سبحانه:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فمَن اشتدت حاجته إلى الزواج ويشق عليه تركه، وليس عنده من النفقة إلا ما يكفي للزواج أو الحج- ليس مستطيعًا إلى البيت سبيلًا؛ لأن الزواج يكون بمنزلة الطعام الذي من حوائجه الأصلية، فيُقَدَّم على الحج. وهذا من تيسير الله عز وجل على عباده، أنه لا يكلفهم من العبادة ما يَشُق عليهم، حتى وإن كان من أركان الإسلام كالحج.
(2)
«العناية» (2/ 417، 418)، و «مغني المحتاج» (1/ 464)، و «الشرح الممتع» (7/ 25).
(3)
نُقِل الإجماع في «مَجْمَع الأنهر» (1/ 383)، و «حاشية ابن عابدين» (2/ 462) لكن نوزع في ادعاء الإجماع، كما في «الإنصاف» (3/ 286).
وأما السُّنة، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ» فمَن اشتدت حاجته إلى الزواج إذا كان لا يستطيع نفقة الزواج والحج جميعًا، فإنه يَبدأ بالزواج حتى يُعِفّ نفسه.
وأما المعقول، فإن في تركه النكاح تَرْك أمرين: تَرْك الفرض وهو النكاح الواجب، والوقوع في المُحَرَّم وهو الزنا
(1)
.
الحال الثانية: أن يكون في حال اعتدال الشهوة، فإنه يُقَدِّم الحج على الزواج؛ لأن الزواج في حقه سُنة، والحج واجب على الفور، فيُقَدَّم على المسنون؛ لأنه لا تَعارُض بين واجب ومسنون. وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة
(2)
.
فالحاصل: أن مَنْ اشتدت حاجته إلى الزواج، وليس عنده من المال إلا ما يكفي لأحدهما، وجبت عليه المبادرة بالزواج قبل الحج؛ لأنه في هذه الحال لا يُسَمَّى مُستطيعًا.
أما إذا كان معتدل الشهوة ولا يَشُق عليه الصبر، فإنه يُقَدِّم الحج على الزواج؛ لأن الحج واجب على الفور، فيُقَدَّم على المسنون؛ لأن الزواج في حقه سُنة.
أما إذا كان حج تطوع، فإنه يُقَدِّم النكاح؛ لأن الزواج أفضل من نوافل العبادات
(3)
.
المسألة الثالثة: مَنْ كان عنده من المال ما يكفي لحجه، فهل يُعْذَر بترك الحج لِعَجْزه عن شراء الهدايا؟
لَيْسَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْمُحْدَثَةُ بِرَسْمِ الْهَدِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ، فَلَا يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْحَجِّ لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلَافٌ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إِثْمِ مَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّقَالِيدِ الْفَاسِدَةِ
(4)
.
الشرط الثالث: اشتراط أمن الطريق لتحقيق الاستطاعة:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: المراد بأمن الطريق، وهو متمثل الآن في (تصريح للحج):
المقصود بأمن الطريق: أن يكون الغالب في طريقه السلامة، آمنًا على نفسه وماله، من
(1)
«مَجْمَع الأنهر» (1/ 260).
(2)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 462)، و «مواهب الجليل» (3/ 465)، و «المغني» (3/ 217).
(3)
قال ابن تيمية: إن احتاج الإنسان إلى النكاح وخَشِي العنت بتركه، قَدَّمه على الحج الواجب. وإن لم يَخَفْ قَدَّم الحج. «الاختيارات الفقهية» (ص: 528).
(4)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 461)، و «الموسوعة الفقهية الكويتية» (17/ 33).
وقت خروج الناس للحج، إلى رجوعه إلى بلده؛ لأن الاستطاعة لا تَثبت دونه
(1)
.
المطلب الثاني: مَنْ قَدَّم للحج ولم يَحصل على تصريح، فهل يتعلق بذمته أم يَسقط؟
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أن تخلية الطريق شرط من شروط وجوب الحج، فمَن استَوفى شروط الحج وخاف الطريق، فإنه لا يجب عليه الحج، ولا يتعلق بذمته. وهذا مذهب المالكية والشافعية، وهو رواية عن أبي حنيفة وأحمد
(2)
.
واستدلوا بأن مَنْ لم يَحصل على تصريح بالحج، فلم يَخْلُ له الطريق، فهو غير مستطيع، والاستطاعة من شرائط الوجوب.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْبَيْتِ بِدُونِ خُلُوِّ الطَّرِيقِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِطَاعَةِ
(3)
.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ فِعْلِهِ قَبْلَ الْفَتْحِ، مَعَ قُدْرَةِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. فَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ، لَوَجَبَ أَنْ يُحَجَّ عَمَّنْ مَاتَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ مِنْهُمْ، وَلَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وُجُوبَ ذَلِكَ فِي تَرِكَاتِهِمْ
(4)
.
القول الآخَر: أن مَنْ استَوفى شروط الحج وخاف الطريق، فإن الحج يتعلق بذمته ويَسقط عنه الأداء. وهذا مذهب الحنفية في الأصح، والحنابلة
(5)
.
واستدلوا بأن مَنْ استطاع الحج فإنه يجب عليه، فإن كان الطريق مَخُوفًا فإن ذلك
(1)
أَمْنُ الطَّرِيقِ يَشْمَل الأْمْنَ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ؛ لأِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ دُونَهُ. «الموسوعة الفقهية الكويتية» (17/ 34).
(2)
«الذخيرة» (3/ 176)، و «الحاوي» (4/ 13)، و «المبسوط» (4/ 163)، و «المغني» (5/ 7).
(3)
«تبيين الحقائق وحاشية الشلبي» (2/ 4).
(4)
«شرح العمدة» (1/ 168).
(5)
«المبسوط» (4/ 163)، و «فتح القدير» (2/ 418)، و «المغني» (5/ 7)، و «الفروع» (5/ 240).
يُسْقِط عنه الأداء حالًا، مع تعلق وجوب الحج في ذمته لاستيفائه شروط وجوبه.
ودل على ذلك ما رواه ابن عُمَر قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يُوجِبُ الحَجَّ؟ قَالَ:«الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»
(1)
.
وَجْه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَذكر من الاستطاعة إلا الزاد والراحلة، ولم يَذكر تخلية الطريق، فهذا شَرْطٌ زائد، ولا يَجوز الزيادة في شروط العبادة بالرأي.
والراجح: أنه لا بد من التفريق بين أمرين:
الأول: أن على الحاج عند الاستطاعة طلب التأشيرة في كل عام، فحصول التأشيرة والتصريح للحج في هذه الحالة- شَرْطُ وجوب وليس شرط لزوم أداء؛ لعموم قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وتحصيل التصريح والتأشيرة ليسا في مقدور مَنْ مُنِع منهما، فإذا مات فيُستحَب لورثته أن يَحجوا عنه من ماله.
الأمر الثاني: أن مَنْ حَصَلَتْ له الاستطاعة وطَلَب تأشيرة للحج مرة، وقَصَّر أخرى فمات، فيجب على ورثته أن يَحجوا عنه من ماله. والله أعلم.
المطلب الثاني: شروط الاستطاعة الخاصة بالنساء،
وفيه شرطان:
الشرط الأول: المَحْرَم. الشرط الثاني: عدم العِدة.
الشرط الأول: اشتراط المَحْرَم. وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: مَنْ المَحْرَم؟
الْمَحْرَمُ الْمَشْرُوطُ فِي اسْتِطَاعَةِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ: هُوَ زَوْجُهَا أَوْ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالتَّأْبِيدِ التَّزَوُّجُ مِنْهَا، سَوَاءٌ كَانَ التَّحْرِيمُ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الرَّضَاعَةِ أَوِ الْمُصَاهَرَةِ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلًا ثِقَةً مَأْمُونًا؛ فَإِنَّ المَقْصُودَ مِنَ المَحْرَمِ حِمَايَةُ المَرْأَةِ وَصِيَانَتُهَا وَالقِيَامُ بِشَأْنِهَا
(2)
.
المسألة الثانية: اشتراط المَحْرَم للمرأة في حج النافلة:
قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ إِلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ، إِلَّا كَافِرَةً أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَسِيرَةً تَخَلَّصَتْ. وَزَادَ غَيْرُهُ: أَوِ امْرَأَةً انْقَطَعَتْ
(1)
ضعيف جدًّا: أخرجه الترمذي (824) وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخُوزِيّ، وهو متروك.
(2)
«فتح الباري» (4/ 77)، و «المغني» (9/ 493)، و «الموسوعة الفقهية الكويتية» (17/ 37).
مِنَ الرُّفْقَةِ، فَوَجَدَهَا رَجُلٌ مَأْمُونٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْحَبَهَا حَتَّى يُبَلِّغَهَا الرُّفْقَةَ
(1)
.
المسألة الثالثة: اشتراط المَحْرَم في سفر المرأة للحج الواجب:
اختَلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يَجوز للمرأة أن تسافر لحج الفريضة بغير مَحْرَم. وهو مذهب الحنفية، وقول عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة
(2)
.
واستدلوا لهذا القول بالكتاب والسُّنة والمعقول:
أما الكتاب، فاستدلوا بقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
وَجْه الدلالة: أن المرأة التي لا مَحْرَم لها لا يجب عليها الحج؛ لأن المَحْرَم بالنسبة لها من السبيل، واستطاعة السبيل شَرْط في وجوب الحج، ولا يَجوز لها أن تسافر للحج أو غيره إلا ومعها زَوْج أو مَحْرَم لها.
وأما السُّنة، ففي «الصحيحين»: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا»
(3)
.
قال ابن تيمية: فَهَذِهِ نُصُوصٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَحْرِيمِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَمْ يُخَصِّصْ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ، مَعَ أَنَّ سَفَرَ الْحَجِّ مِنْ أَشْهَرِهَا وَأَكْثَرِهَا
(4)
.
وفي «الصحيحين» : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلَا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً. قَالَ:«اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»
(5)
.
وفي رواية: «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ»
(6)
.
(1)
«فتح الباري» (4/ 76).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 123)، و «البيان» (4/ 35)، و «مسائل ابن هانئ» (1/ 139).
(3)
أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1359) واللفظ له.
(4)
«شرح العمدة» (1/ 174).
(5)
أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341).
(6)
شاذ بهذا اللفظ، ومدار هذا الحديث على عمرو بن دينار، عن أبي مَعْبَد، عن ابن عباس، واختُلف عليه:
فرواه أبو عاصم عند البزار في «مُسْنَده» كما في «نَصْب الراية» (3/ 10) وحَجاج بن أرطأة عند الدارقطني (2440) كلاهما عن ابن جُرَيْج، عن عمرو، به، بلفظ:«لَا تَحُجَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» .
وخالفهما الثقات الأثبات عن ابن جُريج، ولم يَذكروا هذه اللفظة في حديثهم، وهم: ابن عُيينة عند البخاري (3061)، وهشام بن سليمان، عند مسلم (1341)، والقطان ورَوْح بن عُبَادة، كلاهما عند أحمد (3231، 3232)، والحسين بن سعيد، عند أبي نُعَيْم في «المستخرج» (3125)، وشُعَيْب بن إسحاق، عند ابن ماجه (2900). فهؤلاء ستة من الرواة لم يَذكروا الزيادة، فالثابت عن ابن جُريج ما رواه الجماعة عنه، ليس فيه:«لَا تَحُجَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» .
وقد رواه الثقات عن عمرو بن دينار، بدون هذه اللفظة، وهم: ابن عُيينة، عند البخاري (3006) ومسلم (1341)، وحماد بن زيد، عند البخاري (1862) ومسلم (1341)، ورَوْح بن القاسم ومحمد بن مسلم، كلاهما عند الطبراني في «الكبير» (11/ 424، 425).
فالمحفوظ الثابت من حديث ابن عباس هو لفظ «الصحيحين» .
قول الرجل: «اكْتُتِبْتُ» يدل على أنه قد وجب عليه الجهاد، ولا يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بترك الجهاد الواجب إلا بفعل واجب أعظم منه، وهو السفر مع امرأته ليحج معها؛ لأنه لا يَجوز لها السفر بغير مَحْرَم.
وأما المعقول، فالْمَرْأَةَ مُعَرَّضَةٌ فِي السَّفَرِ لِلصُّعُودِ وَالنُّزُولِ، وَتَحْتَاجُ إِلَى قَيِّمٍ يَقُومُ عَلَيْهِا، وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ لَا يُؤْمَنُ وَلَوْ كَانَ أَتْقَى النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ سَرِيعَةُ التَّقَلُّبِ، وَالشَّيْطَانَ بِالْمِرْصَادِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَا خَلَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا»
(1)
.
القول الثاني: جواز سفر المرأة في حج الفريضة بغير مَحْرَم، إذا وَجَدَتْ رُفقة مأمونة. وهو مذهب المالكية، والشافعي في الصحيح عنه، ورواية عن أحمد
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمأثور والمعقول:
أما الكتاب، فاستدلوا بقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
وَجْه الدلالة ما قاله الشافعي: وَإِذَا كَانَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبِيلَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجِدُهُمَا، وَكَانَتْ مَعَ ثِقَةٍ مِنَ النِّسَاءِ فِي طَرِيقٍ مَأْهُولَةٍ آمِنَةٍ، فَهِيَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ
(3)
.
ونوقش بأن الحديث الذي يُحَدِّد الاستطاعة بالزاد والراحلة- ضعيف. ولو صح
(1)
«شرح العمدة» (1/ 174 - 177).
(2)
«موطأ مالك» (1/ 569)، و «الإيضاح» (ص: 97)، و «المغني» (5/ 31).
(3)
«الأم» (3/ 291).
فهناك شروط أخرى، كأمن الطريق وقضاء الدَّين، وهي مُجْمَع عليها وليست في الحديث.
وأما السُّنة، فما رواه البخاري: عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَشَكَا إِلَيْهِ الفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ، فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ:«يَا عَدِيُّ، هَلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ؟» قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا. قَالَ:«فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ، لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللهَ»
(1)
.
وَجْه الدلالة: أن خروج الظعينة- أي: المرأة في الهودج- مع امتداد الإسلام وانتشار الأمن، من عدم تعرض الفساق لها أثناء سفرها، فخروج المرأة في السفر على هذا الوجه جائز، ولو كان حرامًا لبَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لأنه لا يَجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
ونوقش بأن الحديث جاء لبيان الواقع مع انتشار الأمن، لا لبيان حِل خروج المرأة دون مَحْرَم، وقد أَخْبَر النبي صلى الله عليه وسلم عن كَذابِين ودَجالِين يَخرجون، ولا قائل بجوازه.
وأجيب بأن حديث عَدي جاء على صفة المدح، فهذا يدل على الجواز، بخلاف غيره مما جاء على صفة الذم.
وأما دليلهم من المأثور، فروى البخاري: عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أنه أَذِنَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ
(2)
.
فدل هذا على جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات، وقد اتَّفَق على هذا عمر وعثمان وابن عوف، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك.
ونوقش هذا الاستدلال بأن المَحْرَم مَنْ تَحْرُم عليه المرأة على التأبيد، وأمهات المؤمنين يَحرمن تأبيدًا على جميع المؤمنين؛ إذ جميع المؤمنين أبناء لهن.
وأجيب عنه بأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في مقام أمهات المؤمنين في تحريم النكاح، وليس في المَحْرَمية، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53].
وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ يُسَافِرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ مَوْلَيَاتٌ لَهُ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مَحْرَم
(3)
.
(1)
البخاري (3595).
(2)
أخرجه البخاري (1860).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور كما في «المُحَلَّى» (7/ 48).
وَأُخْبِرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ يُفْتِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُسَافِرُ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ، فَقَالَتْ: مَا كُلُّهُنَّ مِنْ ذَوَاتِ مَحْرَمٍ
(1)
.
وأما دليلهم من المعقول، فإنه إذا كانت العلة من سفر المرأة بغير مَحْرَم- هي الخوف على المرأة من تعرضها للفتن، فمع وجود الرفقة الأمنة يَجوز لها السفر بغير مَحْرَم؛ لأن المقصود هو صيانة المرأة، وذلك متحقق بأمن الطريق ووجود الثقات من النساء.
القول الثالث: أنه لا يُشترَط المَحْرَم ولا الرفقة الآمنة، ويَجوز للمرأة أن تَخرج للحج وحدها إذا أَمِنَتِ الفتنة؛ لحديث عَدي. وهو قول عند الشافعية، والظاهرية وابن تيمية
(2)
.
والراجح: عدم جواز سفر المرأة لحج الفريضة بغير مَحْرَم؛ لعموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر المرأة دون مَحْرَم. وصح أن رجلًا قال: يَا رَسُولَ اللهِ، اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً. قَالَ:«اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» فالرَّجُل وجب عليه الجهاد، ولا يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بترك الواجب إلا بفعل واجب أعظم منه، وهو السفر مع امرأته ليحج معها.
أما مَنْ قال بأنه يَجوز سفر المرأة في حج الفريضة بغير مَحْرَم إذا وَجَدَتْ رفقة مأمونة، فهذا القول له وجهته أيضًا. واستدلوا بأن المرأة مع انتشار الأمن تسافر من الحِيرة إلى مكة بغير مَحْرَم، ولا تَخاف أحدًا إلا الله، وقد أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا سيَحدث، ولو كان حرامًا لبَيَّنه؛ إذ لا يَجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ولأن عُمَرَ رضي الله عنه أَذِنَ لأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ.
وإذا كان المقصود هو صيانة المرأة، فذلك متحقق بوجود الثقات من النساء.
والذي يَظهر: أن منع سفر المرأة بلا مَحْرَم هو مما حُرِّم سدًّا للذريعة، والقاعدة فيما حُرِّم سدًّا للذريعة أنه يباح للحاجة والمصلحة الراجحة.
قال مالك: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذُو مَحْرَمٍ يَخْرُجُ مَعَهَا، أَوْ كَانَ لَهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا- أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَيْهَا فِي الْحَجِّ، وَلْتَخْرُجْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النِّسَاءِ
(3)
.
وقال ابن تيمية: سفر المرأة مع ذي مَحْرَم منهي عنه، ويَجوز لرجحان المصلحة،
(1)
إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (10227) من طرق عن يونس، عن الزُّهْري، عن عَمْرة، به.
(2)
«المجموع» (8/ 343)، و «المُحَلَّى» (7/ 50)، و «اختيارات ابن تيمية» للبعلي (ص: 115).
(3)
«موطأ مالك» (1/ 569).
والأقوى أنه إذا تَعَذَّر حجها مع المَحْرَم أن تحج إذا أَمِنَتِ الفتنة؛ لأن حجها مع مَنْ تأمنه أرجح من تفويت الحج؛ لأنه إذا دار الأمر بين تفويت حج الفريضة على المرأة، وبين سفرها بلا مَحْرَم سفرًا آمنًا، كان حصول الحج أصلح لها
(1)
.
المسألة الرابعة: سفر المرأة لحج الفريضة بالطائرة مع وجود الرفقة الآمنة:
سفر المرأة بالطائرة يُنظر فيه من جهتين:
الأولى: أن سفر المرأة بالطائرة يَدخل في عموم النهي عن سفر المرأة بغير مَحْرَم.
الثانية: هل الطائرة تقاس في حقيقتها على القافلة العظيمة؛ لأنه قد ورد عند بعض أهل العلم اشتراط المَحْرَم في حالة الانفراد إذ العدد يسير. أما القوافل العظيمة فهي كالبلاد، يصح فيها سفر المرأة بغير مَحْرَم، فاشتراط المَحْرَم لا يكون إلا في العدد القليل.
قال الباجي: يُشترط المَحْرَم في الانفراد والعدد اليسير، فأما في القوافل العظيمة فهي عندي كالبلاد، يصح فيها سفرها دون نساء وذوي محارم
(2)
.
ونوقش بأنه لا يَجوز سفر المرأة دون مَحْرَم حتى في القوافل العظيمة؛ لإمكان استمالتها. وأحيانًا يتأخر إقلاع الطائرة، أو يتأخر مَنْ يستقبلها؛ مما يجعلها عُرضة للأخطار، أو احتمال جلوسها بجانب رجل، وقد يكون ممن لا تقوى في قلبه فيستدرجها.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز سفر المرأة بالطائرة بدون مَحْرَم؛ لأن مع تطور وسائل المواصلات، فإن أغلب السفر بالطائرة لا يستغرق وقتًا، وليس كالسفر في الأزمنة الماضية، وفي الطائرة يَجتمع الناس، وتمتنع فيها الوحدة والانفراد بالمرأة
(3)
.
ونوقش بأن العلة في وجود المَحْرَم هي السفر وليس المشقة، وبهذه الطريقة فقد يُمْنَع المسافر في الطائرة مِنْ قَصْر الصلاة؛ لأن المشقة لا تنضبط. والمرأة تَحتاج المَحْرَم في الركوب والنزول وإنهاء إجراء الجوازات، والتنقل بين المشاعر
…
وغير ذلك.
(1)
«تفسير آيات أشكلت» (2/ 682 - 686).
(2)
وقال أيضًا: إِذَا كَانَتْ فِي رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ ذَاتِ عَدَدٍ وَعُدَدٍ، أَوْ جَيْشٍ مَأْمُونٍ مِنَ الْغَلَبَةِ، وَالْمَحَلَّةُ الْعَظِيمَةِ، فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ سَفَرِهَا مِنْ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ فِي جَمِيعِ الْأَسْفَارِ، الْوَاجِبِ مِنْهَا وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. «مواهب الجليل» (2/ 524).
(3)
يُنظر موقع ابن جبرين (ص: 46): ما حُكم سفر المرأة؟ و «النوازل في الحج» (ص: 110).
الشرط الثاني الخاص بالمرأة: عدم العِدة:
اختلف العلماء في اشتراط ألا تكون المرأة معتدة علي قولين:
القول الأول: يُشترط لوجوب الحج على المرأة ألا تكون معتدة في مدة الذَّهاب للحج. وبه قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بأن المُتوفَّى عنها زوجها لا يَجوز لها أن تَخرج من بيتها وتسافر للحج حتى تنقضي عدتها؛ لأنها في هذه الحال غير مستطيعة، فيجب عليها أن تتربص في البيت؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. وكذا نهى المعتدات بقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1].
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرُدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مِنَ الْبَيْدَاءِ، يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ
(2)
.
واستدلوا بأن العدة في المنزل تَفُوت، ولا بدل لها، والحج يمكن الإتيان به بعد العدة.
القول الأخر: يجوز للمطلقة والمُتوفَّى عنها زوجها أن تَخرج من بيتها وتسافر للحج أثناء العدة، وهو قول عائشة وعطاء والحسن وابن حزم.
(3)
والراجح: أنه يُشترط لوجوب الحج على المرأة ألا تكون معتدة في مدة الذَّهاب للحج إذا كان يسهل عليها الحج بعد ذلك، ولا بأس بحج المرأة في عدتها إذا كان يتعذر أو يشق عليها الحج بعد ذلك مع المحرم أو الرفقة الآمنة، ولاسيما مع المشقة الحادثة الآن.
(1)
«المبسوط» (6/ 36)، و «المدونة» (2/ 42)، و «الأم» (5/ 579).
وخَصَّ الحنابلة العِدة المانعة من وجوب الحج على المرأة بعدة الوفاة، دون عِدة الطلاق. ولا فَرْق عند الجمهور بين عِدة الوفاة أو الطلاق. «المغني» (8/ 167).
(2)
ضعيف لانقطاعه؛ لأن ابن المسيب لم يَسمع من عمر. أخرجه مالك (1730)، وله طرق أخرى كثيرة عن عمر عند سعيد بن منصور (1343)(1344) وغيره، إلا أنها مراسيل فقد تصح بمجموع الطرق.
وقد ورد عن عثمان وابن مسعود وابن عمر منع المعتدة من الحج أثناء عدتهن، عند ابن أبي شيبة (14856)(19180)(19182) ولا يصح عنهم.
(3)
صح عند ابن أبي شيبة (14851) عَنْ عَطَاءٍ؛ أَنَّ عَائِشَةَ أَحَجَّتْ أُمَّ كُلْثُومٍ فِي عِدَّتِهَا.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالْمُطَلَّقَاتِ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ أَنْ يَحْجُجْنَ فِي عِدَّتِهِنَّ. أخرجه ابن أبي شيبة (14850)، وعلته ما قاله ابن نمير:«كان أبو معاوية يضطرب فيما كان عن غير الأعمش» . وصح عند ابن أبي شيبة (14853) عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا، تَحُجَّانِ فِي عِدَّتِهِمَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ حَبِيبٌ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ ذَلِكَ. وانظر المحلى (10/ 73).
الحاصل في شروط الحج
يجب الحج على كل مسلم، عاقل، بالغ، حُر، مستطيع، بالإجماع.
فشروط الحج خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة.
الشرط الأول: الإسلام، فلا يجب الحج على الكافر، ولا يصح ولا يجزئ إن وقع.
ومَن كان مسلمًا فحج، ثم ارتد بارتكابه ما يُخرجه من ملة الإسلام، ثم تاب وعاد إلى الإسلام، أجزأته حجته تلك عن حجة الإسلام؛ لكونه أدى الحج وهو مسلم.
الشرط الثاني: العقل، فلا يجب الحج على المجنون ولا يصح؛ لأنه لا نية له والأعمال بالنيات. واستُثني الصبي بالنص، ولا تجزئ عن حجة الإسلام إن وقعت منه.
الشرط الثالث: البلوغ، فلا يجب الحج عن الصبي حتى يَبلغ؛ ويصح الحج منه.
فإن حج الصبي قبل البلوغ لم تجزئه عن حَجة الإسلام، وتجب عليه أخرى إذا بَلَغ.
الشرط الرابع: الحرية، فلا يجب الحج على العبد.
الشرط الخامس: الاستطاعة، فلا خلاف في اشتراط الاستطاعة في وجوب الحج.
الاستطاعة ليست شرطًا في إجزاء الحج، فلو تَجَشَّمَ غيرُ المستطيع المشقة، وسار بغير زاد وراحلة فحَجَّ، كان حَجه صحيحًا مُجْزِئًا.
• شروط الاستطاعة:
الشرط الأول: الاستطاعة البدنية، فيَخرج العاجز بنفسه كالمريض الذي لا يستطيع أن يقوم مِنْ على سريره، فلا يجب عليه الحج بنفسه؛ لأن الحج إنما فَرْضه على المستطيع.
وقد يوجد من المرضى مَنْ يستطيع الحج فيجب عليه، ولا سيما في وقتنا الحاضر مع التقدم العلمي وتطور وسائل المواصلات، فقد يَحج رجل على كرسي بلا مشقة.
مَنْ كان قادرًا على الحج بماله عاجزًا ببدنه، فإنه يجب عليه الحج بإرسال مَنْ ينوب عنه؛ نظرًا إلى أنه مستطيع بغيره، فيَدخل في قوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ المرأة على وصف الحج على أبيها بأنه فريضة، مع عجز أبيها عنه ببدنه.
الشرط الثاني: الاستطاعة المالية، وتشتمل على أربعة أمور:
الأول: أن يَملك من المال ما يصل به إلى بيت الله الحرام، من تأشيرة وتذكرة.
الثاني: أن يكون معه من النقود في سفره ما يكفي لحوائجه الأصلية مَطْعمًا وملبسًا وغيرهما، مما لا بد منه على ما يليق بحاله، من غير إسراف ولا تقتير.
الثالث: أن يَترك نفقة عياله ومَن تَلزمه نفقتهم، مِنْ مَطعم وملبس ومسكن، وكل ما
يليق بهم عادة، من غير إسراف ولا تقتير، مدة ذَهابه وإيابه.
الرابع: أن يَقضي دَينه قبل سفره، لأن الدَّين من حقوق العباد.
مَنْ وجب عليه الحج وأراد أن يتزوج، وليس عنده من المال إلا ما يكفي لأحدهما، فهذا على حالين:
الحال الأولى: أن يكون في حالة توقان نفسه والخوف من الزنا، فهذا يكون الزواج في حقه مُقَدَّمًا على الحج بالاتفاق.
الحال الثانية: أن يكون في حال اعتدال الشهوة؛ فإنه يُقَدِّم الحج على الزواج.
أما إذا كان حج تطوع، فإنه يُقَدِّم النكاح؛ لأن الزواج أفضل من نوافل العبادات.
مَنْ كان عنده من المال ما يكفي لحجه، فلا يُعْذَر بترك الحج لِعَجْزه عن شراء الهدايا للأقارب؛ لأن بعض الحُجاج يُكلِّف نفسه ما لا يطيق. وهذا لا يُتصوَّر فيه خلاف.
الشرط الثالث: أَمْن الطريق، وهو متمثل في (تصريح للحج).
مَنْ قَدَّم للحج ولم يَحصل على تصريح للحج فمات، فهل يتعلق الحج بذمته؟
لا بد من التفريق بين أمرين:
الأول: أن على الحاج عند الاستطاعة طلب التأشيرة في كل عام، فإذا لم تأتِ فلا إثم عليه؛ لعموم قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وتحصيل التصريح والتأشيرة ليسا في مقدور مَنْ مُنِع منهما، فإذا مات فيُستحَب لورثته أن يَحجوا عنه من ماله.
الأمر الثاني: أن مَنْ حَصَلت له الاستطاعة، وطَلَب تأشيرة للحج مرة وقَصَّر أخرى فمات، فيجب على ورثته أن يحجوا عنه من ماله.
الشرط الرابع: شروط الاستطاعة الخاصة بالنساء:
الشرط الأول: المَحْرَم، إن المرأة لا تسافر لحج الفريضة بغير مَحْرَم؛ لعموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر المرأة دون مَحْرَم. ولكن إذا تَعَذَّر حجها مع المَحْرَم، فالراجح أنها تحج إذا أَمنت الفتنة؛ لأن حجها مع مَنْ تأمنه أرجح من تفويت الحج؛ لأنه إذا دار الأمر بين تفويت حج الفريضة، وبين سفرها بلا مَحْرَم سفرًا آمنًا، كان حصول الحج أصلح لها.
الشرط الثاني: عدم العِدة، يُشترط لوجوب الحج على المرأة ألا تكون معتدة في مدة الذَّهاب للحج إذا كان يسهل عليها الحج بعد ذلك، ولا بأس بحجها في عدتها إذا كان يشق عليها الحج بعد ذلك مع المحرم أو الرفقة الآمنة، ولاسيما مع المشقة الحادثة الآن.
الفصل الثاني: النيابة
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: النيابة عن الحي. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: النيابة في الفرض عن القادر.
المطلب الثاني: النيابة في الفرض عن غير القادر (المعضوب).
المطلب الثالث: إذا استناب للفريضة ثم برئ، فهل يجب الحج عليه؟ أو يَسقط عنه؟
المبحث الثاني: النيابة في الحج عن الميت. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: النيابة عن الميت في حج الفريضة.
المطلب الثاني: النيابة عن الميت في حج النفل.
المبحث الثالث: الاستئجار على الحج.
المبحث الرابع: هل يُشترَط أن يكون النائب قد حج عن نفسه حج الفريضة؟
المبحث الأول: النيابة عن الحي:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: النيابة في الفرض عن القادر.
القادر على الحج لا يَجوز أن يستنيب مَنْ يحج عنه للفريضة، بالإجماع
(1)
.
المطلب الثاني: النيابة في الفرض عن غير القادر (المعضوب):
فالنيابة لا تَجوز إلا لمن أعجزه كِبَر، أو أعجزه مرض لا يُرجَى بُرؤه. ولا يجزئ الحج عن المعضوب بغير إذنه؛ لأن حج الحي يَفتقر إلى نية، بخلاف الميت.
المطلب الثالث: إذا استناب للفريضة ثم برئ، فهل يجب الحج عليه أو يَسقط عنه؟
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أن مَنْ استناب للحج ثم برئ، فلا يجب عليه الإعادة. وهذا مذهب الحنابلة والظاهرية
(2)
.
قال ابن قُدامة: وَلَنَا: أَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ، أَوْ نَقُولُ: أَدَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ ثَانٍ، كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ. وَلِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى إيجَابِ حَجَّتَيْنِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجِبِ اللَّهُ عَلَيْهِ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً
(3)
.
القول الآخَر: أن مَنْ استناب للحج ثم برئ قبل الموت لا يجزئه عن حج الفريضة، وعليه الحج بنفسه. وهذا مذهب الحنفية، والشافعية في الأصح
(4)
.
واستدلوا بالقياس على الآيسة إذا اعْتَدَّتْ بالشهور ثم حاضت، لا تُجْزِئها تلك العِدَّة.
ونوقش بأن الآيسة إذا اعْتَدَّتْ بالشهور، فلا يُتصَوَّر عَوْد حيضها، فإن رأت دمًا فليس بحيض، ولا يَبطل به اعتدادها. ولكن مَنْ ارتفع حيضها، إذا اعْتَدَّتْ سَنة، ثم عاد حيضها، لم يَبطل اعتدادها.
(1)
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحُجَّ، لَا يُجْزِئُ عَنْهُ أَنْ يَحُجَّ غَيْرُهُ عَنْهُ. (ص: 73). ونَقَل الإجماع ابن قُدامة في «المغني» (5/ 22)، و «الفتح» (4/ 70).
(2)
«الإنصاف» (3/ 287)، و «المُحَلَّى» (7/ 56).
(3)
«المغني» (5/ 21).
(4)
«فتح القدير» (3/ 146)، و «المجموع» (7/ 102).
المبحث الثاني: النيابة في الحج عن الميت.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: النيابة عن الميت في حج الفريضة.
اختَلف أهل العلم في ذلك على أقوال، أشهرها ثلاثة:
القول الأول: أن الحج عن الميت مجزئ ويَنتفع به الميت، سواء أكان نفلًا أم فرضًا، أوصى به أم لم يُوصِ. وبه قال الحنفية والحنابلة والظاهرية
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة: فَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ. قَالَ: فَقَالَ: «وَجَبَ أَجْرُكِ» قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ:«حُجِّي عَنْهَا»
(2)
.
وَجْه الاستدلال: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «حُجِّي عَنْهَا» صريح في مشروعية الحج عن الميت.
القول الثاني: أن مَنْ مات وعليه حجٌّ واجب، بقي الحج في ذمته، ووجب الإحجاج عنه من رأس ماله، سواء أوصى به أم لا؛ لأنه دَين عليه، يجب قضاؤه عنه من ماله قبل قسمة التركة؛ لعموم قوله تعالى في المواريث:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. وبه قال الشافعية في رواية، والحنابلة في رواية
(3)
.
واستدلوا بما ورد: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ: «اقْضُوا اللَّهَ الَّذِي لَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»
(4)
.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 212)، و «الإنصاف» (3/ 409)، و «المُحَلَّى» (7/ 52).
(2)
أخرجه مسلم (1149).
(3)
«الأُم» (2/ 115)، و «الفروع» (5/ 294)، و «فتاوى ابن باز» (16/ 122).
(4)
البخاري (7315).
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم شَبَّه وجوب قضاء الحج بدَين الآدمي، والدَّين لا يَسقط بالموت، فوجب أن يتساويا في الحُكم.
القول الثالث: أن الحج لا يجزئ عن الميت. وبه قال ابن عمر، والقاسم
(1)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة والمأثور:
أما القرآن، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
وَجْه الدلالة: أن الحج ليس من سعي الإنسان، وإنما مِنْ سعي مَنْ حج عنه، فيكون القول بإجزاء الحج عن الميت مُخالِفًا للآية.
ونوقش بأن ظاهر الآية غير مراد؛ لأنه ثَبَت انتفاع الإنسان بسعي غيره، فثَبَتَ انتفاع الإنسان بدعاء غيره، مثل قوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] وشُرعت الصلاة على الميت للدعاء، وكذا الصدقة، والنبي صلى الله عليه وسلم سيشفع للعصاة من أمته
…
إلى غير ذلك. وكل ما ذُكِر ليس من سعي الإنسان. وإنما المراد أنه ليس له من سعي غيره نصيب، إلا إذا وهبه له، فحينئذٍ يكون له.
وأما السُّنة، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن أن عمل الإنسان ينقطع بموته، إلا ما ذُكِر في الحديث، وليس منها الحج، فلا يجزئ فعله عن الميت.
ونوقش بأن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن أن عمله انقطع بموته، لكنه لم يَنْفِ انتفاعه بعمل غيره.
وأما دليلهم من المأثور، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ»
(3)
.
(1)
ثَبَت هذا عن ابن عمر والنَّخَعي والقاسم، عند ابن أبي شيبة (15805)(15806)(15807).
(2)
«صحيح مسلم» (1631).
(3)
إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (15805).
والراجح: أن مَنْ مات وعليه حجٌّ واجب، بقي الحج في ذمته، ووجب الإحجاج عنه من رأس ماله؛ لأنه دَين عليه، يجب قضاؤه عنه من ماله قبل قسمة التركة؛ لعموم قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شَبَّه وجوب قضاء الحج بدَين الآدمي، والدَّين لا يَسقط بالموت، فوجب أن يتساويا في الحُكْم
(1)
.
المطلب الثاني: النيابة عن الميت في حج النفل:
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: تَجوز الاستنابة في حج النفل عن الميت والحي المعضوب. وهذا مذهب الحنفية، والشافعية على الأصح، وهو رواية عن أحمد
(2)
.
القول الثاني: عدم الجواز مطلقًا. وهذا قول للمالكية، وقول للشافعية
(3)
.
واستدلوا بأن النيابة في الحج إنما شُرعت للميت أو العاجز عن الحج في الفرض فقط، فيُقتصَر عليه، وأنه إنما جازت الاستنابة في الفرض للضرورة.
ونوقش بأن ما ثَبَت في الفرض ثَبَت في النفل، إلا إذا دل دليل على التخصيص.
والراجح: مَنْ مات ولم يكن له تركة، لم يُلْزَم أحد أن يحج عنه، لكن يُستحب لوارثه أن يحج عنه، ويَجوز التبرع بالحج عن الميت، سواء من الوارث أو من الأجنبي.
(1)
قالت اللجنة الدائمة (11/ 51): يَجوز للمسلم الذي قد أدى حج الفريضة عن نفسه- أن يحج عن غيره، إذا كان ذلك الغير لا يستطيع الحج بنفسه؛ لكِبَر سنه أو مَرَض لا يُرْجَى برؤه، أو لكَوْنه ميتًا؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك.
(2)
«فتح القدير» (3/ 146)، و «المجموع» (7/ 114).
لكن الشافعية قيدوا الحج عن الميت بأن يكون قد أوصى بذلك. «الإنصاف» (3/ 296).
(3)
«مواهب الجليل» للحَطَّاب (4/ 3)، وهناك قول للمالكية بالكراهة. «المجموع» (7/ 114).
المبحث الثالث: الاستئجار على الحج
يَجوز الاستئجار على الحج. وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد
(1)
.
واستدلوا بأنه إذا كان أَخَذ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم الجُعْل على الرُّقْية بكتاب الله، فأَخْذ الجُعْل على القُرَب التي تَدخلها النيابة أَوْلَى، كالحج والعمرة
(2)
.
واستدلوا بأن الاستئجار على الحج عليه عمل الناس، ولا يسعهم إلا القول به؛ لأن القول بمنعه يُفضِي إلى سد باب النيابة نهائيًّا؛ لندور النيابة على سبيل التبرع
(3)
.
المبحث الرابع: هل يُشترَط أن يكون النائب قد حج عن نفسه حج الفريضة؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يُشترَط في النائب أن يكون قد حج حجة الإسلام عن نفسه أولًا، وإلا كانت الحَجة عن نفسه. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(4)
.
واستدلوا بما رواه ابن عباس، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ! قَالَ: «حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ»
(5)
.
(1)
يَجوز عند المالكية مع الكراهة؛ ولهذا فالمنصوص عن مالك كراهة إجارة الإنسان نفسه في عمل لله تعالى، حجًّا كان أو غيره، ويقول في ذلك:«لأَنْ يُؤاجِر الرجلُ نفسه في عمل اللبن وقَطْع الحطب وسَوْق الإبل- أَحَبُّ إليَّ من أن يَعمل عملًا لله بأجرة» . «مواهب الجليل» (4/ 4)، و «الحاوي» (4/ 257)، و «المغني» (5/ 23) و «الفتاوى» (26/ 18).
(2)
روى البخاري (5737) من حديث ابن عباس أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ، فِيهِمْ لَدِيغٌ- أَوْ: سَلِيمٌ- فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَاءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ إِنَّ فِي المَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا- أَوْ: سَلِيمًا-! فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ عَلَى شَاءٍ فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا؟! حَتَّى قَدِمُوا المَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» .
(3)
«مجموع الفتاوى» (26/ 14)، و «الشرح الممتع» (10/ 57، 58).
(4)
«الحاوي» (4/ 21)، و «المغني» (5/ 42).
(5)
ضعيف، أُعِل بالوقف، وله ثلاثة طرق عن ابن عباس، واختُلف في رفعه ووقفه:
الأول: مداره على ابن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن عَزْرَة، عن ابن جُبَيْر، عن ابن عباس.=
وفيه دليل على أن النائب في الحج لا بد أن يكون قد حج عن نفسه، ولكنه ضعيف.
القول الآخَر: أنه يَجوز للنائب أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه. وهو مذهب
=فرواه عَبْدَة بن سليمان عند أبي داود (1811)، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأَبو يوسف القاضي، ومحمد بن بِشْر، والراوي عنه حُمَيْد بن الربِيعِ وهو كذاب، عند الدارقطني (2661، 2662، 2663).
أربعتهم عن سعيد بن أبي عَرُوبة، به مرفوعًا.
وخالفهم محمد بن جعفر والحسن بن صالحٍ، عند الدارقطني (2664، 2665) عن سعيد، به موقوفًا.
وخولف ابن أبي عَرُوبَة، خالفه عمرو بن الحارث عن قتادة، أن ابن جُبَيْر حَدَّثَه، بإسقاط عَزْرَة عن ابن عباس، موقوفًا، عند ابن وهب في «الموطأ» (159) في روايته:(عن قتادة أن ابن جُبير حَدَّثه)، وذلك معدود في أوهامه؛ فإن قتادة لم يَلْقَ سعيد بن جُبير، فيما قاله ابن مَعين. «تنقيح التحقيق» (3/ 397).
وقد أُعِل هذا السند بثلاث علل:
الأولى: اختُلف في رفعه ووقفه، وإن كان صَحَّح البيهقي (9/ 233) رفعه فقال: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، لَيْسَ فِي هَذَا البَابِ أَصَحُّ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: أَثْبَتُ النَّاسِ فِي سَعِيدٍ عَبْدَةُ. وَكَذَا رَجَّحَ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ الْقَطَّانِ رَفْعَهُ؛ فَقَدْ رَجَّحَ وَقْفَهُ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: رَفْعُهُ خَطَأٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ. «التلخيص» (2/ 427).
وقال ابن كَثير بعد ذكر طرق هذا الحديث: ولهذا الاضطراب قال ابن المنذر: لا يَثبت حديث شُبْرُمَة، الصحيح أنه موقوف على ابن عباس، كما رواه الحُفاظ. «إرشاد الفقيه» (1/ 308).
الثانية: اختُلف في عَزْرَة هل هو ابن يحيى، أم هو ابن عبد الرحمن، أم هو ابن تميم؟ قال ابن التركماني:
عَزْرة الذي رَوَى عن ابن جُبَيْر، ورَوَى عنه قتادة- هو عَزْرَة بن عبد الرحمن الخُزَاعي.
الثالثة: قال ابن حجر: وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ عَلَى تَصْحِيحِهِ بِأَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يُصَرِّحْ بِسَمَاعِهِ مِنْ عُزْرَةَ. «التلخيص» (2/ 427)، و «نَصْب الراية» (3/ 155).
الطريق الثاني: رواه أبو قِلابة عن ابن عباس موقوفًا، ولكنه لم يَسمع منه. رواه الشافعي (925).
الطريق الثالث: رواه عطاء، واختُلف عليه: فرواه ابن أبي ليلى، وهو سيئ الحفظ: فرواه مرة عن عطاء مرسلًا عند ابن أبي شيبة (13368)، ورواه مرة أخرى عن عطاء عن عائشة، عند أبي يعلى (4611). ورواه حماد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا عند الطبراني في «الأوسط» (4495).
وقد أُعِلَّ هذا السند بعلتين:
الأولى: ما قاله مسلم: وَحَمَّاد بن سلمة اذا حدث عَنْ غير ثَابت كحديثه عَنْ عَمْرو بن دِينَار فإنه يخطئ كثيرًا. «التمييز» (ص: 153)
الثانية: ما قاله أحمد بأن رفعه خطأ، وقال: رَوَاهُ عِدَّةٌ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ.
وللحديث طرق وشواهد أخرى، كلها ضعيفة، والصحيح فيه الوقف.
الحنفية والمالكية
(1)
.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ:«نَعَمْ» وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ.
وَجْه الدلالة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَوَّزَ للْخَثْعَمِيَّةِ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهَا حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَوْ لَا. فدل ذلك على أنه لا يُشترَط تقدم حجها عن نفسها.
• ثلاث فوائد في باب الإنابة:
الفائدة الأولى: ينبغي لمن أراد أن ينيب في الحج أن يتحرى فيمَن يستنيبه- أن يكون من أهل الدِّين والأمانة؛ حتى يَطمئن إلى قيامه بالواجب.
الفائدة الثانية: الأفضل أن يحج عن نفسه؛ لأنه الأصل، ويدعو لنفسه ولغيره من الأقارب وسائر المسلمين، إلا إذا كان أحد والديه أو كلاهما لم يحج الفريضة، فله أن يحج عنهما بعد حجه عن نفسه؛ بِرًّا بهما وإحسانًا إليهما عند العجز أو الموت.
الفائدة الثالثة: إذا كان مُستحسنًا أن يحج الإنسان عن أقاربه الأموات، فإنه يَبدأ بأمه ثم أبيه، وإن كان أحدهما حج الفريضة، فليَبدأ بمن لم يحج منهما، ثم الأقرب فالأقرب
(2)
.
* * *
(1)
«المبسوط» (4/ 151). وقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ. «الاستذكار» (4/ 168). وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ جَازَ. «الحاوي» (4/ 21).
(2)
رَوَى البخاري (5971)، ومسلم (2548): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ:«أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» .
مختصر النيابة في الحج
المبحث الأول: النيابة عن الحي. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: القادر على الحج لا يَجوز أن يستنيب مَنْ يحج عنه حجة الفريضة.
المطلب الثاني: النيابة لا تَجوز عن الحي إلا لمن أعجزه كِبَر، أو مرض لا يُرْجَى برؤه، ولا يجزئ الحج عن المعضوب بغير إذنه؛ لأن الحج يَفتقر إلى نية، بخلاف الميت.
المطلب الثالث: مَنْ استناب للحج ثم برئ، لا يجب عليه الإعادة؛ لأنه أَدى حَجة الإسلام بأمر الشارع، فلم يَلزمه حجٌّ ثانٍ. ولأن هذا يُفضِي إلى إيجاب حَجتين عليه، ولم يوجب الله عليه إلا حَجة واحدة.
المبحث الثاني: النيابة في الحج عن الميت. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: النيابة عن الميت في حج الفريضة.
مَنْ مات وله مال ولم يحج، حُج عنه من رأس ماله؛ لأنه دَين عليه، يجب قضاؤه عنه من ماله قبل قسمة التركة؛ لعموم قوله تعالى في المواريث:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شَبَّه وجوب قضاء الحج بدَين الآدمي، والدَّين لا يَسقط بالموت، فوجب أن يتساويا في الحُكْم.
الثاني: أن الحج عن الميت مجزئ ويَنتفع به الميت، سواء أكان نفلًا أم فرضًا.
المبحث الثالث: الاستئجار على الحج:
يَجوز الاستئجار على الحج. والدليل أنه إذا كان أَخَذَ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم الجُعْل على الرُّقْية بكتاب الله، فأَخْذ الجُعل على القُرَب التي تَدخلها النيابة أَوْلى، كالحج والعمرة. ولأن القول بمنع الاستئجار على الحج يُفضِي إلى سد باب النيابة نهائيًّا؛ لندور النيابة على سبيل التبرع.
المبحث الرابع: يَجوز للنائب أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه
؛
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَوَّز للخَثْعَمية أن تحج عن أبيها، ولم يَستفسر أنها حَجَّتْ عن نفسها أو لا.
وأما حديث ابن عباس، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَالَ: «حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» فهو ضعيف.
الباب الثالث: آداب السفر
للسفر آداب ينبغي للمسلم أن يتحلى بها، سواء كان هذا السفر للحج والعمرة أو غير ذلك من الأسفار المباحة.
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: آداب ما قبل السفر للحج والعمرة:
وفيه عَشَرة مباحث:
المبحث الأول: الإخلاص:
على الحاج أن يَقصد بحجه وجه الله والدار الآخرة، ويَحذر قصد الدنيا وحُطامها، فلا يَقصد بحجه رياء ولا سُمعة، ولا مباهاة ولا فخرًا ولا خُيَلاء؛ ولذا فقد أَمَر الله بإخلاص الحج والعمرة له بقوله:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وذلك بأن يكون الباعث على الحج هو طاعة الله عز وجل ومحبته ورجاء ثوابه
(1)
.
فالإخلاص أن تكونَ نيتك لله، لا تريد غيرَ الله، لا سُمعة ولا رياء، ولا تترقب من الناس مدحًا، ولا تخشى منهم قَدْحًا، والله سبحانه غني حميد، فالله عز وجل لا يَقبل عملًا- حجًّا كان ولا غيره- أُشْرِكَ معه فيه غيره، قال الله في الحديث القدسي:«أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
(2)
.
(1)
قال ابن القيم: الإخلاص أن لا تَطلب على عملك شاهدًا غير الله، ولا مجازيًا سواه. وقال أيضًا: وَأَمَّا الشَّرَكُ فِي الْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ، فَقَلَّ مَنْ يَنْجُو مِنْهُ، مَنْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ، وَنَوَى شَيْئًا غَيْرَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَطَلَبَ الْجَزَاءَ مِنْهُ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ فِي نِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ. «الداء والدواء» (ص: 135).
(2)
أخرجه مسلم (2985).
وفي الباب: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ الحَجَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ» .
وله ثلاثة طرق عن أنس:
الأول: عن يزيد الرَّقَاشي، أخرجه ابن أبي شيبة (16053)، وفي إسناده يزيد بن أبان، وهو ضعيف.
الثاني: عن أبي الضحى، عند العُقَيْلي (1628) وفي إسناده خالد بن عبد الرحمن، وهو متروك.
الثالث: عن ثابت عند الأصبهاني في «الترغيب» 1056) وفيه أحمد بن يزيد، ولم أقف له على ترجمة.
والرياء مشتق من الرؤية، وهو إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها؛ ليَحمد الناس صاحبها على ذلك. وأي مراءاة أشد من تصوير الحاج نفسه وهو مُحْرِم، وهو يطوف ويسعى، ويقف بعرفة؟! فهو يُصَوِّر نفسه ويَنقل مناسك الحج خطوة خطوة لأقاربه وأصحابه، وكأنه يقول لهم:(انظروا إليَّ وأنا أحج!) فأي مراءاة أشد من ذلك، فلو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يُصوِّرون أنفسهم في كل مَنْسَك، فماذا كان يقول لهم؟
المبحث الثاني: النفقة الحلال:
روى مسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]» ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!
(1)
.
(1)
مسلم (1015). وفي إسناده: فُضَيْل بن مرزوق، وقد وثقه ابن عُيينة والثوري وأحمد والفسوي وابن خراش والعجلي، واختَلف قول ابن مَعِين فيه، وقال البخاري: مقارب الحديث، وضَعَّفه النَّسَائي وأبو حاتم وابن حِبان، وقد استغرب هذا الحديثٌ الترمذي فقال: حسنٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ. وقال الحاكم: فُضَيْل ليس هو من شرط الصحيح، وقد عِيب على مسلم إخراجه لحديثه.
فالحاصل: أن فضيلًا لايتحمل التفرد، ولكن عمومات الشريعة تشهد لمعناه، وبالله تعالى التوفيق.
وفي الباب عن عُمَر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَجَّ الرَجُلٌ بِمَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ! قَالَ اللَّهُ عز وجل: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ، هَذَا مَرْدُودٌ عَلَيْكَ» . أخرجه ابن عَدي (6665) وفي إسناده: الدُّجَيْن بن ثابت، ضعيف جدًّا.
ورَوَى الطبراني في «الأوسط» (5228): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا بِنَفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ! نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَلَالٌ، وَرَاحِلَتُكَ حَلَالٌ، وَحَجُّكُ مَبْرُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ. وَإِذَا خَرَجَ بِالنَّفَقَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ! نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَرَامٌ وَنَفَقَتُكَ حَرَامٌ، وَحَجُّكَ غَيْرُ مَبْرُورٍ» وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْيَمَامِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. «مَجْمَع الزوائد» (2/ 245).
المبحث الثالث: تَعَلُّم أحكام الحج حتى يكون على بصيرة من أمره:
فإن لم يتيسر له ذلك، حَرَص على مرافقة طالب علم. فإِنْ عَجَز استَصحب كتابًا واضحًا في المناسك، ويديم مطالعته.
المبحث الرابع: التوبة من جميع المعاصي، والتحلل من مظالم الخَلْق:
فإِنْ ظَلَم شخصًا في مال، رَدَّه إليه قبل سفره. فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا، أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ»
(1)
.
المبحث الخامس: أن يَقضي ما أمكنه من ديونه، ويَرُد الودائع، وأن يوصي:
فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»
(2)
.
المبحث السادس: أن يَترك لأهله نفقتهم إلى حين رجوعه:
لعموم قول رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ»
(3)
.
المبحث السابع: يُستحب للمسافر أن يودع أهله وأقاربه وجيرانه وأصحابه:
عَنْ مُوسَى يَقُولُ: أَتَيْتُ أَبَا هُرَيرَةَ أُوَدِّعُهُ، فَقَالَ: أَلا أُعَلِّمُكَ شَيْئًا عَلَّمَنِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقَوْلُهُ عِنْدَ الوَدَاعِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: قُلْ: «أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ الَّذِي لَا تَضِيعُ وَدَائِعُهُ»
(4)
.
المبحث الثامن: يُوصي المسافر أهله بتقوى الله:
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ سَفَرًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي. قَالَ:«أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ، وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ» فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ ازْوِ لَهُ الْأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (2440).
(2)
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ، إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي. أخرجه البخاري (2738)، ومسلم (1627).
(3)
أخرجه مسلم (996).
(4)
إسناده حسن: أخرجه النَّسَائي في «الكبرى» (10450)، وفي إسناده موسى بن وَرْدَان، يُحَسَّن حديثه.
(5)
إسناده حسن: أخرجه أحمد (9724) وغيره، من طرق عن أُسامة، عن سعيدٍ المَقْبُرِيّ، به.
المبحث التاسع: استئذان الوالدين. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: إِذْن الوالدين في حج الفريضة:
يجتهد المرء في إرضاء والديه عند إرادة السفر، وليس للوالدين منع الولد المكلف من الحج الواجب، وليس للولد طاعتهما في تركه. وبه قال الحنفية، وهو قول للمالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
أما السُّنة، فروى الشيخان: عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن طاعة الوالدين إنما تَلزم في غير المعصية، وتَرْك ركن كالحج كبيرة.
وأما القياس، فقاسوا الحج على الصلاة المكتوبة، بجامع الفرضية في كل منهما، فكما أن الوالدين لا يحق لهما أن يَمنعا الولد من الصلاة المكتوبة، فكذلك حج الفريضة.
المطلب الثاني: إِذْن الوالدين في حج النافلة:
للأبوين منع ولدهما من الحج التطوع؛ لأن طاعة الوالدين واجبة، والحج نافلة، فيُقَدَّم الواجب. ولأنه يَلزم طاعة الوالدين في غير معصية، ولو كانا فاسقين لعموم الأوامر ببِرهما والإحسان إليهما.
فالحاصل: يجتهد المرء في إرضاء والديه عند إرادة السفر، فإن كان الحج فرضًا فلا يُشترط إذنهما، لكن يسعى لتطييب قلبيهما. وإن كان الحج نفلًا، فيجب أن يَستأذنهما.
وليس للزوج منع امرأته من حج الفرض، كصوم رمضان والصلوات الخَمْس.
وقد أَجْمَع أهل العلم على اشتراط إِذْن الزوج في جواز إحرام المرأة في النفل. وللرجل منع زوجته من الخروج إلى حج التطوع بالاتفاق
(3)
.
(1)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 456). واشترطوا عدم حاجة أحد الوالدين إلى خدمة الولد. «القوانين الفقهية» (ص: 94)، و «المجموع» (8/ 349)، و «المغني» (3/ 459).
(2)
البخاري (7257)، ومسلم (1840).
(3)
وقد نَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 64)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 35)، وابن حجر في «فتح الباري» (4/ 76) وغيرهم، على أن للرجل منع زوجته من حج النافلة؛ وذلك لأن حق الزوج واجب، وحج النافلة تطوع، فيُقَدَّم حق الزوج الواجب على حج التطوع.
المطلب الثالث: إِذْن صاحب العمل:
العامل لا يخلو أثناء الحج من خَمْس حالات:
الأولى: إذا كان العُرف جاريًا بأن وقت الحج إجازة، فللعامل أن يحج بلا استئذان.
الثانية: للعامل أن يحج في وقت العمل إذا أَذِن له صاحب العمل.
الثالثة: إذا كان العمل مطلوبًا وقت الحج، ولا يمكن تركه لِما يترتب عليه من الإضرار بمصلحة المسلمين أو الإخلال بالأمن، فإنه لا يَجوز له الحج في هذه الحال.
الرابعة: مَنْ أراد حج الفريضة وكان بينهما عقد يُلزِمه بالعمل في أيام الحج، ويَحصل بذَهابه ضرر كبير، فإنه يَستأذن منه، فإِنْ أَذِن له وإلا وجب عليه الوفاء بالعقد؛ لعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
الخامسة: أن لا يأذن صاحب العمل له بحج الفريضة، ولا يوجد ضرر من تركه العمل، فلا يُشترَط إذنه؛ لأنه إذا كان الوالدان ليس لهما منع الولد المُكلَّف من الحج الواجب، وليس للولد طاعتهما في تركه، فصاحب العمل أَوْلى، ولا سيما والحج من مقاصد العامل في بلد الحرمين.
المبحث العاشر: اختيار الرفيق الصالح:
يُستحب للمرء أن يَطلب رفيقًا نقيًّا تقيًّا، راغبًا في الخير كارهًا للشر، وأن يكون على علم شرعي، وعلى تقوى لله عز وجل لأن مِثل هذا يُعِينه على طاعة الله سبحانه.
والله أوصى بالإحسان إلى الرفيق في السفر، فقال:{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]. وروى البخاري: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ»
(1)
.
ومِن حُسن المُرافَقة: المُوافَقة فيما لا يُخالِف الشرع، فإذا رأى ما يَكره فلا يَنشره
(2)
.
(1)
البخاري (2998).
(2)
قال مالك: كان يقال في الزمان الأول إذا أثنى الرجل على الرجل: أَصِحَبْتَه في سفر؟ أشاركتَه في مال؟ قال: فإن قال: لا. قيل له: فلا تُثْنِ عليه. «البيان والتحصيل» (18/ 342).
الفصل الثاني آداب السفر في الطريق للحج والعمرة،
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: استحباب السفر يوم الخميس، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: يُستحَب للمرء أن يكون سفره يوم الخميس، فعن كعب رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَقَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ، إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ، إِلَّا يَوْمَ الخَمِيسِ
(1)
.
المطلب الثاني: توقيت مَخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لحجته:
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ
(2)
.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لخَمْس بَقِينَ مِنْ ذي القَعْدَة، وأولُ ذي الحجة بلا شك يوم الخميس؛ وذلك لأن الوقوف بعرفة كان يوم الجمعة بلا خلاف.
وقد حَدَث إشكال هنا، ووَجْه الإشكال: أنه لو كان خروجه صلى الله عليه وسلم لحجته لخَمْس بَقِينَ مِنْ ذي القَعْدة، لكان خروجه بلا شك يوم الجمعة، وهذا خطأ؛ لأن الجمعة لا تُصَلَّى أربعًا، ففي «الصحيحين»: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ.
وقد ذَكَر أنس أنهم صَلَّوُا الظُّهر معه صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا
(3)
.
ولذا رَجَّح ابن حزم أن مَخرج النبي صلى الله عليه وسلم لحجته يوم الخميس. واستَدل بحديث كعب ابن مالك
…
وَبَطَلَ خُرُوجُهُ عليه السلام يَوْمَ السَّبْتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ خَارِجًا مِنَ
(1)
«صحيح البخاري» (2949).
(2)
رواه البخاري (1709)، ومسلم (1211). ورواه البخاري (1545) عن ابن عباس.
(3)
وأُشيرُ إلى أن هناك كتابًا، وهو «مُشكل أحاديث المناسك» للشيخ خالد بن سليمان آل مهنا. وهو بحث جيد ونافع وماتع في بابه! فقد جَمَع بين بعض الأحاديث في المناسك التي ظاهرها التعارض، ورَجَّح ما يقتضي الدليل رجحانه، وقد استفدتُ من هذا البحث كثيرًا، فاللهَ أسأل أن ينفع به وببحثه الإسلام والمسلمين، وأن يجمعني وإياه مع سيد الأنبياء والمرسلين.
الْمَدِينَةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ لِذِي الْقَعْدَةِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ
(1)
.
ونوقش بِأَنَّ خُرُوجَهُ صلى الله عليه وسلم لِحَجَّتِهِ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ؛ لأَنَّ الْحَدِيثَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ خَرَجَ لِخَمْسٍ بَقِينَ، وَهِيَ: يَوْمُ السَّبْتِ، وَالْأَحَدِ، وَالِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، فَهَذِهِ خَمْسٌ. وَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ خُرُوجُهُ لِسَبْعٍ بَقِينَ. فَإِنْ لَمْ يُعَدَّ يَوْمُ الْخُرُوجِ كَانَ لِسِتٍّ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ خِلَافُ الْحَدِيثِ
(2)
.
المبحث الثاني: استحباب دعاء السفر:
فعن ابن عُمَر، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ:«سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ»
(3)
.
المبحث الثالث: يُستحب للمسافر أن يُكثر من طاعة الله:
كالدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحافظ على الأذكار، ويُكبِّر إذا صَعِد مُرتفَعًا، ويُسبِّح إذا نَزَل مُنخفَضًا، روى البخاري: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا
(4)
.
(1)
«حجة الوداع» لابن حزم (ص: 232).
(2)
«زاد المعاد» (2/ 98).
(3)
رواه مسلم (1342).
(مُقْرِنين): مطيقين، أي: ما كنا نُطيق قهره واستعماله لولا تسخير الله تعالى إياه لنا.
(وعثاء): الوعثاء: المشقة والشدة.
(وكآبة): الكآبة هي تغبر النفس من حزن ونحوه.
(المنقلب): المرجع.
(4)
رواه البخاري (2993).
قَالَ الْمُهَلَّبُ: تَكْبِيرُهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الِارْتِفَاعِ اسْتِشْعَارً لِكِبْرِيَاءِ اللَّهِ عز وجل، وَعِنْدَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ مِنْ عَظِيمِ خَلْقِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَتَسْبِيحُهُ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ قِصَّةِ يُونُسَ، فَإِنَّ بِتَسْبِيحِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ، فَسَبَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ لِيُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْهَا.
وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ التَّسْبِيحِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُنْخَفِضَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ التَّنْزِيهُ، فَنَاسَبَ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنْ صِفَاتِ الِانْخِفَاضِ، كَمَا نَاسَبَ تَكْبِيرَهُ عِنْدَ الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ. «فتح الباري» (6/ 136).
وعلى المرأة في السفر أن تَخفض صوتها؛ لئلا تَفتن مَنْ حولها من الرجال، وتَلتزم السَّتر والعفاف، وتتجنب مخالطة الرجال، وتَحرص على حجابها وسترها.
المبحث الرابع: عليه أن يَحفظ لسانه من اللغو والرفث والجدال والغِيبة
؛
لعموم قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ويَستحضر عظمة هذا النسك وما فيه من حِكم وأحكام، ويقوم بشعائر الحج على سبيل التعظيم، فيؤديها بسكينة ووقار، واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، محتسبًا في ذلك ما يناله من جَهد ومشقة.
المبحث الخامس: يتخلق بالرفق وحُسْن الخُلُق،
ويَحرص على نفع المسلمين والإحسان إليهم، بالإرشاد والمعونة عند الحاجة، ويَحرص على اغتنام وقته.
المبحث السادس:
إذا نزل منزلًا قال: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ
(1)
.
المبحث السابع: عليه أن يُسْرِع عند المرور بديار الظالمين:
فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالحِجْرِ، قَالَ:«لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ؛ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ» ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الوَادِيَ
(2)
.
المبحث الثامن: أن يَحرص على أداء الصلاة:
ويُستحَب قَصْر الرباعية، وأن يَجمع إذا احتاج إلى ذلك. ويجب على المسلم أن يبتعد عن المعاصي في سفره وحضره، كسماع الأغاني والتدخين
…
وغير ذلك من المنكرات.
(1)
أخرجه مسلم (2708) من حديث خَوْلَة بنت حَكيم، وفيه:«فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ» .
(2)
رواه البخاري (4419) واللفظ له، ومسلم (2980).
قال النووي: وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ عِنْدَ الْمُرُورِ بِدِيَارِ الظَّالِمِينَ وَمَوَاضِعِ الْعَذَابِ. وَمِثْلُهُ الْإِسْرَاعُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ هَلَكُوا هُنَاكَ.
فَيَنْبَغِي لِلْمَارِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُرَاقَبَةُ وَالْخَوْفُ، وَالْبُكَاءُ وَالِاعْتِبَارُ بِهِمْ وَبِمَصَارِعِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. «شرح مسلم» (18/ 111).
الفصل الثالث آداب عند الرجوع من السفر للحج والعمرة
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: السُّنة إذا قضى حاجته أن يُعجِّل الرحلة إلى أهله
؛
لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ»
(1)
.
المبحث الثاني: يُستحب للمسافر أن يُخْبِر أهله بموعد قدومه:
لِما ورد في «الصحيحين» : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ، أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ طُرُوقًا
(2)
.
المبحث الثالث: إذا دخل البلد فالسُّنة أن يَبدأ بالمسجد، فيصلي فيه ركعتين:
لحديث كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا نَهَارًا فِي الضُّحَى، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ
(3)
.
(1)
رواه البخاري (1804)، ومسلم (1927) عن أبي هريرة.
قال ابن بَطَّال: فيه حض وندب على سرعة رجوع المسافر إلى أهله عند انقضاء حاجته، وقد بَيَّن عليه السلام المعنى في ذلك بقوله:«يَمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه» فامتناع هذه الثلاثة التي هي أركان الحياة، مع ما ينضاف إليها من شُقة السفر وتعبه- هو العذاب. «شرح البخاري» (4/ 454).
(2)
رواه البخاري (5243)، ومسلم (715) واللفظ له.
قال ابن بَطَّال: وفيه النهي عن التجسس على أهله، ولا تَحمله غَيرته على تهمتها إذا لم يأنس منها إلا الخير. «شرح البخاري» (7/ 369).
(3)
رواه البخاري (3088)، ومسلم (716) واللفظ له.
قال المُهَلَّب: الصلاة عند القدوم سُنة فيها معنى الحمد لله على السلامة، والتبرك بالصلاة أول ما يَبدأ به في حَضَره، ونِعم المفتاح هي إلى كل خير، وفيها يناجي العبد ربه تعالى، وذلك هَدْي رسول الله وسُنته. «شرح البخاري» (5/ 243).
المبحث الرابع: يُستحَب لمن رجع من الحج وغيره أن يقول ما ثَبَتَ:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى المَدِينَةِ قَالَ:«آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ
(1)
.
فينبغي له أن يَشكر الله تعالى على توفيقه لهذه العبادة، وأن يَسأل الله قَبولها، ويَحرص أن يكون بعيدًا عن الأعمال السيئة بعد أن مَنَّ الله عليه بأداء هذا الركن العظيم.
وقد ورد في الباب عن ابن عمر قال: جَاءَ غُلَامٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ. قَالَ: فَمَشَى مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:«يَا غُلَامُ، زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى، وَوَجَّهَكَ الْخَيْرَ، وَكَفَاكَ الْهَمَّ» فَلَمَّا رَجَعَ الْغُلَامُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ:«يَا غُلَامُ، قَبِلَ اللَّهُ حَجَّكَ، وَكَفَّرَ ذَنْبَكَ، وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ»
(2)
.
المبحث الخامس: استحباب تقديم الطعام عند القدوم من السفر:
روى البخاري: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً
(3)
.
* * *
(1)
رواه البخاري (3085).
قال ابن بَطَّال: وفيه حمد الله للمسافر عند إتيانه سالمًا إلى أهله، وسؤاله الله التوبة والعبادة. وتقدير الكلام: نحن آيبون عابدون حامدون، لربنا ساجدون إن شاء الله، على ما رَزَقَنَا من السلامة والنصر وصِدق الوعد. «شرح صحيح البخاري» (5/ 242).
(2)
ضعيف: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (4548) لتفرد مَسْلَمَة بن سالم، وهو ضعيف.
(3)
رواه البخاري (3089).
الباب الرابع المواقيت
وفيه تمهيد وثلاثة فصول
تمهيد: تعريف المواقيت.
الفصل الأول: مواقيت الحج الزمانية.
الفصل الثاني: المواقيت المكانية.
الفصل الثالث: حُكْم التقدم بالإحرام أو مجاوزته بلا إحرام.
تمهيد: تعريف المواقيت
المواقيت: هي مواضع وأزمنة مُعيَّنة لعبادة مخصوصة
(1)
.
ومواضع الإحرام: المواقيت المكانية.
وأزمنة النسك: المواقيت الزمانية (أَشْهُر الحج).
الفصل الأول: مواقيت الحج الزمانية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أَشْهُر الحج:
أَجْمَع العلماء على أن شَوَّالًا وذا القعدة وتِسعًا من ذي الحجة وَقْت للإحرام بالحج
(2)
.
واختلفوا في تمام ذي الحجة، هل هو مِنْ أشهر الحج أم لا؟ على أربعة أقوال:
القول الأول: أن أَشْهُر الحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله. وهو مذهب المالكية والشافعي في القديم
(3)
.
واستدلوا بعموم القرآن والسُّنة والمأثور والمعقول:
أما القرآن، فعموم قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
وَجْه الدلالة: أن الآية عَبَّرَتْ بالجَمْع (أَشْهُر) وأقل الجَمْع ثلاث، فلا بد من دخول ذي
(1)
«مغني المحتاج» (1/ 471)، و «الإقناع» (1/ 345)، و «كشاف القناع» (2/ 399).
(2)
«مراتب الإجماع» (ص: 45).
وكذا نَقَل الإجماع: ابن رُشْد في «بداية المُجتهِد» (2/ 90)، والنووي في «المجموع» (7/ 146)، وابن حجر في «الفتح» (3/ 420) وغيرهم كثير.
(3)
«التفريع» لابن الجلاب (1/ 354)، و «فتح الباري» (3/ 420).
الحجة بكماله
(1)
.
واعتُرض عليه بأن العرب تُعَبِّر عن اثنين وبعض الثالث بلفظ الجَمْع {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] والمراد به الطُّهر، فإذا طَلَّقَها في بقية طُهر، حُسِبَتْ تلك البقية قُرْءًا
(2)
.
وأما السُّنة، فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]: «شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ»
(3)
.
وأما المأثور، فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] قَالَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ
(4)
.
وأما المعقول، فقالوا: إِنَّ طَوَافَ الإِفَاضَةِ- وَهُوَ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ- يُعْمَلُ فِي ذِي الْحِجَّةِ كُلِّهِ، بِلَا خِلَافٍ مِنْهُمْ؛ فَصَحَّ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ
(5)
.
القول الثاني: أن أَشْهُر الحج: شَوَّال وذو القعدة وعَشْر من ذي الحجة. وهو مذهب الحنفية والحنابلة
(6)
.
(1)
«بداية المُجتهِد» (1/ 238).
(2)
«المجموع» (7/ 146).
(3)
موضوع: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1584) وغيره، وفي إسناده حَصِين بن مُخَارِق، وهو متروك.
(4)
صحيح: أخرجه سعيد بن منصور في «السُّنن» (3/ 791) ورجاله ثقات، لكنه ضعيف للانقطاع بين عروة وعمر، فعروة لم يَسمع من عمر. قاله أبو حاتم وأبو زُرْعَة. «جامع التحصيل» (ص: 236).
وقد رواه البيهقي (8943) من طريق ابن بُكَيْر، عن الليث، عَنْ عُقَيْل، عن الزُّهْري، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر، به. وهذا إسناد صحيح.
وورد عن ابن عمر قولان:
الأول: ما أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 447) بسند صحيح: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَسَمِعْتَ ابْنَ عُمَرَ يُسَمِّي أَشْهُرَ الْحَجِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ يُسَمِّي شَوَّالًا، وَذَا الْقَعْدَةِ، وَذَا الْحِجَّةِ.
الثاني: ما أخرجه الطبري أيضًا (3/ 446) بسند صحيح: عن ابن عمر أنه قال: أَشْهُرُ الحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
(5)
«المُحَلّى» (7/ 69).
(6)
«الهداية» (3/ 227)، و «المغني» (3/ 268).
واستدلوا بالسُّنة والمأثور والمعقول:
أما السُّنة، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الجَمَرَاتِ، فِي الحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ، وَقَالَ:«هَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ»
(1)
.
وَجْه الدلالة: أنه كيف يكون يوم النحر هو يوم الحج الأكبر، وليس من أشهر الحج؟!
وأما المأثور، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال عن قوله:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] قال: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
(2)
.
وعن ابن عباس قال: أَشْهُرُ الحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
(3)
.
(1)
رواه ابن عمر، واختُلف عنه:
فرواه هشام بن الغاز عند البخاري معلقًا (1742)، ويعقوب بن عطاء- وهو ضعيف- عند الطبراني في «الأوسط» (9208)، وسعيد بن عبد العزيز- وفيه ضعف- عند تَمَّام في «فوائده» (443) ثلاثتهم عن نافع، به، بزيادة:«هَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ» .
ورواه محمد بن زيد عن ابن عمر، به مرفوعًا:«فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ» وليس في حديثه: (هَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ) عند البخاري (1742).
وكذا رواه صدقة بن يسار- وفيه ضعف- عند ابن أبي شيبة (35972) ومجاهد عند الطبراني (12/ 416)، وفي السند أشرس بن حسان، لم أقف له على ترجمة.
فالحاصل: أن هذه الزيادة من طريق هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر. وهشام وإن كان ثقة، إلا أنه ليس من أصحاب نافع المشاهير، وقد استغربه الدارقطني في «أطراف الغرائب» (3/ 515) فقال: غريب من حديث نافع عنه، تَفَرَّدَ به هشام عنه بهذه الألفاظ.
ورواه محمد بن زيد عن ابن عمر، بدون هذه اللفظة.
ورواه الزُّهْري، عن حُمَيْد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وفيه: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ
…
».
فرواه شُعيب فزاد فيه: «وَيَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ» .
وخالف شُعيبًا: يونس عند البخاري (1622)، ومسلم (1347)، وفُلَيْح وصالح بن كَيسان وعَقيل وابن أخي الزُّهْري. أربعتهم عند البخاري (369، 4363، 4655، 4656) كلهم عن الزُّهْرِيّ، بدون ذكر هذه الزيادة.
وفي بعض الطرق عند البخاري (4657) ومسلم (1347): فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ.
فتَبَيَّنَ أن هذا القَدْر مدرج من قول حُمَيْد، وليس مما نودي به.
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه الطبري (3/ 444) وفي إسناده شَرِيكٌ النَّخَعي، وفيه ضعف، وقد تَفَرَّدَ به.
(3)
أسانيده ضعيفة: وله طرق عن ابن عباس، من أشهرها:
الأول: عن مِقْسَم: أخرجه الثوري في «تفسيره» (ص: 62) وفي إسناده خُصَيْف، سيئ الحفظ.
الثاني: عن عكرمة: أخرجه الطبري (3/ 444) وفي إسناده إسماعيل بن أبي حَبيبة، ضعيف. وداود بن حُصَيْن، وهو ضعيف في عكرمة.
الثالث: عن علي بن أبي طلحة: أخرجه الطبري (3/ 444) وإسناده ضعيف؛ من أجل معاوية وعبد الله ابنَي] صالح.
الرابع: عن عطاء: عند الدارقطني (2458) وفي إسناده مقاتل بن سليمان، كذاب.
وأما المعقول، فاستدلوا بأن يوم النحر هو منتهى أشهر الحج، حيث إن يوم النحر هو يوم الحج الأكبر، وفيه يُؤدَّى ركن الحج وهو طواف الإفاضة، وكثير من أفعال الحج.
ونوقش بأن رمي الجمرات والمبيت بمِنًى يكونان في أيام التشريق، فكيف تكون أعمال الحج في غير أشهر الحج؟!
القول الثالث: ذهب الشافعية في المشهور إلى أن أشهر الحج تَبدأ بشوال، وتنتهي بفجر يوم النحر، فلا يَدخل نهار العاشر من ذي الحجة في أشهر الحج
(1)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] ولا يمكن الإحرام بالحج بعد طلوع فجر يوم النحر.
القول الرابع: أن أَشْهُر الحج تَبدأ بشوال، وتنتهي بغروب شمس يوم عرفة. ومعناه عدم مشروعية الإحرام بالحج ليلة يوم النحر. وهو قول للشافعية
(2)
.
ونوقش بأنه قول شاذ لا يُلتفت إليه، وقد أَجْمَع أهل العلم على أن مَنْ أَحْرَم ليلة العيد ووقف بعرفة قبل فجر يوم العيد، فقد تم حجه.
والحاصل: أنه لا بد أن يُفَرَّق بين أمرين:
الأول: أنه لا يمكن الإحرام بالحج بعد فجر يوم النحر، بالنص والإجماع.
الثاني: أن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله؛ لعموم قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، فعموم هذا اللفظ يشمل الأشهر الثلاثة، ولم يقل:(في أَشْهُر معلومات).
(1)
«المجموع» (7/ 146).
(2)
وَقَالَ بَعْضُ أَتْبَاعِ الشَّافِعِيِّ: وَلَا يَصِحُّ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا فِي لَيْلَتِهِ. وَهُوَ شَاذٌّ. «فتح الباري» (3/ 420).
المبحث الثاني: حُكْم الإحرام قبل أشهر الحج:
اختَلف العلماء فيمن مر بميقاته وأحرم في آخِر يوم من رمضان، وطاف وسَعَى في أول ليلة من شَوَّال، فأدى بعض عمرته في رمضان، والبعض الآخَر في شَوَّال، ثم أقام في مكة ثم حج من عامه، هل يصير متمتعًا أم مُفرِدًا؟
اختَلف أهل العلم في الإحرام بالحج قبل أشهره على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يصير مُفرِدًا؛ لأنه لا يَنعقد الإحرام بالحج قبل أشهره، فإِنْ أَحْرَم بالحج مُفرِدًا انعَقَد إحرامه عُمْرة. وهذا قول للمالكية ومذهب الشافعية، ورواية عن أحمد
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والمأثور والقياس:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197].
وأما المأثور، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَا يُحْرَمُ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
(2)
.
وأما القياس، فقاسوا وقت الحج على وقت الصلاة، فكما أنها لا تجزئ قبل وقتها فكذا الحج؛ لأن الإحرام نُسُك من مناسك الحج، فكان موقتًا كالوقوف والطواف
(3)
.
القول الثاني: أن مَنْ مر بميقاته، وأَحْرَم بعمرة في آخِر يوم من رمضان، وطاف وسَعَى في أول ليلة من شَوَّال، ثم أقام في مكة ثم حج من عامه، صار متمتعًا؛ لأن عمرته معتبرة في الشهر الذي حل فيه، فيصح الإحرام بالحج، وينعقد قبل أشهر الحج، إذا كان التحلل في أشهر الحج. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية في المشهور، والحنابلة
(4)
.
واستدلوا بالمأثور والقياس:
أما المأثور، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَا يُحْرَمُ بِالحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الحَجِّ؛ فَإِنَّ مِنْ
(1)
«مواهب الجليل» (4/ 25)، و «الحاوي» (4/ 28)، و «الإنصاف» (3/ 305).
(2)
إسناده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (15244).
(3)
«بداية المجتهد ونهاية المقتصد» (2/ 90).
(4)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 531)، و «مواهب الجليل» (4/ 24)، و «الإنصاف» (3/ 305).
سُنَّةِ الحَجِّ أَنْ يُحْرَمَ بِالحَجِّ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ
(1)
.
واعتُرض عليه بأنه ليس المراد بالسُّنة هنا السُّنة الاصطلاحية.
وأما القياس، فهو أن التوقيت ضربان: توقيت مكان وزمان، وقد ثَبَتَ أنه لو تَقَدَّم إحرامه على ميقات المكان صح، فكذا لو تَقَدَّم على ميقات الزمان. وأَن الإحرام شَرْط، فيَجوز قبل الوقت، كالطهارة وسَتْر العورة للصلاة
(2)
.
واعتُرض عليه بأنه لا قياس مع النص.
القول الثالث: أنه يُنْظَر في اعتبار العمرة، وهو الإتيان بالطواف، فإذا طاف المُعتمِر أربعة أشواط في أَشهُر الحج، وحَجَّ مِنْ عامه ذلك، كان مُتمتِّعًا؛ لأن الأكثر يقوم مَقام الكُل
(3)
والراجح: أنه لا يَنعقد الإحرام بالحج قبل أشهره، فإِنْ أَحْرَم بالحج انعقد إحرامه عُمْرَة؛ لعموم قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قالوا: وتقديره: (وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) لأنه لا يَجوز حَمْل الآية على أن المراد أفعال الحج؛ لأن الأفعال لا تكون في أَشهُر، وإنما تَكُون في أيام معدودة. ولو كان يَجوز الإحرام للحج في سائر شهور السَّنة، لم يكن للآية فائدة. وقياس وقت الحج على وقت الصلاة، فكما أنها لا تجزئ قبل وقتها، فكذا الحج. ولأن الإحرام نسك من مناسك الحج، فكان موقتًا كالوقوف والطواف
(4)
.
* * *
(1)
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (15243) وعِلته أن الحَكَم لم يَسمع من مِقسم إلا أربعة أَحادِيث، قاله شُعبة. «شرح علل الترمذي» (2/ 849) وقوله:(مِنْ السُّنة) يأخذ حُكم الرفع.
(2)
«الذخيرة» للقرافي (3/ 204).
(3)
«المبسوط» للسرخسي (4/ 45).
(4)
وفي «فتاوى اللجنة الدائمة» (11/ 329): مَنْ أَحْرَم بالعمرة مِنْ آخِر رمضان، ولم يَطُف ولم يَسْعَ لها إلا أول ليلة من شَوَّال، ثم تَحَلل منها، ثم حج من عامه؛ لم يُعتبَر مُتمتِّعًا بالعمرة إلى الحج؛ لأن إحرامه بالعمرة كان في غير أشهر الحج.
الفصل الثاني المواقيت المكانية
أصناف الناس باعتبار موضع الإحرام ثلاثة:
الصنف الأول: الآفاقي.
الصنف الثاني: الميقاتي.
الصنف الثالث: المكي.
الصنف الأول: الآفاقي
وفيه تمهيد ومبحثان:
تمهيد: تعريف الآفاقي: هو مَنْ كان منزله خارج منطقة المواقيت.
المبحث الأول: مواقيت الآفاقي:
تتنوع مواقيت الآفاق باعتبار جهتها من الحرم؛ فلكل جهة ميقات مُعيَّن. ويَرجع كلام أهل العلم في المواقيت إلى خمسة مواقيت:
الميقات الأول: ذو الحُلَيْفة:
تصغير الحلفاء، نَبْت معروف يَنبت بتلك المنطقة، وسُمي هذا المكان بهذا الاسم لكثرته فيه. وهو ميقات أهل المدينة ومَن مر بها.
وهو موضع معروف جنوب غرب المدينة، في أول طريق المدينة إلى مكة، بينه وبين المسجد النبوي نحو (13) كيلو مترًا، وبينه بين مكة (420) كيلو مترًا تقريبًا، فهو أبعد المواقيت عن مكة. وتُسَمَّى الآن (أبيار علي)
(1)
ومنها أَحْرَم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع.
الميقات الثاني: الجُحْفة:
سُمِّي بها لأن قومًا نزلوا فيها، فأَجْحَفَهم السَّيْل، أي: استأصلهم، فلما جَحَفها السيل سُميت الجُحفة.
وهي قرية كبيرة بين مكة والمدينة، تُعْرَف ب (المقابر)، وبها (مسجد ميقات الجُحفة)، ويَبعد عن المسجد الحرام (187) كيلو مترًا تقريبًا، وهي التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يُنْقَل إليها حُمَّى المدينة، وكانت ميقاتًا لأهل مصر والمغرب، من طريق البَر عَبْر قناة السويس، والآن
(1)
قال ابن جماعة: وَبِهَا الْبِئْرُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَوَامُّ (بِئْرَ عَلِيٍّ) يَنْسُبُونَهَا إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَاتَلَ الْجِنَّ بِهَا. وَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. «مواهب الجليل» (4/ 41).
قال الشيخ بكر أبو زيد عن هذه التسمية: وهذا من وضع الرافضة، فلنهجر التسمية المكذوبة، ولنستعمل ما خَرَج التلفظ به بين شفتي النبي صلى الله عليه وسلم ولنَقُل:(ذو الحُليفة). «المناهي اللفظية» (ص: 64).
ومِن الجهل كذلك مَنْ ينسبها إلى علي بن دينار (سلطان دارفور سابقًا) ويقول: إن هذه الآبار بناها هذا السلطان لَمَّا مر بالميقات عام (1317 هجرية) تقريبًا! لأن هذا الاسم معروف ومنثور في بطون الكتب قبل ولادة علي بن دينار بمئات السنين.
أصبح الحج غالبه عن طريق الطائرات.
وقد عادت الجُحفة في الوقت الحاضر ميقاتًا، وهُيئت للإحرام منها، ويمر بها الطريق الساحلي الغربي السريع، وبها (مسجد ميقات الجُحفة) بَنَتْه السعودية عام (1406) ويقع بين مدينتي ينبع وجدة. وأما الإحرام من (رابغ) فيكاد أن يكون اندرس الآن
(1)
.
الميقات الثالث: قَرْن المنازل
(2)
وهو أقرب المواقيت إلى مكة، ويُسَمَّى الآن ب (السيل الكبير) ويُحْرِم الناس من مسجد ميقات السيل، وبينه وبين مكة (78) كيلو مترًا تقريبًا، وهو ميقات لأهل نجد والطائف، وحُجاج الشرق من أهل الخليج وإيران.
الميقات الرابع: يَلَمْلَمُ،
وهناك مسجدان لميقات يلملم:
الأول: مسجد للميقات بالسَّعدية، يُنسَب إلى معاذ بن جبل، وقد كان الطريق القديم يمر بها، وهي قرية فيها بئر السَّعْدية، وتَبعد عن مكة المكرمة (92) كيلو مترًا.
الثاني: لما سَفلتت الحكومة الطريق الجديد بين مكة وجازان، مرورًا بالليث، انحرف الطريق عن موقع الميقات القديم، فوَضَعَتْ مكانًا للإحرام من الطريق الجديد، ويمر بوادي يلملم. وبين مسجد يلملم الآن والمسجد الحرام (130) كيلو مترًا تقريبًا.
ويُحْرِم من يلملم: حُجاج اليمن، وإندونيسيا وماليزيا والصين والهند
…
وغيرهم من حُجاج جنوب آسيا. والآن أصبح الحج غالبه عن طريق الطائرات
(3)
.
هذه الأربعة مُجْمَع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَّتها، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ
(4)
.
(1)
«الموسوعة المُيسَّرة لقاصد مكة المكرمة» (ص 113 - 116).
(2)
وأصل القرن: الجبل الصغير المستطيل، المنقطع عن الجبل الكبير. «لسان العرب» (مادة: قرن)، و «مواهب الجليل» (4/ 43).
(3)
«تيسير العَلَّام شرح عمدة الأحكام» (ص: 359، 360).
(4)
رواه البخاري (1524)، ومسلم (1181).
قال ابن المنذر: وأَجْمَعوا على ما ثَبَتَ به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت
(1)
.
الميقات الخامس: ذات عِرق،
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف ذات عِرق:
هو وادٍ بين جبال، في وَسَطه جبل صغير، وسُمي ذات عِرق لأجله، وهو المسمى الآن:(الضريبة) وهي ميقات أهل العراق وسائر أهل المشرق، ويَبعد عن مكة المكرمة نحو (100) كيلو متر، وقد خربت.
المطلب الثاني: هل وَقَّته رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم وَقَّته عمر رضي الله عنه
-؟
روى البخاري: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ المِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا! قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ
(2)
.
فظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر هو الذي وَقَّت ذات عِرق باجتهاد منه.
ولكن يُشكل على حديث ابن عمر أنه ورد في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وَقَّت ذات عِرق لأهل العراق، كباقي المواقيت الأربعة.
فقد رَوَى مسلم: عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنهما يُسْأَلُ عَنِ الْمُهَلِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ- أَحْسَبُهُ رَفَعه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ-: «
…
وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ
…
»
(3)
.
(1)
«الإجماع» (ص: 64) وكذا نَقَل الإجماع ابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 89).
(2)
أخرجه البخاري (1531).
(3)
ورواه أبو الزبير وعطاء، عن جابر.
ورواه عن أبي الزبير جماعة:
الأول: ابن جُريج، قال: أخبرني أبو الزبير، به. أخرجه مسلم (1183).
وقد اختُلف في صحة هذا الحديث:
فضَعَّفه طائفة من الحفاظ من أجل أن أبا الزبير لم يَجزم برفعه، فقال: (أحسبه رَفَعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالرغم من أن مسلمًا أخرجه في «صحيحه» إلا أنه أخرجه في آخِر الباب إشارة إلى إعلاله.
وقد نص مسلم على إعلاله بقوله: فأما الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وَقَّت لأهل العراق (ذات عِرق) فليس منها واحد يَثبت. «التمييز» (ص: 214).
وقال المُعَلِّمي اليماني: عادة مسلم أن يُرتِّب روايات الحديث بحَسَب قوتها، يُقَدِّم الأصح فالأصح. =
= «الأنوار الكاشفة» (ص: 29).
وقد رُوي الحديث من طرق عن أبي الزبير عن جابر، برفعه غير مشكوك فيه.
فرواه ابن لَهيعة قال: ثنا أبو الزبير، به. عند أحمد (14615) وابن لَهيعة مع ضعفه، فروايته عن أبي الزبير عن جابر ضَعَّفها ابن مَعِين. في «تاريخ ابن مَعِين» رواية الدارمي (ص: 141).
ورواه إبراهيم الخُوزِي- وهو متروك- عن أبي الزبير، مجزومًا برفعه عند ابن ماجه (2927).
ورُوي الحديث عن جابر من غير طريق أبي الزبير مجزومًا برفعه، ومدار هذه الروايات على حَجَّاج بن أرطأة، واختُلف عليه من وجوه:
فرواه مرة عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِر. أخرجه ابن أبي شيبة (14626).
ورواه مرة ثانية: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. أخرجه أحمد (6697).
ورواه مرة ثالثة: عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَرِيرٍ البَجَلِيِّ. ذَكَره ابن حجر في «الدراية» (2/ 5).
فالحاصل: أن مدار هذا الطريق على حَجاج، ومع ضعفه اضطرب فيه. «نَصْب الراية» (3/ 14).
والصحيح: هو رواية ابن جُريج عن أبي الزبير عن جابر، التي وقع الشك في رفعها.
ولهذا الحديث شواهد:
1 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ العِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ. أخرجه النَّسَائي (2673) من طرق عن هشام بن بَهْرَام قال: حدثنا المُعَافَى، عن أَفْلَحَ بن حُمَيد، عن القاسم، عن عائشة، به.
وظاهر هذا الإسناد الصحة، ولكن جملة (وَلِأَهْلِ العِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ) منكرة، أَنْكَرها الإمام أحمد على أفلح بن حُميد، وهو وإن كان ثقة لكنه انفرد بهذه الزيادة المنكرة (ذات عِرق) والتي خالف فيها الثقات. «الكامل» (2/ 346) وأَنْكَرها الإمام مسلم على هشام بن بَهْرَام، فقال: وهو شيخ، ولا يُقَرّ الحديث بمِثله إذا تفرد. «التمييز» لمسلم (ص: 215).
2 -
شاهد الحارث بن عمرو، عند أبي داود (1736) وفي إسناده عُتْبَة بن عبد الملك، مجهول.
3 -
شاهد ابن عباس عند البزار (5181) وفي إسناده مُسْلِم بن خالد. وقد أنكره البزار بتفرده به.
4 -
شاهد أنس عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3528) وفيه هلال بن زيد، وهو منكر الحديث.
5، 6 - وله شاهد عن ابن عمر وابن عمرو، وكلاهما ضعيف.
وقد وردت مراسيل تَشهد لهذا المعنى عن عروة وعطاء ومكحول وقتادة.
فالحاصل: أن كل هذه الأحاديث فيها ضعف بَيِّن، ولا تتقوى ببعضها، ولا سيما وأحاديث المواقيت مشهورة عن عدد من الصحابة،، وليس فيها مُهَلّ أهل العراق، وإن كان صححه: البغوي في «شرح السُّنة» (7/ 38)، والعراقي في «طرح التثريب» (5/ 11)، وابن الطبري في «القرى» (ص: 101)، وابن تيمية في «شرح العمدة» (1/ 305)، والحافظ في «فتح الباري» (3/ 390).
ولكن هذا مُتعقَّب بمن ضعفوه من النقاد: كالإمام مسلم، كما في «التمييز» (ص: 214)، والشافعي في «الأم» (3/ 341)، وأبي داود في «مثير العزم الساكن» (1/ 196)، والدارقطني في «الإلزامات» (322).
وقال ابن خُزيمة: رُوِيَتْ فِي ذَاتِ عِرْقٍ أَخْبَارٌ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَمْ نَجِدْ فِي ذَاتِ عِرْقٍ حَدِيثًا ثَابِتًا. «فتح الباري» (3/ 390).
وقال البغوي: وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَقِّتْ لَهُمْ شَيْئًا. «شرح السُّنة» (7/ 39).
وقال النووي: حديث جابر غير ثابت لعدم جزمه برفعه. «شرح مسلم» (8/ 81).
وكذا ضَعَّفه البيهقي في «السُّنن» (9/ 372)، وابن الجوزي في «كشف المُشْكِل» (1/ 105)، والخَطَّابي في «معالم السُّنن» (2/ 159)، وابن العربي في «القبس» (2/ 555).
والراجح: أن عمر رضي الله عنه هو الذي وَقَّت (ذات عِرق) لأهل العراق. ولم يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وَقَّت (ذات عِرق) لأهل العراق.
المطلب الثالث: ميقات أهل العراق:
أَجْمَعَ العلماء على أن (ذات عِرق) ميقات أهل العراق
(1)
.
واختلفوا في المكان الذي يُستحب أن يُحْرِم منه مَنْ أتى العراق على قولين:
القول الأول: أن مِيقات العراق (ذات عِرق). وبه قال الحنفية والمالكية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور والإجماع والمعقول:
أما السُّنة، فعن جابر مرفوعًا:«وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ» .
وأما المأثور، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ المِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ.
وأما الإجماع، فقال الحَطَّاب: وَإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى مَا فَعَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه.
وأما المعقول، فَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ إذَا جَاوَزُوا الْعَقِيقَ وَأَحْرَمُوا مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، فَإِنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ كَانَ الْعَقِيقُ مِيقَاتًا لَهُمْ لَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الدَّمُ بِتَرْكِهِ
(3)
.
القول الثاني: استحباب الإحرام من العقيق لأهل المشرق. وهذا مذهب الشافعية، وبعض الحنفية، وبعض المالكية
(4)
.
(1)
«التمهيد» (15/ 143)، و «المغني» (5/ 57).
(2)
«البناية» (4/ 158)، و «الاستذكار» (4/ 37)، و «مواهب الجليل» (4/ 45)، و «المغني» (5/ 57).
(3)
«مواهب الجليل» (3/ 33).
(4)
العقيق: وادٍ وراء ذات عِرق مما يلي المشرق، عن يسار الذاهب من ناحية العراق إلى مكة، ويُشْرِف عليها جبل عِرق. والعقيق: كلّ وادٍ نَسَفَتْهُ السُّيول، يقال لكل مسيل ماء شقه السيل، فأَنْهَره ووَسَّعه: عقيق. «معجم البلدان» (4/ 138).
وقال الشافعي: (لو أهلوا من العقيق كان أحب إليَّ)«الأم» (3/ 343)، و «حاشية ابن عابدين» (2/ 475)، و «الاستذكار» (4/ 37).
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فعن ابن عباس قال: وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ
(1)
.
وأما المأثور، فعن أنس رضي الله عنه أنه كان يُحْرِم من العقيق
(2)
.
قال ابن عبد البر: الْعَقِيقُ أَوْلَى وَأَحْوَطُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَذَاتُ عِرْقٍ مِيقَاتُهُمْ بِإِجْمَاعٍ.
والراجح: أن ميقات مَنْ أتى العراق هو (ذات عِرق) لصحة الأدلة.
وقيل: إن الإحرام من العقيق فيه الاحتياط والسلامة من الالتباس ب (ذات عِرق).
المبحث الثاني: مَنْ مر بميقاتين هل يَجُوز له مجاوزة الميقات الأول إلى ميقاتٍ آخَر؟
اتَّفَق العلماء على أن الأصل فيمن يمر بميقاتين أن يُحْرِم من الأول، واختلفوا هل يَجوز له مجاوزة الميقات الأول إلى ميقات آخَر، على أربعة أقوال:
القول الأول: لا يَجوز لمريد النُّسك أن يتجاوز أول ميقات يمر به إلى ميقات آخَر. مِثل أن يَترك أهلُ المدينة الإحرام من ذي الحُليفة حتى يُحْرِموا من الجُحفة. وهذا مذهب أبي حنيفة في رواية، والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المواقيت: «هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ» .
وَجْه الدلالة: أن الحديث يدل بعمومه على أن مَنْ مَر بميقات فهو ميقاته، فالشامي مثلًا إذا أتى ذا الحُليفة فهو ميقاته، ويجب عليه أن يُحْرِم منه.
واستدلوا بِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ مُحِيطَةٌ بِالْبَيْتِ كَإِحَاطَةِ جَوَانِبِ الْحَرَمِ، فَكُلُّ مَنْ مَرَّ
(1)
ضعيف: أخرجه أحمد (3206) ومن طريقه أبو داود (1734). وإسناده ضعيف؛ لضعف يزيد بن أبي زياد، وقد تَفَرَّد به. وللانقطاع بين محمد بن علي وابن عباس. قال الإمام مسلم: ومحمد بن علي لا يُعْلَم له سماع من ابن عباس، ولا أَنه لَقِيه أَوْ رآه. كما في «التمييز» (ص: 215).
(2)
إسناده صحيح: رواه مُسَدَّد في «المسند» كما في «إتحاف الخِيَرة المهرة» (3/ 177).
(3)
«فتح القدير» (2/ 334)، و «المجموع» (7/ 198)، و «المغني» (5/ 64).
بِجَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهِ لَزِمَهُ تَعْظِيمُ حُرْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ جَوَانِبِهِ أَبْعَدَ مِنْ بَعْضٍ.
القول الثاني: لا يَجوز تجاوز أول ميقات مر به إلى ميقات آخَر، إلا أهل مصر والشام إذا مروا بذي الحُليفة، فيَجوز أن يُؤخِّروا الإحرام إلى الجُحفة؛ لأنهم يؤخرون الإحرام إلى ميقاتهم الأصلي، بخلاف غيرهم. وهو مذهب المالكية، ووَجْه عند الحنابلة
(1)
.
القول الثالث: يَجوز تَجاوُز أول ميقات مر به إلى ميقات آخَر. وهو قول الحنفية
(2)
.
والراجح: أنه لا يَجوز لمريد النُّسُك أن يتجاوز أول ميقات يمر به إلى ميقات آخَر؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المواقيت: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ» .
فمَن مر بميقات فهو ميقاته، فالشامي مثلًا إذا أتى ذا الحُليفة فهو ميقاته، ويجب عليه أن يُحْرِم منه لأنه ميقاته في هذه الحالة.
* * *
(1)
«التاج والإكليل» (3/ 36)، و «مختصر خليل» (2/ 303)، و «المغني» (5/ 64).
(2)
«المبسوط» (4/ 173)، وهو قول ابن المنذر من الشافعية. «الاستذكار» (4/ 41).
الصنف الثاني: الميقاتي
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الميقاتي:
هو مَنْ كان يَسكن بين المواقيت والحَرَم. فإنهم خارج حدود الحرم ودون الميقات، كأهل جدة وعُسْفان وبحرة.
المطلب الثاني: موضع إحرام الميقاتي:
مَنْ كان ساكنًا أو نازلًا بين المواقيت والحَرَم، فإن ميقاته موضعه، أي: مَنْ كان دون المواقيت كأهل جدة، وقَصَد النُّسك، فيجب عليه الإحرام من منزله، عند عامة أهل العلم.
وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت:«ومَن كان دون ذلك، فمِن حيث أَنْشَأَ» وفي رواية: «فمَن كان دونهن فمِن أهله» فهذا صريح في أن مَنْ كان مسكنه بين مكة والميقات كأهل جدة، فميقاته مسكنه، ولا يَجوز له مجاوزة مسكنه بغير إحرام
(1)
.
المطلب الثالث: مجاوزة إحرام الميقاتي:
مَنْ كان ساكنًا أو نازلًا بين المواقيت والحَرَم، فإن ميقاته موضعه، فإِنْ جاوزه أَثِم ووجب عليه الدم، فإن عاد إليه سقط الدم. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
المطلب الرابع: مَنْ كان دون المواقيت كجدة، فذهب إلى مكة لقصد غير الحج، ثم طرأ له أن يحج، فإنه يُحْرِم من المكان الذي طرأ له فيه قصد النُّسك
؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ» أي: مِنْ حيث أنشأ السفر مريدًا للنُّسُك. وهذا مذهب الحنفية والمالكية، والمشهور عن الشافعية، ورواية عند الحنابلة
(2)
.
وذهب الشافعية في رواية، والحنابلة في رواية إلى أنه يَلزمه الرجوع إلى منزله.
والراجح: أنه يُحْرِم من حيث طرأت له نية الإحرام، ولا يَلزمه الخروج إلى الحِل.
(1)
قال ابن عبد البر: فَأَجْمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمَوَاقِيتِ إِلَى مَكَّةَ أَنَّ مِيقَاتَهُ مِنْ أَهْلِهِ. «الاستذكار» (4/ 43).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 166)، و «مواهب الجليل» (3/ 42)، و «المجموع» (7/ 203)، و «المغني» (5/ 71).
الصنف الثالث: المكي (أهل مكة أو أهل الحَرَم)
وفيه مطلبان:
المطلب الأول، ميقات المكي للعمرة هو الحِل:
اتَّفق أهل العلم على أن مَنْ أراد أن يعتمر من مكة، فإنه يُحْرِم من الحِل؛ وذلك لِما ورد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ، وَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ
(1)
.
ولو كان الإهلال من مكة بالعمرة سائغًا، لأَمَرها صلى الله عليه وسلم بالإهلال من مكة.
ولكن يُشْكِل عليه حديث ابن عباس قال: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ
…
وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ
(2)
. فظاهره يدل على أن أهل مكة يُهِلون من مكة للحج والعمرة
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (1784)، ومسلم (1212).
فالحديث صريح في أن خروج عائشة إلى التنعيم لعمرتها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن يُشْكِل عليه أنه قد وردت رواية مضادة! قَالَتْ عَائِشَةُ: فَوَاللَّهِ مَا قَالَ: فَتُخْرِجُهَا إِلَى الْجِعِرَّانَةِ، وَلَا إِلَى التَّنْعِيم. أخرجها أحمد (26085). وفيه أن عائشة أقسمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإخراجها إلى التنعيم. وهذه الرواية منكرة لمخالفتها رواية الأثبات الثقات، أن عائشة أحرمت لعمرتها من التنعيم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في «الصحيحين» وغيرهما.
قال ابن حجر: فهذه رواية ضعيفة؛ لضَعْف أبي عامر الخراز. «فتح الباري» (3/ 607).
و (الجِعرانة): موضع كان بئرًا، وبه اليوم بساتين، ومسجد يقع على بُعد ستة وعشرين كيلو تقريبًا، شمال شرقي مكة، وقَسَّم به الرسول الغنائم في غزوة حُنَيْن. «معجم الأمكنة» (ص: 148).
(2)
أخرجه البخاري (1524)، ومسلم (2774).
(3)
وظاهر صنيع البخاري أنه يَرى أن أهل مكة يُهِلون من مكة للعمرة، ولا يَخرجون للحِل؛ ولذا قال:(بَابُ مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالعُمْرَةِ) ثم ساق بسنده الحديث، وفيه:«حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» .
وأَجيبَ عن الاستدلال بحديث عبد الرحمن، بأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر عائشة أن تَخرج إلى الحِل للإهلال بالعمرة؛ لأنها آفاقية، وليست من أهل مكة.
ونوقش هذا الجواب: بأن حديث ابن عباس- وفيه: «هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ» - يدل على أن مَنْ مَر بميقات لغيره، كان ميقاتًا له، فيَكُون ميقاتُ أهل مكة في عُمرتهم هو ميقاتَ عائشة في عُمْرتها; لأنها صارت معهم عند ميقاتهم.
واعتُرض على هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن حديث ابن عباس الذي فيه: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» أي: في الحج. وحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر عبد الرحمن أن يُعْمِرها من التنعيم، أي: مِنْ أدنى الحِل- خاص بالعمرة.
وقد نَقَل ابن قُدامة الإجماع على ذلك، فقال: مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَهِيَ مِيقَاتُهُ لِلْحَجِّ، وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِنَ الْحِلِّ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا
(1)
.
الوجه الثاني للتفريق بين الحج والعمرة: ما ذَكَره ابن عبد البر: وَلَيْسَ الحَاجُّ كَالْمُعْتَمِرِ عِنْدَ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَأَمَرُوا الْمُعْتَمِرَ الْمَكِّيَّ أَوْ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ؛ لِأَنَّ عُمْرَتَهُ تَنْقَضِي بِطَوَافِهِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَالْحَاجُّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَرَفَةَ وَهِيَ حِلٌّ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ لِيُهِلَّ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْمُعْتَمِرِ
(2)
.
المطلب الثاني: اختَلف العلماء في أي جهات الحِل أفضل للمعتمرين من مكة،
على أربعة أقوال:
القول الأول: أن جهات الحِل مستوية في الفضل. وهو قول للحنفية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:«اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ»
(4)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر عبدَ الرحمن أن يَخرج بعائشة من الحرم إلى الحِل حتى تُهِل بالعمرة، فدل على أن التنعيم غير مقصود.
القول الثاني: أن الاعتمار من التنعيم أفضل من سائر الحِل. وهو مذهب الحنفية،
(1)
«المغني» (5/ 59)، و (التنعيم): موضع بمكة في الحِل، يَبعد عن الحرم ستة أميال على طريق المدينة.
(2)
«الاستذكار» (4/ 78).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 167)، و «المغني» (5/ 60).
(4)
أخرجه البخاري (1560).
والصحيح عند الحنابلة
(1)
.
فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ، وَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ
(2)
. فالنبي صلى الله عليه وسلم اختار التنعيم لإهلال عائشة، ولو كان غيره أفضل منه لأَمَرها أن تُهِل منه.
ونوقش بأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر عائشة بذلك؛ لأنه أقرب الحِل إليها.
القول الثالث: قَالَ مَالِكٌ: لَا بُدَّ مِنْ إِحْرَامِهِ مِنَ التَّنْعِيمِ خَاصَّةً. وهذا القول شاذ
(3)
.
القول الرابع: أن الأفضل الإحرام من الجِعْرَانة، ثم يليها في الفضل التنعيم. وهو قول للمالكية، وقول للشافعية، ورواية عند الحنابلة
(4)
.
فعن أنس قال: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ
(5)
.
قال الحَطَّاب: وَأَفْضَلُ جِهَاتِ الْحِلِّ الْجِعْرَانَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ مِنْهَا وَلِبُعْدِهَا، ثُمَّ يَلِيهَا فِي الْفَضْلِ التَّنْعِيمُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ أَنْ تَعْتَمِرَ مِنْهَا
(6)
.
والراجح: أن جهات الحِل كلها سواء. وأما إحرام النبي صلى الله عليه وسلم من الجِعْرَانة، وأَمْره صلى الله عليه وسلم لعائشة أن تَعْتَمِر من التنعيم؛ فلأنه أقرب الحِل إليها. فالأفضل للمُحْرِم هو الأيسر.
* * *
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 167)، و «الإنصاف» (4/ 54).
(2)
أخرجه البخاري (1784)، ومسلم (2908).
(3)
«شرح النووي على مسلم» (8/ 152).
(4)
«المجموع» (7/ 205)، و «الإنصاف» (4/ 54).
(5)
«صحيح البخاري» (3066).
(6)
«مواهب الجليل في شرح مختصر خليل» (3/ 28).
الفصل الثالث الإحرام من الميقات:
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: حُكم الإحرام من الميقات لمَن مَرَّ به قاصدًا النُّسك:
المبحث الثاني: محاذاة الميقات. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الإحرام لركاب الأتوبيسات أو السفن أو الطائرات.
المطلب الثاني: هل يمكن اعتبار جدة ميقاتًا مكانيًّا للحُجاج القادمين إليها عن طريق
الجو أو البر أو البحر؟
المطلب الثالث: مَنْ لم يَحمل معه ملابس الإحرام في الطائرة، فماذا يَفعل؟
المطلب الرابع: الحيض والنفاس لا يَمنعان إحرام المرأة من الميقات.
المبحث الثالث- حُكْم التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية- جائز
المطلب الثاني: مَنْ سَلَك طريقًا ليس فيه ميقات مُعَيَّن، برًّا كان أو بحرًا أو جوًّا،
فاشتبه عليه ما يحاذي المواقيت، ولم يجد مَنْ يرشده إلى المحاذاة.
المبحث الرابع: مجاوزة الميقات. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مَنْ تَجاوَز الميقات بغير إحرام، ولم يَرجع للإحرام من الميقات.
المطلب الثاني: مَنْ تجاوز الميقات بغير إحرام، ثم رجع إلى الميقات فأحرم منه.
المطلب الثالث: مَنْ أَحْرَم بعد الميقات، ثم رجع إلى الميقات، فهل يَسقط عنه الدم؟
المطلب الرابع: مَنْ تجاوز الميقات وأَحْرَم بعده، ولم يَرجع لأنه لم يَحمل تصريحًا؟
المبحث الخامس: حُكْم الإحرام لمن جاوز الميقات إلى مكة؛ لحاجة غير النسك.
المبحث الأول: حُكم الإحرام من الميقات لمَن مَرَّ به قاصدًا النُّسك:
يجب الإحرام من الميقات لمن مر به قاصدًا النُّسُك، بالسُّنة والإجماع.
أما السُّنة، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ
…
».
وقد وَقَّتَ النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت، فقال:«هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ» .
وفائدة التأقيت: المنع من تأخير الإحرام عنها.
وأما الإجماع، فقد نُقِل الإجماع على تحريم مجاوزة الميقات دون إحرام، إذا كان قاصدًا النُّسك
(1)
.
المبحث الثاني: محاذاة الميقات، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الإحرام لركاب الأتوبيسات أو السفن أو الطائرات:
فمَن سَلَك طريقًا ليس فيه ميقات مُعَيَّن، بَرًّا كان أو بحرًا أو جوًّا، اجتَهد وأحرم إذا حاذى ميقاتًا من المواقيت. وذلك باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة
(2)
.
المطلب الثاني: هل يمكن اعتبار جدة ميقاتًا مكانيًّا للحُجاج القادمين إليها عن طريق الجو أو البر أو البحر؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول: أن جدة ليست ميقاتًا مكانيًّا، ولا يَجوز لأحد أن يتجاوز ميقاته ويُحْرِم من جدة. وبه صَدَرَتْ فتوى اللجنة الدائمة، وقرار هيئة كبار العلماء، والمَجْمَع الفقهي
(3)
.
(1)
«بداية المُجتهِد» (2/ 90). وقال ابن تيمية: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ. «مجموع الفتاوى» (17/ 460)، وهذا الإجماع منخرم، قال ابن حجر: وَذَهَبَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ. «فتح الباري» (3/ 387).
(2)
«فتح القدير» (2/ 426)، و «مواهب الجليل» (4/ 46)، و «المجموع» (7/ 199)، و «الفروع» (5/ 302).
(3)
«فتاوى اللجنة الدائمة» (11/ 126)، و «مجلة البحوث الإسلامية» (32/ 328).
واستدلوا بدليلين من السُّنة:
الدليل الأول: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ
…
وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ».
دل الحديث على وجوب إحرام مَنْ مَرَّ بهذه المواقيت.
وعدم جواز تأخير الإحرام إلى جدة من أربعة أوجه:
الأول: قوله: «وَقَّتَ» معناه أنه لا يَجوز لمن مر بميقات من المواقيت المكانية أو حاذى واحدًا منها، جوًّا كان أو برًّا أو بحرًا- أن يتجاوزها من غير إحرام.
الثاني: في قوله: «وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ» أن مَنْ كان دون المواقيت لا يَجوز أن يجاوز مكانه دون إحرام، فكيف بمن هو قبل المواقيت؟!
الثالث: أن هذه المواقيت محيطة بالحَرَم من جميع الجهات، فدل على أن ذلك يشمل كل مَنْ مر عليها أو حاذاها بَرًّا أو بحرًا أو جوًّا. ولو كان هناك ميقات آخَر لبَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يَمُتْ حتى اكتمل الدين وتَمَّتِ النعمة.
الرابع: أن اللغة والعُرْف يُقِران أن مَنْ مَر بطائرة أو سفينة فهو قد مر بالميقات؛ لأنه لا يخلو أن يُسامته ويحاذيه من الأعلى أو يمر فوقه، ومن المعلوم أن الهواء تابع للقرار.
الدليل الثاني: ما رواه ابن عُمَر رضي الله عنهما قال: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ المِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ.
وَجْه الدلالة: «فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ» فهذا يدل على أن المار بالطائرة والسفينة يُحْرِم إذا حاذى الميقات، وجدة ليست ميقاتًا، وليست محاذية لأحد المواقيت
(1)
.
القول الثاني: تُعَد جدة ميقاتًا مكانيًّا لمن وصل إليها بطريق الجو أو البحر، من طريق اليمن خاصة، كأهل الهند وباكستان، فيَجوز لهم تأخير الإحرام حتى يصلوا إليها. وبه قال
(1)
ولذا قَرَّر المَجْمَع الفقهي الإسلامي بمكة (ص: 18) أن المواقيت التي وَقَّتها النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب الإحرام منها على أهلها، وعلى مَنْ مر بها من غيرهم، ممن يريد الحج والعمرة- ليس للحُجاج والعُمار الوافدين من طريق الجو والبحر ولا غيرهم أن يُؤخِّروا الإحرام إلى وصولهم إلى جدة؛ لأن جدة ليست من المواقيت التي وَقَّتها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ابن حجر الهيتمي، وبعض أهل العلم
(1)
.
واستدلوا بالقياس، فالمسافة بين يَلَمْلَم ومكة تساوي المسافة من جدة إلى مكة.
واعتُرض عليه بأن هذا القياس لا يصح؛ لأن المسافة من مكة إلى يَلَمْلَم أبعد من المسافة التي بين جدة ومكة. ولو صح فليس بدليل؛ لأنه ليس بُعد مسافات جميع المواقيت واحدًا. ولو صح هذا القياس، فلا قياس مع النص، والمواقيت توقيفية
(2)
.
القول الثالث: أن جدة ميقات مكاني لمن وصل إليها بطريق الجو أو البحر
(3)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم عَيَّن المواقيت المذكورة؛ لأنها كانت طريق الحُجاج القادمين من جهات شتى، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حيًّا لجَعَل جدة ميقاتًا لكثرة القادمين إليها.
ونوقش بأن هذه المواقيت محيطة بالحَرَم، وكان الناس في عهده صلى الله عليه وسلم يَسلكون طريق البحر بالسفن، فدل على أن ذلك يشمل كل مَنْ مر بها أو حاذاها، بَرًّا كان أو بحرًا أو جوًّا. ولو كان هناك ميقات آخَر كجدة، لبَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يَمُت حتى اكتمل الدين.
واستدلوا بأن عمر رضي الله عنه لما رأى مشقة ذَهاب أهل العراق إلى قَرْن المنازل، حَدَّد (ذات عِرق) وكذلك الآن، لو رأى عمر جدة وقد صارت طريقًا لركاب الجو والبحر، لجَعَلها ميقاتًا مكانيًّا.
واعتُرض عليه بأن عمر رضي الله عنه لم يُحْدِث ميقاتًا جديدًا، بل إن قوله بيان للمحاذاة ولذا قال:«انظروا حذوها من طريقكم. فحَدَّ لهم ذات عِرق» وهذا يدل على أنه لا يَجوز لمن حاذى ميقاتًا - جوًّا أو برًّا أو بحرًا- أن يتجاوزه من غير إحرام.
ثم ما المشقة في الاستعداد للإحرام قبل الإقلاع، بلُبس الإحرام قبل ركوب الطائرة في المطار، مع ما حصل في عصرنا من ضبط دقيق لأماكن المواقيت ومواضع محاذاتها،
(1)
«تحفة المحتاج» (4/ 45)، و «إعانة الطالبين» (2/ 505).
(2)
وجاء في «فتاوى اللجنة الدائمة» (11/ 126): أما جدة فهي ميقات لأهل جدة وللمقيمين بها، إذا أرادوا حجًّا أو عمرة. وأما جَعْل جدة ميقاتًا بدلًا من يَلَمْلَم، فلا أصل له، فمَن مر على يلملم وتَرَك الإحرام منه، وأَحْرَم من جدة، وجب عليه دم.
(3)
ومِن أَشْهَر مَنْ قال بهذا القول: ابن عاشور من تونس، ومصطفى الزرقا، وعبد الله بن زيد آل محمود، وعبد الله الأنصاري، وعدنان عرعور. «النوازل في الحج» (ص: 124).
والإعلان عنها بمكبرات الصوت، فيَسمعها كل حاج، فيقول عند ذلك: لبيك حجًّا.
القول الرابع: إن كان القادم إلى جدة جوًّا أو بحرًا لا يمر بميقات قبلها ولا يحاذيه، جاز له أن يُحْرِم من جدة، كالقادم من سواكن وبُور سودان من بلاد السودان. وهو قول بعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وابن باز
(1)
.
والراجح: هو ما ذهب إليه جماهير العلماء، من أن جدة ليست ميقاتًا مكانيًّا، ولا يَجوز لمن مر بميقات من المواقيت المكانية أو حاذى واحدًا منها، جوًّا أو برًّا أو بحرًا- أن يتجاوزه من غير إحرام، كما تَشهد لذلك الأدلة، وكما قرره أهل العلم.
المطلب الثالث: مَنْ لم يَحمل معه ملابس الإحرام في الطائرة، فليس له أن يؤخر إحرامه إلى جدة،
بل الواجب عليه أن يُحْرِم من الميقات في قميصه الذي عليه، أو يُحْرِم في السراويل، وعليه كشف رأسه. فإذا وصل إلى جدة اشترى إحرامًا ولَبِسه، وعليه بسبب لُبسه القميص كفارة، وهي إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام أو ذَبْح شاة. وهذا قرار المَجْمَع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي
(2)
.
المطلب الرابع: الحيض والنفاس لا يَمنعان إحرام المرأة من الميقات:
لا يَجوز للنُّفَسَاء التي تريد الحج أو العمرة مجاوزة الميقات بلا إحرام، فتُحْرِم بالحج والعمرة من الميقات، وتَفعل ما تفعله الطاهرات، سوى الطواف. وذلك بالسُّنة والإجماع.
(3)
.
قال ابن رجب: وَفِيهِ صِحَّةُ إِحْرَامِ النُّفَسَاءِ وَالْحَائِضِ، وَاسْتِحْبَابُ اغْتِسَالِهِمَا لِلْإِحْرَامِ،
(1)
«حاشية ابن حجر على الإيضاح» (ص: 141)، و «إعانة الطالبين» (2/ 204)، و «شرح منتهى الإرادات» (2/ 9)، و «فتاوى ابن باز» (17/ 35). وفي «فتاوى ابن عثيمين» (21/ 282) وقال:
…
ولكن في بعض الجهات السودانية إذا اتجهوا إلى الحجاز لا يحاذون المواقيت، إلا بعد نزولهم في جدة، بمعنى أنهم يَدخلون إلى جدة قبل محاذاة المواقيت، مثل أهل سواكن، فهؤلاء يُحْرِمون من جدة.
(2)
«مجلة البحوث الإسلامية» (32/ 332).
(3)
رواه مسلم (1218).
و (الاستثفار): معناه أنها تَشُد على فرجها خرقة وتربطها. وهي ما يطلق عليه (حافظة) في الصيدلية.
وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ
(1)
.
المبحث الثالث: حُكْم التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية،
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية جائز بالإجماع
(2)
.
وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه جائز مع الكراهة
(3)
.
واستدلوا للكراهة بالسُّنة والمأثور والمعقول:
أما السُّنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات، ولم يُحْرِم من دويرة أهله، وقد تَرَك النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام من مسجده، مع كمال شرفه ومضاعفة الصلاة فيه، ولا يَفعل صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل
(4)
.
وأما المأثور، فإنكار عمر وعثمان رضي الله عنهما الإحرام قبل المواقيت.
فَعَنِ الحَسَنِ، أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ أَحْرَمَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ، فَأَغْلَظَ لَهُ وَقَالَ: يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنْ مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ؟!
(5)
.
وَعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ أَحْرَمَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيهِ عُثْمَانُ
(6)
.
وأما المعقول، فلعدم أمنه من محظور، وأن يَتعرض لِما لا يُؤْمَن أن يَحْدُث في إحرامه.
(1)
«فتح الباري» (1/ 490).
نَقَل الإجماع على ذلك: ابن عبد البر في «التمهيد» (19/ 315)، والنووي كما في «شرح مسلم» (8/ 133).
(2)
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن مَنْ أَحْرَم قبل الميقات أنه مُحْرِم. (ص: 51)، ونَقَله المرغيناني في «الهداية» (1/ 136).
وقد ورد عن داود أنه قال: لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ المِيقَاتِ، لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَرْجِعَ وَيُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ. «المجموع» (7/ 200).
(3)
«التمهيد» (15/ 143)، و «الفروع» (5/ 314).
(4)
«شرح النووي على مسلم» (8/ 92).
(5)
ضعيف لانقطاعه بين الحسن وعمران: رواه ابن أبي شيبة (13124).
(6)
ضعيف: رواه ابن أبي شيبة (13120) وهذا الإسناد ضعيف للانقطاع بين الحسن وعثمان. وفي «مصباح الزجاجة» (4/ 124): هذا إسنادٌ رجاله ثقات، وهو منقطع؛ الحَسَن لم يَسمع من عثمان شيئًا.
وفيه مشقة، كوصال الصوم، ويُكْرَه أن يُضَيِّق المرءُ على نفسه ما قد وَسَّع الله عليه.
فالحاصل: أن التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية لا يخلو من حالين:
الأول: إن لم يَعْرِف حَذْو الميقات المُقارِب لطريقه احتاط، فأَحْرَم مِنْ بُعْد، بحيث يَتيقن أنه لم يُجاوِز الميقات إلا مُحْرِمًا؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز، وتأخيره عنه لا يَجوز، فالاحتياط فِعْلُ ما لا شك فيه. فإن كان في الطائرة ويَعسر عليه محاذاة الميقات، فيَجوز له التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية.
الثاني: إن كان لا يَعسر عليه محاذاة الميقات، ويستطيع أن يَنزل فيُحْرِم من مسجد الميقات، أو يُحْرِم في محاذاة الميقات؛ كُرِه له التقدم بالإحرام قبل الميقات.
المطلب الثاني: مَنْ سَلَك طريقًا ليس فيه ميقات مُعيَّن،
برًّا كان أو بحرًا أو جوًّا، فاشتبه عليه ما يحاذي المواقيت، ولم يجد مَنْ يرشده إلى المحاذاة؛ وجب عليه أن يحتاط ويُحْرِم قبل ذلك بوقت يَغلب على ظنه أنه أَحْرَم فيه قبل المحاذاة. وليس له أن يؤخر الإحرام؛ فالإحرام قبل الميقات جائز ومنعقد، ولا سيما إذا خاف مِنْ تجاوز الميقات. وبهذا صَدَر قرار مَجْمَع الفقه الإسلامي
(1)
.
المبحث الرابع: مجاوزة الميقات، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مَنْ تَجاوَز الميقات بغير إحرام، ولم يرجع للإحرام من الميقات:
اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على أن مَنْ كان مريدًا لنسك الحج أو العمرة، وتَجاوَز الميقات بغير إحرام، فإنه يجب العَوْد إليه والإحرام منه، فإن لم يرجع أَثِم ووجب عليه الدم، وحجه صحيح
(2)
.
واستدلوا لوجوب الإحرام من الميقات، والإثم بتعمد تركه بما رواه ابن عباس قال: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ
…
هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟
(1)
«مجلة مَجْمَع الفقه الإسلامي» (العدد الثالث) و «مجموع فتاوى ابن باز» (17/ 24).
(2)
«الحاوي» (4/ 73)، و «شرح مسلم» (8/ 82).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الجُحْفَةِ»
(1)
.
فهذه الألفاظ تفيد وجوب الإحرام من هذه المواقيت، لمن مر عليها مريدًا النسك.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ تَرَكَهُ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا
(2)
.
وأن مَنْ ترك الإحرام من الميقات، فقد تَرَك شيئًا مِنْ نُسكه، فيَلزمه دم.
قال ابن عبد البر: في هذه المسألة أقاويل:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ. هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ.
وَقَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمِيقَاتِ إِذَا تَرَكَهُ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، فَلَا حَجَّ لَهُ. هَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَقَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمِيقَاتِ كُلُّ مَنْ تَرَكَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَمَّ حَجُّهُ، رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَهَلَّ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ. رُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
فَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ شُذُوذٌ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ؛ لِأَنَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْآثَارِ، وَلَا تَصِحُّ فِي النَّظَرِ
(3)
.
والراجح: ما اتَّفق الأئمة الأربعة عليه، أن مَنْ تجاوز الميقات دون إحرام، ممن يريد النسك، فأَحْرَم من موضعه، ولم يَرجع إلى الميقات، أن حجه صحيح، وعليه دم.
وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، ولا يُعْلَم له مُخالِف من الصحابة. وقد تَلَقَّى الأئمة قول ابن عباس بالقَبول، وله أصل في الشريعة، حيث أُلْزِمَ المُحصَر بالدم، وأُلْزِمَ مرتكب المحظور بالفدية، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
(1)
البخاري (133) واللفظ له، ومسلم (1182).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (1257) عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ، به.
(3)
«التمهيد» (15/ 149). وقال ابن حجر: وَذَهَبَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ. وَمُقَابِلُهُ قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَا يَصِحُّ حَجُّهُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَوْ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالنُّسُكِ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ. «فتح الباري» (3/ 387).
المطلب الثاني: مَنْ تجاوز الميقات بغير إحرام، ثم رجع إلى الميقات فأحرم منه:
أجمعوا على أن مَنْ تجاوز الميقات بغير إحرام، ثم رجع إلى الميقات فأَحْرَم منه، فحجه صحيح ولا دم عليه
(1)
.
المطلب الثالث: مَنْ أَحْرَم بعد الميقات، ثم رجع إلى الميقات، فهل يَسقط عنه الدم؟
إِنْ تَجاوَز الميقات ثم عَقَد النية والإحرام بعد مجاوزته، فهل رجوعه للميقات بعد ذلك يُسْقِط عنه الفدية أم لا؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أن مَنْ أَحْرَم بعد الميقات، ثم رجع إليه؛ فإنه لا يَسقط عنه الدم، وأن الفدية تَلزمه؛ لأنه رجع بعدما استقر الدم في ذمته. وبه قال زُفَر من الحنفية، والمالكية، وهو وجه عند الشافعية، والمشهور عند الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بحديث ابن عباس قال: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ» فهذا يدل على أنه يجب ابتداء الإحرام من الميقات، فإذا تجاوزه وأَحْرَم بعده فقد هَتَك حرمة الميقات، فوجب عليه الدم.
القول الثاني: أن مَنْ تجاوز الميقات وأَحْرَم بعده، ثم رجع إلى الميقات بعد الإحرام، سقط عنه الدم؛ لأنه رجع إلى الميقات وأَحْرَم منه وهو الواجب، قبل التلبس بأفعال الحج، فلا يَلزمه دم. وبه قال صاحبا أبي حنيفة، وهو الصحيح عند الشافعية، ورواية عن أحمد
(3)
.
(1)
وقد نَقَل الإجماع على ذلك: الكاساني في «بدائع الصنائع» (2/ 165)، والماوردي في «الحاوي» (4/ 72)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 69).
(2)
«فتح القدير» (3/ 39)، و «مواهب الجليل» (4/ 58)، و «الوسيط» (2/ 610)، و «الإنصاف» (3/ 387).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 165)، و «المجموع» (7/ 182)، و «الإنصاف» (3/ 429).
وذهب أبو حنيفة إلى أن مَنْ رجع إلى الميقات فأَحْرَم ولبى، سَقَط عنه الدم، وإلا فلا.
واستَدل الحنفية لذلك بأنه: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي جَاوَزْتُ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ! فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ وَلَبِّ، وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لَا يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ أَحَدٌ إِلَّا مُحْرِمًا» فأوجب عليه الرجوع للإحرام مع التلبية من الميقات.
ولكنه حديث منكر، ولم أقف على لفظة:(ارْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ وَلَبِّ، وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ) مُسنَدة، فقد ذَكَره السرخسي في «المبسوط» (4/ 167)، والكاساني في بدائع الصنائع» (2/ 165).
وقد ورد عن سعيد بن جُبَيْر مرسلًا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن أبي شيبة (15702) بلفظ:«لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْوَقْتَ إِلَّا مُحْرِمٌ» . وفي إسناده خُصَيْف الجَزَري، وهو ضعيف.
والراجح: أن مَنْ أَحْرَم بعد الميقات، ثم رجع إلاه؛ فإنه لا يَسقط عنه الدم، وأن الفدية تَلزمه؛ لأنه رجع بعدما استقر الدم في ذمته؛ لأنه يجب ابتداء الإحرام من الميقات، فإذا تجاوزه وأَحْرَم بعده فقد هَتَك حرمة الميقات، فوجب عليه الدم. وهذا لا يمكنه تداركه بالرجوع؛ لأنه قد حَصَل الإحرام، فلا يَقدر على حَله بعد عَقْده، وأن الدم ثَبَت عليه وإن رجع إلى الميقات، كمَن لَبِس المَخيط وهو مُحْرِم، فلا تَسقط عنه الفدية بنزعه.
المطلب الرابع: مَنْ تجاوز الميقات وأَحْرَم بعده، ولم يَرجع لأنه لم يَحمل تصريحًا:
ذهب جماهير العلماء إلى أن مَنْ تجاوز الميقات وأَحْرَم بعده، فإن إحرامه صحيح ويَلزمه دم.
يَعْمِد بعض الحُجاج إلى لُبس المَخيط عند إحرامهم من الميقات؛ لعدم حَمْلهم التصريح الخاص بالحج، ويَظن بعضهم أن الإحرام هو لباس الإحرام؛ لعدم تفريقهم بين لبس ملابس الإحرام وعَقْد النية بالإحرام.
فإذا تَجاوَز الميقات وأَحْرَم بعده، فإن إحرامه صحيح ويَلزمه دم؛ لأنه تَرَك واجبًا من واجبات الحج، وهو الإحرام من الميقات. والصحيح أن يَنوي عند محاذاة الميقات، ولو كان لابسًا المَخيط، فإذا قال في الميقات:(لبيك حجًّا، وإِنْ حَبَسني حابس فمَحِلي حيث حَبَسْتَني) فقد أَحْرَم من الميقات، ويُخيَّر بين ثلاثة أمور: إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام، أو ذَبْح نَسيكة. لأنه تَلبَّس بارتكاب محظور، وهو لُبس المَخيط.
المبحث الخامس: حُكْم الإحرام لمن جاوز الميقات إلى مكة لحاجة غير النسك:
إذا جاوز الميقاتَ غير مريد للنسك، فله ثلاث حالات:
الأولى: إذا جاوز الميقات غير مريد نسكًا ثم أراده:
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن مَنْ جاوز الميقاتَ غير مريد للنسك، ثم أراده، فإنه يُحْرِم من موضعه.
وبه قال الحنفية والمالكية، والمشهور عن الشافعية، ورواية عند الحنابلة
(1)
.
واستدلوا بأن الإحرام يكون من المكان الذي طرأ له فيه قصد النسك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت: «وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ» وهذا أنشأ النية من دون المواقيت، فميقاته من حيث أنشأ
(2)
.
وَعَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَحْرَمَ مِنَ الْفُرُعِ
(3)
و (الفُرُع) بلد بين ذي الحُليفة وبين مكة، فتكون دون ميقات المدني، وابن عمر رضي الله عنهما مدني. وتأويله أنه خرج من المدينة إلى الفُرُع لحاجة، ولم يَقصد مكة، ثم أراد النسك، فكان ميقاته مكانه.
القول الآخَر: أنه يَلزمه الرجوع إلى منزله. وهو قول للشافعية ورواية عند الحنابلة.
والراجح: أنه يُحْرِم من حيث طرأت له نية الإحرام، ولا يَلزمه الرجوع إلى محله.
الحالة الثانية: المرور بالميقات لدخول مكة لحاجة متكررة غير النسك، فلا يَلزمه الإحرام بالإجماع
(4)
.
الحالة الثالثة: المرور من الميقات لدخول مكة من غير قصد النسك، وليس ممن يتكرر دخوله:
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: مَنْ جاوز الميقات ممن لا يجب عليه النسك بقصد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، فإنه لا يجب عليه الإحرام. وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد
(5)
.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 166)، و «مواهب الجليل» (3/ 42)، و «المجموع» (7/ 203)، و «المغني» (5/ 71).
(2)
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ سَافَرَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلنُّسُكِ، فَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ النُّسُكُ- أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ تَجَدَّدَ لَهُ الْقَصْدُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ للْمِيقَاتِ؛ لِقَوْلِهِ:«فَمِنْ حَيْثُ أنشأ» «الفتح» (3/ 386).
(3)
إسناده صحيح: رواه مالك في «الموطأ» (382)، (1188) عن نافع، به.
(4)
قال ابن عبد البر: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْحَطَّابِينَ، وَمَنْ يُدْمِنُ الِاخْتِلَافَ إِلَى مَكَّةَ وَيُكْثِرُهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ- أَنَّهُمْ لَا يُؤْمَرُونَ بِذَلِكَ؛ لِمَا عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَلَوْ أُلْزِمُوا الْإِحْرَامَ لَكَانَ عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ رُبَّمَا عُمَرٌ كَثِيرَةٌ. «التمهيد» (6/ 164).
(5)
«المجموع» (7/ 11)، و «المغني» (5/ 72)، و «المُحَلَّى» (7/ 64).
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فاستدلوا بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن المواقيت:«هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ» .
قوله صلى الله عليه وسلم: «مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ» مفهومه يدل على أن مَنْ لم يُرِد الحج أو العمرة يَجوز له أن يتجاوز الميقات بغير إحرام، ولو وجب بمجرد الدخول لَمَا عَلَّقه على الإرادة.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ
(1)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح حلالًا غير مُحْرِم، وكذا أصحابه؛ لأنه لم يُرِد النسك، فدل على عدم لزوم الإحرام لمن دخل مكة.
وأما المأثور، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِقَدِيدٍ بَلَغَهُ أَنَّ جَيْشًا مِنْ جُيُوشِ الْفِتْنَةِ دَخَلُوا الْمَدِينَةَ، فَكَرِهَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ
(2)
.
القول الثاني: عدم جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لا يَقصد النسك، وليس ممن يتكرر دخوله. وبه قال المالكية، والحنابلة في المشهور عنهم
(3)
.
القول الثالث: أنه لا يَجوز للآفاقي دخول مكة بلا إحرام، ويَجوز لمن كان دون المواقيت. وبه قال الحنفية
(4)
.
والراجح: جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لا يَقصد النسك؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ» مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ إلَّا مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ. وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إنَّمَا تَجِب مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى كُلِّ مَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ، لَوَجَبَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم (1358).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (13526) من طريق عُبَيْد الله بن عُمَر، عن نافعٍ، عن ابن عمر.
(3)
«التمهيد» (6/ 163)، و «المغني» (5/ 71).
(4)
«المبسوط» (4/ 518)، و «بدائع الصنائع» (2/ 164).
(5)
«سُبُل السلام» (1/ 612).
الحاصل في باب مواقيت الحج الزمانية والمكانية
الفصل الأول: مواقيت الحج الزمانية، وفيه تمهيد ومبحثان.
التمهيد: تعريف المواقيت، هي مواضع وأزمنة مُعيَّنة لعبادة مخصوصة.
المبحث الأول:. لابد أن يُفَرَّق بين أمرين في أشهر الحج:
الأول: أنه لا يمكن الإحرام بالحج بعد فجر يوم النحر، بالإجماع.
الثاني: أن أشهر الحج هي شَوَّال وذو القعدة وذو الحجة بكماله؛ لعموم قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فعموم هذا اللفظ يَشمل الأشهر الثلاثة.
المبحث الثاني: حُكْم الإحرام قبل أشهر الحج:
لا يَنعقد الإحرام بالحج قبل أَشهُره. فإِنْ أَحْرَم بالحج انعقد إحرامه عُمْرَة؛ لعموم قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وقياس وقت الحج على وقت الصلاة، فكما أنها لا تجزئ قبل وقتها، فكذا الحج.
الفصل الثاني: المواقيت المكانية:
أصناف الناس باعتبار موضع الإحرام ثلاثة:
الصنف الأول: مواقيت الآفاقي. والآفاقي: هو مَنْ كان منزله خارج منطقة المواقيت.
الميقات الأول: ذو الحُليفة، ويُسَمَّى الآن (أبيار علي) وهو ميقات أهل المدينة ومَن مر بها من غير أهلها. وبينه وبين مكة (420) كيلو مترًا تقريبًا.
الميقات الثاني: الجُحْفة، وبها مسجد (ميقات الجُحفة) بَنَتْه الحكومة السعودية عام (1406 هـ) ويقع بين مدينتي ينبع وجدة. ويَبعد عن المسجد الحرام (187) كيلو مترًا.
الميقات الثالث: قَرْن المنازل، وهو أقرب المواقيت إلى مكة، ويُحْرِم الناس من مسجد ميقات السيل، وبينه وبين مكة (78) كيلو مترًا تقريبًا، وهو ميقات لأهل الطائف.
الميقات الرابع: وهناك مسجدان لميقات يلملم:
الأول: مسجد للميقات بالسعدية، وتَبعد عن مكة المكرمة (92) كيلو مترًا.
الثاني: لما سَفلتت الحكومة الطريق الجديد بين مكة وجازان، وَضَعَتْ مكانًا للإحرام
من الطريق الجديد. وبينه وبين المسجد الحرام (130) كيلو مترًا تقريبًا.
الميقات الخامس: ذات عِرْق، وهو المُسَمَّى الآن (الضريبة) وهو ميقات أهل العراق وسائر أهل المشرق. ويَبعد عن مكة المكرمة نحو (100) كيلو متر تقريبًا. وقد خربت.
وعُمَر رضي الله عنه هو الذي وَقَّت ذات عِرْق لأهل العراق.
المرور بميقاتين، لا يَجوز لمريد النسك أن يتجاوز أول ميقات يمر به إلى ميقات آخَر؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ» .
الصنف الثاني: الميقاتي، وهو مَنْ كان بين المواقيت والحَرَم من أهل الحِل، كأهل جَدة، فإن ميقاته من منزله، عند عامة أهل العلم، فإن جاوزه أَثِم ووجب عليه الدم.
الصنف الثالث: المكي: ميقات المكي للعمرة هو الحِل.
الفصل الثالث: الإحرام من الميقات، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: يجب الإحرام من الميقات لمن مر منه قاصدًا أحد النُّسكين.
المبحث الثاني: محاذاة الميقات، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الإحرام لركاب الأتوبيسات أو السفن أو الطائرات، فمَن سَلَك طريقًا ليس فيه ميقات مُعيَّن، بَرًّا كان أو جوًّا، اجتهد وأَحْرَم إذا حاذى ميقاتًا من المواقيت.
المطلب الثاني: جدة ليست ميقاتًا مكانيًّا، ولا يَجوز لمن مر بميقات من المواقيت أو حاذى واحدًا منها، جوًّا كان أو برًّا أو بحرًا- أن يتجاوزها من غير إحرام، ويُحْرِم من جدة.
المطلب الثالث: مَنْ لم يَحمل معه ملابس الإحرام في الطائرة، فالواجب عليه أن يُحْرِم من الميقات في قميصه الذي عليه، أو يُحْرِم في السراويل، وعليه كشف رأسه. فإذا وصل إلى جدة اشترى إحرامًا ولَبِسه. وعليه عن لبسه القميص كفارة، وهي إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام، أو ذَبْح شاة.
المطلب الرابع: لا يَجوز للمرأة الحائض أو النُّفَسَاء مجاوزة الميقات بلا إحرام،
فتُحْرِم بالحج أو العمرة من الميقات، وتفعل ما تفعله الطاهرات سوى الطواف.
المبحث الثالث: التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية
لا يخلو من حالين:
الأول: إن لم يَعْرِف حَذْو الميقات المُقارِب لطريقه، احتاط. فإن كان في الطائرة ويَعسر عليه محاذاة الميقات، فيَجوز له التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية.
الثاني: إن كان لا يَعسر عليه محاذاة الميقات، ويستطيع أن يَنزل فيُحْرِم من مسجد الميقات، أو يُحْرِم في محاذاة الميقات؛ يُكْرَه له التقدم بالإحرام قبل الميقات.
المبحث الرابع: مجاوزة الميقات، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مَنْ كان مريدًا لنسك الحج، وتَجاوَز الميقات بغير إحرام، فإنه يجب عليه العَوْد إليه والإحرام منه، فإن لم يرجع أَثِم ووجب عليه الدم، وحَجُّه صحيح.
المطلب الثاني: أجمعوا على أن مَنْ تجاوز الميقات بغير إحرام، ثم رجع إلى الميقات فأَحْرَم منه، أن حجه صحيح ولا دم عليه.
المطلب الثالث: مَنْ أَحْرَم بعد الميقات، ثم رجع إليه، لا يَسقط عنه الدم؛ لأنه رجع بعدما استقر الدم في ذمته. كمَن لَبِس المَخيط وهو مُحْرِم، فلا تَسقط عنه الفدية بنزعه.
المطلب الرابع: مَنْ تجاوز الميقات وأحرم بعده ولم يرجع؛ لأنه لم يَحمل تصريحًا: الصحيح أنه يَنوي عند محاذاة الميقات، ولو كان لابسًا المَخيط، فإذا قال في الميقات:(لبيك حجًّا، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستَني) فقد أَحْرَم من الميقات، ويُخَيَّر بين ثلاثة أمور: الإطعام أو الصيام أو ذَبْح نَسيكة؛ لأنه تَلبَّس بارتكاب محظور، وهو لُبس المَخيط.
فإذا تَجاوَز الميقات وأَحْرَم بعده، فإن إحرامه صحيح ويَلزمه دم؛ لأنه تَرَك واجبًا من واجبات الحج، وهو الإحرام من الميقات.
المبحث الخامس: حُكْم الإحرام لمن جاوز الميقات إلى مكة لحاجة غير النسك:
إذا جاوز الميقات غير مريد للنسك، فله ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا جاوز الميقات غير مريدٍ نسكًا ثم أراده، فإنه يُحْرِم من موضعه.
الحالة الثانية: المرور بالميقات لدخول مكة لحاجة متكررة غير النسك، فلا يَلزمه الإحرام بالإجماع.
الحالة الثالثة: المرور من الميقات لدخول مكة لحاجة غير النسك، وليس ممن يتكرر دخوله، فلا يَلزمه الإحرام.
* * *
الباب الخامس أنواع الأنساك الثلاثة
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: الأنساك الثلاثة.
الفصل الثاني: الإفراد والقِران في الحج.
الفصل الثالث: التمتع في الحج.
الفصل الرابع: الاشتراط في الحج والعمرة.
الفصل الأول الأنساك الثلاثة
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: أنواع الأنساك الثلاثة.
المبحث الثاني: جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة.
المبحث الثالث: ما نوع النسك الذي أَهَل به النبي صلى الله عليه وسلم؟
المبحث الرابع: أفضل الأنساك.
المبحث الخامس: تعيين أحد الأنساك.
المبحث السادس: الإحرام المُبْهَم.
المبحث السابع: مَنْ لَبَّى بغير ما نوى.
المبحث الثامن: نسيان ما أَحْرَم به.
المبحث الأول: أنساك الحج ثلاثة:
الأول: الإفراد: وهو أن يُحْرِم بالحج مُفْرَدًا وحده، بأن يقول:(لبيك حجًّا).
الثاني: القِران: وهو أن يُحْرِم بالعمرة والحج معًا في نسك واحد، فيقول:(لبيك عمرة وحجًّا)، أو يُحْرِم بالعمرة ثم يُدْخِل عليها الحج قبل الطواف.
الثالث: التمتع: وهو أن يُحْرِم بالعمرة مُفْرَدة في أَشْهُر الحج، أي: في شَوَّال، وذي القعدة، وذي الحجة، فيقول:(لبيك عُمْرة) ثم يحل منها، ثم يُحْرِم بالحج من عامه.
المبحث الثاني: جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة:
نُقِل الإجماع على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة
(1)
.
ولكن هذا الإجماع منخرم، فقد اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: جواز الأنساك الثلاثة: الإفراد، والقِران، والتمتع.
واستدلوا بالسُّنة: فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ»
(2)
.
فهذا صريح في جواز الأنساك الثلاثة: الإفراد، والقِران، والتمتع.
القول الثاني: أن مَنْ لم يَسُق الهَدْي فليس بمُخيَّر بين الأنساك الثلاثة، بل يتعين عليه أن يحج متمتعًا. وقد ورد هذا القول عن ابن عباس، وأهل الظاهر، وابن القيم.
القول الثالث: جواز الإفراد والقِران دون التمتع. وبه قال أبو بكر وعمر وعثمان.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:«كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً»
(3)
.
(1)
قال الماوردي: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ. «الحاوي» (4/ 44). ونَقَل أيضًا الإجماع: النووي في «شرح مسلم» (8/ 134)، والبغوي في «شرح السُّنة» (7/ 74)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 82)، وابن عبد البر في «التمهيد» (8/ 205).
(2)
رواه البخاري (4408)، ومسلم (1211). وفي رواية عند مسلم:«قَالَتْ: مِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَمِنَّا مَنْ قَرَنَ، وَمِنَّا مَنْ تَمَتَّعَ» .
(3)
مسلم (1224).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: ما ورد عن عِمران قال: «أُنْزِلَتْ آيَةُ المُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُنْزَلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ»
(1)
.
والثاني: ما قاله ابن قُدامة: وَقَدْ خَالَفَ أَبَا ذَرٍّ: عَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ
(2)
.
وأما المأثور، فقد ورد النهي عن متعة الحج عن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية
(3)
.
ونوقش هذا من وجهين:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا نَهَيَا عَنْهُ تَنْزِيهًا، وَحَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ عَنِ التَّمَتُّعِ الَّذِي فَعَلَتْهُ الصَّحَابَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ فَسْخُ الحَجِّ إِلَى العُمْرَةِ
(4)
.
والراجح: جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة؛ لدلالة السُّنة على ذلك.
المبحث الثالث: ما نوع النسك الذي أَهَل به النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
اختَلف أهل العلم في نوع النُّسك الذي أَهَل به النبي صلى الله عليه وسلم، على أربعة أقوال:
القول الأول: النُّسك الذي أَحْرَم به النبي صلى الله عليه وسلم هو القِران. وبه قال الحنفية وأحمد
(5)
.
روى مسلم عَنْ أَنَسٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا»
(6)
.
ورَوَى البخاري: عن عُمَر رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ: «أَتَانِي
(1)
البخاري (4518)، ومسلم (1226).
(2)
«المغني» (5/ 89).
(3)
فقد ورد النهي عن متعة الحج عن أبي بكر، كما عند أحمد (2277) وعن عمر عند البخاري (1724)، ومسلم (3025)، وعن عثمان عند البخاري (1563)، ومسلم (2962) وعن عبد الله بن الزبير عند مسلم (3005)، وعن معاوية عند النَّسَائي (2738).
(4)
«المجموع» (7/ 151).
(5)
«شرح معاني الآثار» (2/ 160)، و «المغني» (5/ 86). قال أحمد: لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا.
(6)
مسلم (1246، 1247).
اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ»
(1)
.
والأحاديث التي تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج قارنًا- متوافرة.
القول الثاني: ذهب مالك والشافعي في أحد قوليه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مُفْرِدًا
(2)
.
ففي «الصحيحين» : عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالحَجِّ
(3)
.
وروى مسلم: عَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ
(4)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأن الصحابة الذين رَوَوْا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مُفْرِدًا- وهم أربعة: عائشة وابن عمر وابن عباس وجابر- قد اختُلف عليهم، فهؤلاء الأربعة رَوَوْا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنًا، فإذا أسقطنا روايتهم فقد رَوَى غيرهم من الصحابة كعمر وأنس وعمران وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج قارنًا.
وقولهم: «أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالحَجِّ» لا يَمنع أن يكون أَهَل معه بعمرة، فإنه لا يَلزم من إهلاله بالحج أَلَّا يكون أَدْخَل عليه العمرة.
أو المراد من الإفراد بالحج: أنه صلى الله عليه وسلم اقتَصر على أعمال الحج، ودخلت عمرته في حجه؛ لأن القارن يَكتفي بطواف وسَعْي وحَلْق.
القول الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا. وهو قول للشافعي وبعض الحنابلة
(5)
.
فَعَنْ عِمْرَانَ رضي الله عنه قَالَ: تَمَتَّعَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ
(6)
.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري (1534).
(2)
«التمهيد» (10/ 196)، (19/ 259)، و «الأُم» (3/ 524).
(3)
أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (1211).
(4)
أخرجه مسلم (1240).
(5)
«الحاوي» (2/ 43)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 63).
(6)
أخرجه مسلم (1240).
(7)
أخرجه البخاري (1691)، ومسلم (1241).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: قال ابن عبد البر: وَإِنَّمَا جُعِلَ الْقِرَانُ مِنْ بَابِ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ مُتَمَتِّعٌ بِتَرْكِ النَّصَبِ فِي السَّفَرِ إِلَى الْعُمْرَةِ مَرَّةً وَإِلَى الْحَجِّ أُخْرَى، وَتَمَتَّعَ بِجَمْعِهِمَا فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يُحْرِمْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ مِيقَاتِهِ
(1)
.
الثاني: أن القارن يتمتع بالجَمْع بين النُّسكين في نُسك واحد؛ لأن الحج والعمرة كلاهما يَحتاج إلى طواف وسَعْي وحَلْق. فالقارن يكفيه طواف واحد وهو طواف الإفاضة، وسعي واحد وحَلْق واحد، كالمُفرِد.
القول الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَحْرَم إحرامًا مطلقًا، ثم عَيَّنه بالإفراد
(2)
.
واستدل بقول عائشة: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُلَبِّي، لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً
(3)
.
والراجح: هو القول الأول، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنًا.
قال الطبري: إن جملة الحال أنه لم يكن متمتعًا؛ لأنه قال: «لو استقبلتُ من أمري ما
(1)
«التمهيد» (8/ 354).
(2)
وهو قول للشافعي «الأم» (3/ 315).
(3)
شاذ بهذا اللفظ، ومدار الحديث على إبراهيم، عن الأَسود، عن عائشة، فرواه الأعمش واختُلف عليه:
فرواه عليّ بن مُسْهِر، عن الأعمش، به. أخرجه مسلم (1211) وفيه:«لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً» .
وخالفه شُعبة عند النَّسَائي (2718) وقال البخاري: وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا مُحَاضِرٌ، كلاهما عن الأعمش، به، بلفظ:«لَا نَذْكُرُ إِلَّا الحَجَّ» أخرجه البخاري (1772).
وأخرجه البيهقي (8892) من طريق مُحاضِر، وفيه:«لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً» .
وتابع الأعمشَ منصور، فرواه عن إبراهيم بلفظ:«خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا نُرَى إِلَّا أَنَّهُ الحَجُّ» أخرجه البخاري (1561)، ومسلم (1561) واللفظ له.
وورواه القاسِم، عند البخاري (305)، ومسلم (1211) وعمرة عند البخاري (1720)، ومسلم (1211) كلاهما عن عائشة، وفيه:«لَا نَذْكُرُ إِلَّا الحَجَّ» .
فالأقرب: أن رواية: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُلَبِّي، لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً» شاذة، وهي من غرائب عليّ بن مُسْهِر! وقد قال فيه ابن رجب: له مفاريد، وذَكَر الأثرم عن أحمد أنه أَنْكَر حديثًا، فقيل له: رواه علي بن مُسْهِر! فقال: إن علي بن مُسْهِر كانت كتبه قد ذهبت، فكَتَب بعد، فإن كان رَوَى هذا غيره، وإلا فليس بشيء يُعتمد. «شرح علل الترمذي» (2/ 755). واللفظ الصحيح:«خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَذْكُرُ إِلَّا الحَجَّ» .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَلْبِيَتِهِ حَجًّا قَطُّ وَلَا عُمْرَةً. أخرجه الشافعي في «الأم» (3/ 389)، وفي إسناده: إبراهيم بن أبي يحيى، شيخ الشافعي، وهو متروك.
استدبرتُ، ما سُقْتُ الهَدْي، ولجَعلتُها عُمرة» ولا كان مُفرِدًا؛ لأن الهَدْي كان معه واجبًا، وذلك لا يكون إلا للقارن، ولأن الروايات الصحيحة تواترت بأنه قد قَرَنهما جميعًا
(1)
.
المبحث الرابع: أفضل الأنساك:
التمتع أفضل الأنساك لمَن لم يَسُق الهَدْي. وهو قول للشافعي، وبه قال الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى دون سائر الأنساك.
واستدلوا بأن التمتع أفضل لكَوْنه صلى الله عليه وسلم تَمَنَّاهُ.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا سُقْتُ الهَدْيَ، وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا»
(3)
.
واستدلوا بأن المتمتع يَجتمع له الحج والعمرة، على وجه اليسر والسهولة، فهو أفضل من الإفراد، وأن التمتع أسهل من القِران لِما فيه من التحلل بين العمرة والحج.
وقد تضافرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أَمَر أصحابه في حجة الوداع، لما طافوا بالبيت وبالصفا، أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا مَنْ ساق الهَدْي. وهو صلى الله عليه وسلم لا يَنقلهم إلا لِما هو أفضل لهم، ولولا أن التمتع هو الأفضل لَمَا تَأسَّف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولَمَا تمنى أنه لم يَسُق الهدي حتى يحل مع الناس متمتعًا.
المبحث الخامس: تعيين أحد الأنساك:
يُستحَب أن يُعيِّن ما يُحْرِم به من الأنساك عند أول إهلاله؛ لأن الحج عبادة، والتعيين هو الأصل في العبادات. وبه قال المالكية، والشافعية في الصحيح عنهم، والحنابلة
(4)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِرَ أن يُعيِّن نُسكه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق:«أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ»
(5)
.
(1)
«التوضيح لشرح الجامع الصحيح» (11/ 171).
(2)
«الحاوي» (4/ 44)، و «المجموع» (7/ 150)، و «المُحَلَّى» (7/ 101)، و «المغني» (5/ 82).
(3)
رواه البخاري (1785)، ومسلم (1218).
(4)
«الذخيرة» (3/ 221)، و «المجموع» (7/ 227)، و «الفروع» (5/ 328).
(5)
رواه البخاري (1534).
والنبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أصحابه بالإحرام بنُسك مُعيَّن، فقال:«مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِالحَجِّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ؛ فَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ»
(1)
.
المبحث السادس: الإحرام المُبْهَم:
إذا أَحْرَم ولم يُعيِّن نُسكه، فإنه ينعقد إحرامه، ويصرفه إلى ما شاء من أنواع النُّسك قبل شروعه في أفعال النُّسك. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(2)
.
وذلك لِما رَوَى جابر رضي الله عنهما قال: فَقَدِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، بِسِعَايَتِهِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«بِمَ أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ؟» قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: «فَأَهْدِ، وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ»
(3)
.
المبحث السابع: مَنْ لَبَّى بغير ما نوى:
مَنْ لَبَّى بغير ما نوى، كأن يَنوي التمتع، ويَجري على لسانه الإفراد، فإنه يكون مُحْرِمًا بما نوى، لا بما جرى على لسانه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .
وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنه إذا أراد أن يُهِلّ بحج، فأَهَلّ بعمرة، أو أراد أن يُهِلّ بعمرة فلَبَّى بحج، أن اللازم ما عَقَد عليه قلبه، لا ما نَطَق به لسانه
(4)
.
المبحث الثامن: نسيان ما أَحْرَم به:
ذهب جمهور العلماء إلى أن مَنْ أَحْرَم بشيء مُعيَّن، ثم نسي ما أَحْرَم به، فإنه يَلزمه حج وعمرة، ويَعمل عمل القارن. وبه قال الحنفية، والمالكية، والشافعية
(5)
.
واستدلوا بأنه تَلبَّس بالإحرام يقينًا بأحد الأنساك بالإفراد بالحج أو القِران بين الحج والعمرة؛ ولذا فإنه يَلزمه حج وعمرة، ويَعمل عمل القارن؛ فهذا أحوط لاشتماله على النُّسكين، فتَبْرأ ذمته
(6)
.
(1)
رواه البخاري (1783).
(2)
«فتح القدير» (2/ 438)، و «مواهب الجليل» (4/ 63)، و «مغني المحتاج» (1/ 477)، و «المغني» (3/ 267).
(3)
رواه البخاري (4352)، ومسلم (1221).
(4)
«الإجماع» لابن المنذر (ص: 51)، ويُنظَر «المغني» (3/ 265).
(5)
«فتح القدير» (2/ 438)، و «مواهب الجليل» (4/ 65)، و «نهاية المحتاج» (3/ 267).
(6)
«مغني المحتاج» (1/ 478).
الفصل الثاني
الإفراد والقِران في الحج،
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الإفراد في الحج:
الإفراد بالحج: أن يُحْرِم بالحج مُفْرَدًا، فيقول:(لبيك اللهم حجًّا) فليس عليه إلا طواف واحد للإفاضة، وسَعْي واحد للحج، ولا يحل إلا يوم النحر، وليس عليه دم
(1)
.
المبحث الثاني: القِران في الحج، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف القِران:
أن يُحْرِم بالعمرة والحج معًا في نُسك واحد، فيقول:(لبيك عمرة وحجًّا).
المطلب الثاني: صور القِران:
للقِران ثلاث صور:
الصورة الأولى: صورة القِران الأصلية: أن يُحْرِم بالعمرة والحج معًا، فيقول:(لبيك عمرة وحجًّا) فيَجمع بينهما في إحرامه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، وَهُوَ بِالعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ»
(2)
.
أو يقول: (لبيك حجًّا وعمرة) لِما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ»
(3)
.
قال المباركفوري: الإهلال بالحج والعمرة معًا متفق على جوازه
(4)
.
الصورة الثانية: إدخال الحج على العمرة، وفيها مطلبان:
المطلب الأول: لو نَوَى الحاج التمتع، فأَحْرَم بعمرة مُفْرَدة، فهل يَجوز له إدخال الحج على العمرة، فيَصير قارنًا؟
(1)
قال النووي: الْإِفْرَادُ لَا يَجِبُ فِيهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَذَلِكَ لِكَمَالِهِ. وَيَجِبُ الدَّمُ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَهُوَ دَمُ جُبْرَانٍ لِفَوَاتِ الْمِيقَاتِ وَغَيْرِهِ، فَكَانَ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَبْرٍ. «شرح مسلم» (8/ 136).
(2)
رواه البخاري (7343).
(3)
رواه البخاري (4408)، ومسلم (1211).
(4)
«مرعاة المفاتيح» (8/ 459)، و «التمهيد» (8/ 354).
لو نَوَى الحاج التمتع، فأَحْرَم بعمرة مُفرَدة، فيَجوز له أن يُدخِل عليها الحج قبل الشروع في الطواف. وهذا جائز مطلقًا، وقد يُضطر إلى ذلك، مِثل مَنْ خَرَجَتْ متمتعة من الميقات، فقالت:(لبيك عمرة) فأتاها الحيض قبل أن تطوف، فلها أن تَقرن. أو بسبب عدم قدرة الحاج على إتمام نسك العمرة قبل دخول الحج، فحينئذٍ يَقرن بين الحج والعمرة.
ودل على جواز ذلك السُّنة والإجماع:
أما السُّنة، ففي «الصحيحين»: عن ابن عمر قال: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي، كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جَوَّز لعائشة رضي الله عنها إدخال الحج على العمرة، لَمَّا أتاها الحيض.
وأما الإجماع، فنَقَل غير واحدٍ الإجماع على جواز إدخال الحج على العمرة
(2)
.
المطلب الثاني: متى يَجوز إدخال الحج على العمرة؟
نُقِل الإجماع على جواز إدخال الحج على العمرة، ما لم يُفتتح الطواف
(3)
.
واختَلف العلماء في جواز إدخال الحج على العمرة أثناء الطواف، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يُشترَط في إدخال الحج على العمرة أن يكون قبل الطواف. وهو رواية عند المالكية، وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(4)
.
واستدلوا بالسُّنة: فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ،
(1)
رواه البخاري (1640)، ومسلم (1230).
(2)
وممن نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 57)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 369)، وابن عبد البر في «التمهيد» (15/ 215)، وابن القيم في «زاد المعاد» (2/ 144) وغيرهم كثير. وقد شذ أبو ثور فقال: لا يَجوز للمُحْرِم بالعمرة إدخال الحج عليها.
قال ابن عبد البر: قَوْل أَبِي ثَوْرٍ: (لَا يُدْخِلُ إِحْرَامًا عَلَى إِحْرَامٍ، كَمَا لَا تَدْخُلُ صَلَاةٌ عَلَى صَلَاةٍ) يَنْفِي دُخُولَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَهَذَا شُذُوذٌ.
وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي إِدْخَالِهِ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَمَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ- خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ إِلَّا الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. «التمهيد» (15/ 219).
(3)
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه مَنْ دخل مكة بعمرة في أشهر الحج- أنه يُدْخِل عليها الحج، ما لم يَفتتح الطواف بالبيت. «الإجماع» (ص: 57).
(4)
«مواهب الجليل» (3/ 50)، و «المجموع» (7/ 172)، و «الإنصاف» (3/ 310).
فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ
…
»
(1)
.
وقال ابن عمر: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي، كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: له أن يُدخِل الحج على العمرة وإن كان قد طاف، ما لم يركع ركعتي الطواف؛ لأن طواف القدوم سُنة، والسعي ركن، فإذا أَدْخَل الحج على العمرة قبل التلبس بالسعي، لم يَفُته شيء من الأركان، فجاز إدخال الحج عليها. وهو مذهب المالكية
(2)
.
ونوقش بأنه إذا ابتدأ طواف العمرة، لم يَجُز له إدخال الحج عليها؛ لأن الطواف الذي نواه ينصرف إلى العمرة التي ابتدأها، وهو ركن من أركانها، ومَن أَحْرَم بعمرة فليس له أن يرفضها؛ لقوله عز وجل:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
القول الثالث: له أن يُدخِل الحج على العمرة ما لم يَطُف أربعة أشواط،؛ لأن الطواف سبعة أشواط، وأكثره أربعة، والعبرة بالغالب، فإذا أَدْخَل الحج على العمرة قبل ذلك صار قارنًا. وهو مذهب الحنفية
(3)
.
والراجح: القول الأول، أي: جواز إدخال الحج على العمرة ما لم يُفتتح الطواف.
الصورة الثالثة: إدخال العمرة على الحج:
اختَلف العلماء فيمن أَحْرَم من الميقات بالحج مُفْرَدًا، فهل يَجوز له إدخال العمرة على الحج ليكون قارنًا؟ وذلك على قولين:
القول الأول: يَجوز إدخال العمرة على الحج، ويكون قارنًا. وهذا مذهب الحنفية، واللَّخْمي من المالكية، والشافعي في القديم
(4)
.
واستدلوا بما ورد عن ابن عمر قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا
(5)
وعن عمر رضي الله عنه قال: حَدَّثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي- وَهُوَ
(1)
رواه البخاري (1556)، ومسلم (1211).
(2)
«المدونة» (1/ 665)، و «التمهيد» (15/ 216، 217).
(3)
«المبسوط» (4/ 182)، و «بدائع الصنائع» (2/ 167)، و «البحر الرائق» (3/ 54).
(4)
«فتح القدير» (3/ 120)، و «الذخيرة» (3/ 289)، و «الحاوي» (4/ 38).
(5)
رواه مسلم (1245).
بِالعَقِيقِ- أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ».
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بالحج مُفْردًا أولًا، ثم أُمِرَ أن يُدخِل العمرة على الحج، فصار قارنًا، وهذا يدل على جواز إدخال العمرة على الحج
(1)
.
واستدلوا بأنه إذا كان يَجوز إدخال الحج على العمرة، فيَجوز إدخال العمرة على الحج؛ لأنه أحد النُّسكين.
القول الآخَر: لا يصح إدخال العمرة على الحج، فإِنْ فَعَل لم يَلزمه، ويتمادى على حجه مُفرَدًا. وبه قال المالكية، والشافعي في الجديد، والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بما ورد عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ:«أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ البَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً»
(3)
.
فَفِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ فِي عُمْرَةٍ- أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ
(4)
.
واستدلوا بأن العُمْرة أَضْعَفُ مِنْ الحج، ولا يصح إدخال الأصغر على الأكبر
(5)
.
واعتُرض عليه بأن قولهم: (لا يصح إدخال الأصغر على الأكبر) مجرد قياس، وفيه نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ» فلا مانع من ذلك، والله أعلم.
المطلب الثالث: ما يجب على القارن من الطواف والسعي:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أن عَمَل القارن والمُفرِد واحد، والفارق بينهما أن القارن يَلزمه الهَدْي مع نية القِران، فالقارن يكفيه طواف واحد، وهو طواف الإفاضة، وسَعْي واحد لعمرته
(1)
«مرعاة المفاتيح» (8/ 459).
(2)
«التمهيد» (8/ 230)، و «المجموع» (7/ 173)، و «المغني» (3/ 423).
(3)
رواه البخاري (1568)، ومسلم (1216).
(4)
«التمهيد» (23/ 365).
(5)
«الحاوي» (4/ 38).
وحجته كالمُفرِد، ولا يَحل إلا يوم النحر، ويَقتصر على أفعال الحج، وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحج. وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة في الصحيح عنهم
(1)
.
واستدلوا بأن القارن يكفيه طواف واحد بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة يوم النَّفْر: «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ»
(2)
.
واستدلوا بأن القارن يكفيه سعي واحد بما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: «لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا»
(3)
.
القول الآخَر: أنه يَلزم القارن طوافان وسعيان: طواف وسعي للحج، وطواف وسعي للعمرة. وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في رواية
(4)
.
واستدلوا بما ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ مَعًا، وَقَالَ:«سَبِيلُهُمَا وَاحِدٌ» قَالَ: فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ
(5)
.
والراجح: أنه لا يَلزم القارن بين الحج والعمرة إلا طواف واحد وسَعْي واحد لحجه وعمرته؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» . ولِما رواه جابر رضي الله عنه: «لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا» .
(1)
«المدونة» (1/ 314)، و «الذخيرة» (3/ 273)، و «المجموع» (7/ 171)، و «الفروع» (5/ 344).
(2)
مسلم (1211).
(3)
مسلم (1215).
وفي الباب: ما أخرجه الترمذي (969): عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْرَمَ بِالحَجِّ وَالعُمْرَةِ، أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» . وعلة هذا الخبر ما قاله النَّسَائي: الدَّراوردي حديثه عن عُبَيْد الله بن عُمَر منكر. «تهذيب الكمال» (18/ 194).
ورَوى ابن أبي شيبة (14530) بسند صحيح: عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: حَلَفَ لِي طَاوُسٌ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا. والمراد بالطواف هنا السعي.
(4)
«المبسوط» (4/ 27)، و «المغني» (5/ 347).
(5)
منكر: أخرجه الدارقطني (2597) وفي إسناده: الحسن بن عُمَارَة، وهو متروك.
وله شاهد عن عليّ، أخرجه الدارقطني (2629، 2630، 2631) وهو خبر منكر.
ورُوي عَنْ عليّ وابن مسعود من قولهما عند ابن أبي شيبة (14522) عن الحَكَم، عن زياد بن مالك، به. قال البخاري: ولا يُعْرَف لزياد سماع من عليّ وعبد الله. «التاريخ الكبير» (3/ 372).
الفصل الثالث التمتع في الحج
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف التمتع.
المبحث الثاني: سبب تسمية هذا النسك بالتمتع.
المبحث الثالث: صور التمتع.
المبحث الرابع: شروط المتمتع.
المبحث الخامس: ما لا يُشترَط للتمتع.
المبحث السادس: أعمال المتمتع.
المبحث السابع: إجزاء التمتع عن الحج والعمرة.
المبحث الأول: تعريف التمتع:
التَّمَتُّعُ: هُوَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ
(1)
.
المبحث الثاني: سبب تسمية هذا النسك بالتمتع:
ورد في ذلك سببان:
الأول: أن المتمتع يتمتع بإسقاط أحد السفرين عنه، فهو مُتمتِّع بترك النَّصَب في السَّفَر إلى العُمرة مَرَّة وإلى الحج أخرى، وتَمَتَّعَ بجمعهما في سَفْرة واحدة، لم يُحْرِم لكل واحدة من ميقاته، وضَمَّ العُمرة إلى الحج، فجَعَل الشرعُ الدم جابرًا لِما فاته، فدَخَل تحت قول الله عز وجل:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
(2)
.
الثاني: سُمي متمتعًا لاستمتاعه بين الحج والعمرة بمحظورات الإحرام، كالنساء والطِّيب ولُبْس المَخيط
…
وغير ذلك.
المبحث الثالث: صور التمتع:
للتمتع صورتان:
الأولى: أن يُحْرِم بالعمرة في أشهر الحج، فإذا فَرَغ منها أَحْرَم بالحج مِنْ عامه.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن مَنْ أَهَلّ بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات، وقَدِم مكة، ففَرَغ منها وأقام بها، وحج مِنْ عامه- أنه متمتع
(3)
.
الصورة الثانية: فَسْخ الحج إلى عمرة:
أَجْمَع العلماء على أنه لا يَجوز فسخ الحج إلى عمرة مُفرَدة لا يأتي بعدها بالحج
(4)
.
(1)
«المغني» (5/ 82)، و «بداية المجتهد» (2/ 97)، و «المجموع» (7/ 170).
(2)
«التمهيد» (8/ 354)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 82)، و «المغني» (5/ 85).
(3)
«الإجماع» (ص: 56).
ونَقَل الإجماع: ابن عبد البر في «التمهيد» (8/ 342)، والقرطبي في «تفسيره» (2/ 391).
(4)
قال ابن تيمية: فأما الفسخ بعمرة مجردة، فلا يُجَوِّزه أحد من العلماء. «الفتاوى» (26/ 280) وكذا نَقَله ابن القيم في «زاد المعاد» (2/ 219).
واختلفوا في جواز فسخ الحج إلى عمرة التمتع لمن كان مُفْرِدًا أو قارنًا لمن لم يَسُق الهَدْي، على ثلاثة أقوال
(1)
:
القول الأول: يُستحب فسخ إحرام الحج إلى عمرة التمتع لمن لم يَسُق الهدي، فإذا فَرَغ من العمرة وحَل منها، أَحْرَم بالحج من مكة، فيصير متمتعًا. وهذا مذهب الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة: فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً»
(3)
.
قال ابن عبد البر: تَوَاتَرَتِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّتِهِ، مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْهُمْ هَدْيٌ وَلَمْ يَسُقْهُ، وَكَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً
(4)
.
القول الثاني: يجب فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يَسُق الهَدْي؛ لأن الرَّسُولَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:«اجْعَلُوهَا عُمْرَةً» والأمر للوجوب
(5)
.
ونوقش بأن هذا الأمر للاستحباب، والقول بالوجوب قول شاذ.
القول الثالث: يَحرم فسخ وتحويلُ النية من الإحرام بالحج إلى العمرة لمن لم يَسُق الهَدْي. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية
(6)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمأثور:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
وأما السُّنة، فاستدلوا بعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ»
(7)
فهذا الحديث يُحَرِّم فسخ وتحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة.
(1)
قال ابن قُدامة: أَمَّا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ، وَيَجْعَلَهُ عُمْرَةً، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. «المغني» (5/ 251).
(2)
«المغني» (5/ 251)، و «شرح العمدة» (1/ 457)، و «زاد المعاد» (2/ 184).
(3)
رواه البخاري (1564)، ومسلم (1240).
(4)
«التمهيد» (8/ 355، 356).
(5)
وهو قول الظاهرية، كما في «المُحَلَّى» لابن حزم (7/ 99)، و «زاد المعاد» (2/ 170).
(6)
«المبسوط» (4/ 183)، و «المُنتقَى» (2/ 214)، و «بداية المجتهد» (2/ 98)، و «الحاوي» (4/ 21).
(7)
أخرجه البخاري (319)، ومسلم (1211).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: بِأَنَّ مَنِ اسْتَمَرَّ إِهْلَالُهُ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يُحَوِّلْهُ إِلَى عُمْرَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ، وَكَانَ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِمَّنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ.
الثاني: بما قاله ابن القيم: بِأَنَّ هَذَا الحَدِيثَ غَلِطَ فِيهِ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ، أَوْ أَبُوهُ شُعَيْبٌ، أَوْ جَدُّهُ اللَّيْثُ أَوْ شَيْخُهُ عَقِيلٌ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ مالك ومعمر وَالنَّاسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عروة عَنْهَا، وَبَيَّنُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى أَنْ يَحِلَّ.
وأما المأثور، فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ، أَوْ جَمَعَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، فلم يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ
(1)
. ونوقش: بأن هذا اللفظ مُعَلّ.
والراجح: استحباب فسخ الحج إلى عمرة التمتع لمن كان مُفْرِدًا أو قارنًا، ولا هَدْي معه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر أصحابه عَامَ حَجَّ بِفسخ الحج إلى العُمرة، وقال صلى الله عليه وسلم:«لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» .
(1)
مدار الحديث على عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها. واختُلف عليه:
فرواه أبو الأَسْود محمد بن عبد الرحمن عن عروة، باللفظ المذكور. رواه مسلم (1562).
لكن خولف أبو الأَسْود فى ذلك، فرواه الثقات كالزُّهْري عن عروة بلفظ:«مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» أخرجه البخاري (1556)، ومسلم (1211).
وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، فَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ» أخرجه البخاري (1783)، ومسلم (1211) واللفظ له.
وقد أَنْكَر أحمد رواية أبي الأسود فقال: أيش في هذا الحديث من العجب؟! هذا خطأ. قال الأثرم: فقلت له: الزُّهْري عن عروة عن عائشة بخلافه؟ قال أحمد: نعم، وهشام.
وقد رواه القاسم عن عائشة قالت: خَرَجْنَا لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ. قَالَتْ: فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ:«اجْعَلُوهَا عُمْرَةً» فَأَحَلَّ النَّاسُ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ. رواه مسلم (1211).
وَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا نُرَى إِلَّا الحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ- أَنْ يَحِلَّ. أخرجه البخاري (2952)، ومسلم (1211).
وقالَ ابن القيم: كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي «الصَّحِيحِ» وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَأَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ وَأَسْمَاءُ، وَالبَرَاءُ، وَحَفْصَةُ
…
وَغَيْرُهُمْ. وَفِي اتِّفَاقِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ كُلَّهُمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَأَنْ يَجْعَلُوا الَّذِي قَدِمُوا بِهِ مُتْعَةً، إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ- دَلِيلٌ عَلَى غَلَطِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَوَهْمٍ وَقَعَ فِيهَا. «زاد المعاد» (2/ 186).
المبحث الرابع: شروط التمتع:
وهي قسمان:
القسم الأول: ما يُشترط للتمتع: للتمتع خمسة شروط:
الشرط الأول: أن يُحْرِم بالعمرة في أشهر الحج:
أَجْمَع العلماء على أن مَنْ اعتمر في غير أشهر الحج، وحَلَّ منها قبل أَشْهُر الحج ثم حج من عامه، فليس بمتمتع
(1)
.
الشرط الثاني: تقديم العمرة على الحج:
يُشترط تقديم العُمرة على الحج؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] فيجب أن يَكُون ما بعدها مُتأخِّرًا عما قبلها.
الشرط الثالث: يُشترَط للتمتع أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج.
فمَن خَرَجَتْ متمتعة من الميقات، فقالت:(لبيك عُمرة) فأتاها الحيض قبل أن تطوف، وجاء يوم عرفة، فليس لها أن تتمتع بسبب المشقة وعدم القدرة على إتمام نسك العمرة قبل دخول الحج، فحينئذٍ تَقرن بين الحج والعمرة
(2)
.
الشرط الرابع: يُشترَط في التمتع أن تؤدى العمرة والحج في عام واحد:
فإن اعتمر في أشهر الحج فلم يحج ذلك العام، بل حج في القابل، فليس بمتمتع
(3)
.
(1)
نَقَله ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 49)، وابن عبد البر في «التمهيد» (8/ 347)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 353). وهذا الإجماع منخرم؛ فقد ورد عن الحسن أن مَنْ حج مُفرِدًا ثم اعتمر بعد يوم النحر، وجب عليه الهَدْي؛ لأنه صار متمتعًا. وهذا قول شاذ؛ لأن تأخير العُمْرة عن الحج داخل في التمتع، خلاف ما دلت عليه الآية:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
وعن طاوس، أنه قال: إن مَنْ فرغ من عمرته قبل أشهر الحج، ثم أقام حتى دخل وقت الحج، ثم حج من عامه، فهو متمتع. ونوقش بأن هذا قول شاذ، يخالف الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة.
(2)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 536)، و «مواهب الجليل» (3/ 60)، و «الحاوي» (4/ 40).
(3)
نَقَل الإجماع على ذلك ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 49).
وهذا الإجماع منخرم، فقد ورد عن الحسن البصري وطاوس أن مَنْ اعتَمَر في أَشْهُر الحج، فعليه الهَدْي، وإن لم يحج من عامه. وهذا قول شاذ، يخالف الكتاب والسُّنة، فلا يُلتفت إليه. «المغني» (5/ 354).
الشرط الخامس: عدم السفر بين العمرة والحج:
يُشترَط للتمتع أن لا يسافر بين العمرة والحج. وهو قول عامة أهل العلم
(1)
.
واختَلف العلماء على أربعة أقوال في قَدْر المسافة، الذي يَحصل به انقطاع التمتع:
القول الأول: إن عاد إلى بلده بعد أن حل من عمرته في أشهر الحج، قبل الإحرام بالحج، انقطع التمتع، ويكون مُفرِدًا بالحج. وهو مذهب الحنفية والمالكية
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والمأثور والمعقول:
أما الكتاب، فاستدلوا بأن المتمتع يَتمتع بإسقاط أحد السفرين عنه، فهو مُتمتِّع بترك النَّصَب في السَّفَر إلى العُمْرة مَرَّة وإلى الحج أخرى، وتَمَتَّعَ بجَمْعهما، ولم يُحْرِم لكل واحدة من ميقاته، فَدَخَل تحت قول الله عز وجل:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فإذا أَنْشَأَ سفرًا لحجه بعد سفره لعمرته، ورَجَع إلى الميقات ولَزِمه الإحرام منه، فلم يتمتع بإسقاط أحد السفرين، فزال عنه اسم التمتع وسببه، فلم يَلزمه دم
(3)
.
وأما المأثور، فقال عُمَر:«إِذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، فَإِنْ رَجَعَ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ»
(4)
.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يُدْرِكَهُ الْحَجُّ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، إِنْ حَجَّ، وَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ»
(5)
.
وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ،
(1)
قال ابن عبد البر: فَإِنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ وَمَنْزِلِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ وَلَا صِيَامَ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ. «التمهيد» (8/ 345).
(2)
«فتح القدير» (3/ 15). وَقَالَ مَالِكٌ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ، إِنَّمَا الْهَدْيُ عَلَى مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ. «المُنتقَى» (2/ 232)، و «مواهب الجليل» (4/ 82).
(3)
«أضواء البيان» (5/ 124)، و «المغني» (5/ 355).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (13006): عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، به.
(5)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (980). قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ إِذَا أَقَامَ حَتَّى الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ.
فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، إِنَّمَا الْمُتَمَتِّعُ مَنْ أَقَامَ وَلَمْ يَرْجِعْ»
(1)
.
وأما المعقول، فاستدلوا بأمرين:
الأول: ما قاله ابن المنذر: إذا رجع إلى بلده أو إلى مثله في البُعد، فليس بمتمتع إن حج من عامه. خلافًا لما يُحكى عن الحسن. ولأن ما قلنا مروي عن ابن عمر، ولا مُخالِف له. ولأن المتمتع مَنْ تَمتَّع بإسقاط أحد السفرين وجَمَع بين الحج والعمرة في سفر واحد، وهذا لم يَفعل ذلك، بل أتى بالسفرين على ما كان عليه في الأصل
(2)
.
الثاني: ما قاله ابن قُدامة: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ إذْ قَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وَلِأَنَّ حَاضِرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِيقَاتُهُ مَكَّةُ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّرَفُّهُ بِأَحَدِ السَّفَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُفْرِدَ
(3)
.
القول الثاني: إن سافر وتجاوز الميقات بعد أن حل من عمرته في أشهر الحج، قبل الإحرام بالحج، انقطع التمتع، وهذا قول عند الشافعية، ورواية للحنابلة
(4)
.
القول الثالث: إن سافر بين العمرة والحج سفرًا بعيدًا تُقْصَر في مثله الصلاة، انقطع التمتع. وهذا قول عند الحنابلة في الراجح عنهم
(5)
.
القول الرابع: إن اعتَمَر في أَشْهُر الحج، ثم رَجَع إلى بلده ومنزله، ثم حج مِنْ عامه ذلك، قال الحسن البصري: فإنه مُتَمَتِّع.
والحاصل: أن الأئمة الأربعة متفقون على أن السفر بَعْد العُمرة، وقَبْل الإحرام بالحج- مُسْقِط لدم التمتعِ. إلا أنهم مختلفون في قَدْر المسافة: فمنهم مَنْ يقول: لا بد أن يَرجع بعد العمرة في أشهر الحج إلى المَحَل الذي جاء منه، ثم يُنشِئ سفرًا لِلحج ويُحْرِم
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (13008): ثَنَا حَفْصٌ، عَنْ أَشْعَثَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، بِهِ.
(2)
«الإشراف» (1/ 466).
(3)
«المغني» (5/ 355).
(4)
«المجموع» (7/ 174)، و «الإنصاف» (3/ 313).
(5)
«المغني» (5/ 355). قال عبد الله: سأَلتُ أبي، قلت: إذا اعتَمَر في أشهر الحج، ثم رَجَع إلى أهله، ثم حج؟ قال: إذا سافر سفرًا يَقصر فيه الصلاة، فليس بمتمتع. «مسائل أحمد» (ص: 219).
مِنْ الميقات. وقيل: إن سافر وتجاوز الميقات بين العمرة والحج، انقطع التمتع. وقيل: إن سافر بين العمرة والحج سفرًا تُقْصَر في مثله الصلاة.
والراجح: يُشترَط للتمتع أن لا يسافر إلى بلده بين العمرة والحج، فمَن اعتمر في أشهر الحج ورجع لأهله، ثم إذا أَحْرَم بالحج مُفردًا فقد انقطع التمتع، ولا يجب عليه الهَدْي، ويكون مُفرِدًا بالحج؛ لأن الأصل في السفر مفارقة الوطن، فمَن اعتمر في أشهر الحج ورجع لأهله فقد انقطع التمتع.
أما مَنْ اعتَمر في أشهر الحج، ثم سافر إلى غير بلده، كالمدينة أو جدة أو الطائف، ثم رجع مُحْرِمًا بالحج، فإن ذلك لا يُخرجه عن كونه متمتعًا؛ لأن سفره إلى البلد الآخَر استمرار لسفره الأول، وليس قاطعًا للسفر
(1)
.
المبحث الخامس: ما لا يُشترَط للتمتع، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: لا يُشترَط أن ينوي التمتع في ابتداء العمرة أو في أثنائها.
اختَلف أهل العلم في اشتراط نية التمتع في ابتداء العمرة أو في أثنائها على قولين:
القول الأول: لا تُشترَط نية التمتع. وبه قال الحنفية والمالكية، وهو قول للشافعية
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
قال الشنقيطي: الظاهر سقوط هذا الشرط، وأنه متى حج بعد أن اعتمر في أشهر الحج من تلك السَّنة، فعليه الهَدْي؛ لظاهر الآية فتخصيصه بالنية تخصيص للقرآن، بل دليل
(3)
.
القول الثاني: يُشترَط نية التمتع. وهذا مذهب الشافعية في وجه، والحنابلة
(4)
.
(1)
قال ابن باز: مَنْ اعتَمَر في أشهر الحج، ورجع لأهله، ثم أَحْرَم بالحج مُفرِدًا، فليس عليه دم التمتع؛ لأنه في حُكم مَنْ أَفْرَد الحج، وهو قول عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وغيرهما من أهل العلم.
أما إن سافر إلى غير بلده، كالمدينة أو جدة أو غيرهما، ثم رجع مُحْرِمًا بالحج، فإن ذلك لا يُخْرِجه عن كونه متمتعًا في أصح قولَي العلماء، وعليه هَدْي التمتع. «مجموع فتاوى ابن باز» (16/ 130).
(2)
«فتح القدير» (3/ 4)، و «الذخيرة» (3/ 293)، و «المجموع» (7/ 178).
(3)
أضواء البيان» (5/ 125).
(4)
«المجموع» (7/ 174)، و «الإنصاف» (3/ 313).
قال النووي: يَحتاج إلى نية التمتع؛ لأنه جَمَع بين العبادتين في وقت إحداهما، فافتقر إلى نية الجَمْع، كالجَمْع بين الصلاتين
(1)
.
المطلب الثاني: لا يُشترَط كون الحج والعمرة عن شخص واحد:
فلو اعتَمَر لنفسه، ثم حج من عامه لغَيْره، أو فَعَل ذلك عن اثنين، فاعتَمر لشخص، ثم حَجّ مِنْ عامه عن آخَر، كان عليه دم التمتع. وهذا باتفاق المذاهب الأربعة
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: أن مُؤدِّي النُّسكين شخص واحد في سفرة واحدة، فتَمتَّع بإسقاط أحد السفرين، فدَخَل في عموم الآية.
المطلب الثالث: لا يُشترط أن يكون من أهل الحَرَم:
وفيه مسألتان:
الأولى: اختَلف العلماء في مشروعية القِران والتمتع للمقيم في حرم مكة، على قولين:
القول الأول: جواز التمتع والقِران لحاضري المسجد الحرام (للمقيمين في حرم مكة) إلا أنه لا هَدْي عليهم. وهو مذهب المالكية والشافعية، والمشهور عن الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والمعقول:
أما الكتاب، فبعموم قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: أن قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} فعليه الهَدْي إذا لم يكن مِنْ حاضري المسجد. فإن كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم، فهذا ظاهر الآية، فلا يُعْدَل عنه، فدلت الآية على
(1)
«المجموع» (7/ 174).
(2)
«حاشية الدسوقي» (2/ 30)، و «المجموع» (7/ 177)، و «الإنصاف» (3/ 313).
(3)
«مواهب الجليل» (3/ 56)، و «المجموع» (7/ 169)، و «الإنصاف» (3/ 443).
أن التمتع والقِران مشروعان لأهل حرم مكة كغيرهم، إلا أنهم لا هَدْي عليهم، ولا صوم.
واعتُرض عليه بأنه لو كان المراد إسقاط الدم عن أهل مكة، لقال:(ذلك على مَنْ لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) لأن الدم عليهم لا لهم.
وأجيب عنه من وجهين:
الأول: بأن (اللام) بمعنى (عَلَى) كما في قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي: فعليها. وقولِه تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] أي: عليهم؛ لأن حروف الجر تتناوب
(1)
.
الثاني: ما قاله ابن حزم: إِنَّ الْهَدْيَ أَوِ الصَّوْمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ- تَعَالَى- فِي التَّمَتُّعِ إنَّمَا هُوَ نُسُكٌ زَائِدٌ وَفَضِيلَةٌ، وَلَيْسَ جَبْرًا لِنَقْصٍ كَمَا ظَنَّ مَنْ لَا يُحَقِّقُ؛ فَهُوَ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ
(2)
.
وأما المعقول، فإن ما كان مِنْ النُّسك قُرْبة وطاعة في حق غَيْر المكي، كان قُرْبة وطاعة في حق المكي، كالإفراد
(3)
.
القول الثاني: أن المكي الذي يريد الحج ممنوع من العمرة في أشهر الحج؛ لأنه ممنوع من التمتع والقِران. وهو مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد
(4)
.
واستدلوا بأن الله تعالى أباح التمتع إلا لمن كان أهله حاضري المسجد الحرام خاصة؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ومفهوم الآية أن مَنْ كان أهله حاضري المسجد الحرام، فالتمتع والقِران منفيان في حقه، والأصل في النفي أن يكون للوجود، ونَفْي الوجود نفي للصحة، فالتمتع والقِران لا يصحان من أهل الحرم
(5)
.
(1)
«المجموع» (7/ 170).
(2)
«المُحَلَّى بالآثار» (5/ 160).
(3)
«المجموع» (7/ 169).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 169)، و «الفروع» (3/ 314)، و «الإنصاف» (3/ 443).
(5)
«شرح فتح القدير» (3/ 10، 11).
ونوقش بأن الإشارة في الآية (ذلك) ترجع إلى أقرب مذكور، وهو الصوم والهَدْي. وقوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] هذا عامّ في أهل مكة وغيرهم {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فالهَدْي يجب على كل متمتع، إلا مَنْ تمتع أو قَرَن من أهل مكة.
واستدلوا بما رُوي عن ابن عباس، أنه سُئِلَ عن متعة الحج، فقال: أَبَاحَ الله مُتْعَةَ الحَجِّ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]
(1)
.
وقد سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ امْرَأَةٍ: أَتَعْتَمِرُ فِي حَجَّتِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا رُخْصَةً لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
(2)
.
والراجح: هو جواز التمتع والقِران لأهل مكة إلا أنهم لا هَدْي عليهم؛ لعموم الآية. ولأن حقيقة التمتع والقِران موجودة في حاضري المسجد الحرام، كالآفاقيين، ولا فرق. وإنما يقع الخلاف بينهم في وجوب الدم على الآفاقيين دون حاضري المسجد الحرام؛ بسبب ما حصل للآفاقيين من الترفه بسقوط أحد السفرين عنهم، والله أعلم.
المسألة الثانية: مَنْ هم حاضرو المسجد الحرام؟
اختَلف الفقهاء على أربعة أقوال في المراد بحاضري المسجد الحرام:
القول الأول: هم أهل الحَرَم. وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وطاوس
(3)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] فلم يختلفوا في أنه تعالى أراد الحَرَم كله
(4)
.
(1)
البخاري (1572).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1810)، وفي إسناده عُبَيْد الله بن الحارث، قال فيه أبو حاتم: صدوق. وفي إسناده أيضًا عبد المؤمن بن أبي شُرَاعَة، قال فيه ابن مَعِينٍ: ثقة. وقال يحيى بن سعيد: لم يكن به بأس إذا جاءك بشيء تَعرفه. قلت: فهل يُقْبَل تَفَرُّدُ مَنْ هذا حاله؟!
(3)
يُنظَر «تفسير الطبري» (3/ 110)، و «المغني» (5/ 356)، وبه قال ابن حزم «المُحَلَّى» (5/ 149).
(4)
«المُحَلَّى بالآثار» (5/ 149).
القول الثاني: حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة. وبه قال المالكية
(1)
.
القول الثالث: ما كان دون مسافة القَصْر. وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(2)
.
القول الرابع: أنهم أهل المواقيت ومَن بينها وبين مكة. وهو مذهب الحنفية، وقول للشافعية، ورواية عن أحمد
(3)
.
والراجح: أن حاضري المسجد الحرام هم أهل الحَرَم
(4)
.
المبحث السادس: أعمال التمتع:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: طواف المتمتع:
حُكي الإجماع على أن المتمتع عليه طوافان: طواف لعمرته، وطواف لحجه
(5)
.
المطلب الثاني: الهَدْي:
يجب على المتمتع دم نسك إذا لم يكن من حاضري المسجد الحرام؛ لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
المبحث السابع: إجزاء التمتع عن الحج والعمرة:
قال ابن قُدامة: وَتُجْزِئُ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ وَعُمْرَةُ الْقَارِنِ، وَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ- عَنِ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي إجْزَاءِ عُمْرَةِ التَّمَتُّعِ خِلَافًا
(6)
.
(1)
«المُنتقَى شرح الموطإ» (2/ 229).
(2)
«المجموع» (7/ 174)، و «المغني» (5/ 356)، و «جامع البيان» (3/ 112).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 169)، و «المجموع» (7/ 175)، و «شرح العمدة» (2/ 365).
(4)
«فتاوى اللجنة الدائمة» (11/ 390).
(5)
قال ابن رُشْد: وَأَجْمَعُوا أَنَّ مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ أَنَّ عَلَيْهِ طَوَافَيْنِ: طَوَافًا لِلْعُمْرَةِ لِحِلِّهِ مِنْهَا، وَطَوَافًا لِلْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَشْهُورِ. «بداية المجتهد» (2/ 109).
قلت: ولكن هذا الإجماع منخرم؛ فقد وردت رواية عن أحمد أن المتمتع يكفيه طواف واحد لحجه وعمرته. «مجموع الفتاوى» (26/ 39) وهو قول شاذ لمخالفته صريح السُّنة.
(6)
«المغني» (5/ 15). وتجزئ عمرة القارن والعمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام في أصح الروايتين. أما عمرة المتمتع، فتجزئ عنها بغير خلاف نَعلمه. «المبدع» (3/ 186).
الفصل الرابع: الاشتراط في الحج والعمرة:
وفيه تمهيد، وثلاثة مباحث:
تمهيد:
تعريف الاشتراط وفائدته:
قال ابن قُدامة: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكٍ أَنْ يَشْتَرِطَ عِنْدَ إحْرَامِهِ، فَيَقُولَ:(إنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ، فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي).
وَيُفِيدُ هَذَا الشَّرْطُ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا عَاقَهُ عَائِقٌ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، أَنَّ لَهُ التَّحَلُّلَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى حَلَّ بِذَلِكَ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا صَوْمَ
(1)
.
المبحث الأول: حُكْم الاشتراط في الحج والعمرة:
اختَلف أهل العلم على قولين في صحة الاشتراط في الحج والعمرة:
القول الأول: يصح الاشتراط. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا:«لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الحَجَّ؟» قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً! فَقَالَ لَهَا: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي»
(3)
.
وأما المأثور، فعن سُوَيْد بن غَفَلة قال: قال لي عمر بن الخطاب: يا أبا أُمية، حُج واشتَرِط؛ فإن لك ما اشترطتَ، ولله عليك ما اشترطتَ
(4)
.
(1)
«المغني» (5/ 93).
(2)
«الأم» (3/ 397)، و «المجموع» (8/ 310)، و «المغني» (5/ 93).
(3)
رواه البخاري (5089)، ومسلم (1207).
(4)
إسناده صحيح: رواه الشافعي في «الأم» (8/ 509) ومن طريقه البيهقي في «السُّنن الكبرى» (10211).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إِذَا حَجَجْتَ فَاشْتَرِطْ
(1)
.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة: هَلْ تَسْتَثْنِي إِذَا حَجَجْتَ؟ فَقُلْتُ لَهَا: مَاذَا أَقُولُ؟ فَقَالَتْ: قُلْ: اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ وَلَهُ عَمَدْتُ، فَإِنْ يَسَّرْتَهُ فَهُوَ الْحَجُّ، وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَهِيَ عُمْرَةٌ
(2)
.
القول الثاني: لا يصح الاشتراط. وهذا مذهب الحنفية والمالكية
(3)
.
واستدلوا بالقرآن والمأثور:
أما القرآن، فاستدلوا بقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فالاشتراط يخالف هذه الآية، فيَجوز عدم الإتمام فهو باطل.
وأما المأثور، فاستدلوا بما ورد عن ابن عمر، أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ الاِشْتِرَاطَ فِي الحَجِّ، وَيَقُولُ: حَسْبُكُمْ سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، فَإِنْ حَبَسَ أَحَدَكُمْ حَابِسٌ، فَلْيَأْتِ البَيْتَ فَلْيَطُفْ بِهِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ لِيَحْلِقْ أَوْ ليُقَصِّرْ، ثُمَّ لِيُحْلِلْ، وَعَلَيهِ الحَجُّ مِنْ قَابِلٍ
(4)
.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: ما قاله ابن قُدامة: وَلَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ؟! وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدِيثٌ لَكَانَ قَوْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ مَعَ مَنْ قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ- أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ
(5)
.
الثاني: ما قاله البيهقي: عِنْدِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَوْ بَلَغَهُ حَدِيثُ ضُبَاعَةَ فِي الِاشْتِرَاطِ، لَمْ يُنْكِرْهُ كَمَا لَمْ يُنْكِرْهُ أَبُوهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ السُّنَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ
(6)
.
(1)
إسناده ضعيف: رواه ابن أبي شيبة (14968). وفي إسناده عَمِيرة بن زياد، وهو مجهول، لم يوثقه سوى العِجْلي، وذَكَره ابن حِبان في «الثقات» وهما متساهلان في توثيق المجاهيل.
(2)
إسناده صحيح: رواه الشافعي في «مسنده» (813) من طريق ابن عُيَيْنة، عن هشام بن عُروة، به.
(3)
قَالَ مَالِكٌ: الِاشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ بَاطِلٌ، وَيَمْضِي عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يُتِمَّهُ عَلَى سُنَّتِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ:(مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسَتْنِي) وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، والنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ. «الاستذكار» (13/ 362).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه النَّسَائي (2770) من طريق مَعْمَر، عن الزُّهْري، عن سالم، عن أبيه، به.
(5)
«المغني» (5/ 93).
(6)
«المجموع» (8/ 309).
المبحث الثاني: متى يُشْرَع الاشتراط؟
يُستحَب الاشتراط إذا خاف المانعَ من إتمام النسك.
فإن خاف المُحْرِم ألا يتمكن من أداء نسكه؛ لكونه مريضًا أو خائفًا من عدو ونحوه، استُحب له أن يقول عند إحرامه:(فإن حبسني حابس، فمَحِلي حيث حبستَني) لِما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«حُجِّي، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي»
(1)
.
قال ابن عثيمين: فالاشتراط سُنة لمَن كان يَخاف المانع من إتمام النسك، غير سُنة لمَن لم يَخَفْ. وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي تجتمع به الأدلة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أَحْرَم بعُمَره كلها، ولم يقل:(إِنْ حَبَسني حابس)، بل أَمَر به مَنْ جاءت تستفتي؛ لأنها مريضة، وتَخشى أن يشتد بها المرض فلا تُكمل النُّسك
(2)
.
المبحث الثالث: صيغة الاشتراط:
صيغة الاشتراط أن يُهِل بالنسك الذي يريده من عمرة أو حجة، فيقول:(لبيك اللهم عمرة، أو حجة)، ثم يقول:(إِنْ حَبَسني حابس، فمَحِلي حيث حبستَني)
(3)
.
قال ابن قُدامة: وَغَيْرُ هَذَا اللَّفْظِ مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَالْعِبَارَةُ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ لِتَأْدِيَةِ الْمَعْنَى
(4)
.
(1)
رواه مسلم (1207).
(2)
«الشرح الممتع» (7/ 72)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 106)، و «إعلام المُوقِّعين» (3/ 426).
(3)
«مغني المحتاج» (2/ 315)، و «كشاف القناع» (2/ 409).
(4)
«المغني» (5/ 94).
الحاصل في الباب الخامس: أنواع الأنساك الثلاثة،
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول، وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: أنساك الحج ثلاثة:
الأول: الإفراد، وهو أن يُحْرِم بالحج مُفرِدًا وحده، بأن يقول:(لبيك حجًّا).
الثاني: القِران، وهو أن يُحْرِم بالعمرة والحج معًا في نُسك واحد، فيقول:(لبيك عمرة وحجًّا) أو يُحْرِم بالعمرة، ثم يُدْخِل عليها الحج قبل الطواف.
الثالث: التمتع، وهو أن يُحْرِم بالعمرة مُفرَدة في أشهر الحج، أي: في شَوَّال، وذي القعدة، وذي الحجة، ويقول:(لبيك عمرة)، ثم يحل منها، ثم يُحْرِم بالحج من عامه.
المبحث الثاني: نُقِل الإجماع على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة.
المبحث الثالث: الراجح أنه صلى الله عليه وسلم حج قارنًا.
المبحث الرابع: التمتع أفضل الأنساك الثلاثة لمَن لم يَسُق الهَدْي.
المبحث الخامس: يُستحب أن يُعيِّن ما يُحْرِم به من الأنساك عند أول إهلاله.
المبحث السادس: الإحرام المُبْهَم فإذا أَحْرَم ولم يُعيِّن نسكه، فإنه ينعقد إحرامه، ويصرفه إلى ما شاء من أنواع النسك قبل شروعه في أفعال النسك.
المبحث السابع: مَنْ لَبَّى بغير ما نوى، كأن يَنوي التمتع، ويَجري على لسانه الإفراد، ونحو ذلك، فإنه يكون مُحْرِمًا بما نوى، لا بما جرى على لسانه.
المبحث الثامن: نسيان ما أَحْرَم به، ذهب جمهور العلماء إلى مَنْ أَحْرَم بشيء معين، ثم نسي ما أَحْرَم به، فإنه يَلزمه حج وعمرة، ويَعمل عمل القارن.
الفصل الثاني: الإفراد والقِران في الحج، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الإفراد في الحج: أن يُحْرِم بالحج مُفْرَدًا، فيقول:(لبيك اللهم حجًّا)
المبحث الثاني: القِران في الحج، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف القِران:
المطلب الثاني: صور القران: للقِران ثلاث صور:
الصورة الأولى: صورة القِران الأصلية: أن يُحْرِم في الميقات بالعمرة والحج معًا، فيقول:(لبيك عمرة وحجًّا).
الصورة الثانية: إدخال الحج على العمرة، وفيها مطلبان:
المطلب الأول: لو نَوَى الحاج التمتع، فأَحْرَم بعمرة مُفرَدة، فيَجوز له أن يُدخِل عليها الحج قبل الشروع في الطواف. وهذا جائز مطلقًا. وقد يُضطر إلى ذلك، مِثل مَنْ خَرَجَتْ متمتعة من الميقات فقالت:(لبيك عمرة) فأتاها الحيض قبل أن تطوف، فلها أن تَقرن.
المطلب الثاني: متى يَجوز إدخال الحج على العمرة؟
نُقل الإجماع على جواز إدخال الحج على العمرة، ما لم يَفتتح الطواف.
الصورة الثالثة: إدخال العمرة على الحج، أن يُحْرِم بالحج مُفرِدًا، ثم يُدخِل عليه العمرة، فيكون قارنًا.
الفصل الثالث: التمتع في الحج، وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف التمتع:
التَّمَتُّعُ: هُوَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ، فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ.
المبحث الثاني: سبب تسمية هذا النسك بالتمتع:
ورد في ذلك سببان:
الأول: أن المتمتع يتمتع بإسقاط أحد السفرين عنه، فهو مُتمتع بترك النَّصَب في السفر إلى العُمْرة مَرَّة وإلى الحج أُخرى، وتَمَتَّعَ بجَمْعهما في سَفْرة واحدة.
الثاني: أن المتمتع يتمتع بين العمرة والحج بمحظورات الإحرام.
المبحث الثالث: صور التمتع.
للتمتع صورتان:
الأولى: أن يُحْرِم بالعمرة في أشهر الحج، فإذا فَرَغ منها أَحْرَمَ بالحج مِنْ عامه.
الثانية: يُستحب فسخ إحرام الحج إلى عمرة التمتع لمن لم يَسُق الهَدْي، فإذا فَرَغ من العمرة وحَلّ منها، أَحْرَم بالحج من مكة فيصير متمتعًا.
المبحث الرابع: شروط المتمتع:
للتمتع خمسة شروط:
الأول: أن يُحْرِم بالعمرة في أشهر الحج.
الثاني: أن يُقَدِّم العُمْرة على الحج.
الثالث: أن يَحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج.
الرابع: أن يُؤدِّي العمرة والحج في عام واحد.
الخامس: أن لا يسافر إلى بلده بين العمرة والحج، فمَن اعتمر في أشهر الحج ورجع لأهله، ثم إذا أَحْرَم بالحج مُفرِدًا؛ فقد انقطع التمتع، ولا يجب عليه الهَدْي، ويكون مُفرِدًا بالحج؛ لأن الأصل في السفر مفارقة الوطن.
المبحث الخامس: ما لا يُشترَط للتمتع: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: لا يُشترَط أن يَنوي التمتع في ابتداء العمرة أو في أثنائها، فمَن اعتَمر في أشهر الحج ثم حل، ثم أقام بمكة ثم حج من عامه، فعليه الهَدْي.
المطلب الثاني: لا يُشترَط كون الحج والعمرة عن شخص واحد، فلو اعتَمَر لنفسه، ثم حج مِنْ عامه لغيره، كان عليه دم التمتع لعموم الآية.
المطلب الثالث: لا يُشترَط ألا يكون من حاضري المسجد الحرام، فيَجوز التمتع والقِران لأهل مكة إلا أنهم لا هَدْي عليهم.
الفصل الرابع: الاشتراط في الحج والعمرة:
يُستحَب الاشتراط إذا خاف المانعَ من إتمام النسك.
فالحاصل في هذا الفصل: أن المُحْرِم إذا خاف ألا يتمكن من أداء نسكه لكَوْنه مريضًا أو خائفًا من عدو ونحوه- استُحب له أن يقول عند إحرامه بعد قوله: (لبيك اللهم عمرة، أو حجًّا، مُفرِدًا أو قارنًا أو متمتعًا): (فإِنْ حَبَسني حابس، فمَحِلي حيث حبستَني).
فائدة الاشتراط: أنه إذا حُبِس عن النسك بعذر، فإنه يَحل منه، وليس عليه هَدْي ولا صوم ولا قضاء ولا غيره.
* * *
الباب السادس الإحرام
وفيه تمهيد وثلاثة فصول:
التمهيد، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الإحرام.
المبحث الثاني: حُكْم الإحرام.
المبحث الثالث: مِنْ حِكَم تشريع الإحرام.
الفصل الأول: سُنن الإحرام.
الفصل الثاني: محظورات الإحرام.
الفصل الثالث: الفدية المتعلقة بمحظورات الإحرام.
تمهيد،
بين يدي الإحرام،
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول: تعريف الإحرام:
الإحرام في اللغة: الدخول في الحرمة، وأَحْرَم بالحج والعمرة لأنه يَحرم عليه ما كان حلالًا من قبل، كالصيد والنِّساء، كتكبيرة الإحرام للمصلي
(1)
.
والإحرام في الشرع: هو نية الدخول في نسك الحج أو العمرة أو كليهما
(2)
.
المبحث الثاني: حُكْم الإحرام:
انعقد الاجماع على فرضية الإحرام
(3)
.
واختَلف العلماء على قولين في حُكم الإحرام، هل هو ركن أم شرط؟
القول الأول: أن الإحرام ركن، ولا يَتم الحج إلا به؛ لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وبه قال المالكية والشافعية، وهو المشهور عند الحنابلة
(4)
.
القول الآخَر: أن الإحرام شرط من شروط الحج وليس ركنًا، وأن الإحرام لا يَتم إلا بالتلبية. وهو مذهب الحنفية، ورواية عند الحنابلة
(5)
.
والراجح: أن الإحرام أول ركن من أركان الحج، كتكبيرة الإحرام أول ركن من أركان الصلاة؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات» فلا يصح حج إلا بنية، والإحرام هو نية الدخول في النسك.
(1)
«المصباح المنير» ، و «لسان العرب» (مادة: حرم)، و «الصحاح» (5/ 1897).
(2)
«مواهب الجليل» (3/ 15)، و «نهاية المحتاج» (3/ 264)، و «الفروع» (5/ 286).
(3)
قال ابن تيمية: أَمَّا النِّيَّةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَا، كَمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. «مجموع الفتاوى» (26/ 22). ونَقَل الإجماع ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 42).
(4)
«حاشية الدسوقي» (2/ 21)، و «نهاية المحتاج» (3/ 264)، و «كشاف القناع» (2/ 521).
(5)
«حاشية رد المحتار» (2/ 467)، و «شرح فتح القدير» (2/ 436)، و «الإنصاف» (3/ 430).
المبحث الثالث: مِنْ حِكَم تشريع الإحرام:
الأولى: إِنَّ مِنْ أعظم فوائد العبادات التي شَرَعها الله لعباده- أنها تَغرس في نفوسهم الطاعة والاستسلام لله، واستشعار تعظيم الله عز وجل، والنظام وحُسْن الترتيب في شئون الحياة، والمحافظة على الوقت وعلى المواعيد والدقة في الوفاء بها.
يَظهر ذلك واضحًا في توقيت الصلاة، والصيام إمساكًا وإفطارًا، وكذا جَعَل الله عز وجل للحج والعمرة والإحرام بهما أوقاتًا موقوتة وأماكن مُعيَّنة، يجب ألا يتعداها المسلم، ومَن تعداها كان مُخالِفًا ومتعديًا، وتَلزمه كفارة تذكيرًا له لئلا يتكرر ذلك منه.
الثانية: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ: الْبُعْدُ عَنِ التَّرَفُّهِ، وَالِاتِّصَافُ بِصِفَةِ الْخَاشِعِ، وَلِيَتَذَكَّرَ بِالتَّجَرُّدِ الْقُدُومَ عَلَى رَبِّهِ، فَيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى مُرَاقَبَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ
(1)
.
الثالثة: مِنْ حِكَم عدم حصر الإحرام في مكان واحدٍ رَفْع الحرج عن المكلفين، فقد جَعَل الله عز وجل للحج خمسة أماكن متفرقة من كل جهات الحَرَم، ولم يَحصرها في مكان واحد؛ إذ لو حَصَرها في مكان واحد لوقع الناس في حرج عند الاجتماع إلى هذا الميقات وفي تَحَمُّل المشاق، والله قد رفع عن عباده الضِّيق والحرج.
(1)
«فتح الباري» (3/ 404)، و «مغني المحتاج» (1/ 519)، و «الموسوعة الكويتية» (2/ 129).
وأيضًا مِنْ حِكم الإحرام ما قاله الكاساني: وَفِي الْحَجِّ إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ:
أَمَّا إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَلِأَنَّ إِظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ إِظْهَارُ التَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ. وَفِي الْحَجِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ يُظْهِرُ الشَّعَثَ، وَيَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّزَيُّنِ، وَالِارْتِفَاقِ، وَيَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ عَبْدٍ سَخِطَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ مَوْلَاهُ، وَمَرْحَمَتِهِ إِيَّاهُ. وَفِي حَالِ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَصَى مَوْلَاهُ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَضَرِّعًا حَامِدًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ، مُسْتَغْفِرًا لِزَلَّاتِهِ مُسْتَقِيلًا لِعَثَرَاتِهِ. وَبِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ يُلَازِمُ الْمَكَانَ الْمَنْسُوبَ إِلَى رَبِّهِ، بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُعْتَكِفٍ عَلَى بَابِ مَوْلَاهُ لَائِذٍ بِجَنَابِهِ.
وَأَمَّا شُكْرُ النِّعْمَةِ، فَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا بَدَنِيَّةٌ وَبَعْضُهَا مَالِيَّةٌ، وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ، فَكَانَ فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَتَيْنِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ إِلَّا اسْتِعْمَالُهَا. «بدائع الصنائع» (2/ 118).
الفصل الأول: سُنن الإحرام:
الأولى: النزول في المواقيت المكانية.
الثانية: الاغتسال.
الثالثة: الإحرام في إزار ورداء ونعلين.
الرابعة: التطيب في البدن.
الخامسة: الإحرام عقب صلاة.
السادسة: يبتدئ بالإحرام والتلبية إذا ركب السيارة وابتدأ المسير من الميقات.
السابعة: الإكثار من التلبية.
السُّنة الأولى: النزول في المواقيت المكانية:
يُستحَب النزول في المواقيت المكانية للإحرام منها؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ» يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الحُلَيْفَةِ
(1)
.
السُّنة الثانية: الاغتسال:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الاغتسال للمُحْرِم:
يُستحب الاغتسال عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة من الميقات، ولا يجب هذا الاغتسال، وإنما هو سُنة مُتأكَّدة بالإجماع
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (1186).
(2)
قال النووي: اتَّفق العلماء على أنه يُستحب الغُسل عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة أو بهما. «المجموع» (7/ 212). وكذا نَقَله ابن المُنْذِر «المغني» (5/ 75).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ
(1)
.
واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر أسماء بنت عُمَيْس بالاغتسال لما وَلَدَتْ، وإذا كانت النُّفَساء لا تنتفع من غسلها في استباحة العبادة كالصلاة، ومع ذلك أَمَرها النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال؛ فاغتسال المُحْرِم الطاهر من باب أَوْلَى.
ويُستحب للمُحْرِم حَلْق العانة ونَتْف الإبط وقص الشارب وتقليم الأظفار؛ لأنه إذا كان يُستحب الغُسل للتنظف فهذا يَدخل في عموم التنظف للإحرام. ولأن الإحرام يَمنع قص الشَّعر وقَلْم الأظفار، فاستُحب فعله قبله؛ لئلا يَحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه.
المطلب الثاني: يُسَن اغتسال الحائض والنُّفَساء للإحرام:
يُسَن بالإجماع للحائض والنُّفَساء الغُسل للإحرام
(2)
.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «
…
فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: «اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي» .
المطلب الثالث: استحباب تلبيد الرأس:
يُستحَب للمُحْرِم بعد غُسْل الإحرام أن يُلبِّد رأسه
(3)
.
(1)
رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (15847)، والبَزَّار (6158): عن حُمَيْد، عن بكر بن عبد الله، به.
قال ابن حجر: هو إسناد صحيح. انظر «إتحاف المَهَرة» (9371).
وقد رود عن ابْنَ عُمَرَ من فعله أنه كَانَ يَغْتَسِلُ لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، عند مَالِكٍ (900)، عَنْ نَافِعٍ، به.
وله شواهد، منها: عن زيد بن ثابت، عند الترمذي (845) وفي إسناده عبد الله بن يعقوب، ولا يُعْرَف حاله. وقد تابعه أبو غَزِيَّةَ محمد بن موسى عند الدارقطني (2435) ولكنه ضعيف، والْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ شَاذَانُ، عند البيهقي (8944) ولكن في السند إليه ضعف، ومدار الحديث علي عَبْد الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ وفيه مقال ولا يتحمل مثل هذا المتن.
وفي الباب: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَهُ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
…
» أخرجه الدارقطني (2432) وفي إسناده يعقوب بن عطاء، وهو ضعيف.
وعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ اغْتَسَلَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يُحَرِمَ»
أخرجه الطبراني «الأوسط» (4889). وفي إسناده: خَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ، وهو متروك الحديث.
(2)
«التمهيد» (19/ 315)، و «شرح النووي» (8/ 133).
(3)
التَّلْبِيدُ: أَنْ يَجْعَلَ فِي رَأْسِهِ شَيْئًا مِنَ الصَّمْغِ أَوْ نَحْوِهِ؛ حَتَّى يَجْتَمِعَ شَعْرُهُ وَيَتَلَبَّدَ، فَلَا يَتَخَلَّلَهُ الْغُبَارُ، وَلَا يَقَعَ فِيهِ الدَّبِيبُ وَلَا يَتَشَعَّثُ فِي مُدَّةِ الْإِحْرَامِ. «شرح السُّنة» (7/ 79)، و «المجموع» (7/ 220).
ودل على ذلك السُّنة والإجماع والمعقول:
أما السُّنة، فَعَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ- يَعْنِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَمَا يَمْنَعُكَ؟ فَقَالَ: «لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَسْتُ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي»
(1)
.
وأما الإجماع فقال النووي: في الحديث استحباب التلبيد وتقليد الهَدْي، وهما سُنتان بالاتفاق
(2)
.
وأما المعقول، فلأن ذلك أرفق به؛ لكَوْنه يُسَكِّن شعره ويَجمعه، فلا يتولد فيه القمل، ولا يتخلله الغبار، ولا يتشعث، ولا ينتفش في مدة الإحرام.
السُّنة الثالثة: الإحرام في إزار ورداء ونعلين:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: يُستحب الإحرام في إزار ورداء ونعلين.
لِما رَوَى البخاري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ، بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ
(3)
.
قال النووي: السُّنَّةُ أَنْ يُحْرِمَ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ، هَذَا مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ
(4)
.
المطلب الثاني: ويُستحب أن يكون الإزار والرداء نظيفين.
فإذا كان يُستحب للمُحْرِم أن يتنظف في بدنه بالاغتسال، فكذا في ثياب إحرامه.
المطلب الثالث: يُستحب أن يكون الإزار والرداء أبيضين.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ
(1)
رواه البخاري (4398)، ومسلم (1229).
(2)
«شرح مسلم» (8/ 212)، و «شرح السُّنة» (7/ 79).
(3)
أخرجه البخاري (1545).
(4)
«المجموع» (7/ 217)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 109).
ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ»
(1)
.
السُّنة الرابعة: التطيب:
ذهب جمهور العلماء إلى استحباب التطيب في البدن لا في الثياب، قبل الدخول في الإحرام؛ استعدادًا له، ولو بقي جِرمه بعد الإحرام؛ لقول عائشة رضي الله عنها، زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم:«كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» .
السُّنة الخامسة: الإحرام عقب صلاة:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: هل تُسن صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام؟
قال النووي: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ، بِالإِجْمَاعِ
(2)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: يُسن صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، باتفاق المذاهب الأربعة
(3)
.
روى البخاري: عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ»
(4)
.
القول الآخَر: ليس للإحرام صلاة تخصه، فإن كان في وقتِ فريضة استُحب أن يُحْرِم عقيب الصلاة المكتوبة. وهو رواية عن أحمد، واختيار ابن تيمية
(5)
.
والراجح: أنه يُستحَب أن يُحْرِم عقيب صلاة: إما بعد صلاة فرض؛ لِما رَوَى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» .
(1)
إسناده حسن: أخرجه أحمد (2219)، وفي إسناده عبد الله بن خُثَيْم، وهو يُحَسَّن حديثه إذا لم يخالف.
(2)
«المجموع» (7/ 221).
(3)
«البحر الرائق» (2/ 345)، و «الفواكه الدواني» (2/ 795)، و «الإنصاف» (3/ 307).
(4)
رواه البخاري (1534).
(5)
«الإنصاف» (3/ 307). وقال ابن تيمية: ليس للإحرام صلاة تخصه. «مجموع الفتاوى» (26/ 108).
وإن كان وقت تطوع، فإن كان في الميقات مسجد استُحب أن يصليهما فيه؛ لِما رَوَى البخاري: عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا أَرَادَ الخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ ذِي الحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَرْكَبُ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ
(1)
.
السُّنة السادسة: أن يبتدئ بالإحرام والتلبية إذا ركب السيارة أو غيرها، وابتدأ المسير من الميقات:
اختَلف أهل العلم على قولين في تحديد الموضع الذي يبتدئ بالإحرام منه:
القول الأول: يُستحب أن يبتدئ بالإحرام أو بالإهلال (لبيك حجًّا) والتلبية (لبيك اللهم لبيك) إذا رَكِب الدابة أو السيارة أو غيرهما، في ابتداء سيره من الميقات.
وهو مذهب المالكية، والشافعية في الصحيح عنهم، ورواية عند الحنابلة
(2)
.
فعن أنس رضي الله عنه قال: «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ»
(3)
.
(1)
البخاري (1554).
(2)
«حاشية العدوي» (1/ 522)، و «الحاوي» (4/ 81)، و «الإنصاف» (3/ 320).
(3)
هذا الحديث رُوي عن أنس من طرق، وقد اختُلف فيه ألوانًا:
الطريق الأول: أيوب، عن أبي قِلابة، عن أنس، واختُلف في متنه على ثلاثة ألفاظ:
اللفظ الأول: رواه حماد بن زيد عند البخاري (1548)، ومسلم (690)، وابن عُيينة عند أحمد (12083)، ومَعْمَر بن راشد عند عبد الرزاق (4315) ثلاثتهم عن أيوب بلفظ:«صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» .
اللفظ الثاني: رواه عبد الوهاب الثقفي عند البخاري (1547) وزاد فيه: قَالَ: وَأَحْسِبُهُ - بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ. وإسماعيل بن عُلَيَّة عند البخاري (1715) ومسلم (690)، وزاد فيه عند البخاري: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه:«ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ البَيْدَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ» .
اللفظ الثالث: رواه وُهَيْب بن خالد مطولًا عند البخاري (1551)، ومسلم (690). وزاد فيه:«ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ، فَحَلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالحَجِّ. قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ. قلتُ (محمد): لم يُصَرِّح أيوب باسم شيخه. =
=
الطريق الثاني: رواه إبراهيم بن ميسرة، ومحمد بن المُنكدِر- جميعًا- عن أنس بن مالك بهذا الحديث دون آخره، ولفظه:«صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم الظُّهر بالمدينة أربعًا، وبذي الحُليفة العصر ركعتين» فرواه الثوري عند البخاري (1089)، وابن عُيينة عند مسلم (690).
الطريق الثالث: عن محمد بن المُنكدِر وحده، عن أنس به مختصرًا، بنحو الرواية السابقة. فرواه ابن إسحاق عند أحمد (13488)، وعبد العزيز الماجشون عند أبي يعلى (3634)، وعمرو بن الحارث، وأسامة بن زيد، كلاهما عند الطبري في «تهذيب الآثار» (مسند عمر 342، 343، 344)، ومرزوق مولى طلحة الباهلي، وشُعبة، وعبد الحميد بن جعفر، والمنكدر بن محمد، كلهم عند الدارقطني في «العلل» جميعًا- عن ابن المُنكدِر وحده، عن أنس به مختصرًا.
الطريق الرابع: عن الزُّهْري، عن أنس، وذِكْر الزُّهْري في هذا الحديث وهم.
ومدار هذا الطريق على ابن جُريج، واختُلف عليه من وجهين:
الوجه الأول: عن ابن جُريج، عن الزُّهْري، عن أنس، من طريق عيسى بن يونس عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3547)، وتابع ابنَ جُريج أسامة بن زيد الليثي، عند الطبري في «تهذيب الآثار» (مسند عمر، ح 348) وقد اقتَصر على أول الحديث. وأسامة بن زيد صدوق يهم، وقد تركه القطان، وذَكَر أحمد أن في أحاديثه نكارة، ومحمد بن عجلان عند ابن عَدِيّ (6/ 440)، وقد اقتَصر على آخره. وابن عجلان روايته منكرة؛ حيث تَفَرَّد عنه المُؤمَّل. وقد ساق ابن عَدي هذه الرواية في ترجمته، واستنكرها عليه بقوله: لا أعلم روى عن ابن عجلان غير مؤمل. ثم ذَكَر أن عامة أحاديثه غير محفوظة.
الوجه الثاني: عن ابن جُريج، عن محمد بن المُنكدِر، عن أنس بن مالك. وهذه رواية الجماعة، وهم: هشام بن يوسف عند البخاري (1546)، ومحمد بن بكرٍ البُرْسَانِيّ عند أحمد (15040)، كلاهما، وفيه زيادة وهي قوله:«ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ» .
ورواه عبد الرزاق (4320)، وعبد الله بن وهب عند الطبري في «تهذيب الآثار» (مسند عمر، ح 343)، ووُهَيْب، ومكي بن إبراهيم، عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2403)(3546) بدون الزيادة.
وقد أشار الدارقطني إلى هذا الاختلاف على ابن جُريج، فسُئِل الدارقطني عن حديث محمد بن المُنكدِر، عن أَنس: صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظُّهْر أَربعًا، وبِذي الحُلَيْفة ركعتين.
فقال: اختُلف فيه على ابن المُنكدِر، فرواه الثوري، وابن عُيينة، ومحمد بن إسحاق، وعبد العزيز الماجِشُون، ومرزوق مَوْلَى طَلحة بن عبد الرحمن الباهلي، وشُعبة، وعبد الحميد بن جعفر، والمُنكدِر بن محمد، وأُسامة بن زيد، وعمرو بن الحارث.
واختُلف عن ابن جُرَيجٍ، فرواه عثمان بن الهيثم المُؤذِّن، عن ابن جُريج قال: حُدِّثْتُ عن أَنس.
ورواه هِشام بن سليمان بن عِكرمة بن خالد المَخزومي، وعبد المجيد، ومَكِّي بن إبراهيم، عن ابن جُريجٍ، وزادوا فيه أَلفاظًا، ذَكَرَها ابن جُريج، في كتاب «المناسك» عنه، وهي قوله:(ثم بات بِذي الحُلَيْفة، فأَصْبَح، فلما أَصْبَح رَكَب راحلته، فلما استوت به أَهَلَّ) وهذه الزيادة ليست بمحفوظة عن ابن المُنكدِر، ولم يَذكرها غير ابن جُريج، وقال يحيى القطان: إنه وهم.
ورواه أَبو عاصم، عن ابن جُريج، بهذا الإسناد، مِثل ما رواه الثوري، ولم يأت بهذه الزيادة.
ورواه عيسى بن يونس، عن ابن جُريج، عن الزُّهْري، عن أَنس، ووَهِم في ذكر الزُّهْري، وإِنما رواه ابن
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً»
(1)
.
قال النووي: فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ قَاطِعَةٌ بِتَرَجُّحِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّيْرِ
(2)
.
القول الآخَر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إحرامه في دُبُر صلاته، وأنه أَهَلَّ في مجلسه بعد فراغه من الركعتين، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في القديم، وهو رواية عن الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بما رواه ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ في دُبُر الصلاة
(4)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي عز وجل فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ» .
وَجْه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يَجعل بين الصلاة والإحرام فَصْلًا، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إحرامه في دُبُر صلاته.
ونوقش بأن معنى (وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ): بعد الانتهاء من الصلاة وركوب الراحلة يُحْرِم في بداية سيره. ودل على ذلك أن جماعة الصحابة حَكَوْا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
.
= جُريج عن ابن المُنكدِرِ. والصحيح رواية الثوري وابن عُيينة، ومَن تابعهما. «العلل» (6/ 212).
وفي «علل ابن أبي حاتم» : سألتُ أبي عن حديث رواه عيسى بن يونس، عن ابن جُريج، عن الزُّهْري، عن أنس
…
فسمعتُ أبي يقول: لا أعلم روى هذا الحديث غير عيسى بن يونس، وشُعيب بن إسحاق، ولا أدري ابن جُريج مِنْ أين جاء به؟ والناس يروونه عن إبراهيم بن ميسرة عن أنس.
والحاصل: أن هذا الحديث لا يَثبت عن الزُّهْري عن أنس، وإنما هو من حديث إبراهيم بن ميسرة، ومحمد بن المنكدر، وأبي قِلابة، عن أنس.
والراجح من الألفاظ عن أنس: (صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ).
(1)
أخرجه البخاري (1514)، ومسلم (1187).
(2)
«المجموع» (7/ 217)، و «شرح مسلم» (8/ 94).
(3)
«الحاوي» (1/ 392، 493)، و «المجموع» (7/ 223).
(4)
ضعيف، رواه عبد السلام بن حرب عند الترمذي (819)، وابن إسحاق عند أحمد (1764)، كلاهما عن خُصَيْف، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، به. ومدار الحديث على خُصَيْف بن عبد الرحمن الجَزَري، وهو مُختلَف في حاله، وهو إلى الضعف أقرب، ولا يَتحمل مثل هذا المتن.
وله شاهد عند الدارمي (1833): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ وَأَهَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ. وهذا المتن منكر؛ لأن المحفوظ عن أنس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم صَعِد جبل البَيْدَاء، وأَهَلَّ بالحج والعُمْرة.
(5)
قال ابن كَثير: فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْقَطْعِ أَوِ الظَّنِّ الْغَالِبِ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَمَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَابْتَدَأَتْ بِهِ السَّيْرَ. «البداية والنهاية» (7/ 439).
والراجح: أنه يبتدئ بالإحرام (لبيك حجًّا) والتلبية (لبيك اللهم لبيك) بعد ركوبه، في ابتداء سيره من الميقات بعد خروجه من المسجد؛ لتضافر الأحاديث على ذلك.
السُّنة السابعة: التلبية،
وفيها تمهيد وسبعة مطالب:
تمهيد: يجب على مريد الإحرام في الميقات أن ينويه بقلبه، ويُستحب له أن يُلبِّي بلسانه، فيقول:(لبيك حجًّا). (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك
…
).
المطلب الأول: تعريف التلبية:
قال ابن تيمية: التَّلْبِيَةُ هِيَ إجَابَةُ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ، حِينَ دَعَاهُمْ إلَى حَجِّ بَيْتِهِ، عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم. وَالْمُلَبِّي هُوَ الْمُسْتَسْلِمُ الْمُنْقَادُ لِغَيْرِهِ، كَمَا يَنْقَادُ الَّذِي لُبِّبَ وَأُخِذَ بِلَبَّتِهِ. وَالْمَعْنَى: إنَّا مُجِيبُوكَ لِدَعْوَتِكَ، مُسْتَسْلِمُونَ لِحِكْمَتِكَ، مُطِيعُونَ لِأَمْرِكَ
(1)
.
والتلبية: هي قول المُحْرِم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك
…
).
المطلب الثاني: حُكْم التلبية:
قال ابن حزم: وأَجْمَعُوا على استحسان التلبية إلى دخول الحَرَم
(2)
.
وقد اختَلف أهل العلم في وجوب التلبية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التلبية سُنة في الإحرام. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بأنها ذِكر، فلم تجب كسائر الأذكار
(4)
.
القول الثاني: أن التلبية واجبة في الإحرام. وهو مذهب المالكية
(5)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل: أَيُّ الحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «العَجُّ وَالثَّجُّ»
(6)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» (26/ 115)، و «معجم مقاييس اللغة» ، و «لسان العرب» (مادة: ل ب ب).
(2)
«مراتب الإجماع» (ص: 44). واتَّفَق العلماء على استحباب التلبية. «المجموع» (7/ 245).
(3)
«المجموع» (7/ 246)، و «الحاوي» (4/ 88)، و «المغني» (3/ 256)، و «الإنصاف» (3/ 320).
(4)
«كشاف القناع» (2/ 419).
(5)
«المعونة» (1/ 522)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 39).
(6)
ضعيف، أعِل بالانقطاع: أخرجه الترمذي (837)، وابن ماجه (236)، وغيرهما. وعِلته أن محمد بن المنكدر لم يَسمع من عبد الرحمن بن يربوع. قاله الترمذي في «السُّنن» (2/ 186).
والعج: هو رفع الصوت بالتلبية، وهو شعار الحج، فكيف لا يكون واجبًا؟!
القول الثالث: أن التلبية ركن في الإحرام، فلا يصح الإحرام بالنية فقط، بل لا بد مع النية من التلبية. وهو قول الحنفية، وابن حبيب من المالكية
(1)
.
واستدلوا بما رَوَى ابن عباس: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] قال: التلبية
(2)
.
ونوقش بأن المعنى: (فمَن فَرَض) الإحرام، وهو نية الدخول في النسك
(3)
.
واستدلوا بقياس الحج على الصلاة، فستُفتح الصلاة بتكبيرة الإحرام فلا تكفي النية وحدها، فكذا الحج، لا تَكفي النية وحدها في الإحرام، ولا بد من التلبية معها.
وأجيب بأن العبادات لا تقاس على بعضها، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم جَهَر بالنية في بداية الحج، ولم يصح ذلك عنه في الصلاة
(4)
.
والراجح: أن التلبية سُنة؛ لأن التلبية ذِكر فتُسَن ولا تجب كسائر الأذكار.
المطلب الثالث: فَضْل التلبية:
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلاَّ لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا»
(5)
.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ:«نَعَمْ»
(6)
.
(1)
«شرح فتح القدير» (2/ 446)، و «إرشاد السالك إلى أفعال المناسك» (1/ 186).
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (13816). وفي إسناده شَريك، وهو سيئ الحفظ.
(3)
«تفسير الطبري» (1/ 540).
(4)
«المغني» (3/ 256).
(5)
إسناده حسن: فرواه إسماعيل بن عَيَّاش عند الترمذي (828)، وعَبِيدة بن حُمَيْد، عند ابن خُزيمة (2634)، ومعاوية بن صالحٍ عند الطبراني في «الكبير» (5741) ثلاثتهم عَنْ عُمَارة بن غَزِيَّة، عن أبي حازم، عن سَهْل به. وعُمارة بن غَزِيَّة لا بأس به.
(6)
ضعيف: رواه سُهَيْل عن أبيه، واختُلف عليه في الرفع والوقف:
فرواه زيد بن عُمَر عن سُهيل به مرفوعًا. أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7779).
وقد استَنكر الذهبي في «الميزان» هذا الخبر على زيد بن عمر بن عاصم، عن سُهيل بن أبي صالح.
وخالفه وُهَيْب بن خالد عند البيهقي (10485)، وسليمان بن حرب ذَكَره الدارقطني معلقًا في «العلل» (10/ 209) كلاهما عن سُهَيْل، عن أبيه، عن مِرْدَاس، عن كعب، موقوفًا به.
قال الدارقطني: الموقوف هو الصحيح. «العلل» (5/ 143).
وَعَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا سَبَّحَ الْحَاجُّ مِنْ تَسْبِيحَةٍ وَلَا كَبَّرَ مِنْ تَكْبِيرَةٍ، إِلَّا بُشِّرَ بِهَا بُشْرَى» . أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5455) ليس فيه ذِكر الجنة.
وفي إسناده محمد بن عثمان بن أبي شَيْبَة، وفيه مقال.
وعن مُحَرَّر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أَهَل مُهِلّ قط، إلا آبت الشمس بذنوبه» . أخرجه البيهقي في «شُعَب الإيمان» (5/ 475)، ومُحَرَّر بن أبي هريرة لَيِّن الحديث.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَضْحَى يَوْمًا مُحْرِمًا مُلَبِّيًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
(1)
.
المطلب الرابع: لفظ التلبية:
في «الصحيحين» : عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّدًا، يَقُولُ:«لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ
(2)
.
ففي حديث ابن عمر وجابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَزد على تلبيته المشهورة، وأنه لزمها. قال ابن عمر: لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ.
ولكن يُشكل على هذا ما رُوي: كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ»
(3)
.
ورُوي عن ابن عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا قَالَ:«لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ»
(1)
ضعيف: رواه أحمد (15008). وإسناده ضعيف؛ لضَعْف عاصم بن عمر وعاصم بن عُبَيْد الله، وقد اضطربا في إسناده.
(2)
أخرجه البخاري (5915)، ومسلم (1184). ورَوَى مسلم عن جابر في حديثه الطويل، وفيه: «فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ
…
وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ».
(3)
ضعيف؛ أُعِل بالإرسال: فمدار الحديث على عبد الله بن الفضل عن الأعرج، واختُلف عليه: فوَصَله عبد العزيز بن أَبي سلمة، عن عبد الله، به. أخرجه أحمد (8497)، والنَّسَائي (2772).
وقد خولف عبد العزيز في وصله، فرواه إسماعيل بن أمية عن عبد الله عن الأعرج، مرسلًا.
قَالَ النَّسَائي: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَ هَذَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الفَضْلِ، إِلَّا عَبْدَ العَزِيزِ، رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْهُ مُرْسَلًا. «سُنن النَّسَائي» (5/ 97)، قال ابن حجر: فهذه علته. «إتحاف المهرة» (15/ 221).
ويؤيد ذلك أن عبد العزيز سَلَك الجادة، فجَعَله عن الأعرج عن أبي هريرة. وإسماعيل سَلَك غير الجادة، فجَعَله عن الأعرج مرسلًا. وعند الاختلاف نُقَدِّم غير الجادة لأنها تدل على الضبط، بينما تقع الأوهام في الجادة؛ فالمرسل أصح، والله أعلم.
قَالَ: «إِنَّمَا الخَيْرُ خَيْرُ الآخِرَةِ»
(1)
.
وفي الباب: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ تَلْبِيَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا»
(2)
.
فالحاصل: أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» . ولم أقف على حديث يصح بغير هذه الصفة.
المطلب الخامس: وقت التلبية:
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: ابتداء وقت التلبية:
يُستحب أن يبتدئ المُحْرِم بالتلبية إذا ركب، وابتدأ السير من الميقات.
المسألة الثانية: متى يَقطع المُعتمِر التلبية؟
اختَلف العلماء على قولين في وقت قطع المُعتمِر التلبية:
القول الأول: يَقطع المُعتمِر التلبية ببلوغه أول حدود الحَرَم
(3)
.
واستدلوا بما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ
…
وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ
(4)
.
(1)
ضعيف: أخرجه ابن الجارود (470)، وابن خُزيمة (2912)، والحاكم (1707) وغيرهم. وهذا الإسناد فيه ضعف؛ لحال محبوب بن الحسن، وجميل بن الحسن. قال ابن جماعة: رواه الحاكم وصححه، وليس بصحيح. «هداية السالك» (2/ 510). وقال ابن حجر: وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، مُرْسَلًا. «التلخيص الحبير» (2/ 459).
فالحاصل: أن كل طرق هذا الحديث ضعيفة، مع شهود خلائق كثيرة في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: هذا إسناد غريب. واستَشهد على ذلك بأن السند على شرط أصحاب السُّنن، وإعراضُهم عن إخراجه دليل على إعلاله. «البداية والنهاية» (5/ 162).
(2)
ضعيف، أُعِل بالوقف: مدار الحديث على هشام بن حسان، واختُلف عليه: فرواه النَّضْر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أخيه يحيى، عن أنس، به. أخرجه البزار (6803).
ورواه حماد بن زيد، عن هشام، عن حفصة، عن يحيى، أنه حج مع أنس، موقوفًا. وقد أخرجه مُسَدَّد في «المطالب العالية» (7/ 68). وقد رَجَّح الدارقطني الوقف. «العلل» (6/ 3).
وله طرق أخرى كلها ضعيفة، انظر «نتائج الأفكار» (5/ 253)، و «التلخيص الحبير» (2/ 524).
(3)
وهو قول ابن عمر، وعروة بن الزُّبَيْر، وهو مذهب المالكية. «الاستذكار» (11/ 203).
(4)
أخرجه البخاري (1573).
القول الآخَر: أن المعتمر لا يَقطع التلبية إلا في بَدْء الطواف. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ»
(2)
.
والراجح: أن المعتمر يَقطع التلبية ببلوغه أول حدود الحَرَم؛ لحديث ابن عمر الدالّ على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُمسِك عن التلبية إذا دخل أدنى الحَرَم.
المسألة الثالثة: وقت التلبية للحاج:
لا بد أن نُفرِّق بين حالين للحاج في أمر التلبية:
الأول: أن الحاج إذا أَحْرَم لَبَّى، فلا يَزال يلبي حتى يَدخل أول الحَرَم، فيَقطع التلبية ببلوغه أول حدود الحَرَم.
الثاني: ثم يَعود الحاج إلى التلبية من خروجه من مكة إلى مِنًى في اليوم الثامن، ثم إلى عرفة في اليوم التاسع ثم مزدلفة، ولا ينقطع عن التلبية إلا في يوم النحر عند جمرة العقبة؛ لحديث الفضل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَزَل يُلبِّي حتى بَلَغ الجمرة
(3)
.
(1)
«الاستذكار» (11/ 203).
(2)
ضعيف: فمدار الحديث على عطاء، عن ابن عباس، واختُلف عليه:
فرواه ابن أبي ليلى، عن عطاء، به مرفوعًا. أخرجه أبو داود (1810) وقال: ورَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهَمَّامٌ، كِلَاهُمَا عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَوْقُوفًا.
وقد أُعِل هذا الحديث بعلتين:
الأولى: ما قاله الشافعي: وَجَدْنَا حُفَّاظَ الْمَكِّيِّينَ يَقِفُونَهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. «معرفة السُّنن» (7/ 268).
الثانية: ما قاله البيهقي: رَفْعُهُ خَطَأٌ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هَذَا كَثِيرَ الوَهْمِ، وَخَاصَّةً إِذَا رَوَى عَنْ عَطَاءٍ، فَيُخْطِئُ كَثِيرًا. «السُّنن» (10/ 37).
ولهذا الحديث شواهد، منها:
1 -
شاهد عبد الله بن عمرو عند أحمد (6685) وفي إسناده: الحَجَّاج بن أرطاة، لا يُحتج به.
2 -
شاهد أبي بَكْرة، أَخْرَجه البيهقي (9488) وقال: هذا إسنادٌ غير قوي.
(3)
أخرجه البخاري (1670)، ومسلم (1281).
المسألة الرابعة: انتهاء وقت التلبية في الحج:
اختَلف العلماء على قولين في ذلك:
القول الأول: تنتهي التلبية في الحج عند ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النحر. وهذا مذهب الحنفية والشافعية، والحنابلة في رواية
(1)
.
واستدلوا بحديث الفضل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَزَل يُلبِّي حتى بَلَغَ الجمرَة
(2)
. فالحديث نص في انتهاء التلبية عند ابتداء رمي جمرة العقبة، وقد جاء من رواية الفضل بن العباس رضي الله عنهما، وقد كان رديفَه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، وهو أعلم بحاله من غيره.
القول الآخَر: لا يَقطع التلبية حتى يَرمي جَمْرة العَقَبة بأَسْرها. وهو قول لأحمد.
واستَدل بظاهر حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَزَل يُلَبِّي حتى رَمى جَمْرة العَقَبة.
ونوقش هذا الاستدلال بأن قوله: (لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) مُفسَّر برواية أخرى عن الفضل، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الجَمْرَةَ
(3)
.
ويؤيد ذلك ما رواه ابن مسعود قال: رَمَقْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ بِأَوَّلِ حَصَاةٍ
(4)
.
والراجح: أن التلبية تنتهي عند ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النحر.
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: (حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) فمفهومه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبي أثناء الرمي، بل كان يُكبِّر؛ لأن ظَرْف الرميِ
(1)
«البحر الرائق» (2/ 371)، و «المجموع» (8/ 154)، و «الفروع» (5/ 395)، و «المغني» (5/ 297).
(2)
رواه البخاري (1670)، ومسلم (1281).
(3)
«صحيح البخاري» (1670).
(4)
ضعيف: أخرجه ابن خُزيمة (2886) من طريق شَريك، عن عامر، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، به.
وفي إسناده: شَريك النَّخَعي، سيئ الحفظ كثير الوهم. وعامر بن شقيق لَيِّن الحديث.
وقال الدارقطني: يرويه عامر، وغيره لا يرفعه، والموقوف أصح. «العلل» (13/ 270).
لا يَستغرق غير التكبير؛ لِتتابُع رَمْي الحصيات.
المطلب السادس: رَفْع الصوت بالتلبية:
يُسَن للرجل أن يَرفع صوته بالتلبية.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا»
(1)
.
وعن السائب بن خَلَّاد رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي- أَوْ: مَنْ مَعِيَ- أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ- أَوْ: بِالإِهْلَالِ، يُرِيدُ أَحَدَهُمَا-»
(2)
.
أما المرأة، فتُكْثِر من التلبية، ولا تَرفع صوتها، وإنما تُلبي سرًّا بالقَدْر الذي تُسمِع به نفسها؛ وذلك لِما يُخشَى من رفع صوتها من الفتنة. وقد أَجْمَعَ العلماء على ذلك
(3)
.
المطلب السابع: حُكم التلبية بغير اللغة العربية:
لا تَجوز التلبية بغير العربية لمن يُحْسِنها؛ لأن التلبية ذِكر كالأذكار المشروعة للصلاة والنوم والأذان. أما إذا كان الملبي لا يُحْسِن اللغة العربية، فله أن يلبي بلغته، على قول جماهير العلماء
(4)
.
وأما الصبي والأخرس فيُلبَّى عنهما؛ لحديث جابر قال: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَلَبَّيْنَا عَنِ الصِّبْيَانِ، وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ.
* * *
(1)
رواه مسلم (1247). وقال النووي: فِيهِ اسْتِحْبَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا مُقْتَصَدًا، بِحَيْثُ لَا يُؤْذِي نَفْسَهُ. «شرح مسلم» (8/ 232).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (938)، وأحمد (16567).
(3)
«التمهيد» (17/ 242)، وحكاه عنه ابن رُشْد في «بداية المجتهد» (1/ 337).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 161)، و «نهاية المحتاج» (3/ 274)، و «مسائل أحمد» رواية ابن هانئ (ص: 194).
الحاصل في سُنن الإحرام بين يدي الإحرام
المبحث الأول: تعريف الإحرام:
الإحرام في الشرع: هو نية الدخول في نسك الحج أو العمرة أو كليهما.
المبحث الثاني: حُكْم الإحرام:
الإحرام ركن من أركان الحج، كتكبيرة الإحرام. ولعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات» فلا يصح حج إلا بنية، والإحرام هو نية الدخول في النسك.
المبحث الثالث: الحكمة من مواقيت الإحرام:
الأولى: أنها تَغرس في نفس المُحْرِم الطاعة والاستسلام لله.
الثانية: أن المُحْرِم يتذكر بالتجرد من ملابسه ولُبس الإحرام الكفن والقدوم على ربه.
الثالثة: في عدم حصر الإحرام بمكان واحد رَفْع الحرج عن المُكلَّفين.
الفصل الأول: سُنن الإحرام:
السُّنة الأولى: يُستحب النزول في المواقيت المكانية؛ لفِعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
السُّنة الثانية: يُستحب الاغتسال للمُحْرِم عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة، بالإجماع. وكذا الحائض والنُّفَساء. ويُستحَب له حلق العانة ونتف الإبط وقص الشارب وتقليم الأظفار؛ لأنه إذا كان يُستحب الغسل للتنظف، فهذا يَدخل في عموم التنظف للإحرام.
السُّنة الثالثة: الإحرام في إزار ورداء ونعلين؛ لِما رَوَى ابن عباس قال: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ، بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ.
السُّنة الرابعة: يُستحب التطيب في البدن لا في الثياب، قبل الدخول في الإحرام.
السُّنة الخامسة: يُستحب أن يُحْرِم عَقيب صلاةِ فرض أو تطوع إن كان وقت تطوع. فإن كان في الميقات مسجد، استُحب أن يصليهما فيه.
السُّنة السادسة: يُستحب أن يبتدئ بالإحرام: (لبيك حجًّا) والتلبية: (لبيك اللهم لبيك) بعد ركوبه السيارة، في ابتداء سيره من الميقات، بعد خروجه من المسجد.
السُّنة السابعة: التلبية، وفيها سبعة مطالب:
المطلب الأول: التلبية في الشرع هي قول المُحْرِم: (لبيك اللهم لبيك
…
).
المطلب الثاني: التلبية سُنة؛ لأنها ذِكر فتُسَن ولا تجب كسائر الأذكار.
المطلب الثالث: فَضْل التلبية: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي، إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» .
المطلب الرابع: لفظ التلبية: الصحيح أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم هي: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ) من حديث ابن عمر في «الصحيحين» ، وحديث جابر عند مسلم، ولم أقف على حديث يصح بغير هذه الصفة.
المطلب الخامس: وقت انقطاع التلبية: يَقطع المعتمر التلبية ببلوغه أول حدود الحرم؛ لحديث ابن عمر الدالّ على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُمسِك عن التلبية إذا دخل أدنى الحرم. وحديث ابن عباس: «يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» حديث ضعيف، والصحيح فيه الوقف.
وأما التلبية فتنتهي في الحج عند ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النحر، فَعَنِ الفَضْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الجَمْرَةَ.
المطلب السادس: رَفْع الصوت بالتلبية:
يُسَن للرجل أن يَرفع صوته بالتلبية؛ لِما رَوَى مسلم: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَصْرُخُ بِالْحَجِّ صُرَاخًا» .
وأما المرأة فتُكْثِر من التلبية، ولكنها لا تَرفع صوتها، وإنما تلبي سرًّا بالقَدْر الذي تُسْمِع به نفسها؛ وذلك لِما يُخشَى من رفع صوتها من الفتنة.
المطلب السابع: حُكْم التلبية بغير اللغة العربية:
لا تَجوز التلبية بغير العربية لمن يُحْسِنها؛ لأن التلبية ذِكر كالأذكار المشروعة للصلاة والنوم والأذان، وأما إذا كان الملبي لا يُحْسِن اللغة العربية، فله أن يلبي بِلُغته، على قول جماهير العلماء. وأما الصبي والأخرس فيُلبَّى عنهما.
الفصل الثاني: محظورات الإحرام:
وهذه المحظورات ترجع إلى أربعة أصول:
الأصل الأول: ما يتعلق بترفيه البدن. وفيه ثلاثة محظورات:
المحظور الأول: حَلْق الشَّعْر أو تقصيره.
المحظور الثاني: تقليم الأظفار.
المحظور الثالث: الطِّيب.
الأصل الثاني: ما يتعلق بالمَخيط. وهو قسمان:
القسم الأول: المحظورات التي تختص بالرجال اثنتان:
المحظور الأول: لُبس المَخيط.
المحظور الثاني: تغطية الرأس.
القسم الثاني: المحظورات التي تختص بالنساء اثنتان:
المحظور الأول: النقاب.
المحظور الثاني: القُفازان.
الأصل الثالث: ما يتعلق بنكاح المُحْرِم. ويشتمل على أربعة محظورات:
المحظور الأول: الخِطبة للمُحْرِم.
المحظور الثاني: عَقْد النكاح.
المحظور الثالث: مباشرة النساء.
المحظور الرابع: الجماع.
الأصل الرابع: قتل الصيد البري.
تمهيد
معنى محظورات الإحرام
المحظورات: جَمْع محظور، وهو الممنوع، وهو من مرادفات الحرام، وهو ما يُمْنَع منه المُحْرِم، ومنه قوله تعالى:{وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20].
ومحظورات الإحرام: هي الممنوعات التي يجب على المُحْرِم اجتنابها؛ بسبب إحرامه ودخوله في النسك
(1)
.
والمحظورات ترجع إلى أربعة أصول:
الأصل الأول: ما يتعلق بترفيه البدن.
وفيه ثلاثة محظورات،
وهي: حَلْق الشَّعْر، وتقليم الأظفار، والطِّيب.
المحظور الأول: حَلْق الشَّعْر:
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: حَلْق شَعْر الرأس أو تقصيره:
حَلْق شَعر الرأس أو تقصيره من محظورات الإحرام، بالكتاب والسُّنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
وتجب الفدية بحلق الرأس؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
وأما السُّنة، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ، وَالقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ:«أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: «فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً»
(2)
.
(1)
«النهاية» لابن الأثير (مادة: حظر)، و «الحدود الأنيقة» لزكريا الأنصاري (ص: 76).
(2)
رواه البخاري (4190)، ومسلم (1201).
وأما الإجماع، فنُقِل الإجماع على أن حلق شعر الرأس أو تقصيره من محظورات الإحرام، وتجب به الفدية
(1)
.
المبحث الثاني: هل تجب الفدية بإزالة شَعر بقية البدن؟
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
الأول: تجب، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
قال ابن عبد البر: لا خلاف أنه لا يَجوز للمُحْرِم أَخْذ شيء من شَعْر رأسه وجسده لضرورة ما دام مُحْرِمًا. ولكن هذا الإجماع منخرم؛ فقد خالف الظاهرية فقالوا: لا يُحْظَر حلق شعر غير شعر الرأس للمُحْرِم
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة القياس:
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29].
وَجْه الدلالة ما قاله البغوي: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} التَّفَثُ: الْوَسَخُ وَالقَذَارَةُ مِنْ طُولِ الشَّعْرِ وَالأَظْفَارِ وَالشَّعَثِ. تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ تَسْتَقْذِرُهُ: مَا أَتْفَثَكَ! أَيْ: مَا أوْسَخَكَ! وَالحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ، أيْ: لَمْ يَحْلِقْ شَعْرَهُ وَلَمْ يُقَلِّمْ ظُفْرَهُ، فَقَضَاءُ التَّفَثِ إِزَالَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أَيْ: لِيُزِيلُوا أَدْرَانَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَالِاسْتِحْدَادِ وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ
(3)
.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «التَّفَثُ: الرَّمْيُ، وَالذَّبْحُ، وَالْحَلْقُ، وَالتَّقْصِيرُ، وَالْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ وَالْأَظْفَارِ وَاللِّحْيَةِ»
(4)
.
وأما السُّنة، فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»
(5)
.
(1)
ونَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 52)، والنووي في «المجموع» (7/ 247)، وابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 385).
(2)
«الاستذكار» (4/ 160).
(3)
«تفسير البغوي» (3/ 336).
(4)
إسناده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (15673) عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس، به.
(5)
مسلم (1977).
وَجْه الدلالة: أن المضحي لم يُمْنَع من الأخذ من شعر رأسه فقط، بل مُنِع من الأخذ من شعر الشارب والإبط والعانة، فالمُحْرِم أَوْلَى بذلك منه.
وأما القياس، فقاسوا شعر الجسد على شعر الرأس؛ بجامع أن الكل يَحصل بحلقه الترفه والتنظف، وهو ينافي الإحرام؛ لكَوْن المُحْرِم أشعث أغبر
(1)
.
القول الثاني: أنه لا فدية بإزالة شعر بقية البدن غير شعر الرأس. وبه قال الظاهرية
(2)
.
واستدلوا بأن النص جاء بتحريم حلق الرأس فقط، ولا يصح قياسُ غيره عليه.
ونوقش: فَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ؛ لأَنَّهُ الغَالِبُ، ولِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى شَعْرِ الْجَسَدِ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الرَّأْسِ فِيهِ وَزِيَادَةٍ
(3)
.
والراجح: أنه لا يَجوز للمُحْرِم أَخْذ شيء مِنْ شعر رأسه وجسده، كقص شاربه ونَتْف إبْطه؛ لعموم قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . وللقياس على شعر الرأس. وتجب الفدية بالأخذ من شعر الرأس أو الجسد.
المبحث الثالث: مقدار الحلق الذي تجب به الفدية:
اتَّفَق العلماء على أنه إذا سقط شعر المُحْرِم بنفسه، فلا فدية فيه. أما إذا كان بفعله، فقد اختلفوا في مقدار الحلق الذي تجب به الفدية على أربعة أقوال:
القول الأول: تجب الفدية في حلق الشَّعر حلقًا يكاد أن يكون كاملًا. أما إذا أَخَذ شعرات فإنه يَحرم عليه، لكن الفدية لا تجب. وهو قول المالكية وابن حزم
(4)
.
واستدلوا لهذا القول بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: أن مَنْ أَخَذ شعرات من رأسه لا يقال: إن هذا حالق الرأس.
وأما السُّنة، فَعَنْ كَعْبِ قَالَ: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ، وَالقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى
(1)
«الذخيرة» (3/ 308)، و «المجموع» (7/ 247).
(2)
«المُحَلَّى» (5/ 278).
(3)
«الحاوي» (4/ 116).
(4)
«الذخيرة» (3/ 308، 309)، و «المُحَلَّى» (5/ 228).
وَجْهِي، فَقَالَ:«أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: «فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
…
».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ- وَهُوَ مُحْرِمٌ- فِي رَأْسِهِ»
(1)
.
وَجْه الدلالة: أن الحجامة في الرأس من ضرورتها أن يُحلَق الشَّعر من مكان المَحاجم، ولم يُنقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتدى؛ لأن الشَّعر الذي يُزال من أجل المَحاجم لا يماط به الأذى، فهو قليل بالنسبة لبقية الشَّعر.
القول الثاني: تجب الفدية بحلق أكثر من عَشْر شعرات، وإِنْ أَخَذ عَشْرًا فأقل ولم يَقصد به إماطة الأذى، فيجب عليه أن يتصدق بحفنة من طعام. وهو قول للمالكية
(2)
.
القول الثالث: تجب الفدية بحلق ثلاث شعرات فأكثر. وهو قول للشافعية، والمذهب عند الحنابلة
(3)
.
القول الرابع: تجب الفدية بحلق ربع الرأس. وهو قول الحنفية
(4)
.
فالحاصل: أن حلق رأس المُحْرِم لا يخلو من أربع حالات:
الأولى: إِنْ أَخَذ شعرات، فلا يُعَد حلقًا، وليس عليه شيء
(5)
.
الثانية: إذا حَلَق بعض الرأس لعذر كالحجامة أو مداواة جرح، فإنه لا شيء عليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم- وهو مُحْرِم- في رأسه، ولم يُنْقَل أنه فدى.
الثالثة: تجب الفدية في حلق أكثر شَعْر المُحْرِم.
الرابعة: إِذَا خَرَجَ في عَيْنَيْهِ شَعَرٌ، أَوِ اسْتَرْسَلَ شَعَرُ حَاجِبَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ، فَغَطَّاهُمَا، فَلَهُ إِزَالَتُهُ
(6)
.
(1)
رواه البخاري (5701).
(2)
«شرح خليل» (2/ 355)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 60).
(3)
«المهذب» (1/ 392)، و «الإنصاف» (3/ 456).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 192)، و «فتح القدير» (3/ 31)، و «حاشية ابن عابدين» (2/ 549).
(5)
يَحرم أَخْذ شعرات من رأس المُحْرِم؛ لأنه نُهي عن حلق شعر رأسه، وهذا يَشمل القليل والكثير، والقاعدة أن امتثال الأمر لا يَتم إلا بفعل جميعه، وامتثال النهي لا يَتم إلا بترك جميعه، لكن الفدية لا تجب إلا بحلق ما يَحصل به الترفه وزوال الأذى.
(6)
«الشرح الكبير على المُقْنِع» (8/ 232).
المبحث الرابع: غَسْل رأس المُحْرِم وتسريحه:
ذهب جماهير العلماء إلى أنه لا بأس بَغسل المُحْرِم رأسه، وتسريحه
(1)
.
واستدلوا بأن أبا أيوب اغتسل وهو مُحْرِم، وقال: هكذا رأيتُه صلى الله عليه وسلم يَفعل
(2)
.
المحظور الثاني: تقليم الأظفار:
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: حُكْم إزالة الأظفار للمُحْرِم:
قال ابن قُدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَلْمِ أَظْفَارِهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأَظْفَارِ إزَالَةُ جُزْءٍ يَتَرَفَّهُ بِهِ فَحُرِّمَ، كَإِزَالَةِ الشَّعْرِ
(3)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد خالف الظاهرية فقالوا: إن المُحْرِم غير ممنوع من أخذ أظفاره، والصحيح: أن هذا قول جماهير العلماء
(4)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] أَيْ: لِيُزِيلُوا أَدْرَانَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَالِاسْتِحْدَادِ وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ. وَلِأَنَّ فِي قَصِّهِ لِلَأَظْفَارِ إِزَالَةَ جُزْءٍ يَنْمُو مِنْ بَدَنِهِ، يَقْضِي بِهِ تَفَثَهُ، وَيَتَرَفَّهُ بِإِزَالَتِهِ، أَشْبَهَ الشَّعْرَ.
المبحث الثاني: ما يجب من الفدية في تقليم الأظفار:
يجب في تقليم الأظفار فدية: ذَبْح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين
(5)
.
قال ابن قُدامة: فدَلَّتِ الآيَةُ والخَبَرُ على وُجُوبِ الفِدْيَةِ في حَلْقِ الشَّعَرِ، وَقِسْنَا عَلَيْهِ تَقْلِيمَ الأظْفارِ؛ لأنَّه حُرِّمَ في الإِحْرامِ لأجْلِ التَّرَفُّهِ، فَأَشْبَهَ حَلْقَ الشَّعَرِ
(6)
.
(1)
قال النووي: وَأَمَّا حَكُّ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ، فَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي إبَاحَتِهِ. «المجموع» (7/ 248).
نَقَل الإجماع على ذلك ابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 160) وهذا الإجماع منخرم؛ فهناك قول للمالكية بعدم جواز ذلك. «الكافي» (1/ 387).
(2)
رواه البخاري (1840)، ومسلم (1205).
(3)
«الإجماع» (ص: 52)، و «المغني» (5/ 146).
(4)
قال النووي: وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَلْمُ أَظْفَارِهِ كُلِّهَا، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِ قَلْمِ الظُّفْرِ فِي الْإِحْرَامِ. فَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَعْتَدُّوا بِدَاوُدَ. «المجموع» (7/ 248).
(5)
«البحر الرائق» (3/ 12)، و «الكافي» (1/ 389)، و «المجموع» (7/ 247).
(6)
«الشرح الكبير على المقنع» (8/ 226) وعَدَمُ النص لا يَمنع قياسه على المنصوص.
المبحث الثالث: قص ما انكسر من الظفر:
إِنِ انكسر ظفره فله قص ما انكسر منه، ولا شيء عليه.
قال ابن المُنذِر: أجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُزِيلَ ظُفْرَهُ بِنَفْسِهِ إِذَا انْكَسَرَ؛ لأَنَّ بَقَاءَهُ يُؤْلِمُهُ، أَشْبَهَ الشَّعَرَ النّابِتَ فِي عَيْنِهِ
(1)
.
المبحث الرابع: في كَمْ ظفر يُقَلَّم تجب به الفدية؟
اختَلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: مَنْ قَلَّم ظفرًا لإماطة الأذى، فعليه الفدية. وهذا مذهب المالكية
(2)
.
الثاني: أن مَنْ قَلَّم ثلاثة أظفار فعليه دم. وبه قال الشافعية والحنابلة
(3)
.
الثالث: أن مَنْ قَلَّم خمسة أظفار فعليه دم. وهو مذهب الحنفية
(4)
.
والراجح: أن مَنْ قَلَّم ظفرًا لإماطة الأذى فعليه الفدية، فالمُحْرِم ممنوع من الأخذ من الأظفار؛ لأن هذا ينافي الإحرام لكون المُحْرِم أشعث؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] ولأنه إزالة جزء ينمو من بدنه، يَقضي به تفثه، ويترفه بإزالته، أَشْبَه الشَّعر.
المحظور الثالث: الطِّيب للمُحْرِم: وفيه عَشَرة مباحث:
المبحث الأول: حُكْم الطِّيب للمُحْرِم:
الطِّيب من محظورات الإحرام في البدن والثوب، بالسُّنة والإجماع.
أما السُّنة، فعن يعلى بن أُمية رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ
(5)
وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟
(6)
فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، فَجَاءَهُ الوَحْيُ، فَقَالَ:«أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنِ العُمْرَةِ؟»
(1)
«الإجماع» (ص: 52)، و «الشرح الكبير على المقنع» (8/ 222).
(2)
«الشرح الكبير» للدردير (2/ 56)، و «حاشية الصاوي» (2/ 85).
(3)
«الحاوي» (4/ 117)، و «الإنصاف» (3/ 455).
(4)
«المبسوط» (4/ 77)، و «بدائع الصنائع» (2/ 194)، و «حاشية ابن عابدين» (2/ 556).
(5)
الجِعرانة: موضع قريب من مكة، وهي في الحِل، وميقات للإحرام. «النهاية» (مادة: جعر).
(6)
التضمخ: التلطخ بالطِّيب وغيره، والإكثار منه، حتى كأنما يَقطر. «لسان العرب» (مادة: ضمخ).
فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: «اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الجُبَّةَ»
(1)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ
…
وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا»
(2)
.
وَجْه الدلالة: ما قاله ابن قُدامة: فَلَمَّا مُنِعَ الْمَيِّتُ مِنَ الطِّيبِ لِإِحْرَامِهِ، فَالْحَيُّ أَوْلَى
(3)
.
وأما الإجماع، فنَقَل غير واحد الإجماع على أن المُحْرِم ممنوع من الطِّيب
(4)
.
المبحث الثاني: الحِكَم من تحريم الطِّيب على المُحْرِم:
الحكمة الأولى: كَوْنه من أسباب دواعي الوَطْء، فتحريمه مِنْ سد باب الذريعة، فإن الطِّيب يُعطِي الإنسان نشوة، وربما يُحَرِّك شهوته ويُلهِب غريزته، ويَحصل بذلك فتنة له، والله تعالى يقول:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]
(5)
.
الحكمة الثانية: أنه يُنَافِي تَذَلُّل الحاج، فإن الحاج أشعث أَغْبَر. وقد ينسيه ما هو فيه من العبادة؛ لِما فيه من الترفه، وهذا يخالف مقصود الحج من التجرد عن زينة الدنيا ومَلاذها، ويَجتمع همه للآخرة؛ فلذلك نُهِيَ عنه المُحْرِم.
المبحث الثالث: ضابط الطِّيب المحظور على المُحْرِم. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الطِّيب المتفق على تحريمه على المُحْرِم:
اتَّفَق العلماء على أن كل ما كان معروفًا عند الناس بأنه طِيب لطِيب رائحته ويُتَّخَذ للشَّم، فهو محظور على المُحْرِم، مِثل المِسك والكافور والزعفران والعُود والعنبر
(6)
.
المطلب الثاني: اتَّفَق العلماء على جواز شم المُحْرِم نبات الصحراء، مما له رائحة
(1)
رواه البخاري (1536)، ومسلم (1180).
(2)
رواه البخاري (1267)، ومسلم (1206).
(3)
«المغني» (5/ 140).
(4)
نَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 52)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 42)، وابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 19)، و «التمهيد» (15/ 122)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 142).
(5)
«إعلام المُوقِّعين» (3/ 141)، و «الشرح الممتع» (7/ 138).
(6)
«التمهيد» (2/ 262). وقال ابن قُدامة: وَمَعْنَى الطِّيبِ: مَا تَطِيبُ رَائِحَتُهُ وَيُتَّخَذُ لِلشَّمِّ، كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ، وَالْغَالِيَةِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ. «المغني» (5/ 140).
زكية، كالإِذْخِر والفواكه طيبة الرائحة.
المطلب الثالث: حُكم شم الرياحين للمُحْرِم:
اختَلف العلماء على قولين فيما يُنبته الآدميون للطِّيب ولا يُتخَذ منه الطِّيب، كالرياحين والنرجس، فهل يَجوز للمُحْرِم شمها؟ وهل هو موجب للفدية؟
القول الأول: أنه لا فدية على المُحْرِم إذا شم الرياحين. وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقول الشافعية والحنابلة
(1)
.
فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي الْمُحْرِمِ يَدْخُلُ الْبُسْتَانَ، قَالَ:«نَعَمْ، وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ»
(2)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَا بَأْسَ أَنْ يَشُمَّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ»
(3)
.
القول الآخَر: أن الفدية تجب على المُحْرِم بشم الرياحين. وهو الصحيح عند الشافعية، ورواية عن أحمد
(4)
.
والراجح: أنه لا فدية على المُحْرِم إذا شم الرياحين؛ لأن المحظور على المُحْرِم هو وضع الطِّيب على الثوب أو البدن، وليس مجرد الشم، والأحوط للدِّين والأبرأ للذمة ألا يتقصد شم الرياحين.
المطلب الرابع: حُكْم استعمال البخور للمُحْرِم:
يَحرم استعمال البخور على المُحْرِم. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(5)
.
(1)
«المبسوط» (4/ 123)، و «المدونة» (1/ 343)، و «الحاوي» (4/ 108)، و «المغني» (5/ 141).
(2)
أخرجه ابن المقرئ في «معجمه» (1108). قال ابن عبد الهادي: هذا حديث موضوع، وإسناده مصنوع، عند أدنى مَنْ له بصيرة في هذا الشأن، وَضَعه بعض المجاهيل. «تنقيح التحقيق» (3/ 471). وقال المُنذرِي: هو أثر غريب. «البدر المنير» (6/ 382).
(3)
صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (14819)، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، به.
وتابع هشامًا أيوب عند الدارقطني (2480) من طريق أبي معاوية، عن ابن جُرَيْجٍ، به.
(4)
«الأم» (2/ 152)، و «كشاف القناع» (2/ 430).
ورَوَى ابن أبي شيبة (14827) بسند صحيح: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ شَمَّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ.
وَصَحَّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يُسْأَلُ عَنِ الرَّيْحَانِ: أَيَشُمُّهُ الْمُحْرِمُ، وَالطِّيبِ وَالدُّهْنِ؟ فَقَالَ لَا. أخرجه الشافعي في «مسنده» (865)، وابن الجعد في «مسنده» (2623).
(5)
«مواهب الجليل» (4/ 220)، و «المجموع» (7/ 281)، و «كشاف القناع» (2/ 429).
واستدلوا بعمومات الأدلة من السُّنة والإجماع على منع المُحْرِم من الطِّيب، والبخور من جملة أنواع الطِّيب الذي حُظر على المُحْرِم استعماله، وأنه يَصدق على مَنْ تَبَخَّر أنه تَطيَّب. وإذا كان المقصود من الطِّيب هو الاستمتاع برائحته، فالبخور أَوْلَى بالتحريم.
المبحث الخامس: بقاء الطِّيب بعد الإحرام: وفيه مطلبان:
أَجْمَع العلماء على تحريم وضع الطِّيب في الثوب والبدن بعد الإحرام، وتجب به الفدية، واختلفوا فيمن تَطَيَّب قبل إحرامه ثم بقي الطِّيب واستدام، ولا يخلو من أن يكون بالبدن أو الثوب.
المطلب الأول: حُكْم استدامة الطِّيب في البدن الذي كان قبل الإحرام:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: استحباب التطيب في البدن لا في الثياب، قبل الدخول في الإحرام؛ استعدادًا له، ولو بقي جِرمه بعد الإحرام. وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا لذلك بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: (كُنْتُ أُطَيِّبُ .... لِإِحْرَامِهِ) أي: بعد اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم تضع الطِّيب على بدنه، قبل أن يَلبس ملابس الإحرام.
وَعَنْها أَيْضًا قَالَتْ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ»
(3)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع الطِّيب في مَفْرِق رأسه قبل الإحرام، وعائشة كانت تَرى بريق الطِّيب في مَفْرِق رأسه وهو مُحْرِم صلى الله عليه وسلم. فهذا دليل على جواز استدامة الطِّيب في البدن إذا كان قبل الإحرام.
(1)
«تبيين الحقائق» (2/ 9)، و «الحاوي» (4/ 177)، و «المجموع» (7/ 221)، و «المغني» (5/ 77).
(2)
رواه البخاري (1539)، ومسلم (1189).
(3)
رواه البخاري (271)، ومسلم (1190). (وبيص الطِّيب): أي بَريقه. و (مَفْرِق): حيث يُفْرَق فيه الشَّعر.
وقد تفرد الْحَسَن بْن عُبَيْدِ اللهِ: فقال «وَبِيصِ الْمِسْكِ» وقد خولف من الثقات الأثبات فقالوا،:«وَبِيصِ الطِّيبِ» وليس المسك، منهم الحَكَمُ عند البخاري (271)، ومسلم (1190) ومنصور، والأعمش كلاهما عند مسلم، وغيرهم كثير عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ به.
واعتُرض على هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: حَمْل تَطَيُّبِ النَّبِيِّ لِإِحْرَامِهِ عَلَى الخُصُوصِ لَهُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَمْلَكَ النَّاسِ لِإِرْبِهِ. وَلِأَنَّ مَا يُخَافُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ تَذَكُّرِ الْجِمَاعِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ فِي الْإِحْرَامِ- مَأْمُونٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ونوقش بقول عائشة: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ
…
» أي: بيدها، ولم يُحْفَظ عنه أنه أَمَرها بغسلها. والخصوصية لا تَثبت إلا بدليل.
(2)
.
الوجه الثاني: حَمْل الطِّيب الذي تَطَيَّبَ به النبي صلى الله عليه وسلم على نوع لا لون ولا ريح له، فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«طَيَّبْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لإِحْلَالِهِ، وَطَيَّبْتُهُ لإِحْرَامِهِ، طِيبًا لَا يُشْبِهُ طِيبَكُمْ هَذَا»
(3)
تَعْنِي: لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ.
ونوقش بأن لفظة (لَا يُشْبِهُ طِيبَكُمْ هَذَا) ضعيفة، ولو صحت فمعناها أنه أطيب من طِيبكم، فعن عُروة قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: بِأَيِّ شَيْءٍ طَيَّبْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ
(1)
«التمهيد» (19/ 305).
(2)
صحيح: رواه أبو داود (1830) وإسحاق (1772) من طريق عمر بن سُوَيْد، عن عائشة بنت طلحة، به.
(3)
شاذ بهذا اللفظ: ومدار هذا الحديث على الزُّهْري عن عروة، عن عائشة، به. واختُلف عنه في لفظه: فرواه ابن عُيينة، عن الزُّهْري، به، قالت «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» أخرجه مسلم (1189)، وذَكَر الدارقطني في «العلل» (9/ 53) أن يونس والزبيدي وإسحاق بن راشد- رَوَوْه عن الزُّهْري عن عروة عن عائشة، مِثل لفظ ابن عُيينة.
وخالفهم في لفظه ضَمْرة بن ربيعة، فرواه عن الأوزاعي، عن الزُّهْري، به. وزاد فيه:«وَطَيَّبْتُهُ لِإِحْرَامِهِ طِيبًا لَا يُشْبِهُ طِيبَكُمْ هَذَا» تَعْنِي: لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ. أخرجه النَّسَائي (2708).
وضَمْرة صدوق يهم قليلًا، وهذه اللفظة:(لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ) من أوهامه.
قال الدارقطني: تَفَرَّد بهذه الأَلفاظ ضَمْرة، وليست بمحفوظة. «العلل» (9/ 53).
وقد توبع الزهري من عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ عند البخاري (5928) واللفظ له، ومسلم (1189) قَالَتْ عائشة:«كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْرَامِهِ بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ» .
وقد رواه جماعة عن عائشة بدون هذه الزيادة. منهم القاسم عند البخاري (1754) ومسلم (1189)، والأسود عند البخاري (267) ومسلم (1190)، ومُحَمَّد بْنِ الْمُنْتَشِرِ عند البخاري (271) ومسلم (1192)، وعمرة ومسروق كلاهما عند مسلم (1189)(1190) وغيرهم كثير بدون الزيادة.
حُرْمِهِ؟ قَالَتْ: بِأَطْيَبِ الطِّيبِ. وفي رواية: بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ
(1)
. والمسك له رائحة تفوح.
الوجه الثالث: أن تَطيُّب النبي صلى الله عليه وسلم أعقبه اغتسال؛ لقول عائشة: «أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا»
(2)
.
وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالطَّوَافِ الْجِمَاعُ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَغْتَسِلَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْقَى لِلطِّيبِ أَثَرٌ.
ونوقش بقول عائشة: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَحُ طِيبًا» فهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَضْحَ الطِّيبِ وَظُهُورَ رَائِحَتِهِ كَانَ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ.
وأما استدلالهم بالمعقول، فهو أن الطِّيب معنى يراد للاستدامة، فلم يَمنع الإحرام من استدامته كالنكاحِ
(3)
.
القول الآخَر: خَالَف المالكيةُ الجمهور، فمنعوا من استدامة الطِّيب في البدن، ولكن دون لزوم الفدية
(4)
.
واستدلوا بحديث يعلى بن أُمية، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: «اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الجُبَّةَ
…
»
(5)
.
وَجْه الدلالة: في أمر النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بغَسْل أثر الطِّيب الذي ببدنه، وبنزع الجبة التي عليها الطِّيب- دليل على منع المُحْرِم من استدامة الطِّيب بعد الإحرام في بدنه وثوبه، ولم يُلزِمه بالفدية.
ونوقش هذا الاستدلال من أربعة أوجه:
الوجه الأول: حَمْل الأمر بغَسْل الطِّيب في حديث يعلى على نوع مخصوص من الطِّيب، وهو الخَلوق، كما صَرَّحَتْ به بعض روايات الحديث
(6)
.
(1)
مسلم (1191).
(2)
مسلم (1192).
(3)
«المجموع» (7/ 222)، و «فتح الباري» (3/ 398).
(4)
«الذخيرة» (3/ 225).
(5)
البخاري (1536). وفي رواية: «اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الصُّفْرَةِ» ، ومسلم (1203).
(6)
فروى مسلم (1180) عن يعلى بن أمية، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل:«انْزِعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ الَّذِي بِكَ» .
ونوقش بأن الخَلوق طِيب فيه زعفران، وقد نُهي عنه الرجال مطلقًا، مُحْرِمين وغير مُحْرِمين؛ لأجل التزعفر لا لأجل الإحرام. ولا يَخْفَى تكلفه
(1)
.
الوجه الثاني: أن هذا الخَلوق كان في الجُبة لا في البدن.
ونوقش بأنه لو كان الطِّيب في الثياب دون البدن، لكان في الأمر بنزع الجبة كفاية، ولم يكن لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ» فائدة.
الوجه الثالث: ما قاله النووي: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ بَعْدَ إحْرَامِهِ فَأَمَرَ بِإِزَالَتِهِ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ
(2)
.
ونوقش بأن لفظ الحديث يُفْهَم منه أن الرجل استَعمل الطِّيب قبل إحرامه، ولفظ مسلم: قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيَّ هَذَا، وَأَنَا مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ
(3)
.
الوجه الرابع: أن حديث عائشة في تطيبب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداعِ- ناسخ لحديث يعلى بن أُمية المتضمن أمره صلى الله عليه وسلم بغَسْل الطِّيب من بدن الرجل وثيابه؛ لأنه كان عَقِب فتح مكة سَنة ثمانٍ، بالإجماع
(4)
.
فحاصل هذا الوجه أن حديث يعلى بن أُمية منسوخ بحديث عائشة، والله أعلم.
المطلب الثاني: حُكْم بقاء الطِّيب واستدامته بثوب الإحرام بعد الإحرام:
أَجْمَع العلماء على تحريم لُبس ما مسه الطِّيب حال الإحرام
(5)
.
واختلفوا في جواز وضع الطِّيب على الرداء قبل الإحرام واستدامته، على قولين:
القول الأول: يُمنَع الحاج من تطييب ثوب الإحرام قبل إحرامه؛ لعدم جواز استدامة
(1)
«الدراية» (2/ 8)، و «الأم» (3/ 384)، و «المُحَلَّى» (7/ 48)، و «زاد المعاد» (2/ 223).
(2)
«المجموع» (7/ 222).
(3)
البخاري (4985)، ومسلم (1180) واللفظ له.
(4)
قال ابن عبد البر: لَا خِلَافَ أَنَّ قِصَّةَ صَاحِبِ الْجُبَّةِ كَانَتْ عَامَ حُنَيْنٍ، بِالْجِعْرَانَةِ، سَنَةَ ثَمَانٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَذَلِكَ سَنَةَ عَشْر. «التمهيد» (19/ 306). وقال الشافعي: فَكَانَ تَطَيُّبُهُ لِإِحْرَامِهِ وَلِحِلِّهِ نَاسِخًا لِأَمْرِهِ الْأَعْرَابِيَّ بِغَسْلِ الصُّفْرَةِ. «اختلاف الحديث» (8/ 655).
(5)
«الإجماع» لابن المنذر (ص: 53)، و «التمهيد» (15/ 122)، و «المغني» (5/ 142)، وغيرها.
اللُّبس المُطيَّب بعد الإحرام. وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقول عند الشافعية
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة:
واستدلوا بأنه لا يَجوز للمُحْرِم أن يضع الطِّيب على ملابس الإحرام قبل أن يُحْرِم فيه؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لُبس المُحْرِم الثوب المُطيَّب، وإذا طَيَّبها لا يلبسها حتى يغسلها أو يُغيِّرها؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ»
(2)
.
واستدلوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بنزع الجُبة التي فيها طِيب، بقوله:«اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ، وَانْزِعْ عَنْكَ الجُبَّةَ» .
القول الآخَر: جواز استدامة اللُّبس المُطيَّب ولا فدية عليه، ولكن بشرط ألا ينزعه ثم يعود للبسه مرة أخرى، وإلا لزمت الفدية. وهو المشهور عند الشافعية
(3)
.
واستدلوا بحديث عائشة: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ» .
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطيب قبل الإحرام، واستدامة الطِّيب بعد إحرامه دليل على أن الممنوع هو ابتداء التطيب بعد لبس الإحرام وليس استدامته.
واعتُرض عليه من وجهين:
الأول: أن الرخصة إنما جاءت في البدن وليس الثياب؛ لأن الطِّيب في الثوب يبقى لا يُستهلك، بخلاف البدن فإن الطِّيب يُستهلك سريعًا ولا يبقى؛ فلا يصح القياس.
الثاني: أن أَمْر النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بنزع الجُبة دليل على تحريم استدامته.
والراجح: أنه لا يَجوز للمُحْرِم أن يضع الطِّيب على ملابس الإحرام (الإزار والرداء) وإذا طَيَّبها لا يلبسها حتى يغسلها أو يغيرها؛ لنَهْي النبي صلى الله عليه وسلم المُحْرِم عن لُبس الثوب المُطيَّب بقوله: «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ» وإنما السُّنة تطييب البدن، كرأسه ولحيته وإبطيه وجسده قبل الإحرام، والله أعلم.
(1)
«المبسوط» (4/ 122)، و «المدونة» (2/ 456)، و «الذخيرة» (3/ 227)، و «المجموع» (7/ 240).
(2)
البخاري (1543)، ومسلم (1177) واللفظ له.
(3)
«المجموع» (7/ 218). وذهب الحنابلة إلى الكراهة. «الإنصاف» (3/ 432)، و «المغني» (5/ 80).
المبحث السادس: إذا خُلِط الطِّيب بطعام، فهل تجب فيه الفدية؟
اتفق عامة أهل العلم على أن الزعفران وغيره من الطِّيب إذا خُلط بطعام، ثم طُبخ على النار، فذهب طعمه ولونه وريحه، فإنه يَجوز للمُحْرِم أكله، ولا فدية في ذلك
(1)
.
واختلفوا على ثلاثة أقوال في الطعام إذا خُلط بطِيب، ثم طُبخ على النار، وبقيت صفاته أو شيء منها، فهل يَجوز للمُحْرِم تناوله أم لا؟
الأول: إذا خُلط الطِّيب بطعام، فظهرت الرائحة، فإن عليه الفدية. بخلاف ما لو ذهبت الرائحة بالطبخ، فيَجوز أكله ولا فدية عليه؛ لأن الحُكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(2)
.
الثاني: أن خلط الطِّيب بطعام له حالتان:
الأولى: أن يُخلَط الطِّيب بطعام مطبوخ، فلا شيء عليه؛ لأن الطِّيب صار مستهلكًا في الطعام بالطبخ.
الثانية: أن يُخلَط الطِّيب بطعام غير مطبوخ، فإن كان الطعام أكثر فلا شيء عليه، وإن كان الطِّيب أكثر وجب في أكله الدمُ. وهذا مذهب الحنفية
(3)
.
القول الثالث: أن كل طعام خُلط بطِيب من غير أن يُطبَخ فيه، فهو محظور وتجب فيه الفدية. وبه قال المالكية
(4)
.
والراجح: أنه إذا خُلط الطِّيب كالزعفران بطعام، فذهبت الرائحة بالطبخ، جاز أكله ولا فدية عليه؛ لأن الطِّيب صار مستهلكًا في الطعام بالطبخ. وكذا ملونات الطعام ومنكهاته، لا فدية على المُحْرِم في استعمالها.
(1)
«المبسوط» (4/ 124)، و «المدونة» (1/ 342)، و «الأُم» (2/ 152)، و «المغني» (5/ 147).
(2)
«المجموع» (7/ 273)، و «المبدع» (3/ 171).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 191).
(4)
«الشرح الكبير» للدردير (2/ 21)، و «حاشية الصاوي» (2/ 86).
المبحث السابع: مس طِيب الكعبة:
مَسُّ طِيب الكعبة لا يخلو من حالين:
الأول: أن المُحْرِم إذا مس طِيب الكعبة قاصدًا التلذذ به، فتجب عليه الفدية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ» فالمُحْرِم ممنوع من مس الطِّيب.
الثاني: أن المُحْرِم إذا مس طِيب الكعبة من غير قصد، فهذا لا شيء عليه.
تنبيه: إن من الإساءة العظيمة وَضْع الطِّيب على الحَجَر الأسود؛ لأنه سوف يَحْرِم المُحْرِمَ من استلام الحجر الأسود؛ لوجود الطِّيب. ولأنه لو استلمه لوقع في محظور من محظورات الإحرام، وهو مس الطِّيب. وكلاهما عُدْوان على الطائفين المُحْرِمين
(1)
.
المبحث الثامن: حُكم شم الطِّيب للمُحْرِم:
ذهب جماهير العلماء إلى أن شم الطِّيب كالمسك والكافور والعنبر والعود، بغير قصد- لا يوجب الفدية.
واختلفوا على قولين في شم المسك والعود قصدًا دون استعماله:
الأول: أنه يُكْرَه تَعمُّد شم الطِّيب، كالمسك والكافور والعنبر والعود؛ لأن الأدلة مَنَعَتْ المُحْرِم من استعمال الطِّيب في البدن والثوب، وليس مجرد الشم. وهو مذهب الحنفية، وظاهر مذهب المالكية، وقول للشافعية، وقول ابن حامد من الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عند تغسيل مُحْرِم: «
…
وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا» فالمراد بالمنع عدم وضع الطِّيب في الثوب والبدن وليس الشم؛ إذ الميت لن يشم الطِّيب.
القول الآخَر: أنه يَحرم تَعمُّد شم الطِّيب، وتجب فيه الفدية. وهو قول للمالكية، وقول للشافعية، ومذهب الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بأن القصد من منع المُحْرِم من الطِّيب هو ترك الترفه والتلذذ، والتلذذ يكون
(1)
«الشرح الممتع» (7/ 140).
(2)
«المبسوط» (4/ 123)، و «المدونة» (1/ 341)، و «المجموع» (7/ 271)، و «الإنصاف» (3/ 473).
(3)
«حاشية الدسوقي» (2/ 59)، و «الأم» (2/ 152)، و «المغني» (5/ 150).
بالشم كما يكون بالاستعمال، بل إن المراد من الاستعمال هو الشم.
واعتُرض عليه بأن قياس الاستعمال على الشم قياس مع الفارق؛ لأن الشم عارض والامتناع عنه فيه مشقة، والله يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، والاستعمال يكون فيه استدامة؛ ولذا مُنِع المُحْرِم من استعمال الطِّيب وليس الشم.
الراجح: أن شم الطِّيب كالمسك والكافور والعود مكروه، و لا يوجب الفدية.
والحاصل أن شم الطِّيب على قسمين:
الأول: أن يَشم المُحْرِم الطِّيب من غير قصد، كَمَنْ مر بالكعبة وهي تُطيَّب فوَجَد رائحة الطِّيب، أو مر بعطار فوَجَد الرائحة. فهذا لا شيء عليه.
الثاني: أن يَشم المُحْرِم الطِّيب بقصد التلذذ به؛ فهذا مكروه لأن شمه يترفه به كما يترفه بوضعه، ولا يوجب الفدية.
المبحث التاسع: الصابون المُطيَّب، وما في حكمه من المُنظِّفات:
اختَلف العلماء على ثلاثة أقوال في ذلك:
الأول: لا يَجوز استعماله. وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الشافعية والحنابلة
(1)
.
الثاني- أن الصابون المُطيَّب يَجوز استعماله. وهو مذهب الحنفية
(2)
.
واستدلوا بأن الصابون هو الغالب، والعبرة بالغالب، والمقصود منه التنظيف، ولا يُسمَّى مَنْ اغتَسل بالصابون مُتطيِّبًا.
القول الثالث: التفصيل: فيَجوز استعمال الصابون المُطيَّب بالرياحين؛ لأنه إذا كان شم المُحْرِم للرياحين لا يوجب الفدية، فمِن باب أَوْلَى المخلوط بغيره.
وأما إذا كان مُطيَّبًا بما يُتخذ للتطيب كالمسك ونحوه، فلا يَجوز استعماله لعموم الأدلة التي تَنهى المُحْرِم عن استعمال الطِّيب. وهذا مذهب المالكية
(3)
.
(1)
«المبسوط» (4/ 122)، و «الأم» (2/ 152)، و «الحاوي» (4/ 110)، و «المغني» (5/ 149).
(2)
«فتح القدير» (2/ 441)، و «تبيين الحقائق» (2/ 53).
(3)
«المُدوَّنة» (1/ 308)، و «الذخيرة» (3/ 311)، و «مواهب الجليل» (4/ 225).
المبحث العاشر: الفدية في الطِّيب:
إذا تَطَيَّب المُحْرِم عمدًا فعليه الفدية. وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة؛ قياسًا على الفدية في حلق الرأس، بجامع أنه تَرفُّه باستعمال محظور
(1)
.
* * *
(1)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 544)، و «مغني المحتاج» (1/ 532)، و «الإنصاف» (3/ 332).
الأصل الثاني: ما يتعلق بالمَخيط
وهو قسمان:
القسم الأول: المحظورات التي تختص بالرجال
اثنتان:
المحظور الأول المختص بالرجال: لبس المَخيط:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف المَخيط
المَخيط: هو المُفصَّل على قدر البدن أو العضو، بحيث يحيط به، ويَستمسك عليه بنفسه، سواء كان بخياطة أو غيرها، مثل: القميص، والسراويل، ونحو ذلك
(1)
.
المبحث الثاني: لُبْس المَخيط للذَّكَر المُحْرِم: وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يُحْظَر لُبْس المَخيط للمُحْرِم:
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: يُحْظَر لبس المَخيط للذَّكَر المُحْرِم:
لُبس المَخيط للذَّكَر من محظورات الإحرام بالسُّنة والإجماع.
أما السُّنة، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَلْبَسُ القُمُصَ، وَلَا العَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا البَرَانِسَ، وَلَا الخِفَافَ»
(2)
.
قال ابن تيمية: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ اللِّبَاسِ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يَحْرُمُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللِّبَاسَ إِمَّا أَنْ يُصْنَعَ لِلْبَدَنِ فَقَطْ فَهُوَ الْقَمِيصُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْجُبَّةِ وَالْفَرُّوجِ وَنَحْوِهِمَا. أَوْ لِلرَّأْسِ فَقَطْ، وَهُوَ الْعِمَامَةُ وَمَا فِي مَعْنَاها. أَوْ لَهُمَا وَهُوَ الْبُرْنُسُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. أَوْ لِلْفَخِذَيْنِ وَالسَّاقِ وَهُوَ السَّرَاوِيلُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ تُبَّانٍ
(1)
«مختصر فقه الحج» (ص: 127). والمَخيط: هو اللباس المصنوع على قدر البدن، كالسراويل.
(2)
رواه البخاري (1543)(5803)، ومسلم (1177).
وَنَحْوِهِ. أَوْ لِلرِّجْلَيْنِ وَهُوَ الْخُفُّ وَنَحْوُهُ
(1)
.
وأما الإجماع، فقد نَقَل غير واحد الإجماع على عدم جواز لُبس المُحْرِم للمَخيط
(2)
.
المطلب الثاني: مَنْ أَحْرَم بالمَخيط
؛ لعَدَم حمله التصريح بالحج، فحجه صحيح لكنه يأثم بارتدائه المَخيط إن كان من غير عذر، وتجب عليه الفدية.
المطلب الثالث: حُكْم لبس المُحْرِم التُّبَّان (السروال القصير) لسَتْر العورة:
فإذا كان المُحْرِم يَعمل ويُكْثِر من التنقل ويَخشى من انكشاف عورته، فهل يَجوز له أن يَستر عورته بسروال قصير تحت الإزار أم لا؟ في هذا قولان للعلماء:
القول الأول: ذهب جماهير العلماء إلى أنه لا يَجوز لبس التُّبَّان تحت الإزار
(3)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ القَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ» .
القول الآخَر: ذهب المالكية في رواية إلى جواز لبس السروال القصير إذا احتيج إليه.
واستدلوا بما ورد: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَجَّتْ وَمَعَهَا غِلْمَانٌ لَهَا، وَكَانُوا إِذَا شَدُّوا رَحْلَهَا يَبْدُو مِنْهُمُ الشَّيْءُ، فَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا التَّبَابِينَ فَيَلْبَسُونَهَا، وَهُمْ مُحْرِمُونَ
(4)
.
وَجْه الدلالة: أن عائشة ترى جواز لباس سروال قصير تحت الإزار عند الحاجة.
(1)
«شرح العمدة، كتاب الحج» (2/ 21).
قال النووي: فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ، فَهو غَيْرُ مُنْحَصِرٍ، فَضُبِطَ الْجَمِيعُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَلْبَسُ كَذَا وَكَذَا. يَعْنِي وَيَلْبَسُ مَا سِوَاهُ. «شرح مسلم» (8/ 73).
(2)
نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 53)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 42)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (1/ 326، 327)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 119) وغيرهم.
وقد أَغْرَبَ الشوكاني فقال بجواز لُبس المَخيط الذي لم يَنص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث، فقال: والحاصل أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد بَيَّن أكمل بيان ما لا يَجوز للمُحْرِم لُبسه، فما عدا ذلك جاز له لُبسه، سواء كان مَخيطًا أو غير مَخيط. «السيل الجَرَّار» (ص: 315).
ونوقش بأن هذا القول ظاهر البطلان! وقد أَجْمَع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم نَصَّ على هذه الأشياء، وأَلْحِقَ بها ما في معناها.
(3)
«الدر المختار» (2/ 163)، و «التاج والإكليل» (3/ 142)، و «الحاوي» (4/ 97)، و «المغني» (5/ 119).
(4)
صحيح: أخرجه سعيد بن منصور كما في «تغليق التعليق» (3/ 50) من طريق القاسم عن عائشة، به.
واعتُرض عليه بأنه إذا تعارض الموقوف والمرفوع، قُدِّم المرفوع، الذي فيه نهي المُحْرِم عن لُبس السراويلات. والتُّبَّان سروال قصير، فيَدخل في عموم النهي.
والراجح: أنه لا يَجوز لُبس السروال القصير تحت الإزار، وقد يكون ظهور العورة بسبب عدم تعلم كيفية إحكام لباس الإحرام، فينبغي تعليم الحُجاج كيفية إحكام لباس الإحرام حتى لا تظهر العورة؛ لأن ما لا يَتم الواجب إلا به فهو واجب.
المطلب الرابع: مدة اللبس الموجبة للفدية:
اختَلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: أن قليل اللبس وكثيره سواء في إيجاب الفدية؛ لأن ظواهر النصوص مَنَعَتِ المُحْرِم من لبس المَخيط دون تقييد. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(1)
.
الثاني: أن المُحْرِم إذا لبس المَخيط، ثم نزعه في الحال، فلا فدية عليه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لمُحْرِم:«اخلع عنك هذه الجُبة» ولم يأمره بالفدية. وهو قول للمالكية
(2)
.
الثالث: أن الفدية لا تجب إلا بلباس يوم كامل. وهو مذهب الحنفية
(3)
.
ونوقش بأنه قد تُؤدَّى العمرة في أقل من يوم، ومعنى ذلك أن المعتمر قد يؤدي عمرته ولا فدية عليه؛ لأن التأقيت بيوم لا يَثبت إلا بدليل.
والراجح: أن ظواهر نصوص الكتاب والسُّنة مَنَعَتِ المُحْرِم من لبس المَخيط دون تقييد، فدل ذلك على أن مطلق اللبس يوجب الفدية، وأن قليله وكثيره سواء. والله أعلم.
القسم الثاني: الحالات المستثناة من لُبس المَخيط:
وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: لُبس السراويل لمن لم يجد الإزار:
إن لم يجد المُحْرِم إزارًا، لبس السراويل، دل على ذلك السُّنة والإجماع.
أما السُّنة، فما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ: «مَنْ
(1)
«الأم» (2/ 149)، و «الحاوي» (4/ 107)، و «المبدع» (3/ 141).
(2)
«المدونة» (1/ 344)، و «الذخيرة» (3/ 304).
(3)
«المبسوط» (4/ 126)، و «بدائع الصنائع» (2/ 183).
لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ»
(1)
.
وأَجْمَع العلماء على أن للمُحْرِم أن يَلبس السراويل إذا لم يجد الإزار
(2)
.
المطلب الثاني: عَقْد الإزار للمُحْرِم:
اختَلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: يَجوز عقد الإزار للمُحْرِم إذا لم يَثبت ويَستمسك إلا بذلك. وهو مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم، والظاهرية
(3)
.
قال طاوس: رأيتُ ابن عمر يَطوف بالبيت، وعليه عمامة قد شَدَّها على وَسَطه
(4)
.
الثاني: يُكْرَه للمُحْرِم عقد الإزار. وهو مذهب الحنفية
(5)
.
الثالث: يَحرم عقد الإزار؛ لأنه في معنى المَخيط. وهو مذهب المالكية
(6)
.
والراجح: أن عقد الإزار يُفْعَل إذا احتيج إليه؛ لأن فيه مصلحة، وهو أن يَثبت به، وقد تنكشف العورة بدون عقده، ويُحتاج إليه لسَترها.
المطلب الثالث: حُكْم تشبيك الرداء بمشبك:
يَجوز للمُحْرِم تشبيك ردائه بمشبك ونحوه؛ لأنه لا يُعَد لُبسًا.
قال ابن عثيمين: لو شَبَّك رداءه بمشبك فإنه لا يُعَد لُبسًا، بل هو رداءٌ مُشَبَّك، لكن بعض الناس توسعوا في هذه المسألة، وصار الرجل يشبك رداءه من رقبته إلى عانته، فيبقى كأنه قميص ليس له أكمام، وهذا لا ينبغي
(7)
.
(1)
أخرجه البخاري (1843)، ومسلم (1178).
(2)
«المغني» (5/ 120) ونَقَل الإجماع ابن المنذر في «الإشراف» (3/ 222).
(3)
«الأم» (2/ 149)، و «الحاوي» (4/ 99)، و «المغني» (5/ 124)، و «المُحَلَّى» (7/ 258).
(4)
حسن: رواه أحمد في «مسائل أبي داود» (717). وفيه (هشام بن حُجَيْر) وهو حسن الحديث.
(5)
«المبسوط» (4/ 127)، و «بدائع الصنائع» (2/ 185).
(6)
«المدونة» (1/ 461)، و «مواهب الجليل» (3/ 141).
(7)
«الشرح الممتع» (7/ 130، 131).
المطلب الرابع: حُكْم لُبس المُحْرِم الإزار المَخيط:
ذهب جماهير العلماء إلى عدم جواز لبس الإزار المَخيط؛ لأنه يحيط بالبدن بخياطة، فهو لباس مصنوع على قدر البدن، كالسراويل
(1)
.
وذهب الشيخ ابن عثيمين إلى أن الإحرام بالإزار المَخيط جائز، ولا يوجب الفدية
(2)
.
واستَدل بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ» .
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق لفظ الإزار، ولم يقل:(إزارًا لم يُخَط أو ليس فيه خياطة) فدل على أن المَخيط داخل في عموم النص، ومَن أخرجه فعليه الدليل.
واعتُرض على هذا الاستدلال بأن الإزار في اللغة والشرع غير مَخيط، وأما الإزار المَخيط فيُسمَّى نُقْبَة، وعلى هذا فالإزار المَخيط لا يَدخل في مُسمَّى الإزار، وقد بَوَّب البخاري: بَابُ عَقْدِ الإِزَارِ عَلَى القَفَا فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ:«صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ»
(3)
. فهذا يدل على أن الإزار غير مَخيط؛ لأن الإزار المَخيط لا يُعْقَد على العاتق.
واستَدل بأن كلمة (مَخيط) لم تَرِد في السُّنة، بينما الذي ورد: «لا يَلبس المُحْرِم
…
».
ونوقش بأن الفقهاء يقولون: (يَحرم على المُحْرِم المَخيط) بِناء على الغالب؛ ولذا فقد اتفقوا على أن ما وُضِع على قدر البدن أو جزء منه بدون خياطة- داخل في التحريم، سواء كان ذلك بنسج أو بلصق أو غير ذلك.
المطلب الخامس: حُكْم لبس قطعة ثالثة مع الإحرام تَستر العورة:
لا يجوز للمُحْرِم لبس قطعة ثالثة على الفرج لتَستر العورة؛ لأمرين:
الأول: أنها تحيط بالبدن بكبسات معدنية، فتَدخل في معنى المنصوص، كالسروال.
(1)
«البحر الرائق» (3/ 11)، و «الاستذكار» (1/ 34)، و «المجموع» (7/ 236)، و «المغني» (5/ 11).
(2)
«فتاوى ابن عثيمين» (22/ 134).
(3)
«صحيح البخاري» (1/ 80). وقال أَبو عُبَيْد: والنُّقْبةُ أَنْ تُؤْخذَ القِطْعَةُ مِنَ الثَّوْبِ قَدْرَ السَّرَاوِيلِ، فتُجْعَلَ لَهَا حُجْزةٌ مَخِيطَةٌ مِنْ غَيْرِ نَيْفَقٍ، وَتُشَدُّ كَمَا تُشَدُّ حُجْزةُ السَّرَاوِيلِ، فَإِذَا كَانَ لَهَا نَيْفَقٌ وَسَاقَانِ فَهِيَ سَرَاوِيلُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَيْفَقٌ وَلَا سَاقَانِ وَلَا حُجْزَةٌ، فَهُوَ النِّطاقُ. «لسان العرب» (6/ 4513).
الثاني: أن هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحرام في إزار ورداء، ولو كانت هذه الصفة جائزة لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول المسارعين إليها، وكيف لا، وهو الذي أُنْزِل عليه:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] وهو الذي نَهَى عن بعض الجلسات خَشية ظهور العورة
(1)
.
المطلب السادس: حُكم لبس المُحْرِم الحزام ليضع فيه النفقة ونحوها:
يَجوز لبس الحزام الذي يُشَد على وسط المحرم الآن، ويوضع فيه المال والمحمول والجواز؛ لأن الحاجة داعية إلى لبسه؛ إذ إن ترك لبسه مع وجود النفقة فيه مما يُعَرِّض النفقة للسرقة والضياع. وهذا قول جماهير العلماء قديمًا وحديثًا
(2)
.
المطلب السابع: لُبْس المُحْرِم للخاتم:
نُقِل الإجماع على جواز لبس الخاتم للمُحْرِم
(3)
.
المطلب الثامن: لُبْس المُحْرِم للساعة أو النظارة أو سماعة الأذن أو تركيبة الأسنان:
يَجوز للمُحْرِم لبس الساعة، أو النظارة؛ وذلك لأنها كلها ليست في معنى ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم المُحْرِم عن لبسه من أنواع الألبسة
(4)
.
القسم الثالث: لُبْس النعلين للمُحْرِم:
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: لُبْس الخفين لمن لم يجد النعلين:
إن لم يجد المُحْرِم نعلين لبس الخفين بالإجماع
(5)
.
(1)
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْتَبِيَ بِالثَّوْبِ الوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
(2)
«التمهيد» (15/ 118).
وقد صح جواز لبس الهِمْيان (الحِزام) عن عائشة وابن عباس- عند ابن أبي شيبة (15448)(15696).
(3)
قال النووي: وَلَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْخَاتَمَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ هَذَا. «المجموع» (7/ 255). وهذا الإجماع منخرم، فالصحيح من مذهب المالكية عدم جواز لبس الخاتم للمُحْرِم. «مواهب الجليل» (3/ 141).
(4)
«الشرح الممتع» (7/ 132).
(5)
نَقَل ابن المنذر الإجماع في «الإشراف» (3/ 222). وقال ابن قُدامة: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ إِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ. «المغني» (5/ 120).
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ»
(1)
.
المطلب الثاني: حُكْم قَطْع الخف أسفل من الكعبين لمن لم يجد النعلين:
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
الأول: أن مَنْ لم يجد نعلين فليلبس خفين، ويقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، ورواية عن الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بما ورد عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ»
(3)
.
القول الآخَر: أن مَنْ لم يجد النعلين فليَلبس الخفين من غير قطعهما. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة
(4)
.
واستدلوا بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: «مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ»
(5)
.
(1)
رواه مسلم (1179).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 184)، و «التاج والإكليل» (3/ 142)، و «الحاوي» (4/ 97)، و «المغني» (5/ 121).
(3)
رواه البخاري (366)، ومسلم (1177).
قد قيل: إن لفظة «وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ» مُدرَجة من كلام نافع. قال ابن قُدامة: إنَّ قَوْلَهُ: (وَلْيَقْطَعْهُمَا) مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ. كَذَلِكَ رَوَيْنَاهُ فِي «أَمَالِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ بَشْرَانَ» بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، أَنَّ نَافِعًا قَالَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِلْحَدِيثِ: وَلْيَقْطَعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ. «المغني» (5/ 121).
وقد رَجَّح ابن حجر أن هذه الرواية شاذة، فقال: لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ، إِلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ. «فتح الباري» (3/ 403).
(4)
«المغني» (5/ 120)، و «الإنصاف» (3/ 464).
(5)
مدار الحديث على عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، به.
فرواه شُعْبة عن عمرو، به، فزاد فيه:(يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ). رواه البخاري (1841)، ومسلم (1178).
رواه جماعة من الثقات (سفيان الثوري، وابن عُيَيْنة، وابن جُرَيْجٍ، وأيوب، وحَمَّاد بن زيد، وهُشَيْم) عن عمرو بن دينار. ولم يقل أحد منهم: (يَخطب بعرفات) غير شُعبة. خَرَّج رواياتهم مسلم (1178) وقال: كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ عَمْرِو، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ:(يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ) غَيْرُ شُعْبَةَ وَحْدَهُ.
فهل تُقَدَّم رواية الجَمْع على رواية الواحد، فتكون لفظة (يَخطب بعرفات) شاذة، أم زيادة ثقة؟
الأظهر: أن تَفرُّد شُعبة بزيادة: (يَخطب بعرفات) لا يَضر؛ لأنه إمام مُبَرَّز في الحفظ والإتقان، فمِثله يُعتمد على حفظه، فتُقْبَل زيادته إذا لم تكن مُخالِفة، ودل على صحتها إخراج البخاري ومسلم لها.
وقد وردت زيادة شاذة ضعيفة من طريق إسماعيل الجَحْدَرِيّ عن يزيد بْن زُرَيْعٍ، عن أيوب، عن عمرو، به. وزاد فيه:(وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ).
ولعل هذه الزيادة غلط من النُّسَّاخ؛ لأن النَّسَائي خَرَّج هذه الرواية في «الكبرى» (3645) بنفس السند الذي في «الصغرى» وليست الزيادة فيه، أو أن هذا شذوذ من إسماعيل الجَحْدَريّ بلا ريب؛ إذ قد رواه الثقات الأثبات (سُفيان الثوري، وابن عُيَيْنة، وابن جُرَيْجٍ، وحَمَّاد بن زيد، وهُشَيْم، وأَيوب) عن عمرو بن دينار) فلم يَذكروا هذه الزيادة.
قال الدارقطني: وكُل مَنْ ذَكَر قَطْع الخُفين في حديث ابن عباس، فقد وَهِم. «العلل» (7/ 171).
وَجْه الدلالة: أن هذا الحديث كان متأخرًا في حجة الوداع بعرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق أن مَنْ لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ولو كان قَطْع الخفين شرطًا لبَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم.
والراجح: أن لم يجد النعلين فليلبس الخفين من غير قطعهما؛ لأسباب أربعة:
الأول: أن حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الكَعْبَيْنِ» منسوخ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: «مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ» .
الثاني: موافقة حديث جابر لحديث ابن عباس.
الثالث: عَمَل الصحابة بمقتضى حديث ابن عباس، فقد ذَكَر ابن تيمية: أَنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ، مِثْلَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رَخَّصُوا فِي لُبْسِ الْخُفَّيْنِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ، وَتَرْكِ قَطْعِهِمَا
(1)
.
الرابع: موافقة القياس الصحيح لحديث ابن عباس، فكما أن مَنْ لم يجد إزارًا فليَلبس السروال بغير قطع، فكذا مَنْ لم يجد النعلين فليلبس الخفين من غير قطع. ولأن الخف متى قُطِع حتى يكون أسفل من الكعبين ويصير كالحذاء- لا يسمى خفًّا ولا يُمسَح عليه.
المطلب الثالث: حُكْم لبس الخفين المقطوعين،
مع وجود النعلين:
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين
(2)
:
الأول: يَجوز لبس الخفين المقطوعين، مع وجود النعلين؛ لأن الخف المقطوع
(1)
«شرح العمدة» (2/ 38).
(2)
وسبب اختلافهم هو: هل الخُف المقطوع أصل كالنعل، أو أنه بدل عن الخف الصحيح؟ فمَن يقول:(إنه أصل) فإنه يُجَوِّز لبسه مع وجود النعل. ومَن يقول: (إنه بدل) فإنه لا يُجَوِّز لبسه إلا عند فقد النعل.
كالنعل. وبه قال الحنفية، وهو قول للشافعية ورواية للحنابلة
(1)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ».
القول الآخَر: أنه لا يَجوز لبس الخفين إذا قُطِعا من الأسفل، إلا إذا عدم النعلين. وبه قال المالكية، وهو قول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ
…
وَلَا الْخُفَّيْنِ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ».
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرخِّص في لبس الخف المقطوع إلا إذا عدم النعل.
واعتُرض عليه بأن قطع الخف أسفل من الكعب دليل على قطع الخف ليشبه النعل؛ ولذا ما الفارق بين الخف والنعل؟ ولذا لا يَجوز المسح على الخف وهو على هذا الحال.
والراجح: أن الخف إذا قُطِع أسفل من الكعبين، جاز لبسه للمُحْرِم لأنه كالنعل.
المطلب الرابع: حُكم الفدية عند لبس السراويل والخفين:
مع اتفاق العلماء على جواز لبس السراويل لمن لم يجد الإزار، ولبس الخفين لمن لم يجد النعلين، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الفدية لذلك على قولين:
الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن مَنْ لم يجد الإزار، فله أن يَلبس السراويل، ولا فدية عليه. وبه قال الشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر مَنْ لم يجد الإزار بلبس السراويل، ولم يَذكر فدية. ولو كانت الفدية تجب مع لبس السراويل عند فقد الإزار، لبَيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما وقد جاء التصريح في حديث ابن عباس بأنه قد قال ذلك بعرفات، والناس محتاجون إلى البيان في ذلك الموضع أكثر من غيره؛ لأنه قد اجتمع بعرفات في ذلك الوقت خَلْق عظيم؛ ليقتدوا
(1)
«المبسوط» (2/ 127)، و «الحاوي الكبير» (4/ 97)، و «شرح العمدة» (2/ 45).
(2)
«حاشية الخرشي» (1/ 346)، و «المجموع» (7/ 250)، و «المغني» (5/ 122).
(3)
«الحاوي الكبير» (4/ 98)، و «المغني» (5/ 120).
بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتعلموا منه أمور حجهم. وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يَجوز
(1)
.
القول الآخَر: ذهب الحنفية إلى أن مَنْ لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومَن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، وعليه الفدية
(2)
.
واستدلوا بالقياس، فكما أن مَنْ لم يجد رداء فلبس بدله قميصًا، فتجب عليه الفدية، فكذا مَنْ لم يجد إزارًا فلبس سراويل فعليه فدية.
ونوقش بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الإزار يَستر العورة بخلاف الرداء.
فالراجح: عدم وجوب الفدية على مَنْ لم يجد نعلين فلبس خفين، أو لم يجد إزارًا فلبس سراويل. والله أعلم.
المحظور الرابع: تغطية الرأس للمُحْرِم الذَّكَر:
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حُكم تغطية الرأس للمُحْرِم الذَّكَر:
تغطية الرأس للذَّكَر من محظورات الإحرام، مثل الطاقية والعمامة، بالإجماع
(3)
ولعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ العِمَامَةَ وَلَا البُرْنُسَ»
(4)
.
المبحث الثاني: أقسام سَتر الرأس:
أقسام سَتر الرأس أربعة، وهي:
القسم الأول: ما كان متصلًا وقُصِد به تغطية الرأس بمُلاصِق، كالطاقية والعمامة والقبعة. فهذا مُحَرَّم؛ لعموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ العِمَامَةَ، وَلَا البُرْنُسَ
…
» ولقوله صلى الله عليه وسلم عند تغسيل مُحْرِم: «لا تُخمِّروا رأسه» .
وقد نَقَل الإجماع على ذلك: ابن حزم، والنووي، وابن القيم
…
وغيرهم
(5)
.
(1)
«المغني» (5/ 120).
(2)
«المبسوط» (3/ 126)، و «بدائع الصنائع» (2/ 183، 184).
(3)
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المُحْرِم ممنوع من تخمير رأسه. «الإجماع» (ص: 53).
وانظر: «الاستذكار» (4/ 14 - 16)، و «بداية المجتهد» (1/ 327)، و «الشرح الكبير» (3/ 268)، و «شرح العمدة» (2/ 51)، و «زاد المعاد» (2/ 225، 243)، و «شرح مسلم» (3/ 73).
(4)
رواه البخاري (5806)، ومسلم (1177).
(5)
«مراتب الإجماع» (ص: 42)، و «شرح النووي على مسلم» (8/ 128) و «زاد المعاد» (2/ 2).
القسم الثاني: ما كان متصلًا ولم يُقصَد به الاستظلال، مثل أن يغطي المُحْرِم رأسه بما يَحمله عليها، كحَمْل الطعام والعفش والمتاع على الرأس، لا يُعَد من التغطية الممنوعة إذا لم يَفعل ذلك حيلة؛ وذلك لأنه لا يُقصَد به السَّتر، على قول جماهير العلماء
(1)
.
القسم الثالث: أن يَستظل بمنفصل عنه غير تابع، كالاستظلال بالخيمة، والبيت والمسجد والحائط والشجرة والسيارة، فهذا جائز بالسُّنة والإجماع.
فعن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل: «وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا
…
»
(2)
.
قال النووي: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ تَحْتَ خَيْمَةٍ أَوْ سَقْفٍ، جَازَ
(3)
.
القسم الرابع: أن يُظلِّل رأسه بتابع له منفصل، كالشمسية، ومَحْمَل البعير والهودج، مما هو ساتر بغير ملاصق.
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
الأول: جواز الاستظلال بما ليس بملاصق، كالمَحْمَل والهودج. وهو مذهب الحنفية والشافعية، ورواية عن أحمد
(4)
.
واستدلوا بما روى مسلم: عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ
(5)
.
وفي هذا دليل على جواز استظلال المُحْرِم بالمَحْمَل ونحوه، إن كانت قصة هذا الإظلال يوم النحر ثابتة. وإن كانت بعده في أيام مِنًى، فلا حُجة فيها، وليس في الحديث
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 185)، و «مغني المحتاج» (1/ 518)، و «الشرح الكبير» (3/ 270).
واستثنى المالكية ما لو حَمَله لغيره، فإن فيه الفدية. «الذخيرة» (3/ 308).
(2)
رواه مسلم (1218).
(3)
«المجموع» (7/ 267) فقد نَقَل الإجماع على ذلك ابن عبد البر في «التمهيد» (15/ 111). وقال ابن قُدامة: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالسَّقْفِ وَالْحَائِطِ وَالشَّجَرَةِ وَالْخِبَاءِ. وَإِنْ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْرَحَ عَلَيْهَا ثَوْبًا يَسْتَظِلُّ بِهِ، عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. «المغني» (5/ 131).
(4)
«البحر الرائق» (2/ 349)، و «الأم» (2/ 203)، و «المجموع» (7/ 267)، و «زاد المعاد» (2/ 244).
(5)
أخرجه مسلم (1298).
بيان في أي زمن كانت.
القول الآخَر: عدم جواز أن يُظلِّل المُحْرِم رأسه بتابع له منفصل، كالمَحْمَل والهودج. وهو مذهب المالكية، ورواية عند الحنابلة
(1)
.
والراجح: جواز استظلال المُحْرِم بسقف السيارة أو الشمسية أو نحوهما؛ لِما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ظُلل عليه بثوب. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضُرِبَتْ له قُبة بنَمِرة، فنَزَل تحتها حتى زالت الشمس يوم عرفة.
المبحث الثالث: حُكْم تغطية الوجه للمُحْرِم:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
الأول: أن المُحْرِم يَجوز له أن يغطي وجهه. وهو مذهب الشافعية، والصحيح عند الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور والمعقول:
أما السُّنة: فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ
…
وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ».
وَجْه الدلالة: أن النص خص الرأس بالنهي عن التغطية بقوله: «وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» فمفهومه يقتضي جواز تغطية الوجه وغيره للمُحْرِم.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ»
(3)
.
فالمُحْرِم لا يغطي رأسه، فمفهومه يقتضي جواز تغطية الوجه للمُحْرِم.
(1)
«مواهب الجليل» (3/ 144)، و «المغني» (5/ 129)، و «شرح العمدة» (2/ 69).
(2)
«الأم» (2/ 149)، و «الحاوي» (4/ 101)، و «المغني» (5/ 153)، و «الإنصاف» (3/ 463).
(3)
الصحيح فيه الوقف، ومدار الحديث على عُبَيْد الله بن عُمَر، عن نافع، عن ابن عمر، واختُلِف عنه:
فرواه أيوب بن محمد أبو الجَمَل، عن عُبَيْد الله، به مرفوعًا. أخرجه الدارقطني (2760).
وخالف أيوبَ ابنُ عُيَينة، عند العُقَيْلي في «الضعفاء» (534)، وهشام بن حَسَّان عند الدارقطني (2761) وذَكَر الدارقطني في «علله»: علي بن مُسْهِر، ومحمد بن بِشر، وعبد الرحمن بن سليمان، وابن نُمَير، وإِسحاق الأَزرق
…
وغيرهم، رَوَوْه عن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عُمر، موقوفًا، وهو الصواب. «علل الدارقطني» (7/ 48). وكذا قال ابن عَدِيّ والعُقَيْلي. «الدراية» (2/ 32) وقال البيهقي: أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الجَمَلِ ضَعِيفٌ، وَالْمَحْفُوظُ مَوْقُوفٌ.
وأما المأثور، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ:«رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِالْعَرْجِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، قَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِقَطِيفَةِ أُرْجُوَانٍ»
(1)
.
وأما المعقول، فقد يَصعب على أكثر الناس أن ينام ولا يغطي وجهه للبرد أو الذباب، والله يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
القول الآخَر: يَحرم على المُحْرِم تغطية وجهه، وإذا غطاه وجبت عليه الفدية. وبه قال الحنفية والمالكية، وهو رواية عند الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اغْسِلُوهُ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ»
(3)
.
(1)
إسناده صحيح: رواه مالك (1016). وَعَنِ القَاسِمِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَزَيْدًا، وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ- كَانُوا يُخَمِّرُونُ وُجُوهَهُمْ، وَهُمْ حُرُمٌ. وهو منقطع، رواه الشافعي في «الأم» (7/ 241)، قال النووي: الْقَاسِمُ لَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ، وَأَدْرَكَ مَرْوَانَ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِمْكَانِ إِدْرَاكِهِ زَيْدًا. «المجموع» (7/ 268).
ورواه ابن أبي شيبة (14454) فأَدْخَل بين القاسم وعثمان محمدَ بن الفُرافِصَة، وهو ثقة.
(2)
«المبسوط» (2/ 127)، و «المدونة» (1/ 296)، و «المغني» (5/ 153)، و «الإنصاف» (3/ 463).
(3)
مدار هذا الحديث على سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس. ويرويه عن سعيد بن جُبَيْر جماعة:
الطريق الأول: طريق عمرو بن دينار، واختُلف عنه: فرواه سفيان الثوري، عن عمرو، به:«ولا تُخَمِّروا رأسه ولا وجهه» أخرجه مسلم (1206).
وتابعه عمر بن عامر، عند أبي عَوَانة (3112)، وابن أبي ليلى، عند الطبراني في «الأوسط» (4277) وعبد الله بن علي الأزرق، عند الطبراني في «الكبير» (12/ 76) ونَصْر بن طَرِيف عند الحاكم في «معرفة علوم الحديث» (148). جميعًا عن عمرو بن دينار، وفي حديثهم:«ولا تغطوا وجهه» وهؤلاء الأربعة الذين تابعوا الثوري ضعفاء.
وخالف الثوريَّ جماعة من الثقات الأثبات فرووه بدون ذكر لفظة: «وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ» منهم: حماد بن زيد، عند البخاري (1268، 1849)، ومسلم (1206)، وابن عُيينة وابن جُريج، كلاهما عند مسلم (1206)، وعمرو بن الحارث، عند ابن حِبان (3958)، ويونس بن نافع، عند النَّسَائي (1904)، وقيس بن سعد، عند الدارقطني (2770)، وسُليم بن حَيَّان، عند الطبراني في «الصغير» (1004)، وغيرهم، جميعًا عن عمرو بن دينار، ولم يَذكروا الوجه في حديثهم.
ورواية الثوري بذكر الوجه شاذة لأمرين:
الأول: أن ابن عُيينة وابن جُريج وحماد بن زيد أثبتُ في عمرو بن دينار، وأعلم الناس بحديثه من الثوري. قاله ابن المديني وابن مَعين وأبو حاتم والدارقطني. «شرح علل الترمذي» (2/ 684). =
= الثاني: ما قاله الحاكم: ذِكْرُ الْوَجْهِ تَصْحِيفٌ مِنَ الرُّوَاةِ؛ لِإِجْمَاعِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْهُ: «وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَهُ» وَهُوَ الْمَحْفُوظُ. «معرفة علوم الحديث» (ص: 148).
الطريق الثاني: طريق أبي بِشر عن سعيد بن جُبير، واختُلف عنه:
فرواه غُنْدَر، عند مسلم (1206)، وأبو أسامة، عند ابن حِبان (3960)، عن شُعبة به، بذكر الوجه.
وخالفهم: الطيالسي، في «مسنده» (2745)، ووَهْب بن جرير، ومسلم بن إبراهيم، كلاهما عند أبي عَوَانة (3106، 3108، 3110). وأبو نُعَيْم، عند أبي بكر الشافعي في «الغيلانيات» (249) أربعتهم عن شُعبة، ولم يَذكروا الوجه في حديثهم.
ورواه خَلَف بذكر الوجه، عند النَّسَائي (2857) وخَلَف قد اختلط بأخرة، فلا يُعَوَّل عليه.
وذِكر الوجه شاذ من طريق شُعبة لأمرين:
الأول: أن شُعبة اختُلف عليه في ذكر الوجه، والحديث أورده ابن المظفر في «غرائب شُعبة» ، وذَكَر تضعيف البخاري لذكر الوجه في رواية شُعبة، بقوله: والصحيح: «لا تُخَمِّروا رأسه» (ورقة/ 16).
الثاني: قد خالف شُعبةَ: هُشَيْم بن بَشير، عند البخاري (1851)، ومسلم (1206)، وأبو عَوَانة، عند البخاري (1267)، ومسلم (1206) فروياه عن أبي بِشر دون ذكر الوجه.
ورواية هُشَيْم وأبي عَوَانة أصح من رواية شُعبة لأمور ثلاثة: فقد اتَّفَق عليها الشيخان، ولم يُختلَف عليهما، وشُعبة اختُلف عليه في ذكر الوجه، وهُشيم مِنْ أثبت الناس في حديث أبي بِشر. «تهذيب الكمال» (30/ 282).
الطريق الثالث: طريق منصور بن المُعتمِر، واختُلف عليه في ذكر الوجه: فرواه عنه بلفظة: «ولا تُغَطُّوا وجهه» ثلاثة: عُبيدة بن حُميد، عند الدارقطني (2765)، وزائدة بن قُدامة عند الطبراني في «الأوسط» (7527)، وفي السند: إسماعيل بن عمرو البَجَلي، وهو ضعيف.
وإسرائيل، واختُلف عنه: فرواه عُبيد الله، عن إسرائيل، عن منصور:«ولا تُغَطِّوا وجهه» فلم يَذكر الحَكَم في حديثه، أخرجه مسلم (1206) وخالفه الأسود عنه عن منصور عن الحَكَم، عند أحمد (2395).
وهذا الحديث انتَقده الدارقطني على مسلم، فقال: وإنما سَمِعه منصور من الحَكَم، وأخرجه البخاري عن قُتيبة عن جرير عن منصور عن الحَكَم عن سعيد. وهو الصواب. «التتبع» (ص: 338).
وقال البيهقي: رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ هَكَذَا، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ فِي الإِسْنَادِ وَالمَتْنِ جَمِيعًا. وَرِوَايَةُ الجَمَاعَةِ فِي الرَّأْسِ وَحْدَهُ، وَذِكْرُ الوَجْهِ فِيهِ غَرِيبٌ. «السُّنن» (6724).
وخالفهم: جرير بن عبد الحميد، عند البخاري (1839)، وعمرو بن أبي قيس، وشيبان بن عبد الرحمن النَّحْوي، عند أبي عَوَانة (3117) ثلاثتهم عن منصور، ولم يَذكروا الوجه في حديثهم.
الطريق الرابع: رواه أبو الزبير المكي، عن سعيد بن جُبَيْر، وقال: فأَمَرهم رسول الله أن يَكشفوا وجهه - حَسِبتُه قال -: ورأسه. هكذا على الشك، كما عند مسلم (1206).
قال البيهقي: ورواه أبو الزبير عن سعيد بن جُبير، فذَكَر الوجه على شك منه في متنه، ورواية الجماعة الذين لم يَشُكوا وساقوا المتن أحسن سياقة- أَوْلَى بأن تكون محفوظة. «السُّنن الكبرى» (7/ 220).
أَخْرَج أبو عَوَانة (3117) عن أبي الزبير، وفيه: فأَمَرهم رسول الله بأن يكشفوا وجهه.=
واعتُرض عليه بأن لفظة: «وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ» شاذة، ولا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما المعقول، فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّهَا عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ؛ فَإِنَّ فِي كَشْفِ الْوَجْهِ مِنْهَا خَوْفَ الْفِتْنَةِ، فَلَأَنْ لَا يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ أَوْلَى.
واعتُرض عليه بأن هذا القياس مع الفارق؛ لأن الرجل مأمور بكشف رأسه، والمرأة مأمورة بتغطيته. والرجل مأمور بالتجرد من المَخيط، وهي لا تتجرد منه.
والراجح: أنه يَجوز للمُحْرِم تغطية وجهه، ويَحرم عليه تغطية رأسه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا تُخَمِّروا رأسه» أما رواية «ولا تغطوا وجهه» فهي شاذة.
وعلى هذا، فلُبْس المُحْرِم للكمامات الطبية للوقاية من العدوى والغبار- لا بأس به؛ لجواز تغطية وجه المُحْرِم. وكذا يَجوز للمُحْرِمة لبس الكمامات الطبية؛ فالمرأة منهية عن تغطية وجهها بالنقاب، ويَجوز تغطيته بغير النقاب، كالسدل والكمامة الطبية، والله أعلم.
* * *
=ورواه مطر الوراق، وهو كثير الخطأ، وقال:«ولا تُخَمِّروا وجهه» ، كما عند أبي عَوَانة (3113)
وخالف أبا الزبير ومطرًا الوراق جماعة، وهم: أيوب، عند البخاري (1265)، ومسلم (1206)، وعبد الكريم الجَزَري، عند الطبراني في «الكبير» (12/ 80)، وسالم الأفطس، عند الطبراني في «الأوسط» (4341)، وغيرهم عن سعيد بن جُبير، ولم يَذكروا الوجه في حديثهم.
والحاصل: أن ذكر الوجه غير محفوظ من هذه الوجوه، وأن رواية سفيان الثوري عن عمرو:«ولا تُخمروا رأسه ولا وجهه» شاذة؛ لأنه قد خالف الثقات الأثبات من أصحاب عمرو بن دينار (ابن عُيينة وابن جُريج وحماد بن زيد) وغيرهم: «ولا تغطوا رأسه» وهو المحفوظ.
أما طريق أبي بِشر، فرواه عنه شُعبة بذكر الوجه وهو شاذ؛ لأن شُعبة اختُلف عليه في ذكر الوجه، وأورده ابن المظفر في «غرائب شُعبة» ، وضَعَّفه البخاري بقوله: والصحيح: «لا تُخَمِّروا رأسه» .
وقد خالف شُعبةَ: هُشيم وأبو عَوَانة، فروياه عن أبي بِشر دون ذكر الوجه، وهي أصح من رواية شُعبة؛ لأنه قد اتَّفق عليها الشيخان، ولم يُختلَف عليهما، وشُعبة اختُلف عليه في ذكر الوجه.
ورواه أبو الزبير عن سعيد بن جُبير، فذَكَر الوجه على شك منه في متنه، ورواية الجماعة الذين لم يَشُكوا وساقوا المتن أحسن سياقة- أَوْلَى بأن تكون محفوظة. وذكر الوجه مطر الوراق، فيه مقال.
وورد من حديث منصور عن الحَكَم عن سعيد بن جُبير، واختُلف عليه. والذين لم يَذكروا الوجه أكثر، وروايتهم أَوْلَى. قال البيهقي: ورواية الجماعة في الرأس وحده، وذِكر الوجه فيه غريب.
القسم الثاني:
المحظورات التي تختص بالنساء
اثنتان:
1 -
النقاب.
2 -
القُفازان.
المحظور الأول: سَتْر المُحْرِمة وجهها بالنقاب:
وفيه تمهيد ومباحث:
تمهيد: لُبْس المرأة المَخيط لغير الوجه والكفين.
يَجوز للمُحْرِمة أن تَلبس المَخيط لغير الوجه والكفين بالإجماع.
نَقَل ابن المنذر وابن عبد البر وابن رُشْد الإجماع على ذلك
(1)
.
فمحظورات الإحرام من اللبس في حق النساء أمران، هما الوجه واليدان.
المبحث الأول: سَتْر المحرمة وجهها بالنقاب: وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف النقاب:
النقاب: هو لباس الوجه، وهو ما فُصِّل وقُطِّع وخِيط لأجل الوجه، فتَستر المرأة وجهها، وتَفتح لعينيها بقدر ما تَنظر منه
(2)
.
المطلب الثاني: حُكم النقاب للمُحْرِمة:
النقاب من محظورات الإحرام على المرأة، بالسُّنة والإجماع.
أما السُّنة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ»
(3)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ،
(1)
«الإشراف» (3/ 221)، و «الاستذكار» (4/ 14)، و «بداية المجتهد» (2/ 91).
(2)
«الشرح الممتع» (7/ 134).
(3)
البخاري (1838).
فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ
…
وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ
(1)
. وفيه دليل على أن إحرام المرأة في وجهها، وهذا ما لم يَختلف فيه الفقهاء
(2)
.
وأما الإجماع، فقد نَقَل غير واحد الإجماع على أنه يَحرم على المرأة المُحْرِمة أن تغطي وجهها بما يُعْمَل للوجه خاصة، كالنقاب والبرقع ونحوهما
(3)
.
المطلب الثالث: سَتْر المُحْرِمة وجهها بغير النقاب:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
الأول: لا يَجوز تغطية المُحْرِمة وجهها إلا لحاجة، كمرور الأجانب. وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم
(4)
.
واستدلوا بالسُّنة والإجماع والمأثور والقياس:
أما السُّنة، فما رواه البخاري: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ»
(5)
.
(1)
رواه البخاري (1855)، ومسلم (1334).
(2)
«التمهيد» (9/ 124).
(3)
قال ابن قُدامة: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا فِي إِحْرَامِهَا، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّي وَجْهَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّيهِ بِالسَّدْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَا يَكُونُ اخْتِلَافًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَرَاهِيَةُ الْبُرْقُعِ ثَابِتَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ. «المغني» (5/ 154)، وقال ابن عبد البر: وَأَجْمَعُوا أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا. «الاستذكار» (4/ 14).
(4)
«بدائع الصنائع» (6/ 214)، و «التاج والإكليل» (3/ 141)، و «المجموع» (7/ 250).
(5)
مدار الحديث على نافع عن ابن عمر، واختُلف عنه في الرفع والوقف على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: رواه اللَّيْث بن سعد عند البخاري (1838)، وإسماعيل بن عُقبة عند ابن بَشْران كما في «فتح الباري» (4/ 53)، والبيهقي (9115)، وجُوَيْرِيَة بن أسماء، عند البيهقي (9115)، وموسى بن عُقبة عند النَّسَائي (2680)، وإبراهيم بن سعيد المَدِيني، وهو منكر الحديث عند أبي داود (1826)، وابن إسحاق، وهو ضعيف في روايته عن نافع، عند أحمد (6003) سِتتهم عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا، بذِكر هذه الجملة: (وَلَا تَنْتَقِبِ
…
).
الوجه الثاني: ذِكر الحديث بدون «لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ
…
» رواه أيوب السَّخْتياني عند البخاري (5794)، ومالك عند البخاري (1542) ومسلم (1177) ورواه ابن أبي ذئب عند البخاري (134)، وجَرير بن حازم عند أحمد (4856)، وعبد الله بن عَوْن عند أحمد (4454)، وعمر بن نافعٍ، عند أحمد (5472) وغيرهم، عن نافعٍ، عن ابن عمر، به، فذكروا الحديث بدون: «لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ
…
». =
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا، سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ
(1)
.
وأما الإجماع، فقد قال ابن عبد البر: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمَةِ أَنْ تَسْدِلَ ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا، سَدْلًا خَفِيفًا تُسْتَرُ بِهِ عَنْ نَظَرِ الرِّجَالِ إِلَيْهَا
(2)
.
وأما المأثور، فعن ابن عمر قال:«إحرام المرأة في وجهها»
(3)
.
وأما القياس، فالوجه من المرأة يجب كشفه، كالرأس من الرَّجُل.
ونوقش بأن القياس الصحيح أن وجه المرأة كبدن الرجل، يَجوز تغطيته، ولا يَجوز
=
ورواه عُبيد الله بن عمر، واختُلف عليه: فرواه يحيى القَطَّان وحفص بن غِيَاث، عن عُبيد الله به، فاقتصروا على المتفق على رفعه بدون «لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ» .
الوجه الثالث: فَصَلُوا المرفوع عن الموقوف: رواه محمد بن بِشر وحماد بن مَسْعَدة، عند ابن رَاهَوَيْهِ، كما في «فتح الباري» (4/ 53)، وبِشر بن المُفضَّل عند ابن خُزيمة (2597) ثلاثتهم عن عُبيد الله بن عمر، به، ففَصَلُوا المرفوع عن الموقوف.
الوجه الرابع: ذِكر الموقوف فقط: رواه عَبْدَة بن سليمان، عند ابن أبي شيبة (14543): عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمَةِ النِّقَابَ وَالْقُفَّازَيْنِ.
ورواه مَالِكٍ في «الموطأ» (918) في رواية أخرى: عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ.
ورواه سالم، عند البخاري (366)، ومسلم (1177)، وعبد الله بن دينار، عند البخاري (5847)، ومسلم (1177) كلاهما عن ابن عمر مرفوعًا، بدون: «لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ
…
».
وقد تضافرت أقوال أهل العلم على أن جملة (لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ
…
) من قول ابن عمر.
قال أبو داود: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عُبَيدُ اللهِ وَمَالِكٌ وَأَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَوْقُوفًا. «السُّنن» .
وقال ابن عَدِيّ: وهذا الحديث لا يُتابَع إبراهيم بن سعيد هذا على رفعه، ورواه جماعة عن نافعٍ، من قول ابن عمر. «الكامل» (2/ 14).
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: (وَلَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ) مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَأُدْرِجَ فِي الْحَدِيثِ. وأَقَره البيهقي عليه. «البدر المنير» (6/ 322).
وقال الدارقطني: رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، موقوفًا، وهو الصحيح. «العلل» (7/ 42).
وقال ابن حجر: فَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِي نَافِعٍ أَحْفَظُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ خَالَفَهُ، وَقَدْ فَصَلَ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْمَوْقُوفِ. «فتح الباري» (4/ 53)، وكذا ابن القيم في «عون المعبود» (5/ 190).
(1)
ضعيف: أخرجه أحمد (24021)، وفي إسناده: يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.
(2)
«الاستذكار» (4/ 14)، ونَقَل الإجماع أيضًا ابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 92).
(3)
إسناده صحيح: وقد سبق تخريجه.
لبس شيء مُفَصَّل عليه؛ لأن المرأة كلها عورة، فلها أن تغطي وجهها ويديها، لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرَّجُل لا يَلبس السراويل ويَلبس الإزار.
القول الثاني: يَجوز للمُحْرِمة تغطية وجهها بغير النقاب لغير حاجة. وهو قول في مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ» .
وَجْه الدلالة: أن النهي إنما جاء عن النقاب فقط؛ لأنه لُبس مُفصَّل على العضو، صُنِع لسَتْر الوجه، كالقفاز المصنوع لسَتر اليد، وكما يَجوز تغطية الكف من غير لبس القفازين، فيَجوز كذلك تغطية الوجه من غير لبس النقاب.
قال صاحب «عون المعبود» : وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَوَّى بَيْنَ وَجْهِهَا وَيَدَيْهَا، وَمَنَعَهَا مِنَ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا سَتْرُ يَدَيْهَا، وَأَنَّهُمَا كَبَدَنِ الْمُحْرِمِ، يَحْرُمُ سَتْرُهُمَا بِالْمُفَصَّلِ عَلَى قَدْرِهِمَا، فَهَكَذَا الْوَجْهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ سَتْرُهُ بِالنِّقَابِ
(2)
.
وأما المأثور، فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«الْمُحْرِمَةُ تَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ مَا شَاءَتْ، إِلَّا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ، وَلَا تَتَبَرْقَعُ وَلَا تَلَثَّمُ، وَتَسْدُلُ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا إِنْ شَاءَتْ»
(3)
.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: «كُنَّا نُغَطِّي وُجُوهَنَا مِنَ الرِّجَالِ، وَكُنَّا نَتَمَشَّطُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ»
(4)
.
وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، أَنَّهَا قَالَتْ:«كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ، وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ»
(5)
.
والراجح: أنه كما يَجوز تغطية الكف من غير لبس القفازين، فيجوز كذلك تغطية الوجه من غير لبس النقاب، وقد قَرَن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وهما كبدن الرجل، يجوز تغطيته،
(1)
«الشرح الكبير على المقنع» (3/ 324)، و «الفروع» (5/ 527)، و «المُحَلَّى» (5/ 78).
(2)
«عون المعبود» (5/ 198).
(3)
إسناده صحيح: رواه البيهقي (9122).
(4)
إسناده صحيح: رواه ابن خُزيمة (2690)، والحاكم (1668) واللفظ له.
(5)
إسناده صحيح: رواه مالك في «الموطأ» (919) عن هشام بن عروة، عن فاطمة، به.
ولا يَجوز لبس شيء مُفصَّل عليه؛ لأن المرأة في حاجة إلى سَتر وجهها، فلم يَحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة، فلها أن تغطي وجهها ويديها، لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يَلبس السراويل ويَلبس الإزار.
المطلب الرابع: هل يُشترَط في تغطية المُحْرِمة وجهها ألا يمس الوجه؟
اختَلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
الأول: أنه لا يُشترَط مباعدة الساتر المسدل عن وجه المرأة المُحْرَمة، فلا تُكلَّف المُحْرِمة أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعُود ولا بغيره. وهذا مذهب المالكية، والحنابلة في الصحيح عنهم
(1)
.
واستدلوا بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة كُنَّ يَسدلن على وجوههن، ولا شك أن الثوب المسدول لا يَسْلَم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطًا لبَيَّن، وإنما مُنعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يُعَد لسَتْر الوجه
(2)
.
القول الثاني: اشتراط مجافاة الساتر المسدول عن وجه المرأة بخشبة ونحوها، وتجب الفدية بملامسة الوجه لذلك الساتر. وبه قال الحنفية والشافعية، وقول للحنابلة
(3)
.
واستدلوا بما رواه ابن عمر، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» .
وَجْه الدلالة: أنه إذا كان لا يَجوز للرَّجُل المُحْرِم أن يضع على رأسه شيئًا ملاصقًا للرأس كالطاقية، ويَجوز له أن يستظل بالشمسية لأنها غير مُلاصِقة، فكذا يَجوز للمرأة ستر وجهها مع مجافاة الساتر المسدل عن وجهها بخشبة ونحوها؛ لتَستتر به عن نظر الرجال إليها كالشمسية.
ونوقش بأن هذا الحديث لا يصح.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَى ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً قَدْ سَدَلَتْ ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَهِيَ مُحْرِمَةٌ، فَقَالَ لَهَا: اكْشِفِي وَجْهَكِ؛ فَإِنَّمَا حُرْمَةُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا
(4)
.
ونوقش بأنه ثَبَت أن نساءه صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة كن يَسدلن على وجوههن، وهن أعلم
(1)
«الاستذكار» (4/ 14)، و «التفريع» (1/ 323)، و «المغني» (5/ 155)، و «الفروع» (5/ 529).
(2)
«مجموع الفتاوى» (26/ 112)، و «الشرح الكبير على المقنع» (3/ 324).
(3)
«المبسوط» (4/ 128)، و «الأم» (2/ 149)، و «الحاوي» (4/ 149)، و «المغني» (5/ 155).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه الطحاوي في «أحكام القرآن» (1213).
الأمة بهذه المسألة.
وقد قال ابن عبد البر: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمَةِ أَنْ تَسْدِلَ ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا، سَدْلًا خَفِيفًا تُسْتَرُ بِهِ عَنْ نَظَرِ الرِّجَالِ إِلَيْهَا.
والراجح: أَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ لَا يُغَطَّى بِالنِّقَابِ وَالْبُرْقُعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا صُنِعَ عَلَى قَدْرِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ إلَّا عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَكُنَّ النِّسَاءُ يُدْنِينَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ مَا يَسْتُرُهَا مِنَ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ وَضْعِ مَا يُجَافِيهَا عَنِ الْوَجْهِ.
المحظور الثاني المختص بالمُحْرِمة:
القُفازان: وفيه تمهيد ومبحثان:
تمهيد: تعريف القُفازين:
القُفازان: شيء يُعْمَل لليدين يُغطِّي الأصابع مع الكف
(1)
.
المبحث الأول: حُكْم لبس القُفازين للمُحْرِمة:
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: يَحرم على المُحْرِمة لبس القُفازين. وهو مذهب المالكية، والشافعية في الصحيح، والحنابلة
(2)
.
القول الآخَر: يَجوز للمُحْرِمة لبس القُفازين. وهو مذهب الحنفية وقول للشافعية
(3)
.
وهذا القول هو الراجح، أما حديث «لا تَنتقب المرأة المحرمة، ولا تَلبس القفازين» فالصحيح فيه الوقف عن ابن عمر، وقد سبق بيانه، والله أعلم.
المبحث الثاني: حُكم لبس القفازين للمُحْرِم:
نَقَل النووي وابن قُدامة الإجماع على منع المُحْرِم من لبس القفازين
(4)
.
(1)
قال ابن منظور: والقُفَّازُ: لِبَاسُ الْكَفِّ، وَهُوَ شَيْءٌ يُعْمَلُ لِلْيَدَيْنِ. «لسان العرب» (مادة: قفز).
(2)
«مواهب الجليل» (3/ 140)، و «الحاوي» (4/ 93)، و «المغني» (5/ 158).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 186)، و «الحاوي» (4/ 93)، و «المجموع» (7/ 93).
(4)
قال النووي: يَحرم على الرجل لبس القفازين بلا خلاف. «المجموع» (7/ 257)، وكذا نَقَله ابن قُدامة في «المغني» (5/ 119).
الأصل الثالث: ما يتعلق بنكاح المُحْرِم.
ويشتمل على أربعة محظورات:
المحظور الأول: الخِطبة للمُحْرِم:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
الأول: تُكره الخِطبة للمُحْرِم والمُحْرِمة. وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» .
القول الثاني: تَحرم خِطبة المُحْرِم. وهو مذهب المالكية، وابن حزم، وابن تيمية
(2)
.
واستدلوا بأن النهي للتحريم. ولأن الخِطبة مُقدِّمة للنكاح وسبب إليه، فمُنعت لأن المُحْرِم قد يتعلق قلبه بالمخطوبة، ويَحصل فيه من الكلام في النكاح الذي يُمنع منه المُحْرِم، وقد قال تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
المحظور الثاني: حُكْم عقد النكاح للمُحْرِم:
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: أنه لا يَحِل للمُحْرِم أن يتزوج، ولا أن يُزوِّج غيره، فإن فَعَل فالنكاح باطل، ولا فدية فيه. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور، والمعقول:
أما السُّنة: فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ
…
»
(4)
.
(1)
«المجموع» (7/ 283، 284)، و «الشرح الكبير على المقنع» (3/ 314).
(2)
«القوانين الفقهية» لابن جُزَيّ (1/ 147)، و «المُحَلَّى» (5/ 211)، و «شرح العمدة» (2/ 216).
(3)
«الاستذكار» (4/ 118). وقال النووي: لا يصح تزوج المُحْرِم ولا تزويجه. وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمَن بعدهم. وهو مذهب عمر بن الخطاب وعثمان وعلي، وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس، وابن المسيب والزُّهْري. «المجموع» (7/ 287)، و «الشرح الكبير» (3/ 311).
(4)
رواه مسلم (1409).
قال الباجي: وَهَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ عَقْدِ النِّكَاحِ لِلْمُحْرِمِ، وَيَقْتَضِي مَنْعَ الْمُحْرِمِ مِنْ عَقْدِهِ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا اقْتَضَى النَّهْيُ الْمَنْعَ مِنْ عَقْدِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، اقْتَضَى فَسَادَهُ إنْ عَقَدَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
(1)
.
ونوقش بأن المقصود بالنكاح في الحديث هو الوَطْء، ودل على ذلك عموم قوله تعالى:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وكذا قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور: 3].
وأجيب عنه من وجهين:
الأول: أن المراد بالنكاح عند الإطلاق العقد، وقد دل على ذلك عموم قوله تعالى:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25].
الثاني: أن قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا} حُمل على الوطء، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«حتى تَذوقي عُسَيْلته» ، وكذا سياق قوله تعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} على الوطء.
وعن أبي غَطَفان: أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَرَدَّ عُمَرُ نِكَاحَهُ
(2)
.
وعن سعيد، أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ وَهُوُ مُحْرِمٌ، فَأَجْمَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ عَلَى أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا
(3)
.
وأما المعقول: فإن الإحرام مَعْنًى يَمنع من الوطء ودواعيه، فوجب أن يُمنع من النكاح، كالطِّيب
(4)
.
القول الآخَر: أنه يَجوز للمُحْرِم أن يتزوج، وأن يُزوِّج غيره، والمحظور على المُحْرِم هو الوطء ودواعيه. وهو مذهب الحنفية
(5)
.
(1)
«المنتقى شرح الموطإ» (2/ 238).
(2)
إسناده صحيح: رواه مالك في «الموطأ» (998) عن داود بن الحُصَيْن، عن أبي غَطَفان، به.
(3)
أخرجه البيهقي (9240) عن سعيد بن المسيب.
(4)
«الحاوي» (4/ 124)، و «المجموع» (7/ 283، 289)، و «الشرح الكبير» (3/ 312).
(5)
«الهداية» (3/ 232).
واستدلوا بما رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأنه قد اختَلفت الروايات في نكاح ميمونة، فقد رَوى مسلم: عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ. قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ
(2)
.
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ فِيمَا بَيْنَهُمَا
(3)
.
(1)
البخاري (1837)، ومسلم (1410).
وقد رُوي ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة في عمرة القضاء، في العام السابع، فقد روى البخاري (4259) معلقًا بصيغة الجزم، قال: وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَأَبَانُ، عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ» وقد وَصَله ابن حِبان (4133).
وعلته ابن إسحاق، فهو وإن كان صَرَّح بالتحديث، ولكن لا تُقبل منه زيادة «فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ» .
(2)
ضعيف، أُعِلَّ بالإرسال، ومداره على يزيد بن الأصم، واختُلف عليه، ويرويه عن يزيد أربعة:
الأول: أبو فَزَارة، واختُلف عليه: فرواه جَرير بن حازم، به موصولًا عند مسلم (1430).
وخالف جريرًا حمادُ بن زيد، فرواه عن أبي فَزَارة، عن يزيد مرسلًا. أخرجه الدارقطني (3655).
وحماد بن زيد أوثق من جرير، فهو وإن كان ثقة فله أوهام. قال أحمد: جرير بن حازم عنده عجائب.
وقد رَجَّح البخاري الطريق المرسل كما في «العلل الكبير» للترمذي (ص: 131).
وقال الترمذي عقب حديث جرير: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ مُرْسَلًا. «السُّنن» (2/ 366). وقال الدارقطني: والمُرسَل أَشبَهُ. «علل الدارقطني» (9/ 264).
الثاني: رواه ميمون بن مِهْران عن يزيد الأصم، واختُلف عليه:
فرواه حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون، موصولًا به. أخرجه أحمد (26841).
ورواه سفيان بن حبيب، عن حبيب، عن ميمون، عن يزيد، مرسلًا. عند النَّسَائي في «الكبرى» (3219).
الثالث والرابع: روى عنه ثقتان ثبتان، لم يُختلَف عليهما على الإرسال، وهما الزُّهْري عند مسلم (1411) والحَكَم بن عُتيبة، بسند صحيح عند النَّسَائي في «الكبرى» (5384) كلاهما عن يزيد بن الأصم مرسلًا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو حلال.
(3)
ضعيف، أُعِلَّ بالإرسال، ومدار الحديث على ربيعة بن أبي عبد الرحمن، واختُلف عنه على وجهين:
الوجه الأول: مَنْ رواه موصولًا: فرواه مطر الوراق عند الترمذي (841) وبِشر بن السَّرِي عن ربيعة، ذَكَر روايته الدارقطني في «العلل» (7/ 13) كلاهما عن ربيعة، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع، به.
الوجه الثاني: مَنْ رواه مرسلًا: رواه مالك في «الموطأ» (1/ 282)، وسليمان بن بلال، ذَكَره الترمذي (2/ 190)، وأنس بن عِيَاض عند ابن سعد (8/ 133) ثلاثتهم عن ربيعة عن سليمان مرسلًا.
والوجه المرسل أصح؛ لأن مالكًا وأنس بن عِيَاض وسليمان بن بلال- ثلاثة من الثقات الأثبات رَوَوُا الحديث مرسلًا، وخالفهم مطر الوراق وفيه ضعف، وإن كان تابعه بِشر، وإن كان ثقة إلا أني لم أقف =
الحاصل: أن أصح ما ورد في هذا الباب حديثان:
الأول: في مَعْرِض النهي، وهو حديث عثمان: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ
…
».
الثاني: في مَعْرِض الإباحة، وهو حديث ابن عباس، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
ورَجَّح الجمهور حديث عثمان لستة أمور:
الأول: أن حديث عثمان ناقل عن الأصل الذي هو الإباحة؛ فيُقَدَّم على حديث ابن عباس؛ لأنه مُبْقٍ على الأصل.
الثاني: أَنَّ تَزَوُّجَهُ صلى الله عليه وسلم فِعْلٌ مِنْهُ، وَالْفِعْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ نَهْيٌ لِأُمَّتِهِ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ، وَمَنْ رَدَّ نَصَّ قَوْلِهِ وَعَارَضَهُ بِفَعْلِهِ، فَقَدْ أَخْطَأَ.
الثالث: أَنَّ حَدِيثَ عُثْمَانَ حَاظِرٌ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُبِيحٌ، وَالْأَخْذُ بِالْحَاظِرِ أَحْوَطُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْمُبِيحِ.
الرابع: أَنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ قَدْ عَمِلُوا بِمُوجِبِ حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَظَرْنَا إِلَى مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيمَا بَلَغَنَا إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ عُلِمَ مُسْتَنَدُ فَتْوَاهُ
(1)
.
الخامس: أن حديث عثمان تقعيدُ قاعدة، وحديث ابن عباس واقعةُ عَيْن تحتمل أنواعًا من الاحتمالات، فكان حديث عثمان أَوْلَى.
السادس: أن العمل بحديث عثمان هو الأحوط للدين. وبه قال جماهير العلماء.
=على إسناد لطريق بِشر، إلا أنه ذَكَره الدارقطني معلقًا؛ ولذا لم يَعْتَدّ كثير من العلماء بطريق بِشر؛ ولذا فقد أشار البخاري والترمذي والطحاوي وابن عبد البر إلى تفرد مطر برفعه، ومطر فيه ضعف.
قال الترمذي: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ رَفَعَهُ غَيْرَ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ. «العلل الكبير» (ص: 130).
وقال الترمذي أيضًا: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ مَطَرٍ الوَرَّاقِ، رَوَاهُ مَالِكٌ وسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ مُرْسَلًا.
وقال الطحاوي: رَفَعَهُ مَطَرٌ، ولَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ، وَهُوَ أَضْبَطُ مِنْهُ وَأَحْفَظُ، فَقَطَعَهُ. «شرح معاني الآثار» (2/ 270). وكذا ابن عبد البر في «التمهيد» (3/ 151).
وإن كان يُفْهَم من كلام الدارقطني في «العلل» (7/ 13)، والبيهقي في «معرفة السُّنن» (7/ 185)، وابن القيم في «زاد المعاد» (3/ 329) أن المتصل صحيح، ولكن الصحيح في هذا الحديث هو الإرسال.
(1)
«شرح العمدة» لابن تيمية، كتاب الحج (2/ 205).
المحظور الثالث: المباشرة فيما دون الفَرْج للمُحْرِم:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حُكم مباشرة النساء في النسك:
تَحرم مباشرة النساء في النسك. وبه قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
والرفث يراد به الجماع ومقدماته. ولأنه إذا حَرُم عليه عقد النكاح فلأن تَحرم المباشرة- وهي أدعى إلى الوَطْء- أَوْلَى
(2)
.
المبحث الثاني: المباشرة وفساد النسك:
اتَّفق العلماء على أن مَنْ باشر فيما دون الفَرْج، فلم يُنْزِل، لا يَفسد حجه
(3)
.
وحَكى النووي الإجماع على أن المُحْرِم إذا باشر فأَنْزَل، لم يَفسد نسكه
(4)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد خالف المالكية فقالوا: إن المُحْرِم إذا باشر فأَنْزَل، فَسَد نسكه كالجماع؛ لعموم قوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
ونوقش بأن المراد بالرفث الذي يَفسد به الحج هو الجماع.
(1)
«البحر الرائق» (3/ 16)، و «الكافي» (1/ 396)، و «المجموع» (7/ 291)، و «كشاف القناع» (2/ 449).
(2)
قال الشنقيطي: اعلم أنهم متفقون على مقدمات الجماع، كالقُبْلة والمُفاخَذة واللمس بقصد اللذة- حرام على المُحْرِم. «أضواء البيان» (5/ 30). وانظر «البحر الرائق» (3/ 16).
(3)
قال ابن قُدامة فيمن باشر فيما دون الفرج، فلم يُنْزِل، لم يَفسد حجه: لا نَعلم أحدًا قال بخلاف ذلك؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، أَشْبَهَ الفِكر. «الشرح الكبير» (3/ 323).
(4)
قال النووي: لا يَفسد نسكه بالمباشرة بشهوة، بلا خلاف، سواء أَنْزَل أم لا. «المجموع» (7/ 291).
المحظور الرابع: الجماع في النسك:
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حُكم الجماع للمُحْرِم في النسك:
الوَطْء في الفرج حرام على المُحْرِم، ومُفسِد لنسكه؛ لعموم قوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. والرفث المنهي عنه الحاج يَدخل فيه الجماع. فقد نَقَل غير واحدٍ الإجماع على تحريم الوطء حال الإحرام وفساد النسك بالوطء
(1)
.
المبحث الثاني: متى يَفسد الحج بالجماع؟
لا يخلو الجماع في الحج من ثلاث أحوال:
الأولى- إذا جامع المُحْرِم امرأته قبل الوقوف بعرفة، فَسَد حجه.
نَقَل ابن المنذر وابن حزم وابن عبد البر وغيرهم الإجماع على ذلك
(2)
.
الثانية: إذا جامع المُحْرِم امرأته بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول.
(1)
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن المُحْرِم ممنوع من الجماع في حالة الإحرام. «الإجماع» (ص: 52).
وقال ابن عبد البر: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ وَطْءَ النِّسَاءِ عَلَى الْحَاجِّ- حَرَامٌ، مِنْ حِينِ يُحْرِمُ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197]. «الاستذكار» (4/ 257).
ونَقَل الإجماع: ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 42)، وابن رشد في «بداية المجتهد» (2/ 94)، والنووي في «المجموع» (7/ 290)، وابن مفلح في «الفروع» (5/ 443) وغيرهم كثير.
(2)
قال ابن عبد البر: أَجْمَعُوا على أن مَنْ وَطِئ قبل الوقوف بعرفة، فقد أَفْسَد حجه. «الاستذكار» (4/ 258). ونَقَل الإجماع على ذلك أيضًا: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 52)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 42)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 133).
وقد أَغْرَب الشوكاني فقال بعدم فساد مَنْ جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة. «السيل الجَرَّار» (ص: 342).
وهذا القول شاذ لا يُلتفت إليه، وقد أَجْمَع العلماء على أن المُحْرِم إذا جامع قبل الوقوف بعرفة، فَسَد حجه، وقد قال تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وأن الرَّفَث المنهي عنه الحاج يَدخل فيه الجماع بالإجماع.
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
الأول: إذا جامع المُحْرِم امرأته بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول، فسد حجه. وهو المشهور عند المالكية، ومذهب الشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالمأثور والقياس:
(2)
.
وَجْه الدلالة: أنهم لم يستفصلوا السائل، ولم يُفرقوا بين ما قبل الوقوف وبعده.
وأما القياس، فإذا جامع المُحْرِم قبل الوقوف فسد حجه، فكذا بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول؛ لأنه جماع صَادَف إحرامًا تامًّا، فأَفْسَدَه، كما قَبْل الوقوف
(3)
.
القول الآخَر: لا يَفسد حجه. وهو مذهب الحنفية
(4)
.
قال الماوردي: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ حَجُّهُ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَهُ لَمْ يَفْسُدْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«الحَجُّ عَرَفَةُ» وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَأْمَنُ بِهِ الْفَوَاتَ، فَأَمِنَ بِهِ الْفَسَادَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «الحَجُّ عَرَفَةُ» فَلِأَنَّ بِإِدْرَاكِ عَرَفَةَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِرُكْنٍ يَأْمَنُ بِهِ فَوَاتَ الْحَجِّ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ الْفَسَادِ
(5)
.
(1)
«التاج والإكليل» (3/ 167)، و «المجموع» (7/ 384)، و «المغني» (5/ 372)، و «الإنصاف» (3/ 350).
(2)
إسناده حسن: رواه ابن أبي شيبة (4/ 239)، والدارقطني (3000)، والحاكم (2410).
(3)
«المغني» (5/ 166، 167).
(4)
«المبسوط» (4/ 57)، و «بدائع الصنائع» (2/ 217).
(5)
«الحاوي» (4/ 218).
الراجح: أنه إذا جامع المُحْرِم بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول، فَسَد حجه.
الحال الثالثة: إذا جامع المُحْرِم امرأته بعد التحلل الأول:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
الأول: أن مَنْ جامع بعد التحلل الأول لا يَفسد نسكه. وبه قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور والمعقول:
أما السُّنة، فعن عروة بن مُضَرِّس الطائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» .
وَجْه الدلالة: أنه إذا تم حجه يوم النحر، فلا وجه لإبطاله بعد ذلك.
وأما المأثور، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلًا أصاب من أهله قبل أن يطوف بالبيت يوم النحر، فقال:«يَنحران جَزورًا بينهما، وليس عليهما الحج من قابل»
(2)
.
وأما المعقول، فَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ لَهَا تَحَلُّلَانِ، فَوُجُودُ الْمُفْسِدِ بَعْدَ تَحَلُّلِهَا الْأَوَّلِ لَا يُفْسِدُهَا، كَوُجُودِ المُفْسِدِ بَعْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأَوْلَى فِي الصَّلَاةِ
(3)
.
القول الآخَر: أن مَنْ جامع بعد الرمي والحلق وقبل طواف الإفاضة، فحجه فاسد وعليه الحج من قابل؛ لأن الوَطء صادف إحرامًا من الحج فأَفْسَده، كالوَطء قَبْل الرميِ. وهو مروي عن ابن عمر والنَّخَعي، وهو قول الظاهرية
(4)
.
(1)
«البحر الرائق» (3/ 18)، و «الاستذكار» (12/ 704)، و «الحاوي» (4/ 219).
قال ابن قُدامة: الْوَطْءُ بَعْدَ الْجَمْرَةِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. «المغني» (5/ 375)، و «الإنصاف» (3/ 353).
(2)
رواه الدارقطني في «السُّنن» (2/ 272)، والبيهقي (10083).
(3)
«المغني» (5/ 375).
(4)
«الاستذكار» (12/ 307)، و «المغني» (5/ 375)، و «المُحَلَّى» (5/ 200).
المبحث الثالث: ما يترتب على الجماع في النسك:
يترتب على الجماع في الحج خمسة أشياء:
الأول: الإثم لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197].
قال ابن عبد البر: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ وَطْءَ النِّسَاءِ عَلَى الْحَاجِّ حَرَامٌ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ.
الثاني: فساد النسك. فلا خلاف بين أهل العلم أن المُحْرِم إذا جامع امرأته قبل الوقوف بعرفات- أن حجه يَفسد بذلك
(1)
.
الثالث: وجوب المضي في الحج، وعلى ذلك جماهير العلماء
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: أَمَر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة، والأمر يقتضي الوجوب، وهو أَمْر عام، لم يُفرِّق بين الصحيح والفاسد. وقد أفتى بذلك جَمْع من الصحابة رضي الله عنهم، ولا يُعْرَف لهم مُخالِف.
الرابع: وجوب القضاء، نُقِل الإجماع على وجوب القضاء للمُحْرِم إذا جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة
(3)
.
واختَلف العلماء على قولين في حكم افتراق الزوجين في حجة القضاء، ومعناه ألا يَنزل
(1)
قال النووي: إذا جامع القارن قبل التحلل الأول، فَسَد حَجُّه بلا خلاف. «المجموع» (7/ 392).
(2)
قال النووي: قال الشافعي والأصحاب: ويَلزم مَنْ أَفْسَد حجًّا أو عمرة- أن يَمضي في فاسدهما، وهو أن يُتِم ما كان يعمله لولا الإفساد. ونَقَل أصحابنا اتفاق العلماء على هذا، وأنه لم يُخالِف فيه إلا داود الظاهري، فإنه قال: يَخرج منه بالإفساد. «المجموع» (7/ 388)، و «الإنصاف» (3/ 351).
(3)
قال ابن المنذر: أَجْمَعُوا على أن مَنْ جامع عامدًا في حجه، قبل وقوفه بعرفة، أن عليه حجًّا قابلًا. (ص: 52). وقال النووي: يجب على مُفسِد الحج أو العمرة القضاء بلا خلاف، سواء كان الحج أو العمرة فرضًا أو نفلًا. «المجموع» (7/ 389)، وكذا الشربيني في «مغني المحتاج» (1/ 523).
معها في بيت أو خيمة، ولكن يكون قريبًا منها ليرعى حالها:
الأول: أنه يُستحب أن يفترق الزوجان في الموضع الذي أصابها فيه، إلى أن يَحِلا من حجة القضاء. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(1)
.
القول الآخَر: أنه يجب الافتراق عليهما من وقت الإحرام. وبه قال زُفَر من الحنفية، وهو مذهب المالكية، وقول عند الشافعية
(2)
.
فعن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة، أنهم سُئلوا عن رجل أصاب أهله وهو مُحْرِم في الحج، فقالوا:«يَنفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما، وعليهما الحج من قابل والهَدْي!» . وقال علي: «إذا أَهَلَّا قابلًا، تَفَرَّقا حتى يقضيا حجهما!»
(3)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ: اقْضِيَا نُسُكَكُمَا، وَارْجِعَا إِلَى بَلَدِكُمَا، فَإِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ فَاخْرُجَا حَاجَّيْنِ، فَإِذَا أَحْرَمْتُمَا فَتَفَرَّقَا، وَلَا تَلْتَقِيَا حَتَّى تَقْضِيَا نُسُكَكُمَا، وَأَهْدِيَا هَدْيًا
(4)
.
واستدلوا بكون التفرق صيانة للمُحْرِم من معاودة الوقاع عند تذكره برؤية مكانه.
الراجح: أن الافتراق ليس بواجب، وأكثر رحلات الحج لكثرة العدد قد لا يخلو الرجل بزوجته لوجود النساء في مكان، وكذا الرجال، ويُندَب الافتراق إن خافا على أنفسهما الفتنة.
الخامس: الفدية أو ذَبْح الهَدْي. وسيأتي تفصيل ذلك في فصل الفدية.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 218)، و «المجموع» (7/ 399)، و «المبدع» (3/ 150).
(2)
«المبسوط» (4/ 118)، و «الذخيرة» (3/ 339)، و «المجموع» (7/ 385).
(3)
مرسل: أخرجه مالك في «الموطأ» (529) قال: بَلَغني أن عمر، به.
(4)
صحيح: أخرجه علي بن حُجْر في «أحاديث إسماعيل بن جعفر» (114) عن حُميد عن أبي الطُّفَيْل.
الأصل الرابع: قَتْل الصيد البري
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: حُكْم قتل الصيد للمُحْرِم:
قَتْل الصيد من محظورات الإحرام بالكتاب والسُّنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95].
وأما السُّنة: فعَنِ الصَّعْبِ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ:«إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ»
(1)
.
(1)
هذا حديث الصعب بن جَثَّامة، وقد اختُلف فيه ألوانًا، وقد رُوي عن ابن عباس عن الصعب من أربعة طرق:(عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، وسعيد بن جُبَيْر، وعمرو بن أمية الضَّمْري، وطاوس).
الطريق الأول: مداره على الزُّهْري، عن عُبَيْد الله، عن ابن عباس، عن الصَّعْب، واختُلف عليه: هل أَهْدَى الصعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا حيًّا، أو هو لحم حمار وحش؟
فرواه أصحاب الزُّهْري كمالك عند البخاري (1825)، ومسلم (1193)، وشُعيب بن أبي حمزة عند البخاري (2596)، والليث بن سعد، وصالح بن كَيْسَان، ومَعْمَر بن راشد، ثلاثتهم عند مسلم (1193)، وابن جُريج، وابن أبي ذئب، كلاهما عند أحمد (16428، 16429)، ويونس بن يزيد عند الروياني في «مسنده» (1000)، وابن أخي الزُّهْري، ومحمد بن عمرو، كلاهما عند عبد الله بن أحمد في زوائده على «المُسنَد» (16673)(16680) وغيرهم كثير، فرووه عن الزُّهْري به، فقالوا: أَهْدَى الصعب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا، أي:(حيًّا).
وخالف أصحابَ الزُّهْري الثقات الحُفاظ سفيانُ بن عُيينة من الوجه الراجح عنه، فرواه عن الزُّهْري به بلفظ: أَهْدَيْتُ لَهُ مِنْ لَحْمِ حِمَارِ وَحْشٍ. أخرجه مسلم (1193) وغيره، وهناك وجه آخَر عن ابن عُيينة، رواه عن الزُّهْري مثل أقرانه وهو:(حمار وحش) كما عند الحُميدي (801) وغيره.
وهذا الخلاف عن ابن عُيينة ليس من الرواة عنه، بل هو منه. قال يعقوب بن سفيان: وكان سفيان فيما خلا ربما قال: (حمار) ثم صار إلى (لحم) حتى مات. «المعرفة والتاريخ» (2/ 727).
والحاصل: أن رواية ابن عُيينة عن الزُّهْري: (لَحْم حمار) شاذة من هذا الوجه؛ لمخالفته أصحاب الزُّهْري الثقات الحُفاظ، كمالك وشُعيب، والليث، وصالح، ومَعْمَر
…
وغيرهم، عن الزُّهْري أنه أَهْدَى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا. أي:(حَيَّا)، وليس (لَحْم حمار).
وقد أَعَل رواية ابن عُيينة: (لَحْم حمار): الشافعي عند البيهقي في «الكبرى» (10/ 326)، وقال الترمذي: وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. «السُّنن» (2/ 198)، وكذا ابن حَجَر في «فتح الباري» (4/ 32).=
وأما الإجماع، فنَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر، وابن رُشْد
…
وغيرهما
(1)
.
المبحث الثاني: حُكْم قتل المحرم للحيوان غير مأكول اللحم:
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يَجوز للمُحْرِم قتل الحيوان غير مأكول اللحم، ولا جزاء عليه. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(2)
.
القول الآخَر: لا يَقتل المُحْرِم شيئًا من صيد البر، سواء ما يُؤكَل لحمه أم لا يؤكل، إلا الفواسق الخمس التي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتْلها. وهو مذهب الحنفية والمالكية
(3)
.
= وقد توبع ابن عُيينة عن الزُّهْري: (لَحْم حمار):
1 -
فقد تابعه عمرو بن دينار عند عبد الله في «زوائده» (16657)، وفيه محمد العبدي، وفيه ضعف.
2 -
ابن إسحاق عند الطبراني في «الكبير» (7442) بلفظ: (رِجل حمار وحش). وابن إسحاق حَسَنُ الحديث، إلا أنه لا يُحْتَجّ به إذا خولف.
3 -
إسحاق بن راشد في «شرح معاني الآثار» (3793) ورواية إسحاق عن الزُّهْري ضَعَّفها ابن مَعين.
الطريق الثاني: حَبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، واختُلف عليه:
1 -
فرواه الأعمش قال: حِمَارَ وَحْشٍ. وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: شِقُّ حِمَارِ. وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ: رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ. وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ: عَجُزَ حِمَارِ. خَرَّج رواياتهم مسلم (1194).
الطريق الثالث: ما رواه مسلم (1195): عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَذْكِرُهُ: كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَرَامٌ؟ قَالَ: أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ، فَقَالَ:«إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ» .
الطريق الرابع: طريق عمرو بن أُمية، فرَوى ابن وهب كما في «فتح الباري» (4/ 32) ومِن طريقه البيهقي في «السُّنن الكبرى» (10029) عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ، وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ الْقَوْمُ.
وهذا المتن منكر؛ لأنه مخالف لما اتَّفَق عليه الرواة عن ابن عباس، من أن النبي رَدَّ صيد الصَّعْب، فلم يأكل منه هو ولا أصحابه. كما في «سِيَر أعلام النبلاء» (8/ 6).
قال ابن القيم: أَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، فَغَلَطٌ بِلَا شَكٍّ! فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدِ اتَّفَقَ الرُّوَاةُ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، إِلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةَ الشَّاذَّةَ الْمُنْكَرَةَ. «زاد المعاد» (2/ 153)، و «فتح الباري» (4/ 32).
(1)
قال ابن قُدامة: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَاصْطِيَادِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ. «المغني» (5/ 132). ونَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 52)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 95)، والنووي في «المجموع» (7/ 296)، و «الفروع» لابن مفلح (5/ 467).
(2)
«المجموع» (7/ 316)، و «المبدع» (3/ 139).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 197)، و «بداية المجتهد» (2/ 95).
والحاصل: أن الحيوان غير مأكول اللحم على ثلاثة أضرب:
الأول: الحيوان الوحشي كالحية والعقرب، والحشرات كالدود، فيَجوز للمُحْرِم قتله، ولا جزاء عليه
(1)
.
الثاني: سباع البهائم وجوارح الطير، إِنْ قَتَلها المُحْرِم، فلا جزاء فيه.
الثالث: المتولد بين مأكول وغير مأكول، كالمتولد بين حمار وحشي وحمار أهلي، فهذا فيه الجزاء.
المبحث الثالث: صفات الصيد المُحرَّم على المُحْرِم:
يَحرم على المُحْرِم أن يصيد ما جَمَع ثلاث صفات:
الأول: أن يكون صيد بَر؛ لأن صيد البحر حلال لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].
الثاني: أن يكون وحشيًّا، كالظباء والأرانب والحَمَام. أما ما ليس وحشيًّا فلا يَحرم على المُحْرِم أكله، كبهيمة الأنعام والدجاج ونحوها، بالإجماع.
واستدل على أن المحظور على المُحْرِم من الصيد- هو ما كان وحشيًّا مأكولًا- بعموم قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]. ومَعْنَى ذَلِكَ: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْوَحْشِيَّةِ مِنَ الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ، غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ: غَيْرَ مُسْتَحِلِّي اصْطِيَادِهَا، وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)
(2)
فدل على أن المحظور على المُحْرِم من الصيد هو ما كان وحشيًّا مأكولًا.
الثالث: أن يكون مأكولًا، باتفاق المذاهب الأربعة
(3)
.
فالحاصل: أن الصيد الذي يُحْظَر على المُحْرِم هو الحيوان البري المتوحش المأكول اللحم، كالظباء والأرانب والحَمَام. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(4)
.
(1)
نَقَل الإجماع على ذلك ابن المنذر في «المغني» (5/ 176).
(2)
تفسير الطبري = جامع البيان، ط/ هَجَر (8/ 18).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 196)، و «تحفة المحتاج» (4/ 178)، و «المغني» (3/ 440).
(4)
«مغني المحتاج» (1/ 524)، و «الفروع» (5/ 467).
المبحث الرابع: أحكام الأكل من الصيد والدلالة عليه:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مَنْ صِيد لأجله:
مَنْ صِيد لأجله فإنه يَحرم عليه أكله. وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(1)
.
عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ:«إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ»
(2)
.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ:«رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِالْعَرْجِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، قَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِقَطِيفَةِ أُرْجُوَانٍ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. فَقَالُوا: أَوَلَا تَأْكُلُ أَنْتَ؟! فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي»
(3)
.
المطلب الثاني: إذا صاد المُحِل صيدًا وأطعمه المُحْرِم، فهل يكون حلالًا للمُحْرِم؟
إذا صاد المُحِل صيدًا، وأطعمه المُحْرِم دون أن يُعِينه بشيء على صيده، فإنه يَحِل للمُحْرِم أكله. وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة
(4)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].
فكلمة: (صَيْد) مَصْدَر، أي: حُرِّم عليكم أن تصيدوا صيد البر. وليس بمعنى مَصِيد.
واستدلوا بما رُوي: عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالقَاحَةِ، وَمِنَّا المُحْرِمُ، وَمِنَّا غَيْرُ المُحْرِمِ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، يَعْنِي وَقَعَ سَوْطُهُ، فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، إِنَّا مُحْرِمُونَ. فَتَنَاوَلْتُهُ، فَأَخَذْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ الحِمَارَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ، فَعَقَرْتُهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَأْكُلُوا. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَمَامَنَا، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ:«كُلُوهُ، حَلَالٌ»
(5)
.
(1)
«حاشية الدسوقي» (2/ 78، 79)، و «المجموع» (7/ 324)، و «الإنصاف» (3/ 338).
(2)
رواه البخاري (1825)، ومسلم (1193).
(3)
إسناده صحيح: رواه مالك (1016) عن عبد الله بن أبي بكر، به.
(4)
قال الكاساني: وَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ صَيْدٍ اصْطَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. «بدائع الصنائع» (2/ 205)، و «شرح مختصر خليل» (2/ 372)، و «الحاوي» (4/ 779)، و «المغني» (3/ 291).
(5)
رواه البخاري (1823)، ومسلم (1196).
وَجْه الدلالة: أن المُحْرِم ليس له أثر في هذا الصيد، لا دلالة ولا إعانة، ولا مشاركة ولا استقلالًا، ولا صِيد من أجله؛ فلم يُمنع منه.
المبحث الخامس: صيد الحَرَم:
يَحرم الصيد في الحَرَم على المُحْرِم وعلى الحلال، بالسُّنة والإجماع.
أما السُّنة، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَ 0 اتِ وَالأَرْضَ
…
لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ»
(1)
.
وأما الإجماع، فنُقِل الإجماع على أن صيد الحرم حرام على الحلال والمُحْرِم
(2)
.
المبحث السادس: ما لا يَدخل في الصيد: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الهوام والحشرات:
لا تَدخل الهوام والحشرات في تحريم الصيد عند الحنفية والشافعية والحنابلة
(3)
.
المطلب الثاني: قَتْل الفواسق الخمس:
للمُحْرِم قتل الفواسق الخمس: الفأرة، والعقرب، والكلب العَقور، والغراب، والحِدَأة، في الحِل والحَرَم، بالسُّنة والإجماع.
أما السُّنة، فَعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ: الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالفَأْرَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ»
(4)
.
وأما الإجماع، فنُقل الإجماع على أنه يَجوز للمُحْرِم قتل الفواسق الخمس
(5)
.
ونُقل الإجماع على جواز قتل المُحْرِم للحية
(6)
.
(1)
رواه البخاري (3189)، ومسلم (1353).
(2)
نَقَله ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 60)، والنووي في «شرح مسلم» (9/ 125).
(3)
«البحر الرائق» (8/ 251)، و «الحاوي» (4/ 341)، و «كشاف القناع» (2/ 439).
(4)
رواه البخاري (1828)، ومسلم (1200).
(5)
نَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 54)، والبغوي في «شرح السُّنة» (7/ 267، 268).
وقال ابن عبد البر: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْفَأْرَةِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. «الاستذكار» (4/ 156).
وقد ورد عن النَّخَعي أنه مَنَع المُحْرِم من قتل الفأرة. وهذا قول شاذ، يُخالِف صريح الأدلة.
(6)
قال ابن عبد البر: الْعُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ. «الاستذكار» (4/ 155). وهذا الإجماع منخرم؛ فهناك قول لحماد بن أبي سليمان بعدم جواز قتل الحيات. وهناك قول ثالث بعدم جواز قتل صغار الحيات للمُحْرِم. وهو قول مالك في رواية. «فتح الباري» (4/ 41) وهو قول شاذ لمخالفته للسُّنة، وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بقتل الحية.
المطلب الثالث: قتل المؤذيات:
للمُحْرِم قتل كل ما آذاه، سواء كان من طبعه الأذى أو لم يكن، بالإجماع
(1)
.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ: الفَأْرَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالحُدَيَّا، وَالغُرَابُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ» .
المبحث السابع: ما يباح للمُحْرِم: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: ذَبْح وأكل بهيمة الأنعام ونحوها:
يَجوز للمُحْرِم بالإجماع ذبح وأكل بهيمة الأنعام والدجاج ونحوها.
قال ابن حزم: اتفقوا أن له أن يَذبح من الأنعام والدجاج الإنسي ما أَحَب، مما يَملك، أو يأمر مالكه، وهو مُحْرِم في الحَرَم
(2)
.
المطلب الثاني: صيد البحر:
يَجُوز للمُحْرِم اصطياد الحيوان البحري وأَكْله، بالإجماع
(3)
.
وقد قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].
(1)
نَقَله ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 54)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 43) أن الخبر نَصَّ مِنْ كل جنس على صورة مِنْ أدناه؛ تنبيهًا على ما هو أعلى منها، ودلالة على ما كان في معناها، فنَصُّه على الغراب والحِدَأة تنبيه على البازِي ونحوه، وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات، وعلى العقرب تنبيه على الحية. وعلى الكلب العَقُور تنبيه على السِّباعِ التي هي أعلى منه، ولأن ما لا يُضمَن بقيمته ولا مِثله لا يُضمَن بشيء، كالحشرات. «الشرح الكبير على المقنع» (8/ 307).
(2)
«مراتب الإجماع» (ص: 44)، ونَقَل الإجماع على ذلك ابن قُدامة في «المغني» (5/ 399).
(3)
نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 54)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 178).
الحاصل في محظورات الإحرام:
محظورات الإحرام: هي الممنوعات التي يجب على المُحْرِم اجتنابها؛ بسبب إحرامه ودخوله في النسك.
والمحظورات ترجع إلى أربعة أصول:
الأصل الأول: ما يتعلق بترفيه البدن.
وفيه ثلاثة محظورات: (حَلْق الشَّعْر، وتقليم الأظفار، والطِّيب).
المحظور الأول: حَلْق الشَّعْر: وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: حَلْق شَعْر الرأس من محظورات الإحرام، وتجب به الفدية.
المبحث الثاني: هل تجب الفدية بإزالة شعر بقية البدن؟
لا يَجوز للمُحْرِم أَخْذ شيء مِنْ شَعْر رأسه وجسده، كقص شاربه، ونَتْف إبطه؛ لعموم قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] وللقياس على شعر الرأس.
المبحث الثالث: مقدار الحَلْق الذي تجب به الفدية لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يأخذ شعرات، فلا يُعَد حلقًا، فليس عليه شيء.
الثانية: إذا حَلَق بعض الرأس لعُذر، كالحجامة أو مداواة جرح، فإنه يَحلق ما يَحتاج إليه، ولا شيء عليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحْرِم، في رأسه. ولم يُنقَل أنه فدى.
الثالثة: أنه تجب الفدية في حلق أكثر شعر المُحْرِم، أما إذا أَخَذ شعرات من رأسه فإنه يَحرم عليه؛ لأن المُحْرِم نُهي عن حلق شعر رأسه، وهو يشمل القليل والكثير، والقاعدة أن امتثال الأمر لا يَتم إلا بفعل جميعه، وامتثال النهي لا يَتم إلا بترك جميعه، لكن الفدية لا تجب إلا بحلق ما يَحصل به الترفه وزوال الأذى.
المبحث الرابع: لا بأس بغَسْل المُحْرِم رأسه وتسريحه؛ لأن أبا أيوب اغتسل وهو مُحْرِم، وقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يَفعل.
المحظور الثاني: تقليم الأظفار: وفيه مباحث:
المبحث الأول: أَجْمَع أهل العلم على أن المُحْرِم ممنوع من قَلْم أظفاره.
المبحث الثاني: إن انكسر ظفره، فله قص ما انكسر منه، ولا شيء عليه.
المبحث الثالث: مَنْ قلم ظفرًا لإماطة الأذى، فعليه الفدية؛ فالمُحْرِم ممنوع من الأخذ من الأظفار؛ لأن هذا ينافي الإحرام لكَوْن المُحْرِم أشعث أغبر؛ لعموم قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] لأنه إزالة جزء يَقضي به تَفَثه ويترفه بإزالته، كالشَّعْر.
المحظور الثالث: الطِّيب: وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: الطِّيب من محظورات الإحرام.
المبحث الثاني: الحِكْمَةُ مِنْ تَحْرِيمِ الطِّيبِ أَنَّهُ دَاعِيَةٌ إِلَى الْجِمَاعِ، وَلِأَنَّهُ يُنَافِي تَذَلُّلَ الْحَاجِّ؛ فَإِنَّ الْحَاجَّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ.
المبحث الثالث: ضابط الطِّيب المحظور على المُحْرِم: وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الطِّيب المتفق على تحريمه للمُحْرِم:
هُوَ كُلُّ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ النَّاسِ بِأَنَّهُ طِيبٌ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ، وَيُتَّخَذُ لِلشَّمِّ، فَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَى المُحْرِمِ، مِثْلُ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ وَالعُودِ وَالعَنْبَرِ.
المطلب الثاني: جواز شم المُحْرِم النبات ذي الرائحة الزكية، والفواكه طيبة الرائحة.
المطلب الثالث: لا فدية على المُحْرِم إذا شم الرياحين؛ لأن المحظور على المُحْرِم هو وَضْع الطِّيب على الثوب أو البدن، وليس مجرد الشم.
المطلب الرابع: حُكْم البخور هو حُكم استعمال الطِّيب؛ لأنه من جملة أنواع الطِّيب الذي حُظِر على المُحْرِم استعماله، وأنه يَصْدُق على مَنْ تَبَخَّر أنه تَطيَّب، وإذا كان المقصود من الطِّيب هو الاستمتاع برائحة الطِّيب، فالبخور أَوْلَى بالتحريم.
المبحث الرابع: بقاء الطِّيب بعد الإحرام: وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: يُستحَب التطيب في البدن لا في الثياب، قبل الدخول في الإحرام؛ استعدادًا له، ولو بقي جِرمه بعد الإحرام.
المطلب الثاني: لا يَجوز للمُحْرِم أن يضع الطِّيب على ملابس الإحرام (الإزار والرداء) وإذا طَيَّبها لا يلبسها حتى يغسلها أو يغيرها؛ لنَهْي النبي صلى الله عليه وسلم المُحْرِمَ عن لبس الثوب المُطيَّب بقوله: «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ» وإنما السُّنة تطييب
البدن، كرأسه ولحيته وإبطيه وجسده قبل الإحرام، والله أعلم.
المطلب الثالث: أنه إذا خلط الطِّيب كالزعفران بطعام، فذهبت الرائحة بالطبخ، فيَجوز أكله ولا فدية؛ لأن الطِّيب صار مستهلكًا في الطعام بالطبخ.
المطلب الرابع: مس طِيب الكعبة:
مس طِيب الكعبة لا يخلو من حالين:
الأول: أن المُحْرِم إذا مس طِيب الكعبة قاصدًا التلذذ به، فتجب عليه الفدية.
الثاني: أن المُحْرِم إذا مس طِيب الكعبة من غير قصد، فلا شيء عليه.
المطلب الخامس: شم الطِّيب كالمِسك والكافور والعنبر والعود- لا يوجب الفدية.
المطلب السادس: الصابون المُطيَّب، وما في حكمه من المنظفات:
يَجوز استعمال الصابون المُطيَّب بالرياحين ونحوها مما لم يُتخذ للتطيب؛ لأنه إذا كان شم المُحْرِم للرياحين لا يوجب الفدية، فمن باب أَوْلَى المخلوط بغيره. وأما إذا كان مُطيَّبًا بما يُتخذ للتطيب كالمسك ونحوه، فلا يَجوز استعماله؛ لعموم الأدلة التي تَنهى المُحْرِم عن استعمال الطِّيب.
الأصل الثاني- ما يتعلق بالمَخيط، وهو قسمان:
القسم الأول: المحظورات التي تختص بالرجال اثنتان: المَخيط، وتغطية الرأس.
القسم الثاني: المحظورات التي تختص بالنساء اثنتان: النقاب والقُفازان.
القسم الأول: يُحْظَر لبس المَخيط على المُحْرِم: وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: يُحْظَر لبس المَخيط على الذَّكَر المُحْرِم.
والمَخيط: هو اللباس المصنوع على قدر البدن، كالسراويل أو الخُف.
المطلب الثاني: مَنْ أَحْرَم بالمَخيط أو لَبِسه بعد إحرامه؛ ليَدخل به مكة لعدم حمله التصريح، فحجه صحيح، لكنه يأثم بارتدائه إن كان من غير عذر، وتجب عليه الفدية.
المطلب الثالث: لا يَجوز لبس السروال القصير تحت الإزار، وقد يكون ظهور العورة بسبب عدم تَعَلُّم كيفية إحكام لباس الإحرام، فينبغي تعليم الحُجاج كيفية إحكام لباس الإحرام حتى لا تَظهر العورة، وهذا يجب تعلمه؛ لأن ما لا يَتم الواجب إلا به فهو واجب.
المطلب الرابع: مدة اللبس الموجبة للفدية: ظواهر النصوص مَنعت المُحْرِم من لبس المَخيط دون تقييد، فمطلق اللُّبس يوجب الفدية، وقليله وكثيره سواء، فلُبْس بعض الحُجاج من الجنود والأطباء زيهم موجب للفدية بكل حال، طال زمن اللُّبس أم قَصُر.
القسم الثاني: الحالات المستثناة من لبس المَخيط: وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: جواز لبس السراويل لمن لم يجد الإزار.
المطلب الثاني: يَجوز للمُحْرِم تشبيك ردائه بمشبك ونحوه؛ لأنه لا يُعَد لُبسًا.
المطلب الثالث: حُكْم لبس المُحْرِم الحزام ليضع فيه النفقة ونحوها:
الحزام الذي يُشَد على وسط المُحْرِم الآن ويوضع فيه المال والجواز والمحمول- يَجوز لبسه؛ لأن الحاجة داعية إليه؛ إذ إن ترك لبسه مما يُعَرِّض النفقة للسرقة والضياع.
المطلب الرابع: حُكْم لبس قطعة ثالثة مع الإحرام تَستر العورة.
لُبْس قطعة ثالثة تحت الفرج لتَستر العورة، وتُربَط بالإحرام بكبسات معدنية- مُحَرَّم.
المطلب الخامس: نُقل الإجماع على جواز لبس الخاتم للمُحْرِم.
المطلب السادس: يَجوز للمُحْرِم لبس الساعة، أو النظارة، أو سماعة الأذن، أو تركيبة الأسنان؛ وذلك لأنها كلها ليست في معنى ما نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم المُحْرِم عن لبسه.
القسم الثالث: لُبْس النعلين للمُحْرِم: وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: يَجوز لُبْس الخفين لمن لم يجد النعلين.
المطلب الثاني: مَنْ لم يجد النعلين فليَلبس الخفين من غير قطعهما؛ لأن الخف متى قُطِع حتى يَكُون أسفل من الكعبين فهو كالحذاء- لا يسمى خفًّا ولا يُمسَح عليه.
المطلب الثالث: يَجوز لبس الخفين المقطوعين مع وجود النعلين؛ لأن الخف إذا قُطِع أسفل من الكعبين يَجوز لبسه للمُحْرِم؛ لأنه كالنعل.
المطلب الرابع: الراجح عدم وجوب الفدية على مَنْ لم يجد خفين فلبس نعلين، أو لم يجد إزارًا فلبس سراويل.
الحاصل في تغطية الرأس:
سَتْر الرأس على أربعة أقسام:
القسم الأول: ما كان متصلًا وقُصِد به سَتْر الرأس، كالطاقية والعمامة والقبعة والخوذة، هذا مُحَرَّم بالسُّنة والإجماع.
القسم الثاني: ما كان متصلًا ولم يُقصَد به الاستظلال، مِثل أن يُغطِّي المُحْرِم رأسه بما يَحمله عليها، كحَمْل الطعام والعفش والمتاع على الرأس، لا يُعَد من التغطية الممنوعة.
القسم الثالث: أن يَستظل بمنفصل عنه، غير تابع، كالاستظلال بالخيمة، والبيت والمسجد والحائط والشجرة والسيارة، فهذا جائز بالسُّنة والإجماع.
القسم الرابع: أن يُظلِّل رأسه بمنفصل عنه تابع له، كالشمسية والسيارة، ومَحْمَل البعير، وما أشبهها، فهذا جائز على قول جمهور العلماء.
يَجوز للمُحْرِم تغطية وجهه، ويَحرم عليه تغطية رأسه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تُخَمِّروا رأسه» أما زيادة «ولا وجهه» فهي شاذة ولا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا، فلُبْس المُحْرِم للكمامات الطبية للوقاية من العدوى والغبار- لا بأس به؛ لجواز تغطية وجه المُحْرِم، وكذا يَجوز للمُحْرِمة لبس الكمامات الطبية؛ فالمرأة منهية عن تغطية وجهها بالنقاب، ويجوز تغطيته بغير النقاب، كالسدل والكمامة الطبية.
القسم الثاني: المحظورات التي تختص بالنساء اثنتان:
فالمرأة لا يَحرم عليها من لبس المخيط إلا النقاب والقفازان.
المحظور الأول: لبس النقاب: وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف النقاب:
النقاب هو: لباس الوجه، وهو ما فُصِّل وقُطِّع وخِيط لأجل الوجه. فتَستر المرأة وجهها، وتَفتح لعينيها بقدر ما تَنظر منه.
المطلب الثاني: النقاب من محظورات الإحرام على المرأة، بالسُّنة والإجماع.
المطلب الثالث: يَجوز للمُحْرِمة سَتْر وجهها بغير النقاب؛ لأن النهي إنما جاء عن النقاب؛ لأنه لبس مُفصَّلًا على العضو، صُنع لسَتْر الوجه، كالقفاز المصنوع لسَتر اليد،
والقميص المصنوع لسَتر البدن، وقد اتَّفق الأئمة على أن للمُحْرِم أن يَستر يديه ورجليه مع أنه نُهي عن لبس القميص والخف.
المطلب الرابع: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا، لَكِنْ بِغَيْرِ اللِّبَاسِ الْمَصْنُوعِ بِقَدْرِ الْعُضْوِ، كَالنِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَيَلْبَسُ الْإِزَارَ، مَعَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ مُجَافَاةِ السَّاتِرِ المُسْدَلِ عَنْ وَجْهِ المَرْأَةِ المُحْرِمَةِ.
المحظور الثاني المختص بالمحرمة: لُبْس القفازين:
القفازان: شيء يُعْمَل لليدين يُغطِّي الأصابع مع الكف.
يَجوز للمحرمة لبس القفازين.
الأصل الثالث: ما يتعلق بنكاح المُحْرِم. ويشتمل على أربعة محظورات:
المحظور الأول: تحرم الخِطبة للمُحْرِم، فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يَخْطُبُ» .
المحظور الثاني: لا يحل للمُحْرِم أن يتزوج، ولا أن يُزوِّج غيره، ولا فدية فيه.
المحظور الثالث: مَنْ باشر فيما دون الفرج، فلم يُنْزِل، لا يَفسد حجه بالإجماع.
المحظور الرابع: الجماع. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الوَطْء في الفرج حرام على المُحْرِم، ومُفسِد لنسكه.
المبحث الثاني: متى يَفسد الحج بالجماع؟
لا يخلو الجماع في الحج من ثلاث أحوال:
الحال الأولى: إذا جامع المُحْرِم امرأته قبل الوقوف بعرفة، فَسَد حجه بالإجماع.
الحال الثانية: إذا جامع امرأته بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول، فَسَد حجه.
الحال الثالثة: إذا جامع المُحْرِم امرأته بعد التحلل الأول، لا يَفسد نسكه.
يترتب على الجماع في الحج خمسة أشياء:
الأول: الإثم، بالكتاب والسُّنة والإجماع.
الثاني: لا خلاف أن المُحْرِم إذا جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه.
الثالث: وجوب المُضي في الحج؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
الرابع: لا يجب القضاء للمُحْرِم إذا جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة، بالإجماع.
الخامس: الفدية أو ذَبْح الهَدْي.
الأصل الرابع: قَتْل الصيد البري، وفيه مباحث:
المبحث الأول: قَتْل الصيد من محظورات الإحرام، بالكتاب والسُّنة والإجماع.
المبحث الثاني: يَحرم على المُحْرِم أن يصيد ما جَمَع ثلاث صفات:
فالصيد الذي يُحظر على المُحرِم هو الحيوان البري المتوحش المأكول اللحم، كالظباء والأرانب والحَمَام.
المبحث الثالث: أحكام الأكل من الصيد، والدلالة عليه. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مَنْ صِيد لأجله، فإنه يَحرم عليه أكله.
المطلب الثاني: إذا صاد المُحِل صيدًا، وأطعمه المُحْرِمَ دون أن يُعِينه بشيء على صيده، فإنه يَحِل للمُحْرِم أكله.
المبحث الرابع: يَحرم الصيد في الحرم على المُحْرِم والحلال.
المبحث الخامس: ما لا يَدخل في الصيد: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الهوام والحشرات، لا تَدخل الهوام والحشرات في تحريم الصيد.
المطلب الثاني: للمُحْرِم قتل الفواسق الخمس: الفأرة، والعقرب، والكلب العَقور، والغراب، والحِدَأة، في الحِل والحَرَم، بالسُّنة والإجماع.
المطلب الثالث: يَجوز للمُحْرِم قتل المؤذيات.
المبحث السادس: ما يباح للمُحْرِم: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: يَجوز للمُحْرِم ذبح وأكل بهيمة الأنعام والدجاج ونحوها، بالإجماع.
المطلب الثاني: يَجوز للمُحْرِم اصطياد الحيوان البحري وأَكْله.
الفصل الثالث
الفدية المتعلقة بمحظورات الإحرام
أقسام محظورات الإحرام باعتبار الفدية- أربعة:
القسم الأول: ما فِديته فدية أذى.
(فدية الأذى هي الدم أو الإطعام أو الصيام).
القسم الثاني: ما لا فدية فيه، وهو عَقْد النكاح.
القسم الثالث: ما فِديته مُغلَّظة، وهو الجماع.
القسم الرابع: ما فديته الجزاء بمثله، وهو الصيد.
تمهيد: معنى الفدية
الفدية لغة: تُطْلَق على الجزاء والبدل، أن يُجْعَل شيء مكان شيء حِمًى له، ومنه فدية الأسير واستنقاذه بمال، ومنه قوله تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] أي: جزيناه بأن جعلنا مكان ذبحه ذبح كبش عظيم، وأنقذناه من الذبح
(1)
.
وشرعًا: هي ما وجب بسبب فعل محظور كلُبس المَخيط، أو تَرْك واجب كَمَنْ جَاوَز الميقات بغير نية إحرام، مع أنه ينوي الحج. وسُميت فدية لقوله تعالى:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
القسم الأول: ما فِديته فدية أذى (هي الدم أو الإطعام أو الصيام) وهي محظورات الترفه
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: المحظورات التي يجب على مَنْ ارتَكب شيئًا منها تجب عليه فدية الأذى:
المحظور الأول: حَلْق الشَّعْر أو تقصيره.
الثاني: تقليم الأظفار.
الثالث: الطِّيب.
الرابع: تغطية الرأس.
الخامس: لُبس المَخيط.
مَنْ فعل شيئًا مما سبق، فإنه يجب عليه في كل ذلك فدية الأذى، فيُخيَّر بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة.
(1)
«معجم مقاييس اللغة» لابن فارس (مادة: ف د ي)، و «المصباح المنير» للفيومي (مادة: ف د ي).
المبحث الثاني: فدية الأذى على التخيير أم على الترتيب؟
فدية الأذى على التخيير، فيُخيَّر بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة؛ لعموم قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وبهذا قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
وفي «الصحيحين» : عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ» قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ»
(2)
.
فهذه الرواية صريحة في التخيير بين أنواع الفدية الثلاثة.
ويُشْكِل على الآية والحديث ما ورد في «الصحيحين» : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، وَفِيهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه: «تَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: «فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ»
(3)
.
فظاهر هذه الرواية أن مَنْ وَجَد النسك، فلا يَجوز له الإطعام أو الصيام، وأن التخيير إنما هو بين الإطعام والصيام لمن لم يجد النسك، وهذا يخالف ظاهر الآية، ورواية ابن أبي ليلى عن كعب أن التخيير بين أنواع الفدية الثلاثة.
وأقوى أوجه الجَمْع: أن الأفضل للفدية أن يَذبح نسيكة إن وَجَد سَعة، وإِنْ أَطْعَم أو صام وهو يجد الهَدْي فلا إثم عليه.
وأما الترجيح، فتُرجَّح الرواية المُصرِّحة بالتخيير بين أنواع الفدية الثلاثة؛ وذلك لأمور:
الأول: أن رواية التخيير مُوافِقة للقرآن.
الثاني: أن أكثر الروايات عن كعب بن عُجْرة على التخيير.
الثالث: أن جماهير العلماء على أن الفدية على التخيير
(4)
.
(1)
«تبيين الحقائق» (2/ 56)، و «الكافي» (1/ 389)، و «الحاوي» (4/ 227)، و «الإنصاف» (3/ 360).
(2)
رواه البخاري (1814)، ومسلم (1201).
(3)
رواه البخاري (1816)، ومسلم (1201).
(4)
قال ابن عبد البر: وعامة الآثار عن كعب وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه مضى عمل العلماء. «التمهيد» (2/ 238).
المبحث الثالث: ما نوع الإطعام الذي أَمَر به النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عُجْرة؟
قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خَيَّر كعبًا بين الذبح أو الصيام أو الإطعام. والإشكال هو في اختلاف الروايات في نوع الإطعام الذي خَيَّر فيه النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا واحدًا، هو كعب.
ففي رواية: «أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ» .
وفي ثانية: «أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ، طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ» .
وفي ثالثة: «نصف صاع من حنطة»
(1)
.
وفي رابعة: «أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ زَبِيبٍ»
(2)
وفَرَقًا، أي: اثْنَا عَشَرَ مُدًّا.
ولا بد من الترجيح؛ لأن الروايات كلها في قضية واحدة، وفي رجل واحد.
والراجح: أن رواية التمر هي المحفوظة، وهي التي رواها مسلم من طريق أبي قِلابة عن ابن أبي ليلى، ولم يقع اختلاف فيها على ابن أبي ليلى في تحديد نوع الإطعام.
(1)
ومدار هذا الحديث على شُعبة، عن عبد الرحمن الأصبهاني، عن عبد الله بن مغفل، واختُلف عنه:
فرواه محمد بن جعفر عند مسلم (1201) وبَهْز بن أسد عند أحمد (18111)، وعفان بن مسلم عند أحمد أيضًا (18108) ثلاثتهم عن شُعبة بلفظ: نِصْف صاعٍ من طعام.
وخالفهم في هذا اللفظ: سليمان بن حرب، والطيالسي، وعاصم بن علي، وحفص بن عمر الحَوْضي، كلهم عن شُعبة بلفظ: نصف صاع من حنطة. عند الطبراني (19/ 136).
والراجح: أن المحفوظ عن شُعبة رواية (نصف صاع) لثلاثة أمور:
الأول: محمد هو ابن جعفر، المعروف ب (غُنْدَر) وهو أثبت الناس في شُعبة. «فتح الباري» (1/ 87).
الثاني: اعتَمد مسلم على محمد بن جعفر روايته في صحيحه، وأَعْرَض عما سواها.
الثالث: أنه تابعه على هذه اللفظة ثقتان ثبتان، وهما عفان بن مسلم، وبَهْز بن أسد.
وأما رواية: «نصف صاع من حنطة» فالأقرب أن الرواة لم يَضبطوا اللفظ، وقرينة ذلك أن في روايتهم:«أو أطعم كذا وكذا مسكينًا» ولم يضبطوا عدد المساكين، مع أن المحفوظ «ستة مساكين» فكذا لم يَضبط الرواة نوع الطعام.
قال ابن حجر: الْمَحْفُوظُ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: (نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ) وَالِاخْتِلَافُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ تَمْرًا أَوْ حِنْطَةً- لَعَلَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ. «فتح الباري» (4/ 17).
والجَمْع بين الروايات أن الطعام اسم خاص للحنطة، والله أعلم.
(2)
منكر: أخرجه أبو داود (1852) من طريق ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الحَكَم بن عُتبة، به.
وفي إسناده: (ابن إسحاق) وهو إن كان يُحَسَّن حديثه، ولكن لا يُحتَج بما انفرد به، وهذه الرواية من مناكيره؛ لأن روايته مُخالِفة للروايات الصحيحة. ويدل على نكارتها قوله:«فَحَلَقْتُ رَأْسِي، ثُمَّ نَسَكْتُ» .
وقد لَخَّص ابن حجر الكلام فقال: وَأَمَّا الزَّبِيبُ فَلَمْ أَرَهُ إِلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ، وَفِي إِسْنَادِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْمَغَازِي لَا فِي الْأَحْكَامِ إِذَا خَالَفَ، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ التَّمْرِ. «فتح الباري» (4/ 17).
أما رواية شُعبة فقد اختُلف عليه: فرواه جماعة بلفظ: «نصف صاع طعامًا» وجماعة: «نصف صاع حنطة» ولذا تُقَدَّم رواية التمر التي لا اختلاف فيها.
وأما حديث: «أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ زَبِيبٍ» فهذا حديث منكر
(1)
.
المبحث الرابع: ما نوع النسك الذي أَمَر النبي صلى الله عليه وسلم به كعب بن عُجْرة؟
وَرَدَ أن النسك شاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب:«احْلِقْ رَأْسَكَ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا»
(2)
.
وفي حديث عبد الله بن مَعْقِل: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لكَعْبِ: «تَجِدُ شَاةً؟»
(3)
.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عَيَّن الشاة نسكًا لكعب، وأخبره كعب أنه لا يجدها.
ولكن يُشْكِل عليهما حديث ابن عمر، أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْتَدِيَ، فَافْتَدَى بِبَقَرَةٍ
(4)
.
(1)
قال ابن حزم: فوجدنا أصحاب شُعبة قد اختلفوا عليه، فوجب ترك ما اضطربوا فيه؛ إذ ليس بعضه أَوْلَى من بعض، ووجب الرجوع إلى رواية ابن أبي ليلى الذي لم يضطرب الثقات من رواته فيه. «المُحَلَّى» (7/ 210). وقال ابن حجر: والمحفوظ رواية التمر؛ فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قِلابة كما تقدم، ولم يُختلَف فيه على أبي قِلابة. «فتح الباري» (4/ 17).
(2)
أخرجه مسلم (1201).
(3)
أخرجه البخاري (1816)، ومسلم (1220).
(4)
منكر: مدار هذا الحديث على نافع، وقد اختُلف عليه من ثلاثة وجوه:
الأول: فرواه عبد الوهاب بن بُخْتٍ وأبو مَعْشَر، كلاهما عن نافع عن ابن عمر، عند الطبراني (210).
الثاني: ورواه اللَّيْث، عن نافعٍ، أن رجلًا أخبره، عن كعب، به، عند أبي داود (1859).
الثالث: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَارٍ، أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ ابْنَ كَعْبِ: مَا صَنَعَ أَبُوكَ فِي الْأَذَى الَّذِي أَصَابَهُ؟ قَالَ: ذَبَحَ بَقَرَةً. أخرجه سعيد بن منصور في «السُّنن» (3/ 743). وفي هذا السند علتان: الأولى: ابن أبي ليلى سيئ الحفظ. الثانية: سليمان لم يدرك عمر.
وللحديث طرق أخرى ضعيفة عند الطبراني (329) والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 35).
فأَرْجَح هذه الطرق طريق عبد الوهاب بن بُخْت، وهو وإن كان ثقة، فالمتن منكر لأمرين:
الأول: أن عبد الوهاب ليس من أصحاب نافعٍ المشاهير، فأين أيوب ومالك من هذه الرواية؟!
الثاني: نكارة متنه؛ فإن المحفوظ في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب: «أتجد شاة؟» وليس بقرة.
قال ابن حزم: وعلى كُلٍّ فهذه الروايات منكرة؛ لأنها مُخالِفة للمحفوظ في «الصحيحين» وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب:«أتجد شاة؟» . «المُحَلَّى» (7/ 212)، وقال ابن عبد البر: كُلُّ مَنْ ذَكَرَ النُّسُكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُفَسَّرًا، فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِشَاةٍ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. «التمهيد» (2/ 237).
وقال القاري: ومن المُنكَر قوله: (ونَحَر بقرة) ففِي «الصحيح» أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «أتجد شاة؟» . «عمدة القاري» (10/ 151)، وضَعَّفه عبد الحق الإشبيلي، وقال: والصحيح شاة. «الأحكام الوسطى» (2/ 305). وكذا ضَعَّفه ابن حجر فقال: ولم يَثبت. «فتح الباري» (4/ 19).
وهذا يدل على أن كعبًا افتدى ببقرة، ولكن حديث ابن عمر منكر.
القسم الثاني: ما لا فدية فيه، وهو عَقْد النكاح
القسم الثالث: ما فديته مُغلَّظة، وهو الجماع، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تجب الفدية على مَنْ أفسد النسك بالجماع.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تجب الفدية على المُحْرِم المُجامِع قبل الوقوف بعرفة.
تجب الفدية على مَنْ أفسد النسك بالجماع قبل الوقوف بعرفة، بالإجماع
(1)
.
واختلفوا: ممن تكون الفدية، أو نوع الهَدْي، على قولين:
القول الأول: أن مَنْ أفسد حجه بالجماع في حالة الإحرام قبل الوقوف بعرفة، وجب الهَدْي ببدنة. وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالمأثور والمعقول:
أما المأثور، فعن عكرمة أن رجلًا قال لابن عباس: أَصَبْتُ أَهْلِي. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا حَجُّكُمَا هَذَا فَقَدْ بَطَلَ، فَحُجَّا عَامًا قَابِلًا، ثُمَّ أَهِلًّا مِنْ حَيْثُ أَهْلَلْتُمَا، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُمَا حَيْثُ وَقَعْتَ عَلَيْهَا، فَفَارِقْهَا فَلَا تَرَاكَ وَلَا تَرَاهَا حَتَّى تَرْمِيَا الجَمْرَةَ، وَأَهْدِ نَاقَةً وَلْتُهْدِي نَاقَةً
(3)
.
وأما المعقول، فَلِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا، فَأَوْجَبَ الْبَدَنَةَ، كَمَا بَعْدَ الْوُقُوفِ. وَلِأَنَّ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ الْجِنَايَةُ بِهِ أَعْظَمُ، فَكَفَّارَتُهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَغْلَظَ
(4)
.
القول الآخَر: أن مَنْ جامع زوجته، وهما مُهِلان بالحج قبل أن يقفا بعرفة، وجب
(1)
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن مَنْ جَامَع عامدًا في حجه، قبل وقوفه بعرفة، أن عليه حجًّا قابلًا والهَدْي. «الإجماع» (ص: 52). وقال النووي: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ، وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَالْقَضَاءُ، إِذَا كَانَ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ. «المجموع» (7/ 290).
(2)
«الذخيرة» (3/ 340)، و «المجموع» (7/ 416)، وقال ابن قُدامة: يَجِبُ عَلَى الْمُجَامِعِ بَدَنَةٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. «المغني» (5/ 167).
(3)
إسناده صحيح: رواه البيهقي (9871).
(4)
«المغني» (5/ 373).
الهَدْي بشاة. وهو مذهب الحنفية، وقول عند المالكية
(1)
.
واستدلوا بما رواه: يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ، أَوْ زَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ - شَكَّ أَبُو تَوْبَةَ - أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُذَامٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ، فَسَأَلَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمَا:«اقْضِيَا نُسُكَكُمَا، وَأهْدِيَا هَدْيًا، ثُمَّ ارْجِعَا حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا، تَفَرَّقَا، وَلَا يَرَى وَاحِدٌ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ، وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ أُخْرَى، فَتُقْبِلَانِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا، فَأَحْرِمَا وَأَتِمَّا نُسُكَكُمَا وَأهْدِيَا»
(2)
.
وروى مالك قال: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَأَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلُوا عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ أَهْلَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ، فَقَالُوا: يَنْفُذَانِ لِوَجْهِهِمَا، حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا، ثُمَّ عَلَيْهِمَا حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ. وَقَالَ عَلِيٌّ: وَإِذَا أَهَلَّا بِالْحَجِّ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ، تَفَرَّقَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا
(3)
.
وَجْه الدلالة: أَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، لَكِنَّ الشَّاةَ أَدْنَى، وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْغَنَمِ أَوْلَى
(4)
.
قال ابن قُدامة: وَأَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالْمُطَاوَعَةِ بِلَا خِلَافٍ
(5)
.
المطلب الثاني: هل تجب على المرأة الفدية؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إن كانت مُطاوِعة فعليها بدنة كالرجل، وإن كانت مُكْرَهة فإنه لا يجب عليها هَدْي. وهذا مذهب المالكية والحنابلة
(6)
.
(1)
«المبسوط» (4/ 118)، و «بداية المجتهد» (2/ 135)، و «المغني» (5/ 167).
(2)
ضعيف: أخرجه أبو داود في «المراسيل» (140)، ومن طريقه البيهقي (9864) وقال: هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ الأَسْلَمِيُّ بِلَا شَكٍّ. ويزيد: مقبول، كما في «التقريب» .
وقال ابن القطان في كتابه: هذا حديث لا يصح. «نَصْب الراية» (3/ 125).
(3)
ضعيف لانقطاعه؛ لقول مالك: (بَلَغني أن عمر
…
). وبينهما مفاوز، أخرجه مالك (1126).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 217).
(5)
«المغني» (5/ 168).
(6)
لكن يجب على مَنْ أَكْرَهها أن يُهْدِي عنها. «الكافي» (1/ 399).
قال ابن قُدامة: فَأَمَّا حَالَ الْمُطَاوَعَةِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: اهْدِ نَاقَةً، وَلْتُهْدِي نَاقَةً. «المغني» (5/ 167).
واستدلوا لوجوب البدنة على المرأة إذا كانت مُطاوِعة، بالمأثور والمعقول:
أما المأثور، فَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَصَبْتُ أَهْلِي. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا حَجُّكُمَا هَذَا، فَقَدْ بَطَلَ فَحُجَّا عَامًا قَابِلًا، ثُمَّ أَهِلًّا مِنْ حَيْثُ أَهْلَلْتُمَا، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُمَا حَيْثُ وَقَعْتَ عَلَيْهَا، فَفَارِقْهَا فَلَا تَرَاكَ وَلَا تَرَاهَا حَتَّى تَرْمِيَا الجَمْرَةَ، وَأَهْدِ نَاقَةً وَلْتُهْدِي نَاقَةً.
وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنِ الْمُحْرِمِ يُوَاقِعُ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَقَالَ:«يَقْضِيَانِ حَجَّهُمَا، وَاللهُ أَعْلَمُ بِحَجِّهِمَا، ثُمَّ يَرْجِعَانِ حَلَالًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حَجَّا وَأَهْدَيَا، وَتَفَرَّقَا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ»
(1)
.
وَجْه الدلالة: أنه أَمَر الرجل والمرأة أن يُهديا جميعًا، فقال:«وأَهْدِيَا» .
وأما المعقول، فَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْمُتَجَامِعَيْنِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ، فَلَزِمَتْهَا بَدَنَةٌ كَالرَّجُلِ.
واستدلوا بسقوط الهَدْي عنها إذا كانت مُكْرَهة، بقوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106].
وَجْه الدلالة: أن الكفر إذا كان يَسقط موجبه بالإكراه، فما دونه من باب أَوْلَى.
القول الآخَر: تجزئ عنهما معًا بدنة واحدة. وهو قول للشافعية
(2)
.
واستدلوا بما ورد عن ابن عباس قال: يُجْزِئُ عَنْهُمَا جَزُورٌ
(3)
.
وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: يَنْحَرَانِ جَزُورًا بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا الحَجُّ مِنْ قَابِلٍ
(4)
.
ونوقش بأنه قد ورد خلاف عن ابن عباس: «وأَهْدِ ناقة، ولتُهْدِي ناقة» وعنه أيضًا: «إذا جامع، فعلى كل واحد منهما بدنة» .
(1)
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (13546)، وهذا منقطع فإن مجاهدًا لم يدرك عمر. وتَابَع مجاهدًا عطاء عند البيهقي (9897) وهذا منقطع فإن عطاء لم يدرك عمر. «البدر المنير» (6/ 385).
(2)
«الأُم» (2/ 239)، و «الحاوي» (4/ 217).
(3)
«السُّنن الكبرى» للبيهقي (9873) من طريق سفيان، عن ابن جُرَيْجٍ، عن عطاء، عن ابن عباس، به.
وروى مالك في «الموطأ» (1136) بسند صحيح: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ، وَهُوَ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً.
(4)
«السُّنن الكبرى» للبيهقي (9887).
المطلب الثالث: الكفارة على مَنْ جامع بعد التحلل الأول.
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: يجب عليه بدنة. وهو مذهب الحنفية والشافعية، ورواية للحنابلة
(1)
.
القول الآخَر: يجب عليه الهَدْي بشاة. وهو مذهب المالكية، وقول للشافعية، والمشهور عند الحنابلة
(2)
.
المطلب الرابع: ما المراد بالبدنة الواجبة على مَنْ أفسد حجه؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن البدنة هي الإبل خاصة. وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فقوله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36].
وَجْه الدلالة: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} معناه: إذا سَقَطَتْ على جنوبها ميتة. فهذا الوصف خاص بالإبل؛ لأنها تُنحَر وهي قائمة. وأما البقر فإنه يُضْجَع ويُذبَح كالغنم.
وأما السُّنة، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً»
(4)
.
وَجْه الدلالة: أن تفريقه بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال لها بدنة.
القول الثاني: أن البُدن هي الإبل والبقر. وهو مذهب الحنفية
(5)
.
وعن جابر: اشْتَرَكْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ
…
فَقَالَ لَهُ
(1)
«فتح القدير» (3/ 47»، و «الحاوي» (4/ 219)، و «الإنصاف» (3/ 499).
(2)
«الاستذكار» (12/ 304)، و «المجموع» (7/ 407)، و «الإنصاف» (3/ 499).
(3)
«المدونة» (1/ 659)، و «الأم» (2/ 258)، و «المبدع» (3/ 191).
(4)
البخاري (881)، ومسلم (850).
(5)
«المبسوط» (4/ 136).
رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ الْبَقَرَةَ اشْتَرَكَ فِيهَا مَنْ يَشْتَرِكُ فِي الْجَزُورِ؟ فَقَالَ: مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْبُدْنِ
(1)
.
القول الثالث: أن الغنم من البُدن. نَقَله ابن العربي، وقال عنه: وهو قولٌ شاذ
(2)
.
المبحث الثاني: فدية المُباشَرة: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: فدية مَنْ باشر فلم يُنْزِل:
ذهب جماهير العلماء إلى أن مَنْ باشر ولم يُنْزِل، فعليه شاة
(3)
.
واستدلوا بما رُوي عن علي أنه قال: «مَنْ قَبَّل امرأته وهو مُحْرِم، فليهرق دمًا»
(4)
.
واستدلوا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَبَّلَ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ مُحْرِمًا، فَسَأَلَ، فَأُجْمِعَ لَهُ عَلَى أَنْ يُهْرِيقَ دَمًا
(5)
.
المطلب الثاني: فدية المُحْرِم إذا باشر فأَنْزَل:
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: تجب عليه فدية الأذى: يُخيَّر بين الدم أو الإطعام أو الصيام. وهو مذهب الحنفية والشافعية، ورواية عن أحمد
(6)
.
واستدلوا لعدم فساد النسك بأنه إنزال بغير وَطْء، فلم يَفسد به الحج، كالنظر.
واستدلوا بوجوب فدية الأذى (الدم أو الإطعام أو الصيام) على مَنْ باشر فأَنْزَل، بما ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال:«مَنْ قَبَّل امرأته وهو مُحْرِم، فليُهرِق دمًا»
(7)
.
(1)
رواه ابن خُزيمة (2900).
(2)
«أحكام القرآن» (3/ 291).
(3)
«المجموع» (7/ 291، 292). وقال ابن قُدامة: وَمَتَى أنْزَلَ بِالمُباشَرَةِ دُونَ الفَرْجِ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ شاةٌ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ المُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرينَ، والزُّهْرِىُّ، وقَتادَةُ، وَمَالِكٌ، والثَّوْرِىُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْىِ. «الشرح الكبير» (8/ 416).
(4)
رواه البيهقي (9571).
(5)
رواه الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث، كما في «المغني» (5/ 171).
(6)
«البحر الرائق» (3/ 16)، و «المجموع» (7/ 291، 292)، و «الشرح الكبير» (3/ 60).
(7)
رواه البيهقى (9571).
القول الآخَر: أن المُحْرِم إذا باشر فأَنْزَل، فتجب عليه بدنة عند المالكية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالقياس على الجماع. ونوقش بأن هذا قياس مع الفارق في أكثر الأحكام.
والراجح: أن المُحْرِم إذا باشر فأَنْزَل، وجب عليه فدية الأذى، يُخيَّر بين الدم أو الإطعام أو الصيام.
القسم الرابع: ما فديته الجزاء بمثله، وهو الصيد:
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: كفارة قتل المُحْرِم للصيد:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حُكْم كفارة قتل الصيد عامدًا ذاكرًا لإحرامه:
يجب الجزاء في قتل الصيد في الجملة، بالكتاب والإجماع.
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
وأما الإجماع، فنَقَل غير واحد الإجماع على أن المُحْرِم إذا قَتَل صيدًا، عامدًا، ذاكرًا لإحرامه، أن عليه الجزاء
(2)
.
المطلب الثاني: كفارة قتل الصيد:
يُخيَّر المُحْرِم إذا قَتَل صيدًا يُشْبِه النَّعَم بين ذبحِ مِثله، والتصدق به على المساكين، وبين أن يُقوَّم الصيد، ويشتري بقيمته طعامًا لهم، وبين أن يصوم عن إطعام كل مُدٍّ يومًا.
أما إذا قَتَل المُحْرِم ما لا يُشْبِه شيئًا من النَّعَم، فإنه يُخيَّر بين الإطعام والصيام.
وهذا مذهب جمهور الفقهاء، من المالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ
(1)
«الذخيرة» (3/ 344)، و «شرح العمدة» (2/ 221).
(2)
«الإجماع» (ص: 53). ونَقَله ابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 124)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 395).
(3)
«الفواكه الدواني» (2/ 835)، و «المجموع» (7/ 423)، و «الإنصاف» (3/ 361).
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا
…
} [المائدة: 95].
المبحث الثاني: حُكْم أكل الُمْحِرم من الصيد،
أو: إذا صاد المُحِل صيدًا وأطعمه المُحْرِم، فهل يكون حلالًا للمُحْرِم؟
اختَلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يَجوز لمُحْرِمٍ أَكْل لَحْم صَيْدٍ البتة. وهو قول عليّ وابن عمر، وطاوس وجابر بن زيد
(1)
.
واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فظاهر الآية تحريم أكل الصيد للمُحْرِم بالكلية، سواء أَصِيد من أجله أم لم يُصَد. قال ابن عباس: هي مُبْهَمَة.
ونوقش بأن معنى الآية: حُرِّم عليكم أن تصيدوا صيد البَر، أي: الاصطياد وقَتْل الصيد وأَكْله لمن صاده. وليس بمعنى مَصِيد، فمَن لم يَصِده فليس ممن عُني بالآية، فتكون هذه الآية على هذا التأويل مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
(2)
.
واستدلوا بِأَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَامْتَنَعَ رَسُولُ اللهِ عَنْ قَبُولِ الصَّيْدِ مِنَ الصَّعْبِ، وَاعْتَذَرَ بِقَوْلِهِ:«إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ»
(3)
.
فظواهر هذه النصوص دالة على أن أكل لحم الصيد حرام على المُحْرِم بكل حال.
ونوقش بما قاله الشافعي: فَإِنْ كَانَ الصَّعْبُ أَهْدَى الْحِمَارَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ حَيٍّ. وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَهُ لَحْمًا، فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ سُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُحِلَّ لِلْمُحْرِمِ مَا صِيدَ لَهُ
(4)
.
القول الثاني: يَجُوزُ للِمُحْرِمٍ أَكَل مَا صَادَهُ الْحَلَالُ مِنَ الصَّيْدِ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
(1)
«التمهيد» (21/ 153).
(2)
قال ابن كثير: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} أي: في حال إحرامكم يَحرم عليكم الاصطياد.
(3)
رواه مسلم (1195).
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أُهْدِيَ لرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ، فَرَدَّهُ فَقَالَ:«إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ» .
(4)
«اختلاف الحديث» (8/ 656).
وَالزُّبَيْرِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
(1)
.
واستدلوا بما ورد عن أبي قتادة، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَخَلَّفَ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَوْا حِمَارًا وَحْشِيًّا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ تَرَكُوهُ حَتَّى رَآهُ أَبُو قَتَادَةَ، فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: الجَرَادَةُ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا، فَتَنَاوَلَهُ، فَحَمَلَ فَعَقَرَهُ، ثُمَّ أَكَلَ، فَأَكَلُوا فَنَدِمُوا، فَلَمَّا أَدْرَكُوهُ قَالَ:«هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟» قَالَ: مَعَنَا رِجْلُهُ. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا
(2)
.
(1)
«التمهيد» (21/ 152). وقال الكاساني: ويَحِل للمُحْرِم أكل صيدٍ اصطاده الحلال لنفسه، عند عامة العلماء. «بدائع الصنائع» (2/ 205).
(2)
رواه البخاري (2854) واللفظ له، ومسلم (1196).
وقد رُوي هذا الحديث بألفاظ كثيرة، وقد اختُلف في ألفاظه على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: اختُلف في العامِ الذي وقعت فيه القصة، هل وقعت في عام الحُديبية، أم في حجة الوداع؟
ومداره على عبد الله بن أبي قتادة، واختُلف عليه:
فَرَوَاهُ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ أَبِي عَامَ الحُدَيْبِيَة. رواه البخاري (1821)، ومسلم (1196).
وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حَاجًّا.
ولفظة «خَرَجَ حَاجًّا» منكرة؛ فالصواب أن القصة كانت عام الحُديبية، وليست في حجة الوداع.
قال ابن حجر: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي عُمْرَةٍ، وَأَمَّا الْخُرُوجُ إِلَى الْحَجِّ فَكَانَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَكَانَ كُلُّهُمْ عَلَى الْجَادَّةِ، لَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ أَرَادَ:(خَرَجَ مُحْرِمًا) فَعَبَّرَ عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ غَلَطًا. «فتح الباري» (4/ 29).
الوجه الثاني: بعض ألفاظه ذَكَرَتْ أكل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وبعضها ذَكَرَتْ أكل الرسول صلى الله عليه وسلم، ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من أكل صيد أبي قتادة.
1 -
فبعض ألفاظ حديث أبي قتادة ذَكَرَتْ أكل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.
فرواه هشام، عن يحيى، عن عبد الله، به، وفيه: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، وَعِنْدِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ. فَقَالَ لِلْقَوْمِ:«كُلُوا» وَهُمْ مُحْرِمُونَ. أخرجه البخاري (1822، 1823)، ومسلم (1196).
2 -
ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أَكَل من الصيد، رواه غُنْدَر، عن أبي حازم، عن عبد الله، به، وفيه: فَنَاوَلْتُهُ العَضُدَ، فَأَكَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. البخاري (2570).
3 -
ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم امتَنع من أكل صيد أبي قتادة، فرواه عبد الرزاق (8337) عن مَعْمَر، عن يحيى ابن أبي كَثير، عن عبد الله
…
وفيه: «فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالأَكْلِ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ» .
وهذا المتن شاذ لمخالفة مَعْمَر للثقات الأثبات الذين أثبتوا أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من صيد أبي قتادة.
قال ابن عبد الهادي: والظاهر أن هذا الذي تفرد به مَعْمَر غلط؛ فإن في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم أَكَل منه. «تنقيح التحقيق» (2/ 447). =
فدل هذا على حِل أكل الصيد للمُحْرِم إذا لم يَصِده بنفسه، وقد أَقَر النبيُّ أصحابه على الأكل من الصيد وهم مُحْرِمون، بل قَبِل الصيد من أبي قتادة، وأَكَل منه وهو مُحْرِم.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ وَنَحْنُ حُرُمٌ، فَأُهْدِيَ لَهُ طَيْرٌ، فقَالَ طَلْحَةُ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
القول الثالث: إذا صاد المُحِل صيدًا، وأطعمه المُحْرِم دون أن يُعِينه بشيء على صيده، فإنه يَحِل للمُحْرِم أكله. وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
وحَمَلوا أحاديث رده صلى الله عليه وسلم الصيد على ما إذا صاده الحلال لأجل المُحْرِم، وحَمَلوا أحاديث قَبوله الصيد على ما إذا صاده الحلال لنفسه، ثم يُهْدِي منه للمُحْرِم.
= وقال البيهقي: هَذِهِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ، لَمْ نَكْتُبْهَا إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، فِي هَذَا الحَدِيثِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْهَا، وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ أَوْدَعَهَا صَاحِبَا الصَّحِيحِ كِتَابَيْهِمَا، دُونَ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ. «السُّنن الكبرى» (10/ 317).
الوجه الثالث: اختَلفت الروايات في العضو الذي أَكَل منه النبي صلى الله عليه وسلم: فقيل: العَضُد. وقيل: الرِّجل.
فرواه غُنْدَر، عن أبي حازم، به، وفيه: فَنَاوَلْتُهُ العَضُدَ، فَأَكَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. أخرجه البخاري (2570). وتابعه فُلَيْح بن سليمان. وخالفهما فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، به، وفيه: «
…
مَعَنَا رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا» أخرجه البخاري (2854) ومسلم (1196).
والأقرب للصواب رواية أكله عليه الصلاة السلام من العضد؛ لأمرين:
الأول: أن راويها محمد بن جعفر، وهو ثقة ثبت، وقد انضم إليه فُلَيْح بن سليمان، فقويت روايتهما، وإن كان في رواية فُلَيْح بعض الضعف.
الثاني: أن فُضَيْل بن سليمان اختُلف فيه، وإن كان أَخْرَج له البخاري في «صحيحه» ، ورَوَى عنه ابن المَديني وكان من المتشددين، فقد ضَعَّفه ابن مَعين. وقال أبو زُرْعَة: لَيِّن. وقال أبو حاتم وغيره: ليس بالقوي. وقال الساجي: كان صدوقًا، وعنده مناكير، ففُضَيْل لا يَتحمل مخالفة غُنْدَر.
(1)
رواه مسلم (1197).
ورَوَى أحمد (15450) بسند صحيح: عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالْعَرْجِ، فَإِذَا هُوَ بِحِمَارٍ عَقِيرٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ رَمْيَتِي فَشَأْنُكُمْ بِهَا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ، فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى عَقَبَةَ أُثَايَةَ، فَإِذَا هُوَ بِظَبْيٍ فِيهِ سَهْمٌ، وَهُوَ حَاقِفٌ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ:«قِفْ هَاهُنَا حَتَّى يَمُرَّ الرِّفَاقُ، لَا يَرْمِيهِ أَحَدٌ بِشَيْءٍ» .
(2)
«حاشية الدسوقي» (2/ 78)، و «المجموع» (7/ 324)، و «الإنصاف» (3/ 338).
قال ابن عبد البر: وَقَالَ آخَرُونَ: مَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِلْمُحْرِمِ أَوْ مِنْ أَجْلِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ، وَمَا لَمْ يُصَدْ لَهُ وَلَا مِنْ أَجْلِهِ، فَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ بِأَكْلِهِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عُثْمَانَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. «التمهيد» (21/ 153).
واستدلوا بحديث جابر بن عبد اللهِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ»
(1)
.
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ، فَرَأَيْتُ حِمَارًا، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ، فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ، وَأَنِّي إِنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَكَ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ. وهذه رواية شاذة.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، قَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِقَطِيفَةِ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. فَقَالُوا: أَوَلَا تَأْكُلُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي
(2)
.
فالحاصل: ذهب جمهور العلماء إلى حِل أكل الصيد للمُحْرِم إذا لم يَصِده بنفسه، ولو صاده الحلال للمُحْرِم؛ لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا، ولكن عليه عَمَل الصحابة. ولأن المُحْرِم ليس له أثر في هذا الصيد، لا دلالة ولا إعانة، ولا صِيد من أجله فلم يُمْنَع منه.
(1)
ضعيف: أخرجه أبو داود (1844)، والترمذي (858)، والنَّسَائي (2848)، وأحمد (14894).
وهذا الحديث فيه علتان:
الأولى: الانقطاع؛ فالمُطَّلِب بن حَنْطَب لم يَسمع من جابر. قاله أبو حاتم. «المراسيل» (ص: 209). وقال الترمذي: وَالمُطَّلِبُ لَا نَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ.
الثانية: أن عمرو بن عمرو مُتكلَّم فيه، وإن كان قد يُحَسَّن حديثه، فإن في حديثه اضطرابًا ومناكير، وقد اضطرب في هذا الحديث، فرواه مرة عن رجل من الأنصار عن جابر. ورواه ثانية عن المُطَّلِب عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجهما الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 171) ورواه مرة ثالثة عن رجل من بني سلمة عن جابر، أخرجه الشافعي (10/ 242).
وقد أُعَل النَّسَائي هذا الحديث، فقال: عَمْرُو بْنُ أَبي عَمْرٍو لَيْسَ بِالقَوِيِّ فِي الحَدِيثِ. وقال ابن حزم: أَمَّا خَبَرُ جَابِرٍ فَسَاقِطٌ؛ لِأنَّهُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وهذا الاختلاف والاضطراب عن عمرو يدل على قلة ضبطه؛ ولذا قال الجوزجاني في ترجمته: مضطرب الحديث.
(2)
إسناده صحيح: رواه مالك (1290)، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله، به.
المبحث الثالث: الدلالة على الصيد: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: إذا دَل المُحْرِمُ حلالًا على صيد، فقَتَله:
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: إذا دَلَّ المُحْرِمُ حلالًا على صيد، فقَتَله، يَلزم المُحْرِمَ جزاؤه. وهو مذهب الحنفية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب أبي قتادة رضي الله عنهم:«أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟» قَالُوا: لَا. قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أَنَّهُ عَلَّقَ الْحِلَّ عَلَى عَدَمِ الْإِشَارَةِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يَحِلَّ إذَا دَلَّهُ بِاللَّفْظِ.
وأما المعقول، فَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إتْلَافِ الصَّيْدِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ نَصَبَ أُحْبُولَةً. وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ
(3)
.
القول الآخَر: إذا دَلَّ المُحْرِمُ حلالًا على صيد، فإنه يكون مُسيئًا، ولا جزاء عليه، وأن الجزاء على القاتل دون الدالّ. وهو مذهب المالكية والشافعية
(4)
.
واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
وَجْه الدلالة: أنَّهُ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِالْقَتْلِ، فَاقْتَضَى أَلَّا يَجِبَ الْجَزَاءُ بِعَدَمِ الْقَتْلِ
(5)
.
واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95].
وَجْه الدلالة: أن وجوب الجزاء مُعَلَّق بالقتل، والدلالة ليست بقتل.
(1)
«العناية» (3/ 68)، و «الإنصاف» (3/ 336)، و «المغني» (5/ 133)، و «شرح العمدة» (2/ 182). وَقَالَ عَطَاءٌ:(أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءَ).
وقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ، فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
(2)
جزء من حديث رواه البخاري (1824)، ومسلم (1196).
(3)
«المغني» (5/ 133).
(4)
«مواهب الجليل» (4/ 258)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 77)، و «الحاوي» (4/ 306).
(5)
«الحاوي» (4/ 307).
قال ابن حجر: وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ بِاخْتِيَارِهِ، مَعَ انْفِصَالِ الدَّالِّ عَنْهُ، فَصَارَ كَمَنْ دَلَّ مُحْرِمًا أَوْ صَائِمًا عَلَى امْرَأَةٍ فَوَطِئَهَا، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِالدَّلَالَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَلَا يُفْطِرُ بِذَلِكَ
(1)
.
المطلب الثاني: إذا دَلَّ المُحْرِمُ مُحْرِمًا على صيد، فقَتَله:
اختَلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا دَلَّ المُحْرِم مُحْرِمًا على صيد فقَتَله، فعلى كل واحد منهما جزاءٌ كامل. وهو مذهب الحنفية
(2)
.
القول الثاني: إذا دَلَّ المُحْرِم مُحْرِمًا على صيد، فقَتَله، فالجزاء بينهما؛ لأن الواجب جزاء المُتْلَف، وهو واحد، فيَكُون الجزاء واحدًا بينهما. وهو مذهب الحنابلة
(3)
.
القول الثالث: إذا دَلَّ المُحْرِمُ مُحْرِمًا على صيد فقَتَله، فالدالّ مسيء ولا جزاء عليه؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فأَوْجَبَ الجزاء على القاتل، فلا يَجِب على غيره، ولا يُلْحَق به؛ لأنه ليس في معناه. وهو مذهب المالكية والشافعية
(4)
.
المطلب الثالث: إذا اشترك جماعة مُحْرِمون في قتل صيد، فماذا يجب عليهم؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يجب عليهم جزاء واحد. وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(5)
.
القول الآخَر: يجب على كل واحد منهم جزاء كامل. وهو مذهب الحنفية والمالكية، ورواية عند الحنابلة
(6)
.
والراجح: أنه يجب عليهم جزاء واحد. قال الشافعي: عَنْ عَطَاءٍ فِي النَّفَرِ يَشْتَرِكُونَ فِي
(1)
«فتح الباري» (4/ 29).
(2)
«الفتاوى الهندية» (1/ 250). وقال ابن قُدامة: وبه قال الشَّعبي وابن جُبير. «المغني» (5/ 133).
(3)
«المغني» (5/ 133)، و «شرح عمدة الفقه» (3/ 182).
(4)
«مواهب الجليل» (4/ 258)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 77)، و «المجموع» (7/ 330).
(5)
«المجموع» (7/ 436)، و «الحاوي» (4/ 320)، و «المغني» (3/ 451).
(6)
«بدائع الصنائع» (2/ 202)، و «بداية المجتهد» (2/ 123)، و «شرح الزركشي» (3/ 352).
قَتْلِ الصَّيْدِ قَالَ: عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. قَالَ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل؛ لِأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَهَذَا مِثْلٌ، وَمَنْ قَالَ:(عَلَيْهِ مِثْلَانِ) فَقَدْ خَالَفَ مَعْنَى الْقُرْآنِ
(1)
.
المبحث الرابع: الجزاء في الصيد: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف المِثلي:
المِثلي: ما كان له مِثْل من النَّعَم، مُشَابِه في الخِلْقة والصورة، للإبل أو البقر أو الغنم.
المطلب الثاني: ما المُعتبَر في جزاء قتل الصيد: المِثل أم القيمة؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الواجب في الجزاء هو المِثل، أي: ما كان له مِثْل من النَّعَم، أي: مُشابِه في الخِلْقة والصورة، للإبل أو البقر أو الغنم. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وذلك فيما له نظير من النَّعَم
(2)
.
القول الآخَر: أن المُحْرِم إذا قَتَل صيدًا، فعليه قيمة الصيد في الموضع الذي قَتَله فيه، أو أقرب المواضع منه. وهو مذهب الحنفية
(3)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95](مِثْل) أي: قيمة الصيد، ولو كان نظير ذلك من النَّعَم، لم يفتقر إلى حُكْم عدلين.
ونوقش بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْمِثْلِ فِي النَّعَمِ أَخْفَى مِنَ الْاجْتِهَادِ فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ يَعْرِفُهَا سُوقَةُ النَّاسِ، وَالْمِثْلُ إِنَّمَا يَعْرِفُهُ عُلَمَاؤُهُمْ، فَكَانَ بِاجْتِهَادِ عَدْلَيْنِ أَوْلَى
(4)
.
والراجح: أن الواجب في الجزاء هو المِثل، أي: ما كان له مِثْل من النَّعم، أي: مُشَابِه في الخِلْقة والصورة، للإبل أو البقر أو الغنم؛ لقوله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
والذي يُتصوَّر أن يكون هَدْيًا هو ما كان مِثل المقتول من النَّعَم: الإبل أو البقر أو
(1)
«الأم» للشافعي (3/ 534).
(2)
«الذخيرة» (3/ 331)، و «روضة الطالبين» (3/ 157)، و «كشاف القناع» (2/ 463).
(3)
«المبسوط» (4/ 82)، و «حاشية ابن عابدين» (2/ 563).
(4)
«الحاوى الكبير» (4/ 737).
الغنم. فأما القيمة فلا يُتصوَّر أن تكون هَدْيًا.
المبحث الخامس: قول عدلين في جزاء الصيد: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المُتلَف من الصيد قسمان:
القسم الأول: ما قضت فيه الصحابة رضي الله عنهم من جزاء الصيد، فيجب متابعتهم، ولا يَجوز مخالفتهم.
القسم الثاني: ما لم تَقْضِ فيه الصحابة، فيُرجَع فيه إلى قول عدلين خبيرين من أهل المعرفة. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(1)
.
المطلب الثاني: الشروط التي يجب توافرها في الحكمين
الأول: العدد، فلا بد أن يكونا اثنين؛ لقوله:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95].
الثاني: العدالة، وهي: الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ، مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْكَبِيرَةِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ. وَالصَّلَاحُ فِي الْمُرُوءَةِ اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَاجْتِنَابُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ. فَإِذَا وُجِدَ هَذَا فِي شَخْصٍ، كَانَ عَدْلًا فِي شَهَادَتِهِ، مِنَ الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ
(2)
.
الثالث: الفقه، فذهب المالكية والشافعية إلى أن الفقه شرط في الحَكَمين
(3)
.
الرابع: الخبرة؛ لأنه لا يَتمكن من الحُكْم بالمِثْل إلا مَنْ له خِبْرة
(4)
.
(1)
قال ابن قُدامة: وأَجْمَع الصحابة على إيجاب المِثل. «المغني» (3/ 441).
قال الماوردي: فَإِنْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الصَّحَابَةِ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَلَا اجْتِهَادَ لَنَا فِيهِ، وَحُكْمُ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِنَا، وَقَالَ مالكٌ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ. وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِالرُّجُوعِ فِيهِ إِلَى حُكْمِ ذَوَيْ عدلٍ. وَعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ أَوْكَدُ مِنْ عَدَالَتِنَا؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْوَحْيَ وَحَضَرُوا التَّنْزِيلَ وَالتَّأْوِيلَ؛ فَكَانَ حُكْمُهُمْ أَوْلَى مِنْ حُكْمِنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا حَكَمُوا بِشَيْءٍ أَوْ حَكَمَ بَعْضُهُمْ بِهِ، وَسَكَتَ بَاقُوهُمْ عَلَيْهِ، صَارَ إِجْمَاعًا. وَمَا انْعَقَدَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يُؤَدِّيَ الِاجْتِهَادُ إِلَى غَيْرِ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. وَكَذَا حُكْمُ التَّابِعِينَ كَحُكْمِ الصَّحَابَةِ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَمِنْهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ. فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ حُكْمٌ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ عَدْلَيْنِ. «الحاوي» (4/ 291).
(2)
«مجموع الفتاوى» (15/ 356).
(3)
«الذخيرة» (3/ 331)، و «الحاوي» (4/ 291).
(4)
«المغني» (5/ 405).
المبحث السادس: ما يجب في صيد الدواب والطيور من الجزاء:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: ما يجب في صيد الدواب:
في النعامة بدنة، وفي بقر الوحش وحمار الوحش بقرة إنسية، وفي الضبع كبش، وفي الغزال عنز، وفي الأرنب عَنَاق، وفي اليربوع جَفْرة، وفي الضَّبّ جَدْي، وما لا مِثل له فإنه يَحكم بمثله حَكَمان عدلان. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(1)
.
المطلب الثاني: ما يجب في صيد الطيور:
في أنواع الحَمَام شاة، عند أكثر أهل العلم
(2)
.
المطلب الثالث: إذا صاد المُحْرِم الجراد، فماذا يجب عليه؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول: أن الجزاء في صيد الجراد هو القيمة، بأن يُطْعِم بقيمة ما صاد. وحَدَّده بعضهم بقبضة من طعام، وقَدَّر بعضهم قيمة الجرادة بتمرة. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بما ورد عن زيد بن أسلم، أن رجلًا جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إني أصبتُ جرادات بسوطي، وأنا مُحْرِم. فقال له: أَطْعِم قبضة من طعام
(4)
.
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ جَرَادَةٍ قَتَلَهَا، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ: فِيهَا قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ
(5)
.
القول الثاني: أن الجزاء في صيد الجراد هو إطعام ثلاثة مساكين. وبه قال ابن حزم
(6)
.
(1)
«المجموع» (7/ 431)، و «الإنصاف» (3/ 385).
(2)
قال ابن المنذر: أَجْمَعُوا أن في حَمَام الحَرَم شاة، وانفرد النعمان فقال: فيه قيمته. «الإجماع» (ص: 54).
(3)
«المبسوط» (4/ 101)، و «التاج والإكليل» (3/ 173)، و «المجموع» (7/ 331)، و «الفروع» (5/ 508).
(4)
«الموطأ» (2/ 441).
(5)
«الأم» (3/ 505).
(6)
«المُحَلَّى» (7/ 350).
واستَدل بأن الجراد لا مِثل من النَّعَم، ففيه الإطعام أو الصيام، والإطعام يكون لثلاثة مساكين؛ لقوله تعالى:{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]، وأقل المساكين ثلاثة.
واعتُرض عليه بأن فَهْم عمر الفارق وابن عباس الحبر- مُقَدَّم على فَهْم غيرهما.
القول الثالث: أنه لا جزاء في صيد الجراد. وهو رواية عند الحنابلة
(1)
.
القول الرابع: أن الجزاء في صيد الجراد هو صاع من طعام. وبه قال ربيعة. وقال ابن عمر: يجب عليه شاة
(2)
.
المبحث السابع: أمور عامة متعلقة بالفدية: وفيه مطالب:
المطلب الأول: ارتكاب محظورات فدية الأذى عمدًا:
لا فَرْق في التخيير في فدية الأذى بين مَنْ ارتكب المحظور بعذر، أو كان عمدًا. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة؛ وذلك لأن الله تعالى أوجب الفدية على مَنْ حَلَق رأسه لأذى به وهو معذور، فكان ذلك تنبيهًا على وجوبها على غير المعذور
(3)
.
المطلب الثاني: حُكْم فِعل المحظورات نسيانًا أو جهلًا:
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: مَنْ فَعَل شيئًا من محظورات الإحرام ناسيًا أو جاهلًا أو مُكْرَهًا، فلا شيء عليه. وهو مذهب الشافعية، ورواية عن الحنابلة والظاهرية
(4)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والقياس:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى في قتل الصيد:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
فقوله: (مُتَعَمِّدًا) يفيد أن مَنْ فَعَل شيئًا من محظورات الإحرام، ناسيًا أو جاهلًا أو
(1)
«الفروع» (5/ 508)، و «الإنصاف» (3/ 490).
(2)
«بداية المجتهد» (2/ 127).
(3)
«الكافي» (1/ 389)، و «الحاوي الكبير» (4/ 227)، و «الإنصاف» (3/ 360).
(4)
«الأم» (2/ 154)، و «الحاوي» (4/ 105)، و «المغني» (5/ 392)، و «المُحَلَّى» (7/ 214).
مُكْرَهًا، فلا شيء عليه.
واستدلوا بعموم الأدلة الدالة على العفو عن الخطأ والنسيان، كقول الصحابة:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، فقال الله:«قَدْ فَعَلْتُ»
(1)
.
وأما السُّنة، فَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ مَرْفُوعًا: فَقَالَ: «أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنِ العُمْرَةِ؟» فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: «اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الجُبَّةَ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ بِفِدْيَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ لَأَمَرَهُ بِهَا، كَمَا أَمَرَهُ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ غَيْرُ جَائِزٍ إِجْمَاعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَذَرَهُ لِجَهْلِهِ
(3)
.
وأما القياس، فقياس مَنْ فَعَل شيئًا من محظورات الإحرام ناسيًا على الأكل أو الشرب ناسيًا في نهار رمضان، فإنه لا يَفسد الصوم ولا قضاء فيه.
القول الآخَر: أن الفدية لا تَسقط بفعل المحظورات نسيانًا أو جهلًا أو إكراهًا، ولكن يَسقط الإثم بارتكاب المحظور. وهو مذهب الحنفية والمالكية، ورواية عن الحنابلة
(4)
.
واستدلوا بالقياس على أمرين:
الأول: بِأَنَّ الْفِدْيَةَ جَابِرَةٌ لِمَا وَقَعَ مِنْ خَلَلِ الْإِحْرَامِ، وَالْجَابِرُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ، كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَكَفَّارَةِ قَتْلِ الخَطَأِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْعَمْدُ فِي الْإِثْمِ
(5)
.
واعتُرض عليه بِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ مَعَ الفَارِقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ حُكْمِ أَصْلِهِ، فَصَارَ مَخْصُوصًا- أَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، والْأَصْلُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ؛ فَخَرَجَ
(1)
«صحيح مسلم» (126).
(2)
رواه البخاري (1536)، ومسلم (1180).
(3)
«التمهيد» (2/ 262)، و «المغني» (5/ 392).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 188)، و «الذخيرة» (3/ 301). وقال ابن قُدامة: وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ فِي كُلِّ حَالٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَحَلْقِ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ. «المغني» (5/ 392).
(5)
«الذخيرة» للقرافي (3/ 305). وقال ابن القيم: الفَرْق أن مَنْ فَعَل المحظور ناسيًا يُجعل وجوده كعدمه، ونسيان ترك المأمور لا يكون عذرًا في سقوطه، كما كان فعل المحظور ناسيًا عذرًا في سقوط الإثم عن فاعله. «إعلام المُوقِّعين» (2/ 51).
إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً عَنْ أَصْلِهِ، فَوَجَبَ أَلَّا يُقَاسَ عَلَيْهِ
(1)
.
الثاني: قياسُ فِعل المحظور على ترك المأمور، فكما أن ترك صلاةٍ ناسيًا لا تَسقط عنه، فكذا فِعل المحظور.
واعتُرض عليه بأن هذا ليس بمُطَّرِد، فإن مَنْ أَكَل أو شرب ناسيًا في نهار رمضان لا يَفسد صومه ولا قضاء فيه.
والراجح: أن مَنْ فَعَل شيئًا من محظورات الإحرام، ناسيًا أو جاهلًا أو مُكْرَهًا، فلا فدية عليه؛ لعموم الأدلة من القرآن والسُّنة الصحيحة.
المبحث الثالث: حُكْم الفدية (الدم) بترك واجب من واجبات الحج:
اختَلف العلماء فيمن تَرَك واجبًا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لزوم الدم على مَنْ تَرَك واجبًا، سواء كان بعذر أو بغير عذر. وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالمأثور والقياس:
أما المأثور، فعن عبد اللهِ بن عباس قال:«مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، فَلْيُهْرِقْ دَمًا»
(3)
.
وَجْه الدلالة: أن هذا القول لا يُدرَك بالاجتهاد، فله حُكْم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي.
ونوقش بأنه لا مانع أن مثله يقال بالرأي، وأن ابن عباس رضي الله عنهما اجتهد، فأداه اجتهاده إلى وجوب الدم.
وأجيب بأنه قول صحابي قد اشتهر، ولا يُعْلَم له مُخالِف من الصحابة، وعَمِل به جماهير العلماء، فكان أَوْلَى بالقَبول من قول غيره
(4)
.
(1)
«المُحَلَّى» (5/ 235).
(2)
«المُدوَّنة» (1/ 414)، و «المجموع» (8/ 266). وقال ابن قدامة:«وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ» . «المغني» (5/ 340).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1181) عن أيوب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، به.
(4)
«الشرح الممتع» (7/ 408).
وأما القياس، فقاسوا ترك الواجب على فعل المحظور، مِنْ أن كُلًّا منهما يَنقص النسك، وأنه يَفتقر إلى جُبْرَانٍ يَكُون خَلَفًا عنه
(1)
.
القول الثاني: يجب الدم على مَنْ تَرَك واجبًا لغير عذر، فإن كان لعذر فلا شيء عليه. وهو مذهب الحنفية
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والقياس:
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
واستدلوا بالقياس على ترك السقاة والرعاة المبيت بمِنًى وتَرْك طواف الوداع للحائض، فقد تركوها لعذر، ولم يوجب الشارع عليهم دمًا.
وكذا القياس على قصة صاحب الجُبة، وهي: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الخَلُوقِ - أَوْ قَالَ: صُفْرَةٌ - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اخْلَعْ عَنْكَ الجُبَّةَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الخَلُوقِ عَنْكَ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ» . ولم يَرِد أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَره بالفدية، فدل ذلك على أنه عَذَره بجهله، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
واعتُرض عليه بأنه فِعل محظور، وليس في ترك الواجب.
القول الثالث: أن مَنْ تَرَك واجبًا من واجبات الحج، فلا شيء عليه. وبه قال ابن حزم.
واستَدل ابن حزم بعدم وجود دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب الدم بترك الواجبات، والأصل براءة الذمة
(3)
.
والراجح: لزوم الدم على مَنْ تَرَك واجبًا، سواء كان بعذر أو بغير عذر. وهو ما أفتى به حَبر الأمة ابن عباس.
(1)
«شرح العمدة» (2/ 280)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 95).
(2)
«المبسوط» (4/ 63). قال الكاساني: وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ. «بدائع الصنائع» (2/ 134).
(3)
«المُحَلَّى» (7/ 269).
المطلب الرابع: مكان ذبح الدم بترك واجب أو فعل محظور:
اتفقت المذاهب الأربعة على أن موضع دم الصيد يجب أن يكون بالحرم؛ لصريح قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}
(1)
.
واختَلف العلماء في مكان الذبح بترك واجب أو فعل محظور غير الصيد، على قولين:
القول الأول: أنه لا يجزئ ذبح الفدية بترك واجب أو فِعل محظور إلا في الحَرَم. وهو مذهب الحنفية، وقول للشافعية، وبه قال الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]. فمكان الهدايا الحَرَم.
وقولِه تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] والآية وإن نزلت في جزاء الصيد، فكان أصلًا في كل دم، فجُعِل بلوغ الكعبة من صفات الهَدْي، فلا يَجوز إلا في الحَرَم، ولو جاز ذبحه في غير الحَرَم، لم يكن لذِكْر بلوغه الكعبة معنى
(3)
.
وأما السُّنة، فَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«نَحَرْتُ هَاهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ»
(4)
فلَا يَجُوزُ نَحْرُ الْبُدْنِ وَالْهَدْيِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ وَمِنًى، إِلَّا مَا خَصَّهُ النَّصُّ مِنْ هَدْيِ الْمُحْصَرِ. وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إِلَى مَكَانِ الْهَدَايَا، أَيْ: يُنْقَلُ إِلَيْهَا.
القول الآخَر: أنه يجزئ ذبح الفدية بترك واجب أو فعل محظور في أي مكان شاء.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 224)، و «المجموع» (8/ 187، 191)، و «الإنصاف» (3/ 376). وقال الطبري: يَجوز نحر الهَدْي حيث شاء المُهْدِي، إلا هَدْي القِران وجزاء الصيد، فإنهما لا يُنحران إلا بالحَرَم.
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 225)، و «المجموع» (7/ 411)، و «المغني» (3/ 569).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 200). وقال الجَصَّاص: قَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَنْعَامَ الَّتِي تُهْدَى إلَى الْبَيْتِ، فَوَجَبَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلِّ هَدْيٍ مُتَقَرَّبٍ بِهِ مَخْصُوصٌ بِالْحَرَمِ، لَا يُجْزِي فِي غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:{هَدْيًاً} . «أحكام القرآن» (1/ 351).
(4)
رواه مسلم (1218).
وهو مذهب المالكية، وقول للشافعية، وبه قال الظاهرية
(1)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فظاهره أنه حيثما فَعَل أجزأه، والنسك هو ما يذبحه نسكًا، ولم يُسَمِّه هَدْيًا، ولا يقاس على الهَدْي، والهَدْي لا يكون إلا بمكة.
وَعَنْ كَعْبِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ لَهُ:«آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «احْلِقْ رَأْسَكَ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ بِالْفِدْيَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِبَعْثِهِ إلَى الْحَرَمِ، وَالحُدَيْبِيَةُ خَارِجُ الحَرَمِ
(3)
.
واعتُرض عليه بأن الحُديبية منها موضع خارج الحَرَم، ومنها موضع داخل الحَرَم، فيحتمل أنه ذَبَح داخل الحَرَم، والنص إذا تطرق إليه الاحتمال بَطَل به الاستدلال.
وَعَنْ أَبِي أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبدِ اللهِ بن جَعْفَرٍ، فَخَرَجَ مَعَهُ مِنَ المَدِينَةِ، فَمَرُّوا عَلَى حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهُوَ مَرِيضٌ بِالسُّقْيَا، فَأَقَامَ عَلَيْهِ عَبدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَتَّى إِذَا خَافَ الفَوَاتَ خَرَجَ، وَبَعَثَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنهما وَهُمَا بِالمَدِينَةِ، فَقَدِمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ حُسَيْنًا أَشَارَ إِلَى رَأْسِهِ، فَأَمَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِرَأْسِهِ فَحُلِقَ، ثُمَّ نَسَكَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا، فَنَحَرَ عَنْهُ بَعِيرًا
(4)
.
وَجْه الدلالة: أن عليًّا ذَبَح خارج الحَرَم، فدل على جواز، ذبح الهَدْي خارج الحَرَم
(5)
.
والراجح: أنه لا يجزئ ذبح الفدية بترك واجب أو فعل محظور إلا في الحَرَم.
(1)
«المدونة» (1/ 387)، و «المجموع» (7/ 411)، و «المُحَلَّى» (5/ 234).
(2)
البخاري (1814)، ومسلم (1201) واللفظ له.
(3)
«المغني» (5/ 450).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (1/ 387) عن يعقوب بن خالد المخزومي، عن أبي أسماء، به.
(5)
فَهَذَا عَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ وَأَسْمَاءُ رَأَوْا أَنْ يَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَيُهْدِيَ فِي مَوْضِعِهِ. «المُحَلَّى» (5/ 223).
المطلب الخامس: زمان ذبح الدم بترك واجب أو فِعل محظور:
ذهب جمهور العلماء إلى أن وقت ذبح الدم يَبدأ من حين فِعل محظور أو تَرْك واجب، من حين وجود سببه المبيح، ككفارة اليمين، ولا حد لانتهاء وقت زمنه، والأَوْلَى تعجيله لينجبر النقص من أفعاله
(1)
.
قال ابن عثيمين: الواجب على مَنْ وجب عليه فدية بترك واجب أو بفعل محظور- أن يبادر بذلك؛ لأن أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الفور إلا بدليل. ولأن الإنسان لا يَدري ما يَحدث له في المستقبل، فقد يكون اليوم قادرًا، وغدًا عاجزًا، فالواجب المبادرة
(2)
.
المطلب السادس: العجز عن الدم بترك واجب أو فعل محظور:
مَنْ تَرَك واجبًا وعَجَز عن الدم، وجب عليه أن يصوم عَشَرة أيام، بدلًا عن الدم؛ لأن ذمته مشغولة، فلا تَبرأ الذمة إلا بعمل. وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
المطلب السابع: مَنْ عَجَز عن الدم الواجب بالجماع، فماذا يجب عليه؟
مَنْ جامع قبل التحلل الأول فعليه بدنة، وعلى زوجته مِثل ذلك إن كانت مُطاوِعة، تُذبَحان في الحرم للفقراء بمكة. فإِنْ عَجَزا فعلى كل واحد صوم عَشَرة أيام.
المطلب الثامن: توزيع الصدقة على فقراء ومساكين الحَرَم:
يُشتَرَط أن تُوزَّع الصدقة على فقراء الحَرَم. وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(4)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
وَجْه الدلالة: يجب أن يكون الهَدْي بالغ الكعبة، يُوزَّع على الفقراء والمساكين المقيمين في الحَرَم، من أهل مكة وغيرهم. وما كان بدلًا عنه من الإطعام في حُكم الهَدْي؛
(1)
«حاشية ابن عابدين» (2/، 131) و «روضة الطالبين» (3/ 191)، و «الإنصاف» (3/ 533).
(2)
«مجموع فتاوى ورسائل العثيمين» (22/ 223).
(3)
وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ مِنْ حَجٍّ فَائِتٍ، أَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ، أَوْ تَعَدَّى الْمِيقَاتَ فَأَحْرَمَ
…
أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ- الَّذِي يَجِبُ فِيهَا الدَّمُ، فَهُوَ إِنْ لَمْ يَجِدِ الدَّمَ صَامَ. قَالَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، ثُمَّ سَبْعَةٌ إِذَا رَجَعَ. «المدونة» (1/ 414)، و «الحاوي» (4/ 226)، و «الإنصاف» (3/ 522).
(4)
«روضة الطالبين» (3/ 156)، و «المغني» (3/ 449)، و «كشاف القناع» (2/ 452).
ولذا لا يجزئ الإطعام في عرفة، والطائف، والشرائع، أو غيرها من الحِل.
فالحاصل: أن الهَدْي- وهو ما يُهْدَى إلى الحَرَم، من الأنعام - يُذبَح في مكة، ويُوزَّع على فقراء الحَرَم. وما كان بدلًا عنه من الإطعام يختص به فقراء الحَرَم المكي.
المطلب التاسع: موضع الصيام:
يَجوز الصيام في أي موضع، بالكتاب والإجماع والمعقول:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95].
أما الإجماع، فنَقَل ابن عبد البر وغيره الإجماع على جواز الصيام في أي مكان
(1)
.
وأما المعقول، فإن الصوم عبادة تختص بالصائم، لا يتعدى نفعها؛ فلا يُشترَط لها مكان بعينه، بخلاف الهَدْي والإطعام، فإِنَّ نَفْعه يَتَعَدَّى إلى مَنْ يُعطاه، فخُصّ بأهل الحَرَم.
المطلب العاشر: التتابع في الصيام:
لا يُشترط التتابع في الصيام بالكتاب والإجماع.
أما الكتاب، فاستدلوا بقوله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95].
فالصيام أُطْلِقَ، ولم يُقيَّد بشيء، فدل ذلك على أنه لا يُشترَط فيه التتابع.
وأما الإجماع، فقد نَقَل النووي الإجماع على جواز تفريق الصيام
(2)
.
المطلب الحادي عشر: تَكرار المحظور لا يخلو من ثلاث حالات:
الحال الأولى: إذا كَرَّر محظورًا من جنس واحد، في أوقات مختلفة:
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إذا كَرَّر محظورًا من جنس واحد، في أوقات مختلفة، لَبِس ثم لَبِس أو تَطيَّب ثم تَطيَّب فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة، ما لم يُكفِّر عن الأول. وبه قال محمد بن
(1)
قال ابن عبد البر: فَلَا خِلَافَ فِي الصِّيَامِ أَنْ يَصُومَ حَيْثُ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي ذَلِكَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ وَلَا لِأَهْلِ مَكَّةَ. «الاستذكار» (4/ 272). وكذا نَقَل الإجماع ابن قُدامة في «المغني» (5/ 454).
(2)
قال النووي: الصَّوْمُ الْوَاجِبُ يَجُوزُ مُتَفَرِّقًا وَمُتَتَابِعًا، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. «المجموع» (7/ 438).
الحسن الشيباني من الحنفية، وهو قول الشافعي في القديم، وهو مذهب الحنابلة
(1)
.
قياسًا على ما إذا تعددت أحداث من جنس واحد، فيكفيه وضوء واحد. فمَن كَفَّر عن الأول ثم ارتكب المحظور يَلزمه فدية أخرى قياسًا على الحدود.
القول الآخَر: أن مَنْ كَرَّر محظورًا من جنس واحد في أوقات مختلفة، لَبِس ثم لَبِس، فيجب عليه كفارة لكل فعل. وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقول للشافعي
(2)
.
والراجح: أن مَنْ كَرَّر محظورًا من جنس واحد، في أوقات مختلفة، لَبِس ثم لَبِس، فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة، ما لم يُكفِّر عن الأول؛ قياسًا على ما إذا تعددت أحداث من جنس واحد، فيكفيه وضوء واحد.
وكذا فإن من قواعد الشريعة التيسير على المكلفين. وإيجاب كفارة في كل مرة على مَنْ كَرَّر محظورًا من جنس واحد في أوقات مختلفة- فيه مشقة تُنافِي قواعد الشريعة. ولذا فمَن كَرر اللباس فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة، ما لم يُكفِّر عن الأول.
الحال الثانية: أن يكون المحظور من أجناس مختلفة،
كطِيب ولُبس مَخيط، فإنه يَفدي لكل محظور. وهذا باتفاق المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(3)
لأنها محظورات مختلفة الأجناس، فلم تتداخل أجزاؤها، كالحدود المختلفة.
الحال الثالثة: أن يكون المحظور صيدًا، فإن الفدية تتعدد بتعدد الصيد.
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وجوب الجزاء كلما صاد المُحْرِم صيدًا، فإذا كَرَّر المُحْرِم قتل الصيد، فعليه لكل مرة فدية. وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية، والمشهور عند الحنابلة
(4)
.
واستدلوا بأنه كيف تنتفي الكفارة عن المُحْرِم العائد لقتل الصيد في الدنيا؟! ولأن الله تَوَعَّد أن ينتقم من العائد لقتل الصيد وهو مُحْرِم، بقوله:{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}
(1)
«فتح القدير» (3/ 32)، و «المجموع» (7/ 382)، و «المبدع» (3/ 116).
(2)
«المبسوط» (4/ 129)، و «المدونة» (1/ 305)، و «الحاوي» (4/ 103).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 194)، و «المدونة» (1/ 408)، و «المجموع» (7/ 382)، و «المبدع» (3/ 116).
(4)
«المبسوط» (4/ 96)، و «الاستذكار» (12/ 283)، و «الحاوي» (4/ 284)، و «الإنصاف» (3/ 347).
[المائدة: 95] ..
القول الثاني: أن المُحْرِم إذا قَتَل صيدًا، ثم كَرَّر قتل الصيد، فلا جزاء عليه إلا في أول مرة. وهذا مروي عن ابن عباس، وهو رواية عند الحنابلة، وقول داود الظاهري
(1)
.
القول الثالث: إِنْ كَفَّر قبل الصيد الثاني، فعليه الجزاء للثاني. وإن لم يُكفِّر، كَفَاه جزاء واحد عن الأول والثاني. وهذا قول للحنابلة
(2)
.
فالحاصل: أن تَكرار المحظور له ثلاث أحوال:
الحال الأولى: إذا كَرَّر محظورًا من جنس واحد، كلُبْس قميص ولُبْس سراويل، وإن كان في مجالس مختلفة، فعليه لجميع ذلك فدية واحدة؛ لأن الله أوجب في حلق الرأس فدية واحدة؛ لأنه إذا حَلَق رأسه لا يمكن إلا شيئًا بعد شيء. وقياسًا على ما إذا تعددت أحداث من جنس واحد، فيكفيه وضوء واحد. إلا إذا كَفَّر بعد فعل الأول قبل الثاني، فعليه فدية أخرى؛ لأن الأول استقر حكمه بالتكفير.
الحال الثانية: وأما إذا كَرَّر محظورًا من أجناس مختلفة، كطِيب ولُبْس مَخيط، فعليه لكل جنسٍ فدية؛ لأن المقصود جبر النسك، وذلك لا يَحصل إلا بالتعدد.
الحال الثالثة: أن يكون المحظور صيدًا، فإن الفدية تتعدد بتعدد الصيد، فعليه لكل مرةٍ فدية؛ لأنه كيف تنتفي الكفارة عن المُحْرِم العائد لقتل الصيد في الدنيا؟! ولأن الله تَوَعَّد أن ينتقم من العائد لقتل الصيد وهو مُحْرِم، بقوله:{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} .
* * *
(1)
ورُوي هذا القول عن مجاهد وإبراهيم وابن جُبير وقتادة، كما في «المُصنَّف» عند عبد الرزاق (8184)، و «الفروع» (5/ 537)، وقال الماوردي: وَقَالَ دَاوُدُ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي وَلَوْ عَادَ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى. وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. «الحاوي» (4/ 727).
(2)
«الفروع» (5/ 537).
خلاصة فصل الفدية المتعلقة بمحظورات الإحرام:
الفدية شرعًا: هي ما وجب بسبب فعل محظور كلُبس المَخيط، أو تَرْك واجب كمن جاوز الميقات بغير نية إحرام، مع أنه نوى الحج.
تقسيم المحظورات بحَسَب الفدية:
القسم الأول: المحظورات التى يجب على مَنْ ارتَكب شيئًا منها فدية الأذى:
الأول: حَلْق الشَّعر.
الثاني: تقليم الأظفار.
الثالث: الطِّيب.
الرابع: تغطية الرأس.
الخامس: لُبس المَخيط.
مَنْ أتى شيئًا من هذه المحظورات، فإنه يجب عليه في كل ذلك فدية الأذى، فيُخيَّر بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين.
القسم الثاني: ما لا فدية فيه، وهو عَقْد النكاح.
القسم الثالث: ما فديته مُغلَّظة، وهو الجماع.
القسم الرابع: قَتْل الصيد البري الوحشي المأكول.
تنقسم محظورات الإحرام باعتبار فساد الحج إلى نوعين:
النوع الأول الذي يوجب فساد الحج: هو الجماع بشرطين:
الأول: أن يكون في الفَرْج.
الثاني: أن يكون قبل التحلل الأول.
النوع الثاني الذي لا يوجب فساد الحج: هو جميع المحظورات إلا الجماع.
المحظور الثاني: المباشرة فيما دون الفَرْج.
المحظور الثالث: عَقْد النكاح، فلا يَتزوج المُحْرِم، ولا يُزوِّج غيره، ولا يَخطب.
المحظور الرابع: حَلْق الشَّعر من الرأس، أو إزالة الشَّعر من جميع البدن.
المحظور الخامس: تقليم الأظفار من اليدين أو الرِّجلين.
المحظور السادس: تَعمُّد استعمال الطِّيب في الثوب أو البدن بعد الإحرام.
المحظور السابع: لُبْس المَخيط محظور على الرجل دون المرأة، وهو المُفصَّل على قدر الجسم، كالقميص والسراويل. ولا تنتقب المُحْرِمة ولا تلبس القُفازين.
المحظور الثامن: تَعمُّد تغطية الرأس للرَّجُل بمُلاصِق، كالطاقية والعمامة.
المحظور التاسع: قَتْل الصيد البري الوحشي المأكول.
ما يباح للمُحْرِم:
ذهب جماهير العلماء إلى أن المُحْرِم إذا احتاج إلى حمل السلاح، فله حمله ولا فدية عليه.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حملوا السلاح في الحَرَم في عمرة القضاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمن أهل مكة، فدل ذلك على الجواز للحاجة
(1)
.
* * *
(1)
روى البخاري (2701): عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ العَامَ المُقْبِلَ، وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا عَلَيْهِمْ إِلَّا سُيُوفًا وَلَا يُقِيمَ بِهَا إِلَّا مَا أَحَبُّوا. فَاعْتَمَرَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ.
قال النووي: وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ دُخُولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِمَا شَرَطَهُ مِنَ السِّلَاحِ فِي الْقِرَابِ، وَدُخُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ مُتَأَهِّبًا لِلْقِتَالِ. وَشَذَّ عِكْرِمَةُ عَنِ الجَمَاعَةِ، فَقَالَ: إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ حَمَلَهُ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. «شرح مسلم» (9/ 131).
الباب السابع دخول مكة، وما يترتب على ذلك من أحكام،
وفيه فصلان:
الفصل الأول: آداب دخول حَرَم مكة للحج والعمرة
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: الإمساك عن التلبية عند دخول حدود الحَرَم.
المبحث الثاني: المبيت بذي طُوى، وتُسَمَّى الآن ب (جرول).
المبحث الثالث: يُستحب الاغتسال بذي طُوى.
المبحث الرابع: هل يُستحب دخول مكة من أعلاها من البطحاء مقبرة
المعلاة؟
المبحث الخامس: هل يُستحب أن يَدخل المسجد من باب بني شيبة- أي:
باب السلام-؟
المبحث السادس: يُستحب قول: (اللهم افتح لي أبواب رحمتك) عند دخول
الحَرَم.
المبحث السابع: ما يُفعل عند رؤية الكعبة.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: يُستحب إذا وصل الحَرَم أن يَستحضر في قلبه ما أمكنه من
الخشوع.
المطلب الثاني: هل يُستحب رفع اليدين والدعاء عند رؤية الكعبة؟
المطلب الثالث: يُستحب أن يبتدئ بالطواف عند دخوله الحرم.
الفصل الأول:
آداب دخول حَرَم مكة للحج والعمرة
المبحث الأول: الإمساك عن التلبية عند دخول حدود الحَرَم:
لِما ورد: عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ
…
وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ.
المبحث الثاني: المبيت بذي طُوى، وتُسَمَّى الآن ب (جرول)
(1)
:
يُستحب للقادم إلى مكة للعمرة أو الحج إذا كان متعبًا من سفره- أن يَنزل إلى سكنه، وينام فيه حتى يستريح، ثم يغتسل ثم يأتي إلى الحرم للطواف والسعي. ولأن في المبيت التَّقَوِّي على ما يستقبله من العبادة وأداء النسك.
فإن من الأخطاء الشائعة أن يأتي بعض الحُجاج أو المعتمرين من سفره، ومع شدة التعب والإرهاق يضع أغراضه وشُنطه في فندقه، ثم ينطلق إلى الحَرَم لأداء العمرة، ولا يكاد يركز في دعائه ولا طوافه. لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بذي طُوى، وهي تشمل الآن:(الزاهر والعتيبية وشمال جرول) ففي «الصحيحين» : عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ
(2)
.
المبحث الثالث: يُستحَب الاغتسال بذي طُوى:
ففي «الصحيحين» : عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طَوًى، حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهَارًا، وَيَذْكُرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَعَلَهُ
(3)
.
فإذا كان يُستحَب الاغتسال للجمعة لاجتماع الناس فيها، فكذا يُستحب الاغتسال
(1)
بئر طُوى: هي بئر معروفة عند أهل مكة ب (جرول) ومكتوب عليها: (بئر طُوى) وهي مُلاصِقة لدار السادة العلويين آل عَقيل، على يمين الذاهب من مكة إلى التنعيم. «أحكام الحرم المكي» (ص: 72).
(2)
البخاري (1769)، ومسلم (1275).
(3)
البخاري (1769)، ومسلم (1259).
لدخول مكة لاجتماع الناس بالحرم للطواف والعمرة والعبادة
(1)
.
فالحاصل: أنه يُستحب المبيت بذي طُوى، ويُستحب الاغتسال بها. وعلى هذا فإن القادم إلى العمرة قد يكون متعبًا، فمِن السُّنة أن يَنزل أولًا على سكنه، وينام فيه حتى يستريح، ثم يغتسل قبل أن يأتي لعمل العمرة؛ فهذا هو السُّنة؛ لأن البعض يأتي متعبًا، وقبل أن يستريح من سفره، يَبدأ بأداء العمرة، ولا يكاد يركز في طوافه ولا في دعائه.
المبحث الرابع: هل يُستحب دخول مكة من أعلاها من البطحاء، مقبرة المعلاة؟
ذهب جمهور العلماء إلى استحباب دخول مكة من أعلاها، من مقبرة المعلاة، والخروج من أسفلها. وبه قال الحنفية، وهو قول للمالكية، وقول للشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى
(3)
.
ونوقش بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل من الثنية العليا لأنها من طريقه.
وقد روى البخاري: عن عروة بن الزبير، وفيه: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كُدَا
(4)
.
وَجْه الدلالة: أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أسفل مكة، ودخول خالد من أعلاها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن الإنسان لا يَتعمد ذلك، بل وقع من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقًا. وهذا هو الراجح. وهو مذهب المالكية وقول للشافعية
(5)
.
المبحث الخامس: هل يُستحب أن يَدخل المسجد من باب بني شيبة
(باب السلام)؟
لِبَاب السلام عدة أسماء، منها:(باب بني شيبة)، و (عبد مَناف)، و (باب السيل).
نُقِل الإجماع على استحباب دخول مريد النسك إلى المسجد الحرام، من باب بني
(1)
إِنَّ مَكَّةَ مَجْمَعُ أَهْلِ النُّسُكِ، فَإِذَا قَصَدَهَا اُسْتُحِبَّ لَهُ الِاغْتِسَالُ، كَالْجُمُعَةِ. «المغني» (5/ 209).
(2)
«فتح القدير» (2/ 47)، و «مواهب الجليل» (3/ 113)، و «المجموع» (8/ 5)، و «الفروع» (3/ 495).
(3)
البخاري (1575)، ومسلم (1273).
(4)
البخاري (4280).
(5)
«شرح الزرقاني» (2/ 276)، و «المجموع» (8/ 5).
شَيْبَة، وهو قريب من باب السلام
(1)
.
اسْتُحِبَّ ذلك لما ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَخَلْنَا مَعَهُ مِنْ بَابِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّاسُ بَابَ بَنِي شَيْبَةَ
(2)
.
والصحيح: أن باب السلام ليس هو باب بني شيبة؛ لأن الأبواب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قريبة من الكعبة، واندثرت هذه الأبواب بعد التوسعات. والحديث الوارد في دخول النبي صلى الله عليه وسلم المسجد من باب بني شيبة- لا يصح.
فعلى الحاج ألا يتقصد الدخول من باب السلام إذا كان عليه زحام أكثر من غيره؛ احترازًا من إيذاء المسلمين الممنوع، والدخول من أقرب الأبواب له والأيسر، ولا سيما في أوقات الزحام، ويَلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها، والكعبة التي هو متوجه إليها.
المبحث السادس: يُستحب قول: (اللهم افتح لي أبواب رحمتك)
عند دخول الحَرَم.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ»
(3)
.
المبحث السابع: ما يُفعل عند رؤية الكعبة: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: يُستحب إذا وصل الحرم أن يَستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع والخضوع، بظاهره وباطنه، ويَتذكر جلالة هذا البيت.
المطلب الثاني: هل يُستحب رفع اليدين والدعاء عند رؤية الكعبة؟
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا يُشْرَع رفع اليدين عند رؤية البيت
(4)
.
(1)
قال النووي: والدخول من باب بني شيبة مستحب لكل قادم مِنْ أي جهة كان، بلا خلاف. «الإيضاح» (ص: 202)، و «المسلك المتقسط» (ص: 180)، و «بُلغة السالك» (2/ 42)، و «المغني» (5/ 210).
(2)
ضعيف: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (491). وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ. «التلخيص الحبير» (2/ 464). قال البيهقي: وَإِسْنَادُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. «الكبرى» (9/ 521).
وروى ابن أبي شيبة (13520): عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الصَّفَا مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ.
قلت: مراسيل عطاء من أضعف المراسيل.
(3)
رواه مسلم (713).
(4)
«شرح معاني الآثار» (2/ 176)، و «حاشية العدوي» (1/ 663).
لِمَا رَوَى الْمُهَاجِرُ قَالَ: سُئِلَ جَابِرُ عَنِ الرَّجُلِ يَرَى الْبَيْتَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا الْيَهُودَ، وَقَدْ حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ
(1)
.
القول الآخَر: استَحب الشافعي وأحمد رفع اليدين عند رؤية البيت
(2)
.
واستدلوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ:«اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً»
(3)
.
واستدلوابعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا رُئِيَ الْبَيْتُ»
(4)
.
والراجح: أنه لا يُشْرَع رفع اليدين عند رؤية البيت؛ لأنه لا يصح في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه عبادة، والأصل في العبادة التوقيف.
وأما ما ورد عن عمر لما دَخَلَ البيت، قال: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْك السَّلَامُ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ
(5)
فهو ضعيف، والله أعلم.
المطلب الثالث: يُستحب أن يبتدئ بالطواف عند دخوله المسجد الحرام:
فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ
(6)
.
(1)
ضعيف: أخرجه أبو داود (1861)، وفي إسناده المُهاجِر بن عِكرمة المكي، وهو مجهول.
(2)
«المجموع» (8/ 9)، و «المغني» (3/ 13)، و «الإنصاف» (4/ 4).
(3)
موضوع: أخرجه الشافعي في «المسند» (948).
هذا حديث مُعْضَل؛ لأن ابن جُريج بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم اثنان أو أكثر. «نتائج الأفكار» (5/ 258).
وللحديث شواهد، منها:
الأول: عن ابن عباس، أخرجه الواقدي في «المغازي» (1097) وفي إسناده، ابن أبي سَبْرة، وَضَّاع.
الثاني: ما رواه ابن أبي شيبة (16488) من طريق سفيان، عن رجل، عن مكحول، مرفوعًا به، بدون رفع اليدين. وهذا السند فيه علتان، وهما: الإبهام والإرسال؛ فإن مكحولًا من التابعين.
وللحديث طريق ثالث، وَفِي إِسْنَادِهِ عَاصِمٌ الْكُوزِيُّ، وَهُوَ كَذَّابٌ. وله طرق أخرى لا تخلو من مقال.
(4)
ضعيف: أخرجه الشافعي في «المسند» (950) من طريق ابن جُرَيْج قال: حُدِّثْتُ عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، به. وإسناده ضعيف لإبهام الواسطة بين ابن جُريج ومِقسم.
قال البيهقي: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، ولَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ مِقْسَمٍ. «السُّنن الكبرى» (9/ 522) ..
ورواه ابن خُزيمة (2780) وفي إسناده ابن أبي ليلى، وهو ضعيف، ولم يَسمعِ الحَكَم من مِقْسَم.
(5)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (16489) وفيه العُمَري، وهو ضعيف. وله طرق أخرى لا تصح.
(6)
البخاري (1614)، ومسلم (1235).
الفصل الثاني
أهم الأحكام التي تتعلق بالحَرَم وتهم الحاج
وفيه تمهيد وقسمان:
التمهيد: الفرق بين المسجد الحرام والحَرَم:
المسجد الحرام: هو المسجد الذي حول الكعبة.
وأما حدود الحَرَم، فهي كل الجهات التي تحيط بمكة، كالتنعيم من طريق المدينة، ومن طريق جدة الشميسي، ومن طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نَمِرة، من طريق نجد وهي منطقة بالمغمس
(1)
.
فقد يطلق المسجد الحرام، ويراد به ثلاثة معانٍ:
الأول: الكعبة، ومنه قوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].
الثاني: جميع الحرم، كما في قوله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فالمراد به مِنًى، والحَرَم موضع ذبح النسك، مع أنه عَبَّر عنه بالأخص وهو الكعبة.
الثالث: قد يطلق المسجد الحرام على المسجد المُعَدّ للصلاة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ
…
».
القسم الأول: الأحكام المتعلقة بمسجد الكعبة، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: من فضائل مسجد الكعبة:
1 -
أنه أول مسجد وُضِع في الأرض، قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
وَعَنْ أبي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ، قَالَ: «الْمَسْجِدُ
(1)
«أخبار مكة» للفاكهي (5/ 89)، و «أحكام الحرم المكي» (33 - 38).
الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ عَامًا»
(1)
.
2 -
مَنْ عَزَم فيه على فعل معصية بخلاف الخاطرة، فإنه مُتوعَّد بعموم قوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ، وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ، لَأَذَاقَهُ اللهُ عز وجل عَذَابًا أَلِيمًا»
(2)
.
3 -
أن الصلاة تُضاعَف في المسجد الحرام؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي
(1)
أخرجه مسلم (510). وقال ابن القيم: وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمُرَادَ بِهِ، فَقَالَ: مَعْلُومٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ هُوَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ عَامٍ. وَهَذَا مِنْ جَهْلِ هَذَا الْقَائِلِ؛ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تَجْدِيدُهُ لَا تَأْسِيسُهُ، وَالَّذِي أَسَّسَهُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ، بَعْدَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ. «زاد المعاد» (1/ 50).
(2)
إسناده حسن: يَرويه السُّدِّي، وقَد اختُلِف عنه، فرُوي مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أصح.
وأخرجه موقوفًا الطبري (17/ 140، 141) من طريق يحيى القطان، عن الثوري، عن السُّدي، به.
وأخرجه أحمد (4071): عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ السُّدِّيِّ. قد رَفَعه شُعبة عن شيخه رواية، لكنه كان يَرى وقفه، فقد قال: وأنا لا أرفعه لك.
وقد رَجَّح الدارقطني أن الموقوف أصح. «علل الدارقطني» (2/ 462).
وقد اختَلف العلماء في حُكم مضاعفة السيئات في حرم مكة على قولين:
القول الأول: أن السيئات لا تُضاعَف. وهو قول لكل من الحنفية والشافعية والحنابلة. «فتح القدير» (2/ 178)، و «إعلام الساجد» (ص: 128)، و «كشاف القناع» (2/ 518).
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].
واستدلوا بما روى البخاري (7501)، ومسلم (120): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً» .
القول الآخَر: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في المشهور عنهم إلى أن السيئات تُضاعَف بمكة بمِائة ألف. «فتح القدير» (2/ 178)، و «الإنصاف» (3/ 563).
واستدلوا بما ورد عن ابن عباس أنه سُئل عن مُقامه بغير مكة فقال: مَا لِي وَبَلَدٍ تَتَضَاعَفُ فِيهِ السَّيِّئَاتُ كَمَا تَتَضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ؟!
وهذا الأثر لم أقف له على سند، ذَكَره البُهُوتي في «كشاف القناع» (6/ 349)، وذَكَره الزركشي في «إعلام الساجد» (ص: 128)، قال المحقق: وفي هامش هذه الصفحة وَجَدْتُ بخط ابن حجر ما نصه: هذا لم يَثبت عن ابن عباس، ولم يَزَل مَقره بمكة، إلى أن خرج عنها لما سافر مع ابن الزبير، فأقام بالطائف.
والراجح: أَنْ المُضاعَفة في الكَيْف لا الكَمّ، أي أن السيئة في الحرم أعظم من غيرها في الأماكن الأخرى؛ لعموم قوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ولكن المضاعفة بمِائة ألف لا يدل عليها دليل صحيح. والله أعلم.
هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ»
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ»
(2)
.
(1)
البخاري (1190)، ومسلم (1411).
وذهب جمهور العلماء إلى أن الحسنة تُضاعَف في مكة بمِائة ألف، كما في «فتح القدير» (3/ 179)، و «المجموع» (7/ 469)، و «كشاف القناع» (2/ 517).
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا، كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعُماِئَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ» قال بعضهم: وما حسنات الحَرَم؟ قال: «كُلُّ حَسَنَةٍ بِماِئَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ» رواه البزار (4745).
قال أبو حاتم: روى عيسى بن سَوَادة، عن إسماعيل، عن زاذان، عن ابن عباس، حديثًا منكرًا.
وعن ابن عمر قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رَمَضَانُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ» رواه البزار (6144). وفي إسناده عاصم بن عمر، ضعيف.
وله شاهد عن ابن عباس، أخرجه ابن ماجه (3134) قال أبو حاتم: هذا حديث مُنكَر، وعبد الرحيم بن زَيد متروك الحديث. «العلل» (735).
والراجح: أن المُضاعَفة مقصورة على الصلاة التي ورد النص بشأنها.
أما ما ورد بأن الحسنة تُضاعَف في مكة بمِائة ألف، فلا يصح دليل بهذا.
(2)
مدار الحديث على عطاء، واختُلف عليه في صحابيه من أوجه:
الأول: فرواه عبد الكريم الجَزَري، عن عطاء، عن جابر، مرفوعًا به. أخرجه أحمد (14694).
وقد أَعَل البخاري الحديث بذكر جابر فقال: ولا يصح فيه جابر. «التاريخ الأوسط» (3/ 237).
وقد أجاب عن هذا ابن عبد البر، فقال: وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ- حَدِيثٌ نَقَلَتُهُ ثِقَاتٌ كُلُّهُمْ، بِمِثْلِ حَدِيثِ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ سَوَاءٌ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَيَكُونَانِ حَدِيثِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ يَحْمِلُهُ أَهْلُ الْفِقْهِ فِي الْحَدِيثِ. «التمهيد» (6/ 26).
الثاني: رواه عطاء، عن ابن الزبير، واختلف عليه في الرفع والوقف، فرواه حبيبٌ المُعَلِّم والرَّبِيع بن صَبِيحٍ، كلاهما عن عطاء، عن ابن الزبير، مرفوعًا، به. أخرجه أحمد (16117).
وخالفهما ابن جُريج وابن أرطاة، فروياه عن عطاء عن ابن الزبير موقوفًا عليه. عند عبد الرزاق (91339).
ورَجَّح ابن عبد البر الرفع بقوله: وَمَنْ رَفَعَهُ أَحْفَظُ وَأَثْبَتُ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي النَّظَرِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ. «التمهيد» (6/ 23).
الثالث: رواه عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عمر، مرفوعًا، كما عند البخاري في «التاريخ الكبير» (1829) وقال: لا تَثبت، فهذه الرواية منكرة؛ لأن المحفوظ: عن عطاء عن ابن الزبير.
ورواه سليمان بن عَتِيق عن ابن الزبير عن عمر من قوله. رواه ابن أبي شيبة (7600).
ورواه جابر العَلَّاف وهومجهول، عن ابن الزبير عن عائشة مرفوعًا، عند إسحاق بن رَاهَوَيْهِ (550).
وفي الباب حديث أبي الدرداء وأنس وغيرهما، وكلها ضعيفة.
المبحث الثاني: ما يتعلق بالصلاة في مسجد الكعبة:
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: مضاعفة الصلاة:
هل المكان الذي تُضاعَف الصلاة فيه هو مسجد الكعبة، أو أن المضاعفة عامة في جميع حرم مكة؟
اتَّفَق العلماء على أن الصلاة في الحَرَم أفضل من الحِل، وأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من باقي مساجد الحَرَم، وأن مضاعفة أجر الصلاة بالمسجد الحرام تشمله، وتشمل كل ما زِيد فيه.
واختَلفوا في المكان الذي تشمله مضاعفة الصلاة على قولين:
القول الأول: أن المُضاعَفة خاصة بالمسجد الذي فيه الكعبة. وبه قال المالكية، وهو قول للشافعية وقول للحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
وَجْه الدلالة: أن المراد بالمسجد الحرام الذي تُضاعَف فيه الصلاة- مسجد الكعبة، ويدل على ذلك ما ورد عن أَنَس، أَنَّهُ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ
(2)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] والمراد الكعبة، وبقوله تعالى:{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما صُدوا عن مسجد الكعبة لأنهم أحرموا بالعمرة، والطواف لا يكون إلا بمسجد الكعبة.
أما دليلهم من السُّنة، ففي «الصحيحين»: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ»
(4)
.
(1)
«شفاء الغرام» (1/ 82)، و «المجموع» (3/ 189، 190)، و «الفروع» (1/ 600).
(2)
البخاري (3570)، ومسلم (162).
(4)
البخاري (1190)، ومسلم (1394). =
فهذا نص في المسألة، صريح في المَعنيّ بأن المضاعفة في مسجد الكعبة.
واستدلوا بما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى»
(2)
.
والمراد بالمسجد الحرام هو مسجد الكعبة.
وعند مسلم رواية صريحة بدل (المَسْجِدِ الحَرَامِ) قال: (مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ) ولو كان المراد بالمسجد الحرام عموم الحرم، للزم من ذلك جواز شد الرحال إلى مساجد مكة. وللزم منه أن تكون المساجد التي يُشَد إليها الرحل أكثر من ثلاثة، فالمراد هو مسجد الكعبة لأنه هو الذي تُشَد الرحال إليه.
القول الثاني: أن المُضاعَفة عامة في جميع حرم مكة. وبه قال الحنفية، والشافعية في الراجح عندهم، وهو قول للحنابلة
(3)
.
= وفي حديث ميمونة في رواية لمسلم بدل (المَسْجِدِ الحَرَامِ) قال: (مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ) اختُلف فيه على ليث بن سعد: فرواه شَبَابة بن سَوَّار- فيما رواه عنه ابن أبي شيبة (7725) وقُتيبة بن سعيد ومحمد بن رُمْح - فيما روى عنهما مسلم (1396) - وعبد الله بن صالح - فيما أخرجه الطبراني في «الكبير» (1029) - أربعتهم عن ليث، عن نافع مولى ابن عمر، عن إبراهيم بن مَعْبَد، عن ابن عباس، عن ميمونة، به.
ورواه حَجَّاج بن محمد المِصِّيصي - عند أحمد (26826) - وعبد الله بن صالح - فيما رواه عنه البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 302) وقتيبة بن سعيد - فيما أخرجه النَّسَائي (691) وابن وَهْب - فيما أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (603) - أربعتُهم عن ليث، بدون ذكر ابن عباس في الإسناد.
وقال النووي: هذا الحديث مما أُنْكِرَ على مسلم بسبب إسناده. وقال الحُفَّاظ: ذِكر ابن عباس فيه وهم، وصوابه: عن إبراهيم بن عبد الله عن ميمونة، من غير ذكر ابن عباس. «شرح مسلم» (9/ 166).
قال البخاري: وَلَا يَصِحُّ فِيهِ: ابْنُ عَبَّاسٍ. «التاريخ الكبير» (1/ 302).
وقد نفى ابن حِبان أن يكون إبراهيم سمع من ميمونة، فقال في ترجمته: وقد قيل: إنه سمع من ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك بصحيح عندنا؛ فلذلك أدخلناه في أتباع التابعين.
قال الدارقطني: وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ. وَرَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ. وَهُوَ الصَّوَابُ عَنْ نَافِعٍ. «العلل» (1634).
(2)
البخاري (1189)، ومسلم (1397). وفي رواية لمسلم بدل (المَسْجِدِ الحَرَامِ) قال:(مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ).
(3)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 188)، و «الإيضاح» (ص: 420)، و «الفروع» (1/ 600).
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أُسري به من خارج المسجد المُعَد للصلاة، وقد قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1].
ودلت على ذلك أدلة:
الدليل الأول: ما رَوى أنس بن مالك قال: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ
…
فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ
…
»
(2)
.
واعتُرض عليه بأن أَصْرَح منه ما ورد عن أنس، أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُسْرِيَ به من داخل المسجد المُعَد للصلاة، فعن أَنس قال: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ.
وَعَنْ أَنَسِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رضي الله عنهما، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ - وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الحِجْرِ - مُضْطَجِعًا، إِذْ أَتَانِي آتٍ
…
»
(3)
. وفي رواية: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ البَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَاليَقْظَانِ» .
فهذه الأدلة الصريحة عن أنس تُؤكِّد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُسْرِيَ به من مسجد الكعبة.
الدليل الثاني: ما رَوى جابر رضي الله عنه قال: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُسْرِيَ بِهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، مِنْ مَكَّةَ، مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ
(4)
.
الدليل الثالث: ما روت أُم هانئ قالت: بَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ فِي بَيْتِي، فَفَقَدْتُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي
…
»
(5)
.
ونوقش هذا الحديث بأنه منكر، وبأنه لو صح فيمكن الجَمْع بين الروايات، بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَامَ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ، وَبَيْتُهَا عِنْدَ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ، فَفُرِّجَ سَقْفُ بَيْتِهِ، وَأَضَافَ الْبَيْتَ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ كَانَ يَسْكُنُهُ، فَنَزَلَ مِنْهُ الْمَلَكُ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْمَسْجِد، فَكَانَ بِهِ مُضْطَجِعًا، وَبِهِ أَثَرُ النُّعَاسِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْمَلَكُ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْكَبَهُ الْبُرَاقَ
(6)
.
(2)
البخاري (349)، ومسلم (163).
(3)
البخاري (3887).
(4)
«أخبار مكة» للفاكهي (3/ 247).
(5)
منكر: أخرجه الطبراني في «الكبير» (1059). وفي إسناده: عبد الأعلى بن أبي المُسَاوِر، متروك.
(6)
«فتح الباري» (7/ 204).
الدليل الثاني: عموم قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217].
وَجْه الدلالة: أن المراد بالمسجد الحرام هنا عموم الحرم؛ لأن هؤلاء إنما أُخْرِجُوا من بيوتهم لا من المسجد نفسه
(2)
.
واعتُرض عليه بأن المراد بقوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} [البقرة: 217] أي: أَهْله الذين يَعمرونه بطاعة الله، وهم المؤمنون لأنهم أولياؤه. كما قال تعالى:{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18] المؤمنون إنما يَعمرون مسجد الكعبة بطاعة الله الذي هو محل الصلاة والطواف.
الدليل الثالث: عموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25].
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صُدوا عن عموم الحرم.
ونوقش بأن نص الآية صريح في الصد عن المسجد الحرام، وهو مسجد الكعبة. ودل على ذلك قوله تعالى:{الْعَاكِفُ فِيهِ} [الحج: 25]، المراد بالعاكف في الآية المقام فيه والملازمة له بالصلاة والطواف، وهذا يكون في مسجد الكعبة لأنه محل ذلك.
الدليل الرابع: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والمراد بالمسجد الحرام هنا: الحرم كله بالاتفاق، وإذا كان المشرك ممنوعًا من دخول الحرم، دل ذلك على أن المراد بالمسجد الحرام عموم الحرم
(3)
.
ونوقش هذا الاستدلال بعدم التسليم بأن المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم ليس محل اتفاق، وإنما محل خلاف؛ فقيل: إن المراد هو المسجد الحرام لا عموم الحرم؛
(2)
انظر تفسير الآية في «أحكام القرآن» للجَصَّاص، و «الفروع» (1/ 600).
(3)
«المغني» (13/ 245). قال ابن حزم: فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ- تَعَالَى- أَرَادَ الْحَرَمَ كُلَّهُ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالدَّعْوَى. «المُحَلَّى» (7/ 148).
لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا} [التوبة: 28] لأنه يَجوز تمكين المشرك من الوقوف على حدود الحرم. ولو كان المراد جميع الحرم لقال: فلا يَدخلوا.
أما دليلهم من السُّنة، فعن المِسْوَر بن مَخْرَمَة، ومَرْوان بن الحَكَم، في قصة صُلح الحُديبية: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الْحِلِّ
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الحرم، أي: داخل حدود الحرم، وليس المسجد الحرام. فهذا يدل على أن مضاعفة الصلاة عامة في جميع الحرم، ولا يُخص منها المسجد الذي هو مكان الطواف.
ونوقش بأنه لا دلالة فيه على أن مضاعفة الصلاة عامة في جميع الحرم، بل غاية ما فيه أن الصلاة في الحرم أفضل من الصلاة في الحِل، وهذا لا شك فيه، وهو خارج محل النزاع.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قَدِم مكة لأربع من ذي الحجة، ثم طاف وسعى، وأقام في الحَجُون الأبطح أربعة أيام قبل خروجه إلى مِنًى، ولم يكن يَنزل إلى مسجد الكعبة ليصلي فيه، مع قربه وسهولته. فهذا دليل على أن مضاعفة الصلاة عامة في جميع الحرم
(3)
.
ونوقش بأنها قضية عين، تحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم تَرَك ذلك خَشية أن يَظن أحد أن له الذَّهاب إلى مسجد الكعبة والطواف والصلاة إليه واجب، وأنه من مناسك الحج
(4)
.
فالحاصل: أن سبب اختلاف العلماء في هذه المسألة هو لفظة (المسجد الحرام) في الآيات والأحاديث، هل يراد بها جميع الحرم أو يراد بها الكعبة؟
والتحرير هو أن لفظة (المسجد الحرام) من الألفاظ المشتركة، فقد يراد به جميع الحرم، وقد يراد به مسجد الكعبة. والذي يُحدِّد المراد هو السياق وقرائن الأحوال والنصوص الأخرى، ومن الخطأ طرد معنى واحد في جميع النصوص.
(2)
إسناده حسن: أخرجه أحمد (18910). وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد صَرَّح بالتحديث في بعض فقرات هذا الحديث، فانتفت شبهة تدليسه. ثم إنه قد توبع، تابعه مَعْمَر. (18928، 18929).
(3)
قال ابن القيم: لَا يُحْفَظُ عَنْهُ فِي حَجِّهِ أَنَّهُ صَلَّى الْفَرْضَ بِجَوْفِ مَكَّةَ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي بِمَنْزِلِهِ بِالْأَبْطَحِ، بِالْمُسْلِمِينَ مُدَّةَ مُقَامِهِ. «زاد المعاد» (2/ 260).
(4)
«فتح الباري» (3/ 486).
فقد يطلق المسجد الحرام، ويراد به أحد معنيين:
الأول: جميع الحَرَم، كما في قوله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] فالمراد به مِنًى، والحَرَم موضع ذبح النسك، مع أنه عَبَّر عنه بالأخص: بالكعبة، والبيت العتيق.
ولا يَعني إطلاق (المسجد الحرام) على ما حوله أنه يأخذ أحكامه من حيث لبث الجُنُب والحائض والبيع والشراء. فكذلك يقال في مضاعفة أجر الصلاة.
الثاني: قد يطلق المسجد الحرام، ويراد به الكعبة، أي: المسجد المُعَدّ للصلاة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى» . فإن الأظهر منه أن جميع الحَرَم غير مراد، وبأن المراد بالمسجد الحرام هو مسجد الكعبة، فدل ذلك على أن الحاكم في هذا هو سياق الكلام.
الراجح: أن مضاعفة الصلاة خاصة بالمسجد الحرام، الذي فيه الكعبة؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ» فالإشارة إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ب (هذا) تدل على أن المراد بالمضاعفة: مضاعفة المسجد المعهود بالصلاة فيه، سواء المسجد الحرام أو المسجد النبوي، ولا يتعدى ذلك إلى سائر الحَرَم، وهذا نص في المسألة.
المطلب الثاني: ما تشمله المضاعفة من الصلوات:
اتَّفق الفقهاء على مضاعفة الفريضة في المسجد الحرام
(1)
.
واتفقوا على مضاعفة ما تُشْرَع له الجماعة في المسجد، كصلاة العيدين وقيام رمضان.
وكذا ما شُرع فعله في المسجد، كركعتي الطواف وتحية المسجد، فإنه يُضاعَف
(2)
.
واختلفوا فيما عدا ذلك من النوافل، كالسُّنن الراتبة والنوافل المطلقة، هل تُضاعَف في المسجد الحرام أو لا؟ على قولين:
القول الأول: أن السُّنن الرواتب والنوافل المطلقة إذا صلاها في الحَرَم، فإنها
(1)
«حاشية ابن عابدين» (1/ 659)، و «حاشية العدوي» (2/ 378)، و «الفروع» (1/ 600).
(2)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 182)، و «هداية السالك» (3/ 114)، و «إعلام الساجد» (ص: 124).
تُضاعَف. وبه قال الشافعية والحنابلة، وهو قول للحنفية والمالكية
(1)
.
واستدلوا بما ورد في «الصحيحين» : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ»
(2)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة» نكرة، فيَعُم الفرض والنفل
(3)
.
القول الآخَر: أن المضاعفة في الفريضة فقط، وأن النافلة لا تُضاعَف في المسجد الحرام. وهذا هو المشهور عن الحنفية والمالكية، وهو قول للشافعية
(4)
.
واستدلوا بما ورد في «الصحيحين» : عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا المَكْتُوبَةَ»
(5)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا عن مسجده، مع أن الصلاة فيه مُضاعَفة، فدل ذلك على أن المُضاعَفة خاصة بالفرض دون النفل، ولم يُنقَل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفل في المسجد، ولو كانت مضاعفة الصلاة للفرض والنفل، لكان يصلي النوافل في مسجده.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا دلالة في الحديث على عدم مضاعفة النفل، بل غاية ما فيه أن فعل النافلة في البيت أفضل. وهذا لا شك فيه.
الوجه الآخَر: أن صلاة النافلة في البيت في مكة أو المدينة أفضل من صلاتها في المسجد الحرام أو النبوي، وإن كانت تُضاعَف فيهما
(6)
.
والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من مضاعفة صلاة النافلة في الحَرَم.
(1)
«شرح النووي» (9/ 164)، و «شرح فتح القدير» (3/ 182)، و «حاشية العدوي» (2/ 378).
(2)
البخاري (1190)، ومسلم (1394).
(3)
«شرح النووي لمسلم» (9/ 164).
(4)
«شرح فتح القدير» (3/ 182)، و «حاشية العدوي» (2/ 378)، و «إعلام الساجد» (ص: 246).
(5)
البخاري (731)، ومسلم (781).
(6)
«فتح الباري» (3/ 62)، و «نَيْل الأوطار» (3/ 94)، و «أحكام الحرم المكي» (170).
المطلب الثالث: حُكم ما زِيد على المسجد:
ذهب جمهور العلماء إلى أن ما زِيد على المسجد، فإن له حُكمه
(1)
.
وقد استدلوا لذلك بفعل عمر وعثمان وابن الزبير، حيث زادوا في المسجد على ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فعلهم هذا بمحضر من الصحابة، ولم يُنكِر عليهم أحد
(2)
.
وقد اشتَرط العلماء أن تكون الزيادة متصلة بالمسجد، بحيث لا يَفصِل بينها وبين المسجد فاصل، كطريق ونحوه
(3)
.
المطلب الرابع: حُكْم الصلاة في الأبراج المجاورة للحَرَم بصلاة إمام الحَرَم:
الراجح: جواز الصلاة في الأبراج السكنية المجاورة للحَرَم بصلاة إمام الحَرَم، ولو لم تتصل الصفوف، ولكن بثلاثة شروط:
الأول: ألا يَفصل بين المأموم والإمام طريق عام، كالذي تمر فيه السيارات.
الثاني: إمكان رؤية الإمام أو مَنْ خلفه رؤية حقيقية، بالعين المجردة.
الثالث: أنه لا يَجوز ذلك في غير أوقات الزحام؛ لأن الصفوف تتصل
(4)
.
المطلب الخامس: حُكْم المرور بين يدي المصلي في حرم مكة:
في هذا تفصيل:
أولًا- مرور الطائف بين يدي المصلي في الحَرَم.
ذهب جماهير العلماء إلى جواز مرور الطائف بين يدي المصلي إذا كان محتاجًا
(1)
«حاشية ابن عابدين» (1/ 659)، و «مواهب الجليل» (3/ 345)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 146).
(2)
«أخبار مكة» للأزرقي (2/ 69 - 71).
(3)
«مغني المحتاج» (1/ 459)، و «شرح مُنتهَى الإرادات» (1/ 465).
(4)
وسُئلت اللجنة الدائمة عن حُكم مَنْ صلى جماعة في منزله، مكتفيًا بسماع مكبرات الصوت من المسجد، ولم يتصل بين الإمام والمأموم ولو بواسطة، وذلك واقع مكة والمدينة في الموسم؟
ج: لا تصح الصلاة، وهذا مذهب الشافعية، وبه قال أحمد، إلا إذا اتصلت الصفوف ببيته، وأمكنه الاقتداء بالإمام، بالرؤية وسماع الصوت، فإنها تصح، كما تصح صلاة الصفوف التي اتصلت بمنزله.
أما بدون الشرط المذكور فلا تصح؛ لأن الواجب على المسلم أن يؤدي الصلاة في الجماعة في بيوت الله عز وجل، مع إخوانه المسلمين. «فتاوى اللجنة الدائمة» (8/ 31).
للمرور، سواء كان المصلي متخذًا سترة أم لا
(1)
.
ثانيًا- اختَلف أهل العلم على خمسة أقوال في مرور غير الطائف بين يدي المصلي:
الأول: تحريم المرور إذا كان المار غير محتاج للمرور. وبه قال الحنفية والشافعية، وهو رواية عن أحمد
(2)
.
الثاني: وذهب الحنابلة في رواية إلى تحريم المرور مطلقًا.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ»
(3)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا عَلَيْهِ» أي: من الإثم. وحصول الإثم يَستلزم تحريم الفعل.
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ»
(4)
.
فتشبيه المار بالشيطان يدل على تحريم ذلك الفعل، وكأن الشيطان أَمَره بذلك. وكذا الأمر بالمدافعة يَستلزم تحريم المرور.
الثالث: جواز المرور مطلقًا. وهو المشهور عند الحنابلة
(5)
.
الرابع: عند المالكية جواز المرور إذا كان المصلي غير متخذ سُترة
(6)
.
الخامس: عند الشافعية كراهة المرور إذا كان المصلي غير متخذ سُترة، وتحريمه إذا كان المصلي متخذًا سُترة
(7)
.
واستدلوا بما رَوى كَثِير أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِهِ يُحَدِّثُ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
انظر: «حاشية ابن عابدين» (1/ 501)، و «شرح الزرقاني» (1/ 209)، و «بُلغة السالك» (1/ 122).
(2)
«حاشية ابن عابدين» (1/ 365)، و «المجموع» (3/ 249)، و «الفروع» (1/ 471).
(3)
البخاري (510)، ومسلم (497).
(4)
البخاري (509).
(5)
«المغني» (3/ 90)، و «الإنصاف» (1/ 94)، و «كشاف القناع» (1/ 375).
(6)
«شرح الزرقاني» (1/ 209).
(7)
«المجموع» (3/ 249).
يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ سُتْرَةٌ
(1)
.
المطلب السادس: دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة والصلاة فيها:
عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم البَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نَعَمْ، بَيْنَ العَمُودَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ
(2)
.
ويُشْكِل عليه ما ورد: عَنْ أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ، دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ فِي قُبُلِ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ:«هَذِهِ الْقِبْلَةُ»
(3)
.
وجه الإشكال: أن بلالًا أَخْبَر بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة حين دخلها. وأما أسامة بن زيد فنَفى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، والمُثْبِت مُقَدَّم على النافي، ولعل أسامة كان متغيبًا حال صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان مشتغلًا بالدعاء فلم يره، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة حين دخلها، فيُستحب لنا دخول الحِجر والصلاة فيه؛ لأنه من البيت.
المبحث الثالث: ماء زمزم:
وفيه مطلبان:
الأول: استحباب الشرب من زمزم: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، فَإِنْ شَرِبْتَهُ تَسْتَشْفِي بِهِ شَفَاكَ اللَّهُ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ مُسْتَعِيذًا عَاذَكَ اللَّهُ، وَإِنْ شَرِبْتَهُ لِيَقْطَعَ ظَمَأَكَ قَطَعَهُ» .
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا شَرِبَ مَاءَ زَمْزَمَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ
(4)
.
(1)
ضعيف: أخرجه أحمد (27241). وقد أُعِل هذا الحديث بعلتين: الأولى: إبهام الواسطة بين كَثير بن كَثير وجَدِّه. والثانية: كثرة الاختلاف في إسناده.
(2)
البخاري (1598)، ومسلم (1329).
(3)
البخاري (398)، عن ابن عباس، لم يَذكر أسامة. ومسلم (1330) واللفظ له.
(4)
ضعيف: مداره على ابن عُيينة، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد. واختُلف عليه:
فرواه الجارودي عند الحاكم (1739) مرفوعًا، به.
وخالف الجاروديَّ عبدُ الرزاق (9124)، والأزرقي في «تاريخ مكة» (2/ 50)، كلاهما عن ابن عُيينة، عن مجاهد، قوله. ورواه مَعْمَر، عن ابن خُثَيْم، عن مجاهد قوله. عند عبد الرزاق (9123).
فالجارودي أخطأ فيه عن ابن عُيينة، فجَعَله موصولًا، وغَيْره جَعَله عن ابن عُيينة عن مجاهد قوله.=
المطلب الثاني: إخراج ماء زمزم:
يَجوز إخراج ماء زمزم. وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة
(1)
.
فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْمِلُهُ
(2)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَهْدَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ
(3)
.
وَعَنْ حَبِيبٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: آخُذُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُهُ فِي الْقَوَارِيرِ، وَحَنَّكَ بِهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رضي الله عنهما بِتَمْرِ الْعَجْوَةِ
(4)
.
وإن كان لا يصح حديث، ولكن الأصل براءة الذمة، وجواز نقل ماء زمزم. والله أعلم.
= قال الحافظ: والجارودي صدوق إلا أن روايته شاذة، فقد رواه حُفاظ أَصحاب ابن عُيينة والحُمَيْدي، وابن أَبي عُمَر وغيرهما، قوله. والمحفوظ عن ابن عُيينة وَقْفه. «التلخيص الحبير» (2/ 268).
وللحديث شاهد من حديث جابر، يُروى عنه من طريقين:
الطريق الأول: طريق عبد الله بن المُؤَمَّل، عن أبي الزبير، عن جابر، به، عند أحمد (14849).
وهذا الإسناد ضعيف؛ لضَعْف عبد الله بن المُؤَمَّل، وإن كان قد تابعه إبراهيم بن طَهْمَان عند البيهقي (10081)، فقد أَعَلّه الحافظ فقال: ولا يصح عن إبراهيم
…
إنما سَمِعه إبراهيم من ابن المُؤَمَّل.
وَقد رُوي عن حمزة الزيات عن أبي الزبير، عند الطبراني في «الأوسط» (3815)، ولكنه غير محفوظ، كما في «ذخيرة الحُفاظ» لابن القيسراني (4/ 2072).
الطريق الثاني: من طريق سُويد بن سعيد، عن ابن المبارك، عن ابن أبي المَوَال، عن محمد بن المُنكدِر، عن جابر. وفيه قصة. أخرجه البيهقي في «الشُّعَب» (3833) وقال: غريب من هذا الوجه عنه. وقال الحافظ: خَلَط سُويد بن سعيد في هذا الإسناد، وأخطأ فيه عن ابن المبارك، وإنما رواه ابن المبارك عن ابن المُؤمَّل عن أبي الزبير. «التلخيص» (2/ 268). وكذا قال الذهبي في «السِّيَر» (8/ 349). وقال ابن كَثير: سُويد ضعيف، والمحفوظ: عن ابن المبارك عن ابن المُؤمَّل. «البداية والنهاية» (2/ 247).
(1)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 625)، و «مواهب الجليل» (2/ 115)، و «الفروع» (3/ 483).
(2)
ضعيف: رواه الترمذي (984). وفي إسناده خَلَّاد بن يَزيد الجُعْفِيّ. قال البخاري والمُحارِبي: لا يُتابَع عليه. قال الذهبي: انفرد بحديثِ حَمْل ماء زمزم والاستشفاء به. «ميزان الاعتدال» (1/ 657)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قلت: فخَلَّاد لا يَتحمل مثل هذا المتن، ولم يوثقه مُعتبَر.
(3)
ضعيف: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5796). وفي إسناده عبد الله بن المُؤمَّل المخزومي، ضعيف.
(4)
ضعيف: رواه الفاكهي في «أخبار مكة» (2/ 51). وفي إسناده: الحسن بن أبي جعفر الجُفْري: ضعيف. ومسلم أَبو عبد الله لم أجد له ترجمة. قال الهيثمي: وفيه مَنْ لم أعرفه. «مَجْمَع الزوائد» (3/ 287).
المبحث الرابع: حُكم النوم والأكل في المسجد:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حُكم النوم في المسجد:
اتَّفَق العلماء على جواز النوم للمعتكف، وعلى جواز النوم غير المستدام
(1)
.
واختلفوا في اتخاذ المسجد مبيتًا ومَقيلًا على وجه الديمومة والاستمرار، على قولين:
الأول: أنه مباح. وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(2)
.
عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ العَرَبِ. وفيه قالت: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَتْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي المَسْجِدِ
(3)
.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ
…
فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
القول الآخَر: يُكره أن يُتخذ المسجد مقيلًا ومبيتًا على الدوام. وهو مذهب الحنفية والمالكية، ورواية للحنابلة
(5)
.
والراجح: جواز النوم في المسجد على كل حال، مع المحافظة على نظافة المسجد.
المطلب الثاني: حُكم الأكل في المسجد:
اتَّفَق العلماء على جواز أكل المعتكف في المسجد، واختلفوا في غيره على ثلاثة أقوال:
الأول: جواز الأكل في المسجد. وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(6)
.
الثاني: يُكْرَه الأكل في المسجد. وهو مذهب الحنفية، ورواية عند الحنابلة
(7)
.
(1)
قال ابن رجب: واعلم أن النوم في المسجد لحاجة عارضة، مِثل نوم المعتكف فيه والمريض، ومَن تدركه القائلة- يَجوز عند جمهور العلماء، ومنهم مَنْ حكاه إجماعًا. «فتح الباري» (3/ 263).
(2)
«الأم» (1/ 54)، و «المجموع» (2/ 197)، و «الفروع» (7/ 403).
(3)
رواه البخاري (439). وفي الباب: وَرَقَدَ عَلِيٌّ فِي المَسْجِدِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ:«قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ» رواه البخاري (441)، ومسلم (2409).
(4)
البخاري (440)(1121)، ومسلم (2479).
(5)
«فتح القدير» (1/ 422)، و «التاج والإكليل» (6/ 12»، و «مجموع الفتاوى» (22/ 200).
(6)
«المجموع» (2/ 199)، و «كشاف القناع» (2/ 371).
(7)
«رد المحتار» (2/ 448)، و «الآداب الشرعية» (3/ 385).
الثالث: إن كان لا يلوث المسجد كالتمر والطعام الناشف، فمباح، وإن كان يُلوِّث المسجد فيَحرم. وهو مذهب المالكية
(1)
.
والراجح: جواز الأكل في المسجد، مع المحافظة على نظافة المسجد. فعن عبد الله بن الحارث يقول: كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ
(2)
.
القسم الثاني: الأحكام المتعلقة بالحرم،
وفيه مبحثان
المبحث الأول: حرمة مكة:
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ» . فَقَالَ العَبَّاسُ رضي الله عنه: إِلَّا الإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا؟ فَقَالَ: «إِلَّا الإِذْخِرَ»
(3)
.
(يُختلَى): يُقْطَع. (خَلَاها): الرَّطْب من الكلأ الذي يَنبت بنفسه.
(يُعضَد): يُكسَر ويُقطَع. (ولا يُنفَّر صيدها): لا يُزعَج من مكانه ولا يَحِل صيده. (تُلتقَط) تؤخذ. (لقطتها): ما سَقَط فيها. (إلا لمُعَرِّف) مَنْ يُعَرِّفها وينادي عليها حتى يجيء صاحبها، ولا يأخذها للتمليك. (لصاغتنا): جمع صائغ، يستعملونه لحاجتهم في الصياغة.
فالحاصل: أنه يَحرم صيد حرم مكة على الحلال والحرام، بالسُّنة والإجماع.
في الحرم قسمان:
الأول: الشجر، فيَحرم التعرض له بالقطع أو القلع إذا كان رَطْبًا.
الثاني: النبات، وهو نوعان:
النوع الأول: ما زَرَعه الآدمي كالحِنطة، فيَجوز لمالكه قَطْعه.
(1)
«التاج والإكليل» (6/ 13)، و «حاشية الدسوقي» (4/ 70).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن ماجه (3300). وقال الشوكاني: وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الطَّعَامِ فِي الْمَسْجِدِ- مُتَكَاثِرَةٌ، مِنْهَا سُكْنَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فِي الْمَسْجِدِ، الثَّابِتُ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُمْ لَا مَسْكَنَ لَهُمْ سِوَاهُ يَسْتَلْزِمُ أَكْلَهُمْ لِلطَّعَامِ فِيهِ. «نَيْل الأوطار» (2/ 190).
(3)
البخاري (1349).
الثاني: ما لم يَزرعه الآدمي، فهذا منه ما يَجوز قلعه كالإِذخِر والشوك، وما كان دواء كالسَّنا، وما يَحرم قلعه كالكلأ إن كان رَطْبًا، ويجوز تسريح البهائم فيها.
المبحث الثاني: حُكم بيع بيوت مكة وإجارتها
اختَلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: يَجوز بيع بيوت مكة وإجارتها. وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وقول عند المالكية، ومذهب الشافعية، ورواية عن أحمد
(1)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8].
وَجْه الدلالة: أنه أضاف الديار للمُهاجِرين، والإضافة تقتضي التمليك، ولو كانت الديار ليست لهم لَمَا كانوا مظلومين في إخراجهم من دُور ليست بمِلكهم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ» أضاف الدار إلى أبي سفيان، فهذا دليل على صحة تملكه، وما صح في التملك صح بيعه وإجارته.
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ:«وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟!»
(2)
.
وَجْه الاستدلال: هذا صريح في إمضائه صلى الله عليه وسلم بيع عَقيل، ولو كان بيعها لا يصح لَمَا أَقَره النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يُقِر على باطل، بإجماع المسلمين.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ اشْتَرَى دَارَ السِّجْنِ (بِمَكَّةَ) مِنْ صَفْوَانَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ فَالْبَيْعُ لَهُ، وَإِنْ عُمَرَ لَمْ يَرْضَ فَأَرْبَعُ مِئَةٍ لِصَفْوَانَ
(3)
.
(1)
«شرح معاني الآثار» (4/ 49)، و «الذخيرة» (5/ 406)، و «المجموع» (9/ 235)، و «المغني» (4/ 177).
(2)
البخاري (1588)، ومسلم (1351).
(3)
حسن: أخرجه البخاري في «صحيحه» تعليقًا بصيغة الجزم (479).
وقد وَصَله ابن أبي شيبة (23662): حَدَّثَنا ابن عُيينة، عن عمرو، عن عبد الرحمن، به.
وفي إسناده عبد الرحمن بن فَرُّوخ، وهو لَيِّن، وقد يُقْبَل حديثه في مثل هذه الحالة، ولا سيما أنه مِنْ موالي عمر، وقد ذَكَر الحافظ له مُتابِعًا، فقد قال في «الفتح» (5/ 76): وأَخْرَج عمر بن شَبَّة في كتاب «مكة» ، فذَكَر نحوه، وفي إسناده هشام بن سليمان، وفي «التقريب»: مقبول. فهذه المُتابَعة تُقَوِّي طريق عبد الرحمن بن فَرُّوخ. والله أعلم.
القول الثاني: أنه يَحرم بيع بيوت مكة وإجارتها. وهو مذهب الحنفية في المشهور، وقول للمالكية، والمشهور عند الحنابلة
(1)
.
قد دلت السُّنة على أن مكة فُتحت عَنوة، ومعلوم أن الأرض العَنوة لا تُقسم ولا تُملك لأحد، فلا يَجوز بيعها، ودل عليه ما رُوي: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ،»
(2)
.
الحديث صريح في أنها فُتحت عَنوة «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» .
واعتُرض عليه بأن مكة فُتحت عَنوة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أَقَر أهلها على أملاكهم، وبالتالي جاز لهم بيع دُورها.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَكَّةُ حَرَامٌ، وَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا»
(3)
.
وأما دليلهم من القياس، فإذا كان مسجد الكعبة يُسمَّى المسجد الحرام، ومكة البلد الحرام، فيَحرم بيع دُورها.
والجواب عن قياسهم: أَنَّ المَسَاجِدَ مُحَرَّمَةٌ مُحَرَّرَةٌ، لَا تُلْحَقُ بِهَا الْمَنَازِلُ الْمَسْكُونَةُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهَا؛ وَلِهَذَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ يَجُوزُ بَيْعُ الدُّورِ دُونَ الْمَسَاجِدِ
(4)
.
القول الثالث: يَجوز بيع بيوت مكة، ويَحرم إجارتها. وهو قول أحمد في رواية
(5)
.
والراجح: جواز بيع دُور مكة وإجارتها.
(1)
«مختصر اختلاف العلماء» (3/ 66)، و «الذخيرة» (5/ 406)، و «الفروع» (6/ 223).
(2)
البخاري (1349).
(3)
ضعيف: ويرويه عن ابن عمرو جماعة:
الأول: ابن أبي نَجِيحٍ. وفي السند إليه أبو حنيفة، وهو ضعيف الحديث. أخرجه الدارقطني (3015) وقال: كَذَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَرْفُوعًا، وَوَهِمَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ:(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ) وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ القَدَّاحُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.
الثاني: عبد الله بن بَابَاهِ، أخرجه الدارقطني (3018) وفي السند إليه إسماعيل بن إبراهيم بن مُهَاجِر، ضعيف. وقال البيهقي: فإسماعيل بن إبراهيم هذا وأبوه ضعيفان. «معرفة السُّنن» (8/ 214).
الثالث: مرسل، رواه ابن أبي شيبة (14898) عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، به.
(4)
«المجموع» (9/ 251).
(5)
«الإنصاف» (4/ 289)، و «زاد المعاد» (3/ 435).
الباب الثامن
الطواف
وفيه تمهيد وخمسة فصول
التمهيد: بين يدي الطواف، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الطواف.
المبحث الثاني: فضل الطواف.
الفصل الأول: أنواع الطواف.
الفصل الثاني: شروط الطواف.
الفصل الثالث: سُنن الطواف.
الفصل الرابع: مكروهات ومحرمات الطواف.
الفصل الخامس: نوازل الطواف.
التمهيد:
بين يدي الطواف،
وفيه مبحثان
المبحث الأول: تعريف الطواف:
الطواف في اللغة: هو الدوران حول الشيء. وطاف بالبيت، أي: دَارَ حوله.
والطواف في الشرع: هو الدوران سبعة أشواط حول الكعبة، بِنِيَّة الطواف، مبتدئًا بالحَجَر الأسود، منتهيًا إليه، جاعلًا الكعبة عن يساره
(1)
.
المبحث الثاني: فضل الطواف:
الطواف بالبيت الحرام عبادة من أَجَلّ العبادات وأشرفها، قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج: 26].
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا فَأَحْصَاهُ، كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ، لَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً»
(2)
.
(1)
«معجم اللغة» (2/ 83)، و «لسان العرب» (9/ 225)، و «الموسوعة الكويتية» (29/ 120).
وفي هذا الباب بحث نافع وماتع في أحكام الطواف، للشيخ وليد بن عبد الله، وقد أفدتُ منه كثيرًا، فاللهَ أسأل أن يجازي مؤلفه خير الجزاء وأوفاه، وأن يَجعل جنة الفردوس مأواه.
(2)
إسناده حسن: أخرجه الترمذي (975) واللفظ له، وأحمد (4462)، والنَّسَائي (2941) من طرق عن الثوري وحماد بن زيد
…
وغيرهما، عن عطاء بن السائب، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُمير، به.
وهذا إسناد حسن، ورجاله ثقات غير عطاء بن السائب، واختَلط بآخره، وروى عنه الثوري وحماد بن زيد قبل الاختلاط، ولكن هل يَتحمل عطاء بن السائب مثل هذا المتن؟ الله أعلم.
الفصل الأول
أنواع الطواف
النوع الأول: طواف القدوم.
وفيه تمهيد، وأربعة مباحث:
التمهيد: من أسماء طواف القدوم.
المبحث الأول: حُكم طواف القدوم.
المبحث الثاني: وقت طواف القدوم.
المبحث الثالث: هل يُسقِط طوافُ القدوم طواف الإفاضة؟
المبحث الرابع: مَنْ الذين يَسقط عنهم طواف القدوم؟
النوع الثاني: طواف الإفاضة.
النوع الثالث: طواف العمرة.
النوع الرابع: طواف الوداع.
النوع الخامس: طواف التطوع.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: فضل طواف التطوع.
المبحث الثاني: وقت طواف التطوع.
المبحث الثالث: التطوع وإهداء ثوابه للغير.
الفصل الأول: أنواع الطواف
النوع الأول: طواف القدوم: وفيه تمهيد، وأربعة مباحث:
التمهيد: من أسماء طواف القدوم
من أسماء طواف القدوم: طواف التحية، طواف أول عهد بالبيت، طواف اللقاء
(1)
.
المبحث الأول: حُكْم طواف القدوم:
اختَلف أهل العلم في حُكم طواف القدوم على قولين:
القول الأول: أن طواف القدوم سُنة. وبه قال الحنفية والشافعية، وأحمد في رواية
(2)
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الدُّخُولِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى سُقُوطِهِ عَنِ الْمَكِّيِّ، وَاللَّهُ عز وجل قَدِ افْتَرَضَ الْحَجَّ عَلَى الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ إِذَا اسْتَطَاعَهُ. فَلَوْ كَانَ طَوَافُ الدُّخُولِ فَرْضًا، لَاسْتَوَى فِيهِ الْمَكِّيُّ وَغَيْرُهُ، كَمَا يَسْتَوُونَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ
(3)
.
القول الآخَر: أن طواف القدوم واجب. وبه قال المالكية، وأحمد في رواية
(4)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فالله أَمَر بالطواف، والأمر يقتضي الوجوب، فدل ذلك على وجوب طواف القدوم.
ونوقش بأن المراد بقوله تعالى: (وليطوفوا) طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج.
(1)
«بدائع الصنائع» (3/ 134)، و «المجموع» (8/ 12)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 127).
(2)
«حاشية ابن عابدين» (3/ 448)، و «المجموع» (8/ 259)، و «المغني» (3/ 476).
(3)
«الاستذكار» (12/ 194)، و «بدائع الصنائع» (3/ 119)، و «بداية المجتهد» (2/ 109).
(4)
«المدونة» (1/ 298)، و «الإنصاف» (4/ 56).
ونُقِل عن المالكية أنهم يقولون بركنية طواف القدوم، كما في «بدائع الصنائع» (3/ 146).
وهذا القول ضعيف، والمذهب الصحيح عند المالكية أنهم يقولون بالوجوب، واستدلوا لذلك بالقياس، فكما أن الصلاة تُفتتح بتكبيرة الإحرام وهي ركن، فكذا الحج يُفتتح بطواف القدوم فهو ركن.
ونوقش بأن الحج يُفتتح بالإحرام الذي هو ركن، بينما طواف القدوم بمنزلة دعاء الاستفتاح.
وذلك لثلاثة أمور:
الأول: أن إجماع المفسرين على أن المراد بهذا الطواف هو طواف الإفاضة
(1)
.
الثاني: أن الله خاطب كل الحُجَّاج بهذا الطواف، وطواف القدوم لا يجب على أهل مكة والمعتمر، فعُلِم أن المراد بهذا طواف الإفاضة؛ فهو الذي يجب على الجميع.
الثالث: أن سياق الآية يدل على أن المراد بهذا الطواف هو طواف الإفاضة؛ لأنه عطف الطواف على الذبح وقضاء التَّفَث وهو الحَلْق، فقال:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وهذا لا يكون إلا في يوم النحر الذي يكون الطواف فيه هو طواف الإفاضة.
وأما السُّنة، فاستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للقدوم. قالت عائشة:«إنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ»
(2)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ بِالطَّوَافِ»
(3)
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أَمَر مَنْ أتى البيت بطواف القدوم، والأمر يقتضي الوجوب.
ونوقش بأنه لا يصح، ولو صح فقوله صلى الله عليه وسلم:(فليُحَيِّه) يدل على الاستحباب.
واستدلوا بأن السعي ركن، ولا يصح إلا بعد طواف القدوم، فكيف يكون مستحبًّا؟!
والراجح: أن طواف القدوم سُنة وتحية للبيت كتحية المسجد. دل على ذلك أنه يَسقط عن المعتمر والقارن وأهل مكة، ولو كان واجبًا ما سقط عن هؤلاء.
أما مَنْ قال بالوجوب مستدلًّا بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فهذه الآية لا تدل على طواف القدوم، بل تدل على طواف الإفاضة إجماعًا.
(1)
قال الطبري: وَعُنِيَ بِالطَّوَافِ الَّذِي أَمَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَاجَّ بَيْتِهِ الْعَتِيقِ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- طَوَافُ الْإِفَاضَةِ الَّذِي يُطَافُ بِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، إِمَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَإِمَّا بَعْدَهُ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. «تفسير الطبري» (16/ 531).
(2)
البخاري (1641)، ومسلم (235).
(3)
«الهداية في شرح بداية المبتدي» (1/ 139).
وأما الاستدلال بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أتى البيت، فليُحَيِّه بالطواف» فهذا الحديث لم أقف عليه في كتب السُّنة المعتمدة، ولو صح فلفظة (فليُحيِّه) تدل على الاستحباب.
المبحث الثاني: وقت طواف القدوم:
يَبدأ وقت طواف القدوم حين دخول الحاج مكة في أشهر الحج، فعن عائشة قالت:«إنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ» .
هل ينتهي طواف القدوم بالوقوف بعرفة؟
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
الأول: أنه لا يُشْرَع طواف القدوم بعد الوقوف بعرفة؛ وذلك لفوات وقته. وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية وبعض الحنابلة
(1)
.
القول الآخَر: أنه يُشْرَع للمُفْرِد طواف القدوم بعد الوقوف بعرفة، إذا لم يَطُف للقدوم. وبه قال أحمد
(2)
.
والراجح: هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، من أنه لا يطاف للقدوم بعد الوقوف بعرفة لفوات وقته؛ لأن عائشة لما حاضت ولم تَطُف حتى دخل عليها يوم عرفة- قَرنت الحج بالعمرة، ثم طافت بعد أن طهرت للإفاضة، ولم تَطُف للقدوم ولا أَمَرها النبي صلى الله عليه وسلم به. ولو كان طواف القدوم واجبًا لأُمِرَتْ به، بل قال لها صلى الله عليه وسلم:«يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» فدل ذلك على سقوط طواف القدوم عمن وقف بعرفة.
المبحث الثالث: هل يُسْقِط طواف القدوم طواف الإفاضة؟
ذهب جماهير العلماء إلى أنه لا يُكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة، وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جابر وابن عمر وغيرهما من الصحابة- أنه طاف بالبيت طواف الإفاضة يوم النحر.
وفي مذهب مالك يُكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة
(3)
.
(1)
«حاشية ابن عابدين» (3/ 448)، و «مواهب الجليل» (4/ 115)، و «مغني المحتاج» (2/ 242).
(2)
«المغني» (5/ 315)، و «كشاف القناع» (2/ 186)، و «الإنصاف» (4/ 43).
(3)
«التمهيد» (15/ 220).
واستَدل لذلك بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرَادَ الْحَجَّ فَقَالَ: أَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
…
حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ
(1)
. فظاهر الحديث أن ابن عمر لم يَطُف يوم النحر للإفاضة، واكتفى بطواف القدوم عنه.
واعتُرض على هذا الاستدلال بما قاله القرطبي: وقوله: «وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ» يعني الطواف بين الصفا والمروة. وأما الطواف بالبيت فلا يصح أن يقال فيه: إنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة؛ لأنه هو الركن الذي لا بد منه للمُفْرِد والقارِن
…
وقوله: «كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» يعني أنه اكتَفى بالطواف بين الصفا والمروة حين طاف للقدوم، ولم يُعِدِ السعي
(2)
.
وقال ابن القيم: وَمُرَادُهُ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَضَى بِهِ حَجَّهُ وَعُمْرَتَهُ- الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِلَا رَيْبٍ
(3)
.
وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عمر وجابر وغيرهما من الصحابة- أنه طاف بالبيت يوم النحر طواف الإفاضة.
المبحث الرابع: مَنْ الذين يَسقط عنهم طواف القدوم؟
يَسقط طواف القدوم عن أربعة أصناف:
الأول: الحائض والنفساء، إذا استمر دمهما إلى يوم عرفة.
دليل ذلك: ما رواه مسلم: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، حَتَّى جِئْنَا سَرِفَ فَطَمِثْتُ
…
قَالَ: «هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ طَهَرْتُ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَضْتُ
(4)
.
وَجْه الدلالة: أن عائشة رضي الله عنها لم تَطُف للقدوم؛ وذلك أنها حاضت قبل القدوم إلى
(1)
البخاري (1708)، ومسلم (1230) واللفظ له.
(2)
«المُفْهِم» (3/ 357، 358).
(3)
«زاد المعاد» (2/ 132)، و «شرح العمدة» (1/ 558).
(4)
مسلم (1211).
مكة، فأَمَرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفعل ما يفعله الحاج إلا الطواف، ولم تَطهر إلا بعد يوم عرفة، فطافت للإفاضة.
الثاني: المكي، يَسقط عنه طواف القدوم بالإجماع والقياس:
أما الإجماع، فنَقَل ابن عبد البر إجماع العلماء على سقوط طواف القدوم عن المكي
(1)
.
وأما القياس، فإن طواف القدوم شُرِع للقدوم، والمكي في بلده ولم يَقدم.
الثالث: المُعتمِر والمُتمتِّع.
دليل ذلك: أن طواف القدوم يَسقط في طواف العمرة. كمَنْ دَخَل المسجد وقد أُقيمت الصلاة، فإنه يَكتفِي بها عن تحية المسجد.
الرابع: مَنْ قَصَد عرفة رأسًا للوقوف يَسقط عنه طواف القدوم.
دليل ذلك: أن محل طواف القدوم المسنون قبل وقوف عرفة، وقد فات.
النوع الثاني: طواف الإفاضة،
وسيأتي تفصيله في أعمال يوم النحر.
النوع الثالث: طواف العمرة،
طواف العمرة ركن من أركانها.
النوع الرابع: طواف الوداع،
وسيأتي تفصيله في آخر الحج لتوديع البيت.
النوع الخامس: طواف التطوع: وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: فَضْل طواف التطوع:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا فَأَحْصَاهُ، كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ، لَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً» .
عَنِ عَطَاء يَسْأَلُهُ الْغُرَبَاءُ: الطَّوَافُ أَفْضَلُ لَنَا أَمِ الصَّلَاةُ؟ فَيَقُولُ: أَمَّا لَكُمْ فَالطَّوَافُ أَفْضَلُ، إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى الطَّوَافِ بِأَرْضِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ هُنَاكَ عَلَى الصَّلَاةِ
(2)
.
(1)
«الاستذكار» (12/ 194).
وقال ابن رُشد: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. «بداية المجتهد» (2/ 109).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9240) عن ابن جُريج، به.
المبحث الثاني: وقت طواف التطوع:
الطواف جائز في جميع الأوقات، ولو كان ذلك في أوقات النهي، بالإجماع
(1)
.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى- أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» .
المبحث الثالث: التطوع وإهداء ثوابه للغير:
نُقِل الإجماع على جواز إهداء العبادات المالية كالصدقة، عن الميت
(2)
.
واختلفوا في جواز إهداء ثواب الطواف إلى الميت على قولين:
الأول: عدم جواز إهداء ثواب الطواف إلى الميت. وبه قال المالكية، وهو المشهور عند الشافعية
(3)
.
واستدلوا بأنه لم يَرِد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهدى ثواب الطواف للميت، أو أَمَر به.
القول الآخَر: جواز إهداء ثواب الطواف للميت. وهو قول عند الحنفية، وقول للشافعية، وبه قال الحنابلة
(4)
.
واستدلوا بِأَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا»
(5)
. وإذا كان ثواب الحج يصل إلى الميت، فكذا الطواف لأنه جزء منه.
والراجح: عدم جواز الطواف عن الميت؛ لأنه لم يَرِد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويكفي الدعاء له أو يُعتمر أو يُحج عنه، كما ورد بذلك النص.
(1)
قال النووي: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا جَائِزٌ. «المجموع» (8/ 57).
(2)
قال ابن تيمية: العبادات المالية يجوز إهداء ثوابها بلا نزاع. «مجموع الفتاوى» (24/ 306).
(3)
«المُنتقَى» (2/ 63)، و «شرح مسلم» (8/ 25).
(4)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 642)، و «شرح مسلم» (8/ 25)، و «كشاف القناع» (2/ 147).
(5)
البخاري (1852).
الحاصل في أنواع الطواف
أنواع الطواف خمسة:
الأول: طواف القدوم: يُستحب للقارن والمُفْرِد ولمن دخل المسجد الحرام؛ تحيةً للبيت.
الثاني: طواف الإفاضة: وهو ركن من أركان الحج، يأتي به الحاج يوم النحر، بعد رمي جمرة العقبة والحَلْق.
الثالث: طواف الوداع: وهو واجب عند توديع البيت، ومغادرة مكة، ورجوعه بعد فراغه من أعمال الحج. فإن لم يأتِ به الحاج، وجب عليه أن يَجبره بدم، ويَسقط عن الحائض والنُّفَسَاء.
فالطواف في الحج ثلاثة أنواع: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع
(1)
.
الرابع: طواف العمرة: وهو ركن من أركان العمرة، يأتي به المعتمر، ويغني عن طواف القدوم.
الخامس: طواف التطوع: وهو مسنون، وهو من أفضل العبادات لمن دخل مكة. ويُشْرَع في كل وقت، فمتى رغب المسلم في الاستزادة من الخير، طاف حول البيت.
•1•
(1)
قال ابن رُشد: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: طَوَافُ الْقُدُومِ عَلَى مَكَّةَ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ. «بداية المجتهد» (2/ 109).
الفصل الثاني
شروط الطواف
تنقسم شروط الطواف إلى قسمين:
القسم الأول: يتعلق بالطائف:
الشرط الأول: الإسلام.
الشرط الثاني: العقل.
الشرط الثالث: النية.
الشرط الرابع: رَفْع الحَدَث.
الشرط الخامس: إزالة الخَبَث.
الشرط السادس: سَتْر العورة.
القسم الثاني- يتعلق بالبيت (الكعبة):
الشرط الأول: كَوْن الطواف داخل المسجد.
الشرط الثاني: الابتداء من الحَجَر الأسود.
الشرط الثالث: جَعْل البيت عن يساره.
الشرط الرابع: كَوْن الطواف بجميع البيت.
الشرط الخامس: كَوْن الطواف سبعة أشواط.
الشرط السادس: الموالاة بين أشواط الطواف.
القسم الأول: قسم يتعلق بالطائف:
الشرط الأول: الإسلام:
فلا يصح الطواف من الكافر؛ لأن الكافر لا يَقبل الله منه عملًا حتى يَدخل في الإسلام؛ لعموم قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] بل إن الكافر ممنوع من دخول الحرم، فكيف يصح طوافه؟! قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
الشرط الثاني: العقل:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: طواف المجنون:
لا يصح طواف المجنون؛ لأنه رُفِعَ القلم عن المجنون حتى يَعقل، والأعمال بالنيات، فالمجنون لا نية له ولا قَصْد له، فكيف يصح طوافه؟!
المبحث الثاني: طواف الصبي:
يصح طواف الصبي المُميِّز وغير المُميِّز؛ لِما رواه مسلم: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ:«نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»
(1)
. وإذا كان يصح حج الصبي، فيصح طوافه.
الشرط الثالث: النية:
أَجْمَع العلماء على أن النية شرط في صحة الطواف المطلق
(2)
.
واختَلفوا في اشتراط تعيين نية الطواف في الحج والعمرة على قولين:
الأول: أن تعيين النية ليس بشرط. وبه قال الحنفية والشافعية
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (1336).
(2)
قال النووي: إِنْ كَانَ الطَّوَافُ فِي غَيْرِ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، لَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، بِلَا خِلَافٍ. «المجموع» (8/ 16).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 128).
واستدلوا بالسُّنة والقياس.
فَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَحْلِلْ»
(1)
.
وَجْه الدلالة: أن الصحابة قَدِموا من المدينة في حجة الوداع، وهم لا ينوون إلا الحج، فلما فَرَغوا من طواف القدوم والسعي، أَمَرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحَلْق والتحلل وجَعْلها عمرة، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الطواف، مع أن طواف القدوم سُنة وطواف العمرة ركن، فلو كانت النية تُشترط لَمَا صح هذا الطواف.
وأما القياس، فكما أن الصلاة لا يُشترَط لها أكثر من نية واحدة عند تكبيرة الإحرام، ولا تُشترَط النية للأركان كالركوع والسجود، فكذا الحج، لا يُشترَط له أكثر من نية في بَدْء الإحرام:(لبيك حجًّا) ولا يُشترَط نية للطواف ونية لعرفة، بل تَكفي نية واحدة عند الإحرام. وكما أن مَنْ وقف بعرفة بغير نية أو ناسيًا، أجزأه، فكذا طواف الإفاضة.
القول الآخَر: أن تعيين النية في الطواف شرط؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فلو طاف بعد دخول وقت طواف الإفاضة بنية الوداع، لم يجزئ عن طواف الإفاضة. وبه قال بعض المالكية، وهو وَجْه عند الشافعية والحنابلة
(2)
.
والراجح: لا يُشترَط تعيين النية، ولكن يُستحَب؛ وذلك لأن الحج لا يَقتصر على الطواف، وتكون النية في الحج عند الإحرام؛ للأدلة التي ذُكِرَتْ.
وبعض الحُجاج لا يُفَرِّقون بين طواف القدوم والإفاضة والوداع، فهم يطوفون مع الناس. وطوافهم صحيح، والله يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} والله أعلم.
(1)
رواه مسلم (1213).
(2)
«المجموع» (8/ 14)، و «المغني» (3/ 441)، و «الإنصاف» (4/ 9).
الشرط الرابع: الطهارة من الحَدَث:
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تُشترط الطهارة من الحَدَث لصحة الطواف:
اختَلف العلماء في اشتراط ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الطهارة من الحَدَث شرط لصحة الطواف، فمَن طاف مُحْدِثًا لم يصح طوافه؛ لأن الطواف كالصلاة. وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول: أن عائشة لما حاضت وهي مُحْرِمة، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» . وفي رواية لمسلم: «حَتَّى تَغْتَسِلِي» .
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّص لعائشة أن تَفعل وهي حائض جميع ما يفعله الحاج، ولم يَمنعها إلا من الطواف، وجَعَل ذلك مُقيَّدًا باغتسالها وتَطهُّرها، ورَتَّب انتفاء الطواف على انتفاء الطهارة بقوله:«غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» فهذا دليل على أن الطهارة شَرْط لصحة الطواف
(2)
.
الدليل الثاني: أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَا رَسُولَ اللهِ، وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَلْتَنْفِرْ»
(3)
.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» أي أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يُحبَسون ويَمكثون بمكة حتى تطهر صفية وتطوف، فدل ذلك على اشتراط الطهارة من الحَدَث لصحة الطواف.
الدليل الثالث: ما روى البخاري: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً
…
»
(4)
.
ونوقش بأن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فِعل مطلق، وهو لا يدل على الوجوب،
(1)
«المُدوَّنة» (1/ 351)، و «المجموع» (8/ 17)، و «المغني» (5/ 222) و «الإنصاف» (4/ 16).
(2)
قال النووي: وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَاهَا عَنِ الطَّوَافِ حَتَّى تَغْتَسِلَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا نَهَاهَا لِأَنَّ الحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ.
قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «حَتَّى تَغْتَسِلِي» وَلَمْ يَقُلْ: حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُكِ. «المجموع» (8/ 18).
(3)
البخاري (4401)، ومسلم (382 - 1211).
(4)
البخاري (1614)، ومسلم (1235).
فضلًا عن كونه شرطًا في الطواف.
وأجيب عنه: بأن طوافه صلى الله عليه وسلم على طهارة جاء بيانًا وتفصيلًا لمُجْمَل قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ لِبَيَانِ نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَهُوَ عَلَى اللُّزُومِ وَالتَّحَتُّمِ؛ وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ; لِأَنَّ قَطْعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلسَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]
(1)
.
الدليل الرابع: أن الطواف كالصلاة، وإذا كان يُشترَط للصلاة الطهارة من الحدثين، فكذا الطواف. دل على ذلك ما رُوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الطَّوَافُ حَوْلَ البَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ»
(2)
.
القول الثاني: أن الطهارة من الحَدَث في الطواف واجبة، وليست شرطًا لصحته، فمَن طاف مُحْدِثًا أعاد ما دام في مكة، فإِنْ تَعَذَّرَتْ عليه الإعادة لبُعده جَبَره بدم. وهو مذهب الحنفية وبعض المالكية، ورواية عن أحمد
(3)
.
(1)
«المجموع» (8/ 18).
(2)
مدار الحديث على طاوس عن ابن عباس، واختُلف في وقفه ورفعه: ويرويه عن طاوس جماعة:
الأول: عطاء بن السائب، فرواه جَرير بن عبد الحميد عند الترمذي (3/ 93)، والثوري وابن عُيينة، عند الحاكم (1/ 459)، والفُضيل بن عِياض عند الدارمي (1847) فرووه عن عطاء به، مرفوعًا.
وخالفهم ابن فُضَيْل، فرواه عن عطاء موقوفًا. أخرجه ابن أبي شيبة (12806).
ولا شك أن رواية الجماعة أَوْلى بالرفع عن عطاء.
الثاني: ورواه ليث بن أبي سُليم، عن طاوس مرفوعًا، عند الطبراني (11/ 43)، وليث ضعيف.
الثالث والرابع: رواه ابن طاوس وابن مَيْسَرة، عند عبد الرزاق (9789، 9790)، به موقوفًا.
وإذا كان ورد مرفوعًا عن عبد الله بن طاوس عند الطبراني (11/ 340، 341)، فقد قال الحافظ في «التلخيص» (1/ 226): رَفَعه محمد بن عبد الله بن عُبيد بن عُمير، وهو ضعيف.
الخامس: رواه الحسن بن مسلم عن طاوس، موقوفًا عند النَّسَائي (2922).
فالحاصل: رواه عبد الله بن طاوس، والحسن بن مسلم، وإبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، على الوقف، وخالفهم عطاء بن السائب فرفعه، والموقوف أصح.
ورَجَّح الموقوف النَّسَائي والترمذي والبيهقي والنووي وغيرهم، كما في «التلخيص» (1/ 225).
(3)
«بدائع الصنائع» (4/ 69)، و «مواهب الجليل» (3/ 68)، و «المغني» (5/ 213).
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
وَجْه الدلالة: أن الله أَمَر بالطواف، وهو اسم للدوران حَوْل البيت، وذلك يَتحقق مِنْ المُحْدِث والطاهر، وأن الركن لا يَثبت بخبر الواحد
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن الآية عامة، فيجب تخصيصها بما ذُكِر من الأدلة.
الثاني: أن قولهم: (إن الركن لا يَثبت بخبر الواحد) قول باطل؛ لأن النصوص تدل على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من غير تقييد بخبر الواحد، ومِثل هذا قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] فخَصُّوا التوارث بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث الكافر المسلم
…
».
القول الثالث: أن الطهارة من الحَدَث الأصغر في الطواف سُنة، إلا الحيض، فمَن طاف غير متطهر من الحَدَث الأصغر، فطوافه صحيح. وهو قول أحمد في رواية، واختاره ابن تيمية وابن القيم وابن حزم
(2)
.
قال ابن القيم: لم يَنقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أَمَر المسلمين بالطهارة في حجته، مع كثرة مَنْ حج معه، ويَمتنع أن يكون ذلك واجبًا، وتأخير البيان عن وقته ممتنع
(3)
.
واستدلوا بما روى سعيد بن الحُوَيْرِث، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَمْ تَوَضَّأْ؟ قَالَ: «مَا أَرَدْتُ صَلَاةً، فَأَتَوَضَّأَ» .
أما دليلهم من المأثور، فَعَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْتُ حَمَّادًا وَمَنْصُورًا وَسُلَيْمَانَ عَنِ الرَّجُلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا
(4)
.
الراجح: أنه تُشترَط الطهارة من الحَدَث الأكبر والأصغر؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26]، فإذا
(1)
«المبسوط» (4/ 38).
(2)
«الإنصاف» (1/ 217)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 273)، و «المُحَلَّى» (5/ 189).
(3)
«تهذيب السُّنن» (1/ 52، 53). وقال ابن تيمية: فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ فَرْضًا لِلطَّوَافِ، لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا، وَلَوْ بَيَّنَهُ لَنَقَلَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ وَلَمْ يُهْمِلُوهُ. «مجموع الفتاوى» (21/ 273).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (14562) عن غُنْدَر عن شُعبة، به.
وجب تطهير مكان الطائف، فتطهير بدن الطائف من الحدثين الأصغر والأكبر أَوْلى.
ولأن عائشة لما حاضت، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» فالحائض تُمنع من الطواف لوجود الحَدَث.
وكذا وَرَد أن صفية بنت حُيَيٍّ زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت في حَجَّة الوداعِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» أي أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يُحبَسون ويَمكثون بمكة حتى تَطهر صفية وتطوف، فدل ذلك على اشتراط الطهارة من الحَدَث لصحة الطواف.
وعن عائشة قالت: «إنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ» فطواف النبي صلى الله عليه وسلم على طهارة جاء بيانًا وتفصيلًا لمُجْمَل قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وفِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ لِبَيَانِ نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَهُوَ عَلَى اللُّزُومِ.
فدل مجموع هذه الأدلة على وجوب الطهارة من الحدثين لصحة الطواف.
المطلب الثاني: طواف الحائض عند تعذر بقائها، وامتناع رجوعها لمكة:
أَجْمَع العلماء على تحريم الطواف على الحائض
(1)
.
واختَلفوا فيما إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة، وامتَنع رفقتها من انتظارها؛ فهل يَجوز لها أن تطوف للإفاضة وهي حائض؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الحائض ليس لها أن تطوف حتى تطهر؛ إذ إن الطهارة شرط لصحة الطواف. وهو مذهب المالكية والشافعية، وهو الصحيح عند الحنابلة.
الثاني: أن الحائض لها أن تطوف بعد أن تتحفظ من الدم؛ لأن الطهارة واجبة في الطواف، وعليها أن تَفدي. وهو مذهب الحنفية وبعض المالكية، ورواية عن أحمد.
(1)
قال ابن عبد البر: الحائض لا تطوف بالبيت، وهو أَمْر مُجْمَع عليه، لا أعلم فيه خلافًا. «التمهيد» (17/ 266).
وقد نَقَل الإجماع على ذلك: النووي في «المجموع» (2/ 356)، وابن حزم في «المُحَلَّى» (1/ 380)، وابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (21/ 269) وغيرهم كثير.
الثالث: أنه يَجوز للحائض أن تطوف في هذه الحال، ولا دم عليها، بعد أن تتحفظ من الدم. وهو قول أحمد في رواية، واختاره ابن تيمية وابن القيم.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وأن طوافها مع التحفظ هو مدى استطاعتها. وإذا قلنا: إن الطهارة شرط للطواف فهي بمنزلة شروط الصلاة، فشروط الصلاة تَسقط بالعجز، فشروط الطواف من باب أَوْلَى.
ونوقش بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الحيض ليس بمرض ولا عجز، بل شيء كَتَبه الله على بنات آدم.
وكل هذه العمومات لا تُجدي مع وجود نصوص خاصة، فقد ورد أن صفية بنت حُيَيٍّ زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت في حَجَّة الوداع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» .
وأيما أصعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُحبَسون ويمكثون بمكة حتى تَطهر صفية وتطوف؟ أو أن يقال للحائض: أقيمي بمكة مع المَحْرَم، وإن ذهب قومكِ حتى تطوفي وتَطهري؟ وهل هناك ضرورة الآن أشد من ذلك؟! فدل ذلك على اشتراط الطهارة من الحَدَث لصحة الطواف.
المطلب الثالث: استعمال دواء يَمنع نزول الدم أو يرفعه:
هذا لا يخلو من حالتين:
الأولى: أن تَستعمل المرأة أدوية لمنع الحيض في الحج؛ لإتمام النسك.
فهذا الدواء يَمنع نزول الدم قبل نزوله؛ ولذا تكون المرأة في حال طهر مستمر، ولا يقال: إنها في حكم الحائض؛ فالأصل بقاء ما كانت عليه من الطهر، فينبغي للمرأة التي تَشُك أو تَخشى من نزول الدورة في أثناء فترة الحج- أن تحتاط بأخذ ما يَمنع الدورة قبل نزولها، فيَجوز أن تَستعمل المرأة أدوية لمنع الحيض في الحج لإتمام النسك إذا قَرَّر
الدكاترة من أهل الخبرة الأمناء أن ذلك لا يضرها، ولا يؤثر في جهاز حملها
(1)
.
الحالة الثانية: أن يَنزل الدم، ثم تأخذ علاجًا؛ ليرفعه ويوقفه لفترة محدودة، ثم يعود مرة أخرى بعد زوال أثر الدواء.
فهذه الحالة لا تخلو من قسمين:
الأول: إن عَلِمَتْ أن الدواء يَقطع الدم ليوم أو يومين، فستُعتبَر حائضًا في هذه الحال، ولا يُعتبَر ارتفاع الدم في هذه الحال طهرًا.
قال ابن فَرْحُون: وما يفعله النساء من الأدوية لقطع الدم وحصول الطهر، إن عَلِمَتْ أنه يَقطع الدم ليوم ونحوه، فلا يَجوز لها ذلك إجماعًا
(2)
.
القسم الثاني: أما إذا أَخَذَتِ الدواء بعد نزول الدم ليرفعه، فإنها تنظر في توقف الدم: إن كان طهرًا كاملًا بعلاماته الواضحة، فهو طهر، يَجوز لها أن تطوف فيه. أما إذا لم يكن طهرًا صحيحًا بعلاماته، فلا يَجوز لها أن تطوف فيه؛ لأن أيام انقطاع الحيض في وسط أيام الحيض تُعتبَر حيضًا، ولا يَلزم استيعاب الدم مدة الحيض، فالحيض يُعتبَر بأوله وآخِره.
فالحاصل: أنه ينبغي للمرأة التي تَشُك أو تَخشى من نزول الدورة في أثناء فترة الحج- أن تحتاط بأخذ ما يَمنع الدورة قبل نزولها، ولا تؤجل ذلك حتى تَنزل الدورة؛ فتَدخل في اعتبارات دقيقة، وقد لا تَعرفها فتطوف وهي حائض ظنًّا منها أنها طاهرة، والله أعلم
(3)
.
المطلب الرابع: طواف المستحاضة ونحوها:
تطوف المستحاضة ومَن به سلس البول ونحوهما، بالبيت، ولا شيء عليهما.
(1)
«فقه النوازل» (ص: 308).
(2)
«إرشاد السالك إلى أفعال المناسك» (1/ 147).
(3)
«النوازل في الحج» (ص: 326).
قال ابن تيمية: الْمُسْتَحَاضَةَ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ يَطُوفُ وَيُصَلِّي، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
(1)
.
وقال ابن القيم: والمستحاضة يَجوز لها الطواف إذا تَلَجَّمَتْ، اتفاقًا
(2)
.
الشرط الخامس: إزالة الخَبَث:
بعض المرضى يَحمل قسطرة البول، فهل يَجوز لمثل هؤلاء الطواف أم لا؟
حَمْل النجاسة أثناء الطواف لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: مَنْ حَمَل النجاسة عالمًا بها، غير قادر على إزالتها لعذر، كمَن يَحمل قسطرة البول لمرض فيه، أو أصابه سلس بول، أو المستحاضة.
ومَن هذا حاله فقد جَمَع بين أمرين، وهما الحَدَث المستمر، وحَمْل النجاسة. وقد أَجْمَع أهل العلم على عذرهم، وأن صلاتهم وطوافهم صحيحان.
الحالة الثانية: مَنْ طاف حاملًا للنجاسة، كمَن في إحرامه نجاسة وهو لا يدري، فهذا لا يعيد الطواف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جزءًا من صلاته وفي نعليه أذى، ولم يُعِدِ الصلاة.
الثالثة: مَنْ طاف حاملًا للنجاسة عالمًا بها، فلا يصح طوافه
(3)
.
الشرط السادس: سَتْر العورة:
والمراد بسَتر العورة: سَتْر عورة كل من الذَّكَر والأنثى، سَترًا تصح به صلاة كل منهما.
وقد اختَلف أهل العلم في اشتراط سَتر العورة في الطواف، على قولين:
الأول: أن سَتر العورة شرط لصحة الطواف، فلو طاف كاشفًا لعورته فطوافه باطل.
(1)
«مجموع الفتاوى» (26/ 234).
(2)
«إعلام المُوقِّعين» (3/ 21). وقد وقع خلاف في المستحاضة، فقد وردت رواية عن أحمد في المستحاضة: لا تطوف بالبيت، إلا أن تَطول بها الاستحاضة، وقد رُوي عن ابن عمر ما يُشْعِر بمنع المستحاضة من الطواف. «فتح الباري» لابن رجب (2/ 80).
(3)
يُنظر «فتاوى اللجنة الدائمة» (5/ 408)، و «الشرح الممتع» (1/ 280).
وبه قال المالكية والشافعية، وأحمد في رواية
(1)
.
واستدلوا بما روى مسلم: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا؟ تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا، وَتَقُولُ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]
(2)
.
وفي «الصحيحين» : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فِي رَهْطٍ، يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ:«لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»
(3)
.
القول الآخَر: أن سَتْر العورة واجب من واجبات الطواف، فمَن طاف غير ساتر لعورته فعليه دم. وبه قال أبو حنيفة، وهو رواية عند الحنابلة
(4)
.
واستدلوا بأن الله أَمَر بالطواف حول البيت، ولم يُقيِّد ذلك بسَتْر العورة، بقوله:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
واعتُرض عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المُبَيِّن للطواف، وقال:«وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» فدل ذلك على اشتراط ستر العورة للطواف.
والراجح: ما ذهب جمهور العلماء من اشتراط ستر العورة في الطواف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الطواف عُريانًا فقال: «وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» .
(1)
«مواهب الجليل» (4/ 38)، و «المجموع» (8/ 16)، و «المغني» (3/ 222).
(2)
أخرجه مسلم (2320).
(3)
البخاري (1622)، ومسلم (1347) واللفظ له.
(4)
«المبسوط» (4/ 38)، و «المغني» (5/ 223).
القسم الثاني: قسم يتعلق بالبيت (الكعبة)
الشرط الأول: كَوْن الطواف داخل المسجد:
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: لا يصح الطواف خارج المسجد الحرام، ولا في ساحات الحرم الخارجية، بالاتفاق
(1)
.
المطلب الثاني: حُكْم الطواف في الأروقة مع وجود الحوائل، كالسواري ونحوها، في المسجد الحرام. وهل يَجوز التباعد في الطواف ما دام في المسجد؟
نَقَل النووي الإجماع على أنه يجوز التباعد في الطواف ما دام في المسجد
(2)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد اختَلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
الأول: يَجوز التباعد في الطواف ما دام في المسجد، ولا يضر وجود الحوائل كالسواري ونحوها. وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فقد أَمَر الله بالطواف، ولم يأمر بالدنو منه، فمَن طاف من داخل المسجد في أروقة المسجد، فهو طائف.
واستدلوا لذلك بما ورد عن أُم سَلَمَة قالت: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي، قَالَ:«طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» فدل ذلك على أن أُم سَلَمَة لم تَدْنُ من البيت، بل كان بينها وبين الناس مصلون، فهي تطوف من وراء الناس. فدل ذلك على صحة الطواف في أروقة المسجد داخل المسجد وإن تباعد عن البيت، ما دام في المسجد.
القول الآخَر: أنه يجب الدنو من البيت، فلو طاف من وراء السواري فعليه الإعادة ما دام بمكة. وهو مذهب المالكية
(4)
.
(1)
قال ابن المنذر: وأَجْمَعُوا على أن الطواف لا يُجْزئه من خارج المسجد. «الإجماع» (ص: 69).
(2)
قال النووي: يَجُوزُ التَّبَاعُدُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ، بِالإِجْمَاعِ. «المجموع» (8/ 39).
(3)
«المبسوط» (4/ 49)، و «الأُم» (2/ 177)، و «المغني» (5/ 220).
(4)
«المُدوَّنة» (1/ 318)، و «مواهب الجليل» (3/ 80)، و «حاشية الدسوقي» (3/ 33).
والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من صحة الطواف داخل المسجد، وإن تباعد عن البيت. وقد يُستحب التباعد عن الكعبة عند وجود الزحام بالقرب وبالدنو من الكعبة. أما إن كان القرب والدنو ليس فيهما زحام فيُستحب له القرب من الكعبة، واتَّفق العلماء على أن المسجد الحرام وغيره من المساجد إذا وُسِّع، دخلت التوسعة في حكمه.
المطلب الثالث: الطواف على سطح المسجد:
اختَلف العلماء في جواز الطواف على سطح المسجد على ثلاثة أقوال:
الأول: يجوز الطواف على سطح المسجد. وبه قال الحنفية، والشافعية في المشهور، وأحمد في رواية
(1)
.
واستدلوا بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ» فيقال بجواز الطواف والسعي في السطح، وذلك لشبهه بالطواف والسعي راكبًا؛ إذ الكل غير مباشر للأرض في طوافه ولا سعيه.
واستدلوا بالقياس، فكما أن مَنْ كان يَسكن فوق جبل مرتفع عن البيت، يَجوز أن يصلي إلى الكعبة، فكذا يَجوز الطواف في الدور الثاني على سطح المسجد الحرام
(2)
.
وأما المعقول، فإن حقيقة الكعبة هي البناء، وما فوقه من الهواء، ولو انهدم البيت- والعياذ بالله- لصحت الصلاة إلى البقعة، فكذا يصح الطواف على سطح المسجد.
(1)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 529)، و «المجموع» (8/ 43)، و «الإنصاف» (4/ 15).
(2)
قال النووي: لَوْ طَافَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ، صَحَّ، وَإِنِ ارْتَفَعَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ. قَالَ: كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ مَعَ ارْتِفَاعِهِ عَلَى الْكَعْبَةِ. «المجموع» (8/ 39).
وفي «رد المحتار» (1/ 432): لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ الْكَعْبَةُ الَّتِي هِيَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ عَلَى الْأَرْضِ؛ فَهِيَ مِنَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ إِلَى الْعَرْشِ. فَلَوْ صَلَّى فِي الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ وَالْآبَارِ الْعَمِيقَةِ السَّافِلَةِ، جَازَ.
وفي «أبحاث هيئة كبار العلماء» (1/ 30): وقد يُسترشَد فيه بالقرآن وأقوال الفقهاء، قال الله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة].
في هذه الآية خطاب من الله للناس في كل مكان، أن يُوَلُّوا وجوههم قِبل المسجد الحرام، سواء منهم مَنْ كان بأرض منخفضة عن المسجد الحرام، فيكون مُستقبِلًا في صلاته لتُخوم أرضه، ومَن كان منهم بمكان مرتفع عن سطح الكعبة، فيكون مُستقبِلًا لِما فوق الكعبة من الهواء.
فدل ذلك على أن حُكم ما تحت البيت الحرام من تخوم الأرض وما فوقه من الهواء، في استقبال القبلة في الصلاة- حُكْم استقبال البيت نفسه.
القول الثاني: لا يجوز الطواف على سطح المسجد إذا كان ارتفاعه أعلى من ارتفاع الكعبة. وهو اختيار بعض الشافعية
(1)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فأَمَر الله بالطواف بالبيت، فمَن طاف مرتفعًا على بناء البيت لم يكن طائفًا به.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: ما قاله الرافعي، بأنه لو صح قوله لزم منه أن يقال: لو انهدمت الكعبة- والعياذ بالله- لم يصح الطواف حول عَرْصَتها
(2)
.
الثاني: أن البيت يطلق على الكعبة باعتبار البقعة، بقطع النظر عن البناء. وكما أنه يطاف بالبيت، فكذا يصلى إليه وإن كان على جبل أعلى من الكعبة آلاف الأمتار.
واستدلوا بأن الأمكنة المحددة شرعًا لنوع من أنواع العبادات- ليست محلًّا للقياس؛ لأن المناسك مرهونة بأمكنتها وأزمنتها، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بَيَّن الأمكنة التي أنيط بها النسك. فالساعي في المسعى الأعلى الجديد لا يَصدق عليه أنه ساعٍ بين الصفا والمروة، وإنما هو ساعٍ فوقهما.
ونوقش بأن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فالطواف والسعي من الأدوار العليا ليس تحكمًا في مكان النسك ولا تغييرًا له، بل الأحكام الشرعية تُؤكِّد أن الهواء تابع للقرار فيأخذ أحكامه؛ فقد اتَّفَق العلماء على جواز استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة؛ كاستقبال بنائها، فكذا جواز الطواف والمسعى العلوي.
القول الثالث: لا يَجوز الطواف إلا في المسجد القديم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس المسجد بعد توسعته. وهو قول المالكية
(3)
.
واستدلوا بأن الطواف على سطح المسجد طوافٌ خارج المسجد، والطواف خارج
(1)
«الحاوي» (4/ 149)، و «المجموع» (8/ 39).
(2)
«المجموع» (8/ 39).
(3)
«الذخيرة» (3/ 241)، و «التاج والإكليل» (3/ 75).
قال الدردير: الْمُرَادُ بِالسَّقَائِفِ: مَا كَانَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَيْهَا مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ الْآنَ، فَلَا يَجُوزُ الطَّوَافُ فِيهِ لِزَحْمَةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ فِيهَا خَارِجٌ عَنِ الْمَسْجِدِ. «الشرح الكبير» (2/ 33).
المسجد لا يجوز بالاتفاق.
واعتُرض عليه بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الطواف على سطح المسجد طوافٌ داخل المسجد؛ إذ لا يوجد حاجز في السطح بين الطائف والكعبة، أما خارج المسجد فتوجد حواجز تَحُول بين الطائف والبيت.
والراجح: جواز الطواف على سطح المسجد؛ لأن الهواء تابع للقرار. واتَّفق عامة أهل العلم على أن السعي من على السطح له حُكم الطواف.
توسيع المطاف سفلًا (القبو):
قال ابن عابدين: القِبْلَةُ مِنَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ إلَى الْعَرْشِ، فَلَوْ صَلَّى فِي الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ وَالْآبَارِ الْعَمِيقَةِ السَّافِلَةِ، جَازَ كَمَا جَازَ عَلَى سَطْحِهَا وَفِي جَوْفِهَا
(1)
.
المطلب الرابع: المرور بالمسعى حال الطواف:
تمهيد: تَتبُّع تاريخي للتوسعة الحديثة للمسعى.
ظل المسعى على حاله، لم يَطرأ عليه أي تغيير حتى عام (1375) حيث حصلت توسعة للمسعى في عهد الملك فيصل، ونُزِعَتْ فيها مِلكية البيوت والأسواق التي بين المسعى والحرم، وبذلك التصق بناء المسعى من جهة المسجد، وصار كالبناء الواحد.
ثم توسعة الملك خالد، حدثت إصلاحات خلف المسعى.
ثم توسعة الملك فهد، عام (1414 هجرية) تم تهيئة الساحة الشرقية الواقعة خلف المسعى للصلاة، وحُوطت بالسياج والأبواب، واتَّخَذها الناس مُصَلًّى
(2)
.
حُكم المرور بالمسعى حال الطواف:
اتَّفق عامة أهل العلم على أن المسعى قبل دخوله في مبنى المسجد الحرام- كان خارج الحرم، وله أحكامه الخاصة
(3)
.
واختَلف العلماء في المسعى بعد دخوله في مبنى المسجد الحرام، فهل يَدخل المسعى
(1)
«رد المحتار» (1/ 432).
(2)
«حلول الزحام في المناسك» (ص: 143).
(3)
«المبسوط» (2/ 51)، و «الذخيرة» (3/ 252)، و «المجموع» (8/ 83).
في حكم المسجد الحرام، أو أن المسعى مستقل بأحكامه كما كان؟ على قولين:
الأول: أن المسعى بعد دخوله في مبنى المسجد الحرام، وأصبح ضمن جدرانه- لا يأخذ أحكام المسجد الحرام؛ لأنه مَشْعَر مستقل بأحكامه الخاصة. وهو قول المَجْمَع الفقهي وابن باز وابن عثيمين
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمعقول:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
وَجْه الدلالة: أن هذه الآية أثبتت أن الصفا والمروة مَشْعَران مستقلان عن غيرهما، ولهما أحكامهما الخاصة، ولهما عبادة خاصة، ولا يَلزم ملاصقتهما لمَشْعَر آخَر أن يأخذا أحكامه، فالمسعى لا يَزال محلًّا للنسك المشروع فيه، ولم يَحدث فيه إلا البناء، والبناء لا يُغيِّر حكمًا شرعيًّا ثابتًا للبقعة؛ ولذا فقد نَصَّ الفقهاء على أنه لا يجوز إعطاء حكم المسجد لغيره، ولو شاركه في الجدار؛ ولذا لا تُعطَى مدرسة مشتركة مع المسجد في الجدار- حُكْم المسجد من صحة الاقتداء أو جواز الاعتكاف.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: كَوْن مَشْعَر المسعى مستقلًّا بأحكامه لا يَمنع أن يأخذ أحكام المسجد، إذا قام السبب الشرعي المقتضي لذلك، مع بقاء الحُكم الشرعي الثابت لمَشْعَر المسعى؛ إذ لا منافاة بينهما.
(1)
قرار المَجْمَع الفقهي بمكة (ص: 77) بالأغلبية- أن المسعى بعد دخوله ضمن مبنى المسجد الحرام لا يأخذ حُكم المسجد ولا تشمله أحكامه؛ لأنه مَشْعَر مستقل، يقول الله عز وجل:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]
وقد قال بذلك جمهور الفقهاء، ومنهم الأئمة الأربعة. وتَجوز الصلاة فيه مُتابَعة للإمام في المسجد الحرام، كغيره من البقاع الطاهرة. ويَجوز المكث فيه والسعي للحائض.
وكذا فإن مجلس هيئة كبار العلماء رأى بالأكثرية عدم جواز الطواف فوق جزء من سطح المسعى؛ لأن المسعى يُعتبَر خارج المسجد الحرام، وليس جزءًا منه، بل هو مَشْعَر مستقل بأحكامه، وما يُؤدَّى فيه من عبادات والطواف إنما هو في المسجد الحرام؛ لقول الله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . «توضيح الأحكام من بلوغ المرام» (4/ 147) و «فتاوى ابن عثيمين» (22/ 289).
الثاني: أن التصاق بناء مَشْعَر المسعى ببناية المسجد الحرام، وتهيئة الساحة الشرقية الواقعة خلف المسعى للصلاة، وتحويطها بالسياج والأبواب، واتخاذ الناس لها مصلى- يَجعل المسعى جزءًا من المسجد الحرام عرفًا.
وأما السُّنة، فاستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» دل الحديث على جواز السعي للحائض؛ لأنها لم تُمنع إلا من الطواف بالبيت، فدل ذلك على أن أحكام المسعى تختلف عن أحكام البيت. ولأن عامة العلماء على أن مَنْ طافت ثم حاضت، جاز لها أن تسعى بين الصفا والمروة، ولو كان المسعى من المسجد لما أجازوا ذلك.
وأما المعقول، فهو أن المسعى محدود المعالم، وهو منسك متميز عن الكعبة والمسجد الحرام.
القول الآخَر: أن المسعى بعد دخوله في مبنى المسجد الحرام، وأصبح ضمن جدرانه، أن له أحكامه، من جواز الطواف والاعتكاف
…
وغير ذلك من أحكام المساجد.
واستدلوا بالقياس من وجهين:
الأول: أن حُكْم الزيادة هو حُكْم المُزاد فيه، ولذلك أمثلة، فحينما وَسَّع الصحابة المسجد النبوي، أَعْطَوُا الزيادة حُكْم المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المضاعفة والفضيلة.
ونوقش بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن المسعى مَشْعَر مستقل بذاته، له أحكامه الخاصة، لا يتبع غيره. بينما ما زِيد في المسجد الحرام لم يكن قبل الزيادة مَشْعَرًا، فلما أُدْخِلَ فيهما دخل في أحكامهما؛ ولذا لا يُغيِّر البناء أو غيره من أحكام المسعى شيئًا.
الثاني: أن ما اتصل من الزوائد بالأصل اتصال قرار وتَمَاسّ- يشمله حُكْم واحد في الجملة. ومن أمثلة ذلك: الصفوف إذا اتصلت صحت المتابعة، ولو امتدت خارج المسجد. وكذلك الطواف من وراء حائل، لا يصح إلا مع وجود اتصال الزحام، فكذا المسعى عندما اتصل بالمسجد الحرام يأخذ حكمه.
ونوقش بأن المسعى محدود المعالم، معلوم مميز، مفصول عن المسجد بجدار قصير يوضحه ويبينه.
وأما قولهم: (إذا اتصلت الصفوف صحت المتابعة، ولو امتدت خارج المسجد)
فيدل على أن المسعى لا يكون تابعًا للمسجد إلا إذا حصلت الحاجة المَاسَّة للطائفين بالمرور فيه.
والراجح: أن المسعى مَشْعَر مستقل، له أحكامه الخاصة، ومع هذا فلا يُمنع الطائف من المرور بالمسعى أثناء طوافه في حال الحاجة المُلِحة والزحام الشديد. وأما في حال عدم الحاجة، فلا يَجوز مرور الطائف؛ لأنه مَشْعَر مستقل بأحكامه الخاصة. وهذا القول هو الذي يَجمع بين الأدلة، ويَرفع الحرج عن المكلفين، والله أعلم.
الشرط الثاني: الابتداء من الحَجَر الأسود:
اختَلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الابتداء من الحَجَر الأسود شَرْط لصحة الطواف، وأن الشوط الذي يكون بعد الحَجَر باطل ولا يجزئ. وبه قال بعض الحنفية والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بما ورد في «الصحيحين» : عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ، أَوَّلَ مَا يَطُوفُ
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن الله أَمَر بالطواف بالبيت العتيق بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ولم يُحدِّد مكان الابتداء، فبَيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وابتدأ بالحَجَر الأسود، وقد أَمَر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به، فقال:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» فدل ذلك على أن الابتداء من الحَجَر الأسود شرط لصحة الطواف. وذلك مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] وقد بَيَّن صلى الله عليه وسلم بفعله الصلاة، وقال:«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
القول الثاني: أن الابتداء من الحَجَر الأسود واجب، فلو تَرَكه فإنه يَجبره بدم إذا رجع إلى بلده، ويَلزمه الإعادة ما دام في مكة. وهو قول لأبي حنيفة، ومالك
(3)
.
واستدلوا بأن الله أَمَر بالطواف بالبيت، ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم الابتداء من الحَجَر الأسود تدل على وجوبه.
(1)
«المجموع» (8/ 44)، و «الإنصاف» (4/ 19).
(2)
البخاري (1603)، ومسلم (1261) وفي الباب عن جابر في حديثه الطويل عند مسلم
(3)
«شرح فتح القدير» (2/ 453، 455)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 31).
القول الثالث: أن الابتداء من الحَجَر الأسود سُنة، ولكن على أن ينتهي الشوط الأول من حيث ابتدأ. وبه قال أبو حنيفة في المشهور عنه
(1)
.
والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء، من أن الابتداء من الحَجَر الأسود شرط لصحة الطواف، وأن الشوط الذي يُبتدأ به بعد الحَجَر الأسود باطل؛ لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«خذوا عني مناسككم» .
مشروعية الخط المشير إلى الحَجَر الأسود في صحن المطاف:
اختَلف أهل العلم في مشروعية الخط المشير إلى الحجر على قولين:
القول الأول: أن هذا الخط بدعة. وهو قول بكر أبو زيد.
واستَدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم حج في العام العاشر، وحَجَّ معه مِائة ألف، ولم يضع النبي صلى الله عليه وسلم علامة يَستدلون بها على محاذاة الحَجَر الأسود، ولو كان يَجوز ذلك لفَعَله النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الآخَر: أن هذا الخط مشروع. وهو قول ابن عثيمين.
وهذه المسألة لا داعي للإطالة فيها؛ لأن هذا الخط قد أزيل بحمد الله، وقد ترتب على إزالته تخفيف الزحام وراحة للحُجاج. ولا شك أن هذا ببركة اتباع سُنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والآن توجد لمبة خضراء تشير للمحاذاة، ومعرفة بداية الطواف ونهايته.
ويُقترح أن تُحسَب مسافة المحاذاة، وتوضع على طولها لمبات خضراء تشير للمحاذاة، على الجدار الذي يحاذي الحَجَر، والله أعلم.
الشرط الثالث: جَعْل البيت عن يساره:
أَجْمَع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف، جَعَل البيت عن يساره ثم مشى عن يمينه.
دل على ذلك ما رواه جابر رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا.
ولكن اختَلف العلماء في اشتراط جعل البيت عن يسار الطائف:
فذهب جمهور العلماء إلى أن جعل البيت عن يسار الطائف شرط لصحة الطواف. ومَن جَعَل البيت عن يمينه، وطاف عكس اتجاه الطائفين، فإن طوافه باطل. وبه قال
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 130)، و «شرح فتح القدير» (2/ 453).
الحنفية في قول، والمالكية والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بأن الله أَمَر بالطواف بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم جاعلًا البيت عن يساره، وهو المُبَيِّن لِما أُنْزِلَ إليه. ولو كان يجوز أن يُجْعَل البيت عن يمين الطائف، لفَعَله النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة لبيان الجواز، فلما لم يَفعل عُلِم أن جعل البيت عن يسار الطائف شرط لصحة الطواف
(2)
.
الشرط الرابع: أن يكون الطواف حول البيت:
دل على هذا الشرط قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، المأمور به الطواف حول البيت، فإذا مَرَّ مِنْ داخل الحِجْر، فلا يجزئ لأنه طواف من داخل البيت.
رَوَى أبو داود عن عائشة قالت: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي، فَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ:«صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِذَا أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ قطْعَةٌ مِنَ الْبَيْتِ؛ فَإِنَّ قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ، فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْتِ»
(3)
.
قال ابن قُدامة: فَمَنْ تَرَكَ الطَّوَافَ بِالْحِجْرِ، لَمْ يَطُفْ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبِنَاءِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ، وَقَدْ قَالَ عليه السلام:«لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»
(4)
.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 130)، و «مواهب الجليل» (3/ 69)، و «المجموع» (8/ 14)، و «المغني» (3/ 23).
وذهب الحنفية إلى أن جعل البيت عن يسار الطائف واجب، وليس شرطًا، «قتح القدير» (2/ 130).
وذهب داود الظاهري إلى أنه سُنة. واستَدل بعموم الآية: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] سواء جَعَل البيت عن يساره أو يمينه.
(2)
قال ابن تيمية: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّائِفَ يَبْتَدِئُ فِي مُرُورِهِ بِوَجْهِ الْكَعْبَةِ، فَإِذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ أَخَذَ إِلَى جِهَةِ يَمِينِهِ، فَيَصِيرُ الْبَيْتُ عَنْ يَسَارِهِ وَيُكْمِلُ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ. وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّهَا، وَتَوَارَثَتْهُ فِيمَا بَيْنَهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، كَمَا فَسَّرَ أَعْدَادَ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتِهَا. «شرح العمدة» (2/ 439).
(3)
«سُنن أبي داود» (4/ 91).
(4)
«المغني» (5/ 230). وقال النووي: واستدلوا بأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ خَارِجَ الْحِجْرِ، وَهَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّوَافِ خَارِجَ الْحِجْرِ. فَالْمُعْتَمَدُ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَبَ الطَّوَافُ بِجَمِيعِهِ. «المجموع» (8/ 25).
الحِجْر والشاذَرْوان
الحِجْر وهو محوط مدور بجدار قصير، على نصف دائرة تحت الميزاب، تَرَكَتْه قريش لَمَّا قصرت بهم النفقة، وهذا الجدار القصير يطلق عليه الشاذَرْوان، وعَرْضه ذراع
(1)
.
ولا يصح الطواف إلا من وراء الحِجْر والشاذَرْوان، على قول جمهور العلماء، فإن طاف ماشيًا على الجدار القصير- الشاذَرْوان- ولو في خطوة، لم تصح طوفته تلك؛ لأنه طاف في البيت لا بالبيت
(2)
.
الشرط الخامس: كَوْن الطواف سبعة أشواط:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: اشتراط أن يكون الطواف بالبيت سبعة أشواط:
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يصح الطواف إلا بإتمام سبعة أشواط. فمَن طاف ستًّا أو خمسًا، لم يصح طوافه ولم يُعْتَدّ به. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
وَجْه الدلالة: أن الله أَمَر بالطواف ببيته العتيق، ولم يُبيِّن العدد المجزئ في ذلك، فجاء البيان بفعله صلى الله عليه وسلم إذ طاف سبعة أشواط، وقال:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» فدل ذلك على أن الطواف سبعة أشواط، فلا يجوز النقص منه كالصلاة.
وأما السُّنة، فقد وردت الأحاديث المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه طاف سبعًا، منها ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:«قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا» .
القول الآخَر: أن إتمام سبعة أشواط في الطواف ليس بشرط لصحته، وأنه لو طاف خَمْسًا صح طوافه، فيَدخل في عموم قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فالأمر بالطواف مطلق ولا يقتضي التَّكرار. ويُجْبَر ما تُرِك منها بدم. وبه قال الحنفية
(4)
.
(1)
«هداية السالك» (2/ 286)، و «المجموع» (8/ 24)، و «الموسوعة الكويتية» (25/ 314).
(2)
«مواهب الجليل» (3/ 70)، و «الأم» (2/ 176)، و «المغني» (3/ 221).
(3)
«المُدوَّنة» (1/ 317)، و «المجموع» (8/ 28)، و «الإنصاف» (4/ 19).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 132)، و «المبسوط» (4/ 43)، و «البناية» (4/ 359).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن مطلق الأمر في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بفعله، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا. وذلك مِثل قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] وقد بَيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة الصلاة.
الثاني: أَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا.
والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء، من أنه لا يصح الطواف إلا بإكمال سبعة أشواط؛ لِما روى البخاري عن ابن عمر قال: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا. ولأن مقادير العبادات لا تُعْرَف بالرأي والاجتهاد، فصلاة الظُّهر أربع، فكذا الطواف سبعًا.
المبحث الثاني: الشك في الطواف:
مَنْ شك في عدد الأشواط التي طافها لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون كثير الوسواس والشك في عبادته، فلا يَلتفت إليه.
الثانية: أن لا يَطرأ عليه الشك بعد الفراغ من الطواف، فلا يَلتفت إليه ما لم يتيقن الآخَر، فيَعمل بمقتضى يقينه
(1)
.
الثالثة: أن يَشك أثناء الطواف، مثل أن يَشك: هل هذا الشوط هو السادس أو السابع؟
قال ابن المنذر: أَجْمَع العلماء على أن مَنْ شك في عدد طوافه أنه يَبني على اليقين، أي: أنه إذا شك هل هذا هو الشوط السادس أو السابع، فإنه يَعمل باليقين فيأخذ بالأقل.
قلت (محمد): ولكن هذا الإجماع منخرم؛ فإنما هذا قول جمهور أهل العلم، واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى؟ ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ»
(2)
.
القول الآخَر: أنه يَحسب على غالب الظن، فإِنْ غَلَب على ظنه أنه طاف سبعًا، وشَكَّ
(1)
«المجموع» (8/ 21).
(2)
أخرجه مسلم (571). وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا طُفْتَ بِالْبَيْتِ، فَلَمْ تَدْرِ أَأَتْمَمْتَ أَمْ لَمْ تُتِمْ، فَأَتِمَّ مَا شَكَكْتَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ عَلَى الزِّيَادَةِ. أخرجه ابن أبي شيبة (13524) وفي إسناده الحارث الأعور، ضعيف.
هل كان ستًّا، فإنه يَبني على غالب ظنه. وهذا رواية عن أحمد، واختيار ابن تيمية
(1)
.
واستُدل لهذا القول بما ورد في عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»
(2)
.
والراجح: أنه إذا شك هل هذا هو الشوط السادس أو السابع؟ فإنه يَعمل باليقين فيأخذ بالأقل ثم يَبني عليه.
الشرط السادس: الموالاة بين الأشواط:
أَجْمَع العلماء على أنه يجوز قطع الطواف لصلاة الفريضة
(3)
.
واختلفوا في اشتراط الموالاة بين الأشواط على قولين:
القول الأول: أنه تُشترَط الموالاة لصحة الطواف، إلا إذا كان القطع يسيرًا لحاجة، كالقعود اليسير أثناء الطواف للاستراحة، أو حضور صلاة، فله أن يصلي ثم يُكْمِل الطواف. وأما مَنْ طاف شوطًا، ثم ذهب فتَعَشَّى أو جلس ساعة، أعاد وابتدأ من جديد.
وبه قال المالكية، وهو رواية عند الشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والى في طوافه، وقال:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» .
القول الآخَر: أنه لا تُشترَط الموالاة بين الأشواط، وأن الموالاة سُنة، فلو قَطَع الأشواط لغير عذر، فنام ساعة أو تَعَشَّى، ثم أكمل الباقي؛ كُرِه له ذلك وصح طوافه. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في الجديد، وأحمد في رواية
(4)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة والمأثور:
أما القرآن، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فالله
(1)
«المغني» (2/ 406).
(2)
أخرجه البخاري (401).
(3)
فذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز قطع الطواف لصلاة الجنازة، ويَبني على طوافه. كما في «المجموع» (8/ 47)، و «المغني» (3/ 317).
وذهب مالك إلى أنه لا يَجوز الطواف لأي صلاة غير مفروضة كصلاة الجنازة، وإِنْ قَطَعه لغير الفريضة استأنف الطواف من أول أشواطه. «المدونة» (1/ 317).
والراجح: أنه يَجوز قطع الطواف لصلاة الجنازة، ويَبني على طوافه.
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 130)، و «المجموع» (8/ 47)، و «الإنصاف» (4/ 17).
أَمَر بالطواف حول البيت، ولم يأمر بالموالاة.
واعتُرض عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المُبَيِّن لِما أُنْزِلَ إليه قد والى بين الأشواط. ولو كان يَجوز ترك الموالاة لبَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان ربك نسيًّا.
وأما السُّنة، فاستدلوا بما رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الطَّوَافِ، وَدَخَلَ السِّقَايَةَ فَاسْتَسْقَى، فَسَقَى فَشَرِبَ ثُمَّ عَادَ، وَبَنَى عَلَى طَوَافِهِ
(1)
.
ونوقش: بأن هذا النص لم أجده في كتب السُّنة المعتمدة، ولو صح فإِنَّ هذا قطع يسير، لا يضر ولا يَقطع الموالاة.
وأما دليلهم من المأثور: فعَنْ جَمِيلِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ طَافَ بِالْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَسْتَرِيحُ، وَغُلَامٌ لَهُ يَرُوحُ عَلَيْنَا، ثُمَّ قَامَ فِينَا عَلَى طَوَافِهِ
(2)
.
والراجح: أن الموالاة شرط لصحة الطواف، فمَن تَرَكها لم يصح طوافه، إلا إذا كان القطع يسيرًا، كمَنْ جلس ليستريح أو ليشرب، أو حضرت صلاة وهو يطوف، فصلاها ثم أكمل طوافه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف متواليًا، وهو المُبيِّن لِما أُنْزِلَ إليه، ولم يَرِد أنه صلى الله عليه وسلم قَطَع الطواف، ولو كان جائزًا لبَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.
•1•
(1)
نَقَله الكاساني في «بدائع الصنائع» (2/ 130).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (15200). وفي إسناده جميل بن زيد، وإن كان ضعيفًا إلا أن روايته هنا تدل على حفظه لها.
الفصل الثالث: سُنن الطواف:
للطواف إحدى عَشْرة سُنة:
السُّنة الأولى: الطواف ماشيًا. وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: أَجْمَع العلماء على أن طواف الماشي أفضل من طواف الراكب.
المطلب الثاني: جواز طواف الراكب من عذر.
المطلب الثالث: هل طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع راكبًا أم راجلًا؟
المطلب الرابع: حُكْم الطواف راكبًا من غير عذر.
المطلب الخامس: حُكْم الطواف على السير الكهربائي لو وُجِد.
المطلب السادس: الطواف بالطائرة.
السُّنة الثانية: الاضطباع. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: صفة الاضطباع.
المطلب الثاني: حُكْم الاضطباع.
المطلب الثالث: مَنْ يُسَن له الاضطباع.
السُّنة الثالثة: الرَّمَل. وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: معنى الرَّمَل.
المطلب الثاني: حُكْم الرَّمَل.
المطلب الثالث: هل الرَّمَل من الحَجَر إلى الحَجَر؟
المطلب الرابع: مَنْ لا يُشْرَع له الرَّمَل.
المطلب الخامس: حُكْم الرَّمَل مع الازدحام الشديد.
السُّنة الرابعة: استلام الحَجَر الأسود في بداية الطواف. وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: فَضْل الحَجَر الأسود.
المطلب الثاني: استحباب تقبيل الحَجَر الأسود.
المطلب الثالث: استلام الحَجَر وتقبيله.
المطلب الرابع: حُكْم استلام الحَجَر الأسود من غير طواف.
المطلب الخامس: عدم الوقوف في محاذاة الحَجَر الأسود في كل شوط.
المطلب السادس: استحباب استلام الحَجَر بعصًا.
المطلب السابع: استحباب الإشارة إلى الحَجَر
المطلب الثامن: حُكْم السجود على الحَجَر.
المطلب التاسع: محاذاة الحَجَر الأسود بجميع البدن في ابتداء الطواف.
السُّنة الخامسة: التكبير في بداية الطواف.
السُّنة السادسة: استلام الركن اليماني.
السُّنة السابعة: استحباب الإكثار من الذِّكر والدعاء وقراءة القرآن. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: استحباب الإكثار من الذِّكر في الطواف.
المطلب الثاني: استحباب الدعاء أثناء الطواف.
المطلب الثالث: الدعاء عند المُلتزَم.
المطلب الرابع: لا يُستحب الدعاء تحت الميزاب بعد الطواف.
السُّنة الثامنة: الدنو من البيت.
السُّنة التاسعة: صلاة ركعتين خلف المَقام بعد الطواف. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حُكْم ركعتي الطواف.
المطلب الثاني: مكان أداء ركعتي الطواف.
المطلب الثالث: وقت أداء ركعتي الطواف.
السُّنة العاشرة: استحباب استلام الحَجَر الأسود بعد الصلاة خلف المَقام.
السُّنة الحادية عَشْرة: الشرب من ماء زمزم بعد الطواف.
السُّنة الأولى: الطواف ماشيًا: وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: أَجْمَع العلماء على أن طواف الماشي أفضل من طواف الراكب
(1)
.
المطلب الثاني: جواز طواف الراكب من عذر.
قال ابن عبد البر: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ في أن مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوِ اشْتَكَى مَرَضًا- أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الرُّكُوبُ فِي طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ، وَفِي سَعْيِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
(2)
.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ:«طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ البَيْتِ، يَقْرَأُ بِ «الطُّورِ»
(3)
.
المطلب الثالث: هل طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع راكبًا أم راجلًا؟
وردت أحاديث في طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا على الراحلة.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ»
(4)
.
ووردت أحاديث في طواف النبي صلى الله عليه وسلم راجلًا على قدميه.
منها ما ورد عن ابن عمر: فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعًا
(5)
.
وقد جَمَع العلماء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم طاف في حجته ثلاثة أطوفة: طواف القدوم وطواف الإفاضة وطواف الوداع، فطاف للقدوم على قدميه، وطاف للإفاضةراكبًا على بعيره
(6)
.
(1)
«المجموع» (8/ 36).
(2)
«التمهيد» (13/ 99). ونَقَل الإجماع على ذلك: الباجي في «المُنتقَى» (2/ 295)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 249)، وابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (26/ 188)، وغيرهم.
(3)
البخاري (464)، ومسلم (1276).
(4)
البخاري (1607)، ومسلم (1272) ويَشهد له حديث جابر وعائشة، وكلاهما عند مسلم.
(5)
البخاري (1691) وله شاهد عن جابر عند مسلم (1218).
(6)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَمَّا سَبْعُهُ الَّذِي طَافَ لِمَقْدِمِهِ فَعَلَى قَدَمَيْهِ. «الأُم» (2/ 190).
وقال ابن عبد البر: وَالْوَجْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي طَوَافِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاكِبًا- أَنَّهُ كَانَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ. «التمهيد» (2/ 94). وكذا قال ابن القيم في «زاد المعاد» (2/ 229).
المطلب الرابع: حُكْم الطواف راكبًا من غير عذر.
اختَلف العلماء على ثلاثة أقوال في حُكم مَنْ طاف راكبًا مع قدرته على المشي:
القول الأول: أن الطواف ماشيًا مع القدرة سُنة. وبه قال الشافعية، ورواية للحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما القرآن، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
وَجْه الدلالة: أن الله أَمَر بالطواف مطلقًا، فكيفما طاف ماشيًا أو راكبًا أجزأه.
وأما السُّنة، ففي «الصحيحين»: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ» فالنبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا من غير حاجة، فهذا بيان للجواز.
ونوقش بأن طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا كان لشكوى أَلَمَّتْ به. دل على ذلك ما ورد عن ابن عباس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ وَهُوَ يَشْتَكِي، فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ
(2)
.
وأجيب عنه بأن هذا الحديث ضعيف، وأن الأحاديث الصحيحة الثابتة مُصرِّحة بأن طوافه صلى الله عليه وسلم راكبًا لم يكن لمرض، بل كان ليراه الناس، ويسألوه، ولا يُزاحِموا عليه
(3)
.
وقد روى مسلم: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: «طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ»
(4)
.
القول الثاني: أن المشي مع القدرة واجب، فمَن طاف راكبًا مع القدرة جَبَر ذلك بدم. وهو مذهب الحنفية، والمالكية في المشهور، ورواية عن الحنابلة
(5)
.
(1)
«الأم» (2/ 174)، و «الحاوي» (4/ 151)، و «المغني» (5/ 250)، و «المُحَلَّى» (7/ 180).
(2)
ضعيف: أخرجه أبو داود (1883)، وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن أبي زياد، وقد تَفَرَّد به.
(3)
«المجموع» (8/ 27).
(4)
ويدل على هذا المعنى: ما ورد عن أبي الطُّفَيْل قال: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْبِرْنِي عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ قَالَ:
…
إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ
…
فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ. وَالْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ.
(5)
«بدائع الصنائع» (2/ 130 - 134)، و «المدونة» (2/ 409)، و «الإنصاف» (4/ 131).
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وحقيقة الطواف هي المشي حول البيت، وليس الراكب بطائف، بل الطائف حقيقةً مركوبه، وهو في حكمه، فأوجب ذلك نقصًا، فوجب جبره بالدم.
ونوقش بأن الله أَمَر بالطواف مطلقًا، فكيفما طاف ماشيًا أو راكبًا أجزأه.
وأما السُّنة، فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي، فقال:«طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ»
(1)
.
وَجْه الاستدلال: أن الركوب لغير عذر في الطواف لو كان جائزًا، لَمَا استأذنت أُم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبَيَّنَتْ شكواها، مما يدل على أن الطواف راكبًا لا يَسوغ إلا بعذر.
ونوقش بأن هذا الاستدلال يتم إن لم يكن في الباب غير هذا الحديث، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، وفِعله صلى الله عليه وسلم يدل على الإباحة، وهذا الحديث فيه إشارة إلى أن الطواف ماشيًا أفضل، وهذا متفق عليه.
القول الثالث: أن المشي مع القدرة شرط لصحة الطواف، فمَن طاف راكبًا وهو يستطيع أن يطوف ماشيًا، فطوافه باطل، ولا يُعتد به. وبه قال مالك في رواية، وأحمد في الرواية المشهورة عنه
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فاستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الطَّوَافُ حَوْلَ البَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ» وإذا كان من أركان الصلاة القيام مع القدرة في الفريضة، ولا تصح فريضةُ مَنْ صلى جالسًا مع القدرة على القيام، فكذا مَنْ طاف راكبًا وهو يستطيع أن يطوف ماشيًا، فطوافه باطل.
ونوقش بأن هذا الحديث لا يصح. ولو صح فقياس الطواف على الصلاة فيه نظر؛ لأن القيام في الصلاة مع القدرة ركن بالإجماع، بخلاف الطواف، فقد ثَبَتَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا من غير عذر.
(1)
البخاري (464)، ومسلم (1276).
(2)
«التمهيد» (2/ 95)، و «المغني» (5/ 250)، و «الإنصاف» (4/ 12)، و «كشاف القناع» (4/ 481).
وأما المأثور، فَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: طَافَ رَجُلٌ بِالْبَيْتِ عَلَى فَرَسٍ فَمَنَعُوهُ، فَقَالَ: أَتَمْنَعُونِي أَنْ أَطُوفَ عَلَى كَوْكَبٍ؟! قَالَ: فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَكَتَبَ عُمَرُ:«أَنِ امْنَعُوهُ»
(1)
.
ونوقش بأنه لا يصح لانقطاعه. ولو صح فقد يكون المنع لأجل ما في الخيل من الخُيَلاء والتعاظم.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: إِنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَرَكَتِ الْعُمْرَةَ سَنَتَيْنِ، فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُنِي إِلَّا الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَرْكَبَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
(2)
.
ونوقش بأنه غير صريح في الوجوب، فضلًا عن الشرطية.
والراجح: أن الطواف والسعي ماشيًا سُنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا.
قال ابن المُنذِر: لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا، فَكَيْفَمَا أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الطَّوَافَ رَاجِلًا أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَافُوا مَشْيًا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ طَافَ مَشْيًا
(3)
.
المطلب الخامس: حُكْم الطواف على السير الكهربائي لو وُجِد.
هنا لا بد من التفريق بين أمرين:
الأول: أنه يَجوز الطواف راكبًا ومحمولًا على السير الكهربائي؛ لعُذْر من مرض وغيره، ولا سيما إذا وُجدت الحاجة واشتد الزحام.
الثاني: أن المشي في الطواف والسعي مع القدرة أفضل من الركوب بالإجماع.
المطلب السادس: الطواف بالطائرة.
من أسباب الزحام في المواسم: طواف بعض رؤساء الدول والأمراء، ومَن يَحتاج طوافهم إلى إجراءات أمن خاصة. ومِن الحلول الممكنة لتخفيف ذلك: جواز أدائهم شعيرة الطواف بالطائرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت على بعير. والطواف بالطائرة يُشْبِه
(1)
إسناده ضعيف لانقطاعه: أخرجه الأزرقي في «أخبار مكة» (2/ 15)، والفاكهي في «أخبار مكة» (476).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (1425).
(3)
«المغني» (5/ 250).
الطواف راكبًا؛ فإن كلًّا منهما نسك أُدِّي من غير مباشرة الأرض.
ونوقش بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن راكب العربة مستقر على الأرض، أَشْبَه الواقف، بخلاف راكب الطائرة، فهو مستقر بالهواء وغير مستقر بالأرض.
وأجيب بأن الهواء تابع للقرار؛ ولذا يجوز استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة. ولأن الطائف بالطائرة يَصدق عليه عُرفًا أنه طاف بالبيت.
شروط جواز الطواف بالطائرة:
يُشترط لذلك ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون الطواف حول الكعبة، وليس من داخلها، وإلا يَبطل الطواف إجماعًا؛ لعموم قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
الثاني: أن يكون الطواف بالطائرة محاذيًا للطائفين حول الكعبة؛ لأنه لو اتسعت دائرة الطواف بالطائرة، لأدى ذلك إلى الطواف خارج المسجد، وهذا لا يَجوز إجماعًا.
الثالث: أن يكون ذلك مُقيَّدًا في حال العذر؛ حتى لا تكون المناسك والشعائر مسرحًا، بما لا يتناسب مع قدسيتها وشَرَفها
(1)
.
السُّنة الثانية: الاضطباع: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: صفة الاضطباع:
قال النووي: وَالِاضْطِبَاعُ أَنْ يَجْعَلَ وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ، عِنْدَ إبْطِهِ، وَيَطْرَحَ طَرَفَيْهِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَيَكُونَ مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا
(2)
.
المطلب الثاني: حُكْم الاضطباع:
اختَلف أهل العلم في حُكْم الاضطباع على قولين:
القول الأول: أن الاضطباع سُنة. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(3)
.
(1)
«حلول الزحام في المناسك» (ص: 163).
(2)
«المجموع» (8/ 13)، و «المغني» (5/ 216)، و «الموسوعة الكويتية» (5/ 109).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 147)، و «المجموع» (8/ 19)، و «كشاف القناع» (2/ 477).
واستدلوا بالسُّنة: فَعَنْ يَعْلَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ طَافَ مُضْطَبِعًا
(1)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، قَدْ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى
(2)
.
(3)
.
القول الآخَر: أن الاضطباع مكروه. وبه قال الإمام مالك
(4)
.
واستَدل الإمام مالك بأن العلة التي استُحب الاضطباع من أجلها- قد زالت؛ فالاضطباع شُرِع لإظهار الجَلَادة والقوة للمشركين، وقد خلت مكة من الكفار.
(1)
إسناده صحيح، ومداره على سفيان عن ابن جُرَيْج، واختُلف عنه:
فرواه محمد بن يوسف، عند الدارمي (1974)، وقَبيصَة عند الترمذي (859) كلاهما قالا: حدثنا سفيان الثوري، عن ابن جُرَيْجٍ، عن عبد الحميد بن جُبَيْر- وهو ثقة- عن ابن يَعْلَى، عن أبيه، به.
ورواه محمد بن كَثِير عند أبي داود (1883) ووَكيع عند أحمد (17969) كلاهما عن الثوري به، بإسقاط عبد الحميد بين ابن جُرَيْر وابن يَعْلَى.
هذا الطريق رجاله ثقات، ولكنه منقطع؛ لأن ابن جُريج لم يَسمع من يعلى، وقد ذُكِرَتِ الواسطة عند الترمذي. وكذا رَجَّح البخاري بذكر الواسطة وهو عبد الحميد، كما في «العلل الكبير» للترمذي (226) وتَفَرَّد بها محمد بن كَثِير عند أبي داود (1883)(ببُرد أخضر) وهي شاذة لمخالفته الثقات بدونها.
(2)
ومداره على عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، واختُلف في التابعي، هل هو سعيد بن جُبَيْر أم أَبو الطُّفَيْل؟
فرواه حماد بن سلمة، عن ابن خُثَيْم، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، به عند أبي داود (1884).
وخالفه يحيى بن سُلَيْم، عند أبي داود (1889) وإسماعيل بن زكريا عند أحمد (2782) مطولًا، كلاهما عن ابن خُثَيْم، عن أبي الطُّفَيْل، به.
فالصواب أن ابن خُثَيْم سَمِعه من أبي الطُّفَيْل؛ لأن حماد بن سلمة كان يخطئ في غير حديث ثابت.
ويحيى بن سُلَيْم وإن كان فيه ضعف، إلا أنه كانت عنده أحاديث ابن خُثيم في كتاب، وكان متقنًا لها، وقد تابعه إسماعيل بن زكريا الْخُلْقَاني وهو صدوق.
ولكن هل ابن خُثيم يتحمل مثل هذا المتن؟ أخشى أن يكون هذا الحديث رجع إلى حديث ابن عباس الذي في «الصحيحين» في الرَّمَل دون الاضطباع. والله أعلم.
(3)
أصل هذا الحديث في البخاري (1605) من طريق محمد بن جعفر، عن زيد، به، بدون هذه اللفظة.
ورواه هشام بن سعد، عن زيد، به. فزاد لفظة:(وَالْكَشْفُ عَنِ المَنَاكِبِ). وأخرجه أحمد (317).
و (هشام بن سعد) قال الحافظ: صدوق له أوهام. وقال أبو حاتم: لا يُحتجّ به. وقال أحمد: لم يكن بالحافظ، فهل يَتحمل مثل هذه اللفظة؟
(4)
قال ابن حجر: وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سِوَى مَالِكٍ. «فتح الباري» (3/ 472).
واعتُرض عليه بأن العبادة توقيفة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» .
قال ابن حجر: لأن الحكمة في أصل مشروعيته كالرَّمَل إظهار الجلادة والقوة للمشركين، وبالنسبة إلينا إظهار التأسي والاتباع والجد في العبادة
(1)
.
والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء، من أن الاضطباع سُنة. والله أعلم.
المطلب الثالث: مَنْ يُسَن له الاضطباع:
ذهب جماهير العلماء إلى سُنية الاضطباع في طواف القدوم وطواف العمرة.
والاضطباع يُشْرَع للرجل ولا يُشْرَع للمرأة؛ لأن في اضطباعها كشفًا لما فيه عورة منها، والمرأة مأمورة بالسَّتر
(2)
.
السُّنة الثالثة: الرَّمَل، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: معنى الرَّمَل.
هو الإسراع في المشي مع تقارب الخُطى، وتحريك المنكبين
(3)
.
المطلب الثاني: حُكْم الرَّمَل.
نُقِل الإجماع على أن الرَّمَل سُنة للرجال في الأشواط الثلاثة الأُوَل مِنْ طواف القُدُوم.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد اختَلف أهل العلم في حُكْم الرَّمَل على أربعة أقوال:
القول الأول: أن الرَّمَل سُنة مُؤكَّدة. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(4)
.
واستدلوا بما روى جابر: «حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا» .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ، فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَمْشِي أَرْبَعَةً
(5)
.
(1)
«حاشية ابن حجر الهيتمي على الإيضاح في مناسك الحج والعمرة» ، للنووي (ص: 232).
(2)
«المجموع» (7/ 360).
(3)
«المجموع» (8/ 40)، و «المغني» (5/ 217)، و «الاستذكار» (4/ 192).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 134)، و «الأُم» (2/ 175)، و «الحاوي» (4/ 141)، و «المغني» (5/ 217).
(5)
رواه البخاري (1604)، ومسلم (1261).
القول الثاني: أن الرَّمَل واجب، ومَن تَرَكه فلا دم عليه. وبه قال المالكية وابن حزم
(1)
.
فَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ! فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ
(2)
.
وَجْه الدلالة: (فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ) والأمر يقتضي الوجوب.
القول الثالث: أن الرَّمَل واجب، ومَن تَرَكه فعليه دم. وهو قول عند المالكية
(3)
.
القول الرابع: أن الرَّمَل ليس سُنة، ومَن شاء فَعَله، ومَن شاء لم يفعله. رُوِي ذلك عن عطاء، وطاوس، ومُجاهِد، والحَسَن، وسالم، والقاسم
(4)
.
واستدلوا بما رَوَى مسلم: عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّمَلَ بِالْبَيْتِ، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ! قَالَ: فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا. قَالَ: قُلْتُ: مَا قَوْلُكَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنَ الْهُزَالِ. وَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ. قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا، وَيَمْشُوا أَرْبَعًا
(5)
.
قول ابن عباس: (صَدَقُوا وَكَذَبُوا) يَعْنِي صَدَقُوا فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ، وَكَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مَقْصُودَةٌ. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِإِظْهَارِ الْقُوَّةِ عِنْدَ الْكُفَّارِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ المَعْنَى.
ونوقش من وجهين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر أصحابه بالرَّمَل في عمرة القضاء؛ لإظهار القوة. أما في حَجة الوداعِ فقد فَعَله، وقد زال هذا المعنى؛ لأنها سُنة مقصودة.
الثاني: أن الحكمة في أصل مشروعية الرَّمَل إظهار الجلادة والقوة للمشركين، وبالنسبة إلينا إظهار التأسي. وقد دل على ذلك قول عمر:«فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ؟! إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ المُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ» ثُمَّ قَالَ: «شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ» .
(1)
«المُدوَّنة» (1/ 670)، و «مواهب الجليل» (3/ 12)، و «المُحَلَّى» (7/ 108، 109).
(2)
رواه البخاري (1602)، ومسلم (1266).
(3)
«المُدَوَّنة» (1/ 792)، و «مواهب الجليل» (3/ 12).
(4)
«الاستذكار» (4/ 192).
(5)
رواه مسلم (1264).
والراجح: أن الرَّمَل سُنة مُؤكَّدة، ولا شيء على مَنْ تَرَكه، والله أعلم.
المطلب الرابع: هل الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأُول من الحَجَر إلى الحَجَر؟ أم مِنْ الحَجَر إلى الركن اليماني؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يُسَن الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأُول بأكملها، من الحَجَر الأسود حتى يَعود إليه. وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة: فعَنْ جَابِرِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ»
(2)
.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «رَمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا»
(3)
.
القول الآخَر: أنه يُسَن الرَّمَل في الأشواط الثلاثة من الحَجَر الأسود حتى الركن اليماني، ثم يَمشي ما بين الركن اليماني والحَجَر الأسود. وبه قال طاوس، وعطاء، والحَسَن، وسعيد بن جُبَيْر، والقاسم، وسالم
(4)
.
واستدلوا بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه:«فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ» .
ونوقش هذا الاستدلال بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، سَنَةَ سَبْعٍ، قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَإِنَّمَا رَمَلُوا إِظْهَارًا لِلْقُوَّةِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا جُلُوسًا فِي الْحِجْرِ، وَكَانُوا لَا يَرَوْنَهُمْ بَيْنَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَيَرَوْنَهُمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، فَلَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ، سَنَةَ عَشْرٍ، رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ، فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهَذَا الْمُتَأَخِّرِ
(5)
.
(1)
«المبسوط» (4/ 10)، و «المُدوَّنة» (2/ 208)، و «المجموع» (8/ 43)، و «المغني» (3/ 184).
(2)
مسلم (1263).
(3)
مسلم (1262).
(4)
«المغني» (5/ 218).
(5)
«شرح النووي» (9/ 9) قال في «المجموع» : وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ، سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ أَهْلُهَا مُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، سَنَةَ عَشْرٍ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا، فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهِ.
وأجيب بأن حديث ابن عباس كان في حَجة الوداع، ففي «مسند أحمد»: قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
(1)
.
ونوقش بأن هذه الزيادة ضعيفة.
والراجح: أنه يُسَن الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأُوَل بأكملها، من الحَجَر الأسود حتى يعود إليه. وحديث ابن عباس منسوخ بحديث جابر
(2)
.
المطلب الرابع: مَنْ لا يُشْرَع له الرَّمَل:
لا يُشْرَع الرَّمَل لثلاثة أصناف:
الأول: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ أَنْ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ رَمَلٌ فِي طَوَافِهِنَّ فِي سَعْيِهِنَّ
(3)
.
الثاني: وأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا رَمَلَ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، إِنْ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى مِنًى؛ لِأَنَّهُ رَمَلَ فِي حِينِ دُخُولِ مَكَّةَ حِينَ طَافَ لِلقُدُومِ
(4)
.
الثالث: أنه لا رَمَل في طواف التطوع بلا خلاف
(5)
.
واختلفوا في مشروعية الرَّمَل لأهل مكة على قولين:
القول الأول: أنه لا يُشْرَع الرَّمَل لأهل مكة. وبه قال المالكية والحنابلة
(6)
.
(1)
شاذ؛ مدار الحديث على ابن خُثَيْم، عن أبي الطُّفَيْل، عن ابن عباس، به. واختُلف عليه:
فرواه إسماعيل بن زكريا، عن ابن خُثيم، به، أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2782)، وخالف إسماعيلَ جماعةٌ، منهم: مَعْمَر عند ابن ماجه (2953)، ويحيى بن سُليم وحماد بن سلمة عند أبي داود (1889)، وغيرهم، عن ابن خُثيم به، بدون ذكر هذه الزيادة، وقد انفرد إسماعيل بذكر هذه الزيادة.
ومدار الحديث على عبد الله بن عثمان بن خُثيم، وقد اختُلف في توثيقه: فقد وثقه العِجْلي وابن حِبان، ووثقه مرة ابن مَعين وضَعَّفه أخرى، وكذا النَّسَائي، وثقه مرة وضَعَّفه أخرى. ونُقِل عن ابن المَديني أنه منكر الحديث. وقال أبو حاتم مرة: صالح. وقال أخرى: لا يُحتجّ به. وقال الدارقطني: ضعيف.
والحاصل: أن الصواب عن ابن خُثيم بدونها، وهو إذا انفرد لا يُحتجّ به.
(2)
قال ابن قُدامة: وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالِ صَغِيرًا، لَا يَضْبِطُ مِثْلَ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُمَا كَانَا رَجُلَيْنِ، يَتَتَبَّعَانِ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَحْرِصَانِ عَلَى حِفْظِهَا، فَهُمَا أَعْلَمُ. «المغني» (5/ 219).
(3)
«التمهيد» (2/ 78) ونَقَله ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 55)، وغيره.
(4)
ونَقَل الإجماع: ابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 195)، وابن رُشْد في «بداية المُجتهِد» (2/ 106).
(5)
«شرح مسلم» (8/ 175).
(6)
«مواهب الجليل» (3/ 115)، و «المغني» (3/ 221)، و «الفروع» (3/ 499).
واستدلوا بما ورد عن بْنَ عُمَرَ أَنَّه كَانَ إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ، حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى، وَكَانَ لَا يَرْمُلُ إِذَا طَافَ حَوْلَ الْبَيْتِ، إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ.
(1)
.
القول الآخَر: أنه يُشْرَع الرَّمَل لأهل مكة، إذا كان الطواف يعقبه سعي. وبه قال الحنفية والشافعية
(2)
.
والراجح: عدم مشروعية الرَّمَل لأهل مكة؛ لثبوت ذلك عن ابن عمر. ولأن الرَّمَل يُستحب في طواف القدوم، وأهل مكة ليس عليهم طواف قدوم. والله أعلم.
المطلب الخامس: حُكْم الرَّمَل مع الازدحام الشديد:
ذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا ازدحم المَطاف، فإنه تَسقط عنه هذه السُّنة. وذهب الشافعية إلى استحباب التحرك في المشي إذا تَعَذَّرَ الرَّمَل، فإن كان الزحام بالقرب من الكعبة، فالأفضل أن يَخرج إلى حاشية المطاف ليتمكن من إقامة سُنة الرَّمَل
(3)
.
السُّنة الرابعة: استلام الحَجَر الأسود في بداية الطواف: وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: فَضْل الحَجَر الأسود،
وفَضْل تقبيله:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ»
(4)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1062) عن نافع، عن ابن عمر، به.
(2)
«بدائع الصنائع» (3/ 120)، و «المجموع» (8/ 258).
(3)
«المجموع» (8/ 43)، و «شرح العمدة» (2/ 443).
(4)
ضعيف: فمدار الحديث على سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس. ورُوي عن سعيد من طريقين:
الأول: يرويه عطاء بن السائب: فرواه جَرير بن عبد الحميد عند الترمذي (877)، وحماد بن سلمة عند أحمد (2795) وزياد بن عبد الله، عند ابن خُزيمة. ثلاثتهم عن عطاء، به.
وفي هذا الطريق علتان:
الأولى: فيه عطاء، وقد اختَلَط، وجَرير وزياد ممن سَمِع منه بعد اختلاطه. «فتح الباري» (3/ 462).
واختُلف في سماع حماد بن سلمة من عطاء: فقيل: سَمِع منه قبل الاختلاط. وقيل: بعده.
قال العُقيلي: قُلْتُ لِيَحْيَى: وَكَانَ أَبُو عَوَانَةَ حَمَلَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ؟ فَقَالَ: كَانَ لَا يَفْصِلُ هَذَا مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. «الضعفاء الكبير» (3/ 399).
العلة الثانية: قال أحمد: كان عطاء يَرفع عن سعيد بن جُبير أشياء لم يكن يرفعها. وقال أبو حاتم: رَفَع أشياء عن الصحابة كان يرويها عن التابعين.
الطريق الثاني: رواه ابن خُثَيْم، عن سعيد بن جُبَيْر، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الحَجَرِ: «وَاللهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ» أخرجه الترمذي (961)، وأحمد (2215). وفي إسناده عبد الله بن خُثَيْم، وهو لا يَتحمل مثل هذا المتن.
ورواه ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، مرفوعًا. أخرجه الطبراني في «الكبير» (11314). وهذا إسناد ضعيف؛ لضَعْف ابن أبي ليلى وسوء حفظه.
وله شواهد عن أنس بن مالك وابن عباس وعبد الله بن عمرو، ولا يصح منها حديث.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اسْتِلَامَهُمَا (الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَ) يَحُطُّ الْخَطَايَا»
(1)
.
المطلب الثاني: استحباب تقبيل الحَجَر الأسود:
عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ:«إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ، مَا قَبَّلْتُكَ»
(2)
.
قال ابن عبد البر: لَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ تَقْبِيلَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي الطَّوَافِ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
(3)
.
المطلب الثالث: استلام الحجر وتقبيله:
استلام الحجر وتقبيله لا يخلو من حالين:
الحال الأول: يُستحب استلام الحَجَر إن لم يكن هناك زحام، بالسُّنة والإجماع.
فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، أَوَّلَ مَا يَطُوفُ»
(4)
.
قال النووي: فِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ بِلَا خِلَافٍ
(5)
.
(1)
إسناده حسن: أخرجه الترمذي (975)، وأحمد (4462)، وقد سبق.
(2)
البخاري (1597)، ومسلم (1270). وروى مسلم (1271): عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَالْتَزَمَهُ. وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَ حَفِيًّا.
(3)
«الاستذكار» (4/ 201). ونَقَل هذا الإجماع ابن رُشد في «بداية المجتهد» (2/ 107).
(4)
البخاري (1603)، ومسلم (1261). وروى مسلم (1268): عَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.
(5)
«شرح مسلم» (9/ 8) ونَقَل الإجماع ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 44).
وقال ابن عبد البر: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرُّكْنَيْنِ جَمِيعًا يُسْتَلَمَانِ- الْأَسْوَدُ وَالْيَمَانِيُّ- وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَسْوَدَ يُقَبَّلُ، وَالْيَمَانِيَّ لَا يُقَبَّلُ. «الاستذكار» (4/ 198)، و «التمهيد» (22/ 259، 260).
الحال الآخَر: حُكْم استلام الحجر وتقبيله في شدة الزحام.
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه لا يُشْرَع استلام الحجر وتقبيله في شدة الزحام
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:«يَا أَبَا حَفْصٍ، أَنْتَ رَجُلٌ قَوِيٌّ، وَإِنَّكَ تُزَاحِمُ عَلَى الرُّكْنِ فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ، فَإِذَا رَأَيْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلَّا فَكَبِّرْ وَامْضِ»
(2)
.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُزَاحِمَ عَلَى الْحَجَرِ، تُؤْذِي مُسْلِمًا أَوْ يُؤْذِيكَ
(3)
.
وأما المعقول، فهو أن الاستلام سُنة، وإيذاء الناس بالزحام مُحَرَّم، واجتناب المُحَرَّم أَوْلَى من الإتيان بالسُّنة.
القول الآخَر: ما قاله الماوردي: وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّ الزِّحَامَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ
(4)
.
واستدلوا بأن ابْنَ عُمَرَ زَاحَمَ عَلَى الْحَجَرِ حَتَّى دَمَّى مَنْخِرُهُ
(5)
.
ونوقش بأنه ورد أن ابن عمر ندم على هذا الفعل فلا يُستدل به، فَعَنْ سَالِمٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَتْرُكُ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ فِي الزِّحَامِ وَلَا غَيْرِهِ، حَتَّى رَأَيْتُهُ زَاحَمَنَا عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَصَابَهُ
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 146)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 41)، و «الحاوي» (4/ 136)، و «الفروع» (6/ 34).
(2)
ضعيف: أخرجه أحمد (190) عن سفيان الثوري، عن أبي يَعْفُور العَبْدي، قال: سَمِعْتُ شَيْخًا بِمَكَّةَ، به.
وقد جاء التصريح بأن الرجل المبهم هو (عبد الرحمن بن نافع) عند الشافعي في «السُّنن المأثورة» (510). وهو على كل حال مرسل.
وقد أخرجه البيهقي (9334). وفي إسناده مُفَضَّل بن صالحٍ. وقد ذَكَر ابن عَدي هذا الحديث من منكراته. وابن المسيب لم يَسمع من عمر، كما في «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص: 71).
(3)
صحيح: رواه ابن جُرَيجٍ عند عبد الرزاق (9086) وحَجَّاج بن أرطأة عند ابن أبي شيبة (13328) واللفظ له. وقيس بن سعد (9338) ثلاثتهم عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، به.
(4)
«الحاوي الكبير» (4/ 136).
(5)
إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (13160) عن طلحة بن يحيى وهو صدوق، عن القاسم، به.
دَمٌ، فَقَالَ: قَدْ أَخْطَأْنَا هَذِهِ الْمَرَّةَ
(1)
.
وأما ما يفعله بعض الطائفين من المزاحمة على الحجر، وكأنهم في مصارعة، وما يُصاحِب ذلك من لغط وضوضاء وفوضى، وزحام في صحن الطواف؛ فمما لا يتناسب مع قدسية المكان وشرفه. والنساء اللاتي يَدخلن في وسط الرجال لكي يُقَبِّلن الحَجَر، ولا يدرين أنهن قد ارتكبن إثمًا عظيمًا، وقد يَنتج عن ذلك التصاق الرجال بالنساء.
قال النووي: فَإِنْ تَأَذَّى أَوْ آذَى لَمْ يَدْخُلْ، وَهَذَا مِمَّا يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَيَتَزَاحَمُونَ زَحْمَةً شَدِيدَةً، بِحَيْثُ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرُبَّمَا انْكَشَفَتْ عَوْرَةُ بَعْضِهِمْ أوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَرُبَّمَا زَاحَمَ الْمَرْأَةَ، وَهِيَ مَكْشُوفَةُ الْوَجْهِ والْيَدِ. وَهَذَا كُلهُ خَطَأٌ يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ النَّاس، وَيَغْتَرُّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ.
وَكَيْفَ يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يَرْتَكِبَ الأَذَى الْمُحَرَّمَ؛ لِيُحَصِّلَ أَمْرًا لَوْ سَلِمَ مِنَ الأَذَى، لِكَانَ سُنَّة؟! وَأَمَّا مَعَ الأَذَى فَلَيْسَ بسُنَّةٍ بَلْ حَرَامٌ. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ
(2)
.
المطلب الرابع: حُكْم استلام الحَجَر الأسود من غير طواف:
كَانَ ابْن عُمَرَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْتَلِمَ، كَانَ فِي طَوَافٍ أَوْ في غَيْرِ طَوَافٍ
(3)
.
وَعَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى الْمَغْرِبَ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَنَهَضَ لِيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ، فَسَبَّحَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟! قَالَ: فَصَلَّى مَا بَقِيَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ
(4)
.
(1)
إسناده ضعيف: أخرجه الأزرقي في «أخبار مكة» (1/ 333) وفي إسناده عثمان بن ساجٍ، وفيه ضعف.
(2)
«الإيضاح» (ص: 202). وقال ابن تيمية: استلام الحَجَر وتقبيله مستحب. فإذا كان هناك زحمة وفي ذلك إيذاء للناس، فإنه يُنْهَى عنه. «جامع المسائل» (3/ 141).
وقد أفتت اللجنة الدائمة (11/ 229) بأن تقبيل الحَجَر الأسود في الطواف سُنة مُؤكَّدة من سُنن الطواف، إِنْ تَيَسَّر فعلها بدون مزاحمة أو إيذاء لأحد بفعلك؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وإن لم يتيسر إلا بمزاحمة وإيذاء، تَعَيَّن الترك، والاكتفاء بالإشارة إليه باليد، ولا سيما المرأة؛ لأنها عورة. ولأن المزاحمة في حق الرجال لا تُشْرَع، ففي حق النساء أَوْلَى. كما أنه لا يَجوز لها عند تيسر التقبيل لها بدون مزاحمة- أن تَكشف وجهها أثناء تقبيل الحجر الأسود؛ لوجود مَنْ ليس هو بمَحْرَم لها في ذلك الموقف.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (13746): حَدَّثنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، به.
(4)
جاء عن عطاء من عدة طرق:
فرواه مطرٌ الوراق عند أحمد (3285)، وعِسْل بن سفيان عند الفاكهي (1/ 133)، وهَمَّام عند أبي يعلى (4/ 466) ثلاثتهم بذكر الاستلام. ومطر وعِسل كلاهما ضعيف، وهَمَّام بن يحيى ثقة ربما وهم.
وقد خالفهم ابن جُريج عند عبد الرزاق (2/ 312)، وعامر الأحول عند البيهقي (3/ 360) بدون ذكر الاستلام. وقد قال عنه أحمد: ابن جُريج أَثْبَتُ الناس في عطاء، فثبوت الاستلام عن ابن الزبير فيه نظر.
قَالَ مَالِكٌ: إنْ شَاءَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَسْتَلِمْ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ مَنْ لَا يَطُوفُ، يَسْتَلِمُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ طَوَافٍ
(1)
.
والحاصل: أنه لم يَثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلام الحجر الأسود من غير طواف.
المطلب الخامس: عدم الوقوف في محاذاة الحَجَر في كل شوط، إن لم يكن ثَم زحام:
اتَّفَق العلماء على أن السُّنة استلام الحَجَر الأسود في ابتداء الطواف وفي كل شوط، إن لم يكن ثَم زحام وإيذاء.
فإن كان ثَم زحام وإيذاء، فإنه يُكبِّر. وهل يَستقبل الحَجَر ويشير إليه مع التكبير، أم لا؟
اختَلف العلماء في حُكم الوقوف في محاذاة الحجر لاستقبال الحجر، على قولين:
الأول: يُشْرَع مع التكبير استقبال الحَجَر والإشارة إليه. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا عُمَرُ، إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ، لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وهَلِّلْ وَكَبِّرْ»
(3)
.
واعتُرض عليه بأن هذا الحديث لا يصح، وأن لفظة الاستقبال مُنكَرة.
القول الآخَر: يَقتصر على التكبير دون استقبال أو إشارة
(4)
.
والراجح: أنه لم يَثبت سوى الإشارة مع التكبير؛ لِما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال:
(1)
«المُدوَّنة» (1/ 419)، و «مواهب الجليل» (4/ 155).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 147)، و «المجموع» (8/ 40)، و «المغني» (5/ 214).
(3)
أَصْل الحديث ضعيف، ولفظة الاستقبال منكرة؛ لمخالفة مَنْ رواها أكثرَ الرواة، فلم يروها سوى الوضاح اليشكري عن وَقْدان عند البيهقي (9335) وكذا رواها وَكِيع عن سفيان، عند أحمد (190).
وخالفه عبد الرزاق (8910) ويحيى القَطَّان عند الطبري في «تهذيب الآثار» (108) فروياه عن الثوري عن وقدان، به، بدون هذه اللفظة. وقد تابع الثوريَّ بدون تلك اللفظة ابنُ عُيينة عند عبد الرزاق (8910) وأبو الأحوص عند ابن أبي شيبة (13316).
(4)
قال مالك: يُكَبِّرُ وَيَمْضِي، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ. «المُدوَّنة» (1/ 165).
(1)
.
فالأقرب: أن يكتفي الطائف بالإشارة مع التكبير وهو ماشٍ، من غير استقبال.
فأما الوقوف لاستقبال الحَجَر في بداية كل شوط، فأَمْر لم تَرِد به سُنة صحيحة، فيُترك هذا العمل اتباعًا للسُّنة، ودفعًا للمفسدة الحاصلة من اكتظاظ الطائفين على طول محاذاة الحجر، وتباطؤ الطائفين في هذه المنطقة من المطاف؛ مما يؤدي إلى زحام شديد.
المطلب السادس: استحباب استلام الحجر بعصًا:
روى مسلم: عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ»
(2)
.
المطلب السابع: استحباب الإشارة إلى الحَجَر:
رَوَى البخاري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ»
(3)
.
المطلب الثامن: لا يُستحب السجود على الحجر، أي: أن يضع جبهته على الحجر:
أَجْمَع العلماء على أن استلام الحجر الأسود سُنة.
واختلفوا في حكم السجود عليه على قولين:
الأول: أن السجود على الحجر الأسود بدعة. وهو مذهب المالكية
(4)
.
القول الآخَر: استحباب السجود عليه. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(5)
.
واستدلوا بما ورد: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ عَلَى الْحَجَرِ
(6)
.
(1)
البخاري (1613).
(2)
مسلم (1275).
(3)
البخاري (1612).
(4)
أَنْكَرَ مَالِكٌ وَضْعَ الْخَدَّيْنِ وَالْجَبْهَةِ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. قَالَ: هَذَا بِدْعَةٌ. «المُدوَّنة» (1/ 419).
(5)
«البحر الرائق» (2/ 353)، و «الأُم» (2/ 171)، و «الحاوي» (4/ 136)، و «الفروع» (6/ 33).
(6)
ضعيف، ورُوي عن ابن عباس من طريقين:
الأول: عكرمة، أخرجه ابن أبي شيبة (15397). ومداره على حسين بن عبد الله، وهو ضعيف.
الثاني: محمد بن عَبَّاد، واختُلف عنه: فرواه ابن جُريج عنه موقوفًا عند عبد الرزاق (8912).
ورواه جعفر بن عثمان، وقد اضطرب فيه: فرواه فمرة عن ابن عباس، عن عمر، مرفوعًا عند الطيالسي (28)، وثانية: ليس فيه ابن عباس! عند أبي يعلى (219)، وثالثة ليس فيه عمر! عند العُقيلي (1/ 183). ومداره على جعفر بن عثمان، وقد قال عنه العُقيلي بعد أن ساق له هذا الحديث: في حديثه وهم واضطراب، وحديث ابن جُريج أَوْلَى. قلت: وقد صَرَّح ابن جُريج بالسماع، فأَمِنَّا تدليسه.
والراجح: أن السجود على الحجر الأسود ليس بسُنة؛ لعدم ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل: أن استلام الحَجَر في بداية الطواف على صفات أربع:
الأولى: أن يَستلم الحجر الأسود ويُقبِّله.
الثانية: أن يستلم الحجر بيده، ويُقبِّل يده.
الثالثة: أن يستلمه بعصًا، ثم يُقَبِّل العصا.
الرابعة: أن يشير إلى الحجر ويُكَبِّر، ويَبدأ الشوط.
وهذه الصفات الأربع صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتُظهِر رفق الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته، وأن الطائف يَفعل الأيسر له، فإن كان قريبًا من الحجر، ويستطيع أن يُقبِّله بلا مزاحمة قَبَّله، وإِنْ شَقَّ عليه تقبيله، واستطاع أن يستلمه بيده استلمه، أو استلمه بعصًا، وإلا أشار إليه وكَبَّر.
المطلب التاسع: محاذاة الحَجَر الأسود بجميع البدن في ابتداء الطواف:
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: أن المحاذاة للحَجَر سُنة. وهذا مذهب الحنفية والمالكية
(1)
.
واستدلوا بأن الواجب في الطواف البداءة من الحَجَر الأسود، ولم يُنْقَل وجوب المحاذاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، مع توفر الدواعي على النقل.
أما القياس، فإنه لَمَّا جاز محاذاة بعض الحَجَر، جازت محاذاته ببعض البدن
(2)
.
القول الآخَر: وجوب محاذاة الحجر الأسود بجميع البدن. وصفة المحاذاة: أن يَستقبل البيت ويصير منكبه الأيمن محاذيًا للحَجَر. وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(3)
.
(1)
«فتح القدير» (2/ 494)، وفي «مواهب الجليل» (3/ 65).
(2)
«المجموع» (8/ 29).
(3)
«الأُم» (2/ 170)، و «المجموع» (8/ 29)، و «المغني» (5/ 215).
واستدلوا بما ورد عن ابن عمر قال: اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحَجَرَ
(1)
.
وظاهر هذا أنه صلى الله عليه وسلم استقبله بجميع بدنه. ولأن ما وجب فيه محاذاة البيت، وجب محاذاته بجميع البدن؛ فإنه لو استَقبل الكعبة في الصلاة ببعض بدنه، فإنه لا يجزئه.
والراجح: أن محاذاة الحجر الأسود بجميع البدن في ابتداء الطواف- سُنة، وأنه يجزئ الاستقبال ببعض البدن، ويصح طوافه؛ لأنه لو كان الاستقبال للحجر بكل البدن شرطًا، لبَيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته؛ لأنه لا يَجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وهذا من شأنه التخفيف عند بداية الطواف؛ لأن محاذاته ببعض البدن لا تَستلزم وقوف الطائف، وإنما يكفي مجرد الإشارة.
بخلاف القول بوجوب المحاذاة الذي يَستلزم وقوف الطائف على طول محاذاة الحجر الأسود، ويؤدي ذلك إلى تزاحم شديد، ولا يوجد دليل على الوجوب، فينبغي ترك المحاذاة في الزحام؛ احترازًا من إيذاء المسلمين الممنوع.
السُّنة الخامسة: التكبير في بداية الطواف:
يُستحب التكبير عند بداية الطواف بالإجماع.
واختَلف العلماء فيما يزاد على التكبير من الأدعية على قولين:
الأول: أنه يُكتفى بالتكبير ولا يزاد عليه؛ لِما رَوَى ابن عباس قال: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ، أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ. وبه قال مالك
(2)
.
القول الآخَر: أنه يُستحب أن يقول: (بِاسم الله والله أكبر) كلما استلم الحجر الأسود. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(3)
.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَقُولُ إذَا اسْتَلَمْنَا
(1)
منكر: أخرجه ابن ماجه (2945). وتتمة الحديث: «ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ، يَبْكِي طَوِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ» . وفي إسناده محمد الخُرَاساني، منكر الحديث.
(2)
«المُدوَّنة» (1/ 313).
(3)
«حاشية ابن عابدين» (3/ 446)، و «المجموع» (8/ 57)، و «كشاف القناع» (2/ 478).
الْحَجَرَ؟ قَالَ: «قُولُوا: بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ؛ إيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ»
(1)
.
وَعَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ
(2)
.
والراجح: أنه يُكتفَى بقول: (الله أكبر) ولا يُزاد عليه؛ لِما رَوَى البخاري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ، أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ.
أما قول: (بِاسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ؛ إيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فكل هذه الزيادات لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السُّنة السادسة: استلام الركن اليماني: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: استحباب استلام الركن اليماني:
يُستحب استلام الركن اليماني، أي: وَضْع اليد اليمنى عليه؛ لِما ورد عن ابن عمر قال: «مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِيَ وَالْحَجَرَ، مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا»
(3)
. قال ابن عبد البر: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرُّكْنَيْنِ جَمِيعًا يُسْتَلَمَانِ: الْأَسْوَدُ وَالْيَمَانِيُّ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَسْوَدَ يُقَبَّلُ، وَالْيَمَانِيَّ لَا يُقَبَّلُ
(4)
.
المطلب الثاني: هل يُشْرَع تقبيل الركن اليماني، أو تقبيل يده بعد استلامه؟
(1)
ضعيف: أخرجه الشافعي في «الأم» (133) ولأن ابن جُريج يقول: (أُخْبِرْتُ) ومَن الذي أَخْبَرَه؟!
وله شاهد: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، إِيمَانًا بِاللهِ وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم» أخرجه الفاكهي (39). وفي إسناده الواقدي، متروك.
وقد ورد عن نافع قال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ، قَالَ:«اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ وَسُنَّةِ نَبِيَّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَسْتَلِمُهُ. عند الطبراني في «الأوسط» (5486).
وهذا منكر؛ ففي إسناده محمد بن المهاجر القرشي، فيه ضعف، وقد خالف الثقات عن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا استلم الركن قال: باسم الله والله أكبر.
وقد ورد هذا المعنى عن علي وابن عباس، ولا يصح عنهما.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9069)، وأحمد (4628) وغيرهما.
(3)
«البخاري» (1606)، ومسلم (1268) واللفظ له.
(4)
«الاستذكار» (4/ 198) ونَقَله النووي في «شرح مسلم» (8/ 176)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 107).
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يُستحب استلام الركن اليماني، أي: مَسْحه باليد اليمنى؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُشرع تقبيله، أو تقبيل يده بعد استلامه؛ لعدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا قول الحنفية، والمالكية في المشهور عنهم، وأحمد في رواية
(1)
.
القول الثاني: أنه يُستحب مس الركن اليماني بيده، وتقبيل يده بعد استلامه، ولا يُشْرَع له تقبيل الركن اليماني. وبه قال مالك في رواية، والشافعي، وأحمد في رواية
(2)
.
فَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَ الْحَجَرَ فَقَبَّلَهُ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فَقَبَّلَ يَدَهُ
(3)
.
القول الثالث: أنه يباح تقبيل الركن اليماني. وهو قول أحمد في رواية
(4)
.
واستدلوا بما ورد، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ الرُّكْنَ اليَمَانِيَّ، وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَيْهِ
(5)
.
والراجح: أنه يُستحب استلام الركن اليماني، أي: مَسْحه باليد اليمنى؛ لثبوت ذلك، ولا يُشْرَع تقبيله، أو تقبيل يده بعد استلامه؛ لعدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السُّنة السابعة: استحباب الإكثار من الذِّكر والدعاء: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: استحباب الإكثار من الذِّكر:
يُستحب للطائف أن يُكْثِر من ذكر الله؛ ولذا يَبدأ كل شوط بذكر الله.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «طَافَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 247)، و «المُنتقَى» (2/ 267)، و «كشاف القناع» (2/ 479).
(2)
«المجموع» (8/ 35)، و «شرح العمدة» (2/ 447).
(3)
منكر: أخرجه البيهقي (9308). وفي إسناده عمر بن قيس المكي، ضعيف، قال البخاري: منكر الحديث. ومما لا شك فيه أن هذا الحديث من مناكيره؛ فإنه لم يأتِ في حديثٍ قط أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبَّل يده بعد استلام الركن اليماني. وقد قال البيهقي: وَقَدْ رُوِيَ فِي تَقْبِيلِهِ خَبَرٌ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ.
(4)
«كشاف القناع» (2/ 480)، و «شرح العمدة» (2/ 447).
(5)
منكر: ومداره على عبد الله بن مسلم بن هُرْمُز، وهو ضعيف، واختُلف عليه:
فرواه عن مجاهد عن ابن عباس، به عند ابن خُزيمة (2727) ورواه إسرائيل عنه، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، به. أخرجه أبو يعلى (2605). وهذا الحديث من مناكير عبد الله بن مسلم؛ فإنه لم يأتِ في حديثٍ قط أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبَّل الركن اليماني غير هذا الحديث.
وعن عائشة قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ؛ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عز وجل»
(1)
.
المطلب الثاني: استحباب الدعاء أثناء الطواف:
يُستحَب للطائف أن يُكْثِر من الدعاء أثناء طوافه، وأن يَسأله سبحانه من خيرَي الدنيا والآخرة؛ فإن هذا موطن من مواطن الدعاء.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»
(2)
.
فالحاصل: أنه يُستحَب للطائف أن يكون خاشعًا خاضعًا متذللًا، حاضر القلب، مُلازِم الأدب بظاهره وباطنه، وفي حركته ونظره وهيئته، وأن يدعو بما تَيَسَّر من خيرَي الدنيا والآخرة؛ فإنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطواف دعاء مُعيَّن، أو يَقرأ القرآن.
وبذلك يتبين خطأ ما يفعله بعض الناس، من تخصيص أدعية معينة لكل شوط
(3)
.
(1)
ضعيف: أخرجه أحمد (24351). وهذا الحديث اختُلف في رفعه ووقفه، وعلى كل حال فمداره على عُبيد الله بن أبي زياد، وقد لَخَّص الحافظ فيه القول فقال: ليس بالقوي. «التقريب» (4292).
(2)
ضعيف: أخرجه أبو داود (1892)، وأحمد (15399) من طرق عن يحيى بن عُبَيْد، عن أبيه، به.
وفي إسناده عُبيد والد يحيى: هو مولى السائب، وقد عده بعضهم صحابيًّا فوهم، قال الحافظ في «الإصابة» في ترجمته: عُبيدٌ تابعي، ما روى عنه إلا ابنه يحيى. قلت: وهو إلى الجهالة أقرب، وإن كان ذَكَره ابن حِبان في «ثقات التابعين» فهو متساهل في توثيق المجاهيل.
وقد وردت بعض الأدعية عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف:
منها: عَنِ ابْن عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: «رَبِّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَليَّ كُلِّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ» أخرجه ابن خُزيمة (2728).
قال الألباني: إسناده ضعيف، وقد استغربه الحافظ؛ لأن عطاء بن السائب كان اختلط، وسعيد بن زيد سَمِع منه آخرًا على ضعف في حفظه، ورواه غيره عنه موقوفًا.
ومنها: عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ، إِلَّا بِسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ؛ مُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ بِهَا عَشْرُ دَرَجَاتٍ. وَمَنْ طَافَ فَتَكَلَّمَ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ بِرِجْلَيْهِ، كَخَائِضِ الْمَاءِ بِرِجْلَيْهِ» . وفي إسناده حُميد بن أبي سُويد، له مناكير كما قال البيهقي في «الشُّعَب» (1749) وغير ذلك من الأحاديث، ولا يصح في هذا الباب حديث.
(3)
قال ابن تيمية: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُوَهُ بِمَا يُشْرَعُ، وَإِنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ سِرًّا فَلَا بَأْسَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مَحْدُودٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بَلْ يَدْعُو فِيهِ بِسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ دُعَاءٍ مُعَيَّنٍ تَحْتَ الْمِيزَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا أَصْلَ لَهُ. «مجموع الفتاوى» (26/ 122).
السُّنة الثامنة: الدنو من البيت:
يُستحَب الدنو من البيت بالإجماع.
قال النووي: وَأَمَّا الدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ، فَمُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ.
وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَلَا يَتَأَذَّى بِالزَّحْمَةِ. فَإِنْ تَأَذَّى أَوْ آذَى بِالْقُرْبِ لِلزَّحْمَةِ، فَالْبُعْدُ إِلَى حَيْثُ يَزُولُ التَّأَذِّي وَالْأَذَى أَوْلَى.
أَمَّا الْمَرْأَةُ، فَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تَدْنُوَ فِي حَالِ طَوَافِ الرِّجَالِ، بَلْ تَكُونُ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ، بِحَيْثُ لَا تُخَالِطُ الرِّجَالَ
(1)
.
السُّنة التاسعة: صلاة ركعتين بعد الطواف: وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: حُكْم ركعتي الطواف.
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أن ركعتي الطواف سُنة مُؤكَّدة. وهو مذهب الشافعية، ورواية للمالكية، وأحمد في رواية
(2)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» فالصلوات المفروضات خَمْس، وركعتا الطواف ليستا منها، فعُلِم أنهما سُنة مُؤكَّدة وليستا بواجبتين.
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ»
(3)
.
فخروج الحديث مَخرج الفضل وجَعْل ثواب محدد له- دليل استحبابها؛ لأن الواجب غير محدد الثواب.
واستدلوا بأن ركعتي الطواف لم تُشرع جماعة، فلم تكن واجبة كسائر النوافل
(4)
.
(1)
«المجموع» (8/ 38).
(2)
«حاشية الدسوقي» (2/ 41)، و «المجموع» (8/ 71)، و «المغني» (3/ 232).
(3)
«سُنن ابن ماجه» (3/ 169).
(4)
«المغني» (3/ 232).
القول الآخَر: أن ركعتي الطواف واجبة. وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وقول للشافعية، ورواية عند أحمد
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما دليلهم من الكتاب، فعموم قوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فالله أَمَر بالصلاة عند مَقام إبراهيم بعد الفراغ من الطواف، والأمر للوجوب.
ويُفسِّر الآية ما ورد عن جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَقَرَأَ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبِي يَقُولُ- وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)
(2)
.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 128)، و «المجموع» (8/ 71)، و «الإنصاف» (4/ 8).
(2)
مدار هذا الحديث على جعفر بن محمد عن أبيه، واختُلف عليه على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الإرسال، رواه مسلم (1218) باللفظ المذكور.
وهذا الطريق فيه علتان:
الأولى: الإرسال؛ فقول جعفر بن محمد: (فَكَانَ أَبِي يَقُولُ) وهو محمد بن علي بن الحسين، وهو تابعي قال: (وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهذا مرسل بإسقاط جابر.
الثانية: قوله: (وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فهذا الشك والتردد يوهن هذه الرواية.
الوجه الثاني: قد رُوي موصولًا: من طريق عبد العزيز، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ بِسُورَتَيِ الإِخْلَاصِ:(قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ)، وَ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).
وعبد العزيز بن عمران متروك، وقد سُئل أبو حاتم في «العلل» (470) عن هذا الحديث، فقال: مُنْكَر.
وتابعه سليمان بن بلال، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر، به. أخرجه أبو عَوَانة (3416) من طريق القَعْنَبِيّ، به. وهذا الطريق منكر، وسيأتي تفصيله.
الوجه الثالث: أن قراءة سورتَي الكافرون والإخلاص من قول محمد بن علي بن الحسين.
فرواه القطان عند أحمد (14440)، ووُهَيْب عند الطيالسي (1773)، والثوري عند الترمذي (870) عَنْ جَعْفَرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ به، وقد رَجَّح الترمذي هذا الطريق.
روى مالك في «الموطأ» (1281): عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، حَتَّى انْتَهَى إلَيْهِ، ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ» ورواه عن مالك الثقات بهذا المتن.
وقد رواه الْقَعْنَبِي عن مالك، واختُلف عليه، فرواه عُبيد الله بن عبد الكريم عند الطوسي (797)، وهلال بن العلاء عند أبي عَوَانة (3405)، وعلي بن عبد العزيز، عند البيهقي (9398) ثلاثتهم: عَنِ القَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، مرفوعًا، به.=
وأما دليلهم من السُّنة، فهو ما روى البخاري: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ
(1)
.
والراجح: أن ركعتي الطواف سُنة مُؤكَّدة؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» فالصلوات المفروضات خَمْس، وركعتا الطواف ليستا منها، فعُلم أنهما سُنة مُؤكَّدة وليستا بواجب.
المطلب الثاني: مكان أداء ركعتي الطواف:
أَجْمَع العلماء على استحباب أداء ركعتي الطواف خلف المَقام؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وأجمعوا على إجزاء ركعتي الطواف في أي مكان من الحرم
(3)
.
=
وخالفهم مسلم في «صحيحه» (1263)، والفضل بن الحُبَاب عند ابن حِبان (3813) وعثمان بن سعيد الدارمي، وعلي بن عبد العزيز البَغَوِيّ. أربعتهم عَنِ القَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ» .
فتَبَيَّن من ذلك شذوذ رواية القَعْنَبِيّ المتصلة المرفوعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حَدَث عليه خلاف، وإن كان تابعه الوليد بن مسلم عند النَّسَائي (2963) فلا يُلتفَت إلى تلك المتابعة؛ لمخالفتهما لأصحاب مالك الثقات، كابن وهب ويحيى عند مسلم (3054) وخالد عند ابن أبي شيبة (15130) وغيرهم.
والحاصل: أن قراءة سورتَي الكافرون والإخلاص في ركعتيِ الطواف من قول محمد بن علي بن الحسين. وأما رواية مسلم فقد ذَكَرها مرسلة. وأما الروايات المرفوعة، فلا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال ابن المَديني: رَوَى عن جعفر عن أبيه أحاديث مراسيل أسندها، منها حديث حابر الطويل في الحج، وحديث يحيى بن سعيد عن جعفر إرساله أثبت. «إكمال تهذيب الكمال» (3/ 270).
وقال ابن عدي: هذا الحديث حَدَّث به عن جعفر جماعة من الأئمة، ولم يَرْوِ هذا الحديث عنه أطول مما رواه عنه حاتم بن إسماعيل «الكامل» (3/ 71).
(1)
البخاري (1600).
(2)
قال ابن المنذر: ثَبَتَتِ الْآثَارِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا طَافَ بِالْبَيْتِ، صَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مُصِيبٌ. «الإشراف» (3/ 282). وقال النووي: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ طَائِفٍ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ- أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ. «شرح مسلم» (8/ 175).
وقد نَقَل الإجماع أيضًا: ابن عبد البر «الاستذكار» (4/ 204)، والشربيني «مغني المحتاج» (2/ 252).
(3)
قال ابن عبد البر: وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الطَّائِفَ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ حَيْثُ شَاءَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَحَيْثُ أَمْكَنَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُصَلِّ عِنْدَ الْمَقَامِ أَوْ خَلْفَ الْمَقَامِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. «الاستذكار» (4/ 204).
وقال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الطائف يُجْزئه أن يصلي الركعتين حيث شاء. «الإجماع» (56).
واختلفوا هل يُشترط أداء ركعتي الطواف داخل الحرم؟
فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه يصح أداء ركعتي الطواف في أي مكان، داخل وخارج الحَرَم
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ الخُرُوجَ، وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتِ الخُرُوجَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ» فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ.
فأُم سَلَمة لم تُصَلِّ ركعتي الطواف حتى خرجت من المسجد الحرام، ولم يَرِد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاها عن ذلك، ولا يَجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. فهذا دليل على عدم اشتراط ركعتي الطواف داخل الحَرَم.
وأما المأثور، فقد طَافَ عُمَرُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ نَظَرَ، فَلَمْ يَرَ الشَّمْسَ فَرَكِبَ، وَلَمْ يُسَبِّحْ حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طُوَى، فَسَبَّحَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى طَوَافِهِ
(2)
.
وَ كَانَ ابْنِ عُمَرَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ يَدْخُلُ الْبَيْتَ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ
(3)
.
المطلب الثالث: هل الفضل خاص بحذاء خلف المَقام؟ أم يتعدى إلى غيره؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الفضل خاص بما يَصدق عليه خلف المقام، أي: قريبًا منه عُرْفًا. وهو مذهب الحنفية في المشهور عنهم، والمالكية والشافعية والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: أن الفضل يشمل ما خلف المَقام في حذائه. وهو قول النَّخَعي
(5)
.
القول الثالث: أن الفضل يشمل جميع الحرم. وهو قول بعض الحنفية.
(1)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 299)، و «المجموع» (8/ 53)، و «المغني» (3/ 232). واستَثنى مالك عدم صلاة ركعتي الطواف في الحجر، فإِنْ صَلَّاهما في البيت أعادهما خارجه. «المُدوَّنة» (1/ 318).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (440) من طريق الزُّهْري، عن حُمَيْد، أن عبد الرحمن، به.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9212)، وابن أبي شيبة (15694).
(4)
«المسلك المتقسط» (ص: 220)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 42)، و «تحفة المحتاج» (4/ 92).
(5)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (15030) وفي إسناده مغيرة، يدلس ولا سيما عن إبراهيم.
والراجح: أن الفضل خاص بما يَصدق عليه خلف المقام، أي: قريبًا منه عُرْفًا.
حُكْم أداء ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم وقت الزحام.
تَحْرم الصلاة خلف المَقام وقت الزحام في طريق الطائفين لأمرين:
الأول: أن أداء الركعتين خلف المَقام سُنة، وإيذاء الطائفين بالصلاة في طريقهم في الزحام مُحَرَّم، واجتناب المُحَرَّم أَوْلَى من الإتيان بالسُّنة.
الثاني: يُحوج الطائفين للمرور بين يديه وهو يصلي، مع اشتغال قلبه بالمارة.
المطلب الرابع: وقت أداء ركعتي الطواف:
أَجْمَع العلماء على جواز الطواف في جميع الأوقات، بما في ذلك أوقات النهي
(1)
.
واختلفوا في أداء ركعتي الطواف في أوقات النهي على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يَجوز أداء ركعتي الطواف في أوقات النهي. وهو مذهب الشافعية، والمشهور عند الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالمأثور والمعقول:
أما المأثور، فما ورد: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا يَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ وَيُصَلِّي أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ»
(3)
.
وَصَحَّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالطَّوَافِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حِينَئِذٍ
(4)
.
وَقَالَ عَبْدُ العَزِيزِ: رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما يَطُوفُ بَعْدَ الفَجْرِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
(5)
(1)
قال النووي: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَاجَائِزٌ. المجموع (8/ 57).
(2)
«المجموع» (8/ 57)، و «المغني» (2/ 517)، و «الإنصاف» (2/ 205).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (1894) عن أبي الزُّبير، عن عبد الله بن بَابَاهْ به. وقد صَرَّح أبو الزُّبَيْر بالتحديث عند أحمد (16774)، فانتفت شبهة تدليسه، وبقية رجاله ثقات.
(4)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9219) عن موسى بن عُقبة، عن سالم، به.
ورَوى ابن أبي شيبة (13722) بسند صحيح: عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ طَافَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
(5)
أخرجه البخاري (1630).
وَصَحَّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ طَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
(1)
.
وأما دليلهم من المعقول، فإنه إذا كان أبيح بالإجماع الطواف في أوقات النهي، وركعتا الطواف تابعتان للطواف، وإذا أبيح المتبوع فينبغي أن يباح التابع.
القول الثاني: يُكْرَه أداء ركعتي الطواف في أوقات النهي. وبه قال الحنفية والمالكية
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فعن أبي سعيدٍ الخُدْرِي يقول: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ»
(3)
.
وأما المأثور، فاستدلوا بما رُوي عن عمر أنه طاف بعد صلاة الصُّبح، فلما قَضَى طوافه، نَظَرَ فلم يَرَ الشمس طلعت، فرَكِبَ حتى أناخ بذي طُوًى، فصلى ركعتين
(4)
.
وعن ابن عمر أنه كان إذا طاف بعد الصبح لا يصلي حتى تطلع الشمس
(5)
.
واعتُرض عليه بأنه حدث خلاف على ابن عمر.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إذَا أَرَدْتَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَطُفْ وَأَخِّرِ الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ، فَصَلِّ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ
(6)
.
وَقَدِمَ أَبو سَعيدٍ الْخُدْرِيُّ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، فَطَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَقَالَ: انْظُرُوا كَيْفَ يَصْنَعُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ سَبْعِهِ قَعَدَ، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
(7)
.
القول الثالث: أنه يُكْرَه صلاة ركعتي الطواف بعد صلاة العصر وبعد الفجر، وتَحرم الصلاة عند شروق الشمس وعند المغرب وعند قيام قائم الظهيرة، فإن صلاها لم تنعقد.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه الفاكهي (496)، وعبد الرزاق (9217) من طريق ابن أبي أَوْفَى، به، وهو تصحيف، والصواب (ابن أبي مُلَيْكَة) كما عند الشافعي في «الرسالة» (903).
(2)
«المبسوط» (4/ 47)، و «المُدوَّنة» (1/ 318).
(3)
أخرجه مسلم (827).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1074)، وقد سبق تخريجه.
(5)
إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن أبي عَروبة في كتاب المناسك، كما في «فتح الباري» (3/ 489).
(6)
إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (13424) وفي إسناده عبد الملك العرزمي، وهو صدوق.
(7)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9222) عن ابن عُيينة، عن ابن أبي نَجيح، عن أبيه، به.
وهو قول عند الحنفية، ورواية عند الحنابلة
(1)
.
واستدلوا بما روى مسلم: عَنْ عُقْبَةَ يَقُولُ: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ
(2)
.
المطلب الخامس: ما يُستحب قراءته في ركعتي الطواف:
ذهب جماهير العلماء إلى أنه يُستحَب في ركعتي الطواف أن يَقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (سورة الكافرون) وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة (سورة الإخلاص)
(3)
.
وفي حديث جابر: «حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَقَرَأَ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. فَكَانَ أَبِي يَقُولُ- وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
(4)
.
والحاصل: أن قراءة سورتَي الكافرون والإخلاص في ركعتي الطواف- من قول محمد بن علي بن أبي طالب.، وأما الروايات المرفوعة فلا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السُّنة العاشرة: استحباب استلام الحجر الأسود بعد الصلاة خلف المَقام:
وفي حديث جابر الطويل: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا.
فدل حديث جابر بمنطوقه على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى الحَجَر الأسود بعد فراغه من ركعتي الطواف، فاستلمه قبل أن يَخرج إلى الصفا
(5)
.
(1)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 499)، و «المبدع» (2/ 37)، و «الإنصاف» (2/ 206).
(2)
رواه مسلم (831).
(3)
«مواهب الجليل» (3/ 111)، و «المجموع» (8/ 53)، و «المغني» (3/ 231).
(4)
رواه مسلم، وهو أصل في صفة الحج، ولكن هذا القدر مُنتقَد على مسلم، وقد سبق تخريجه.
(5)
ولكن يشكل على حديث جابر ما رواه البخاري (1691) ومسلم (1227) عن ابن عمر قال: «فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا» فلم يَذكر ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم استَلم الحَجَر بعد الطواف. وجابر أَثْبَتَ استلام النبي صلى الله عليه وسلم للحَجَر بعد الصلاة، والمُثْبِت مُقَدَّم على النافي. ومع جابر زيادة وهو مُفصَّل، وحديث ابن عمر مُجْمَل، فيُحْمَل المُجْمَل على المُفَصَّل.
قال ابن قُدامة: وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الصَّفَا، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَعُودَ فَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا
(1)
.
وهذه سُنة ثابتة بالنص والإجماع، ولكن تَحرم في أوقات الزحام بسبب التضييق على الطائفين المؤدين لنسكهم الواجب. والله أعلم.
السُّنة الحادية عَشْرة: الشرب من ماء زمزم بعد الطواف:
يُستحَب للحاج إذا فَرَغ من طوافه أن يَشرب من ماء زمزم؛ ففي حديث جابر: «
…
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ:«انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ» فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ»
(2)
.
فالحاصل: أنه قد ثَبَت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم بعد طواف الإفاضة.
(1)
«المغني» (5/ 234) ونَقَله النووي في «شرح مسلم» (8/ 176).
وقال ابن عبد البر: أَمَّا اسْتِلَامُ الرُّكْنِ، فَسُنَّةٌ مَسْنُونَةٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الصَّفَا، لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. «التمهيد» (24/ 416).
(2)
وقد أخرجه مسلم في صفة الحج في حديث جابر الطويل. وقد رواه سليمان بن بلال، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهَا، وَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الصَّفَا» فتَفَرَّد سليمان بن بلال بهذه اللفظة:(ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى زَمْزَمَ، فَشَرِبَ مِنْهَا، وَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ) عند أحمد (15243) وهي شاذة؛ لأنه جعل شرب النبي صلى الله عليه وسلم بعد طواف القدوم.
وقد خالف سليمانَ الثقاتُ الأثبات فرووه بدون هذه الزيادة، منهم مالك عند النَّسَائي (2963)، والثوي وابن عُيينة، كلاهما عند الترمذي (856، 862)، وحاتم بن إسماعيل عند مسلم (1218)، وإسماعيل بن جعفر ويزيد بن الهاد، كلاهما عند النَّسَائي (2961)، (2985)، ويحيى القطان عند أحمد (14440). وغيرهم عن جعفر، عن أبيه، عن جابر، به، بدون هذه الزيادة.
وفي هذا المتن أنه عاد إلى الحَجَر الأسود مرتين: مرة قبل الشرب، وأخرى بعده. وهذا منكر، تَفَرَّد به موسى بن داود عن سليمان، وقد خالفه القَعْنَبي عند أبي عَوَانة (3451) فذَكَر أنه استلم الحَجَر مرة واحدة.
والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما طاف للقدوم وصلى ركعتين، عاد إلى الحَجَر فاستلمه ثم ذهب إلى الصفا.
الفصل الرابع: ما يَحرم على الطائف
القسم الأول: ما يتعلق من البدع بالتمسح بجدران الكعبة:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التمسح بجدران الكعبة والمَقام من البدع المنهي عنها.
نَصَّ العلماء على عدم مشروعية التمسح بجدران الكعبة والمقام.
قال ابن تيمية: ولا يُشْرَع تقبيل المَقام ومسحه إجماعًا
(1)
.
وقال النووي: لَا يقَبِّلُ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ وَلَا يَسْتَلِمُهُ فَإنَّهُ بِدْعَةٌ
(2)
.
وَعَنْ بِشْرٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَأَى النَّاسَ يَمْسَحُونَ الْمَقَامَ، فَنَهَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تُؤْمَرُوا بِالْمَسْحِ. وَقَالَ: إِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ
(3)
.
المطلب الثاني: التعلق بأستار الكعبة:
ينبغي أن يُفَرَّق بين أمرين:
الأول: إن كان يَقصد المتعلق التعبد، فلا يَجوز؛ لأن العبادة مبناها على التوقيف.
عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ. وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ لَمْ يَرَ أَبَا هُرَيرَةَ وَلَا جَابِرًا وَلَا أَبَا سَعيدٍ وَلَا ابْنَ عُمَرَ- يَلْتَزِمُ أَحَدٌ مِنْ زَمْزَمَ الْبَيْتِ. قُلْتُ: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمَسُّ شَيْئًا مِنْ بَاطِنِهَا، أَوْ مِنْ أَدْرَاجِهَا يَتَعَوَّذُ بِهِ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؟ قَالَ: لَا
(4)
. فهذا يدل على عدم مشروعية التعلق بأستار الكعبة للتعبد.
الثاني: أن يَقصد المتعلق بأستار الكعبة التذلل لله.
(1)
«الاختيارات الفقهية» جَمْع البَعْلي (ص: 466).
(2)
«الإيضاح في مناسك الحج والعمرة» (ص: 392).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8958)، وابن أبي شيبة (15512).
(4)
مرسل: أخرجه عبد الرزاق (9037) عن ابن جُرَيْجٍ قال: أَخْبَرَني عطاء، به.
قال ابن تيمية: وَلَمَّا كَانَتِ الْكَعْبَةُ بَيْتَ اللَّهِ، الَّذِي يُدْعَى وَيُذْكَرُ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُسْتَجَارُ بِهِ هُنَاكَ، وَقَدْ يُسْتَمْسَكُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِأَذْيَالِ مَنْ يَسْتَجِيرُ بِهِ
(1)
.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كان إذا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ، يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، وَيَصُبُّ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَابِ، فَيَضَعُ صَدْرَهُ وَجَبْهَتَهُ عَلَيْهِ، وَيَتَشَبَّثُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَيَدْعُو
(2)
.
والحاصل: عدم مشروعية التعلق بأستار الكعبة؛ لأنه لم يَرِد ذلك عن رسول الله ولا عن أصحابه. ويجب على طلبة العلم تعليم الناس ترك الأفعال التي لم يَثبت بها سُنة؛ ولِما فيها من إيذاء الطائفين ومُضايقتهم دون وجه حق، والله أعلم.
المطلب الثالث: استلام الركنين الشاميين.
نُقِل الإجماع على عدم استلام الركنين الشاميين
(3)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد ورد خلاف، فالصحيح أن هذا قول جماهير العلماء
(4)
.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مِنَ الْبَيْتِ، إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ»
(5)
.
القول الآخَر: أنه يُشْرَع استلام الركنين الشاميين
(6)
.
رَوَى البخاري: عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ: «وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنَ البَيْتِ؟» وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّهُ لَا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ. فَقَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ البَيْتِ مَهْجُورًا» وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ
(7)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» (15/ 227).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 160).
(3)
«المجموع» (8/ 58).
(4)
وقد نَقَل الترمذي: عن أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ، أَنْ لَا يَسْتَلِمَ إِلاَّ الحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَ «السُنن» (2/ 202).
(5)
رواه البخاري (1609)، ومسلم (1267).
(6)
وممن كان يقول باستلامهما: الحَسَن والحسين، وابن الزبير، وجابر، وأنس. «المجموع» (8/ 58).
(7)
أخرجه «البخاري» (1608).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: ما قاله الشافعي: لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ عَدَمَ اسْتِلَامِهِمَا هَجْرٌ لِلْبَيْتِ، لَكِنَّهُ اسْتَلَمَ مَا اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمْسَكَ مَا أَمْسَكَ عَنْهُ.
الثاني: أنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ خَالَفَهُمَا فِيهِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ اسْتِلَامُ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ
(1)
.
والذي ينبغي لزوار بيت الله الحرام: تَعَلُّم هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، وأنه من غير المشروع استلام الركنين الشاميين؛ لأن في هذا إيذاء للطائفين؛ لِما يسببه ذلك من ضيق ومزاحمة لهم.
الحكمة مِنْ ترك استلام الركنين الشاميين.
بَيَّن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم تَرَك استلام الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يُبنيا على قواعد إبراهيم، ودل على ذلك عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ»
(2)
.
قال ابن تيمية: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَالرُّكْنَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْجِدَارِ، وَالِاسْتِلَامُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَرْكَانِ، وَإِلَّا لَاسْتَلَمَ جَمِيعَ جِدَارِ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ
(3)
.
القسم الثاني من البدع: ما يتعلق بالدعاء: وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الدعاء الجماعي:
الأصل أن يدعو كل إنسان بنفسه، وهذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وفي الدعاء الجماعي رَفْع للصوت بالدعاء، وهو يخالف هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تشويش وإيذاء للطائفين الذاكرين الله الداعين له، وقد نَهَى الله عن ذلك، فقال تعالى:
(1)
«المجموع» (8/ 34).
(2)
أخرجه البخاري (1586).
(3)
«شرح العمدة» (2/ 446).
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] وقال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي: بدعائك، على قول.
المطلب الثاني: تخصيص كل شوط بدعاء معين:
لم يَثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء مُعيَّن في الطواف، أو ذِكر مخصوص، سوى التكبير في بداية الطواف. وإنما على الطائف أن يدعو بما تيسر (بالدعاء المطلق) لنفسه ولرحمه وجميع المسلمين. وعلى ذلك تضافرت أقوال العلماء.
قال السرخسي: وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ تَعْيِينَ شَيْءٍ مِنَ الْأَدْعِيَةِ فِي مَشَاهِدِ الْحَجِّ؛ لِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ، فَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَدْعُوَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا يَحْضُرُهُ؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْخُشُوعِ
(1)
.
وقال ابن جماعة: اعلم أنه غَلَب على عوام الناس في زماننا- الإعراض في الطواف عن مهمات أدعيتهم؛ بسبب اشتغالهم بأدعية متكلفة غير مأثورة، لا يكون معها خشوع! ويَجتمع لذلك جماعة كثيرة من الرجال والنساء حِلقًا، حَوْل مَنْ يتلقونه منه، ويبالغون في رفع أصواتهم بالدعاء، ويقفون عند الأركان، ويكررون الإشارة إليها بأيديهم، فيشوشون على الطائفين برفع أصواتهم.
فليُتجنَّب ذلك فإنه من أعظم البدع، وليَمْشِ الطائف بسكينة ووقار وأدب وخشوع وتواضع، لا يؤذي مَنْ أمامه بإسراع في المشي، ولا يَحبس مَنْ خَلْفه بوقوف، ولا يَجهر بأذكار الطواف وأدعيته، فيُشوِّش بالجهر على غيره
(2)
.
فتَبَيَّن من ذلك ضلال ما يفعله بعض المطوفين، من جمع الحُجاج حوله في مجموعات كبيرة، تتحرك دفعة واحدة، مما يؤدي إلى تدافع الطائفين وأذيتهم، ورَفْع الصوت بالدعاء بما يشوش على الطائفين. والله أعلم.
المطلب الثالث: الدعاء عند المُلتزَم:
ذهب جمهور العلماء إلى استحباب الدعاء عند المُلتزَم، وهو ما بين الحَجَر الأسود
(1)
«المبسوط» (4/ 9).
(2)
«هداية السالك» باختصار (3/ 993).
وباب الكعبة. وسُمي (المُلتزَم) لأن الناس يلتزمونه عند الدعاء، أي: يَضمونه إلى صدورهم. وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة
(1)
.
فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ السَّبْعِ، رَكَعْنَا فِي دُبُرِ الْكَعْبَةِ. قَالَ: ثُمَّ مَضَى فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ قَامَ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْبَابِ، فأَلْصَقَ صَدْرَهُ وَيَدَيْهِ وَخَدَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ يُدْعَى الْمُلْتَزَمَ، لَا يَلْزَمُ مَا بَيْنَهُمَا أَحَدٌ يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ
(3)
.
ونوقش بأنه لا يصح في الدعاء عند المُلتزَم حديث، والسُّنة (بعد الطواف) أَنْ يَرجع إلى الحَجَر الأسود فيستلمه، ثم يَخرج إلى المَسعى، ثَبَتَ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الدعاء عند المُلتزَم يكون قبل طواف الوداع
(5)
.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 160)، و «مواهب الجليل» (3/ 112)، و «الأُم» (2/ 221)، و «المغني» (5/ 342).
(2)
منكر: أخرجه عبد الرزاق (9256). وقد تَصَحَّفَ (المُثنَّى بن الصَّبَّاحِ) في أصل المُصَنَّف إلى (ابن التَّيْمي) وهو خطأ. وقد رواه ابن ماجه (2975) ومن طريق عبد الرزاق عن المُثَنَّى، فضلًا عن أن ابن التيمي- وهو المُعتمِر بن سليمان- لا يَروي عن عمرو بن شُعيب.
وأخرجه عبد الرزاق (9257) عن ابن جُريجٍ قال: قال عمرو بن شُعيب: طَافَ مُحَمَّدٌ- جَدُّهُ- مَعَ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو
…
بمعناه. وابن جُريج مدلس، ولم يُصَرِّح بالتحديث، والظاهر أنه أَسْقَط المُثَنَّى، وقد صَدَق الدارقطني إذ قال: تَجَنَّبْ تدليس ابن جُريج؛ فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح. وقال البخاري: ابن جُريجٍ لم يَسمع من عمرو بن شُعيب.
وأخرجه أبو داود (1899) عن المُثَنَّى بن الصَّبَّاحِ، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أَبيه. بدون جَدّه.
والحاصل: أن هذا الحديث تَفَرَّد به المُثَنَّى بن الصَّبَّاحِ، وهو ضعيف، ويَروي عن عمرو بن شُعَيْب مناكير، وهذا الحديث من مناكير المُثَنَّى. وقال أبو زُرْعَة: عامة المناكير التي تُرْوَى عن عمرو بن شُعيب إنما هي عن المُثَنَّى بن الصَّبَّاح.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (9766).
(4)
وقال الطَّبَرِيُّ: الصَّوَابُ الَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ: أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ عَقِبَ صَلَاةِ الطَّوَافِ بِشَيْءٍ إِلَّا اسْتِلَامَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ الْخُرُوجَ إِلَى الصَّفَا. «المجموع» (8/ 67).
(5)
قال ابن تيمية: وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ- وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَابِ- فَيَضَعَ عَلَيْهِ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ، وَيَدْعُوَ وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ.
وَإِنْ شَاءَ قَالَ فِي دُعَائِهِ الدُّعَاءَ الْمَأْثُورَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ، حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِي مِنْ خَلْقِكَ، وَسَيَّرْتَنِي فِي بِلَادِكَ، حَتَّى بَلَّغْتَنِي بِنِعْمَتِكَ إِلَى بَيْتِكَ، وَأَعَنْتَنِي عَلَى أَدَاءِ نُسُكِي.
فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي، فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا. وَإِلَّا فَمِنَ الْآنَ فَارْضَ عَنِّي قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي؛ فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إنْ أَذِنْتَ لِي. اللَّهُمَّ فَأَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي، وَالصِّحَّةَ فِي جِسْمِي، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي، وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طَاعَتَك مَا أَبْقَيْتنِي، وَاجْمَعْ لِي بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. «مجموع الفتاوى» (26/ 142).
والراجح: أنه لم يصح الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عند المُلتزَم ولا تحت الميزاب بعد الطواف. والدعاء عبادة، فلا يَجوز تخصيصه بزمان ومكان لم يَرِد تخصيصهما في الشرع.
والسُّنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد الطواف وركعتيه استلام الحجر والسعي. أما الدعاء عند المُلتزَم مطلقًا بغير تخصيص فيَجوز، وإن كان لم يصح فيه حديث مرفوع، ولكن صح ذلك عن بعض السلف، كابن عباس وعروة وطاوس وغيرهم
(1)
.
المطلب الرابع: لا يُستحب الدعاء تحت الميزاب بعد الطواف
وقبل السعي. وميزاب الكعبة هو مَصَبّ ماء المطر
(2)
.
ذهب قوم إلى استحباب الدعاء تحت الميزاب بعد الطواف وقبل السعي. وهو قول عند الحنفية وعند المالكية، وقول بعض الشافعية وبعض الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بما رُوي أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا حَاذَى مِيزَابَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ فِي الطَّوَافِ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَفْوَ عِنْدَ الْحِسَابِ»
(4)
.
واعتُرض عليه بأنه لا يصح في الدعاء تحت الميزاب حديث.
والراجح: أنه لا يُشْرَع الدعاء تحت الميزاب بعد الطواف؛ ولأن الدعاء عبادة، فلا
(1)
رَوَى عبد الرزاق (9261) بسند صحيح عن عروة أَنه كان يُلْصِق بالبيت صَدْره ويده وبطنه. وكذا صح عن طاوس بن كَيْسَان عند عبد الرزاق (9253).
(2)
«تاج العروس» (2/ 24).
(3)
«البحر الرائق» (2/ 357)، و «مواهب الجليل» (3/ 112)، و «الحاوي» (4/ 155)، و «الفروع» (6/ 42).
(4)
مرسل ضعيف: أخرجه الأزرقي في «أخبار مكة» (1/ 319). وفي إسناده عثمان بن ساج، وهو ضعيف.
يَجوز تخصيصه بزمان ومكان لم يَرِد تخصيصهما في الشرع، والسُّنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد الطواف وركعتيه استلام الحجر والسعي.
القسم الثالث: ما يَحرم في الطواف بسبب الاختلاط:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: يَحرم الطواف بالبيت عُريانًا
؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»
(1)
.
ويَدخل في هذا أنه يَحرم على النساء التزين والتبرج والتطيب في كل وقت، وعند الطواف أشد، فيجب على المرأة أن تَلبس لباسًا ساترًا بالضوابط الشرعية، وألا تكون فتنة، ولا سيما عند الكعبة المشرفة وفي بيت الله المُحَرَّم. ويَحرم نظر الرجال إلى النساء الأجنبيات؛ لعموم قوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30].
المطلب الثاني: يَحرم مخالطة الرجال للنساء في الطواف،
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
وقد أَمَر النبي صلى الله عليه وسلم أُم سَلَمَة أن تطوف خلف الناس، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي. قَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» .
فطواف النساء مع الرجال حال الاختلاط لا يَجوز، ولا سيما إذا كان الزحام شديدًا، ويؤدي إلى المماسة والافتنان.
روى البخاري: عَنْ عَطَاءٍ: إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ، قَالَ: كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ، وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الرِّجَالِ؟! قُلْتُ: كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ، لَا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ:
(1)
أخرجه البخاري (369).
انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ. قَالَتْ: «انْطَلِقِي عَنْكِ» وَأَبَتْ، يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ، فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ البَيْتَ، قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ، وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ
(1)
.
وَقَدْ نَهَى عُمَرُ أَنْ يَطُوفَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فَرَأَى رَجُلًا مَعَهُنَّ، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ
(2)
.
وَعَنْ حَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَطُوفُونَ مَعًا مُخْتَلِطِينَ، حَتَّى وَلِيَ مَكَّةَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الطَّوَافِ، وَأَجْلَسَ عِنْدَ كُلِّ رُكْنٍ حَرَسًا مَعَهُمُ السِّيَاطُ، يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ
(3)
.
ونوقش بأن صلاة النساء مع الرجال في المسجد، وكذا الطواف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأجيب عنه بأن صلاة النساء في المسجد خلف الرجال بلا اختلاط، ومع هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خَيْر صفوف النساء آخِرها» لعدم وجود اختلاط وافتتان النساء بالرجال، وكذا أمهات المؤمنين طفن مع الرجال بدون اختلاط.
ولذا ينبغي أن تَطوف النساء منفردات عن الرجال، بأن يُخصَّص لهن وقت لطوافهن، والرجال لهم وقت؛ حتى لا يَحدث اختلاط. أو وَضْع حاجز دائري يَفصل طواف النساء عن الرجال، ولا سيما أوقات الزحام. والله أعلم.
•1•
(1)
أخرجه البخاري (1618).
(2)
مرسل: أخرجه الفاكهي (1/ 252) وفي إسناده إسماعيل بن محمود، لم أجد له ترجمة. والنَّخَعي لم يَسمع من عمر.
(3)
«أخبار مكة» للأزرقي (2/ 19): من طريق عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ.
الفصل الرابع: مكروهات الطواف:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: يُكْرَه للطائف أن يُدافِع البول والغائط، ويُكْرَه أن يطوف وهو شديد التوقان إلى الطعام أو النوم؛ حتى لا يُحال بينه وبين الخشوع.
فالذي ينبغي للطائف إذا كان شديد التوقان إلى النوم نام، أو إلى الطعام أَكَل، أو يريد قضاء الحاجة أو الوضوء توضأ؛ حتى يَدخل البيت بقلب خاشع يَستحضر عظمة الله.
المطلب الثاني: يُكْرَه للطائف الإكثار من الكلام مع الأصحاب الذين يطوفون معه،
ولكن ينبغي له الإكثار من الدعاء والذِّكر واستحضار عظمة الله. وينبغي له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المطلب الثالث: يُكْرَه القعود في الطواف ولا سيما في الزحام،
وكذا يُكْرَه عمل مجموعات كبيرة مع الدخول في وسط الزحام، ومزاحمة الطائفين وأذيتهم؛ لِما روى ابن عباس رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ، بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ - أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ - فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:«قُدْهُ بِيَدِهِ»
(1)
.
•1•
(1)
أخرجه البخاري (1620).
الفصل الخامس نوازل الطواف
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: نَقْل مَقام إبراهيم وتوسعة المطاف.
المبحث الثاني: إنشاء وسائل آلية مُساعِدة في المطاف والمسعى.
المبحث الثالث: تَكرار الطواف في المواسم.
المبحث الرابع: مَنْع غير المُحْرِمين من النزول إلى صحن الطواف أوقات المواسم.
المبحث الخامس: الإفادة من البناء المُقبَّب في المطاف.
المبحث السادس: استعمال العَدَّاد لضبط عدد أشواط الطواف والسعي.
المبحث الأول: نَقْل مَقام إبراهيم: وفيه تمهيد ومطلبان:
التمهيد: المَقام في اللغة: موضع قدم القائم. ومَقام إبراهيم: هو الحَجَر الذي قام عليه حين رَفَع بناء البيت وبه أَثَرُ قدميه. ومنه قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وهو موجود بداخل الموضع الزجاجي الواقع أمام الكعبة المشرفة، الذي أُسِّس في عهد الحكومة السعودية، سَنة (1374 هـ) فأصبح يراه العامّ والخاص بعد هدم الموضع الأول البنائي، الذي كان لا يَرى فيه المَقام إلا الخواص
(1)
.
المطلب الأول: هل موضع المَقام الآن هو موضعه في زمن النبوة، أو في زمن عمر؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن مَقام إبراهيم كان عند الباب، وأن الذي وضعه في هذا المقام هو عمر؛ تخفيفًا عن الطائفين. وهو قول عائشة وعروة، ومجاهد ومالك
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فعند أبي داود في حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبرَاهِيمَ، فَقَرَأَ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.
وَجْه الدلالة: (ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبرَاهِيمَ) فلا شك أن كلمة (تَقَدَّمَ) تدل على أن المَقام كان ملاصقًا للكعبة. ولو كان المَقام في موضعه الآن، لقال:(تَأَخَّرَ)
(3)
.
وأما المأثور، فَرَوَتْ عَائِشَةَ أَنَّ الْمَقَامَ كَانَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ، صلى الله عليه وآله وسلم، وَزَمَانِ أَبِي بَكْرٍ- مُلْتَصِقًا بِالْبَيْتِ، ثُمَّ أَخَّرَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ
(4)
.
(1)
وقيل: بل هو مناسك الحج كلها. وقيل: عرفة. وقيل: مزدلفة. وقيل: الحَرَم كله. ويَرفع هذا الخلاف، ويُبيِّن المراد بالمَقام- قولُه صلى الله عليه وسلم:«فجَعَل المَقام بينه وبين الكعبة» وهذا يدل على أنه هو الموضع المعروف هناك، الذي يَستقبل بابَ البيت. «المُفْهِم» (3/ 256)، و «فتح الباري» (1/ 189).
(2)
«فتح الباري» لابن رجب (2/ 307)، و «المُدوَّنة» (2/ 252).
(3)
رسالة «مَقام إبراهيم» للمُعَلِّمي اليماني (ص: 81، 82).
(4)
ضعيف، أُعِل بالإرسال، مدار هذا الأثر على هشام بن عروة، عن أبيه. واختُلف عنه:
ويرويه الدراوردي، واختُلف عليه:
فقيل: عنه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة! كما في «مسند الفاروق» (345).
وقيل: عنه، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أُراه عن عائشة! أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (998).
ورواه عيسى بن يونس وابن عُيينة، كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه. ليس فيه:(عائشة). أخرجه الفاكهي (997)، والأزرقي (2/ 35). ورَجَّح هذا الوجه المرسلَ أبو زُرْعَة «العلل» (896).
ورَوَى عبد الرزاق (8955): عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُونَ أَنَّ عُمَرَ أَوَّلُ مَنْ رَفَعَ المَقَامَ، فَوَضَعَهُ مَوْضِعَهُ الآنَ. وهذا ضعيف؛ لانقطاعه بين عطاء وأصحابه وبين عمر.
وقد روى عبد الرزاق (8954): عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْضَ خِلَافَتِهِ- كَانُوا يُصَلُّونَ صُقْعَ الْبَيْتِ حَتَّى صَلَّى عُمَرُ خَلْفَ الْمَقَامِ.
وقد أَنْكَر ابن رجب هذا الأثر، فقال: وهذا يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ إلى المَقام، وهذا باطل يَرُده حديث ابن عمر وجابر كما تقدم، وهذا يناقض ما قاله عروة أن المَقام كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر- مُلصَقًا بالبيت، فكيف يكون كذلك ثم يَزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر صليا عند البيت، ولم يصليا خلف المَقام إلى أن صلى خلفه عمر؟! فقد اضطرب قول عروة في هذا واختَلف. «فتح الباري» (3/ 85).
القول الآخَر: أن موضع المَقام اليوم هو موضعه في زمن النبوة.
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ صَلَّيْنَا خَلْفَ الْمَقَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَكَانَ الْمَقَامُ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَحَوَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَوْضِعِهِ هَذَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَرَى الرَّأْيَ، فَيَنْزِلُ بِهِ الْقُرْآنُ
(1)
.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: مَوْضِعُ الْمَقَامِ هَذَا الَّذِي هُوَ بِهِ الْيَوْمَ هُوَ مَوْضِعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، إِلَّا أَنَّ السَّيْلَ ذَهَبَ بِهِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَجُعِلَ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ، حَتَّى قَدِمَ عُمَرُ، فَرَدَّهُ بِمَحْضَرِ النَّاسِ
(2)
.
ونوقش بأنه لو صح فهو ينفي تحويل النبي صلى الله عليه وسلم له، وأنه لم يكن لاصقًا بالكعبة.
والحاصل: أن مَقام إبراهيم كان عند الباب، وأن الذي وضعه في هذا المَقام هو عمر.
المطلب الثاني: حُكْم نقل مَقام إبراهيم:
مِنْ أسباب الزحام في المطاف: التزام كثير من الحجيج بأداء ركعتي الطواف خلف المَقام وقت اشتداد الزحام، ويَنتج عن ذلك شل حركة المطاف وتَدافُع وإيذاء وفوضى والتصاق الرجال بالنساء، مما لا يتناسب مع قدسية المكان وشرفه.
(1)
ضعيف: أخرجه ابن مَرْدَوَيْهِ، في «تفسير ابن كَثير» (1/ 418) وشَريك وإبراهيم بن مُهاجِر ضعيفان.
(2)
ضعيف: أخرجه الأزرقي في «أخبار مكة» (2/ 35). وفي إسناده عبد الجبار بن الوَرْد، وهو صدوق يَهِم. وقد قال البخاري: سَمِع ابنَ أبي مُلَيْكة، فخالف في بعض حديثه، ولا يَتحمل مثل هذا المتن.
ومن الحلول المطروحة: نَقْل مَقام إبراهيم، فقد اختَلف العلماء في حكم ذلك: فمنهم مَنْ أجاز نقل المَقام؛ لدَفْع مَفسدة الزحام وتحقيقًا للمصلحة. كالمُعَلِّمي، ومحمد بن إبراهيم، وابن باز، والألباني. ومِن العلماء مَنْ مَنَع. ومنهم مَنْ تَوَقَّفَ
(1)
.
والراجح: أنه لا يوجد ضرر في وجود المَقام في محله الآن، بعد أن هُذِّب هيكله وجُعل رفيعًا أنيقًا؛ أشبه بسارية في المسجد، لا يؤثر في سلاسة حركة الطائفين.
والحل الصحيح: مَنْع الطائفين من الصلاة خلف المَقام في المطاف أوقات الزحام، وليس نقل المَقام
(2)
.
ومن الحلول المطروحة: إقامة المَقام على آلة كهربائية رافعة.
وصورة هذا العمل: هي أن يُعمَل للمَقام في مكانه خندق أرضي طولي، عمقه بقدر ارتفاعه على وجه الأرض وزيادة، يقام على آلة كهربائية رافعة، بما يَضمن دخوله في عمق الخندق آليًّا، وتغطية أعلاه بنفس الرخام الذي تُغطَّى به أرض المطاف، فيصبح متساويًا معه في وقت المواسم، فإذا ما انفض جمع الحُجاج وخف الزحام، رُفِع مرة أخرى ليبقى بارزًا مُشاهَدًا كما هو المعتاد، ويكون ذلك بطريقة آلية يُضغَط على مِفتاح خاص
(3)
.
ومِن الحلول المطروحة: وَضْع المَقام على صندوق متحرك، بأن يُعَلَّم موضع المَقام بعلامة ثابتة، ثم يوضع المَقام على صندوق متحرك في مكانه في غير المواسم، وفي أيام المواسم يُؤخَّر، فإذا خف الزحام يعاد إلى موضعه.
المبحث الثاني: إنشاء وسائل آلية مُساعِدة في المطاف والمسعى:
يُقترَح عمل دور سفلي في المَطاف والمسعى، وتُستخدم وسائل آلية مُساعِدة في المطاف، مثل السيور الكهربائية أو القطار، على حَسَب ما يقرره أهل الخبرة، ويكون هذا
(1)
«حلول الزحام في المناسك» (ص: 310).
(2)
قال ابن عبد البر: وَرَوَيْنَا أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ ذَكَرَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ مَا بَنَى الْحَجَّاجُ مِنَ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يَرُدَّهُ إِلَى بُنْيَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ؛ لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَامْتَثَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا تَجْعَلَ هَذَا الْبَيْتَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ، لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمُ إِلَّا نَقَضَ الْبَيْتَ وَبَنَاهُ، فَتَذْهَبُ هَيْبَتُهُ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ. «الاستذكار» (4/ 188).
(3)
«حلول الزحام في المناسك» (ص: 322).
الدور مختصًّا بأصحاب الأعذار من كبار السن والعاجزين. وهذا يفيد في تخفيف الزحام.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم: تسهيلًا للسعي بين الصفا والمروة على العَجَزة، يمكن عمل خط تمر عليه عربات من داخل المسعى، ومعلقة في جدرانه، تَذهب من طريق، وتعود من الطريق الثاني
(1)
.
ويمكن قياسها على العربات اليدوية المستعملة حاليًّا في المسجد الحرام، والتي استمر عمل المسلمين عليها في أداء المناسك، من غير نَكير.
ويُقترَح عمل لجنة من أهل العلم وأهل الخبرة من المهندسين؛ لعَمَل دور سفلي في المطاف والمسعى، وتُستخدَم وسائل آلية مُساعِدة في المطاف بالضوابط الشرعية.
المبحث الثالث: تَكرار الطواف في المواسم:
أَجْمَع العلماء على استحباب تَكرار الطواف
(2)
.
أما في المواسم ولا سيما في أوقات الزحام، فلا يُستحب تَكرار الطواف؛ لعدم أذية الحُجاج الطائفين المؤدين لنسكهم الواجب.
المبحث الرابع:
مَنْع غير المُحْرِمين من النزول إلى صحن الطواف أوقات المواسم:
الأصل عدم جواز منع أي قاصد لبيت الله؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، إِنْ وَلِيتُمْ هَذَا الأَمْرَ فَلَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ أَوْ صَلَّى، أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» .
فهذا نص صريح في أن مَنْ تولى أمر المسجد الحرام، ليس له منع أي طائف بالبيت.
فهذا هو الأصل، ويمكن الحيدة عنه إذا اضطر ولي الأمر إلى منع غير المُحْرِمين من النزول إلى صحن الطواف أوقات المواسم؛ ليَحمي الحُجاج من مخاطر الزحام، وما يتضمنه من هلاك الأنفس وذَهاب الأرواح، فتُستثنَى مواطن الضرورات، والضرورة تُقَدَّر بقَدْرها، فالمنع لطائفة محددة وهم مَنْ يطوفون تطوعًا، وعن مكان محدد وهو صحن
(1)
«فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ» (5/ 150).
(2)
قال المحب الطبري: أجمعوا على استحباب تَكرار الطواف. «القرى» (ص: 334).
ونَقَله علي القاري فقال: وإكثاره بالإجماع مستحب. «المسلك المتقسط» (ص: 257).
المطاف، وفي وقت مقيد بأوقات المواسم. والله أعلم.
المبحث الخامس: الإفادة من البناء المُقبَّب في المطاف:
وأصل هذا البناء كان في عهد الخليفة العباسي المهدي، عام (160 هـ) وقد أَمَر السلطانُ سليم الثاني العثماني سليمانَ القانوني، بترميم بناية المهدي، واستبدال السقف الخشبي للبناية بالقبب، وتُوفي سليم الثاني عام (982 هـ).
وعن حُكم إزالة البناء المُقبَّب في المطاف، أَصْدَرَتْ هيئة كبار العلماء قرارًا جاء فيه: بالنسبة لإزالة مباني المصابيح القديمة القباب، رأى المجلس بالأكثرية أنه لا مانع من إزالتها؛ لتضييقها وعدم الانتفاع بسطحها
(1)
.
المبحث السادس: استعمال العَدَّاد لضبط عدد أشواط الطواف
والسعي:
عَنْ صَالِحِ بْنِ دِرْهَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، وَرَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنِ السَّعْيِ، فَقَالَ: افْتَحْ بِالصَّفَا، وَاخْتِمْ بِالْمَرْوَةِ. قَالَ: إِنْ خِفْتَ أَنْ لَا تُحْصِيَ فَخُذْ مَعَكَ أَحْجَارًا. أَوْ قَالَ: حَصَيَاتٍ، فَكُلَّمَا جِئْتَ إِلَى الْجَبَلِ أَوِ الصَّفَا، أَلْقَيْتَ وَاحِدَةً، وَالْمَرْوَةَ أُخْرَى
(2)
.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: «كُنَّا نَطُوفُ، وَعَلَيْنَا خَوَاتِيمُنَا، نَحْفَظُ بِهَا الْأَسْبَاعَ»
(3)
.
وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً تَطُوفُ، بِيَدِهَا حَصَيَاتٌ تَعُدُّ الطَّوَافَ، فَضَرَبَ يَدَهَا
(4)
.
فقد يَعجز بعض الناس عن عد الأشواط على الأصابع، فهل نُجْبِر العجوز على العد باليد؛ لأن ضبطه مهم وسيفرغهم للدعاء لأنفسهم ولأهليهم ولأمتهم؟ مع التدبر والتفكر في المعاني. وقد ورد التيسير والعد على الحصى في أقل من ذلك.
•?•
(1)
«أبحاث هيئة كبار العلماء» (3/ 403)، و «حلول الزحام في المناسك» (ص: 308).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (1378) وابن أبي شيبة (14659).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (14661) من طريق الثوري، عن أبي الهيثم الكوفي، وهو ثقة.
(4)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (14660) من طريق أبي أسامة، عن شُعْبَة، به.
الباب التاسع
السعي بين الصفا والمروة
وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: تعريف وحُكْم السعي.
الفصل الثاني: ما يُشترَط في السعي.
الفصل الثالث: ما لا يُشترَط في السعي.
الفصل الرابع: سُنن السعي.
الفصل الخامس: أنواع السعي في الحج.
الفصل السادس: حُكْم توسيع المَسْعَى.
الفصل الأول: تعريف وحُكْم السعي:
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف السعي بين الصفا والمروة:
1 -
(السعي) لغةً: المشي على الأقدام بسرعة.
2 -
(الصفا) لغةً: الصخرة الملساء.
3 -
(المروة) لغة: حِجارة بِيض بَرَّاقة.
والصفا: مكان مرتفع من جبل أبي قُبَيْس، ومنه ابتداء السعي. والمروة: جبل بمكة، وهو في أصل جبل قُعَيْقِعَان، وإليه انتهاء السعي.
والسعي في الشرع: قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ ذَهَابًا وَإِيَابًا، بَعْدَ طَوَافٍ، فِي نُسُكِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ
(1)
.
المبحث الثاني: أصل السعي:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ، وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟! فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا. ثُمَّ رَجَعَتْ.
فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا
(1)
يُطْلَق السعي على الجِدّ في المشيِ، ومنه قوله تعالى:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] وقد يَكُون السعيُ العمل؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19].
انظر: «لسان العرب» (مادة: س ع ا)، و «الموسوعة الكويتية» (25/ 11).
بِهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] حَتَّى بَلَغَ: {لِي} [إبراهيم: 37].
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى- أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا. فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ، حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا»
(1)
.
قال ابن بَطَّال: فبُيِّن في هذا الحديث أن سبب كونها سبعة أطواف، وسبب السعي فيها- فِعْل أُم إسماعيل عليهم السلام ذلك
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (3364). وتتمة قول ابن عباس: «فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صَهٍ - تُرِيدُ نَفْسَهَا - ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ! فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ- أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ- حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا، وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ - لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» . قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ
…
». و (يتلبط) أي: يتقلب في الأرض.
(2)
«شرح البخاري» لابن بَطَّال (4/ 327). وقال ابن كَثير: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَطْوَافِ هَاجَرَ، وَتَرْدَادِهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي طَلَبِ الْمَاءِ لِوَلَدِهَا، لَمَّا نَفِدَ مَاؤُهَا وَزَادُهَا، حِينَ تَرَكَهُمَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام هُنَالِكَ، لَيْسَ عِنْدَهُمَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.
فَلَمَّا خَافَتِ الضَّيْعَةُ عَلَى وَلَدِهَا هُنَالِكَ، وَنَفِدَ مَا عِنْدَهَا، قَامَتْ تَطْلُبُ الْغَوْثَ مِنَ اللَّهِ عز وجل، فَلَمْ تَزَلْ تَرَدَّدُ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْمُشَرَّفَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، مُتَذَلِّلَةً خَائِفَةً وَجِلَةً، مُضْطَرَّةً فَقِيرَةً إِلَى اللَّهِ، عز وجل، حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ كُرْبَتَهَا، وَآنَسَ غُرْبَتَهَا، وَفَرَّجَ شِدَّتَهَا، وَأَنْبَعَ لَهَا زَمْزَمَ التِي مَاؤُهَا طَعَامُ طَعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ.
فَالسَّاعِي بَيْنَهُمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فَقْرَهُ وَذُلُّهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى اللَّهِ، فِي هِدَايَةِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِ حَالِهِ وَغُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وَأَنْ يَلْتَجِئَ إِلَى اللهِ عز وجل ليُزيح مَا هُوَ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، وَأَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَيْهِ إِلَى مَمَاتِهِ، وَأَنْ يُحَوِّلَهُ مِنْ حَالِهِ الذِي هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي إِلَى حَالِ الْكَمَالِ والغُفران وَالسَّدَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ، كَمَا فَعَلَ بِهَاجَرَ عليها السلام. «تفسير ابن كَثير» (1/ 471).
المبحث الثالث: حكمة السعي:
قال ابن دقيق العيد: في ذلك من الحكمة تَذكُّر الوقائع الماضية للسلف الكرام، وما كانوا عليه من امتثال أمر الله تعالى، وبَذْل الأنفس في ذلك.
وبهذه النكتة يَظهر لك أن كثيرًا من الأعمال التي وقعت في الحج ويقال فيها: (إنها تَعبُّد) ليست كما قيل، ألا ترى أَنَّا إذا فعلناها وتَذَكَّرْنا أسبابها، حَصَل لنا من ذلك تعظيم الأولين وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله، وذلك معنًى معقول؟
مثاله: السعي بين الصفا والمروة، إذا فعلناه وتَذَكَّرْنا أن سببه قصة هاجر مع ابنها، وتَرْك الخليل لهما في ذلك المكان الموحش، منفردَين منقطعَي أسباب الحياة بالكلية، مع ما أظهره الله تعالى لهما من إخراج الماء لهما، كان في ذلك مصالح عظيمة
(1)
.
المبحث الرابع: حُكْم السعي في الحج والعمرة:
اختَلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة. وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمأثور:
أما الكتاب، فقوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158].
وَجْه الدلالة: أن تصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله- يدل على أن السعي بينهما أَمْر حتم لا بد منه؛ لأنه لا يمكن أن تكون شعيرة، ثم لا تكون لازمة في
(1)
«إحكام الأحكام» (ص: 316).
(2)
«الذخيرة» (3/ 250)، و «الأُم» (2/ 210)، و «المغني» (3/ 194).
قال النووي: مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم- أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج، لا يصح إلا به، ولا يُجْبَر بدم ولا غيره. «شرح مسلم» (9/ 20).
النسك، وقد قال تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
وأما السُّنة، فاستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اسْعَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ»
(1)
.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَطْحَاءِ، وَهُوَ مُنِيخٌ، فَقَالَ:«أَحَجَجْتَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «بِمَ أَهْلَلْتَ؟» قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: «أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ»
(2)
.
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم أَمَر بالسعي كالطواف، ورَتَّب عليه الحِل، فيكون ركنًا كالطواف.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ، فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ»
(3)
.
وَجْه الدلالة: أنه يُفْهَم من الحديث أنها لو لم تَطُف بينهما، لم يَحصل لها إجزاء عن حجها وعمرتها، فدل ذلك على أن السعي ركن للحج.
وعن عائشة قالت: «فَلَعَمْرِي، مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ»
(4)
.
وَجْه الدلالة: تعليق تمام الحج على السعي يدل على أنه ركن لابد من الإتيان به.
(1)
ضعيف، وله طرق، من أشهرها طريق عبد الله بن المُؤَمَّل، واختُلف عليه من وجهين:
الأول: عن عمر بن مُحَيْصِن، عن عطاء، عن صفية بنت شَيْبة، عن حَبِيبة. أخرجه أحمد (27367).
الثاني: رواه بإسقاط عمر عند أحمد أيضًا (27368).
وقد ذَكَر ابن القَطَّان أوجه الاختلاف فيه، وقال: فهذا الاضطراب من عبد الله بن المُؤمَّل، وهو دليل على سوء حفظه وقلة ضبطه. «الوهم والإيهام» (5/ 159).
وقد قال أحمد: إن أحاديثه مناكير. وقال ابن عَدي: وهذا يرويه عبد الله بن المُؤمَّل، وبه يُعْرَف، ولابن المُؤمَّل هذا غير ما ذَكَرْتُ من الحديث، وعامة ما يرويه الضعف عليه بَيِّن. «الكامل» (6/ 389).
الطريق الثاني: مداره على الخليل بن عثمان، لم أجد له ترجمة. أخرجه ابن خُزيمة (2764).
وذَكَر الدارقطني في «العلل» (4117) طرقًا أخرى لا تصح، وقال: والصحيح قول مَنْ قال: (ابن المُؤَمَّل، عن ابن مُحَيْصِن، عن عطاء، عن صفية، عن حبيبة) وهو الصواب.
(2)
رواه البخاري (1795)، ومسلم (1221).
(3)
رواه مسلم (1211).
(4)
رواه البخاري (1790)، ومسلم (1277).
القول الثاني: أن السعي واجب من واجبات الحج والعمرة، ومَن تَرَكه لزمته الفدية. وبه قال أبو حنيفة، وهو رواية عن مالك، ورواية عن أحمد
(1)
.
القول الثالث: أن السعي بين الصفا والمروة سُنة، لا يَلزم تاركَه شيء. وبه قال أحمد في رواية، ورُوي ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين
(2)
.
واستدلوا بِقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
فدلت الآية على عدم وجوب السعي من وجهين:
الأول: أَخْبَرَ اللهُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْجُنَاحِ عَمَّنْ يَطُوفُ بِهِمَا، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا كَانَ مُبَاحًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فَكَانَ الْقَصْرُ مُبَاحًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا.
ونوقش بما قاله ابن العربي: فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الطَّوَافِ، وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ لِإِفَادَةِ إبَاحَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ؛ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الطَّائِفُ قَصْدًا بَاطِلًا
(3)
.
وأما الوجه الثاني، فاستدلوا بقراءة ابن مسعود وأُبَيّ وابن عباس، يقرءون:(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وَهَذِهِ قِرَاءَةُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَوَجَبَ رَفْعُ الجُنَاحِ.
(1)
«المبسوط» (4/ 50)، و «مواهب الجليل» (7/ 313)، و «الإنصاف» (4/ 58).
(2)
«المغني» (3/ 194)، و «تفسير الطبري» (2/ 50)، و «المجموع» (8/ 81)، و «الحاوي» (4/ 155).
(3)
«أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 72). فهذه الآية نزلت في الأنصار، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ، الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. رواه البخاري (1643)، ومسلم (1261).
ونوقش بِأَنَّ هَذِهِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وتُخَالِفُ الْقِرَاءَةَ الْمَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُتَوَاتِرَةَ، وَمَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ.
والراجح: أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج.
المبحث الخامس: فوات السعي بين الصفا والمروة:
لا يَفوت الحج بفوات السعي بين الصفا والمروة، ولا يتحلل من الإحرام، ولو وصل لأقصى البلاد، بل يرجع إلى مكة لأداء السعي بين الصفا والمروة؛ لأنه من أركان الحج.
المبحث السادس: التطوع بالسعي بين الصفا والمروة:
لا يُشْرَع التطوع بالسعي بين الصفا والمروة لغير الحاج والمعتمر، بالإجماع
(1)
.
المبحث السابع: الموالاة بين الطواف والسعي:
لا تجب الموالاة بين الطواف والسعي، ولكنها مستحبة؛ لأن السعي عبادة مستقلة، فإذا فُصِل بينها وبين غيرها بشيء فلا يضر. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(2)
.
•1•
(1)
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالسَّعْيِ لِغَيْرِ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ- غَيْرُ مَشْرُوعٍ. «فتح الباري» (3/ 499). ونَقَل الإجماع أيضًا ابن مفلح، كما في «المبدع» (3/ 174).
(2)
«البحر الرائق» (2/ 357)، و «المجموع» (8/ 73)، و «المغني» (5/ 240).
الفصل الثاني
ما يُشترَط في السعي
للسعي خمسة شروط:
الشرط الأول: كَوْن السعي بعد طواف.
الشرط الثاني: استيعاب ما بين الصفا والمروة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: يُشترَط أن يَقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة.
المطلب الثاني: حد المسعى العلوي.
الشرط الثالث: الترتيب، بأن يَبدأ بالصفا وينتهي بالمروة.
الشرط الرابع: أن يكون سبعة أشواط.
الشرط الخامس: الموالاة بين أشواط السعي.
الشرط الأول: كَوْن السعي بعد طواف:
نُقِل الإجماع على أنه لا يجوز تقديم السعي على الطواف
(1)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد ذهب جماهير العلماء إلى أنه يُشترَط في صحة السعي أن يقع بعد الطواف؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْعَ قَطُّ إِلَّا عَقِيبَ طَوَافٍ، وَلَوْ جَازَ السَّعْيُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ طَوَافٌ، لَفَعَلَهُ وَلَوْ مَرَّةً؛ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ، قَالَ:«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» .
القول الآخَر: لا يُشترَط لصحة السعي أن يسبقه طواف، فيَجوز تقديم السعي على الطواف. وهو قول عند الشافعية، وأحمد في رواية، والظاهرية
(2)
.
واستدلوا بثلاثة أدلة:
الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن التقديم والتأخير في أفعال يوم النحر، وهي خمسة: رَمْي ونَحْر وحَلْق وطواف وسَعْي، فأباح جواز تقديم هذه الأعمال بعضها على بعض، ودل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سُئِل يوم النحر عن شيء قُدِّم وَلا أُخِّر، إلا قال:«افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» فيندرج فيه تقديم السعي على الطواف. ويُؤكِّد هذا المعنى لفظة «شيء» فهي نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، ومنها تقديم السعي على الطواف.
ونوقش بأن الأشياء التي سُئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فأجاز فيها التقديم والتأخير- هي (الرمي، والنحر، والحلق) ولا يصح منها جواز السعي قبل الطواف.
الدليل الثاني: عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا، فَكَانَ النَّاسُ
(1)
قال الماوردي: وَهُوَ إِجْمَاعٌ لَيْسَ يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. «الحاوي» (4/ 157).
وقال السرخسي: وإنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الطواف، وهكذا تَوارَثه الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. «المبسوط» (4/ 46). وقال ابن عبد البر: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، قَبْلَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَذَلِكَ فَعَلَ فِي عُمْرَاتِهِ كُلِّهَا وَفِي حَجَّتِهِ، قَالَ:«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . «الاستذكار» (4/ 232). وقال النووي: وشذ إمام الحرمين، فنَقَل عن بعض أئمتنا: لو قَدَّم السعي على الطواف اعتُد بالسعي. وهذا النقل غلط ظاهر مردود بالأحاديث الصحيحة وبالإجماع. «المجموع» (8/ 72). وقال محب الدين الطبري: (سعيتُ قيل أن أطوف) هذا لا أعلم أحدًا قال بظاهره، واعتَد بالسعي قبل الطواف، إلا ما رُوي عن عطاء، وهو كالشاذ لا اعتبار له. وكذا قال الخَطَّابي في «مَعالم السُّنن» (2/ 218).
(2)
«المجموع» (8/ 72)، و «الإنصاف» (9/ 132)، و «المُحَلَّى» (7/ 183).
يَأْتُونَهُ، فَمَنْ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ
…
فَكَانَ يَقُولُ: «لَا حَرَجَ»
(1)
.
الدليل الثالث: عن عائشة أنها حاضت، وهي في طريقها إلى الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن الحائض ممنوعة من الطواف فقط، ويجوز لها أن تفعل جميع ما يفعله الحاج، فيَجوز لها أن تسعى قبل الطواف.
ونوقش هذا الاستدلال بما ورد في «الصحيحين» : عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ:
…
فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ
(3)
.
(1)
لفظة (سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ) شاذة، ومدار الحديث على زياد بن عِلاقة عن أسامة، واختُلف عنه:
فرواه أبو إسحاق الشيباني، واختُلف عليه:
فرواه جرير بن عبد الحميد بذكر (سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ) عن الشيباني، عند أبي داود (2004).
وخالف جريرًا أسباط بن محمد، عند ابن أبي شيبة (14967)، وعُبيد الله بن موسى، عند الطبراني في «الكبير» (483)، كلاهما عن الشيباني، ولم يَذكرا هذه اللفظة في حديثهما.
ورواه جماعة من الثقات الأثبات، وفيهم أئمة حُفاظ عن زياد بن عِلاقة بدون هذه الزيادة، منهم: شُعبة بن الحَجَّاج عند أحمد (18454) وسفيان بن عُيينة عند الحُميدي (824)، وعثمان بن حكيم، وسفيان الثوري، ومِسعر بن كِدام عند ابن حِبَّان (486، 6061، 6064)، وأبو عَوَانة عند البخاري في «الأدب» (291) وزُهير بن معاوية عند البغوي في «شرح السُّنة» (3226) والأعمش وزائدة بن قُدامة وإسرائيل بن يونس، عند الطبراني في «الكبير» (1/ 180، 181)، وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عند ابن خُزيمة (2955) والمسعودي وعبد الرحمن بن عبد الله، والمُطَّلِب بن زياد، كلهم عند أحمد (18453، 18455) والأعمش، وزهير بن معاوية، وأبو حمزة محمد بن ميمون السُّكَّرى، ومالك بن مِغْوَل، أربعتهم عند الحاكم (4/ 230 و 441) وغيرهم، عن زياد بن عِلاقة، عن أسامة بن شَريك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَذكروا في حديثهم:(سعيتُ قبل أن أطوف).
إنما تَفَرَّد بهذه الزيادة جرير بن عبد الحميد، وإن كان ثقة صحيح الكتاب، فقد قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه. وخالفه أسباط بن محمد عن الشيباني، فهل يُشك في شذوذ هذه الزيادة؟
قال الدارقطني: وَلَمْ يَقُلْ: (سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ) إِلَّا جَرِيرٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ. «السُّنن» (3/ 282).
وقال البيهقي: هَذَا اللَّفْظُ (سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ) غَرِيبٌ، تَفَرَّدَ بِهِ جَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ. (10/ 167).
وقال ابن القيم: وَقَوْلُهُ: (سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ- لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَالْمَحْفُوظُ تَقْدِيمُ الرَّمْيِ، وَالنَّحْرِ، وَالْحَلْقِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. «زاد المعاد» (2/ 239).
(2)
أخرجه البخاري (305)، ومسلم (1211).
(3)
«صحيح البخاري» (1556)، ومسلم (1230).
فدل ذلك على أنه لولا اشتراط تقدم الطواف على السعيِ، لَفَعَلَتْ في السعيِ ما فَعَلَتْ في غيره من المناسك؛ فإنه يَجوز لها السعي من غير طهارة
(1)
.
وَقَالَ ابْن عُمَرَ: تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، إِلَّا الطَّوَافَ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
(2)
.
والراجح: ما ذهب إليه جماهير العلماء، من تقديم السعي على الطواف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسْعَ قط إلا عَقيب الطواف. ولو جاز للسعي أن يتقدم الطواف، لفَعَله صلى الله عليه وسلم ولو مرة لبيان الجواز؛ لأن العبادات توقيفية.
أما ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن رجل بدأ بالصفا والمروة قبل أن يَطُوف بالبيت، فقال صلى الله عليه وسلم:«يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَا حَرَجَ» فضعيف.
الشرط الثاني:
استيعاب ما بين الصفا والمروة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: يُشترط في صحة كل شوط من أشواط السعي- قَطْع جميع المسافة بين الصفا والمروة. فإن لم يَقطعها كلها لم يصح، فلو بقي بعض خطوة لم يصح سعيه، فإِنْ صَعِد فهو الأكمل. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال:«لتأخذوا مناسككم» وهكذا عَمِلَتِ الصحابة فمَن بَعْدهم، وأن المسافة للسعي محددة مِنْ قِبل الشرع، والنقص عن الحد مُبطِل للسعي.
(1)
قال ابن دقيق العيد: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ السَّعْيَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ. فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا لَزِمَ مِنْ تَأْخِيرِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ تَأْخِيرُ السَّعْيِ؛ إِذْ هِيَ قَدْ فَعَلَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَلَوْلَا اشْتِرَاطُ تَقَدُّمِ الطَّوَافِ عَلَى السَّعْيِ، لَفَعَلَتْ فِي السَّعْيِ مَا فَعَلَتْ فِي غَيْرِهِ. «إحكام الأحكام» (2/ 88).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (14565): عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، به.
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 133). وقال الحَطَّاب: مَنْ تَرَكَ مِنَ السَّعْيِ شَيْئًا، وَلَوْ ذِرَاعًا، يَرْجِعُ لَهُ مِنْ بَلَدِهِ. «مواهب الجليل» (3/ 84). وقال النووي: أنْ يقْطَعَ جَمِيعَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فَلَوْ بقِيَ مِنْهَا بَعْضُ خُطْوَةٍ لَمْ يَصِح سَعْيُهُ. «الإيضاح» (ص: 256). وقال ابن قُدامة: وَلَوْ تَرَكَ ذِرَاعًا، لَمْ يُجْزِئْهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ. «المغني» (5/ 236).
المطلب الثاني:
حد المسعى العلوي.
أي: هل لا بد من الصعود على الجبلين كجزء من السعي الواجب؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن صعود الصفا والمروة سُنة مُؤكَّدة، ولا يجب صعود أي جزء منهما، بل الواجب استيعاب ما بين الصفا والمروة سعيًا. وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، والصحيح عند الشافعية
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمأثور:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فالمطلوب من الساعي أن يطوف بهما، فمَن سَعَى بينهما ولم يصعد أحدهما، فقد أتى بما أُمِر به.
وأما السُّنة، فَعَنْ جَابِرٍ قَالَ:«طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» فقد سَعَى عليه السلام راكبًا، ولا يمكن للراكب أن يَصعد جبل الصفا؛ مما يدل على عدم وجوب الصعود.
وأما المأثور، فَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه يَقُومُ فِي حَوْضٍ فِي أَسْفَلِ الصَّفَا، وَلَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ
(2)
.
قال ابن المُلقِّن: اشتهر السعي من غير رقي على الصفا عن عثمان وغيره من الصحابة، من غير إنكار
(3)
.
القول الآخَر: أن الصعود على الصفا قَدْر قامة الرجل. وهو وَجْه عند الشافعية
(4)
.
والراجح: أن صعود الصفا والمروة سُنة مُؤكَّدة، ولا يجب صعود أي جزء منهما، بل الواجب استيعاب ما بين الصفا والمروة سعيًا. وعلى هذا فحد ما بين الصفا والمروة في
(1)
«المبسوط» (4/ 51)، و «المُدوَّنة» (2/ 409)، و «المجموع» (8/ 69)، و «المغني» (5/ 235).
(2)
ضعيف أُعِلَّ بالانقطاع: أخرجه الشافعي في «الأم» (3/ 545) عن ابن جُرَيْج، عن ابن أبي نَجِيحٍ، به.
(3)
«البدر المنير» (6/ 310).
(4)
«المجموع» (8/ 75)، و «روضة الطالبين» (3/ 90).
الوقت الحالي هو نهاية ممر العربات. والمستحب أن يَصعد على الصفا والمروة للدعاء.
الشرط الثالث: الترتيب، بأن يَبدأ بالصفا وينتهي بالمروة:
نُقِل الإجماع على أنه يُشترَط أن يَبدأ سعيه بالصفا، وينتهي بالمروة، حتى يَختم سعيه بالمروة. فإن بدأ بالمروة ألغى هذا الشوط
(1)
.
واستدلوا بما رَوى مسلم عن جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ
…
ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ»، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» .
الشرط الرابع: أن يكون سبعة أشواط:
يُشترط في صحة السعي أن يكون سبعة أشواط، ذَهابه من الصفا إلى المروة شوط، ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط. وبه قال المالكية، والشافعية، والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بما ورد في «الصحيحين» : عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا
…
فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ سَبْعًا»
(3)
.
فالحاصل: أن عامة أهل العلم على أن عدد أشواط السعي سبعة أشواط، يُحْسَب من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط.
ووافق الحنفيةُ الجمهور في كون قدر السعي سبعة أشواط، وخالفوا في كون ذلك شرطًا، فالشرط عندهم أن يأتي بأكثر السعي، وهو أربعة أشواط، والباقي واجب، يَجبر
(1)
قال الشافعي: ولم أعلم مخالفًا أنه إن بدأ بالمروة قبل الصفا، ألغى طوافًا حتى يكون بدؤه بالصفا. «الأُم» (1/ 45). ونَقَل الإجماعَ: المَرْدَاوي في «الإنصاف» (9/ 125)، وابن عبد البرفي «الاستذكار» (4/ 220).
في رواية عن عطاء: إن بدأ بالمروة قبل المروة، أنه يَعْتَدُّ بهذا الشوط. «أحكام القرآن» (1/ 123).
(2)
«المُدَوَّنة» (1/ 427)، و «الأم» (2/ 230). قال النووي: إكْمَالُ سَبْعِ مَرَّاتٍ يُحْسَبُ الذَّهَابُ مِنَ الصَّفَّا إلَى الْمَرْوَةِ مَرَّةً، وَالرُّجُوعُ مِنَ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَّا مَرَّةً ثَانِيَةً، فَيَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ. وَبِهَذَا قَطَعَ جَمَاهِيرُ العلماءِ. وَعَلَيْهِ عُمْرُ النَّاسِ، وَبِهِ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. «المجموع» (8/ 71).
(3)
رواه البخاري (1645)، ومسلم (1234).
تاركه بفدية
(1)
.
ونوقش بأن عدد أشواط السعي محدد مِنْ قِبل الشرع، والنقص عن الحد مبطل، كالنقص في عدد ركعات الصلاة عمدًا مُبطِل لها
(2)
.
الشرط الخامس: الموالاة بين أشواط السعي.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: اشتراط الموالاة بين أشواط السعي:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: تُشترَط الموالاة بين أشواطه. وهو مذهب المالكية، والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى سعيًا متواليًا، وقد قال:«لتأخذوا مناسككم» .
القول الآخَر: لا تُشترَط الموالاة. وبه قال الحنفية والشافعية، ورواية عن أحمد
(4)
.
واستدلوا بأن مُسَمَّى السعي يَحصل بالسعي بين الصفا والمروة سبع مرات، سواء كانت الأشواط متوالية أو متفرقة.
والراجح: اشتراط الموالاة بين أشواط السعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى سعيًا متواليًا.
المطلب الثاني: لو أقيمت الصلاة أثناء السعي:
لو أقيمت الصلاة أثناء السعي،
قَطَع السعي وصلى، ثم أَتَمَّ الأشواط الباقية
(5)
.
(1)
قال الكاساني: (وأما قَدْره فسبعة أشواط؛ لإجماع الأمة). «بدائع الصنائع» (2/ 134).
وقال ابن عابدين: لو تَرك ثلاثة منه أو أقل، فعليه لكل شوط منه صدقة، إلا أن يَبلغ دمًا، فيُخيَّر بين الدم وتنقيص الصدقة. «حاشية ابن عابدين» (2/ 556، 557).
(2)
قال ابن المنذر: فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم المنبئ عن الله أن فَرْض صلاة الظُّهر أربع ركعات، كذلك هو المنبئ عن الله أن فرض الطواف سبع، ولا يُجْزئ أقل منه. «الإشراف» (3/ 280).
(3)
«مواهب الجليل» (4/ 105)، و «الإنصاف» (4/ 18).
(4)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 497)، و «المجموع» (8/ 73، 74).
وقال ابن عثيمين: لو فُرض أن الإنسان اشتد عليه الزحام، فخرج ليتنفس، أو احتاج إلى بول فخرج يَقضي حاجته، ثم رجع، فهنا نقول: لا حرج. ولأن الموالاة هنا فاتت للضرورة، وهو حين ذَهابه قلبه معلق بالسعي، ففي هذه الحال لو قيل بسقوط الموالاة لكان له وجه. «الشرح الممتع» (7/ 276).
(5)
قال ابن المنذر: أجمعوا فيمن طاف بعض سبعة، ثم قُطِع عليه بالصلاة المكتوبة- أنه يَبتني من حيث قُطِع عليه إذا فَرَغ من صلاته. وانفرد الحسن البصري فقال: يَستأنف. «الإجماع» (ص: 55).
وقال ابن قُدامة: الْجِنَازَةِ إِذَا حَضَرَتْ، يُصَلِّي عَلَيْهَا، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى طَوَافِهِ. «المغني» (5/ 247).
الفصل الثالث: ما لا يُشترَط في السعي:
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: النية:
لا تُشترَط النية في السعي؛ لأن الحج عبادة مركبة من أجزاء، فإذا نوى في أولها أجزأ عن الجميع، وهذا قول الحنفية والمالكية والشافعية
(1)
.
المبحث الثاني: لا تُشترَط الطهارة من الحَدثَين للسعي بين الصفا والمروة:
نَقَل ابن عبد البر الإجماع على أنه لا تُشترَط الطهارة من الحَدثَين في السعي
(2)
.
وهذا الإجماع منخرم، والصحيح أن هذا قول جماهير العلماء
(3)
.
واستدلوا بدليلين: الدليل الأول: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وقد حاضت: «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» فالنبي صلى الله عليه وسلم أَمَرها أن تَصنع كل ما يفعله الحاج إلا الطواف بالبيت خاصة، فدل على أن السعي لا تُشترَط له الطهارة.
ونوقش بأنه قد وردت رواية، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:«افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى تَطْهُرِي»
(4)
.
(1)
«المسلك المتقسط» للقاري (ص: 93)، و «المجموع» للنووي (8/ 17).
(2)
قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه إن سعى بين الصفا والمروة على غير طهر- أن ذلك يجزئه. وانفرد الحسن فقال: إِنْ ذَكَر قبل أن يحل، فليُعِد الطواف. «الإجماع» (ص: 56).
(3)
قال النووي: مذهب الجمهور أن السعي يصح من المُحْدِث والجُنُب. «المجموع» (8/ 79).
(4)
صحيح دون لفظة: (ولا بين الصفا والمروة) فهي شاذة.
مدار هذا الحديث على مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، به.
واختُلف على مالك: فرواه يحيى الليثي، وزاد فيه:«ولا بين الصفا والمروة» ، أخرجه مالك (224).
وخالف يحيى سائرُ أصحاب مالك ولم يَذكروها، منهم: عبد الله بن يوسف عند البخاري (1650)، وإسماعيل بن أبي أويس، ويحيى التميمي، كلاهما عند مسلم (1211)، والشافعي في «مسنده» (1/ 310)، وابن مهدي، عند النَّسَائي (2715)، ومحمد بن الحسن الشيباني في روايته ل «الموطأ» (465)، وعبد الله بن وهب، وعند أبي عَوَانة (3178)، وخالد بن مَخْلَد عند الدارمي (1888).
وغيرهم، جميعًا: عن مالك بن أنس، بدون هذه الزيادة.
وتابع مالكًا بدون ذكر الزيادة: ابن عُيينة، عند البخاري (294)، ومسلم (1211)، وعبد العزيز بن أبي سلمة، عند البخاري (305)، ومسلم (1211)، وحماد بن سلمة، عند مسلم (1211)، وسفيان الثوري، عند ابن حِبان (3935). وعمرو بن الحارث، عند أبي عَوَانة (3178).
وغيرهم، جميعًا: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، به، بدون هذه الزيادة.
ورواه أفلح بن حُميد، عند البخاري (1560)، ومسلم (1211)، ومالك بن دينار، عند البخاري (1516) وعُبيد الله بن عمر، عند مسلم (1211) وغيرهم: عن القاسم عن عائشة، به، بدون الزيادة.
وتابع القاسمَ بن محمد جماعة من التابعين عن عائشة، ولم يذكروها، منهم: عروة بن الزبير، عند البخاري (1556)، ومسلم (1211)، وعَمْرة بنت عبد الرحمن، عند البخاري (1709)، ومسلم (1211). وابن أبي مُلَيْكة، عند البخاري (2984). وأبو سلمة بن عبد الرحمن، عند البخاري (1733، 4401) وغيرهم عن عائشة، ولم يَذكروا زيادة:«ولا بين الصفا والمروة» .
وهي شاذة لتفرد يحيى بن يحيى بذكرها، وقد خولف ممن هو أوثق منه من سائر أصحاب مالك، وكذا سائر الرواة عن عبد الرحمن بن القاسم، وسائر الرواة عن القاسم بن محمد وسائر رواة الحديث.
وأجيب بأن لفظة: «ولا بين الصفا والمروة» شاذة، ولا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَاضَتْ، فَنَسَكَتْ المَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ
(1)
.
ونوقش بأن عائشة لم تَسْعَ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَعها من الطواف فقط؛ لأن السعي لا بد أن يسبقه طواف، وليس من أجل أن السعي تُشترَط له الطهارة؛ ولذا قالت عائشة: فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ.
ولذا فمَن طافت طواف الإفاضة ثم حاضت، يَجوز لها أن تسعى، على قول جماهير العلماء؛ لأن السعي لا تُشترَط له الطهارة، ولأن المسعى مشعر مستقل، له أحكامه الخاصة، ولو دخل في مبنى المسجد الحرام وأصبح ضمن جدرانه؛ ولأن السعي عبادة لا تتعلق بالبيت، فأَشْبَهَتِ الوقوف بعرفة.
المبحث الثالث: لا يُشترَط ستر العورة لصحة السعي:
لأنه إذا لم تُشترط الطهارة، وهي آكَد، فغَيْرها أَوْلَى باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(2)
.
(1)
رواه البخاري (1785).
(2)
«مواهب الجليل» (4/ 165)، و «الحاوي الكبير» (4/ 377)، و «المغني» (5/ 246).
الفصل الرابع: سُنن السعي
وفيه ست سُنن:
والأصل في ذلك ما ورد في حديث جابر: «ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ».
السُّنة الأولى: يُشْرَع إذا دنا من الصفا أن يَقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ
مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، ويقول:«أبدأ بما بدأ الله به» ويقتصر في قوله هذا على الصفا في المرة الأولى فقط.
السُّنة الثانية: يُستحَب أن يرتقي على الصفا حتى يَرى الكعبة
ويستقبلها؛ لقول جابر: «فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» .
السُّنة الثالثة: أَنْ يُوَحِّدَ اللهَ وَيكَبَّرَهُ،
وَيَقُولَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. ثُمَّ يدعو بين ذلك ثلاث مرات.
السُّنة الرابعة- أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ
؛ لأَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مَوْضِعُ دُعَاءٍ تُرْجَى فِيهِ الْإِجَابَةُ.
قال النووي: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَرَى الْبَيْتَ إِنْ أَمْكَنَهُ. وَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى الصَّفَا مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ، وَيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَذَا الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ وَيَدْعُوَ، وَيُكَرِّرَ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
(1)
.
(1)
«شرح النووي على مسلم» (8/ 177)، و «التمهيد» (2/ 91).
وقد ورد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَعَى فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ، قَالَ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ»
(1)
.
ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء معين على الصفا.
وَعَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ عَلَى الصَّفَا يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ كَمَا هَدَيْتَنِي لِلإِسْلَامِ أَنْ لَا تَنْزِعَهُ مِنِّي حَتَّى تَتَوَفَّانِي وَأَنَا مُسْلِمٌ»
(2)
.
السُّنة الخامسة: السعي الشديد بين العلامتين الخضراوين للرجال:
يُسَن المشي بين الصفا والمروة، إلا ما كان بين العلامتين الخضراوين، وهى إنارة خضراء على جانبَي المسعى في السعي، فإنه يُسَن للرجال السعي الشديد بينهما، وذلك في الأشواط السبعة، بالسُّنة والإجماع.
أما السُّنة، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْعَى بَطْنَ المَسِيلِ، إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ
(3)
.
(1)
ضعيف مرفوعًا، وصح عن ابن مسعود من قوله موقوفًا.
فرواه علقمة، مرفوعًا، به، عند الطبراني في «الأوسط» (2757) وفي إسناده ليث، ضعيف.
ورواه الأعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود موقوفًا، وسنده صحيح. عند ابن أبي شيبة (15795).
ورواه منصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عن ابن مسعود موقوفًا، به. عند البيهقي (9351).
وقال ابن حجر: موقوف صحيح الإسناد. «الفتوحات الربانية» (4/ 401).
(2)
إسناده صحيح: رواه مالك في «الموطأ» (1091).
ورَوى ابن أبي شيبة (31851) بسند صحيح عن نافع قال: كَانَ ابنُ عمَرَ إِذَا قَدِمَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ جُلُوسُهُ فِيهِمَا أَطْوَلَ مِنْ قِيَامِهِ ثَنَاءً عَلَى رَبِّهِ وَمَسْأَلَةً، فَكَانَ يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ رَكْعَتَيْهِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِدِينِكَ وَطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي حُدُودَكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِبُّك وَيُحِبُّ مَلَائِكَتَكَ وَرُسُلَكَ وَعِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنِي إِلَيْكَ وَإِلَى مَلَائِكَتِكَ وَرُسُلِكَ، اللَّهُمَّ آتِنِي مِنْ خَيْرِ مَا تُؤْتِي عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ يَسِّرْنِي لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنِي الْعُسْرَى، وَاغْفِرْ لِي فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى، اللَّهُمَّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَفِيَ بِعَهْدِكَ الَّذِي عَاهَدْتَنِي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ.
(3)
رواه البخاري (1617)، ومسلم (1261).
ولكن يشكل عليه ما رواه البخاري (3847) معلقًا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَيْسَ السَّعْيُ بِبَطْنِ الوَادِي بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ- سُنَّةً، إِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَسْعَوْنَهَا، وَيَقُولُونَ: لَا نُجِيزُ البَطْحَاءَ إِلَّا شَدًّا.
قال الحافظ: وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْمُسْتَخْرَجِ» مِنْ طَرِيقِ حَرْمَلَةَ، عَنْ ابْنِ وَهْبٍ. «الفتح» (7/ 158).
وحرملة لا يَتحمل مثل هذا المتن، ولو صح فقد حَمَل بعض العلماء قول:(لَيْسَ السَّعْيُ بِبَطْنِ الوَادِي بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ- سُنَّةً) على وجهين:
الأول: ليس بسُنة واجبة يجب بتركها دم.
الثاني: ليس بسُنة ابتدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت من عمل الجاهلية فأقرها. «القِرى» (ص: 369).
والمراد ب (بطن المَسِيل): المكان الذي بين العلامتين الخضراوين.
رَوَى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «
…
ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ».
وأما الإجماع، فنَقَل غير واحد من أهل العلم أنه يُسَن للرجال السعي الشديد بين العلامتين الخضراوين، وهي إنارة خضراء على جانبَي المسعى في السعي بين الصفا والمروة، وذلك في الأشواط السبعة
(1)
. وليس على النساء هرولة في السعي بالإجماع
(2)
.
السُّنة السادسة: المشي بين الصفا والمروة: وفيها أربعة مطالب:
المطلب الأول: المشي بين الصفا والمروة أفضل من الركوب للقادر عليه.
نَقَل الإجماع على ذلك: النووي وابن قُدامة
(3)
.
(1)
نَقَل الإجماع على ذلك النووي، فقال: هَذَا مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، اسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ سَعْيُهُ شَدِيدًا فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ. «شرح مسلم» (9/ 7). ونَقَل الإجماع أيضًا: ابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 231)، وابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (26/ 128).
(2)
نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 55)، وابن عبد البر فقال: وَأَجْمَعُوا أَنْ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ هَرْوَلَةٌ فِي سَعْيِهِنَّ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ. «التمهيد» (2/ 78).
وقال النووي: لَكِنْ هُنَاكَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ إِذَا كَانَ فِي اللَّيْلِ، حَالَ خُلُوِّ الْمَسْعَى. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا لَا تَسْعَى فِي مَوْضِعِ السَّعْيِ، بَلْ تَمْشِي جَمِيعَ الْمَسَافَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فِي الْخَلْوَةِ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَأَمْرُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ؛ وَلِهَذَا لَا تَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ. «المجموع» (8/ 75).
(3)
نَقَل الإجماع النووي في «شرح مسلم» (9/ 11).
وقال ابن قُدامة: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الطَّوَافَ رَاجِلًا أَفْضَلُ. «المغني» (5/ 250).
المطلب الثاني: مَنْ سعى بين الصفا والمروة راكبًا لعذر:
يَجوز السعي راكبًا بين الصفا والمروة لعُذر، بالإجماع.
نَقَل الإجماع على ذلك: ابن عبد البر وابن قُدامة وابن القيم
(1)
.
المطلب الثالث: هل سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة ماشيًا أم راكبًا؟
ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سعى ماشيًا، ففي حديث جابر الطويل:«ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي، سَعَى» .
وقد جَمَع ابن القيم بقوله: وَعِنْدِي أَنَّهُ سَعَى مَاشِيًا أَوَّلًا، ثُمَّ أَتَمَّ سَعْيَهُ رَاكِبًا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ، فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»:«عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْبِرْنِي عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ. قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا. قَالَ: قُلْتُ: مَا قَوْلُكَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ. حَتَى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنَ الْبُيُوتِ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ، وَالْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ»
(2)
.
المطلب الرابع: حُكْم مَنْ سعى راكبًا بين الصفا والمروة بدون عذر:
قد سبق التفصيل في الطواف ماشيًا، والحاصل أن السعي ماشيًا سُنة، فالأَوْلَى بالحاج السعي ماشيًا، وهذا هو الأحوط للدين وللذمة والأبعد عن الخلاف.
ومَن عَجَز عن السعي ماشيًا بسبب التعب والإرهاق، فلا فدية عليه، مع أنه ينبغي للحاج أو المعتمر أنه إذا قدم مكة وهو متعب من السفر، فعليه أن يستريح أولًا ليؤدي نسك الحج والعمرة على الوجه الأكمل، كما فَعَل رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل:«لتأخذوا عني مناسككم» .
(1)
قال ابن عبد البر: لَا خِلَافَ بإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوِ اشْتَكَى مَرَضًا، أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الرُّكُوبُ فِي طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ وَفِي سَعْيِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. «التمهيد» (13/ 99). ونَقَل الإجماع: ابن قُدامة في «المغني» (5/ 249)، وابن القيم في «إعلام المُوقِّعين» (4/ 360).
(2)
«زاد المعاد» (2/ 211).
الفصل الخامس:
أنواع السعي في الحج: وفيه مبحثان:
المبحث الأول: سَعْي المُفْرِد والقارن:
على المُفْرِد والقارن سعي واحد للنسك، يقع بعد طواف القدوم، ولهما تأخيره إلى ما بعد طواف الإفاضة.
المبحث الثاني: سَعْي المتمتع:
اتفقوا على أن المتمتع يَلزمه سعي لعمرته، واختلفوا هل يَلزمه سعي ثانٍ؟ على قولين:
القول الأول: ذهب عامة العلماء إلى أن على المتمتع سعيين: سعيًا لعمرته، وسعيًا لحجته بعد طواف الإفاضة
(1)
.
لِما ورد عن عائشة، وفيه قالت:«فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِم، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا»
(2)
.
(1)
«فتح القدير» (3/ 6)، و «التمهيد» (8/ 351)، و «شرح مسلم» (8/ 161)، و «شرح العمدة» (2/ 564).
(2)
ومدار الحديث على الزُّهْري، عن عُروة بن الزبير، عن عائشة. واختُلف عنه: فرواه مالك عند البخاري (1556)، ومسلم (1211) وزاد فيه: (فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ
…
).
ورواه سائر أصحاب الزُّهْري، فلم يَذكروا هذه الزيادة، منهم عُقَيْل عند البخاري (319)، ومسلم (1211)، وإبراهيم بن سعد عند البخاري (316)، وابن عُيينة ومَعْمَر عند مسلم (1211) وغيرهم.
ورواه هشام بن عروة وأبو الأسود عند البخاري (317، 1562)، ومسلم (1211) كلاهما عن عروة، فلم يَذكرا هذه الزيادة، وكذا رواه القاسم وعَمْرة والأسود عند البخاري (1561، 1650، 1709) ومسلم (1211). وابن أبي مُلَيْكة عند البخاري (2984). وطاوس ومجاهد وذَكْوان وصفية بنت شيبة عند مسلم (1211) جميعًا عن عائشة، فلم يَذكروا هذه الزيادة.
وقال أحمد: لم يقل هذا أحد إلا مالك. وقال: ما أظن مالكًا إلا غلط فيه، ولم يجئ به أحد غيره. وقال مرة: لم يروه إلا مالك، ومالك ثقة. ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته للأحاديث، في أن القارن يطوف طوافًا واحدًا. قال ابن رجب: ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته للأحاديث، في أن القارن يطوف طوافًا واحدًا. «شرح علل الترمذي» (2/ 654).
وقد أشار أبو داود بعد إخراجه لهذه اللفظة (1781) إلى إعلالها بقوله: رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَمَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ، لَمْ يَذْكُرُوا طَوَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَطَوَافَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.
وقال ابن تيمية: فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- هِيَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ. «الفتاوى» (26/ 41).
ورَوى البخاري معلقًا عن شيخه بصيغة الجزم: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ، فَقَالَ: أَهَلَّ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالحَجِّ عُمْرَةً، إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ» .
فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ:«مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ» ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ المَنَاسِكِ، جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الهَدْيُ
(1)
. فحديث ابن عباس صريح في أن على المتمتع سعيين.
القول الآخَر: أن المتمتع يكفيه سعي واحد للحج والعمرة. وهو قول عطاء ومجاهد وطاوس وإسحاق، ورواية عن أحمد
(2)
.
واستدلوا بما ورد عن جابر رضي الله عنه، وفيه:«فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ، وَكَفَانَا الطَّوَافُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . فهذا نص في أن المتمتع ليس عليه إلا سعي واحد.
ونوقش بما قاله النووي: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَارِنًا
(3)
.
والراجح: أن على المتمتع سعيين: سعيًا لعمرته، وسعيًا لحجته بعد طواف الإفاضة؛ لحديث عائشة وابن عباس الدالين على أن على المتمتع سعيين؛ لأنهما مُثبِتان، وحديث جابر نافٍ، والمُثبِت مُقدَّم على النافي. ولأنهما مُوافِقان للقياس؛ لأن المتمتع قد فَصَل بين عمرته وحجته بتحلل تام، فاحتيج إلى سعي آخَر للحج.
وأما حديث جابر المُصرِّح بأنه ليس على المتمتع إلا سعي واحد، فيُحمل على مَنْ كان منهم قارنًا.
(1)
البخاري (1572).
(2)
«شرح العمدة» (2/ 564)، و «مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله» (748) قال: قلتُ لأبي: المُتمتِّع كم يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إن طَاف طوافين فهو أجود، وإن طَاف طوافًا واحدًا فلا بأْس.
(3)
«المجموع» (8/ 61). وقال البيهقي: أَرَادَ بِهِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، الَّذِينَ كَانُوا قَارِنِينَ خَاصَّةً
…
فَاكْتَفَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْقَارِنُونَ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ.
الفصل السادس: حُكْم توسيع المسعى
توسيع المسعى لا يخلو من حالين:
الأول: توسعة المسعى بشكل أفقي، بأن يُبنى على سقف المسعى مسعى آخَر، وحُكْم السعي فيه. سبق بيانه وجوازه.
الثاني: توسعة المسعى بشكل عَرْضي، بأن يكون عرضه أوسع من عشرين مترًا، بتوسعته من الجهة الشرقية
(1)
.
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: جواز توسعة المسعى من جهته الشرقية، باعتبارها جزءًا من المسعى
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
وَجْه الدلالة: قد بَيَّنَتِ الآية لزوم استيعاب ما بين الصفا والمروة بيانًا واضحًا؛ ولذا شَدَّد الفقهاء، حتى قال الحَطَّاب:(مَنْ تَرَكَ مِنَ السَّعْيِ شَيْئًا، وَلَوْ ذِرَاعًا، يَرْجِعُ لَهُ مِنْ بَلَدِهِ) بينما لم يَرِد دليل يوجب الالتزام أثناء السعي بحد عرض الجبلين، ولو كان ذلك مشروطًا شرعًا، لبَيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بيانًا شافيًا واضحًا.
القول الثاني: لا يَجوز توسعة المسعى من جهته الشرقية، ولا يجوز السعي فيها باعتبارها ليست جزءًا من المسعى
(3)
.
واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن مُجْمَل الآية بفعله، فقد سعى في هذا المكان، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» ولأن السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي أوجبها الله علينا في ذلك المحل المخصوص، ولا يجوز لنا العدول عنه
(4)
.
(1)
بداية المسعى قصة أُم إسماعيل وزمزم، ثم المسعى النبوي، وهو ما كان في وقته، ثم توسعة المَلِك سعود عام (1375 هـ) حيث وَسَّع عَرْض المسعى إلى عشرين مترًا. ثم توسعة المَلِك عبد الله المسعى الحالي، عام (1430 هـ) وهذا المراد بحثه.
(2)
وهو قول المُعَلِّمي وابن جبرين وغيرهما، كما في «حلول الزحام في المناسك» (ص: 336).
(3)
وهو قول محمد بن إبراهيم، وبه صَدَر قرار هيئة كبار العلماء. «حلول الزحام» (ص: 336).
(4)
قال القاري: من شروط السعي كونه بين الصفا والمروة، أي: بألا ينحرف عنهما إلى أطرافهما. «المسلك المتقسط» (ص: 246).
وقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ السَّعْيُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ السَّعْيِ، فَلَوْ مَرَّ وَرَاءَ مَوْضِعِ السَّعْيِ، فِي زُقَاقِ الْعَطَّارِينَ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ مُخْتَصٌّ بِمَكَانٍ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ. «المجموع» (8/ 76).
وقال الحَطَّاب: لِلسَّعْيِ شُرُوطٌ، مِنْهَا كَوْنُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، فَلَوْ سَعَى فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحِلِّ، بِأَنْ دَارَ مِنْ سُوقِ اللَّيْلِ، أَوْ نَزَلَ مِنَ الصَّفَا وَدَخَلَ مِنَ الْمَسْجِدِ، لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ. «مواهب الجليل» (3/ 84).
وقال ابن تيمية: لَوْ سَعَى فِي مُسَامَتَةِ الْمَسْعَى، وَتَرَكَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لَمْ يُجْزِهِ. «شرح العمدة» (2/ 599).
الباب العاشر: يوم التروية:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بيوم التروية،
هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سُمي بذلك لأنهم كانوا يَتَرَوَّوْنَ بحَمْل الماء معهم من مكة إلى عرفات
(1)
.
المبحث الثاني: الذَّهاب إلى مِنًى في يوم الثامن، والمبيت بها.
يُسَن للحاج ولمن كان بمكة متمتعًا، أو كان من أهل مكة- أن يُحْرِم يوم التروية ويُهِل بالحج، ويَفعل كما فَعَل عند الإحرام من الميقات، من الاغتسال ولُبْس الإزار، وأن يَخرج من مكة إلى مِنًى في اليوم الثامن، يوم التروية، ويبيت بها، ويصلي بها خمس صلوات: الظُّهْر والعصر والمغرب والعشاء وفجر يوم التاسع، كل صلاة في وقتها، قَصْرًا بلا جَمْع.
فعن جابر رضي الله عنه قال: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ» .
قال النووي: إِذَا خَرَجُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إلَى مِنًى، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلُّوا بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتُوا بِمِنًى لَيْلَةَ التَّاسِعِ، وَهَذَا الْمَبِيتُ سُنَّةٌ
(2)
.
(1)
«المجموع» (8/ 81)، و «المغني» (5/ 259).
(2)
«المجموع» (8/ 84)، ونَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإشراف» (3/ 308)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 112)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 262)، وابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 328).
الباب الحادي عشر
يوم عرفة
ويشتمل على ستة فصول
الفصل الأول: فضائل يوم عرفة، وحُكْم الوقوف بها.
الفصل الثاني: شروط الوقوف بعرفة.
الفصل الثالث: سُنن الوقوف بعرفة.
الفصل الرابع: ما يُكْرَه ويَحرم على الحاج يوم عرفة.
الفصل الخامس: فوات الوقوف بعرفة.
الفصل السادس: الإحصار.
الفصل الأول
فضائل يوم عرفة، وحُكْم الوقوف بها.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بيوم عرفة:
عرفات: اسم للبقعة المعروفة، التي يجب الوقوف بها، ويوم عرفة يوم الوقوف بها
(1)
.
ويطلق على المكان، ويراد به جبل عرفة، وهو المكان الذي يؤدي فيه الحُجاج ركن الحج الأكبر، وهو الوقوف بعرفة. وتقع شرقي الحرم، بحوالي اثنين وعشرين كيلو مترًا.
يُطْلَق عرفة على الزمان، ويراد به يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة.
المبحث الثاني: فضائل يوم عرفة: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: فضل يوم عرفة للحاج:
يوم عرفة يوم عتق من النيران، وتَجاوُز عن الخطايا والأوزار، ويباهي الله بأهل عرفة الملائكة؛ لِما روت عائشة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟»
(2)
.
(1)
«معجم الفروق اللُّغوية» (ص: 355).
وسُمي (يوم عرفة) لأن الحُجاج يقفون في هذا اليوم على جبل عرفة.
وقيل: سُمي بذلك لأن آدم وَجَد حواء بعد ما أُهبِطا وافترقا، فلم يجتمعا سنين، ثم التقيا يوم عرفة.
وقيل: لأَن جبريل عَرَّف إبراهيمَ فيها المناسك. ويحتمل أَنْ يكون لتَعارُف الناس فيها.
وقيل: لأن العرب تسمي ما ارتفع: (عرفة) فسُمي عرفة لعلو الناس فيها على جبالها.
وقيل: سُميت (عرفة) لأن الناس يَعترفون بذنوبهم، ويَسألون الله المغفرة.
وقيل: هي مأخوذة مِنْ العَرْف، وهو الطِّيب، قال الله تعالى:{عَرَّفَها لَهُمْ} [محمد: 6] أي: طَيَّبَهَا، فهي طَيِّبَة، بخلاف مِنًى التي فيها الفُرُوث والدماء.
وكثير من هذه الأقوال لم أقف لها على دليل صحيح. انظر: «تحرير ألفاظ التنبيه» للنووي (ص: 128)، و «تفسير القرطبي» (2/ 415)، و «يوم عرفة» (ص: 20) لفالح الصغير.
(2)
رواه مسلم (1348). وقد انتُقد هذا الحديث على مسلم لأن مخرمة لم يسمع من أبيه. قال الإمام أحمد: مخرمة بن بكير ثقة، إلا أنه لم يسمع من أبيه شيئًا. "العلل" رواية عبد الله (2/ 489). وقال ابن حجر: وروايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما، وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلًا. "تقريب التهذيب"(ص 523). وقال العلائي: أخرج له مسلم عن أبيه عدة أحاديث، وكأنه رأى الوجادة سببًا للإتصال، وقد انتقد ذلك عليه. "جامع التحصيل"(ص 275).
قوله: «يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ» قال ابن عبد البر: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاهِي بِأَهْلِ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ التَّوْبَةِ وَالْغُفْرَانِ. «التمهيد» (1/ 120).
ففي يوم عرفة تُغْفَر السيئات وتُقال العثرات، وتُضاعَف الحسنات وتجاب الدعوات! روى أحمد بسند حسن: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:«إِنَّ اللهَ عز وجل يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي، أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا»
(1)
.
ومن فضائل يوم عرفة: أنه مُوافِق ليوم إكمال الدين وإتمام النعمة، ففي «الصحيحين»: عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ»
(2)
.
المطلب الثاني: من فضائل يوم عرفة لغير الحاج:
الأول: أن يوم عرفة هو اليوم التاسع من الأيام العَشْر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ» قَالُوا: وَلَا الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلَا الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ»
(3)
.
الثاني: يُستحَب صوم يوم عرفة لغير الحاج؛ فصيامه يُكَفِّر سنتين: يُكَفِّر السَّنة التي قبله، والسَّنة التي بعده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»
(4)
.
(1)
رواه أحمد (7089) ورجاله ثقات سوى أزهر بن القاسم، وقد يُحَسَّن حديثه.
وله شاهد عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عز وجل يُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا» أخرجه أحمد (8047)، وإسناده حسن من أجل يونس بن أبي إسحاق.
(2)
أخرجه البخاري (45)، ومسلم (3017).
(3)
أخرجه البخاري (969).
(4)
أخرجه مسلم (1162). قال القاضي عِيَاض: هذا المذكور في الأحاديث من غفران الصغائر دون الكبائر، وهو مذهب أهل السُّنة، وأن الكبائر إنما تُكفِّرها التوبة، أو رحمة الله تعالى.
فإن قيل: معناها: فإذا كَفَّر الوضوء، فماذا تُكفِّره الصلاة؟
فالجواب: أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإِنْ وَجَد ما يكفره من الصغائر كَفَّره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة، كُتبت به حسنات ورُفعت له به درجات.
المطلب الثالث: أشهر الأحاديث الضعيفة في فضل عرفة:
اشتهرت على ألسنة الوعاظ أحاديث نُسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبًا وبهتانًا.
(1)
.
(2)
.
المبحث الثالث: ما المراد بالوقوف؟
المراد من الوقوف بعرفة: وجود الحاج في أرض عرفة ولو لحظة، بنِيَّة الوقوف، سواء كان واقفًا أو جالسًا أو راكبًا. ووَقْت هذا الوقوف من زوال الشمس يوم التاسع، حتى طلوع الفجر يوم العاشر (يوم النحر) وهي الآن محدودة بأعلام واضحة كبيرة، وهي لمبات خضراء، وذلك مبني على علم من لجان حكومية من العلماء وغيرهم.
المبحث الرابع: حُكْم الوقوف بعرفة:
الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، لا يَتم الحج ولا يصح إلا به، ومَن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج بالإجماع
(3)
. قال صلى الله عليه وسلم: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»
(4)
.
(1)
باطل لا أصل له، قال ابن حجر: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ رَزِينٌ فِي «جَامِعِهِ» مَرْفُوعًا
…
فَهُوَ حَدِيثٌ لَا أَعْرِفُ حَالَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ صَحَابِيَّهُ وَلَا مَنْ أَخْرَجَهُ. «فتح الباري» (8/ 271). وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: حديث باطل لا يصح. في جزء «فضل يوم عرفة» (ص: 164). وقال ابن القيم: أَمَّا مَا اسْتَفَاضَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ بِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَجَّةً، فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. «زاد المعاد» (1/ 65).
(2)
مرسل: أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 564)، وهو مرسل، فطلحة بن عُبيد الله تابعي ثقة من الثالثة. وإن كان وصله البيهقي في «الشُّعَب» (4070) ولكن في إسناده أحمد بن أيوب، ولعله محمد بن أيوب، قال فيه أبو زُرْعَة: رأيته قد أَدْخَل في كتب أبيه أشياء موضوعة. وقال ابن حِبان: لا تَحِل الرواية عنه.
(3)
قال ابن عبد البر: وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَبِكُلِّ مِصْرَ- أَنَّهُ فَرْضٌ لَا يَنُوبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فِي وَقْتِهِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَا حَجَّ لَهُ. «التمهيد» (10/ 20).
وكذا نَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 57)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 42)، والنووي في «المجموع» (8/ 102، 103). وابن قُدامة في «المغني» «5/ 267» وغيرهم كثير.
(4)
صحيح: أخرجه أحمد (18773)، وأبو داود (1940)، والترمذي (889)، وغيرهم، من طرق عن سفيان الثوري وشُعبة، كلاهما: عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَبدِ الرَّحمَنِ بْنِ يَعْمُرَ، به.
قال الترمذي: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذَا أَجْوَدُ حَدِيثٍ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ. وقال الذُّهْلِيُّ: مَا أُرَى لِلثَّوْرِيِّ حَدِيثًا أَشْرَفَ مِنْهُ. قال وَكِيع: هَذَا الحَدِيثُ أُمُّ المَنَاسِكِ. «سُنن الترمذي» (2/ 400).
الفصل الثاني: شروط الوقوف بعرفة:
تمهيد: بين يدي الوقوف بعرفة
للوقوف بعرفة شروط، بعضها يتعلق بالمكان، فعرفة بحدودها المعروفة حاليًا بالأعلام- كلها موقف. وبعضها يتعلق بالزمان، فلا يصح الوقوف بعرفة اليوم الثامن من ذي الحجة، ولا بعد طلوع فجر العاشر. وبعضها يتعلق بالواقف، فلا بد أن يكون أهلًا للعبادة؛ فلا يصح وقوف المجنون ولا الكافر.
وإليك التفصيل في الأقسام التالية:
القسم الأول: شروط تتعلق بالمكان: وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: أن يكون الوقوف في أرض عرفات:
يُشترط أن يكون الوقوف في أرض عرفات، وعرفة كلها موقف، بالسُّنة والإجماع.
فعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»
(1)
.
وقال النووي: يَصِحُّ الْوُقُوفُ فِي أَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ
(2)
.
وقد وُضعت الآن علامات حول أرض عرفة تُبَيِّن حدودها، ويجب على الحاج أن يتنبه لها؛ لئلا يقع وقوفه خارج عرفة فيفوته الحج.
المبحث الثاني: حُكْم الوقوف بوادي عُرَنة
(3)
:
نُقِل الإجماع على أن بَطْن عُرَنَة ليس مِنْ عرفة، ولا يُجْزِئ الوقوف فيه
(4)
.
(1)
رواه مسلم (1218).
(2)
«المجموع» (8/ 105).
(3)
بَطْنُ عُرَنَةَ: وَادٍ بِحِذَاءِ عَرَفَاتٍ، مِنْ جِهَةِ الْمُزْدَلِفَةِ وَمِنًى وَمَكَّةَ. «الموسوعة الكويتية» (30/ 65).
(4)
قال النووي: وَادِي عُرَنَةَ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ، لَا خِلَافَ فِيهِ. «المجموع» (8/ 107). ونَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإشراف» (3/ 312)، وابن عبد البر في «التمهيد» (13/ 158)، والحَطَّاب في «مواهب الجليل» (3/ 97) والقاضي عِيَاض في «إكمال المُعْلِم» (4/ 154)، والمحب الطبري في «القِرَى» (ص: 383)، وابن هُبَيْرة في «الإفصاح» (1/ 271)، والزيلعي في «تبيين الحقائق» (2/ 25).
وهذا الإجماع منخرم؛ فهناك قول للمالكية أن بطن عُرَنَة من عرفة
(1)
.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ، وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ»
(2)
.
فالحاصل: أن الوقوف في وادي عُرَنة لا يجزئ؛ لأنه ليس من عرفة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«قَدْ وَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» .
المبحث الثالث: نَمِرة ليست من عرفة:
نَمِرة ليست من عرفات، ولكن يُستحب النزول بها ضحى، قبل النزول بعرفة
(3)
.
فعن جابر رضي الله عنه أنه قال في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: «فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ» .
وَجْه الدلالة: أن فيه استحباب النزول بنَمِرة بعد طلوع شمس اليوم التاسع، وصلاة
(1)
وهناك قول للحنفية وقول للمالكية، أن الوقوف بعُرَنة يجزئ مع الكراهة، وعليه دم. «بدائع الصنائع» (2/ 136)، و «التمهيد» (24/ 420)، و «مواهب الجليل» (3/ 97).
(2)
ضعيف؛ فقد جاء هذا الحديث عن عدد من الصحابة، ومِن أشهرهم حديث ابن عباس،
رواه ابن عُيينة، عن زياد بن سعد، عن أبي الزُّبير، عن أبي مَعْبَد، عن ابن عباس.
واختُلف عنه، فرواه محمد بن كَثير عن ابن عُيينة به مرفوعًا. أخرجه ابن خُزيمة (2816)، ولكن هذه الرواية شاذة؛ فقد خالف محمدَ بن كَثير أحمدُ وابن المديني عند البيهقي (1/ 219)، (5/ 115) فروياه دون ذكر هذه اللفظة: «
…
وارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ».
ورواه الطبراني في «الكبير» (11005)(11231)(11408) ومن طرق كلها ضعيفة.
ورواه ابن جُريجٍ قال: أَخْبَرَنِي عطاء، عن ابن عباس موقوفًا، عند ابن خُزيمة (2817) وهو الصواب.
وله شواهد: فعن جُبَيْر بن مُطْعِم، أخرجه أحمد (16751) وإسناده ضعيف؛ فسليمان بن موسى لم يُدرِك جُبَيْر بن مُطْعِم، وقد اضطرب فيه ألوانًا: فمرة أَدْخَل بين سليمان بن موسى وجُبَيْر- نافع بن جُبَيْر. ومرة أَدْخَل بينهما عبد الرحمن بن أبي حسين. ومرة محمد بن المنكدر. ومرة عمرو بن دينار. والحديث منقطع على أي حال، فلم يدرك أي منهم جُبيرًا، وأشار لذلك الحُفاظ، كالبزار في «مسنده» (3444)، وابن القيم في «الزاد» (2/ 290)، وابن حجر في «فتح الباري» (10/ 12) وغيرهم.
وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وغيرهما، ولا يصح في بَطْن عُرَنَة حديث.
(3)
«المجموع» (8/ 107). وقال ابن تيمية: نَمِرَة كَانَتْ قَرْيَةً خَارِجَةً عَنْ عَرَفَاتٍ، مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ، فَيُقِيمُونَ بِهَا إِلَى الزَّوَالِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَسِيرُونَ مِنْهَا إِلَى بَطْنِ الْوَادِي، وَهُوَ مَوْضِعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي صَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ. «مجموع الفتاوى» (26/ 129).
الظهر والعصر بها جمعًا، بعد زوال الشمس، ثم النزول بعرفات
(1)
.
المبحث الرابع: حُكْم الوقوف بمسجد نَمِرة:
المسجد الذي سَمَّاه الأقدمون مسجد إبراهيم، ويُسَمَّى مسجد نَمِرَة ومسجد عَرَفَةَ، وسُمي بكلا الاسمين لأنه يقع مقدمته في نَمِرة أو عُرَنة خارج عرفات، والتي فيها محل الخطبة والصلاة، ويقع آخره في عرفة، وقد مُيز بينهما بعلامات، بُني عند المكان الذي صَلَّى وخَطَب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وفي «الموسوعة الكويتية» : وَقَدْ تَكَرَّرَ تَوْسِيعُ الْمَسْجِدِ كَثِيرًا فِي عَصْرِنَا، وَفِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ عَلَامَاتٌ تُبَيِّنُ لِلْحُجَّاجِ مَا هُوَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَمَا لَيْسَ مِنْهَا يَنْبَغِي النَّظَرُ إِلَيْهَا.
المبحث الخامس: حُكْم مَنْ وقف بعرفة، وهو لا يَعلم أنها عرفة:
مَنْ وقف بعرفة مُحْرِمًا في زمن الوقوف، وهو لا يَعلم أنه بعرفة، فإنه يجزئه.
قال النووي: لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ نَاسِيًا، أَجْزَأَهُ بِالْإِجْمَاعِ
(3)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتَ، قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» .
المبحث السادس: حُكْم مَنْ وقف بغير أرض عرفات:
قال النووي: إنْ غَلِطُوا فِي الْمَكَانِ، فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ، يَظُنُّونَهَا عَرَفَاتٍ، لَمْ يُجْزِهِمْ بِلَا خِلَافٍ لِتَفْرِيطِهِمْ.
واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» فمَن لم يقف بعرفة ولو أخطأ، فلا حج له.
المبحث السابع: وقوف المغمى عليه في سيارة الإسعاف في عرفة:
اتَّفق العلماء على أن مَنْ وقف بعرفة لحظة من ليلة النحر، وهو حاضر الذهن، ثم
(1)
قال النووي: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِلَ بِنَمِرَةَ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَنْزِلُ الخُلَفَاءِ اليَوْمَ، وَهُوَ إِلَى الصَّخْرَةِ السَّاقِطَةِ بِأَصْلِ الْجَبَلِ، عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَاتٍ. «المجموع» (8/ 85).
(2)
وليس هو إبراهيم الخليل، وإنما هو من ولد العباس، والمسجد إنما بُنِيَ في الدولة العباسية. «جامع المسائل» لابن تيمية (4/ 160).
(3)
«المجموع» (8/ 17).
أُغمي عليه، فقد تم حجه.
واختلفوا فيمن دخل عرفة في وقت الوقوف في سيارة الإسعاف، وهو مغمى عليه ولم يُفِق لحظة، على قولين:
القول الأول: أن وقوف المغمى عليه في عرفة يجزئه. وهو مذهب الحنفية، والمشهور عند المالكية، ووَجْه عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة
(1)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتَ، قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» .
فالمغمى عليه قد أتى فيَدخل في عموم هذا الحديث، وإذا كان النائم طَوال الوقت يصح وقوفه فكذا المغمى عليه.
القول الثاني: أن وقوف المغمى عليه طَوال الوقت في عرفة- لا يجزئه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فالوقوف بعرفة لا يتأدى بغير نية، فالمغمى عليه لا نية له. وهو قول للمالكية، والمشهور عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة
(2)
.
ونوقش بأن المراد بالنية في الحج هو نية الإحرام والدخول في النسك، ولا تُشترط في كل عمل من أعمال الحج.
واستدلوا بأن المغمى عليه في هذا مقيس على المجنون؛ لأن كليهما غير مُخاطَب.
ونوقش بأن هذا قياس مع الفارق، بأن المغمى عليه مُخاطَب؛ لأنه مأمور بالقضاء، بخلاف المجنون، فالمغمى عليه مِثل النائم.
والراجح: أن وقوف المغمى عليه في عرفة يجزئه؛ لأنه أتى عرفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتَ، قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» .
فمن وقف بعرفة بحدودها المعروفة حاليًا بالأعلام كلها موقف، ففي أي جزء منها وقف صح حجه، ولا يُكلِّف الحاج نفسه المشاق للذَّهاب إلى جبل الرحمة، وبخاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، التي كَثُر فيها الحُجاج، فيؤدي هذا الذَّهاب إلى التزاحم والمشقة
(1)
«المبسوط» (4/ 56)، و «المدونة» (2/ 413)، و «المجموع» (8/ 140)، و «المغني» (5/ 275).
(2)
«الاستذكار» (4/ 49)، و «الأُم» (2/ 219)، و «المجموع» (8/ 140)، و «المغني» (5/ 275).
والتعب، فيضيع معه مَقصِد الوقوف، وهو الذِّكر والدعاء، وقد رَفَع النبي صلى الله عليه وسلم الحرج والمشقة عن أمته بقوله:«وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» .
القسم الثاني: شروط تتعلق بالزمان. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: وقت يوم عرفة من الشهر:
يُشترَط لصحة الوقوف بعرفة أن يكون في وقت الوقوف، في اليوم التاسع وليلة النحر.
المبحث الثاني: وقت الوقوف في يوم عرفة: وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: أول وقت الوقوف بعرفة:
أجمعوا على أن مَنْ وقف من بعد الزوال بعرفة إلى غروب الشمس، فقد أصاب السُّنة، واختلفوا متى يبدأ الوقوف بعرفة؟ هل بعد طلوع فجر يوم عرفة، أم بعد الزوال؟
نُقِل الإجماع على أن مَنْ وقف بعرفة بعد طلوع فجر يوم عرفة، وأفاض منها قبل الزوال، أن حجه باطل. وهذا الإجماع منخرم؛ فقد ورد رواية لأحمد بصحة حجه
(1)
.
واستدلوا على أنه يَبدأ الوقوف بعرفة من زوال الشمس يوم التاسع، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف بعرفة إلا بعد الزوال، فكان بيانًا لأول الوقت، كما في حديث جابر الطويل، في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: «فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ
…
ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ» وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» .
(1)
قال ابن رُشْد: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَأَفَاضَ مِنْهُ قَبْلَ الزَّوَالِ- أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِوُقُوفِهِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ، فَيَقِفْ بَعْدَ الزَّوَالِ، أَوْ يَقِفْ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ. «بداية المجتهد» (2/ 113). وقال القرطبي: أَجْمَع أهل العلم على أن مَنْ وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال، ثم أفاض منها قبل الزوال، أنه لا يُعتَدّ بوقوفه ذلك قبل الزوال. في «تفسيره» (2/ 415).
وقد نَقَل الإجماع: ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 42)، وابن عبد البر في «التمهيد» (10/ 22).
وهذا الإجماع منخرم؛ فأشهر الروايات عن أحمد أن أول وقت الوقوف بعرفة بطلوع فجر يوم التاسع من ذي الحِجة؛ ولذا تَعَقَّبَ ابنُ تيمية ابن حزم، فقال: أحد القولين بل أشهرهما في مذهب أحمد: أنه يجزئ. «نقد مراتب الإجماع» (ص: 291)، و «الذخيرة» (3/ 259).
وَجْه الدلالة: ما قاله النووي: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى الْيَوْمِ، وَمَا نُقِلَ أَنَّ أَحَدًا وَقَفَ قَبْلَ الزَّوَالِ
(1)
.
ونوقش بأنهم إنما وقفوا في وقت الفضيلة، ولم يستوعبوا جميع وقت الوقوف، وتَرْكه صلى الله عليه وسلم لم يَمنع كونه وقتًا للوقوف، كما بعد العشاء.
وأجيب عنه بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن ما بعد العشاء وقت للوقوف بالنص، بخلاف ما قبل الزوال، فلم يقف صلى الله عليه وسلم بعرفة إلا بعد الزوال، فكان بيانًا لأول الوقت.
وذهب الحنابلة في المشهور عنهم إلى أن أول وقت الوقوف طلوع فجر يوم عرفة
(2)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتَ، قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» .
وَجْه الدلالة: «وَأَتَى عَرَفَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا» يدل على شمول الحُكم جميع الليل والنهار، والنهار يَبدأ بطلوع الفجر.
ونوقش بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «وَأَتَى عَرَفَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا» مُطْلَق، وقد قُيِّد بفعله صلى الله عليه وسلم، وهو محمول على ما بعد الزوال.
والراجح: أن أول وقت الوقوف بعرفة بعد الزوال يوم عرفة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يقفوا إلا بعد الزوال، فكان بيانًا لأول الوقت. وقال صلى الله عليه وسلم:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» وَلَوْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتَ وُقُوفٍ لَوَقَفَ فِيهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَمِرَةَ. وَلِأَنَّ مَوَاقِيتَ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَوْلِهِ. وَإِنَّمَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا رَمَى جِمَارَ أَيَّامِ مِنًى بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَمَا صَلَّى الظُّهْرَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا.
(1)
«المجموع» (8/ 120). وقال ابن تيمية: وَأَوَّلُ وَقْتِ وُقُوفِ النَّاسِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ الْمُوَرَّثَةُ عَنْهُ الْمَنْقُولَةُ نَقْلًا عَامًّا، فَلَوْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتَ وُقُوفٍ، لَوَقَفَ فِيهِ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَمِرَةَ، وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعَرَّفِ؛ إِذِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنَ التَّأْخِيرِ. وَلِأَنَّ مَوَاقِيتَ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَوْلِهِ. وَإِنَّمَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا رَمَى جِمَارَ أَيَّامِ مِنًى بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَمَا صَلَّى الظُّهْرَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَالْعِبَادَةُ الْمَفْعُولَةُ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا تَصِحُّ، بِخِلَافِ الْمَفْعُولَةِ بَعْدَ وَقْتِهَا. «شرح العمدة» (2/ 579، 580).
(2)
«المغني» (5/ 274)، و «الفروع» (6/ 49)، و «شرح العمدة» (2/ 579). وقال المَرْدَاوي: وَقَّتَ الْوُقُوفَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ. «الإنصاف» (3/ 29).
المطلب الثاني: آخِر وقت الوقوف بعرفة:
ينتهي الوقوف بعرفة بطلوع فجر يوم النحر، فمَن طلع عليه فجر يوم النحر وهو لم يقف بعرفة، فاته الحج بالإجماع
(1)
.
واستُدل على ذلك بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» .
المطلب الثالث: حُكْم الوقوف بعرفة إلى الغروب، وحُكْم مَنْ دَفَع قبل الغروب:
اختَلف أهل العلم في حكم الوقوف بعرفة إلى الغروب- على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس واجب، فلا يَجوز للحاج الدفع قبل الغروب، فإِنْ دَفَع أجزأه الوقوف وعليه دم. وهذا مذهب الحنفية، وهو قول للمالكية، ورواية عن الشافعية، والمشهور عن الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غربت الشمس، كما في حديث جابر، وفيه:«فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ» .
وجه الدلالة من وجهين:
الأول: أن مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى الغروب، مع كون الدفع بالنهار أرفق بالناس- يدل على وجوبه، ولأنه لو كان جائزًا لاختاره النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه «مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» .
الثاني: أن تأخير الرسول صلى الله عليه وسلم الدفع إلى ما بعد الغروب، ثم مبادرته به قبل أن يصلي المغرب، مع أن وقت المغرب قد دخل- يدل على أنه لا بد من البقاء إلى هذا الوقت
(3)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فإن وقوفه صلى الله عليه وسلم إلى الغروب إظهار لمخالفة المشركين.
(1)
نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 57)، وابن عبد البر في «التمهيد» (15/ 201)، والنووي في «المجموع» (8/ 286)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 424).
(2)
«المبسوط» (4/ 56)، و «بدائع الصنائع» (2/ 127)، و «مواهب الجليل» (4/ 132)، و «الأم» (2/ 212)، و «المجموع» (8/ 11)، و «المغني» (5/ 275).
(3)
«الشرح الممتع» (7/ 388، 389).
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الجِبَالِ، كَأَنَّهَا العَمَائِمُ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ، دَفَعُوا، وَيَقِفُونَ بِالمُزْدَلِفَةِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَكَانَتْ عَلَى رُءُوسِ الجِبَالِ، كَأَنَّهَا العَمَائِمُ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ، دَفَعُوا، فَأَخَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّفْعَةَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ بِالمُزْدَلِفَةِ، حِينَ طَلَعَ الفَجْرُ، ثُمَّ دَفَعَ حِينَ أَسْفَرَ كُلُّ شَيْءٍ فِي الوَقْتِ الآخَرِ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ
(1)
.
وأما دليلهم من المعقول، فاستدلوا بأنه لو كان يَجوز الدفع من عرفة قبل غروب الشمس، لَفَعَله النبي صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، ولخَشية الزحام الذي لا نظير له في سائر المشاعر، وأنه لو كان جائزًا لرُخص للضَّعَفة أن يتقدموا من عرفة إلى مزدلفة قبل الغروب، كما رُخص لهم أن يدفعوا من مزدلفة بعد غيبوبة القمر إلى مِنًى.
القول الثاني: أن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس سُنة؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا» فيجزئ الوقوف بعرفة في أي جزء من الليل أو النهار، ومَن تَرَك الوقوف إلى الغروب فقد تَرَك الأفضل. وبه قال الشافعية، وهو رواية
(1)
ضعيف: أخرجه ابن خُزيمة (2918) وفي إسناده زَمْعة بن صالح، ضعيف.
وله شاهد عن المِسْوَر بن مَخْرَمَة، ومداره على ابن جُريج، واختُلف عليه، فرُوي عنه موصولًا ومرسلًا، فرواه الحاكم (3138) من طريق عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُبَارَكِ، ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، بِهِ.
وقد أُعِلَّ بعلتين:
الأولى: أن الحديث رُوي مرسلًا، فروى الشافعي في «الأم» (1348) عن مسلم بن خالد، وأبو داود في «مراسيله» (151) عن محمد بن العلاء عن عبد الله بن إدريس، كلاهما عن ابن جُريج، عن محمد بن قيس بن مَخْرَمة قال: خَطَب رسول الله
…
فذَكَره مرسلًا، وقد رَجَّح البيهقي الرواية المرسلة (9598).
الثانية: أن ابن جُريج مدلس وقد عنعن، وثَبَت تدليسه في هذا الحديث، فقد روى ابن أبي شيبة (15184): حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أُخْبِرْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، بِهِ.
وقد قال أحمد: إذا قال ابن جُريج: (قال فلان، وقال فلان، وأُخْبِرْتُ) جاء بمناكير، وإذا قال:(أَخْبَرني وسَمعتُ) فحَسْبك. «تهذيب التهذيب» (6/ 359).
وقال الدارقطني: يُتَجَنَّب تدليسه؛ فإنه فاحش التدليس، لا يدلس إلا فيما سَمِعه من مجروح، مِثل إبراهيم بن أبي يحيى وموسى بن عُبَيْدة وغيرهم. «سؤالات الحاكم للدارقطني» (ص: 174).
وله شاهد آخَر مرسل، أخرجه ابن حزم في «المُحَلَّى» (5/ 118) من طريق عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن رجل، عن سعيد بن جُبَيْر، مرسلًا، به، وقال: وَهَذَا لَا شَيْءَ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، ثُمَّ هُوَ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ.
للحنابلة
(1)
.
ونوقش بأنه حديث مُطْلَق، قَيَّده فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» .
القول الثالث: أن الوقوف بعرفة إلى الغروب ركن، فمَن وقف بعرفة بعد الزوال وانصرف قبل الغروب، ولم يَعُد لعرفة بالليل؛ فقد فاته الحج. وهو مذهب المالكية
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
أما السُّنة: فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»
(3)
.
فدل الحديث على أنه لا يكون وقوف بعرفة إلا بوقوف جزء من الليل، ولو وقف نهارًا لَمَا أجزأه، فمَن دَفَع قبل الغروب فقد فاته الليل بعرفة، وقد فاته الحج وحجه باطل.
ونوقش بأن هذا الحديث لا يصح، وعلى تقدير صحته فمراده بتخصيص الليل أنه آخِر وقت للوقوف، فإذا فات بطلوع الفجر فإن الحج يفوت معه، وليس المراد أنه هو وقت الوقوف دون غيره.
واستدلوا بحديث جابر، وفيه:«فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ» .
وَجْه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف جزءًا من الليل بعرفة بعد غروب الشمس؛ لأنه ركن. ولأنه لو كان يَجوز الدفع من عرفة قبل غروب الشمس لفَعَله النبي صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، ولخَشية الزحام الذي لا نظير له في سائر المشاعر.
ونوقش بما قاله الجَصَّاص: قَدْ نَقَلَتِ الأُمَّةُ وُقُوفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَهَارًا، وَأَنَّهُ دَفَعَ مِنْهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ هُوَ النَّهَارُ، وَوَقْتَ الْغُرُوبِ هُوَ الدَّفْعُ،
(1)
«المجموع» (8/ 119)، و «الإيضاح» (ص: 289)، و «المُحَلَّى» (7/ 118).
(2)
قَالَ مَالِكٌ فيمَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ: إِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ، فَيَقِفُ بِهَا فَعَلَيْهِ الْحَجُّ قَابِلًا، وَالْهَدْيُ يَنْحَرُهُ فِي حَجٍّ قَابِلٍ، هُوَ كَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ. «المدونة» (1/ 430).
قال ابن عبد البر: لا نَعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك، وقال سائر العلماء: كل مَنْ وقف بعرفة بعد الزوال أو في ليلة النحر، فقد أدرك الحج. «التمهيد» (10/ 21).
(3)
ضعيف: رواه الدارقطني (2518)، وفيه (رحمة بن مُصْعَب) ضعيف، و (ابن أبي ليلى) سيئ الحفظ.
فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الدَّفْعُ هُوَ وَقْتَ الْفَرْضِ، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ لَا يَكُونُ وَقْتًا لِلْفَرْضِ
(1)
.
وأما دليلهم من القياس، فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ لَيْلًا هُوَ الْفَرْضُ دُونَ النَّهَارِ، وَإِنَّ إِدْرَاكَ أَوَّلِهِ كَإِدْرَاكِ آخِرِهِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا حَجَّ لِمَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَوَجَبَ أَنْه لَا حَجَّ لِمَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الغُرُوبِ
(2)
.
ونوقش بأن تسوية آخِر النهار بأوله قياس فاسد؛ لأن وقوف النبي صلى الله عليه وسلم وتضرعه واجتهاده وَقَع في آخِر النهار؛ فكيف يكون هذا الوقت في عدم الإجزاء مثل الوقت الذي لم يقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم البتة؟! وكيف يكون الوقوف في نهار عرفة من بعد الزوال إلى قبل الغروب غير مجزئ وهو محل الفضل والأجر، وهو وقت الدعوات وتَنزُّل الرحمات، ويكون وقوفه في الليل بعد ذَهاب الوقت المختار مجزئًا؟!
والراجح: أن الوقوف بعرفة إلى الغروب واجب؛ لأن مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى الغروب، مع كون الدفع بالنهار أرفق بالناس- يدل على وجوبه. وكذا تأخير الرسول صلى الله عليه وسلم الدفع إلى ما بعد الغروب، ثم مبادرته به قبل أن يصلي المغرب، مع دخول وقته- يدل على أنه لا بد من البقاء إلى هذا الوقت، وأنه صلى الله عليه وسلم ممنوع من الدفع قبل المغرب.
المطلب الرابع: حُكْم مَنْ دفع قبل غروب شمس التاسع، ثم عاد قبل فجر العاشر:
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: مَنْ دفع قبل غروب الشمس ثم عاد قبل الفجر، أجزأه الوقوف، ولا شيء عليه. وهو قول للحنفية، ومذهب المالكية، والشافعية، وقول الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بأن الواجب عليه الوقوف إلى الغروب؛ ليَجمع بين الليل والنهار، والذي رجع قد استدرك ما فاته وأتى بما عليه، وتَحقَّق في حقه الوقوف بالليل والنهار.
القول الآخَر: لا يَسقط عنه الدم؛ لأنه يجب عليه الجَمْع بين آخِر النهار وأول الليل، وقد فاته بخروجه فيَجبره بدم. وهو قول للحنفية، ورواية للشافعية، وقول للحنابلة
(4)
.
والراجح: قول جمهور العلماء، أن مَنْ وقف بعرفات ثم دفع منها قبل الغروب، ثم
(1)
«أحكام القرآن» (1/ 389).
(2)
«التمهيد» (10/ 22).
(3)
«المبسوط» (4/ 50، 51)، و «المدونة» (1/ 422)، و «المجموع» (8/ 119)، و «الإنصاف» (4/ 24).
(4)
«المبسوط» (2/ 56)، و «مغني المحتاج» (1/ 498)، و «المغني» (3/ 441).
عاد إليها مرة ثانية، فقد استَدرك ما فاته ولا شيء عليه، والله أعلم.
المطلب الخامس: قَدْر الوقوف المجزئ:
أَجْمَع العلماء على أن مَنْ وقف بعرفة ليلًا ولو لحظة، فإنه يجزئه.
وذهب جماهير العلماء إلى أن مَنْ وقف بعرفة ولو لحظة من زوال شمس يوم التاسع، وانصرف قبل غروب الشمس، فإن ذلك يجزئه.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» .
فعلى هذا، فمَن مر بعرفة بسيارة أو طائرة أو غيرهما من المركوبات،، وهو يَقصد الحج بعد زوال الشمس يوم عرفة، إلى طلوع فجر يوم النحر؛ فقد أَدْرَك الحج.
المطلب السادس: الوقوف بعرفة ليلًا:
الوقوف بعرفة ليلًا لا يخلو من حالين:
الحال الأول: حُكْم مَنْ وقف بعرفة ليلًا فقط لعُذْر.
مَنْ لم يقف بعرفة إلا ليلة العاشر من ذي الحجة، فإنه يجزئه، بالإجماع.
وأما الإجماع، فقد قال النووي:(أَمَّا) مَنْ لَمْ يَحْضُرْ عَرَفَاتٍ إلَّا فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ إنَّهُ يَصِحُّ وُقُوفُهُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ وَقَفَ نَهَارًا ثُمَّ انْصَرَفَ قَبْلَ الْغُرُوبِ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِالْإِعْرَاضِ وَقَطْعِ الْوُقُوفِ
(1)
.
الحال الثاني: حُكْم مَنْ وقف بعرفة ليلًا فقط لغير عذر.
قال ابن عبد البر: وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا يُجْزِئُ عَنِ الْوُقُوفِ بِالنَّهَارِ، إِلَّا أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فَهُوَ مُسِيءٌ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ رَأَى عَلَيْهِ دَمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا
(2)
.
(1)
«المجموع» (8/ 102). ونَقَل الإجماع ابن المنذر في «الإجماع» (57)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 274)، وقال القرطبي: وَأَمَّا مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ فِي تَمَامِ حَجِّهِ. (2/ 416).
(2)
«التمهيد» (9/ 275).
وقد خالف المالكية جماهير العلماء في أن مَنْ وقف بعرفة ليلًا لغير عذر، أنه يجب عليه الدم. «حاشية الدسوقي» (2/ 37). واستدلوا بتقييد ذلك بالعذر بظاهر حال عروة، حيث جاء فيه: أَكْلَلْتُ رَاحِلَتِي، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي. ونوقش بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المبحث الثالث: الخطأ في زمن الوقوف. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الخطأ في زمن الوقوف بالتقديم:
إِنْ أخطأ الناس جميعًا فوقفوا يوم الثامن وهو يوم التروية؛ ظنًّا منهم أنه التاسع، فإنه لا يجزئ؛ وذلك لأن التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه في يوم عرفة. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية في المشهور، والشافعية
(1)
.
المطلب الثاني: الخطأ في زمن الوقوف بالتأخير:
إذا كان الخطأ في التأخير بأن أخطأ الناس، فوقفوا يوم النحر، فحجهم صحيح
(2)
.
واستدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم يوم تصومون، والأضحى يوم تُضَحُّون» .
لو أخطأ أهل الموقف بأن لم يروا الهلال لعذر من غيم ونحوه، فأَتَموا عدة ذي القعدة، ووقفوا في اليوم العاشر في اعتقادهم أنه التاسع، فإنه يجزئهم ولا قضاء عليهم؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ»
(3)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعْرَفُ فِيهِ النَّاسُ»
(4)
.
وأما المعقول، فإن في القول بعدم الإجزاء حرجًا شديدًا؛ لأن فيه بَلْوَى عامة لِتَعَذُّر الاحتراز عنه، والتدارك غَيْر مُمْكِن، وفي الأمر بقضاء الحجيج كلهم حَرَجٌ بَيِّن
(5)
.
(1)
«المبسوط» (4/ 51)، و «الذخيرة» (3/ 259)، و «المجموع» (8/ 293).
(2)
قال النووي: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا غَلِطُوا، فَوَقَفُوا فِي الْعَاشِرِ وَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ عَلَى الْعَادَةِ، أَجْزَأَهُمْ. «المجموع» (8/ 293).
(3)
أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1080).
(4)
ضعيف: أخرجه أبو داود في «المراسيل» (149) من طريق العَوَّام، عن السَّفَّاح، عن عبد العزيز، به.
وقد أُعِل هذا السند بثلاث علل:
الأولى: الإرسال؛ فإن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد تابعي، لم يُدرِك زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثانية: السَّفَّاح بن مطر، وهو مجهول، لم يوثقه غير ابن حِبان.
والثالثة: هُشيم- وهو ابن بَشير- مدلس، وقد عنعن.
وله شاهد عن زيد بن طلحة التَّيْمِيّ مرفوعًا: «عَرَفَةُ يَوْمَ يُعْرَفُ النَّاسُ» لا يُفْرَح به، رواه الدارقطني (2444) وفي إسناده الواقدي وهو متروك، وزيد بن طلحة تابعي، فهو مرسل.
وله شاهد عن عائشة لا يصح، انظر «فقه الصيام» (ص: 86).
(5)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 618).
القسم الثالث: شروط تتعلق بالواقف: وفيه مبحثان:
المبحث الأول: يُشترط في الواقف بعرفة أربعة شروط:
الأول: أن يكون مسلمًا؛ لأن غير المسلم لا يصح منه الحج.
الثاني: أن يَنوي الحج؛ بأن يكون مُحْرِمًا؛ فإن وُجِد في عرفة بغير نية الحج، فلا حج له؛ لأن غير المُحْرِم ليس أهلًا للحج.
الثالث: أن يكون الواقف في حدود عرفة وفي زمن الوقوف.
الرابع: أن يكون عاقلًا، فلا يصح وقوف المجنون الذي استمر به جنونه؛ إذ إنه فاقد لعقله الذي هو مَناط التكليف، فإن أفاق في أثناء وقوفه صح وقوفه
(1)
.
المبحث الثاني: ما لا يُشترط في الواقف بعرفة: وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: لا تُشترَط الطهارة لمن وقف بعرفة:
يجزئ الوقوف بعرفة على غير طهارة، ولا شيء عليه بالإجماع
(2)
.
المطلب الثاني: لا يُشترَط ستر العورة واستقبال القبلة
للوقوف بعرفة، بالإجماع.
قال ابن قُدامة: وَلَا يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوفِ طَهَارَةٌ، وَلَا اسْتِقْبَالٌ، وَلَا نِيَّةٌ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.
المطلب الثالث: حُكْم وقوف النائم:
مَنْ وقف بعرفة وهو نائم، فقد أَدْرَك الحج.
ودل على ذلك القياس، فكما أن مَنْ نام جميع النهار صح صومه، فكذا مَنْ وقف بعرفة وهو نائم صح حجه. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(3)
.
المطلب الرابع: حُكْم وقوف المغمى عليه:
ذهب جماهير العلماء إلى مَنْ وقف بعرفة وهو مغمى عليه، فإنه يجزئه الوقوف. وهو
(1)
«المجموع» (8/ 104، 105).
(2)
«الإجماع» لابن المنذر (57) ونَقَله ابن قُدامة في «المغني» (5/ 275، 276).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 127)، و «مواهب الجليل» (4/ 133)، و «المجموع» (8/ 94).
مذهب الحنفية، والمالكية، ووَجْه عند الشافعية
(1)
.
قال الكاساني: أَمَّا الْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ مِنَ الْوُقُوفِ، فَهُوَ كَيْنُونَتُهُ بِعَرَفَةَ فِي سَاعَةٍ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ، فَمَتَى حَصَلَ إِتْيَانُهَا فِي سَاعَةٍ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ، تَأَدَّى فَرْضُ الْوُقُوفِ، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِهَا أَوْ جَاهِلًا نَائِمًا، أَوْ يَقْظَانَ مُفِيقًا، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، وَقَفَ بِهَا أَوْ مَرَّ، وَهُوَ يَمْشِي أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ مَحْمُولًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَهُوَ حُصُولُهُ كَائِنًا بِهَا.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى قَبْلَ ذَلِكَ عَرَفَاتٍ، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ»
(2)
.
فمَن وقف بعرفة وهو مغمى عليه، فقد أتى بالقَدْر المفروض، وهو حصوله كائنًا بعرفة، فحصل الركن، ولا يَمتنع ذلك بالإغماء والنوم، كركن الصوم.
فالحاصل أن شروط الوقوف بعرفة ثلاثة أنواع:
- شروط تتعلق بالمكان، فيقف الحاج بعرفة بحدودها المعروفة حاليًا بالأعلام.
- وشروط تتعلق بالزمان، فيقف الحاج بعد زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة، حتى فَجْر يوم النحر، ولو وقف وقتًا يسيرًا أجزأه، قائمًا أو راكبًا أو ماشيًا.
- شروط تتعلق بالواقف، فيكون الحاج أهلًا للعبادة، بأن يكون مسلمًا عاقلًا.
ثانيًا- واجبات الوقوف بعرفة:
وهو واجب واحد، وهو الوقوف بعرفة حتى تَغرب الشمس، فمَن دفع قبل الغروب فعليه دم لتَرْكه الواجب.
ومَن دفع قبل غروب الشمس ثم عاد إلى عرفة، فلا شيء عليه لأنه استدرك ما فاته.
ومَن تأخر فلم يستطع إلا الوقوف ليلًا، فلا شيء عليه لأنه معذور.
(1)
«المبسوط» (4/ 51)، و «مواهب الجليل» (4/ 133)، و «المجموع» (8/ 104). وقال ابن قُدامة: الْمُغْمَى عَلَيْهِ: يُجْزِئُهُ (الوُقُوفُ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ. «المغني» (5/ 275).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 127).
الفصل الثالث
سُنن ومستحبات عرفة
وتنقسم إلى أربعة أقسام
القسم الأول: سُنن السَّيْر من مِنًى إلى عرفة.
القسم الثاني: يُسَن النزول في نَمِرة إن لم يكن فيه مشقة.
القسم الثالث: سُنن الوقوف بعرفة.
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: الغُسل للوقوف بعرفة.
المبحث الثاني: تُسَن الخطبة يوم عرفة. وفيه خمسة مطالب.
المبحث الثالث: يُسَن الأذان بعد الفراغ من الخُطبة. وفيه مطلبان.
المبحث الرابع: يُستحَب تعجيل الصلاتين بعد الخُطبة في أول وقت الظُّهْر.
المبحث الخامس: يُسَن للحاج بعد الانتهاء من صلاة الظهر والعصر بنَمِرة- التوجه إلى عرفات ليطول زمن وقوفه به.
المبحث السادس: يُسَن للحاج أن يقف على عرفات مستقبل القبلة، على طهارة إن أمكن، فارغًا من الأمور الشاغلة له عن الدعاء.
المبحث السابع: يُسَن للحاج أن يُكْثِر من الدعاء والاستغفار والتضرع إلى الله.
المبحث الثامن: يُسَن للحاج أن يُكْثِر من أعمال الخير في يوم عرفة.
القسم الرابع: مستحبات الدفع من عرفة إلى مزدلفة.
القسم الأول: سُنن السَّيْر من مِنًى إلى عرفة: وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: يُسَن السير من مِنًى إلى عرفة صباحًا،
بعد طلوع شمس يوم عرفة.
اتَّفَق العلماء على أن السُّنة أن يَتوجه إلى عرفة من مِنًى بعد طلوع شمس يوم عرفة
(1)
.
فعن جابر عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل، في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:«فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ» .
ولكن يُشْكِل عليه ما رواه أحمد: عن ابن عمر قال: «غَدَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مِنًى، حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ»
(2)
.
فدل حديث جابر على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَوجَّه من مِنًى إلى عرفة بعد طلوع الشمس، وحديثُ ابن عمر ظاهره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَوجَّه من مِنًى بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس. ونوقش بأن حديث ابن عمر منكر.
المبحث الثاني: حُكْم ذَهاب بعض الحُجاج في اليوم الثامن إلى عرفات.
قال النووي: وَأَمَّا مَا يفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ دُخُولهِمْ أرْضَ عَرَفَات في الْيَوْمِ الثامِنِ، فَخَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُنَّةِ، وتَفُوتُهُمْ بِسَبَبِهِ سُنَنٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا الصَّلَاةُ بِمِنًى والْمَبيتُ بِهَا
(3)
.
(1)
«المسلك المتقسط» (ص: 268)، و «الإيضاح» (ص: 269)، و «المغني» (5/ 262).
(2)
منكر: أخرجه أحمد (6130) ومن طريقه أبو داود (1904): عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِهِ. وابن إسحاق: صدوق، وصَرَّح بالتحديث.
وهذا المتن منكر لثلاثة أوجه:
الأول: أن ابن إسحاق وإن كان حسن الحديث، ولكن ليس بحجة فيما ينفرد به، ومنكر فيما يخالف مَنْ هو أثبت منه، وسُئل أحمد: إذا انفرد ابن إسحاق بحديث تَقْبَله؟ قال: لا والله، إني رأيته يُحَدِّث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يَفصل كلام ذا من كلام ذا.
الثاني: ومما يُقَوِّي نسبة الوهم إلى ابن إسحاق أن في روايته عن نافع ضعفًا، قال ابن عبد البر: وفي حديثه عن نافع بعض الشيء. «تهذيب التهذيب» (9/ 43، 46).
الثالث: مما يدل على نكارة المتن قوله: «حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَاحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُهَجِّرًا، فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ» وهذا المتن مُخالِف لما رواه جابر واستفاض من عمل المسلمين، من تقديم الخُطبة على صلاة الظهر والعصر جَمْعًا وقَصْرًا.
(3)
«الإيضاح» (ص: 272).
قال ابن الحاج: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسُوا بِمِنًى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى وَبَاتَ بِعَرَفَةَ، فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَابْتَدَعَ. «المَدْخَل» (4/ 227).
ولا شك أن اتباع السُّنة أَوْلَى، واقتفاء هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم هو الأكمل، ولكن في بعض الأحيان العمل المفضول قد يَقترن به ما يصير به أفضل من الفاضل في نفسه.
والآن مع كثرة الحُجاج ووجود الزحام، يَشُق على كثير من الحُجاج الذَّهاب إلى مِنًى في يوم التروية، فهل يَجوز تقديم الذَّهاب إلى عرفة لأجل حاجة أو مصلحة راجحة؟
نعم، فمع حشود الحجيج الكبيرة والمشقة البالغة في ذَهابهم يوم التروية إلي مِنًى، يجوز تقديم الذَّهاب إلى عرفة في اليوم الثامن أو ليلة التاسع؛ لتحقيق المصلحة الراجحة، فوصول الحجيج في وقت مبكر، وأَخْذ كفايتهم من المبيت والراحة- يُعِنيهم على الوقوف بعرفة والدعاء فيها بصورة أمثل؛ لأن مراعاة ركن الحج الأعظم أَوْلَى من مراعاة السُّنن الأخرى المستحبة باتفاق العلماء، كالمبيت بمِنًى ليلة عرفة.
ولأنه بخروجه من مِنًى ضُحى يوم عرفة فمع الزحام قد يأخذ وقتًا حتى يصل إلى عرفة، ومع التعب والإرهاق قد لا يتسنى له التركيز في دعائه.
(1)
.
المبحث الثالث: أن يَسِير إلى عرفة بسكينة ووقار
؛
لِما روى ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ:«أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ؛ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ» .
المبحث الرابع: يُستحَب أن يُكْثِر من التلبية والتكبير:
يُستحَب للحاج أثناء دفعه إلى عرفات أن يُكثِر من التلبية والتكبير؛ لِما ورد عن محمد بن أبي بكر قال: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ التَّلْبِيَةِ، كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ:«كَانَ يُلَبِّي المُلَبِّي لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ المُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ»
(2)
.
وروى مسلم: عن ابن عمر قال: غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنَّا
(1)
قال ابن حجر الهيتمي: وما حَدَث الآن من مبيت أكثر الناس هذه الليلة بعرفة- بدعة قبيحة، اللهم إلا مَنْ يَخاف زحمة. «تحفة المحتاج» (4/ 105).
(2)
رواه البخاري (970) ومسلم (1285).
الْمُلَبِّي وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ»
(1)
.
القسم الثاني: يُسَن النزول في نَمِرة إن لم يكن فيه مشقة:
من السُّنة أن يَنزل في نَمِرة أولًا قبل عرفة، ويَسمع الخُطبة بها، ويصلي بها الظهر والعصر، إن لم يكن فيه مشقة. فإن كان هناك زحام ومشقة، فالسُّنة في حق الحاج أن يَفعل الأيسر حتى لا يؤذي نفسه ولا غيره من الحُجاج.
دل على ذلك ما رواه مسلم: عن جابر قال: «
…
فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ
…
فَخَطَبَ النَّاسَ
…
ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ».
القسم الثالث: سُنن الوقوف بعرفة: وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: الغُسل للوقوف بعرفة:
ذهب جمهور العلماء إلى استحباب الغُسل للوقوف بعرفة
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فَعَنِ الْفَاكِهِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ عَرَفَةَ
…
(3)
وأما المأثور، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّه كَانَ يَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ، وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةِ عَرَفَةَ
(4)
.
وَعَنْ زَاذَانَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا رضي الله عنه عَنِ الْغُسْلِ
…
قَالَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ الْفِطْرِ»
(5)
.
الحاصل: أنه لا يصح في استحباب غُسل يوم عرفة حديث، وصح عن ابن عمر وعلي بن أبي طالب استحباب غُسل يوم عرفة، ويقاس على غسل العيدين والجمعة.
(1)
رواه مسلم (1284).
(2)
«بدائع الصنائع» (1/ 35)، و «الاستذكار» (2/ 378)، و «الأم» (2/ 146)، و «الفروع» (1/ 203).
(3)
موضوع: أخرجه أحمد (4/ 78) وفي إسناده يوسف بن خالد، كذاب زنديق.
(4)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 322).
(5)
إسناده صحيح: أخرجه الشافعي في «مسنده» (114) عن شُعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن زاذان، به.
المبحث الثاني: تُسَن الخطبة يوم عرفة:
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: تُسَن خطبة عرفة:
وتُسَن خُطبة يوم عرفة بعد الزوال قبل الصلاة، بالسُّنة والإجماع.
أما السُّنة، ففي حديث جابر:«ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ» .
وأما الإجماع، فقال ابن تيمية: وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ سُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، قَالَ أَحْمَدُ: خُطْبَةُ يَوْمِ عَرَفَةَ لَمْ يَخْتَلِفِ النَّاسُ فِيهَا
(1)
.
المطلب الثاني: هل خطبة عرفة خُطبة واحدة، أو خُطبتان؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن خُطبة عرفة خطبة واحدة؛ لِما ورد في حديث جابر، وفيه:«فَخَطَبَ النَّاسَ» أي أنها خُطبة واحدة، ولم يُبيِّن أنه خطب خطبتين. وهذا مذهب الحنابلة
(2)
.
القول الآخَر: أن خطبة عرفة خطبتان، يَفصل بينهما بجلسة. وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية
(3)
.
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
(4)
.
(1)
«شرح العمدة» (2/ 498). وهذا الإجماع منخرم، قال النووي: وَقَوْلُهُ: «فَخَطَبَ النَّاسَ» فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْخُطْبَةِ لِلْإِمَامِ بِالْحَجِيجِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَخَالَفَ فِيهَا الْمَالِكِيَّةُ. «شرح مسلم» (8/ 182).
(2)
قال ابن القيم: خَطَب خطبة واحدة، ولم تكن خطبتين. «زاد المعاد» (2/ 234).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 151)، و «المُدوَّنة» (1/ 231)، و «المجموع» (8/ 86).
(4)
منكر: أخرجه الشافعي (989) ومن طريقه البيهقي (9529).
وذِكر الخطبة الثانية منكر لتَفرُّد إبراهيم بن أَبي يحيى بها، وهو متروك.
قال البيهقي: تَفَرَّدَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ إِبرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى، وَفِي حَدِيثِ حَاتِمِ بن إِسماعِيلَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَطَبَ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَخْذِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ.
فهذا الحديث صريح في أن خطبة يوم عرفة خطبتان.
ونوقش بأن هذا الحديث ضعيف؛ ففيه إبراهيم بن أبي يحيى، وقد تركوه. وأصل حديث جابر في «صحيح مسلم» وليس فيه إلا خطبة واحدة.
ومما يدل على نكارته أن بلالًا يؤذن، والنبي صلى الله عليه وسلم يَخطب، فكيف يَستمع للخُطبة؟!
واستدلوا أيضًا بالقياس على خطبة الجمعة.
ونوقش بأن الذي ورد في حديث جابر خُطبة واحدة، ولا قياس مع النص
(1)
.
المطلب الثالث: وقت خطبة يوم عرفة:
ذهب جماهير العلماء إلى أن من السُّنة أنها تكون بعد زوال الشمس قبل الصلاة. وبه قال أبو حنيفة والمالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بما رواه مسلم: قَالَ جَابِرٌ: «حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ
…
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ»
(3)
.
فهذا صريح في أن الخُطبة كانت بعد زوال الشمس، وأن الخُطبة قبل الصلاة. ولكن يُشْكِل على هذا حديث ابن عمر، وفيه:«فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ رَاحَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَوْقِفِ مِنْ عَرَفَةَ»
(4)
.
(1)
«زاد المعاد» (2/ 281).
(2)
المبسوط (2/ 42)، و «الفواكه الدواني» (1/ 390)، و «المجموع» (8/ 89)، و «كشاف القناع» (2/ 491).
(3)
رواه مسلم (1218).
(4)
منكر: أخرجه أحمد (6130) من طريق ابن إسحاق، حدثني نافع، عن ابن عمر، به.
قال ابن حجر: وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ- وَذَكَرَ الحَدِيثَ قَالَ-: وَهَذَا بِخِلَاف مَا رَوَاهُ جَابرٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ. وَابْنُ إِسْحَاقَ لَا يُحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَضْلًا عَمَّا إِذَا خَالفَهُ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ. «الدراية» (2/ 19). وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ عليه السلام خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ وَالْمُسْلِمُونَ. وَأَعَلَّهُ هُوَ وَابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَهُ بِابْنِ إِسْحَاقَ. «نَصْب الراية» (3/ 60).
واعتُرض عليه بأنه حديث منكر، مُخالِف لِما ثَبَت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخطبة قبل الصلاة، كما في حديث جابر عند مسلم وغيره.
المطلب الرابع: سُنن وآداب الخطبة:
يُستحب للإمام أن يَخطب بوادي عُرَنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بها.
يُستحب أن يخطب الإمام على منبر أو مكان مرتفع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على بعير؛ لأنه أمر بالقصواء فرُحلت له، أي: جُعِل الرحل عليها.
يُستحب أن تَبدأ خطبة عرفة كباقي الخُطَب، ولا يصح أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالتكبير.
يُستحَب أن يُبيِّن في خطبته أحكام عرفة وغيره من المناسك، ويُحذِّر من المحرمات، كحرمة القتل والربا، والوصايا بالنساء
…
وغير ذلك من الأمور التي تهم الأمة.
يُستحَب أن يَقصُر الخطبة؛ لقول سالم بن عمر للحَجَّاج: «إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، فَاقْصُرِ الخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الوُقُوفَ» قال ابن عمر: «صَدَقَ»
(1)
.
المطلب الخامس: نص الخطبة:
روى مسلم من حديث جابر الطويل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ. وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ. وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ. فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ،
(1)
رواه البخاري (1663).
يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
ولنا مع هذه الخطبة وقفات:
الوقفة الأولى: تعظيم حرمة الأموال والدماء.
الوقفة الثانية: إبطال أفعال الجاهلية المُخالِفة للشرع. بقوله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ» .
الوقفة الثالثة: تحريم الربا.
الوقفة الرابعة: الإحسان إلى النساء، فأوصى بذلك بقوله:«فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ» .
الوقفة الخامسة- وهي تضم جميع الدين-: وهي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ» والعمل بكتاب الله يقتضي معه العمل بسُنة رسول الله؛ لأن الله يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].
المبحث الثالث: يُسَن الأذان بعد الفراغ من الخطبة: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: هل الأذان قبل الخطبة أو بعدها؟
السُّنة أن يكون الأذان بعد الخطبة. وهو مذهب الحنابلة، وقول للمالكية
(1)
.
واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه: «فَخَطَبَ النَّاسَ
…
ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ» فهذا صريح في أن الأذان كان بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من الخطبة
(2)
.
(1)
«المُدوَّنة» (1/ 172)، و «المغني» (3/ 206)، ورُوي عن أبي يوسف «العناية» (2/ 469).
(2)
وقد اختَلف العلماء في وقت الأذان من الخطبة على أقوال، والذي ذكرناه هو القول الراجح.
والقول الثاني: ما ذهب إليه الحنفية من أن الأذان يكون قبل أن يَخطب الإمام. كما في «حاشية ابن عابدين» (2/ 467).
واستدلوا ب «أَنَّهُ لَمَّا صَعِدَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ فَخَطَبَ» وهذا صريح في أن الأذان قبل الخطبة. وهذا منكر، والصحيح من حديث جابر أن الأذان كان بعد الخطبة.
القول الثالث: ذهب بعض الحنفية وبعض المالكية والشافعية إلى أن الأذان يكون في بداية الخطبة الثانية؛ حتى يكون فراغه من الأذان بفراغه من خطبته. انظر «فتح القدير» (2/ 466)، و «التمهيد» (10/ 2)، و «روضة الطالبين» (3/ 93).
واستدلوا بما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فَرَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، فَفَرَغَ مِنَ الْخُطْبَةِ وَبِلَالٌ مِنَ الْأَذَانِ، ثُمَّ أَقَامَ بِلَالٌ» رواه الشافعي (911).
ونوقش هذا الاستدلال: تَفَرَّدَ بهذا التفصيل إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو متروك، وكيف يؤذن أثناء الخطبة؟! فإن ذلك يَمنع من سماعها أو أكثرها فيفوت مقصودها.
القول الرابع: وهو قول مالك-: يَخْطُبُ الْإِمَامُ طَوِيلًا، ثُمَّ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَهُوَ يَخْطُبُ، ثُمَّ يُصَلِّي
…
وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ صَدْرًا مِنْ خُطْبَتِهِ ثُمَّ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ، فَيَكُونُ فَرَاغُهُ مَعَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ الْخُطْبَةِ. «التمهيد» (10/ 12).
وهذا القول واضح البطلان، فتَرجَّح بذلك القول الأول، أنه يؤذن بعد فراغ الإمام من خطبته، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: صفة الأذان والإقامة للصلاتين:
يُجْمَع لصلاة الظُّهْر والعصر بأذان واحد وإقامتين. وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة، ورُوي عن مالك
(1)
.
الدليل: حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بأذان واحد وإقامتين، وفيه:«ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا» .
وهذا الحديث واضح الدلالة في أنه جَمَع بين الظهر والعصر بأذان واحد للأولى وإقامتين.
واستدلوا بأن الأذان هو الإعلام بدخول وقت الصلاة، فيَحصل ذلك للظُّهر، وأما الإقامة فهي لبيان الشروع في الصلاة للظُّهر، أما العصر فكيف يُؤَذَّن له وهو يُؤدَّى قبل وقته المعهود، فيُفْرَد بإقامة لبيان الشروع فيها؟!
(2)
.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 152)، و «الاستذكار» (4/ 326)، و «المجموع» (8/ 90)، و «كشاف القناع» (2/ 491).
(2)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 504).
وهناك أقوال أخرى في المسألة:
فذهب المالكية في المشهور عنهم إلى أنه يصلي الظهر والعصر، يَجمع بينهما بأذانين وإقامتين. كما في «المُدوَّنة» (1/ 173)، و «الاستذكار» (4/ 326).
واستدلوا لهذا بالقياس، فإن لكل صلاة أذانًا، فيؤذن للظهر ويقيم ويصلي الإمام، ويؤذن للعصر ويقيم ويصلي الإمام. ونوقش بأنه لا قياس مع النص.
وذهب الإمام أحمد كما في «المغني» (3/ 206) إلى أنه يصلي الظهر والعصر، يَجمع بينهما بإقامة لكل صلاة. ويجاب عنه بأن الثابت أنه جَمَع بأذان وإقامتين. وهو الراجح والله أعلم.
المبحث الرابع: يُستحب الجَمْع بين الظُّهر والعصر يوم عرفة:
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: جَمْع الصلاتين في عرفة
(1)
:
يُسَن للحاج الجَمْع بين الظُّهر والعصر يوم عرفة، في أول وقت الظُّهر بعد الخُطبة.
ففي حديث جابر: «ثم أَذَّن، ثم أقام فصلى الظُّهْر، ثم أقام فصلى العصر» .
وقال ابن تيمية: النبي صلى الله عليه وسلم جَمَع بين الصلاتين بعرفة في وقت الأولى، وهذا الجَمْع ثابت بالسُّنة المتواترة وباتفاق المسلمين عليه
(2)
.
ولقول سالم للحَجَّاج يوم عرفة: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ اليَوْمَ فَاقْصُرِ الخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الوُقُوفَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «صَدَقَ»
(3)
.
المطلب الثاني: سبب الجَمْع بعرفة والمزدلفة:
اختَلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن سبب الجَمْع بعرفة والمزدلفة السفر، فلا يَجمع مَنْ كان دون مسافة قَصْر، كأهل مكة. وهذا مذهب الشافعية في المشهور، والحنابلة في الصحيح
(4)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَجمع إلا في أسفاره، وكذا جَمَع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة والمزدلفة لأنه مسافر، وهو وَصْف مناسب ومعهود للجَمْع، ولا أثر للنسك في ذلك، بدليل عدم الجَمْع في مِنًى.
ونوقش هذا الاستدلال بأنه ليست العلة في الجَمْع مجرد السفر، بل العلة الاشتغال بالنسك، فيَجوز الجَمْع لكل أحد هناك، سواء كان مِنْ أهل مكة أو عرفات أو غيرهما.
(1)
الجَمْع ضد التفريق، وهو ضم الشيء بعضه إلى بعض، والمراد بجمع الصلاتين شرعًا: هو أداء الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، تقديمًا أو تأخيرًا. «الموسوعة الكويتية» (15/ 284).
(2)
«جامع المسائل» (6/ 336). نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر (57)، وابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 325)، والنووي في «المجموع» (8/ 92)، وابن دقيق العيد في «إحكام الأحكام» (ص: 220).
ولكن هذا الإجماع منخرم؛ فقد ورد قول لبعض الحنفية أنه يؤخر الجمع إلى آخِر وقت الظهر، كما في «البحر الرائق» (2/ 364) وهذا قول مهجور، يُخالِف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُعَرَّج عليه.
(3)
رواه البخاري (1663).
(4)
«الأم» (1/ 189)، و «المغني» (3/ 207)، و «الإنصاف» (2/ 320).
القول الثاني: أن الجَمْع في عرفة ومزدلفة بسبب النسك، فيَجوز الجَمْع للحاج حتى لمَن كان دون مسافة قَصْر، كأهل مكة. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وهو وَجْه للشافعية، وقول للحنابلة
(1)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَع في يوم عرفة بين الظُّهر والعصر، فجَمَع معه مَنْ حَضَره مِنْ المكيين وغيرهم، ولم يأمرهم بترك الجَمْعِ، ولو حُرِّم الجَمْع لبَيَّنه لهم؛ إذ لا يَجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا يُقِر النبي صلى الله عليه وسلم على الخطأ
(2)
.
القول الثالث: أن سبب ذلك الحاجةُ ورَفْع الحرج. وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن تيمية
(3)
.
واستدلوا بأن سبب الجَمْع هو المصلحة والحاجة. وهو الأقرب.
فالجَمْع في عرفة لمصلحة طول زمن الوقوف والدعاء، ولأن الناس يتفرقون في الموقف، فإن اجتمعوا للصلاة شق عليهم، وإن صَلَّوْا متفرقين فاتت مصلحة كثرة الجَمْع.
أما في مزدلفة فهم أحوج إلى الجَمْع؛ لأن الناس يَدفعون من عرفة بعد الغروب، فلو حُبسوا لصلاة المغرب فيها لصَلَّوْها من غير خشوع. ولو أوقفوا لصلاتها في الطريق لكان ذلك أشق، فكانت الحاجة داعية إلى تأخير المغرب لتُجْمَع مع العشاء هناك. وفي هذا مصلحة في الجَمْع بين المحافظة على الخشوع في الصلاة، ومراعاة أحوال العباد
(4)
.
المطلب الثالث: قَصْر أهل مكة الصلاة في عرفة ومزدلفة:
اتَّفَق العلماء على أن مَنْ كان سفره طويلًا، فإن له القَصْر في عرفة ومزدلفة.
واختلفوا على قولين في جواز قصر مَنْ كان سفره قصيرًا من أهل مكة:
القول الأول: يَقصر أهل مكة صلاتي الظُّهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء في
(1)
«المبسوط» (4/ 15)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 44)، و «المجموع» (8/ 87)، و «الفتاوى» (24/ 45).
(2)
«المغني» (5/ 265).
(3)
«العناية شرح الهداية» (2/ 470).
(4)
«فتاوى العثيمين» (12/ 256). وقال ابن تيمية: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بِعَرَفَةَ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ كَمَا قَصَرَ لِلسَّفَرِ؛ بَلْ لِاشْتِغَالِهِ بِاتِّصَالِ الْوُقُوفِ، وَلِاشْتِغَالِهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، وَكَانَ جَمْعُ عَرَفَةَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ، وَجَمْعُ مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ السَّيْرِ الَّذِي جَدَّ فِيهِ، وَهُوَ سَيْرُهُ إِلَى مُزْدَلِفَةَ. «الفتاوى» (24/ 46).
مزدلفة. وهذا مذهب المالكية، وقول للشافعية، ورواية عن أحمد
(1)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم في حِجة الوداع كان يَقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة وفي أيام مِنًى، وكان يصلي خَلْفه أهل مكة، فصَلَّوْا بصلاته قَصْرًا وجَمْعًا، ولم يَثبت ما يدل على أنهم أتموا صلاتهم بعد سلامه في مِنًى ولا مزدلفة ولا عرفة. كذلك أبو بكر وعمر بعده وسائر الأمراء، هكذا لا يُصَلُّون إلا ركعتين، فعُلِم أن ذلك سُنة الموضع.
القول الآخَر: لا يَقصر المكي. وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية في الأصح، والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بأن القصر أبيح للسفر، وأهل مكة غير مسافرين، فليس لهم القَصْر.
واعتُرض عليه بأنه لا قياس مع النص؛ فقد قَصَر النبي صلى الله عليه وسلم وقَصَر معه أهل مكة، ولم يَرِد أنهم أتموا أو أَمَرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإتمام.
قال ابن القيم: ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضًا، ومعه أهل مكة، وصَلَّوْا بصلاته قَصْرًا وجَمْعًا بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام ولا بترك الجَمْع
(3)
.
واستدلوا بعموم ما رُوي عن ابن عباس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عَسْفَانَ» .
ونوقش بأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والراجح: أنه ليست العلة في القصر مجرد السفر، بل العلة الاشتغال بالنسك، فيَجوز القصر لكل أحد هناك، سواء كان مِنْ أهل مكة أو عرفات أو غيرهما.
وأما ما قاله ابن تيمية: وَأَمَّا الْقَصْرُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ السَّفَرِ، وَلَا تَعَلُّقَ له بِالنُّسُكِ، وَلَا مُسَوِّغَ لِقَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا، إلَّا أَنَّهُمْ بِسَفَرِ وَعَرَفَةُ عَنِ الْمَسْجِدِ بَرِيدٌ، فَهَذَا قَصْرٌ فِي سَفَرٍ قَدْرُهُ بَرِيدٌ، وَهُمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى مِنًى كَانُوا فِي الرُّجُوعِ مِنَ السَّفَرِ. وَأَيُّ
(1)
قال مالك: يُصَلِّي أَهْلُ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَمِنًى، مَا أَقَامُوا بِهِمَا، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مَكَّةَ. «الموطأ» (1/ 539)، وانظر:«التمهيد» (10/ 13، 14)، و «المجموع» (8/ 87).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 152)، و «المجموع» (8/ 91)، و «المغني» (5/ 265).
(3)
«زاد المعاد» (2/ 216).
فَرْقٍ بَيْنَ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى عَرَفَةَ، وَبَيْنَ سَفَرِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَاللَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا لِمُسَافِرِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ
(1)
.
فنوقش بأن أهل مكة لَمَّا رَجَعُوا إِلَى مِنًى رجعوا من مكة، وليس من عرفة بعد طواف الإفاضة يوم النحر، ويَقصرون الصلاة بمِنًى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُتصوَّر أن يُطلَق على مَنْ انتقل من مكة إلى مِنًى أنه مسافر، وهي مسافة لا تَزيد عن خمسة كيلو مترات. فمَن انتَقَل من موطنه إلى عمله في مثل هذه المسافة، فيَجوز له القَصْر. وعلى هذا القول، فيَجوز لأكثر الناس أن يَقصروا الصلاة ويُفطروا في رمضان! فهذا القول ظاهر البطلان ومُخالِف لقول جماهير العلماء
(2)
.
المطلب الرابع: هل يَجمع ويَقصر مَنْ صلى وحده؟
مَنْ صلى الظُّهر والعصر منفردًا يَجوز له أن يَجمع ويَقصر. وهو قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة. وبه قال أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة
(3)
.
واستدلوا بأن الجَمْع بين الصلاتين يوم عرفة إنما كان للحاجة إلى امتداد الوقوف ليتفرغوا للدعاء؛ لأنه موقف يُقصَد إليه مِنْ أطراف الأرض، فشُرِع الجَمْع لئلا يُشتغل عن الدعاء، والمنفرد وغيره في هذه الحاجة سواء، فيستويان في جواز الجَمْع.
المطلب الخامس: هل يُجْهَر بالقراءة أم يُسَر؟
يُسَن الإسرار بالقراءة في صلاتي الظُّهر والعصر بعرفات، حتى لو وافق يوم الجمعة.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل، في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:«ثم أَذَّن، ثم أقام فصلى الظُّهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا» .
قال النووي: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجَهْرُ، فَظَاهِرُ الْحَالِ الْإِسْرَارُ
(4)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» (24/ 46، 47).
(2)
فبعض إخواننا يَقصر الصلاة إذا انتقل من موطنه إلى عمله في مثل هذه المسافة، وهذا قول باطل؛ لأن على هذا القول فأغلب الناس على سفر، ويَجُوز لهم القصر والفطر. وإن شاء الله سيأتي بيان هذا بالتفصيل في كتاب لي في «أحكام الصلاة» .
(3)
«الاستذكار» (4/ 326)، و «المغني» (5/ 263)، و «المجموع» (8/ 92).
(4)
«المجموع» (8/ 87).
نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر، وابن عبد البر، وابن رُشْد
…
وغيرهم
(1)
.
وهذا الإجماع منخرم، فقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الإمام يَجهر بالقراءة في صلاتَي الظُّهر والعصر في يوم عرفة، فتقاس على الجمعة لأن الإمام يَخطب لعرفة كالجمعة
(2)
.
ونوقش بأنه لا قياس مع النص، والله أعلم.
المطلب السادس: حُكْم الصلاة فيما لو وافق يوم عرفة يوم الجمعة:
ذهب جماهير العلماء إلى أنه لا تجب صلاة الجمعة على مَنْ وقف بعرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظُّهر ولم يُصَلِّ الجمعة؛ ولذا أَسَر فيها بالقراءة
(3)
.
المبحث الخامس: يُسَن للحاج بعد الانتهاء من صلاتَي الظُّهر والعصر بنَمِرة- التوجه إلى عرفات ليَطُول زمن وقوفه به.
المبحث السادس: يُسَن للحاج أن يقف على عرفات مُستقبِل القبلة،
على طهارة إن أمكن، فارغًا من الأمور الشاغلة له عن الدعاء، ويَحذر من المخاصمة والمشاتمة.
المبحث السابع: الإكثار من الدعاء والذِّكر والتلبية يوم عرفة:
فعن جابر رضي الله عنهما في حديثه الطويل، في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:«فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ» فلم يَزَل واقفًا للدعاء والتضرع بين يدي الله عز وجل.
(1)
قال ابن المنذر: وأَجْمَع كل مَنْ نَحفظ عنه من أهل العلم- على أن الإمام لا يَجهر في صلاة الظهر والعصر بعرفة بالقراءة. «الإشراف» (3/ 311). ونَقَل أيضًا الإجماع: ابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 325)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 113).
(2)
قال النووي: وَيُسِرُّ الْقِرَاءَةَ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجْهَرُ كَالْجُمُعَةِ. «المجموع» (8/ 87).
(3)
«المبسوط» (4/ 55)، و «التمهيد» (10/ 15)، و «زاد المعاد» (2/ 234).
فيُستحب أن يُكْثِر من الدعاء والتضرع، وإظهار الضعف والافتقار، ويُلِح في الدعاء.
المبحث الثامن: يُستحب للحاج في يوم عرفة الإكثار من أعمال الخير
بأنواعها،
كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونَفْع الآخرين
…
وغير ذلك من أفعال الخير.
القسم الرابع: مستحبات الدفع من عرفة إلى مزدلفة:
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: الدفع إلى مزدلفة بعد غروب الشمس، وعليه السكينة
والوقار:
يُسَن أن يَدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة، وعليه السكينة والوقار، فإذا وَجَد فجوة أسرع؛ لفِعْل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
المبحث الثاني: يُستحب في الدفع من عرفة إلى مزدلفة أن يسير سيرًا متوسطًا:
فمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة كان على ثلاث حالات:
الأولى: أن أغلب سير النبي صلى الله عليه وسلم كان سيرًا متوسطًا بين الإبطاء والإسراع بسكينة ووقار، مُظْهِرًا الذل والانكسار؛ طمعًا في قَبول العزيز الغفار.
الثانية: إذا وَجَد الحاج زحامًا أبطأ؛ لكيلا يؤذي إخوانه؛ لِما رَوَى ابن عباس، أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ:«أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ؛ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ» .
الثالثة: إذا وَجَد فُسحة وفُرجة أسرع. دل على ذلك ما ورد في «الصحيحين» : سُئِلَ أُسَامَةُ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: «كَانَ يَسِيرُ العَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» أي: سار مسرعًا.
وكذا فالرسول صلى الله عليه وسلم أسرع عند المرور بوادي مُحَسِّر، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَفَاضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَأَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ
(1)
.
فالجَمْع بين الأحاديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير سيرًا متوسطًا في الأغلب، فإذا وَجَد زحامًا أبطأ، وإذا وَجَد فُرجة وفَجوة أسرع، والله أعلم.
(1)
وادي مُحسِّر: وادٍ بمزدلفة. وإسناده على شرط مسلم، أخرجه أحمد (15207)، وأبو داود (1935)، والترمذي (896)، والنَّسَائي (3044)، وابن ماجه (3037) من طرق عن أبي الزبير عن جابر، به.
المبحث الثالث: أن يَدفع ملبيًا، ذاكرًا لله عز وجل
-:
يُستحب للحاج أن يَدفع من عرفة ملبيًا ذاكرًا لله تعالى؛ لعموم قول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]
(1)
.
ويُستحب للحاج أن يُكْثِر من التلبية؛ لِما ورد في «الصحيحين» : عَنِ الفَضْلِ قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ.
المبحث الرابع: يُستحب للحاج أن يُكْثِر من الاستغفار
؛ لعموم قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] ولأنه في هذا الموقف يكون قَبول التوبة والاستغفار.
المبحث الخامس: يُستحب للحاج عند الدفع إلى مزدلفة ألا يَقعد إلا إذا احتاج الأمر لذلك؛ ففي «الصحيحين» : عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشِّعْبَ الأَيْسَرَ، الَّذِي دُونَ المُزْدَلِفَةِ، أَنَاخَ فَبَالَ
(2)
. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يجلس في الدفع من عرفة إلى مزدلفة، وإنما قضى حاجته فقط.
ولكن يشكل عليه ما رُوي عن الشَّرِيد بن سُويد قال: «أَشْهَدُ لَوَقَفْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ» . قَالَ: «فَمَا مَسَّتْ قَدَمَاهُ الْأَرْضَ حَتَّى أَتَى جَمْعًا»
(3)
. ونوقش بأنه ضعيف.
المبحث السادس: حُسْن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه حين الدفع من عرفة إلى مزدلفة:
يدل على تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يُردف خلفه أسامة حين الدفع من عرفة إلى مزدلفة. ولذا ينبغي للحاج أن يُحَسِّن أخلاقه ويتواضع ويساعد المحتاجين.
(1)
قال ابن قُدامة: ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى يُسْتَحَبُّ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَشَدُّ تَأْكِيدًا؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهِ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198] وَلِأَنَّهُ زَمَنُ الِاسْتِشْعَارِ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَالتَّلَبُّسِ بِعِبَادَتِهِ، وَالسَّعْيِ إِلَى شَعَائِرِهِ. «المغني» (5/ 277).
(2)
البخاري (1669)، ومسلم (1280).
(3)
ضعيف: أخرجه أحمد (19465) وغيره. وفي إسناده يعقوب بن عاصم، روى عن ابن عمر والشَّريد وغيرهما. وروى عنه إبراهيم بن ميسرة ويعلى بن عطار وغيرهما، وذَكَره ابن حِبان في «الثقات» وتَبِعه الذهبي. وروى له مسلم وأبو داود والنَّسَائي، وقال الحافظ:(مقبول) أي: لَيِّن الحديث. قلت: وهو إلى الضعف أقرب، ولا يَتحمل مثل هذا المتن، والله أعلم.
الحاصل في سُنن يوم عرفة
القسم الأول: سُنن يوم عرفة قبل الوقوف بها:
- يُسن الدفع من مِنًى إلى عرفة بعد طلوع شمس اليوم التاسع.
- يُسن أن يَسير إلى عرفة بسكينة ووقار.
- يُسَن أثناء دفعه أن يُكْثِر من التلبية والتكبير.
- يُسَن النزول في نَمِرة أولًا قبل عرفة، والإقامة بها حتى ينتهي من صلاتَي الظُّهر والعصر.
- يُسَن أن يَغتسل بنَمِرة؛ بنية الوقوف بعرفة.
- يُسَن الخطبة بنَمِرة ويُبيِّن لهم الخطيب أحكام الحج، ويتعرض لما يُهِم المسلمين.
- يُسَن بعد الخطبة الأذان ثم الإقامة لصلاة الظُّهر، ثم الإقامة للعصر.
- يُسَن للحاج تعجيل الصلاة، أي أن يصلي الظُّهر والعصر جمعًا وقصرًا في وقت الظُّهر، ولا يصلي السُّنن الرواتب.
القسم الثاني: سُنن الوقوف بعرفة: يُسَن للحاج بعد الصلاة التوجه إلى عرفات، أو تعجيل الصلاة ليَطُول زمانه.
- يُسَن للحاج أن يقف على عرفات مستقبل القبلة، حاضر القلب، على طهارة إن أمكن، فارغًا من الأمور الشاغلة له عند الدعاء، ويَحذر من المخاصمة والمشاتمة.
- أن يُكْثِر من الذِّكر والدعاء والاستغفار، والتضرع إلى الله.
- أن يُكْثِر من أعمال الخير، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدقة.
- ألا يَخرج من عرفة إلا بعد غروب الشمس.
الفصل الرابع
ما يُكْرَه ويَحرم على الحاج في يوم عرفة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: يُكْرَه صوم يوم عرفة للحاج.
المبحث الثاني: يُكْرَه الإسراع في السير.
المبحث الثالث: يُكْرَه التطوع بين صلاتَي الظُّهر والعصر بعرفة.
من محظورات الوقوف بعرفة: الصعود على جبل عرفة (الرحمة).
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أسماء جبل عرفة.
المطلب الثاني: مكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة.
المطلب الثالث: حُكْم صعود جبل عرفة.
المبحث الأول:
يُكْرَه صوم يوم عرفة للحاج:
يُكْرَه صوم يوم عرفة للحاج، ويُستحب له الإفطار. وهو قول جمهور العلماء، منهم: المالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
(2)
.
قال ابن القيم: فالصواب أن الأفضل لأهل الآفاق صومه، ولأهل عرفة فطره؛ لاختياره صلى الله عليه وسلم ذلك لنفسه، وعَمَل خلفائه بعده بالفطر، وفيه قوة على الدعاء الذي هو أفضل دعاء العبد، وفيه أن يوم عرفة عيد لأهل عرفة، فلا يُستحب لهم صيامه
(3)
.
المبحث الثاني: يُكْرَه الإسراع في السير
راكبًا أو ماشيًا،
إسراعًا يؤدي إلى الإيذاء؛
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ» .
المبحث الثالث: يُكْرَه التطوع بين صلاتي الظهر والعصر بعرفة:
وبه قال الحنفية والمالكية والحنابلة
(4)
.
فعن جابر رضي الله عنه، وفيه:«ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا» فهذا الحديث صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ نافلة يوم عرفة بين الظُّهر والعصر، ولا بعدهما، والخير كل الخير في اقتفاء أثره واتباع سُنته صلى الله عليه وسلم.
وذهب الشافعية إلى أنه يُسَن فعل السُّنن الرواتب في عرفة
(5)
.
والراجح: أنه لا تُسن السُّنن الرواتب بين الصلاتين، وهذا ما جاءت به السُّنة.
(1)
«فتح القدير» (2/ 350)، و «التمهيد» (21/ 158)، و «المجموع» (6/ 379)، و «الفروع» (5/ 88).
(2)
أخرجه البخاري (1988)، ومسلم (1123).
(3)
«تهذيب السُّنن» (3/ 322)، وقد توسعتُ في هذا المبحث في كتابي «فقه الصيام» (ص: 293).
(4)
«الهداية» (1/ 143)، و «التمهيد» (9/ 259)، و «المجموع» (8/ 88، 89)، و «المبدع» (3/ 230).
(5)
«المجموع» (8/ 92).
من محظورات الوقوف بعرفة:
الصعود على جبل عرفة (الرحمة)
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أسماء جبل عرفة:
وتسمية هذا الجبل ب (جبل الرحمة) خطأ، والصحيح (جبل عرفة) أو (جبل الإل)
(1)
.
وتسمية هذا الجبل ب (جبل الرحمة) يَزيد إغراء الجَهَلة بالصعود عليه؛ لأنهم فهموا أن الرحمة لا تَنْزل إلا فوق هذا الجبل. وهذا باطل؛ لأن الرحمة تَنْزل على أهل الموقف في عرفة كلها، والرسول صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات، ولم يقف على هذا الجبل.
المطلب الثاني: مكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة:
الرسول صلى الله عليه وسلم وقف عند جبل عرفة في أسفله، مستقبلًا القبلة، وحبل المشاة أمامه.
وأصل ذلك ما رواه جابر في حديثه الطويل، وفيه:«ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ» .
فالصخرات أسفل جبل الرحمة، وبين يديه حبل المشاة، أي: طريقهم ومَمشاهم.
فالحاصل: أنه يُستحب أن يقف الحاج عند الصخرات في حالة السَّعة؛ تحريًا لموقف النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن عند وجود الزحام الشديد، فإِنَّ تَرْك ذلك أَوْلَى؛ لِما يَصحب ذلك من زحام يؤثر في خشوع الحاج وسكينته، وهو أحوج ما يكون في هذه اللحظات إلى استجماع القلب والانكسار بين يدي الله سبحانه، ومراعاة حال الدعاء أَوْلَى من مراعاة مكانه؛ إذ الإجماع منعقد على إجزاء الوقوف في أي موضع بعرفة، وقد روى مسلم: عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ
(1)
جبل الرحمة: في شرق مَشْعَر عرفات، جبل صغير، في جنوبيه صخرات كبار، ويسمى (جبل عرفة).
وقد شاع على ألسنة الناس، وفي أقلام الكتابة تسميته باسم (جبل الرحمة) وعند بادية نجد باسم (القُرَين) ولا أصل لواحد من هذين الوصفين.
قال الشيخ بكر أبو زيد: لم تَحصل تسميته بذلك إلا في أواخر القرن الرابع الهجري، وأن الصحيح من أسمائه:(جبل الإل) و (جبل عرفة) وأن تسميته ب (جبل الرحمة) من جنس التعبير عن الحِجْر ب (حِجْر إسماعيل) بدعوى أن إسماعيل دُفِن فيه، وهو غلط لا تسنده رواية صحيحة البتة، وكتسمية ذي الحُلَيْفة ب (أبيار علي) بدعوى أن عليًّا قَاتَل الجن فيها
…
فلا بد من إرجاع الشيء إلى أصله وتسميته باسمه، لا سيما فيما يتعلق بمواضع النسك والتعبد، فليُقَل:(جبل الإل) و (جبل عرفة). «معجم المناهي اللفظية» (1/ 195) و «جبل الإل بعرفات» (ص: 30).
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»
(1)
.
المطلب الثالث: حُكْم صعود جبل عرفة:
نُقِل الاتفاق على عدم مشروعية صعود جبل عرفة
(2)
.
قال ابن جماعة: وما اشتهر من ترجيح الوقوف على جبل الرحمة، فخطأ وجهالة، وابتداع قبيح، فحَدَث بعد انقراض السلف. وشذ بعض أهل العلم من متأخري الشافعية، فاستَحب الوقوف عليه! وليس لذلك أصل، وينبغي تحري موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
فالحاصل: أن ازدحام الناس للوقوف على جبل الرحمة مُخالِف للسُّنة، وينبغي لطلبة العلم أن يُعَلِّموا الحجيج الفارق الكبير بين الوقوف عند الجبل وصعوده؛ فإن صعود الجبل غير مشروع بإجماع أهل العلم.
من أشد الأخطاء وقوع الشرك في أرض عرفة، كالتوسل بالأموات ونحوهم. ومثل هؤلاء يُخشى عليهم من رد عملهم.
كثرة المخالفة الشرعية لدى كثير من الحُجاج، ذكورًا كانوا أو إناثًا، كالتساهل في الصلاة، وكثرة القال والقيل، والغِيبة والنميمة، وممارسة التدخين، وعدم استشعار الموقف وعظمته، وتَرْك الحجاب والتساهل فيه، والجدال بالباطل، والنزاعات والكذب، والإسراف في المأكل والمشرب، وكثرة التصوير بالهواتف والانشغال به
…
وغيرها.
(1)
رواه مسلم (1218).
(2)
قال ابن تيمية: ولا يُشْرَع صعود جبل الرحمة إجماعًا. «الاختيارات الفقهية» (ص: 466).
(3)
«هداية السالك» (ص: 387).
قال الماوردي: يُسْتَحبُّ أَنْ يَقْصِدَ هَذَا الْجَبَلَ الذِي يُقَالُ لَهُ: (جَبَلُ الدُّعَاءِ).
قال: وَهُوَ مَوْقِفُ الأَنْبِيَاءِ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
قال النووي: وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ لَا أصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ الاعْتِنَاءُ بِمَوْقِفِ رَسُولِ اللهِ. «الإيضاح» (ص: 282). وقال أيضًا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ، وَهِيَ صَخَرَاتٌ مُفْتَرِشَاتٌ فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ.
وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ بَيْنَ الْعَوَامِّ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِصُعُودِ الْجَبَلِ، وَتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُقُوفُ إِلَّا فِيهِ، فَغَلَطٌ، بَلِ الصَّوَابُ جَوَازُ الْوُقُوفِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ، وَأَنَّ الْفَضِيلَةَ فِي مَوْقِفِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الصَّخَرَاتِ. «شرح مسلم» (8/ 185).
الفصل الخامس
الفوات
تمهيد: فوات الحج.
ما يَلزم مَنْ أَحْرَم بالحج ولكن فاته الوقوف بعرفة.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: يَلزم مَنْ فاته الحج أن يتحلل من إحرامه بعمل عمرة.
المبحث الثاني: إتمام الحج الفاسد.
المبحث الثالث: هل يَلزم مَنْ فاته الحج القضاء؟ وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حُكْم قضاء الحج الواجب.
المطلب الثاني: حُكْم قضاء الحج النفل.
المبحث الرابع: الهَدْي. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: هل يَلزم مَنْ فاته الوقوف بعرفة- هَدْي؟
المطلب الثاني: زمان ذبح هَدْي الفوات.
المطلب الثالث: العجز عن هَدْي الفوات.
الفصل الخامس: الفوات:
وفيه تمهيد وأربعة مباحث:
تمهيد: فوات الحج
هو أن يُحْرِم بالحج، ثم لا يُدرِك الوقوف بعرفة في وقته المحدد
(1)
.
فمَن أَحْرَم بالحج فلم يقف بعرفة حتى طلع الفجر، فقد فاته الحج بالإجماع
(2)
.
ما يَلزم مَنْ أَحْرَم بالحج ولكن فاته الوقوف بعرفة: وفيه أربعة مباحث.
المبحث الأول: يَلزم من فاته الحج أن يتحلل من إحرامه بعمل عمرة:
اختَلف العلماء فيما يجب على مَنْ فاته الوقوف بعرفة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن مَنْ فاته الوقوف بعرفة أنه يتحلل بعمرة. وبه قال أبو يوسف من الحنفية، وهو قول عند المالكية وبعض الشافعية، والمشهور عند الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ»
(4)
.
وَعَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ قَالَا فِي الرَّجُلِ يَفُوتُهُ الْحَجُّ: يُحِلُّ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ
(5)
.
القول الثاني: لا يَصير إحرامه بعمرة، وإنما يَحصل التحلل بأفعال العمرة، وهي الطواف والسعي والحَلْق. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية الحنابلة
(6)
.
(1)
الفوات: هُوَ خُرُوجُ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ عَنْ وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا. «الموسوعة الكويتية» (32/ 211).
(2)
ونَقَل ابن المنذر الإجماع (ص: 57) والنووي في «المجموع» (8/ 285)، وابن عبد البر في «التمهيد» (15/ 201)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 424) وغيرهم كثير.
(3)
«البحر الرائق» (3/ 62)، و «مواهب الجليل» (4/ 294)، و «المجموع» (8/ 288)، و «المغني» (5/ 424).
(4)
ضعيف: ومداره على ابن أبي ليلى، ورواه عن ابن عباس به عند الدارقطني (2519).
وفي إسناده يحيى بن عيسى، ضعيف. ورواه مرة عن عطاء مرسلًا، ومرة أخرى عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، عند ابن أبي شيبة (13865، 13866) وعلى كل حال ففيه ابن أبي ليلى، وهو سيئ الحفظ.
(5)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (13864) من طرق عن إبراهيم، عن الأسود، به.
(6)
«المبسوط» (4/ 175)، و «مواهب الجليل» (4/ 294)، و «المجموع» (8/ 288)، و «المغني» (5/ 426).
واستدلوا بالمأثور والمعقول:
أما المأثور، فَعَنْ سُلَيْمَانَ، أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ خَرَجَ حَاجًّا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَادِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ، أَضَلَّ رَوَاحِلَهُ، وَأَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه يَوْمَ النَّحْرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ، ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ، فَإِذَا أَدْرَكْتَ الْحَجَّ قَابِلًا فحُجَّ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
(1)
.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الفَجْرُ، فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ، فَلْيَأْتِ البَيْتَ فَلْيَطُفْ بِهِ سَبْعًا، وَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ سَبْعًا، ثُمَّ لِيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ.
وأما المعقول، فَلِأَنَّ إحْرَامَهُ انْعَقَدَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، فَلَمْ يَنْقَلِبْ إِلَى الْآخَرِ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَلْبُ العُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ.
قال ابن قُدامة: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ قَالَ: (يَجْعَلُ إحْرَامَهُ عُمْرَةً) أَرَادَ بِهِ: يَفْعَلُ مَا فَعَلَ الْمُعْتَمِرُ، وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ خِلَافٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ إحْرَامُ الْحَجِّ إحْرَامًا بِعُمْرَةِ، بِحَيْثُ يُجْزِئُهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ إِنْ لَمْ يَكُنِ اعْتَمَرَ
(2)
.
القول الثالث: أن عليه عَمَل ما بقي من مناسك الحج، كالرمي والمبيت بمِنًى
…
وغير ذلك من المناسك. وبه قال المُزَني من الشافعية، وهو رواية عن أحمد
(3)
.
قال ابن قُدامة: يَمْضِي فِي حَجٍّ فَاسِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: يَلْزَمُهُ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ مَا فَاتَ وَقْتُهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ مَا لَمْ يَفُتْ.
واعتُرض عليه بأنه كيف يُكمل حجًّا فاسدًا وباطلًا؟!
والراجح: أن مَنْ فاته الوقوف بعرفة يتحلل بطواف وسعي وحَلْق.
(1)
إسناده ضعيف لانقطاعه؛ لأن سليمان لم يُدْرِك زمن القصة، ولم يُنْقَل أن أبا أيوب أخبره بها. «التلخيص» (2/ 555). أخرجه مالك (1133) عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سليمان، به.
(2)
«المغني» (5/ 426). والأفعال واحدة، والفارق بين القولين أن مَنْ قال:(يتحلل بعمرة) أن يَصِير إحرام الحج إحرامًا بعمرة، بحيث يُجْزئه عن عُمْرة الإسلام إن لم يكن اعتَمَر. والقول الآخَر: أن هذه الأفعال لا تُجْزئ عن العمرة، فرضًا ولا نفلًا.
(3)
«المهذب» (1/ 425)، و «المغني» (5/ 425).
المبحث الثاني: إتمام الحج الفاسد:
مَنْ أَفْسَد حجه، فهل يجب عليه إتمامه؟ أم يَخرج منه ولا يُتمه لفساده؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وجوب إتمام الحج الفاسد. وهو قول المذاهب الأربعة
(1)
.
واستدلوا بعموم قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
وجه الدلالة: أن الله أَمَر بالإتمام، ولم يُفَرِّق بين الصحيح والفاسد.
القول الثاني: أنه لا يُشْرَع إتمام الحج الفاسد. وهو قول الظاهرية.
(2)
القول الثالث: أنه يتحلل بعمرة. وهو رواية عند الحنابلة
(3)
.
والراجح: وجوب إتمام الحج الفاسد، كَمَنْ جامع في عرفة؛ لأن الله أَمَر بالإتمام، ولم يُفَرِّق بين الصحيح والفاسد. وأما مَنْ فاته الوقوف بعرفة، فإنه يتحلل بطواف وسعي وحَلْق.
المبحث الثالث: هل يَلزم مَنْ فاته الحجُّ القضاءُ؟
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حُكْم قضاء الحج الواجب:
نَقَل غير واحدٍ الإجماع على أن مَنْ فاته الحج الواجب، لزمه القضاء
(4)
.
وإذا قَضَى أجزأه القضاء عن الحجة الواجبة، بالإجماع
(5)
.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 218)، و «المُدوَّنة» (1/ 690)، و «الأم» (2/ 130)، و «المغني» (5/ 425).
(2)
قال ابن حزم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إن الله لا يصلح عمل المفسدين [يونس: 81] فَمِنَ الْخَطَأِ تَمَادِيهِ عَلَى عَمَلٍ لَا يُصْلِحُهُ اللَّهُ ?عز وجل؛ لِأَنَّهُ مُفْسِدٌ بِلَا خِلَافٍ مِنَّا وَمِنْهُمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا يَجِبُ مَرَّةً. وَمَنْ أَلْزَمَهُ التَّمَادِيَ عَلَى ذَلِكَ الْحَجِّ الْفَاسِدِ، ثُمَّ أَلْزَمَهُ حَجًّا آخَرَ، فَقَدْ أَلْزَمَهُ حَجَّتَيْنِ، وَهَذَا خِلَافُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، وَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ مَنْ أَبْطَلَ صَلَاتَهُ أَنَّهُ لَا يَتَمَادَى عَلَيْهَا، فَلِمَ أَلْزَمُوهُ التَّمَادِيَ عَلَى الْحَجِّ؟! «المُحَلَّى» (5/ 202).
(3)
«الإنصاف» (3/ 495).
(4)
قال ابن رُشْد: وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِيهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ إِذَا كَانَ حَجًّا وَاجِبًا. «بداية المجتهد» (2/ 133). ونَقَل الإجماع: ابن مفلح في «المبدع» (3/ 191)، وابن نُجَيْم في «البحر الرائق» (3/ 61).
(5)
منهم ابن قُدامة في «المغني» (3/ 455)، والجَصَّاص في «أحكام القرآن» (1/ 348).
المطلب الثاني: حُكْم قضاء الحج النفل:
نُقِل الإجماع على أن المُفسِد لحِجة التطوع أو عُمرته عليه القضاء
(1)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فهذا قول جماهير العلماء
(2)
.
واستدلوا بعموم قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]
قال عمر في الذي يَفوته الحج: يَحِلُّ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. وفي رواية: قَالَ الأَسْوَدُ: مَكَثْتُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ.
واستدلوا بالقياس على النذر، فهو لا يجب بأصل الشرع، بل المكلف أوجبه على نفسه، فكذا حج النفل، مَنْ دَخَل فيه وجب عليه إتمامه. وَلَمَّا وَجَبَ بِالدُّخُولِ، صَارَ بِمَنْزِلَةِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنَّذْرِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلِ إِتْمَامِهِ
(3)
.
القول الآخَر: إذا فسد حج التطوع، فلا يجب عليه القضاء. وهذا مذهب المالكية في رواية، والحنابلة في رواية، وهو قول ابن حزم
(4)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» فالحج لا يجب إلا مرة في العمر، فلو وجب قضاء النافلة، لكان الحج واجبًا أكثر من مرة.
ولأنها عبادةُ تَطَوُّعٍ، فلم يجب قضاؤها، كسائر التطوعات.
ونوقش بأن المراد بالواجب في الحديث هو الواجب بأصل الشرع. ولأن الحج يَلزم بالشروع فيه، فيَصير كالمنذور، بخلاف سائر التطوعات.
والراجح: أنه يجب عليه القضاء؛ لأن الإنسان إذا شَرَع في النسك صار واجبًا، وهذا من خصائص الحج والعمرة، أن نفلهما يجب المضي فيه، بخلاف غيرهما، فهو لَمَّا شَرَع وأَحْرَم بالحج أو بالعمرة صار ذلك واجبًا، كأنما نذره نذرًا، وإلى هذا يشير قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
(1)
«الاستذكار» (3/ 358).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 217)، و «المُدوَّنة» (1/ 690)، و «الأم» (2/ 130)، و «المغني» (5/ 426).
(3)
«أحكام القرآن» للجَصَّاص (1/ 348)، و «المغني» (5/ 427).
(4)
«هداية السالك» (3/ 312)، و «المغني» (5/ 427)، و «الإنصاف» (3/ 496)، و «المُحَلَّى» (7/ 275).
فيجب القضاء، سواء كان ذلك تطوعًا أو واجبًا بأصل الشرع وهو الفريضة، أو بالنذر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ» وعليه هَدْي في عام القضاء
(1)
.
المبحث الرابع: الهَدْي، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: هل يَلزم مَنْ فاته الوقوف بعرفة هَدْي؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: مَنْ فاته الحج يَلزمه هَدْي. وهذا قول المالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فاستدلوا بما رواه عطاء مرسلًا:«مَنْ فَاتَهُ الحَجُّ، فَعَلَيْهِ دَمٌ» .
وأما المأثور، فاستدلوا بأن عمر قال لأبي أيوب حين فاته الحج: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ، فَإِذَا أَدْرَكْتَ الْحَجَّ قَابِلًا فَحُجَّ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ: فَإِنْ أَدْرَكَهُ الْحَجُّ قَابِلًا، فَلْيَحُجَّ إِنِ اسْتَطَاعَ وَلْيُهْدِ
(3)
.
القول الآخَر: لا يجب الدم على مَنْ فاته الوقوف بعرفة. وهو مذهب الحنفية ورواية عن أحمد
(4)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» قالوا: فليس في الحديث أن عليه هديًا.
والراجح: وجوب الهَدْي على مَنْ فاته الوقوف بعرفة؛ جبرًا للخلل الذي وقع؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ولقول عمر بن الخطاب وابن عمر، ولم يُعْرَف لهما من الصحابة مُخالِف. وإيجاب الدم بالقياس على المُحصَر؛ لعموم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ولا يجزئ ذبح هَدْي الفوات إلا بالحَرَم.
(1)
«الشرح الممتع» (7/ 413).
(2)
«مواهب الجليل» (4/ 301)، و «المجموع» (8/ 285)، و «الإنصاف» (4/ 64).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه الشافعي (993) عن موسى بن عُقبة، عن نافع، عن ابن عمر، به.
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 220)، و «المبدع» (3/ 244).
المطلب الثاني: زمان ذبح هَدْي الفوات:
اختلف أهل العلم في زمان ذبح دم الفوات على قولين:
القول الأول: أنه يجب تأخيره إلى سَنة القضاء. وهو مذهب المالكية، والشافعية في المشهور، والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بأن عمر قال لأبي أيوب حين فاته الحج: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ، ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ، فَإِذَا أَدْرَكْتَ الْحَجَّ قَابِلًا فَحُجَّ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ: فَإِنْ أَدْرَكَهُ الْحَجُّ قَابِلًا، فَلْيَحُجَّ إِنِ اسْتَطَاعَ وَلْيُهْدِ.
القول الآخَر: أنه لا يجب تأخيره إلى سَنة القضاء. وهو مذهب الشافعية في قول
(2)
.
والراجح: قول جمهور العلماء، أي أنه يجب تأخير الهَدْي إلى سَنة القضاء.
المطلب الثالث: العجز عن هَدْي الفوات:
ذهب جمهور العلماء إلى أن مَنْ فاته الحج إذا عجز عن الهَدْي، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. وبهذا قال المالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بما رُوي عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ: فَإِنْ أَدْرَكَهُ الْحَجُّ قَابِلًا، فَلْيَحُجَّ إِنِ اسْتَطَاعَ وَلْيُهْدِ فِي حَجِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ.
فالحاصل: أن مَنْ فاته الوقوف بعرفة، بأن طلع عليه الفجر وهو لم يقف، فإنه يتحلل بعمل عمرة يطوف ويسعى ويَحلق، وعليه القضاء من العام القابل ويَذبح شاة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، والله أعلم.
•1•
(1)
«مواهب الجليل» (1/ 203)، و «المهذب» (1/ 427)، و «الفروع» (6/ 77).
(2)
«المجموع» (7/ 499).
(3)
«المُنتقَى» (3/ 89)، و «فتح العزيز شرح الوجيز» (8/ 83)، و «الكافي» (1/ 534).
الفصل السادس
الإحصار
وفيه تمهيد وستة مباحث:
التمهيد: معنى الإحصار.
المبحث الأول: ما المانع الذي يتحقق به الإحصار؟
المبحث الثاني: شروط وجوب دم الإحصار عن الوقوف بعرفة.
الشرط الأول: ألا يكون محصورًا عن الوقوف بعرفة أو الإفاضة. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ألا يكون قد وقف بعرفة قبل حدوث المانع من المتابعة.
المطلب الثاني: الإحصار عن طواف الإفاضة.
المطلب الثالث: الإحصار عن واجب من واجبات الحج.
المطلب الرابع: وقت الإحصار عن العمرة.
الشرط الثاني: أن ييأس من زوال المانع.
الشرط الثالث: أن يكون الإحصار بعد الإحرام، وقبل الوصول إلى البيت.
المبحث الثالث: وقت إحلال المُحْصَر.
المبحث الرابع: حكمة مشروعية التحلل.
المبحث الخامس: كيفية تحلل المُحصَر. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: نية التحلل.
المطلب الثاني: ذَبْح هدي الإحصار. وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: مكان إجزاء ذبح هَدْي الإحصار.
المسألة الثانية: زمان ذبح هَدْي الإحصار.
المسألة الثالثة: العجز عن دم الإحصار.
المسألة الرابعة: الأكل من هَدْي الإحصار.
المطلب الثالث: الحلق أو التقصير.
المبحث السادس: اشتراط التحلل من الإحصار. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: ما يَلزم المُحْصَر إذا اشتَرط.
المطلب الثاني: حُكْم المُحْصَر إذا وقع في بعض محظورات الإحرام قبل التحلل.
المطلب الثالث: القضاء على مَنْ أُحْصِرَ.
الفصل السادس: الإحصار
وفيه تمهيد ومبحثان:
التمهيد: معنى الإحصار:
هو مَنْع المُحْرِم مِنْ إتمام أركان الحج أو العمرة
(1)
.
المبحث الأول: ما المانع الذي يتحقق به الإحصار؟
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الإحصار بالعدو:
الإحصار يَحصل بالعدو، بالكتاب والسُّنة والإجماع:
أما القرآن، فاستُدل بعموم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
فسبب نزول الآية هو صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت.
وأما السُّنة، فَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ حُصِرُوا فِي الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَنْحَرُوا وَيَحْلِقُوا وَيَحِلُّوا
(2)
.
وأما الإجماع، فقال ابن قُدَامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا حَصَرَهُ عَدُوٌّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ، فَمَنَعُوهُ الْوُصُولَ إِلَى الْبَيْتِ، وَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آمِنًا؛ فَلَهُ التَّحَلُّلُ
(3)
.
المطلب الثاني: الإحصار بالمرض وغيره:
اختَلف العلماء في المانع الذي يتحقق به الإحصار غير الإحصار بالعدو على قولين:
القول الأول: أن الإحصار يتحقق بكل حابس يَحبس المُحْرِم عن المضي في موجب الإحرام، فالإحصار كل ما صَدَّ المُحْرِم ومَنَعه عن الوصول إلى البيت، من عدو أو مرض أو غير ذلك. وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد، وبه قال ابن حزم
(4)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة والمأثور والقياس:
أما القرآن، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: أن لفظ الإحصار مطلق، لم يُقيَّد، فيَدخل فيه العدو والمرض ونحوهما.
(1)
«نهاية المحتاج» (3/ 362).
(2)
رواه البخاري (2731) في حديث طويل، وفيه: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا» .
(3)
«المغني» (5/ 194) فالمُحْصَر بعَدُوّ له أن يتحلل باتفاق العلماء. «مجموع الفتاوى» (26/ 227).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 175)، و «المغني» (5/ 203)، و «المُحَلَّى» (7/ 203).
وأما السُّنة، فعن عكرمة قال: سَمعتُ الحَجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» . قال عكرمة: سألتُ ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك، فقالا: صَدَق.
وَجْه الدلالة: أن المُحْرِم إذا عَرَض له ما يَحبسه عن الحج، من مرض أو كَسْر، فإنه يحل وإن لم يَشترط، ولا شيء عليه من هَدْي ولا غيره إلا القضاء من العام المقبل
(1)
.
واعتُرض عليه بأن معنى (فقد حَلَّ) أي: صار ممن يَجوز له التحلل بعد أن كان ممنوعًا منه، ويَلزمه ما يَلزم المُحْصَر من هَدْي.
وأما المأثور، فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: خَرَجْنَا عُمَّارًا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ السُّقُوفِ لُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا، فَاعْتَرَضْنَا الطَّرِيقَ لِنَسْأَلَ، فَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَكْبٍ، فَقُلْنَا: لُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا! فَقَالَ: «اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِكُمْ يَوْمَ أَمَارَةٍ، وَيُرْسِلُ بِالْهَدْيِ، فَإِذَا نُحِرَ الْهَدْيُ فَلْيُحِلَّ، وَعَلَيْهِ الْعُمْرَةُ»
(2)
.
وأما القياس، فإن المعنى الذي لأجله ثَبَتَ حق التحلل للْمُحْصَر بالعدو- موجود كذلك في المرض.
القول الآخَر: مَنْ تَعَذَّرَ عليه الوصول إلى البيت بحاصر آخَر غير العدو، كالحصر بالمرض أو ذَهاب النفقة ونحوه، فإنه لا يَجوز له التحلل إلا بعمل العمرة. وهو مذهب المالكية والشافعية، وهو المشهور عند الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة والمعقول:
أما القرآن، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وَجْه الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الأول: أن قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} يدل على أن الإحصار من العدو، وإنما يكون من المرض الشفاء.
(1)
وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ أَوْ كَسْرٍ أَوْ عَرَجٍ، فَقَدْ حَلَّ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي عَرَضَ لَهُ هَذَا فِيهِ، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ. «الاستذكار» (12/ 97).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (13078): عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمَيْر، به.
(3)
«الإشراف» (1/ 504)، قال مالك: وذلك الأمر عندنا فيمن أُحْصِرَ بغير عدو. «الموطأ» (2/ 429).
الثاني: أن الله خاطب الجماعة بالإحصار بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وحَصْر الجماعة لا يكون إلا بالعدو. أما المرض فيُحْصَر به الواحد فقط.
الثالث: أن هذه الآية نَزَلَتْ في غزوة الحُديبية، وذلك إحصار عدو
(1)
.
ونوقش بأنه وإن كان نزول الآية خاصًّا بالحُديبية، حين تَعَرَّضَ المشركون للمسلمين ومنعوهم من الوصول إلى البيت، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلفظ الآية عامّ في كل إحصار، سواء كان بعدو أو مرض أو نحو ذلك.
وأما السُّنة، فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا:«لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الحَجَّ؟» قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً! فَقَالَ لَهَا: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» .
وَجْه الدلالة: أن ضُبَاعَة لو كان لها أن تحل بالمرض من غير شرط، لأَخْبَرها صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يُعلقها بالشرط.
ونوقش بأن الاشتراط يكون لمن يشكو المرض قبل سفره، وأما مَنْ لم يَشْكُ المرض قبل سفره، بل شكاه بعده، فإنه يُعَد مُحْصَرًا بمرضه وله التحلل.
ورَوى البخاري: عَنْ سَالِم قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: «أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الحَجِّ، طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا، فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا»
(2)
.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حُبِسَ دُونَ الْبَيْتِ بِمَرَضٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
(3)
.
وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: خَرَجْتُ مُعْتَمِرًا، فَلَمَّا كُنْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ صُرِعْتُ عَنْ رَاحِلَتِي، فَانْكَسَرَتْ رِجْلِي، فَأَرْسَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، فَقَالَا: إِنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ كَوَقْتِ الْحَجِّ، لَا يَحِلَّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَأَقَمْتُ بِالدَّثِينَةِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أَوْ ثَمَانيَةَ أَشْهُرٍ
(4)
.
(1)
«الأم» (3/ 408).
(2)
«صحيح البخاري» (1810).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1047) عن ابن شِهَاب، عن سالم، عن ابن عمر، به.
(4)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (13242) قال: حَدَّثَنا ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن أبي العلاء، به. والدَّثِينة: موضع بالشأم أو بعدن.
وَجْه الدلالة: أن المُحْرِم الذي يَمرض ولا يَقدر أن يصل إلى البيت- يَظل على إحرامه، فإذا برأ أتى البيت فيطوف ويسعى. فدل ذلك على أنه لا يحل لمُحْصَر أن يحل دون البيت بسبب المرض إلا مَنْ أحصره العدو.
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَابْنَ الزُّبَيْرِ- أَفْتَوْا سَعِيدًا الْمَخْزُومِيَّ حِينَ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، بِأَنْ يَتَدَاوَى بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَيَفْتَدِيَ، فَإِذَا صَحَّ اعْتَمَرَ فَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا وَيُهْدِيَ
(1)
.
وأما المعقول، فإن الإحصار بالعدو يَطُول، فيَحتاج المُحْرِم إلى التحلل، ويَصعب عليه الوصول إلى البيت. بينما العِلل العارضة في الأبدان كالمرض، بخلاف ذلك.
الراجح: أن الإحصار هو كل ما يَمنع المُحْرِم من الوصول إلى البيت، فيتحقق بكل حابس يَحبس المُحْرِم عن المضي في موجب الإحرام، سواء كان الحابس مرضًا أو ذَهاب النفقة أو غير ذلك؛ لعموم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ولَفْظ الإحصار مُطْلَق، لم يُقَيَّد، فيَدخل فيه العدو والمرض ونحوهما.
فكيف يُكَلَّف المُحْرِم البقاء على حال الإحرام، ومَنْعه من الثياب والطِّيب، هذه المدةَ الطويلة، والله يقول:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] فمَن مُنع من إتمام نسكه لعدم حمله تصريحًا، إن اشترط حل ولا شيء عليه، وإذا لم يَشترط فحُكمه حُكم المُحْصَر.
المبحث الثاني: شروط وجوب دم الإحصار عن الوقوف بعرفة:
الشرط الأول: ألا يكون محصورًا عن الوقوف بعرفة أو الإفاضة.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ألا يكون قد وقف بعرفة قبل حدوث المانع من المتابعة.
فلا يكون محصورًا حتى يفوته الوقوف بعرفة، فإذا فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية
(2)
. لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الحَجُّ عَرَفَةُ» لأنه الركن الذي يَفوت الحج بفواته.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (1048)، والشافعي في «الأم» (3/ 410) واللفظ له.
(2)
«تبيين الحقائق» (2/ 81)، و «بُلْغَة السالك» (2/ 130)، و «الحاوي» (4/ 349).
المطلب الثاني: الإحصار عن طواف الإفاضة:
اختَلف العلماء فيمن وَقَف بعرفة، ثم أُحْصِرَ عن البيت على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يكون مُحْصَرًا، وعليه القيام بأعمال الحج، ويَظل مُحْرِمًا في حق النساء حتى يطوف طواف الإفاضة. وهذا مذهب الحنفية والمالكية
(1)
.
لأنه لما وقف بعرفة وأمكنه التحلل بالحلق يوم النحر عن كل محظور سوى النساء، فلم يَلزم امتداد الإحرام الموجب للحرج، ولم يَبْقَ عليه إلا الإفاضة التي يصح الإتيان بها في أي وقت من الزمان، ولا يَعجز المُحْصَر عن ساعة من ليل أو نهار يجد بها فرصة قدر الطواف، مختفيًا في زمان قدر شهر، والمنع من النساء في هذا المقدار لا يَستلزم حرجًا يبيح الإحلال مطلقًا بغير الطريق الأصلي
(2)
.
القول الثاني: أنه يكون مُحْصَرًا ويتحلل. وهذا مذهب الشافعية في الأظهر
(3)
.
القول الثالث: أنه إن أُحْصِرَ عن البيت بعد الوقوف بعرفة، قبل رمي الجمرة، فله التحلل. وإن أُحْصِرَ عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة، فليس له أن يتحلل؛ لأنه فمتى ما زال الحصر أتى بالطواف وقد تم حجه. وهذا مذهب الحنابلة
(4)
.
المطلب الثالث: الإحصار عن واجب من واجبات الحج:
إذا أُحْصِرَ عن واجب فلا يتحلل؛ لأنه يمكن جبره بالدم.
المطلب الرابع: وقت الإحصار عن العمرة:
يَجوز للمُحْرِم بالعمرة التحلل عند الإحصار بعد ذبح هديه.
قال النووي: وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ التَّحَلُّلُ عِنْدَ الْإِحْصَارِ بِلَا خِلَافٍ، وَدَلِيلُ التَّحَلُّلِ وَإِحْصَارِ الْعَدُوِّ نَصُّ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي تَحَلُّلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ
(1)
«البحر الرائق» (3/ 60)، و «التاج والإكليل» (3/ 199).
(2)
«فتح القدير» (3/ 134).
(3)
«الحاوي» (4/ 349).
(4)
«الإنصاف» (4/ 50).
عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ
(1)
.
الشرط الثاني: أن ييأس من زوال المانع.
قال مالك: وَمَنْ حُصِرَ فَيَئِسَ مَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْبَيْتِ بِفِتْنَةٍ نَزَلَتْ أَوْ لِعَدُوٍّ غَلَبَ عَلَى الْبِلَادِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذَّهَابِ إِلَى مَكَّةَ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَحْصُورٌ. وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا يَرْجُو أَنْ يَنْكَشِفَ قَرِيبًا، رَأَيْتُ أَنْ يَتَلَوَّمَ، فَإِنِ انْكَشَفَ ذَلِكَ، وَإِلَّا صَنَعَ مَا يَصْنَعُ الْمَحْصُورُ، وَرَجَعَ إلَى بِلَادِهِ
(2)
.
الشرط الثالث: أن يكون الإحصار بعد الإحرام، وقبل الوصول إلى البيت
؛ لأنه إذا عَرَض ما يَمنع من أداء النسك ولم يكن أَحْرَم، فلا يَلزمه شيء.
المبحث الثالث: وقت إحلال المُحْصَر:
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن المُحْصَر يَحِل مطلقًا حين يُحْصَر، بعد أن ذبح هديه ويَحلق. وهو مذهب أبي حنيفة والمالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بقوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
فالمُحْصَر يحل مطلقًا حين يُحْصَر، بعد ذبح ما استيسر من الهَدْي وحَلْق رأسه.
وأما السُّنة، فَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ حُصِرُوا فِي الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَنْحَرُوا وَيَحْلِقُوا وَيَحِلُّوا
(4)
.
(1)
«المجموع» (8/ 294).
(2)
«المُدوَّنة» (1/ 439). وقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَحَبَسَهُ سُلْطَانٌ: فَإِنْ كَانَ لِحَبْسِهِ غَايَةٌ يَرَى أَنَّهُ يَدْرِك مَعَهَا الْحَجَّ، وَكَانَتْ طَرِيقُهُ آمِنَةً بِمَكَّةَ، لَمْ يَحْلِلْ، فَإِنْ أُرْسِلَ مَضَى. وَإِنْ كَانَ حَبْسُهُ مَغِيبًا عَنْهُ، لَا تُدْرَى غَايَتُهُ، أَوْ كَانَتْ لَهُ غَايَةٌ لَا يُدْرِكُ مَعَهَا الْحَجَّ إِذَا أُرْسِلَ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ إِلَى بَلَدِهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَحِلَّ كَمَا يَحِلُّ الْمُحْصَرُ. «الأم» (3/ 407).
(3)
«المبسوط» (4/ 109)، و «المُدوَّنة» (1/ 297)، و «الأم» (2/ 218)، و «الكافي» (2/ 466).
(4)
رواه البخاري (2731) في حديث طويل، وفيه: فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا» .
القول الآخَر: أن المُحْصَر في العمرة يحل مطلقًا حين يُحْصَر، بعد أن ذبح هديه ويَحلق، بخلاف المُحْصَر في الحج، فلا يحل إلا يوم النحر. وهو قول أبي يوسف ومحمد صاحبَي أبي حنيفة، وأَشْهَب من المالكية، ورواية عن أحمد
(1)
.
واستدلوا بِأَنَّ لِلْهَدْيِ مَحِلَّ زَمَانٍ وَمَحِلَّ مَكَان، فَإِنْ عَجَزَ مَحِلُّ الْمَكَانِ فَسَقَطَ، بَقِيَ مَحِلُّ الزَّمَانِ وَاجِبًا لِإِمْكَانِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ نَحْرُ الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لَمْ يَجُزِ التَّحَلُّلُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]
(2)
.
واعتُرض عليه بأن هذا استدلال مقابل النص؛ إذ دل على أن المُحْصَر يحل مطلقًا حين يُحْصَر، بعد أن ذَبَح هديه وحَلَق رأسه، وأن التحلل شُرِع للتخفيف والتيسير.
وإذا قيل بتأجيل التحلل إلى يوم النحر، فهذا فيه مشقة على المُحْرِم، خاصة إذا كان قد أُحْصِرَ في أول أيام أشهر الحج، والله يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وعلى هذا فمَن مُنع من نسكه لعدم حمله تصريحًا ولم يَشترط، فحُكمه حُكم المُحْصَر، يَنحر هديه ويَحلق ويحل، فمَن لم يجد الهَدْي فإنه يصوم.
المبحث الرابع: حكمة مشروعية التحلل:
شَرَع الله التحلل لحاجة المُحْصَر إليه، ورَفْع للحرج والضرر عنه؛ حتى لا يَظل مُحْرِمًا إلى أن يندفع عنه المانع من إتمام الحج أو العمرة
(3)
.
(1)
«المبسوط» (4/ 109)، و «تفسير القرطبي» (2/ 376)، و «شرح العمدة» (2/ 372).
(2)
«المغني» (5/ 198).
(3)
وقال الكاساني: المُحْصَر محتاج إلى التحلل؛ لأنه مُنِع عن المضي في موجب لإحرام على وجه لا يمكنه الدفع، فلو لم يَجُز له التحلل لبقي مُحْرِمًا لا يحل له ما حظره الإحرام، إلى أن يزول المانع، فيمضي في موجب الإحرام، وفيه من الضرر والحرج ما لا يخفى. فمست الحاجة إلى التحلل والخروج من الإحرام؛ دفعًا للضرر والحرج، وسواء كان الإحصار عن الحج أو عن العمرة، أو عنهما، عند عامة العلماء. «بدائع الصنائع» (2/ 177).
المبحث الخامس: كيفية تحلل المحصر: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: نية التحلل:
فَالتَّحَلُّلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنِيَّةِ الْإِحْلَالِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْإِحْرَامِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .
المطلب الثاني: ذَبْح هَدْي الإحصار:
وفيه خمسة فروع:
الأول: اختَلف العلماء على قولين فيمن حَصَرَه عدو عن النسك: هل يَلزمه دم؟
القول الأول: يجب الدم على المُحْصَر مطلقًا، سواء أكان الإحصار بعدو أو بمرض. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة:
أما القرآن، فعموم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَجَعَلَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ قَائِمًا مَقَامَ الْإِتْمَامِ
(2)
.
وأما السُّنة: فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالحُدَيْبِيَةِ
…
»
(3)
.
وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ حُصِرُوا أَنْ يَنْحَرُوا وَيَحْلِقُوا وَيَحِلُّوا
(4)
.
قال البغوي: اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا أُحْصِرَ عَنِ الْحَجِّ بِعَدُوٍّ، أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَهُوَ دَمُ شَاةٍ، يَذْبَحُهُ حَيْثُ أُحْصِرَ، ثُمَّ يَحْلِقَ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَا يَجْعَلُ التَّحَلُّلَ لِمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ حَتَّى يَذْبَحَهُ
(5)
.
(1)
«البناية» (4/ 437)، و «المهذب» (1/ 426)، و «كشاف القناع» (2/ 610).
(2)
«شرح العمدة» (2/ 368).
(3)
رواه البخاري (2701). وروى البخاري أيضًا (1809): عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا» .
(4)
روى البخاري (2731) في حديث طويل، وفيه: فقال صلى الله عليه وسلم لأَصحابه: «قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا» .
(5)
«شرح السُّنة» (7/ 285).
القول الآخَر: لا يجب على المُحْصَر بعدوٍّ دم. وهو مذهب المالكية
(1)
.
واستدلوا بأن المُحْصَر تَحَلَّل من عبادة لم يَدخل عليه منها تفريط، فكيف يجب عليه هَدْي؟! وأن المُحْصَر قد شُرِع له التحلل والخروج من الحج تخفيفًا عنه، فناسب ذلك عدم إيجاب الدم عليه.
ونوقش بما قاله ابن قُدامة: وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: لَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ؛ لِأَنَّهُ تَحَلُّلٌ أُبِيحَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، أَشْبَهَ مَنْ أَتَمَّ حَجَّهُ.
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَصْرِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ إتْمَامِ نُسُكِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ، كَاَلَّذِي فَاتَهُ الْحَجُّ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَنْ أَتَمَّ حَجَّهُ
(2)
.
الفرع الثاني: مكان إجزاء ذبح هَدْي الإحصار:
اختَلف أهل العلم في مكان إجزاء ذبح دم الإحصار على قولين:
القول الأول: يجزئ ذبح الهَدْي عن الإحصار بالموضع الذي حُصِرَ فيه، سواء كان في الحِل أو في الحَرَم. وهو مذهب المالكية والشافعية، ورواية عند الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالحُدَيْبِيَةِ
…
»
(4)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم نَحَر هديه بالحُديبية حيث أُحْصِرَ، وهي خارج الحرم.
وأما المعقول، فإِنَّ المُحْصَر مُنع من الوصول إلى البيت، فيتعذر الذبح عنده، ولا يحل
(1)
«المُدوَّنة» (1/ 397). وقال الخَرَشِيّ: الْمُحْصَرُ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. «شرح خليل» (8/ 303).
(2)
«المغني» (5/ 195).
(3)
«مواهب الجليل» (4/ 294)، و «المجموع» (8/ 298، 299)، و «المغني» (5/ 197).
قال البغوي: والهدايا كلها يَختص ذبحها بالحرم، إلا هَدْي المُحْصَر؛ فإن محل ذبحه حيث يُحْصَر، عند أكثر أهل العلم. «شرح السُّنة» (7/ 285).
(4)
رواه البخاري (2701). وروى البخاري أيضًا (1809): عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا» .
إلا بعد النحر، فيَشق عليه أن يَمكث بملابس الإحرام
(1)
.
القول الآخَر: لا يجزئ ذبح الهَدْي عن الإحصار إلا بالحَرَم. وهو مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] فهذان الدليلان وغيرهما يدلان على أنه لا يجزئ ذبح الهدي إلا بالحرم.
ونوقش هذان الاستدلالان من وجهين:
الأول: أن هذا في حق غير المُحْصَر؛ لأن المُحْصَر يُمْنَع من الوصول إلى البيت، فيتعذر الذبح عنده. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نَحَر هديه بالحُديبية حيث أُحْصِرَ، وهي خارج الحرم.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم شَرَع لمن أراد الحج واشتكى أن يقول: «اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» فتَعَيَّن أن يكون المَحِل حيث حُبِسَ.
الفرع الثالث: متى يَذبح المُحْصَر هَدْي الإحصار:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يَجوز ذبح هَدْي الإحصار قبل يوم النحر. وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعية، والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والقياس:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: أن الله لم يَخص في الآية وقتًا دون وقت لنَحْر الهَدْي.
وأما السُّنة، فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»
(4)
.
(1)
قال ابن قُدامة: لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَعَذُّرِ الْحِلِّ؛ لِتَعَذُّرِ وُصُولِ الْهَدْيِ إِلَى مَحِلِّهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ نَحَرُوا هَدَايَاهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ مِنَ الْحِلِّ. «المغني» (5/ 197).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 178)، و «شرح الزركشي» (3/ 373).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 180)، و «المجموع» (8/ 304)، و «المغني» (3/ 328).
(4)
رواه البخاري (2731).
وأما القياس، فاستدلوا بأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنَ الْمُحْصَرِ تَحَلُّلٌ قَبْلَ أَوَانِ التَّحَلُّلِ، يُبَاحُ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ بِبَقَائِهِ مُحْرِمًا؛ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا، فَلَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، كَالطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتُ الْحَجِّ؛ إِذِ الْمُحْصَرُ فَائِتُ الْحَجِّ
(1)
.
القول الآخَر: أنه لا يَجوز ذبح هَدْي الإحصار إلا يوم النحر. وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية، وهو رواية عند الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بِأَنَّ لِلْهَدْيِ مَحِلَّ زَمَانٍ وَمَحِلَّ مَكَانٍ، فَإِنْ عَجَزَ مَحِلُّ الْمَكَانِ فَسَقَطَ، بَقِيَ مَحِلُّ الزَّمَانِ وَاجِبًا لِإِمْكَانِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ نَحْرُ الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لَمْ يَجُزِ التَّحَلُّلُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]
(3)
.
والراجح: أنه يَجوز ذبح هَدْي الإحصار قبل يوم النحر؛ لظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وهذا يقتضي جواز نحره عَقيب الإحصار، ولم يَخص الله وقتًا دون وقت لنحر الهَدْي للمُحْصَر. وكذا لفِعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الحُديبية، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأَصحابه:«قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا» .
الفرع الرابع: العجز عن دم الإحصار:
اختَلف العلماء فيما إذا عجز المُحْصَر عن الهَدْي على أقوال، منها:
القول الأول: مَنْ لم يجد الهَدْي يَلزمه أن يصوم عَشَرة أيام ثم يحل. وهو قول عند الشافعية، ومذهب الحنابلة
(4)
. واستدلوا بالقياس على دم التمتع.
القول الآخَر: أن مَنْ لم يجد الهَدْي ليس عليه بدل، وله أن يتحلل. وهو مذهب الحنفية، وقول عند الشافعية
(5)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 181).
(2)
«المبسوط» (4/ 109)، و «الإنصاف» (3/ 520).
(3)
«المغني» (5/ 198).
(4)
«المجموع» (8/ 299)، و «كشاف القناع» (2/ 455)، وهو قول أشهب «الذخيرة» (3/ 189).
(5)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 591)، و «المجموع» (7/ 516).
وَجْه الدلالة: أن الله عز وجل لم يَذكر بديلًا للهَدْي؛ وأنه لما سكت الله عز وجل عن الصيام في الإحصار، وأوجبه في التمتع لمن عدم الهَدْي، دل على أن مَنْ لم يجد الهَدْي من المُحْصَرين ليس عليه شيء، فيَحل بدون شيء.
الدليل الثاني: أن الظاهر من حال كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم فقراء، ولم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرهم بالصيام، والأصل براءة الذمة
(1)
.
الفرع الخامس: الأكل من هَدْي الإحصار:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يَجوز للمُهْدِي أن يأكل من هَدْي الإحصار. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بأن دم الإحصار دم جُبران، فلا يؤكل منه، بخلاف دم النسك، كدم التمتع.
القول الآخَر: أنه يَجوز للمُهْدِي أن يأكل من هَدْي الإحصار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَكَل من هدي القِران. وبه قال المالكية، وهو رواية عند الحنابلة
(3)
.
واعتُرض عليه بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن دم الإحصار دم جُبران، فيؤكل منه، بخلاف دم القِران فإنه يؤكل منه لأنه دم نسك.
المطلب الثالث: الحَلْق أو التقصير:
الحلق أو التقصير واجب لتحلل المُحْصَر من الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حَلَق، وأَمَر أصحابه أن يَحلقوا بالحُديبية. وهو مذهب بعض الحنفية والمالكية، والأظهر عند الشافعية، وقول عند الحنابلة
(4)
.
(1)
«الأم» (3/ 298)، و «الشرح الممتع» (7/ 184).
(2)
«البحر الرائق» (3/ 76)، و «الأم» (3/ 567).
وقال ابن قُدامة: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، دُونَ مَا سِوَاهُمَا. «المغني» (5/ 444).
(3)
«المُدوَّنة» (1/ 410)، و «المغني» (5/ 445).
(4)
«شرح المعاني» (2/ 252)، و «الاستذكار» (4/ 313)، و «المجموع» (8/ 286)، و «كشاف القناع» (2/ 526).
المبحث السادس: اشتراط التحلل من الإحصار: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: ما يَلزم المُحْصَر إذا اشتَرط:
مَنْ اشتَرط قبل حجه وعمرته، فإِنْ أُحْصِرَ تَحَلَّلَ ولم يَلزمه شيء مطلقًا. وهو مذهب الشافعية في المشهور، والحنابلة
(1)
.
فعن عائشة قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضُبَاعَة بنت الزبير، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج، وأنا شاكية! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«حُجي، واشترطي أن محلي حيث حبستَني» .
وَجْه الدلالة: أنه لما أَمَرها بالاشتراط أفاد شيئين:
أحدهما: أنه إذا عاقها عائق من عدو أو مرض أو ذَهاب نفقة، فإن لها التحلل.
والثاني: أنه متى حلت بذلك، فلا دم عليها ولا صوم.
المطلب الثاني: حُكْم المُحْصَر إذا وقع في بعض محظورات الإحرام قبل التحلل:
إذا لم يتحلل المُحْصَر، ووقع في بعض المحظورات، فإنه يجب عليه من الجزاء ما يجب على المُحْرِم غير المُحْصَر. وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
المطلب الثالث: القضاء على مَنْ أُحْصِرَ:
مَنْ تَحَلَّل بالإحصار فليس عليه القضاء. وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فالله تعالى ذَكَر الهَدْي والحَلْق، ولم يَذكر شيئًا سوى ذلك؛ فدل على أنه لا قضاء على المُحْصَر، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الذين أَحْصِرُوا في غزوة الحُديبية بأن يَقضوا تلك العمرة التي أُحْصِرُوا عنها
(4)
.
(1)
«المجموع» (8/ 306)، و «الإنصاف» (4/ 52).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 178)، و «مواهب الجليل» (4/ 304)، و «الحاوي» (4/ 356)، و «كشاف القناع» (2/ 527).
(3)
«التمهيد» (15/ 195)، و «المجموع» (8/ 306)، و «الإنصاف» (4/ 52).
(4)
«مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين» (23/ 434).
الباب الثاني عشر
المبيت بمزدلفة: وفيه فصلان:
الفصل الأول
المبيت بمزدلفة، تعريفه وحكمه، ومقدار الوقوف بها.
وفيه عَشَرة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بالمزدلفة.
المبحث الثاني: حد المزدلفة.
المبحث الثالث: حُكْم المبيت بمزدلفة.
المبحث الرابع: مقدار المبيت الواجب في مزدلفة.
المبحث الخامس: القَدْر المجزئ من نسك مزدلفة.
المبحث السادس: وقت وجوب الوقوف بمزدلفة.
المبحث السابع: حُكْم دفع غير الضَّعَفة قبل الفجر من مزدلفة.
المبحث الثامن: مَنْ تَرَك المبيت بمزدلفة خَشية فوات الرفقة.
المبحث التاسع: حُكْم المرور بالمزدلفة فقط دون توقف.
المبحث العاشر: حُكْم مَنْ فاته الوقوف الواجب في مزدلفة.
المبحث الأول: التعريف بالمزدلفة
(مزدلفة) مأخوذة من الازدلاف، القُرب، وفي التنزيل:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] أي: قُرِّبَتْ
(1)
.
قيل: سُمِّيَتْ بذلك لأن الحُجاج يَزدلفون إلى الله، أي: يتقربون إليه بالوقوف بها.
وقيل: لاقتراب الناس إلى مِنًى بعد الإفاضة مِنْ عرفات
(2)
.
وللمُزدلِفة اسمان آخران: (المَشْعَر الحرام) ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] و (جَمْع)، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»
(3)
.
المبحث الثاني: حد المزدلفة:
حد المزدلفة: ما بين المأزمين ووادي مُحسِّر، وليس الحدان منها.
ومأزما عرفة هما المضيق الذي بين الجبلين عند نهاية عرفة جهة المزدلفة، إلى قرن مُحسِّر، الذي يَفصل بين مِنًى وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب
(4)
.
فالمراد بالمبيت بمُزدلِفة: هو وجود الحاج في أرض مزدلفة ليلة يوم النحر. وهي الآن محددة بأعلام واضحة من جميع الجهات، وذلك مبني على لجان حكومية من العلماء.
ويَحصل المبيت بالمزدلفة بالحضور في أي بقعة منها، فعن جابر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» .
(1)
«لسان العرب» لابن منظور (مادة: زل ف).
(2)
قال ابن حجر: وَسُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةَ إِمَّا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا، أَوْ لِاقْتِرَابِهِمْ إِلَى مِنًى، أَوْ لِازْدِلَافِ النَّاسِ مِنْهَا جَمِيعًا، أَوْ لِلنُّزُولِ بِهَا فِي كُلِّ زُلْفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ لِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ وَقُرْبَةٌ إِلَى اللهِ. «فتح الباري» (3/ 523).
(3)
قال ابن حجر: وَسُمِّيَتْ جَمْعًا لِأَنَّ آدَمَ اجْتَمَعَ فِيهَا مَعَ حَوَّاءَ، وَازْدَلَفَ إِلَيْهَا، أَيْ: دَنَا مِنْهَا. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ جَمْعًا لِأَنَّهَا يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَقِيلَ: وُصِفَتْ بِفِعْلِ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِهَا وَيَزْدَلِفُونَ إِلَى اللهِ، أَيْ: يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِالْوُقُوفِ فِيهَا. «فتح الباري» (3/ 523).
(4)
«أخبار مكة» للأزرقي (2/ 192)، و «المغني» (5/ 283)، و «الأم» (2/ 212).
وقد أفتت اللجنة الدائمة (11/ 213) بما يلي: تَبدأ مزدلفة غربًا من وادي مُحسِّر، وتنتهي شرقًا بأول المَأزِمين من جهتها، وقَدْر ما بينهما سبعة آلاف ذراع.
قال ابن رُشْد: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ بَاتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مَعَ الْإِمَامِ، وَوَقَفَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى الْإِسْفَارِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ - أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، وَأَنَّ ذَلِكَ الصِّفَةُ الَّتِي فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
المبحث الثالث: حُكْم الوقوف بالمزدلفة:
اختَلف أهل العلم في حُكم الوقوف بمزدلفة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الوقوف بالمزدلفة واجب من واجبات الحج، مَنْ تَرَكه بدون عذر فعليه دم. وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية في المشهور عنهم، والحنابلة
(2)
.
ففي حديث جابر: «وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ» وحُمِل هذا الفعل على الوجوب، وقرينة ذلك أنه صلى الله عليه وسلم رَخَّص وأَذِن للضَّعَفة بالدفع من مزدلفة قبل الفجر، والرخصة لا تأتي إلا بعد الوجوب.
القول الثاني: أن الوقوف بمزدلفة ركن، يَبطل الحج بتركه، كالوقوف بعرفة، لا يَتم الحج إلا به. ورُوي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير. وهو قول الليث وعلقمة والشَّعْبي والحسن والأوزاعي، وابن المَاجِشون من المالكية، وقول للشافعية وابن حزم
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما دليلهم من الكتاب، فعموم قوله تعالى:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
وَجْه الدلالة: قد دلت الآية على أن الوقوف بمزدلفة ركن من وجهين:
الوجه الأول: الأمر بالذِّكر عند المَشْعَر الحرام يدل على أنه ركن.
(1)
«بداية المجتهد» (2/ 114).
(2)
«الدر المختار» (2/ 511)، و «المُدوَّنة» (2/ 417)، و «الحاوي» (4/ 177)، و «المغني» (3/ 450).
والوقوف بمزدلفة: الحضور بها ولو لحظة، كالوقوف بعرفة. والمبيت: المكث بها معظم ليلة النحر.
(3)
«الحاوي» (4/ 177)، و «زاد المعاد» (2/ 253)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 45)، و «المُحَلَّى» (7/ 130).
ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الأول: أن العلماء مُجْمِعون على أن مَنْ بات بالمزدلفة إلى قُبيل الفجر، ولم يَشهد صلاة الفجر فيها ولم يَذكر الله- صح حجه، فالمأمور به في الآية إنما هو الذِّكر، وليس بواجب بالإجماع، فشهود المَوطِن أَوْلَى بأن لا يكون واجبًا
(1)
.
الثاني: أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم بات بمزدلفة وصلى الفجر، فإنه قد رَخَّص للنساء والضَّعَفة في مغادرة مزدلفة بعد منتصف الليل. ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنًا لَمَا أَذِن للضَّعَفة؛ لأن الركن القويُّ والضعيف فيه سواء، كالوقوف بعرفة وكطواف الإفاضة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ»
(2)
.
الثالث: أن كل ما جاز تركه لعذر لم يكن ركنًا، قياسًا على الوقوف بعرفة، وكذا طواف الإفاضة لا يَسقط بحال لأنه ركن، بخلاف طواف الوداع فإنه يَسقط بعذر الحيض؛ لأنه ليس بركن، وكذا الوقوف بالمزدلفة، قد يَسقط بالعذر، فلم يكن ركنًا
(3)
.
الوجه الثاني: أن الله سَوَّى بين الأمر بالوقوف بعرفة والأمر بذكر الله بمزدلفة في القرآن، فهذا يدل على ركنية الوقوف بمزدلفة، فقال:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]. والرسول صلى الله عليه وسلم سَوَّى بين عرفة والمزدلفة، فقال:«قَدْ وَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» ووَقَف بالمُزدلِفة فقال: «قَدْ وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» .
ونوقش بأن دلالة الاقتران ضعيفة، قال تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] والأكل للإباحة {وَآتُوا حَقَّهُ} للوجوب.
وأما دليلهم من السُّنة، فاستدلوا بحديث عن عُروة بن مُضَرِّس قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا مَعَ الإِمَامِ وَالنَّاسِ حَتَّى يُفِيضَ مِنْهَا، فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجَّ. وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ
(1)
«المغني» (5/ 284)، و «التمهيد» (9/ 276)، و «فتح الباري» (3/ 529).
(2)
أخرجه البخاري (1678)، ومسلم (1293).
(3)
«المبسوط» (4/ 63)، و «الإشراف» (1/ 483).
النَّاسِ وَالإِمَامِ، فَلَمْ يُدْرِكْ حَجَّهُ»
(1)
.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَّق إدراك الحج بإدراك مزدلفة والوقوف فيها، ومعنى ذلك أن مَنْ لم يُدرِك الوقوف بمزدلفة، فلا حج له.
ونوقش بأن الحديث ضعيف، واللفظ الصحيح هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»
(2)
.
وهذا دليل على عدم الركنية، فالنبي صلى الله عليه وسلم مد وقت الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر مِنْ ليلة جَمْع، ومعلوم أن هذا الواقف بعرفة في آخِر جزء من ليلة النحر، فهو لا يستطيع أن يصل إلى مزدلفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد طلوع الشمس، وقد فاته المبيت بمُزدلِفة قَطْعًا بلا شك، ومع ذلك فقد صَرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بأن حجه تام. ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنًا لم يصح حجه، ولاختص بزمان مستقل لا يشاركه فيه غيره، كالوقوف بعرفة.
الدليل الثاني من السُّنة: رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ، فَلَا حَجَّ لَهُ»
(3)
.
(1)
مُعَل، والمتن منكر، مدار هذا الحديث على الشَّعْبي عن عروة بن مُضَرِّس. واختُلف على الشَّعْبي:
فرواه عنه مُطَرِّف بن طَريف بهذا اللفظ عند النَّسَائي (3063) و «الكبرى» (4238) من طريق جرير بن حازم، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4688) من طريق موسى بن أَعْيَن.
وخالف مُطَرِّفًا جماعة: فرواه إسماعيل بن أبي خالد، وداود بن أبي هند، وزكريا بن أبي زائدة، وعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ
…
وغيرهم كثير، كما عند النَّسَائي (3043)، والطحاوي في «شرح المعاني» (3942، 3943، 3944) وفي «المشكل» (4689، 4690، 4691).
فهؤلاء أصحاب الشَّعْبي الثقات لم يَذكروا هذا اللفظ، فهو منكر.
وقد قال الطحاوي: وهذا المعنى لمن فاته الوقوف بجَمْع، أنه لا حج له، فلم نَعْلَم أحدًا جاء به في هذا الحديث عن الشَّعْبي غير مُطَرِّف، فأما الجماعة من أصحاب الشَّعْبي، فلا يَذكرونه فيه، منهم عبد الله بن أبي السَّفَر وإسماعيل بن أبي خالد. «شرح مشكل الآثار» (12/ 109).
وقال ابن حجر: «وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ جُزْءًا فِي إِنْكَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ مُطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، وَأَنْ مُطَرِّفًا كَانَ يَهِمُ فِي الْمُتُونِ» . «فتح الباري» (3/ 529).
(2)
صحيح: أخرجه أحمد (18773)، وأبو داود (1940)، والترمذي (899)، والنَّسَائي (3039) واللفظ له، من طريق سُفيان وشُعبة، كلاهما عن بُكَيْر بن عطاء، عن عبد الرحمن بنِ يَعْمَر، به.
قال الترمذي: قال ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذَا أَجْوَدُ حَدِيثٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. قال وكيع: هذا الحديث أُم المناسك. وقال الذُّهْلي: ما أرى للثوري حديثًا أشرف منه.
(3)
قال ابن المُلقِّن: هَذَا الحَدِيثُ أَيْضًا غَرِيبٌ، لَا أَعْلَمُ مَنْ خَرَّجَهُ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ المُهَذَّبِ»: إِنَّه لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلَا مَعْرُوفٍ. قَالَ: وَيُجَابُ عَنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ أَنَّ المُرَادَ: لَا حجَّ كَامِلٌ. وَقَالَ مُحِبُّ الدَّينِ الطَّبَرِيُّ فِي «شَرْحِ التَّنْبِيهِ» : (لَا) أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ الرَّافِعِيُّ. «البدر المنير» (6/ 249)، و «التلخيص الحبير» (2/ 491).
ونوقش بأن هذا الحديث: ليس بثابت ولا معروف.
القول الثالث: أن الوقوف بمزدلفة سُنة من سُنن الحج. وهو قول عند الشافعية، ورواية عن أحمد، ورُوي عن عطاء والأوزاعي والثوري
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
أما دليلهم من السُّنة، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّمَا جَمْعٌ مَنْزِلٌ لِدَلْجِ المُسْلِمِينَ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم جَعَل أيّ مزدلفة منزلًا للراحة بين عرفة ومِنًى، فمَن شاء نزل به، ومَن لم يشأ لم يَنزل، وفِعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب.
وأما دليلهم من القياس، فقالوا: إن المبيت بمزدلفة سُنة، قياسًا على المبيت بمِنًى ليلة عرفة، ووَجْه التشابه بينهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمِنًى ليلة عرفة ليَسهل خروجه إليها، وكذا بات بمزدلفة لأنها منزل للراحة بين عرفة ومِنًى، وليس بنسك مقصود لذاته.
والراجح: أن الوقوف بمزدلفة واجب، مَنْ تَرَكه فعليه دم؛ لفِعْل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد بات بمزدلفة، وهذا الفعل يُحْمَل على الوجوب. ولا يكون ركنًا؛ لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» .
ولا شك أن الواقف بعرفة قُبيل الفجر لا يدرك المبيت بمزدلفة وقد صح حجه، ولو كان المبيت بمزدلفة ركنًا، لم يصح حجه، وهذه تُسمَّى دلالة الالتزام، أي: مَنْ أَدْرَك عرفة قبل الفجر، فسيفوته المبيت بمزدلفة قطعًا، ومع ذلك فقد دل النص على أن حجه تام.
ولماذا لا يكون المبيت بمزدلفة سُنة؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أَذِن ورَخَّص للضَّعَفة بالانصراف، وإذا كان رَخَّص لهؤلاء فعُلِم أن المبيت لغيرهم واجب.
وأما مَنْ لم يستطع دخول مزدلفة لتَعطُّل حركة السير أو ازدحامه حتى طلوع الشمس، فلا يجب عليه دم؛ لأنه بَذَل ما في وُسعه للحصول على المبيت، ولم يتمكن من ذلك،
(1)
«الإيضاح» (298)، و «فتح الباري» (3/ 619)، و «الفروع» (6/ 21).
(2)
يراجع سنده «شرح البخاري» لابن بَطَّال (4/ 363).
وبهذا أفتت اللجنة الدائمة
(1)
.
المبحث الرابع: مقدار المبيت الواجب في مزدلفة:
اختَلف أهل العلم في ذلك على خمسة أقوال:
القول الأول: أن المبيت الواجب هو معظم الليل، فيَجوز الدفع من مزدلفة إلى مِنًى بعد غياب القمر وقبل طلوع الفجر، وهذا قول للشافعية، ورواية عن أحمد
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فاستدلوا بأن أسماء روت الرخصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجَعَلَتْها مؤقتة بمغيب القمر، فعن عبد الله مَوْلَى أسماء قال: قَالَتْ لِي أَسْمَاءُ وَهِيَ عِنْدَ دَارِ الْمُزْدَلِفَةِ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا. فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: ارْحَلْ بِي
…
فَقُلْتُ لَهَا: لَقَدْ غَلَّسْنَا! قَالَتْ: كَلَّا، أَيْ بُنَيَّ، إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلظُّعُنِ
(3)
.
الدليل الثاني: ما رواه ابن عباس قال: بَعَثَ بِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَحَرٍ مِنْ جَمْعٍ
(4)
.
وَجْه الدلالة: أن السَّحَر لا يكون إلا في آخِر الليل، فيكون بعد غياب القمر، فهذا يؤيد أن الدفع لا يكون إلا بعد غياب القمر.
أما دليلهم من المعقول، فإن مَنْ بات حتى مغيب القمر فقد بات معظم الليل، فله حُكْم مَنْ بات الليل كاملًا، بخلاف مَنْ بات نصف الليل.
القول الثاني: أن المبيت الواجب بمزدلفة إلى نصف الليل، فمَن دَفَع قبل نصف الليل فعليه دم. وهو القول هو المشهور عن الشافعية والحنابلة
(5)
.
(1)
«فتاوى اللجنة الدائمة» (11/ 216).
(2)
«حاشية القليوبي» (2/ 116).
قال ابن تيمية: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى يَغِيبَ الْقَمَرُ. «شرح العمدة» (2/ 616).
(3)
رواه مسلم (1291).
(4)
«صحيح مسلم» (1294).
(5)
«الأم» (2/ 212)، و «المجموع» (8/ 135)، و «المغني» (5/ 284).
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أَذِن بدفع الضَّعَفة بليل، وهذا يَصْدُق على مَنْ بات نصف الليل فأكثر، فكان القَدْر الواجب هو نصف الليل، فجاز الدفع بعد نصف الليل.
واعتُرض على هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن إِذْن النبي صلى الله عليه وسلم بدفع الضَّعَفة بالليل لا يَعني إذنه لهم بالانصراف نصف الليل؛ لأن أسماء بَيَّنَتْ أن الانصراف إنما يكون بعد غيبوبة القمر، ولا تكون هذه الغيبوبة إلا بعد ذَهاب أكثر الليل، وليس نصفه، وتفسير أسماء للنص لا بد من العمل به.
الثاني: أن أحاديث الدفع بليل مُطْلَقة، وهي مُقيَّدة بمغيب القمر كما في حديث أسماء، فيُحْمَل المُطْلَق على المُقيَّد.
واستدلوا أيضًا بما ورد عن أُم سَلَمة قالت: «قَدَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ قَدَّمَ مِنْ ضَعَفَةِ أَهْلِهِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ» قَالَتْ: فَرَمَيْتُ الْجَمْرَةَ بِلَيْلٍ، ثُمَّ مَضَيْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّيْتُ بِهَا الصُّبْحَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مِنًى.
وَجْه الدلالة: أن مَنْ يَذهب من مزدلفة إلى مِنًى، ثم يَرمي الجمرة، ثم يَذهب إلى مكة، ثم يطوف ويصلي بها الفجر- لا يمكنه ذلك، إلا إن كان قد دَفَع من مزدلفة نصف الليل.
القول الثالث: أن الواجب في المزدلفة هو الوقوف ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، فمَن وَقَف خلال هذا الوقت ولو لحظة واحدة، فقد قام بالواجب. ومَن لم يقف في هذا الوقت، فقد فاته الوقوف الواجب بمزدلفة وعليه دم. وهو مذهب الحنفية
(1)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة والمعقول:
أما القرآن، فعموم قوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
وَجْه الدلالة: الأمر إنما جاء بذكر الله والوقوف عند المَشْعَر الحرام للدعاء، والوقوف يكون بعد طلوع الفجر من يوم النحر إلى قُبيل طلوع الشمس، فمَن وَقَفَ خلال هذا الوقت ولو لحظة واحدة، فقد قام بالواجب.
ونوقش هذا الاستدلال بأن الأمر بالذِّكر جاء على سبيل الاستحباب دون الوجوب.
(1)
«المبسوط» (4/ 63)، و «بدائع الصنائع» (2/ 135)، و «فتح القدير» (2/ 484).
دل على ذلك أن العلماء مُجْمِعون على أن مَنْ بات بالمزدلفة إلى قُبيل الفجر، ولم يَشهد صلاة الفجر فيها ولم يَذكر الله- صح حجه. وإِذْن النبي صلى الله عليه وسلم للنساء والضَّعَفة في مغادرة مزدلفة بعد ذَهاب معظم الليل قبل الفجر، ولو كان واجبًا عليهم الوقوف ما بين طلوع الفجر من يوم النحر إلى قُبيل طلوع الشمس، لَمَا رَخَّصَ لهم في الانصراف بالليل.
وأما السُّنة، فَعَنْ عُرْوَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ بِجَمْعٍ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نُفِيضَ مِنْهُ، وَقَدْ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» .
فدل قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ
…
» أي: صلاة الفجر، ووقف بمزدلفة من طلوع الفجر إلى قُبيل شروق الشمس، وكان قد وقف بعرفة فقد تم حجه؛ فعَلَّق تمام الحج على هذا الوقوف بعد الفجر، فلا أقل من أن يكون هذا الوقت واجبًا.
ونوقش بأن هذا الحديث يُبَيِّنْ آخِر وقت المبيت بمزدلفة، فمَن وقف بعرفة قبل الفجر وصلى الفجر بمزدلفة، فقد أدرك الوقوف بعرفة ومزدلفة.
وأما المعقول، فإن ليل مزدلفة وقت للوقوف بعرفة، وينتهي بطلوع الفجر، فوجب أن يكون وقت وجوب الوقوف بمزدلفة من طلوع الفجر يوم النحر حتى طلوع الشمس.
ونوقش بأن الأصل في الوقوف بعرفة من زوال الشمس إلى غروب الشمس، وأن ليلة يوم النحر هي وقت للوقوف بمزدلفة، وهي وقت للوقوف بعرفة لعذر، فمَن لم يُدرِك الوقوف بعرفة نهارًا، وقف ليلًا لأنه ركن لا يَتم الحج إلا به.
القول الرابع: أن الواجب في المبيت بمزدلفة هو النزول بمزدلفة في أي جزء من أجزاء الليل، فقضاء أي جزء من الليل كافٍ في المبيت بمزدلفة، بقَدْر حط الرحال في ليلة النحر وصلاة العشاءين، فإن لم يَنزل فعليه دم. وهو مذهب المالكية
(1)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة:
أما القرآن، فعموم قوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
وَجْه الدلالة: مَنْ نزل بمزدلفة في أي جزء من أجزاء الليل، فصلى المغرب والعشاء،
(1)
«الذخيرة» (3/ 263)، و «مواهب الجليل» (4/ 196).
يَصْدُق عليه أنه ذَكَر الله ووقف بمزدلفة عند المَشْعَر الحرام.
وأما السُّنة، فاستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ» أي: صلاة الفجر «وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ» فمَن وقف بها بمثل هذا المقدار، فقد أَدَّى الواجب.
القول الخامس: أن المبيت بمزدلفة سُنة، فمَن فَعَله فقد أَحْسَن، ومَن تَرَكه فلا حرج عليه. وهو قول للشافعية، وقول عطاء والأوزاعي
(1)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا جَمْعٌ مَنْزِلٌ لِدَلْجِ المُسْلِمِينَ» أي أن مزدلفة منزل راحة بين عرفات ومِنًى، فمَن شاء نزل بها. وفِعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب.
والراجح: أن المبيت الواجب هو مُعْظَم الليل، فيَجوز الدفع من مزدلفة إلى مِنًى بعد غياب القمر وقبل طلوع الفجر؛ لِما رُوي عن ابن عباس قال: بَعَثَ بِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَحَرٍ مِنْ جَمْع. والسَّحَر لا يكون إلا بعد غياب القمر، ويَجوز لمن كان بصحبة ضَعَفةٍ الانصرافُ معهم بعد غياب القمر للقيام على مصالحهم، والإذن للضَّعَفة إِذْن لهم
(2)
.
المبحث الخامس: القَدْر المجزئ من نسك مزدلفة:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب جماهير العلماء إلى أن القَدْر المجزئ في مزدلفة لحظة، فمَن وَقَفَ ولو لحظة واحدة فقد قام بالواجب.
ويُعبِّر عنه الحنفية بالوقوف لحظة. ويُعبِّر عنه المالكية بحط الرحال. ويُعبِّر عنه الشافعية بالساعة. وقيل: المراد بالساعة مطلق الزمن، فلا ينافي تعبير غيره باللحظة.
واستدلوا بقياس مزدلفة على عرفة، فإذا كان القَدْر المجزئ في الوقوف بعرفة يُقَدَّر بلحظة، وهو ركن الحج الأعظم، فنسك المزدلفة أَوْلَى.
وإنما محل اختلافهم في وقت إيقاع هذه اللحظة.
(1)
«المجموع» (8/ 124)، و «نَيْل الأوطار» (5/ 141).
(2)
قال ابن تيمية: وَلَمْ يَجِئْ تَوْقِيتٌ إِلَّا حَدِيثِ أَسْمَاءَ، قَدْ رَوَتِ الرُّخْصَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلَتْهَا مُؤَقَّتَةً بِمَغِيبِ الْقَمَرِ، وَلَيْسَ فِي الْبَابِ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا. «شرح العمدة» (2/ 618). وقال ابن القيم: وَلَيْسَ مَعَ مَنْ حَدَّهُ بِالنِّصْفِ دَلِيلٌ. «زاد المعاد» (2/ 233).
فذهب الحنفية إلى أن الواجب في المزدلفة هو الوقوف ما بين طلوع الفجر من يوم النحر وطلوع الشمس، فمَن وَقَفَ خلال هذا الوقت ولو لحظة واحدة، فقد قام بالواجب.
وذهب المالكية إلى أن الواجب من المبيت بمزدلفة هو النزول بمزدلفة في أي جزء من أجزاء الليل، فقضاء أي جزء من الليل كافٍ في المبيت بمزدلفة بقَدْر حط الرحال في ليلة النحر وصلاة العشاءين، فإن لم يَنزل فعليه دم.
القول الآخَر: أن المبيت الواجب هو معظم الليل، فيَجوز الدفع من مزدلفة إلى مِنًى بعد غياب القمر. وهذا قول للشافعية، ورواية عن أحمد. وهذا هو الراجح لحديث أسماء.
المبحث السادس: وقت وجوب الوقوف مزدلفة:
اختَلف أهل العلم في ذلك على أربعة أقوال:
الأول: أنه يَبدأ وقت أداء النسك الواجب من أول الليل، وينتهي بطلوع فجر يوم النحر، فبعد الفجر ليس وقتًا للواجب. وهو قول المالكية
(1)
.
الثاني: أنه يَبدأ وقت وجوب أداء النسك الواجب من منتصف الليل، وينتهي بطلوع فجر يوم النحر. وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(2)
.
الثالث: أنه يَبدأ وجوب أداء النسك الواجب من منتصف الليل، وينتهي بطلوع شمس يوم النحر. وهو قول بعض المالكية وبعض الشافعية وابن تيمية
(3)
.
الرابع: أنه يَبدأ وقت وجوب أداء النسك الواجب من طلوع الفجر، وينتهي بطلوع شمس يوم النحر. وهو مذهب الحنفية
(4)
.
والراجح: أن ابتداء الوجوب من أول الليل؛ فظاهر سُنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن بداية
(1)
«المُدوَّنة» (2/ 417)، و «مواهب الجليل» (3/ 119)، و «مِنَح الجليل» (1/ 489).
(2)
قال الشافعي: وَمُزْدَلِفَةُ مَنْزِلٌ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ رَجُلٌ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، افْتَدَى. «الأم» (3/ 549)، و «الشرح الكبيرعلى المقنع» (3/ 442).
(3)
«المسلك المتقسط» (ص: 310)، و «مواهب الجليل» (3/ 119)، و «شرح العمدة» (2/ 611).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 136)، و «فتح القدير» (2/ 484).
نسك مزدلفة من حين وصول الحاج قادمًا لها من عرفة
(1)
.
المبحث السابع: حُكْم دفع غير الضَّعَفة قبل الفجر من مزدلفة:
أَجْمَع العلماء على جواز دفع الضعفة قبل الفجر من مزدلفة
(2)
.
واختلفوا في حُكْم دفع غير الضعفة قبل الفجر من مزدلفة على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى جواز دفع غير الضعفة قبل الفجر من مزدلفة، بعد الإتيان بالقَدْر المجزئ؛ لأنه لَمَّا رُخِّصَ فِيهِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، عُلِمَ أَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ
(3)
.
القول الآخَر: عدم جواز دفع غير الضَّعَفة قبل الفجر من مزدلفة. وهو مذهب الحنفية، وأوجبوا عليه دمًا؛ لأن الوقوف الواجب عندهم بعد طلوع الفجر، والرخصة إنما جاءت في حق الضعفة. واختاره بعض الحنابلة ولم يَذكروا دمًا
(4)
.
قال النووي: اسْتَدَلُّوا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي دَفْعِ النِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ. (فَإِنْ قِيلَ:) إنَّمَا أُرْخِصَ فِي الدَّفْعِ قَبْلَ الْفَجْرِ لِلضَّعَفَةِ. (قُلْنَا): لَوْ كَانَ حَرَامًا، لَمَا اخْتَلَفَ بِالضَّعَفَةِ وَغَيْرِهِمْ.
والراجح: ما ذهب جمهور العلماء، أي: جواز دفع الأقوياء غير المعذورين قبل الفجر من مزدلفة إلى مِنًى، إن كانوا قد أتوا بالقَدْر المجزئ من نسك مزدلفة.
ومجيء الأحاديث الصحيحة في الإذن للضَّعَفَة بالدَّفْع بليل- يُفْهَم منها إتيانهم بالقدر الواجب، وأن ما بعده من كمال النسك؛ إذ لو كان هذا القَدْر غير مفيد في الإتيان بالواجب، لم يكن هناك معنى لتأخير الإذن للضَّعَفة حتى مغيب القمر، ولأَذِن لهم بمجرد وصولهم مزدلفة، ولكن الأَوْلَى والأكمل هو اتباع سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: المبيت بمزدلفة وصلاة الفجر بها والدعاء، ثم الدفع قبل طلوع الشمس، والله أعلم.
(1)
قال ابن تيمية: الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْسَ بِمَحْدُودِ الْمُبْتَدَأِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَجِيئُونَ إِلَيْهَا عَلَى قَدْرِ سَيْرِهِمْ. «شرح العمدة» (2/ 620).
(2)
قال ابن قُدامة: وَلَا بَأْسَ بِتَقْدِيمِ الضَّعَفَةِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّ فِيهِ رِفْقًا بِهِمْ، وَدَفْعًا لِمَشَقَّةِ الزِّحَامِ عَنْهُمْ، وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم. «المغني» (5/ 286).
(3)
«المجموع» (8/ 151)، و «شرح العمدة» (2/ 78).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 136)، و «زاد المعاد» (2/ 233).
المبحث الثامن: مَنْ تَرَك المبيت بمزدلفة خَشية فوات الرفقة:
لا بد أن يُفَرَّق في هذه المسألة بين حالين:
الأول: مَنْ انصرف مع الضَّعَفة من النساء والشيوخ الكبار والصبيان ونحوهم، ومَن يكون معهم للقيام بمصالحهم بعد أن باتوا معظم الليل، فلا بأس بذلك ولا شيء عليهم.
الثاني: أن يوجد في الحَمْلة الواحدة العدد الكبير من الأقوياء الذين لا يَحتاج إليهم الضَّعَفة، الأفضل لهم البقاء بعد طلوع الفجر، وأما إن لم يستطع باقي الأقوياء المكث في مزدلفة خَشية الضياع والإرهاق، فهنا يَجوز انصرافهم جميعًا؛ لأن في تفرقهم مشقة عليهم.
وينبغي للمسئولين عن الحَمَلات أن يخصصوا سيارة للضعفاء، فتنصرف بعد ذَهاب معظم الليل. وأن يُخصِّصوا سيارة للأقوياء، أو يكون معهم مرشد ويركبون القطار، ولا ينصرفون من مزدلفة إلا قُبيل طلوع الشمس تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
المبحث التاسع:
حُكْم المرور بالمزدلفة فقط دون توقف،
أو الرجوع إليها مرة أخرى:
لا يخلو الأمر من حالين:
الأول: أن يكون مَنْ مر فقط معذورًا بفعله؛ وذلك لعَدَم قدرته على التوقف لأنه مُنع منه، أو عَدَم قدرته على الرجوع بعد أن خرج منها، فالمعذور يكفيه المرور، ولا يجب عليه دم في ذلك، في قول عامة أهل العلم
(1)
.
الثاني: أن لا يكون معذورًا بمروره ذلك، بل مروره لمجرد التعجل فحَسْب للوصول إلى مِنًى؛ فهذا قد تَرَك واجبًا، وهو مبيت الليل أو معظمه، فيَلزمه دم، والله أعلم.
المبحث العاشر: فوات الوقوف بالمزدلفة: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الوقت الذي يَفوت به الوقوف بالمزدلفة.
قال ابن عبد البر: أَجْمَعُوا أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْوُقُوفِ
(1)
«فتاوى اللجنة الدائمة» (11/ 214).
بِجَمْعٍ، وَأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَدْ أَدْرَكَ
(1)
.
المطلب الثاني: حُكْم مَنْ فاته الوقوف الواجب في مزدلفة.
هذا لا يخلو من حالين:
الأول: مَنْ فاته الوقوف الواجب بالمزدلفة بلا عذر، صح حجه، وعليه دم
(2)
.
الثاني: تَرْك المبيت بالمزدلفة لعُذْر.
اختَلف أهل العلم فيمن تَرَك المبيت بالمزدلفة لعُذْر على قولين:
القول الأول: مَنْ تَرَك المبيت بالمزدلفة لعذر، صح حجه، ولا دم عليه. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية
(3)
.
واستدلوا بما ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اسْتَأْذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنه رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى؛ مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ
(4)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَذِن للرعاة والسقاة في ترك المبيت بمِنًى للعذر، ويقاس عليهم مَنْ له عذر، والعذر في المزدلفة كالعذر في مِنًى من مشقة المبيت لأهل الأعذار.
القول الآخَر: مَنْ تَرَك المبيت بالمزدلفة لعذر، فلا يجب عليه دم عند الحنابلة
(5)
.
والراجح: أنه لا يَظهر فرق بين السقاة وغيرهم إذا اشتركوا في العلة؛ فالشريعة لا تُفَرِّق بين متماثلات. فالرسول صلى الله عليه وسلم أَذِن للعباس في ترك واجب المبيت بمِنًى من أجل المصلحة العامة، وهي سقاية الناس. فكذا يَجوز للجند والأطباء ترك المبيت بمزدلفة من أجل المصلحة العامة، ولا يجب عليهم دم، والله أعلم.
(1)
«الاستذكار» (4/ 292). وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَقِفْ فِيهِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَاتَهُ الْوُقُوفُ. «فتح الباري» (3/ 532).
(2)
قال ابن عبد البر: وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَبِتْ بِجَمْعٍ لَيْلَةَ النَّحْرِ، عَلَيْهِ دَمٌ، وَأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ الدَّمَ عَنْهُ وُقُوفُهُ بِهَا وَلَا مُرُورُهُ عَلَيْهَا. «الاستذكار» (4/ 291).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 136)، و «مِنَح الجليل» (1/ 489)، و «نهاية المحتاج» (3/ 301).
(4)
رواه البخاري (1634)، ومسلم (1315).
(5)
«المغني» (5/ 394)، و «شرح المنتهى» (2/ 556).
الفصل الثاني
سُنن الوقوف بالمزدلفة
وفيه تمهيد و سِت سُنن
التمهيد: السُّنة في المبيت بمزدلفة.
السُّنة الأولى: أن يَجمع في مزدلفة بين صلاتَي المغرب والعشاء.
السُّنة الثانية: تقديم النساء والضَّعَفة من مزدلفة إلى مِنًى.
السُّنة الثالثة: صلاة الفجر بمزدلفة في أول وقتها.
السُّنة الرابعة: الدعاء بعد الفجر في مزدلفة.
السُّنة الخامسة: الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس.
السُّنة السادسة: الإسراع في وادي مُحَسِّر.
التمهيد: السُّنة في المبيت بمزدلفة
فالسُّنة المبيت بمزدلفة وصلاة الفجر بها، ثم الدعاء والتكبير والتهليل بها، ويَدفع إلى مِنًى لرمي الجمار قبل طلوع الشمس، فهذا الأَوْلَى والأكمل وهو الاتباع لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم.
السُّنة الأولى: أن يَجمع في مزدلفة بين صلاتَي المغرب والعشاء
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: هيئة الجَمْع، وصفة الأذان والإقامة للمغرب والعشاء بمزدلفة.
فالسُّنة أن يَجمع الحاج بمزدلفة بين المغرب والعشاء جَمْع تأخير، بالإجماع
(1)
.
ففي «الصحيحين» : عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ
(2)
.
المبحث الثاني: حُكْم جمع التقديم في المزدلفة.
اختَلف العلماء في حُكْم جمع التقديم في المزدلفة على قولين:
القول الأول: يَجوز جمع التقديم في المزدلفة لمن وصل قبل دخول وقت العشاء، ولكن الأَوْلَى والسُّنة جمع التأخير. وهذا قول أبي يوسف من الحنفية، وأَشْهَب من المالكية، ومذهب الشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بأن وقت المغرب يَبدأ بغروب الشمس، بالكتاب والسُّنة والإجماع، ومَن أَدَّى الصلاة في وقتها أجزأته، وتأخير المغرب بمزدلفة سُنة، وتَرْك السُّنة لا يُبْطِل الصلاة.
القول الآخَر: لا يَجوز جمع التقديم في المزدلفة، ولو فَعَل لأعاد المغرب والعشاء في وقت العشاء. وهذا مذهب الحنفية، وقول المالكية، وقول ابن حزم
(4)
.
(1)
ونَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 57)، وابن عبد البر في «التمهيد» (9/ 269)، و «الاستذكار» (4/ 330)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 45)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (1/ 170)، وابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (22/ 85) وغيرهم.
(2)
رواه البخاري (1674)، ومسلم (1287).
(3)
«المبسوط» (4/ 62)، و «التمهيد» (9/ 270)، و «الأم» (2/ 212)، و «المغني» (5/ 281).
(4)
«المبسوط» (4/ 62)، و «المُدوَّنة» (2/ 417)، و «مواهب الجليل» (3/ 125)، و «المُحَلَّى» (7/ 146).
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَع بين المغرب والعشاء بمزدلفة جَمْع تأخير.
فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةَ. فقال: «الصَّلَاةُ أَمَامَكَ» فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ
(1)
. وفي رواية: «المُصَلَّى أَمَامَكَ» فحَدَّد الزمان بعد العشاء، والمكان بمزدلفة.
ونوقش بأن فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم محمول على أنه الأَوْلَى والأفضل؛ لئلا يَنقطع سَيْره حتى يصل إلى المزدلفة، فيصلي هناك؛ لأن صلاة المغرب في عرفة أو الطريق، مع كثرة الناس وصعوبة الوضوء- فيها حرج، والله يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِجَمْعٍ»
(2)
. ونوقش بأنه ضعيف.
والراجح: أن جَمْع التقديم جائز، ولكن الأفضل جَمْع التأخير. وعلى هذا فمَن ركب القطار من عرفة، فوصل إلى مزدلفة قبل العشاء، فالسُّنة تأخير المغرب إلى العشاء، والجَمْع بينهما في المُزدلِفة.
المبحث الثالث: الجَمْع قبل الوصول للمزدلفة خَشية فوات وقت الصلاة.
السُّنة أن تُؤخَّر المغرب مع العشاء بمزدلفة، ولما قال أسامة للنبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة. قال: «الصَّلَاةُ أَمَامَكَ» فهذا دليل ظاهر على أن الحاج لا يشتغل بالصلاة قبل الإتيان إلى مزدلفة، إلا مع شدة الزحام أو لكثرة السيارات، فيَجوز للحاج الجَمْع بين المغرب والعشاء قبل الوصول إلى مزدلفة؛ خَشية فوات وقت الصلاة، والله أعلم.
المبحث الرابع: الجَمْع بين المغرب والعشاء بإقامتين.
واختلف العلماء في هيئة الجَمْع بين الصلاتين في الأذان والإقامة على ستة أقوال:
القول الأول: أن يَجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين.
(1)
أخرجه البخاري (139).
(2)
قال ابن حجر: أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. «فتح الباري» (3/ 520).
وبه قال زُفَر والطحاوي من الحنفية، وابن المَاجِشُون من المالكية، وهذا مذهب الشافعي في القديم، والحنابلة في المشهور عنهم، وابن حزم
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
أما السُّنة، فقد روى مسلم عن جابر في حديثه الطويل:«حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ»
(2)
.
ونوقش بأن هذا القَدْر منتقد على مسلم، والصحيح فيه الإرسال.
وأما دليلهم من القياس، فكما أنه يُجْمَع في عرفة بين الظُّهر والعصر بأذان وإقامتين، فكذا يُجْمَع في مزدلفة بين المغرب والعشاء
(3)
.
ونوقش بما قاله قال ابن قُدامة: وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَذِّنْ لِلْأُولَى هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، بِخِلَافِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِعَرَفَةَ
(4)
.
(1)
«الحاوي» (4/ 433)، و «كشاف القناع» (2/ 491)، و «شرح معاني الآثار» (2/ 214)، و «التمهيد» (9/ 266)، و «المُحَلَّى» (5/ 124).
(2)
ومدار هذا الحديث على جعفر بن محمد عن أبيه، واختُلف على جعفر على الوصل والإرسال:
فرواه حاتم بن إسماعيل عن جابر على الاتصال عند مسلم، وتابعه حفص بن غِيَاث عن جعفر على الاتصال عند أبي يعلى (2188)، وابن خُزيمة (4/ 252)، والبيهقي (1898).
وخالفهما سليمان بن بلال وعبد الوهاب الثقفي، فروياه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. أخرجه أحمد في «مسائله، رواية أبي داود» (782)، وأبو داود (1897).
وقد رَجَّح الإمام أحمد وأبو داود المرسل، قال أبو داود: قال لي أحمد: أخطأ حاتم في هذا الحديث الطويل. «سُنن أبي داود» (4/ 29)، فمراد أحمد أن حاتمًا أخطأ في وصل هذا القَدْر، وإنما هو مرسل.
وقال ابن المديني: روى عن جعفر عن أبيه أحاديث مراسيل أسندها. «تهذيب التهذيب» (2/ 129).
وظاهر صنيع مسلم وابن خُزيمة وابن حِبان ترجيح الوصل على الإرسال؛ إذ خَرَّجُوا الحديث الطويل في الصحيح منه هذا القَدْر.
وقد رَجَّح البيهقي المتصل، فقال:«وَحَاتِمُ حُجَّةٌ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ أَحْسَنَ سِيَاقَةٍ، وَقَدْ تَابَعَهُ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» . «معرفة السُّنن» (2/ 236).
وقد قيل: إن هذا القَدْر مُدْرَج، وليس من قول جابر. قال البيهقي في «السُّنن الكبرى» (3/ 124):«رواه مُسْلِمٌ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ مُدْرَجًا».
(3)
قال ابن القيم: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، كَمَا فَعَلَ بِعَرَفَةَ. «زاد المعاد» (2/ 228).
(4)
«المغني» (5/ 280).
القول الثاني: أنه يُجْمَع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بإقامتين بلا أذان. وهو قول الشافعي في الجديد، والرواية المشهورة عن أحمد، والثوري وإسحاق
(1)
.
واستدلوا بما ورد في «الصحيحين» : عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ- وفيه-: فَلَمَّا جَاءَ المُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى المَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ العِشَاءُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَع بينهما بإقامتين بغير أذان، وأن مَنْ روى إقامتين هو أُسامة، وهو أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان رَديفه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِجَمْعٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا»
(3)
.
(1)
«فتح الباري» (3/ 613)، و «المغني» (5/ 280).
(2)
أخرجه البخاري (139)، ومسلم (1280).
(3)
وقد اختُلف على ابن عمر في ألفاظ هذا الحديث، وأهمها ثلاثة ألفاظ:
الأول: عن سالم عن ابن عمر باللفظ المذكور، فهذه الرواية صريحة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم جَمَع في مزدلفة بين المغرب والعشاء، كل واحدة منها بإقامة. أخرجه البخاري (1673).
الثاني: ما رواه مسلم (1288) من طريق الْحَكَمِ، وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَع بإقامة واحدة للمغرب والعشاء.
وقد تابع الْحَكَم وَسَلَمَةَ بن كُهَيْلٍ أبو إسحاق سعيدَ بن جُبير عند مسلم، وقد انتُقدت على مسلم.
ومدار هذه المتابعة علي أبي إسحاق واختُلف عنه:
فرواه إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، قال: قال ابن جُبَيْر، عن ابن عمر به عند مسلم.
وقد خالف إسماعيل جماعة، منهم: الثوري عند أحمد (4676)، وشُعبة عند الطيالسي (2009)، وشريك عند أبي داود (1930)، وزهير بن معاوية عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3959) أربعتهم عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مالك عن ابن عمر، به.
فالصحيح: عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، وهو مجهول.
وهذه المتابعة انتقدها الدارقطني على مسلم فقال: هذا عندي وَهْم من إسماعيل. وقد خالفه جماعةٌ: شُعبة، والثوري، وإسرائيل، وغيرهم، رَوَوْهُ، عَنْ أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، عن ابن عمر.
وإسماعيل، وإن كان ثقة، فهولاء أَقْوَمُ لحديث أَبي إسحاق منه. «الإلزامات والتتبع» (ص: 295).
الثالث: أن سُلَيْم بن أسود، وَعَلَّاج بْن عَمْرٍو قالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَع بين المغرب والعشاء بمزدلفة، بأذان وإقامة لكلتا الصلاتين. عند أبي داود (1924).=
القول الثالث: السُّنة أن يَجمع بمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة. وبه قال الحنفية
(1)
.
القول الرابع: أنه يَجمع بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة، من غير أذان.
واستُدل لذلك بما روى ابْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ»
(2)
.
ونوقش بأن أصح الروايات عن ابن عمر الجمع بإقامتين
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِجَمْعٍ الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ»
(3)
.
=
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا، وَعَلَّاجُ بْنُ عَمْرٍو ذَكَرَ البُخَارِيُّ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عُمَرَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّ سُلَيْمَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَهُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ قَدْ سَمِعَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ. «عون المعبود» (5/ 286).
فالحاصل: أن الاختلاف على ابن عمر على ثلاثة ألفاظ:
الأول: عن سالم يقول: تصلي المغرب بإقامة، والعشاء بإقامة.
الثاني: عن سعيد بن جُبَيْر يقول: تصلى المغرب والعشاء بإقامة واحدة لهما.
الثالث: سُليم بن أسود وعَلَّاج يقولان: أذان وإقامة للمغرب، وأذان وإقامة للعشاء.
والراجح: رواية سالم في حديث ابن عمر، أن يصلي المغرب بإقامة والعشاء بإقامة في مزدلفة.
وقد رَجَّح أحمد والبيهقي وابن عبد البر والعراقي رواية سالم التي عند البخاري.
ففي «مسائل الكَوْسَج» (1/ 533): قلتُ: الجَمْع بين الصلاتينِ بعرفة، أو يجمع بأذان وإقامة (أو بإقامة؟) قال: لا، ولكن بإقامة، إقامة لكل صلاة، وهو خلاف ما رُوي عن سعيد بن جُبَيْر عن ابن عمر رضي الله عنهما، هذا سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال البيهقي في «السُّنن الكبرى» (3/ 126): «رِوَايَةُ سَالِمِ، وَهِيَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ» .
(1)
«الهداية» (3/ 155). وقال الزيلعي: رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ. يَعْنِي بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ؛ فَإِنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ- أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ. «نَصْب الراية» (3/ 68).
(2)
أخرجه مسلم (1288).
(3)
صحيح دون قوله: «بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» فهو منكرة:
ومدار هذا الحديث عن عَدِيّ بن ثابت، عن عبد اللهِ بن يزيد، عن أبي أيوب، واختُلف عنه:
فرواه جابر الجُعْفي عند الطبراني (3870)، وابن أبي ليلى عند ابن أبي شيبة (14605)، وقيس بن الربيع عن غيلان، عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3964) والحسن بن عمارة عند البيهقي (1911) أربعتهم عن عدي مع لفظة «بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» . =
القول الخامس: أنه يَجمع بين المغرب والعشاء بأذانين وإقامتين. وهو قول مالك
(1)
.
واستَدل مالك بما روى البخاري: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ يَقُولُ: حَجَّ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فَأَتَيْنَا المُزْدَلِفَةَ حِينَ الأَذَانِ بِالعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ- أُرَى: فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، قَالَ عَمْرٌو: لَا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلَّا مِنْ زُهَيْرٍ- ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ
(2)
.
وَجْه الدلالة: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِكُلٍّ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ إِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَمْ نَجِدْهُ مَرْوِيًّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ ثَبَتَ عَنْهُ لَقُلْتُ بِهِ
(3)
.
ونوقش بما قاله ابن عبد البر: لَا أَعْلَمُ فِيمَا قَالَهُ مَالِكٌ حَدِيثًا مَرْفُوعًا
(4)
.
القول السادس: أنه يَجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة من غير أذان ولا إقامة.
واستَدل لذلك بما رُوي عن ابن سيرين قال: صَلَّيْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ بِجَمْعٍ الْمَغْرِبَ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، ثُمَّ الْعِشَاءَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ
(5)
.
والراجح: أنه يَجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بإقامتين بلا أذان، والله أعلم.
=
وخالف هولاء الضعفاء: القطان عند البخاري (1674)، ومسلم (1287)، وشُعبة عند أحمد (23549)، وحماد بن زيد ومِسعر، كلاهما عند الطبراني (3862)، (3866) أربعتهم: عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
قال ابن عبد البر: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ فِيهِ:(بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ) لِأَنَّ مَالِكًا وَغَيْرَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ فِيهِ. «التمهيد» (9/ 265).
(1)
«شرح الزرقاني» (2/ 479).
(2)
أخرجه البخاري (1675).
(3)
«فتح الباري» (3/ 525).
(4)
«المغني» (5/ 280).
(5)
«المُحَلَّى» (5/ 121).
السُّنة الثانية: تقديم النساء والضَّعَفة من مزدلفة إلى مِنًى.
قال ابن قُدامة: وَالْمُسْتَحَبُّ الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَبِيتِ إلَى أَنْ يُصْبِحَ، ثُمَّ يَقِفُ حَتَّى يُسْفِرَ. وَلَا بَأْسَ بِتَقْدِيمِ الضَّعَفَةِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَلِأَنَّ فِيهِ رِفْقًا بِهِمْ وَدَفْعًا لِمَشَقَّةِ الزِّحَامِ عَنْهُمْ، وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
السُّنتان الثالثة والرابعة:
صلاة الفجر بمزدلفة في أول وقتها، والدعاء بعدها.
يُسَن للحاج بعد بياته بمزدلفة أن يصلي صلاة الفجر في أول وقتها، ويقف يدعو الله عز وجل. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(2)
.
ولكن يشكل عليه ما ورد عنِ ابن مسعود قال: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا، إِلَّا صَلَاتَيْنِ: جَمَعَ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ، وَصَلَّى الفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا
(3)
.
فالمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الفجر قبل الوقت المعتاد، أي: في أول وقتها بعد طلوع الفجر، حيث إنه كان يتأخر بين الأذان والإقامة، أما في مزدلفة، فالوقت بين الأذان والإقامة يسير، حتى يتسع الوقت للدعاء، ويَدفع إلى مِنًى للرمي قبل طلوع الشمس
(4)
.
(1)
«المغني» (5/ 286).
(2)
«المبسوط» (4/ 33)، و «الكافي» (1/ 374)، و «المجموع» (8/ 125)، و «المغني» (5/ 286).
(3)
أخرجه البخاري (1682).
(4)
قال النووي: صلى الفجر يومئذٍ قبل وقتها المعتاد بعد تحقق طلوع الفجر، لا قبل طلوع الفجر؛ لأن ذلك ليس بجائز بإجماع المسلمين. «شرح مسلم» (9/ 37).
وقال ابن القيم: فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، لا قبله قطعًا. «زاد المعاد» (2/ 233).
السُّنة الخامسة: الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس.
يُستحب أن يَدفع الحاج من مزدلفة قبل طلوع الشمس، بالإجماع.
(1)
.
وفي حديث جابر، وفيه: «حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ
…
فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ».
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ عُمَرَ رضي الله عنه صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ:«إِنَّ المُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ. وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ»
(2)
.
السُّنة السادسة: الإسراع في وادي مُحَسِّر.
ويُستحب الإسراع في وادي مُحَسِّر. وهذا باتفاق المذاهب الأربعة
(3)
.
فقد روى مسلم في حديث جابر: «حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى» .
قال النووي: قَوْلُهُ: (حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِيلَ أَصْحَابِ الفِيلِ حُصِرَ فِيهِ، أَيْ: أَعْيَا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَحَرَّكَ قَلِيلًا) فَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ السَّيْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، يُسْرِعُ الْمَاشِي فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ
(4)
.
وعن ابن عمر، أَنَّه كَانَ يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ، قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ
(5)
.
فينبغي للمار في وادي مُحَسِّر الاعتبار بما أصاب أصحاب الفيل، وأن يُسْرِع.
(1)
قال ابن قُدامة: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ السُّنَّةَ الدَّفْعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ «المغني» (5/ 286). قال ابن عبد البر: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام وَقَفَ بِالمَشْعَرِ الحَرَامِ بَعْدَ مَا صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. «الاستذكار» (4/ 292).
(2)
رواه البخاري (1684).
(3)
«البحر الرائق» (2/ 368)، و «الاستذكار» (4/ 297)، و «المجموع» (8/ 125)، و «المغني» (3/ 378).
(4)
«شرح مسلم» (8/ 190).
(5)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1165) عن نافع، به.
الباب الثالث عشر
رَمْي جمرة العقبة يوم النحر
وفيه تمهيد، وأربعة مباحث:
التمهيد: الجمرات التي تُرمَى ثلاث.
المبحث الأول: لا يَرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة الكبرى.
المبحث الثاني: الوقت المُستحَب لرمي جمرة العقبة يوم النحر.
المبحث الثالث: بيان أول وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر.
المبحث الرابع: حُكْم مَنْ تَرَك رمي جمرة العقبة يوم النحر، وليلة أول أيام التشريق.
تمهيد
الجمرات التي تُرمَى ثلاث: جمرة العقبة، وهي الكبرى، وتقع في آخِر مِنًى تجاه مكة. والجمرة الصغرى أول الجمرات من جهة مِنًى، وأبعدها من مكة وأقربها لمسجد الخَيْف.
وأيام الرمي أربعة: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده، تُسمَّى أيام التشريق.
المبحث الأول: لا يَرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة
الكبرى:
فعن جابر في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر: «حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» .
قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا يَرمي في يوم النحر غير جمرة العقبة
(1)
.
المبحث الثاني: الوقت المُستحَب لرمي جمرة العقبة يوم النحر:
قال ابن عبد البر: وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا رَمَاهَا ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَمَاهَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَهَا وَوَقْتَهَا الْمُخْتَارَ. وَأَجْمَعُوا أَنَّ مَنْ رَمَاهَا يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الْمَغِيبِ، فَقَدْ رَمَاهَا فِي وَقْتٍ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَحْسَنًا لَهُ
(2)
.
المبحث الثالث: بيان أول وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر:
اتَّفَق العلماء على أن رمي جمرة العقبة قبل نصف الليل، من ليلة النحر- لا يجزئ بحال.
واختلفوا في بداية وقت إجزاء رمي جمرة العقبة يوم النحر على أربعة أقوال:
القول الأول: يَبدأ وقت رمي جمرة العقبة من منتصف ليلة يوم النحر، ويُسَن أن يكون بعد طلوع الشمس. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(3)
.
(1)
«الإجماع» (ص: 58). نَقَل الإجماع على ذلك: ابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 268)، وابن رُشد في «بداية المجتهد» (1/ 350) وغيرهما كثير.
(2)
«التمهيد» (7/ 268). ونَقَل الإجماع على ذلك: ابن رُشد في «بداية المجتهد» (2/ 116)، والعيني في «عمدة القاري» (10/ 71)، وابن بَطَّال في «شرح البخاري» (4/ 407)، وغيرهما كثير.
(3)
«الأم» (2/ 213)، و «الحاوي» (4/ 185)، و «المغني» (5/ 295)، و «الإنصاف» (9/ 201). قَالَ حَرْبٌ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ خَرَجَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ نِصْفَ اللَّيْلِ، فَأَتَى مِنًى وَعَلَيْهِ لَيْلٌ، يَرْمِي الْجِمَارَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. «شرح العمدة» (2/ 615).
واستدلوا بما ورد عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ المُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ القَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا. فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا، حَتَّى رَمَتِ الجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا
(1)
.
فأسماء دفعت من مزدلفة إلى مِنًى بعد غياب القمر، ثم رمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم رجعت فصَلَّتْ الصبح في منزلها.
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (1679).
(2)
ضعيف، مدار هذا الحديث على هشام بن عروة، واختُلف عليه على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: مَنْ رواه عن هشام موصولًا، فرواه الضحاك بن عثمان وفيه مقال، عند أبي داود (1942)، تَابَعه على الاتصال ثلاثة من الضعفاء عبد الله بن محمد بن عروة، ومحمد بن عبد الله بن عُمير، وشَريك، عند الدارقطني في «العلل» (9/ 50) عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، به.
وقد صَحَّح هذا الوجه الموصول: البيهقي فقال: «هَذَا إِسْنَادٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ» «معرفة السُّنن والآثار» (7/ 317)، وابن المُلقِّن في «البدر المنير» (6/ 250)، وابن حجر في «الدراية» (2/ 24) وقال ابن عبد الهادي في «المُحرَّر» (1/ 452): رجاله رجال مسلم.
الوجه الثاني: مَنْ رواه عن هشام مرسلًا، فرواه داود العَطَّار، والدراوردي، عند الشافعي (1002)، وحماد بن سلمة عند الطحاوي في «شرح المشكل» (3521)، والثوري وابن عُيينة، ويحيى القطان، كما في «العلل» لأحمد، رواية ابنه عبد الله (2/ 368)، وعبدة بن سليمان، كما في «التمييز» (ص: 123) وحَبيب المُعَلِّم، كما في «العلل» للدارقطني (15/ 245) جمعيهم عن هشام، عن أَبيه، مرسلًا.
قال الدارقطني في «العلل» (5/ 177): والمرسل هو المحفوظ.
الوجه الثالث: رواه أبو معاوية، فجَعَله من مُسْنَد أم سلمة، بلفظ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تُوَافِيَ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ. أخرجه أحمد (26492). وهذا منكر، من أوهام أبي معاوية؛ لأن النبي صلى الصبح يوم النحر بالمزدلفة. قال ابن القيم:«حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ» . «زاد المعاد» (2/ 230). وقال مسلم: وهذا الخبر وهم من أبي معاوية. «التمييز» (ص: 186). وقال ابن التركماني: وهو مضطرب سندًا ومتنًا. «الجوهر النقي» (5/ 132).
وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ- وهو متروك- عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَدَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِيمَنْ قَدِمَ مِنْ ضَعَفَةِ أَهْلِهِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ. قَالَتْ: فَرَمَيْتُ الْجَمْرَةَ بِلَيْلٍ، ثُمَّ مَضَيْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّيْتُ بِهَا الصُّبْحَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مِنًى. أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (23/ 268).
فالحاصل: أن مدار هذا الحديث على هشام بن عروة، واختُلف عليه، فرواه الضحاك بن عثمان، وفيه مقال، وجماعة من الضعفاء، على الاتصال، وخالفهم جماعة من الثقات، كحماد بن سلمة ويحيى القطان والثوري وابن عُيينة وعبدة بن سليمان
…
وغيرهم على الإرسال، وهذا هو الصحيح، ورواه أبو معاوية فجَعَله من مسند أم سلمة، وهو منكر، والله أعلم.
وأما دليلهم من المعقول، فهو أنه وقت للدفع، فكان وقتًا للرمي، فإذا جاز الدفع من مزدلفة بعد غياب القمر إلى مِنًى، جاز الرمي قبل طلوع الفجر، وما بعد نصف الليل وقت للدفع من مزدلفة، فكان وقتًا للرمي، كبَعْد طلوع الشمس.
القول الثاني: أن أول وقت رمي جمرة العقبة بعد طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، ولا يجزئ قبله. وهذا مذهب الحنفية والمالكية، ورواية عن أحمد
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فاستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا تَرْمُوا الْجِمَارَ حَتَّى تُصْبِحُوا»
(2)
. والصباح يَبدأ بطلوع الفجر الثاني.
ونوقش بأنه لا يصح، ولو صح فيُحْمَل على أن الرمي بعد الفجر على الاستحباب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أَذِن للضَّعَفة بالانصراف ليلًا من مزدلفة؛ لأنهم بمجرد وصولهم إلى مِنًى سيَرمون الجمرة ليلًا أو نهارًا. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن الرمي ليلًا، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ، فَرَمَيْنَا الْجَمْرَةَ مَعَ الْفَجْرِ
(3)
.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 137)، و «المُدوَّنة» (1/ 436)، و «الإنصاف» (4/ 237).
(2)
منكر، وسيأتي تخريجه بتوسع.
(3)
رُوي حديث ابن عباس على ثلاثة أوجه:
الأول: بذكر التعجيل في الدفع للضعفة، ففي «الصحيحين»: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: «أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةِ، فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ» فهذا هو الثابت عن ابن عباس بلا شك، وليس فيه النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس.
الثاني: بذكر التعجيل في الدفع للضعفة، مع زيادة منكرة، وهي النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس.
الثالث: بذكر التعجيل في الدفع وذِكر الرمي مع الفجر، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ، فَرَمَيْنَا الْجَمْرَةَ مَعَ الْفَجْرِ» أخرجه الطيالسي (2852) وأحمد (2935، 2936).
وقوله: «فَرَمَيْنَا الْجَمْرَةَ مَعَ الْفَجْرِ» زيادة منكرة؛ لتَفرُّد شُعبة بن دينار بهذه اللفظة عن ابن عباس، وهو ضعيف، وقد خالف شُعبة الروايات الثابتة عن ابن عباس بدون ذكر الرمي مع الفجر.
وروى الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3972): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْعَبَّاسِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ:«اذْهَبْ بِضُعَفَائِنَا وَنِسَائِنَا، فَلْيُصَلُّوا الصُّبْحَ بِمِنًى، وَلْيَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُمْ دَفْعَةُ النَّاسِ» . وهذا المتن ليس فيه أنهم رَمَوُا الجمرة مع الفجر.
وفي إسناده إسماعيل بن عبد الملك، قال ابن حجر: صدوق، كثير الوهم. قلت: وهو إلى الضعف أقرب. وقال ابن حِبان: تَرَكه ابن مهدي، وكان سيئ الحفظ، رديء الفَهْم، يَقلب ما روى. قال أحمد: منكر الحديث. هذا المتن من أوهامه لمخالفة الثقات له بدون ذكر صلاة الفجر في مِنًى.
وأما المعقول، فإن دخول وقت الرمي يكون بانتهاء وقت الوقوف بعرفة، وقد حَصَل الإجماع على أنه لا ينتهي وقت الوقوف بعرفة إلا مع طلوع الفجر، ولا يجتمع الوقوف والرمي في وقت واحد.
ونوقش بأن أفعال الحج لا مانع أن تجتمع في وقت واحد؛ فليلة النحر وقت للوقوف بعرفة، وأصل للوقوف بمزدلفة، وكيوم النحر وقت للرمي والنحر والحَلْق والطواف.
القول الثالث: أن أول وقت الرمي يوم النحر هو طلوع الشمس، ولا يجوز رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس. وهو قول مجاهد والثوري وابن حزم
(1)
.
واستدلوا بما ورد عن ابن عباس، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ مِنْ جَمْعٍ، وَقَالَ:«لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ»
(2)
.
(1)
«المبسوط» (4/ 21)، و «المغني» (5/ 295)، و «المُحَلَّى» (5/ 132).
(2)
ضعيف، حديث ابن عباس له عدة طرق، من أهمها (مِقْسَم وعطاء والحسن العُرَنِي).
الطريق الأول: طريق مِقْسَم، رواه المسعودي، عن الحَكَم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس، به. أخرجه أحمد (3003)(3006)(3203) والترمذي (893).
وقد أُعِل بعلتين: الأولى: المسعودي، وقد اختَلَط. الثانية: الانقطاع بين الحَكَم بن عُتبة ومِقْسَم، قال البخاري:«حديث الحَكَم هذا عن مِقْسَم مضطرب لِما وَصَفْنا، ولا يُدْرَى الحَكَم سَمِع هذا من مِقْسَم أم لا» . «التاريخ الأوسط» (3/ 202).
الطريق الثاني: رواه حَبِيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عباس، به، عند أبي داود (1932).
وعلة هذا الطريق أن رواية حَبيب فيها ضعف عن عطاء. قال يحيى القطان: رواية حبيب بن أبي ثابت عن عطاء ليست بمحفوظة. «الضعفاء الكبير» للعُقيلي (1/ 484)، و «شرح علل الترمذي» (2/ 801).
الطريق الثالث: رواه سَلَمَة بن كُهَيْل، عن الحَسَن العُرَنِيّ، عن ابن عباس، عند أحمد (2082).
قال أحمد والبخاري: لم يَسمع الحسن من ابن عباس. «العلل» رواية ابنه عبد الله (1/ 143)، و «التاريخ الأوسط» (3/ 202).
وله طرق أخرى عن ابن عباس لا تخلو من مقال.
فالحاصل: أن طرق حديث ابن عباس في النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس- كلها ضعيفة، وتخالف الأسانيد الصحيحة؛ فقد اتفقت الرواة عن ابن عباس على أنه قَدَّم ضَعَفة أهله ليلة المزدلفة، ففي «الصحيحين»: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ» فهذا هو الثابت عن ابن عباس، وليس فيه النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس.
قال البخاري: أحاديث الرمي قبل طلوع الشمس أَكثر وأَصح. «التاريخ الأوسط» (1/ 297).
قال ابن خُزيمة: قَدْ خَرَّجْتُ طُرُقَ أَخْبَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِي الْكَبِيرِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» وَلَسْتُ أَحْفَظُ فِي تِلْكَ الأَخْبَارِ إِسْنَادًا ثَابِتًا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ. (4/ 475).
فدل ذلك على أن الصحيح عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم رَخَّص له في الانصراف من مزدلفة إلى مِنًى مع ضَعَفة أهله، والنهي عن رمي الجمرة قبل طلوع الشمس لم يأتِ إلا في روايات مُعَلة، والله أعلم.
القول الرابع: أن رمي جمرة العقبة لا يَجوز قبل طلوع الشمس للأقوياء، بخلاف الضعفاء. وهذا قول ابن القيم والشوكاني والصنعاني
(1)
.
واستدلوا بأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في الرمي قبل طلوع الشمس- كلها للضَّعَفة، كما في حديث ابن عمر أنه كان يُقَدِّم ضَعَفة أهله
…
وقال: أَرْخَصَ في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وغيره من الأحاديث.
فالمنطوق أن الإذن والترخيص للضَّعَفة بالرمي قبل طلوع الشمس. والمفهوم أنه لم يُرخِّص لمن سواهم، وما دام لم يُرخِّص لهم فالأصل البقاء على الوقت الذي رمى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعد طلوع الشمس
(2)
.
فيُرَد عليهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أَذِن بدفع الضَّعَفة بليل قبل الفجر، مما يُفْهَم منه إتيانهم بقَدْر الواجب، وأن ما بعده كمال. ولو كان هذا القَدْر غير مفيد في ذلك، لم يكن لتأخير الإذن لهم حتى الليل معنى.
والراجح: أن رمي جمرة العقبة يوم النحر يَجوز من بعد غياب القمر، كما في حديث أسماء الدال على الإذن في رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس.
ولذا يَجوز لأهل الأعذار من النساء ومحارمهن من الرجال والمرضى، ومَن يقوم عليهم من الأقوياء، والصبيان وغيرهم من أهل الأعذار- الرمي قبل طلوع الشمس، وإن كان الأفضل هو الرمي بعد طلوع الشمس إن لم يكن هناك مشقة أو حرج.
(1)
«زاد المعاد» (2/ 232 - 234)، و «نَيْل الأوطار» (5/ 144)، و «سُبُل السلام» (2/ 430).
(2)
قال ابن القيم: ثم تأملنا، فإذا إنه لا تَعارُض بين هذه الأحاديث؛ فإنه أَمَر الصبيان أن لا يَرموا الجمرة حتى تَطلع الشمس؛ فإنه لا عُذْر لهم في تقديم الرمي، أما مَنْ قَدَّمَه من النساء فرمين قبل طلوع الشمس للعذر، والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحَطْمهم. «زاد المعاد» (2/ 232 - 234).
وأما الأقوياء، فيُسَن لهم الرمي بعد الشروق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ضُحى.
المبحث الرابع:
حُكْم مَنْ تَرَك رمي جمرة العقبة يوم النحر، وليلة أول أيام التشريق.
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن مَنْ تَرَك رمي جمرة العقبة يوم النحر وليلة أول أيام التشريق- تَدارَكها في اليوم التالي، ويُشترط فيه الترتيب، فتُقدَّم على رمي أيام التشريق. وهو مذهب الحنفية والمالكية، والأظهر عند الشافعية، وبه قال الحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
أما السُّنة، فاستدلوا لصحة تأخير رمي جمرة العقبة إلى اليوم الثاني إذا دعت الحاجة- بما رواه عاصم العَجْلاني رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِرِعَاءِ الإِبِلِ في البَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الغَدَ، ومِنْ بَعْدِ الغَدِ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ.
قال النووي: والدليل عليه أنه يَجوز لرعاة الإبل أن يؤخروا رمي يوم إلى يوم بعده، فلو لم يكن اليوم الثاني وقتًا لرمي اليوم الأول، لما جاز الرمي فيه
(2)
.
وأما القياس، فإنه لما كان جميع أيام التشريق وقتًا لنحر الأضاحي، وجب أن يكون جميعها وقتًا لرمي الجمار.
القول الآخَر: رَمْي كل يوم مؤقت بيومه. وهو قول للشافعية
(3)
.
والدليل عليه: أنه رَمْي مشروع في يوم، ففات بفواته، كرمي اليوم الثالث.
والراجح: أن مَنْ تَعَذَّر عليه رمي جمرة العقبة يوم النحر، وليلة أول أيام التشريق- تَدارَكها في اليوم التالي.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 137)، و «شرح خليل» (2/ 336)، و «تحفة المحتاج» (4/ 137)، و «المبدع» (3/ 230).
(2)
«المجموع» (8/ 236).
(3)
السابق.
الباب الرابع عشر
الحَلْق والتقصير
وفيه تسعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الحَلْق والتقصير.
المبحث الثاني: حُكْم الحلق والتقصير.
المبحث الثالث: القَدْر الواجب حلقه أو تقصيره.
المبحث الرابع: هل يجزئ التقصير عن الحلق؟
المبحث الخامس: الأفضل الحلق أم التقصير؟
المبحث السادس: الحلق والتقصير للمرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: لا يَجوز في حق المرأة إلا التقصير.
المطلب الثاني: مقدار تقصير شعر المرأة.
المبحث السابع: مَنْ تَعَذَّر عليه الحلق أو التقصير.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مَنْ تَعَذَّر عليه الحلق أو التقصير؛ لعدم وجود الشعر.
المطلب الثاني: مَنْ تَعَذَّر عليه الحلق أو التقصير لمرض ونحوه.
المبحث الثامن: حُكْم التيامن في حلق الرأس.
المبحث التاسع: ميقات الحلق والتقصير.
المبحث الأول: تعريف الحَلْق والتقصير
الحلق: هو إزالة شعر الرأس كله بالموسى.
والتقصير: هو أخذ جزء من شعر الرأس كله بالمقص
(1)
.
المبحث الثاني: حُكْم الحَلْق أو التقصير
اختَلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الحلق أو التقصير واجب من واجبات الحج والعمرة، يُجْبَر بدم. وهو مذهب الحنفية والمالكية، والصحيح عند الشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بدليلين:
الدليل الأول: استدلوا بعموم قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].
دلت الآية على وجوب الحلق من وجهين:
الأول: أن العبادة إذا سُميت بما يُفعل فيها، دل على أنه واجب فيها، كقوله:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] يدل على وجوبه في صلاة الفجر، فكذا وَصْف الله تعالى دخول الصحابة الحرم للنسك، بقوله سبحانه:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} ولو لم يكن الحلق واجبًا لَمَا وَصَفهم به.
الثاني: أن قوله: (لتَدخلُن) خبر بصيغته، ومعناه الأمر، أي: ادخلوا، فيقتضي وجوب الدخول بصفة الحلق. ولَمَّا خصه الله بالذِّكر دون غيره، دل ذلك على أنه نسك واجب.
الدليل الثاني: استدلوا بعموم قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29].
(1)
«المبسوط» (4/ 70). الحَلْق يكون بالمُوسَى، ولا يكون بالماكينة، حتى ولو كانت على أدنى درجة؛ فإن ذلك يكون تقصيرًا؛ لأن الحلق يكون من غير استئصال. «الشرح الممتع» (7/ 328).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 140)، و «الاستذكار» (13/ 107)، و «الأم» (2/ 211)، و «الفروع» (6/ 56).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفَثُ: حَلَقُ الرَّأْسِ، وَأَخْذٌ مِنَ الشَّارِبَيْنِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ،
…
(1)
.
فالحاصل: أن التفث هو الأوساخ والأدران التي تكونت بسبب محظورات الإحرام، وقضاء التفث يكون بحلق الرأس ولُبْس المَخيط وتقليم الأظفار، وسائر أنواع التنظف، وكل ما كان ممنوعًا بسبب الإحرام.
وأما دليلهم من السُّنة، فاستدلوا بفعله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَلَق رأسه في حَجة الوداعِ
(2)
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا مناسككم» .
وقد دلت الأحاديث المستفيضة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر أصحابه بالحلق في حَجة الوداعِ؛ فعن جابر رضي الله عنهما، أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ:«أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ بالبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا»
(3)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: «وقَصِّروا» هذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر يقتضي الوجوب.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُحْصِرَ هو وأصحابه بالحُديبية أَمَرهم بالحلق؛ لأن سقوط بقية الأركان والواجبات إنما هو بعجزهم عنها، فبقي وجوب ما استطاعوا عليه، وهو الهَدْي والحلق أو التقصير
(4)
.
القول الثاني: ذهب الشافعية في المشهور عنهم إلى أن الحَلْق ركن من أركان الحج؛ لأنه لا يَجبره الدم ولا تقوم الفدية مَقامه.
القول الثالث: أن الحَلْق أو التقصير ليس بنسك، وإنما هو استباحة محظور لا يترتب على تركه شيء، كاللباس والطِّيب وسائر محظورات الإحرام، ويَحصل الحِل بدونه. وهذا قول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة
(5)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه الطبري (16/ 526)، وابن أبي شيبة (15917).
(2)
رواه البخاري (4410)، ومسلم (1304).
(3)
رواه البخاري (1568). وفي البخاري (1731): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّوا، وَيَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا» .
(4)
روى البخاري (2701): عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالحُدَيْبِيَةِ.
(5)
قال النووي: وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ قَوْلَين لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُك، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أبِيحَ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحْرِمًا، كَاللِّبَاسِ وَتَقْلِيم الأظْفَارِ وَالصَّيْدِ
…
وَغَيْرِهَا.
وَالْقَوْلُ الثانِي- وَهُوَ الصَّحيحُ-: أنَّهُ نُسُكٌ مَأمُورٌ بِهِ، وَهُوَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يَفُوتُ وَقْتُهُ مَا دَامَ حَيًّا. «الإيضاح» (ص: 342، 343).
واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أَمَر أبا موسى أن يتحلل بطواف وسعي، بقوله:«طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَحِلَّ» ولم يَذكر التقصير.
ونوقش بأن الحَلْق أو التقصير ثَبَتَ الأمر به في أحاديث، فإن لم يُذْكَر في أحاديث أُخَر؛ فلأن ذلك كان مشهورًا عندهم، فاستُغني عن ذِكره
(1)
.
والراجح: أن الحَلْق أو التقصير واجب من واجبات الحج؛ لأن الله وصفهم بقوله سبحانه: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ولو لم يكن واجبًا لَمَا وَصَفهم به، والنبي صلى الله عليه وسلم أَمَر أصحابه بتقصير الشَّعر، والأمر يقتضي الوجوب، وكذا الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه داوموا على الحَلْق بعد السعي، ولو لم يكن واجبًا لتَرَكه صلى الله عليه وسلم ولو مرة بيانًا للجواز.
المبحث الثالث: القَدْر الواجب حلقه أو تقصيره:
لا خلاف بين العلماء أن مَنْ حَلَق أو قَصَّر جميع شعر الرأس، أنه يجزئه.
واختلفوا في القَدْر الذي يتحقق به الواجب على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الواجب لا يتحقق إلا بحلقِ أو تقصيرِ جميع شعر الرأس. وبه قال ابن الهُمَام من الحنفية، والمالكية، وهو المشهور عند الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والسنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] فظاهر الآية يقتضي حَلْق جميع شعر الرأس.
وأما السُّنة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ
(3)
. فقوله: (حَلَقَ رَأْسَهُ) يدل على أن الحَلْق عامّ في جميع شعر الرأس.
(1)
«المغني» (5/ 306)، و «شرح مسلم» (9/ 50).
(2)
«شرح فتح القدير» (2/ 503)، و «مواهب الجليل» (3/ 128)، و «الفروع» (3/ 513).
(3)
رواه البخاري (4410)، ومسلم (1304).
القول الثاني: ذهب الحنفية إلى أن الواجب يتحقق بحلقِ أو تقصيرِ ربع الرأس
(1)
.
واستدلوا بالقياس، فإذا كان يَجوز مسح ربع الرأس في الوضوء، فكذا يَجوز حلق ربع الرأس في الحج، والله قال:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] والباء للتبعيض، كما تقول:(مَسَحْتُ بالحائط) وهو مَسْح بجزء من الحائط.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن الباء هنا للإلصاق، وهذا مِثل قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وقد أجمعوا على أنه لا يَجوز الطواف ببعض البيت.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المُبيِّن للناس ما أُنْزِلَ إليه، وقد حَلَق جميع شعر رأسه، بدأ بالجانب الأيمن ثم الأيسر، وقال:«لتأخذوا عني مناسككم» .
القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أنه يتحقق الواجب بحلقِ أو تقصيرِ ثلاث شعرات من الرأس؛ لعموم قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] والمعنى: محلقين شعوركم، جَمْع، وأقله ثلاث شعرات، فجاز الاقتصار على ثلاث
(2)
.
ونوقش بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المُبيِّن لِما أُنْزِلَ إليه، وقد حَلَق جميع شعره. ولو كان يَجوز حلق بعض الشَّعر وتَرْك البعض الآخَر، لبَيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل قد ورد النهي عن ذلك، فعن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ القَزَعِ
(3)
.
والراجح: أنه يجب تعميم حَلْقِ أو تقصيرِ جميع شَعر الرأس في حج أو عمرة؛ لعموم قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] أي: جميع شعر الرأس. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حَلَق جميع شعر رأسه، وكذا الصحابة. ولو كان يَجوز حَلْق بعض الرأس لبَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.
(1)
«فتح القدير» (2/ 502)، و «بدائع الصنائع» (3/ 141)، و «المبسوط» (4/ 70).
(2)
«المجموع» (8/ 199).
(3)
البخاري (5920). والقَزَع: هو حَلْق بعض الرأس وتَرْك البعض؛ تشبيهًا بقزع السحاب. وكذا مَنْ حَلَق ثلاث شعرات لا يطلق عليه حالق، ومَن رآه لا يَدري أنه حَلَق شعر رأسه أم لا.
المبحث الرابع: هل يجزئ التقصير عن الحلق؟
أَجْمَع العلماء على أن مَنْ حلق شعر رأسه أو قَصَّره، فقد أدى النسك
(1)
.
المبحث الخامس: الأفضل في حلق الرأس: الحلق أم التقصير؟
حَلْق جميع الرأس أفضل من تقصيره، بالكتاب والسُّنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب، فاستُدل بظاهر قوله تعالى:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27].
وَجْه الدلالة: أن الله عز وجل بدأ بالحَلْق، والعَرَب تَبدأ بالأهم والأفضل.
وأما السُّنة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَلَق رأسه في حَجة الوداعِ
(2)
(1)
قال النووي: وَالْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْزِئُ بِالْإِجْمَاعِ. «المجموع» (8/ 199). ونَقَله ابن المنذر في «الإشراف» (3/ 355)، وابن حجر في «فتح الباري» (3/ 564).
(2)
رواه البخاري (4410)، ومسلم (1304).
ولكن يُشْكِل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قَصَّر شعره في حجة الوداع، فَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ:«قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْمَرْوَةِ، بِمِشْقَصٍ فِي حَجَّتِهِ» صحيح دون قوله: (في حجته) فهو منكر.
ومدار الحديث على ابن عباس، عن معاوية، ويرويه عن ابن عباس ثلاثة:
الأول: طاوس، واختُلف عليه، فرواه أحمد بن حنبل، عند الطبراني (19/ 309)، وأحمد بن منصور الرمادي، كما في «الأمالي في آثار الصحابة» لعبد الرزاق (141)، والحسن بن علي، عند أبي داود (1803) ثلاثتهم عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن طاوس، به.
وخالفهم مَخْلَد بن خالد، و الذُّهْلي، عند أبي داود (1803)، عن عبد الرزاق، بدون لفظة:(في حجته).
ويَظهر أن هذه الزيادة مِنْ قِبل عبد الرزاق، فقد رواها عنه ثلاثة من الثقات.
ورواه: الحسن بن مسلم، عند البخاري (1730)، ومسلم (1246) وهشام بن حُجَيْر عند مسلم (1246) كلاهما عن طاوس، به، ولم يَذكرا في حديثهما:(في حجته).
الثاني: عطاء، فرواه قيس بن سعد، عن عطاء، عن معاوية قال: أَخَذْتُ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ كَانَ مَعِي، بَعْدَ مَا طَافَ بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فِي أَيَّامِ العَشْرِ. قَالَ قَيْسٌ: وَالنَّاسُ يُنْكِرُونَ هَذَا عَلَى مُعَاوِيَةَ، عند النَّسَائي (2989)، وأحمد (16836).
وفي إسناده ثلاث علل:
الأولى: الانقطاع بين عطاء ومعاوية؛ فبينهما ابن عباس.
الثانية: أنه من رواية حماد بن سلمة عن قيس بن سعد، وهي ضعيفة.
الثالثة: رواه خُصَيْف عن مجاهد وعطاء به، بدون لفظة:(في حجته) عند أحمد (16863). =
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يَفعل إلا الأفضل.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم في حَجة الوداعِ دعا للمُحلِّقين ثلاثًا، وللمُقصِّرين مَرَّة
(1)
.
وأما الإجماع، فقال ابن عبد البر: وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْحِلَاقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ
(2)
.
وأما المعقول، فما قاله الحافظ: أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِبَادَةِ، وَأَبْيَنُ لِلْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ، وَأَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النِّيَّةِ. وَالَّذِي يُقَصِّرُ يُبْقِي عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَتَزَيَّنُ بِهِ، بِخِلَافِ الْحَالِقِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى
(3)
.
=
الثالث: محمد بن علي بن الحسين، فرواه جعفر بن محمد عن أبيه عن ابن عباس، عند أحمد (16886) ولم يَذكر في حديثه:(في حجته) فلفظة (في حجته) منكرة؛ لأن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنًا، ولم يَحِلَّ إلا يوم النحر، وحَلَق في حجته بمِنًى، ولم يُقَصِّر.
قال ابن تيمية: في «الصحيحين» : عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: «قَصَّرْتُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَرْوَةِ» . قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَلَكِنَّ هَذَا خِلَافُ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمُ الْحِلَّ كُلَّهُ. «منهاج السُّنة النبوية» (4/ 437).
وقال النووي: وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَّرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ قَارِنًا، وَثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ بِمِنًى. وَفَرَّقَ أَبُو طَلْحَةَ رضي الله عنه شَعْرَهُ بَيْنَ النَّاسِ. فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ تَقْصِيرِ مُعَاوِيَةَ عَلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى عُمْرَةِ الْقَضَاءِ الْوَاقِعَةِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمًا، إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، سَنَةَ ثَمَانٍ. «شرح مسلم» (8/ 231).
(1)
رواه مسلم (1303). فحديث أُم الحُصين صريح في أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين والمقصرين- كان في حجة الوداع.
ولكن يشكل عليه ما رواه ابن عباس، عند أحمد (3311) أن ذلك الدعاء كان في الحديبية.
وفي إسناده ابن إسحاق، وقد صَرَّح بالتحديث، فانتفت شبهة التدليس، ولكن ابن إسحاق لا يُحتجّ به فيما ينفرد به، وقد انفرد بلفظة:«حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَصَّرَ آخَرُونَ» فهي ضعيفة.
ولو صحت فيندفع هذا الإشكال بحمل دعائه صلى الله عليه وسلم للمحلقين والمقصرين على التَّكْرار، فيكون دعا لهم في الحديبية، وكَرَّر هذا الدعاء في حجة الوداع.
قال عِيَاض: فلا يَبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في الموضعين. «إكمال المُعْلِم» (4/ 384).
(2)
«التمهيد» (7/ 267). وقال النووي: وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ. «المجموع» (8/ 199).
(3)
«فتح الباري» (3/ 564).
فالحاصل: أن الحَلْق بالموسى أفضل من التقصير بالمقص أو الماكينة في حق الرجال، إلا في حق المتمتع إذا كان قريب عهد بحج، فينبغي أن يُقَصِّر بعد أداء العمرة ويُؤخِّر الحَلْق للحج، وكذا يجب تعميم حَلْق أو تقصير جميع شعر الرأس؛ لفِعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
المبحث السادس: الحلق أو التقصير للمرأة: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: لا يَجوز في حق المرأة إلا التقصيربالإجماع.
فاتفقوا على أن النساء لا يَجوز في حقهن إلا التقصير؛ لأن الحلق للنساء مُثْلة
(1)
.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ الْحَلْقُ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ»
(2)
.
وعن أبي موسى قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ
(3)
.
ولأن المرأة محتاجة إلى التجمل، والشَّعر زينة؛ ولذا شُرِع في حقها التقصير فقط.
المطلب الثاني: مقدار تقصير شعر المرأة.
يُستحب أن تُقصِّر المرأة من شعرها قَدْر أُنملة الإصبع- وهي مفصل الإصبع- فتُمسِك ضفائر رأسها إن كان لها ضفائر، أو بأطرافه إن لم يكن لها ضفائر، وتقص قَدْر أنملة. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(4)
.
(1)
ونَقَل الإجماع: ابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 267)، وابن رُشد «بداية المجتهد» (2/ 132)، والنووي في «المجموع» (8/ 204). وقال ابن قدامة: وَالْمَشْرُوعُ لِلْمَرْأَةِ التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَالْمَرْأَةُ تُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهَا مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ: رَأْسُ الْإِصْبَعِ مِنَ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى. «المغني» (5/ 310).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (1985). وفي إسناده أم عثمان بنت أبي سفيان، وقد عدها في الصحابة ابن عبد البر في «الاستيعاب» وابن حجر في «الإصابة» ، وابن جُريج قد صَرَّح بالتحديث عند الدارمي (2065)، وباقي رجال الحديث ثقات، وقد صححه أبو حاتم في «العلل» (1/ 281).
(3)
البخاري (1296)، ومسلم (96).
(4)
بدائع الصنائع (2/ 141)«مختصرخليل» (2/ 335)، «المجموع» (8/ 204)، «الإنصاف» (4/ 30).
المبحث السابع: مَنْ تَعَذَّر عليه الحَلْق أو التقصير:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مَنْ تَعَّذَر عليه الحلق أو التقصير؛ لعدم وجود الشعر:
أَجْمَع العلماء على أن الأصلع يَمُر على رأسه بالموسى عند الحلق
(1)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد اختَلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يُستحب له إمرار الموسى على رأسه. وهو قول للحنفية، وهو مذهب الشافعية والحنابلة
(2)
.
القول الثاني: أنه يجب إمرار الموسى على رأسه. وهذا مذهب الحنفية والمالكية
(3)
.
القول الثالث: لا يُستحب له إمرار الموسى على رأسه
(4)
.
المطلب الثاني: مَنْ تَعَذَّر عليه الحَلْق أو التقصير لمرض ونحوه:
اختَلف العلماء فيمن تَعَذَّر عليه الحَلْق لمرض على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب المالكية إلى أنه يصبح حلالًا، ويَلزمه الهَدْي
(5)
.
القول الثاني: ذهب الحنفية إلى أنه يصبح حلالًا، ولا شيء عليه
(6)
.
القول الثالث: ذهب الشافعية إلى أنه يبقى على إحرامه حتى يَحلق ويتحلل
(7)
.
والحاصل: أن مَنْ تَعَذَّر عليه الحلق لمرض لا يخلو من حالين: فإن كان يُرجَى برؤه، فإنه ينتظر حتى يبرأ، ثم يحلق ويتحلل. وإن كان لا يُرجَى برؤه فإنه يَفدي ويتحلل.
(1)
قال ابن المنذر: أَجْمَع كل مَنْ نَحفظ عنه من أهل العلم على أن الأصلع يُمِر على رأسه المُوسَى وقت الحلق. «الإشراف» (3/ 357، 358)، و «الإجماع» (ص: 73).
(2)
«تبيين الحقائق» (2/ 32)، و «المجموع» (8/ 193)، و «الإنصاف» (4/ 30).
(3)
«حاشية الدسوقي» (2/ 46)، و «تبيين الحقائق» (2/ 32)، و «المُدوَّنة» (1/ 440).
(4)
قال النووي: وحَكَى أصحابنا عن أبي بكر بن داود أنه قال: لا يُستحب إمراره. «المجموع» (8/ 212)، و «الإنصاف» (4/ 30). وقال ابن عثيمين: وهذا عبث. «الشرح الممتع» (13/ 412).
(5)
«حاشية الدسوقي» (2/ 46)، و «مواهب الجليل» (3/ 128).
(6)
«شرح فتح القدير» (2/ 502).
(7)
«الإيضاح» (ص: 345).
المبحث الثامن:
حُكْم التيامن في حلق الرأس:
يُستحَب التيامن في حلق الرأس، فيُقدَّم الشق الأيمن ثم الشق الأيسر، بالإجماع
(1)
.
وروى مسلم: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ، وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ؛ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ فَقَالَ:«احْلِقْ» فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ:«اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ»
(2)
.
(1)
قال ابن قُدامة: السُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. «المغني» (5/ 303).
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد ذهب الحنفية إلى أن العبرة بيمين الحَلَّاق. «فتح القدير» (2/ 489).
(2)
أخرجه مسلم (1305). وظاهر هذه الرواية يدل على أن نصيب أبي طلحة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شقه الأيمن، وأن الأيسر قَسَّمه فيمن يليه.
ويُشكل عليه حديث أنسٍ الآخَر، الذي فيه أن نصيب أبي طلحة كان شقه الأيسر. وهذه الرواية ضد الرواية الأولى، وهي عند مسلم (1305): فَحَلَقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَقَسَمَهُ فِيمَنْ يَلِيهِ، ثُمَّ قَالَ:«احْلِقِ الشِّقَّ الآخَرَ» فَقَالَ: «أَيْنَ أَبُو طَلْحَةَ؟» فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.
وفي رواية ثالثة أنه أعطى الجانب الأيسر لأم سُلَيْم. وهذا خلاف ثالث، فعند مسلم (1305): ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَلَّاقِ وَإِلَى الْجَانِبِ الأَيْسَرِ، فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّ سُلَيْمٍ.
وقال المحب الطبري: والصحيح أن الذي وزعه على الناس صلى الله عليه وسلم الشق الأيمن، بين الناس، وأعطى الأيسر أبا طلحة أو أُم سُليم، ولا تضاد بين الروايتين؛ لأن أُم سُليم امرأة أبي طلحة، فأعطاه صلى الله عليه وسلم لهما، فنُسبت العطية تارة إليه وتارة إليها. «مرعاة المفاتيح» (9/ 262).
وعند البخاري (171): أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ.
وقال ابن القيم: وهذا لا يناقض رواية مسلم؛ لجواز أن يصيب أبا طلحة من الشق الأيمن مثل ما أصاب غيره، ويختص بالشق الأيسر. «زاد المعاد» (2/ 248).
قال الحافظ: ولا تَناقُض في هذه الروايات، بل طريق الجَمْع بينها أنه ناول أبا طلحة كلًّا من الشقين، فأما الأيمن فوَزَّعه بأمره، وأما الأيسر فأعطاه لأُم سُليم زوجته، بأمره صلى الله عليه وسلم أيضًا. «فتح الباري» (1/ 274).
المبحث التاسع: ميقات الحَلْق أو التقصير، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الميقات الزماني:
آخِر وقت للحلق أو التقصير قد اختَلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن آخِر وقت الحلق أو التقصير يكون بغروب الشمس من آخِر شهر ذي الحجة، ولا يَجوز التأخير بعده. وهذا مذهب بعض المالكية وابن حزم
(1)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
وقد بَيَّن الله تعالى أول وقت الحلق بقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ولم يُبيِّن آخره، وأَشْهُر الحج تنتهي بنهاية ذي الحجة، فمَن حَلَق بعد انتهاء شهر ذي الحجة، فقد وقع في غير وقته، وعليه جبران ذلك بدم.
القول الثاني: أن آخِر وقت الحلق أو التقصير هو آخِر أيام التشريق؛ واستدل لذلك بالقياس، فكما أن الرمي والنحر لا يكونان إلا في يوم النحر وأيام التشريق، فكذا الحلق أو التقصير. وبه قال الحنفية والمالكية في قول، وقول للحنابلة
(2)
واعتُرض عليه بأن الحلق لا يقاس على الرمي والنحر؛ لأن الرمي والنحر مما تَدخله النيابة، بخلاف الحلق، فلا بد للحاج أن يَحلق أو يُقصِّر رأسه.
القول الثالث: أنه ليس لآخِر وقت الحلق أو التقصير حد، فيصح فعله في أي وقت. وبه قال أبو يوسف ومحمد من الحنفية، والشافعية، وهو المشهور عند الحنابلة
(3)
.
واستدلوا لذلك بعموم قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فالله تعالى بَيَّن أول وقت الحلق ولم يُبيِّن آخره، فمتى أتى به أجزأه.
(1)
«مواهب الجليل» (3/ 130)، و «المُحَلَّى» (5/ 180).
(2)
«المبسوط» (4/ 71)، و «المُنتقَى» (3/ 30)، و «الإنصاف» (4/ 40).
(3)
«المبسوط» (4/ 70)، و «الإيضاح» (ص: 343)، و «الإنصاف» (4/ 40).
ونوقش بأن الحج مُقيَّد بأَشْهُر معلومات، فكيف يأتي بنسك في غير زمن الحج؟!
واستدلوا بالقياس: فإذا كان يصح فعل طواف الإفاضة ولو بعد سنوات، فكذا الحلق.
ونوقش بأنه لا يصح قياس الحلق على الطواف؛ لأنه أسهل.
والحاصل: أن السُّنة في الحلق هي يوم النحر؛ لفِعله صلى الله عليه وسلم، وقال:«خذوا عني مناسككم» وبداية وقت الحلق يوم النحر، وآخِر وقت الحلق هو آخِر شهر ذي الحجة؛ لأن الحلق من مناسك الحج، ونهاية شهر ذي الحجة هي نهاية أشهر الحج؛ لقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، ومَن أَخَّر الحلق عن شهر ذي الحجة، لَزِمه الدم.
المطلب الثاني: الميقات المكاني:
أي: لا بد أن يكون الحلق في الحرم؟ أم يَجوز في أي مكان في الحل أو الحرم؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن الحلق لا يختص بمكان معين، وإذا حَلَق في أي مكان أجزأه، ولكن يُستحب فعله في الحرم، خاصةً مِنًى. وبه قال أبو يوسف من الحنفية، والمالكية والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ. وَحُدَيْبِيَةُ مِنَ الْحِلِّ، فَلَوِ اخْتَصَّ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ، لَمَا جَازَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ، وَلَمَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ لَا يَخْتَصُّ جَوَازُهُ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ.
(1)
«المبسوط» (4/ 70)، و «مواهب الجليل» (3/ 130)، و «الإيضاح» (ص: 343).
وذهب أبو حنيفة إلى أن الحلق والتقصير مؤقت بمكان، وهو الحرم. «بدائع الصنائع» (2/ 141).
واستدل بالقياس، فكما أن الطواف مؤقت بالكعبة، فكذا الحلق لا يكون إلا في الحَرَم.
الباب الخامس عشر
طواف الإفاضة
وفيه تمهيد، وثلاثة مباحث:
التمهيد: سبب تسميته بطواف الإفاضة.
المبحث الأول: حُكم طواف الإفاضة.
المبحث الثاني: بداية وقت طواف الإفاضة. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وقت الفضيلة.
المطلب الثاني: وقت ابتداء طواف الإفاضة.
المبحث الثالث: نهاية وقت طواف الإفاضة.
التمهيد:
سبب تسميته طواف الإفاضة
سُمي طواف الإفاضة لأنه يَكُون بعد الإفاضة مِنْ عرفة ومُزدلِفة ومِنًى
(1)
.
المبحث الأول: حُكْم طواف الإفاضة
طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، بالكتاب والسُّنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] والمراد بهذا الطواف هو طواف الإفاضة بالإجماع
(2)
.
ودل على ذلك سياق الآية، فلا يكون يوم النحر بعد قضاء التفث والوفاء بالنذر، إلا بَعْد طواف الإفاضة.
وأما السُّنة، فَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ - زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاضَتْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟»
(3)
.
قال ابن عبد البر: مَعْنَى الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَحْبِسُ الْحَائِضَ بِمَكَّةَ، لَا تَبْرَحُ حَتَّى تَطُوفَ لِلْإِفَاضَةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ الْمُفْتَرَضَ عَلَى كُلِّ مَنْ حَجَّ، وَهَذَا كُلُّهُ أَمْرٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ
(4)
.
وأما الإجماع، فقد نَقَل غير واحد الإجماع على أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، لا يصح إلا به
(5)
.
(1)
ومنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفاض يوم النحر. وكذا يسمى (طواف الزيارة) لأنهم يأتون من مِنًى زائرين البيت، ويَعُودون في الحال. و (طواف الركن) لكونه ركنًا فيه. «شرح العمدة» (2/ 547).
(2)
قال الطبري: لا خلاف بين أهل التأْويل في ذلك. «تفسيره» (9/ 142).
(3)
البخاري (1757)، ومسلم (3205).
(4)
«الاستذكار» (4/ 371).
(5)
وقد نَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 58)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 42)، والكاساني في «بدائع الصنائع» (2/ 128) وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (1/ 352)، والنووي في «شرح مسلم» (9/ 18)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 311)، وغيرهم كثير.
المبحث الثاني،
بداية وقت طواف الإفاضة:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وقت الفضيلة:
وقت الفضيلة أن يطوف طواف الإفاضة ضُحَى يوم النحر، بَعْد أن يَرمي جمرة العقبة، ويَنحر هَدْيه ويَحلق، ثم يطوف طواف الإفاضة.
قال ابن رُشْد: وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَى فِي حِجَّتِهِ الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ نَحَرَ بُدُنَهُ، ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا سُنَّةُ الْحَجِّ
(1)
.
ودل على ذلك ما رواه مسلم، من حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النحر: وفيه: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ
(2)
.
(1)
«بداية المجتهد» (2/ 117).
(2)
مسلم (2922). وهنا إشكال قد يَرِد! فحديث جابر أن رسول صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة ضحى يوم النحر، ويشكل أنه ورد عن عائشة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ طواف يوم النحر إلى الليل. أخرجه أحمد (2612).
وقد أُعِل هذا الحديث بثلاث علل:
العلة الأولى: الاختلاف في سماع أبي الزُّبير من عائشة وابن عباس.
قال الترمذي: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَبُو الزُّبَيْرِ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَعَمْ، وَإِنَّ فِي سَمَاعِهِ مِنْ عَائِشَةَ نَظَرًا. «العلل الكبير» (ص: 134).
وقالَ ابن عُيينة: يقولون: أبو الزبير لم يَسمع من ابن عباس. وقال أبو حاتم: رأى ابن عباس رؤية، ولم يَسمع من عائشة. «المراسيل» (ص: 193).
العلة الثانية: ما قاله أبو الحسن بن القطان: وأبو الزبير مدلس، ولم يَذكر هاهنا سماعًا من عائشة ولا ابن عباس، وقد عُهِد أنه يَروي عنهما بواسطة. «بيان الوهم والإيهام» (5/ 64)، وقال ابن حزم: وَهَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ؛ لِأَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ مُدَلِّسٌ، ولَمْ يُقَلْ فِيهِ:(حَدَّثَنَا)«حجة الوداع» (ص: 295).
العلة الثالثة: مخالفة متنه للأحاديث الثابتة، في طواف النبي صلى الله عليه وسلم للإفاضة، في ضحى يوم النحر.
قال ابن القيم: وَهَذَا الْحَدِيثُ غَلَطٌ بَيِّنٌ، خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ. «زاد المعاد» (2/ 254) وكذا البيهقي في «معرفة السُّنن والآثار» (7/ 314).
المطلب الثاني: وقت ابتداء طواف الإفاضة.
نُقِل الإجماع على أن تقديم طواف الإفاضة على الوقوف بعرفة- لا يُجْزئ
(1)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد اختَلف العلماء في جواز ابتداء الإفاضة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن أول ابتداء وقت طواف الإفاضة يَبدأ من طلوع فجر يوم النحر. وهو مذهب الحنفية والمالكية، وأحمد في رواية
(2)
.
واستدلوا لذلك بحديث جابر في صفة حجة صلى الله عليه وسلم في يوم النحر: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ. أي: طاف طواف الإفاضة يوم النحر في النهار، والنهار يبتدئ من طلوع الفجر. والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«خذوا عني مناسككم» .
القول الثاني: أن أول وقت طواف الإفاضة يَبدأ من منتصف ليلة النحر. وهو مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم
(3)
.
واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أَذِنَ للضَّعَفة وللنساء بجواز الدفع من مزدلفة بعد منتصف الليل والرمي قبل الفجر، وإذا جاز الدفع والرمي، جاز طواف الإفاضة قبل الفجر.
ونوقش بأن مَنْ دَفَع من مزدلفة بعد مغيب القمر، فسيصل إلى مِنًى قبل الفجر لرمي جمرة العقبة، ثم مَنْ انصرف من منى إلى مكة فسيصل بعد الفجر للطواف، فدل ذلك على أن طواف الإفاضة لا يكون إلا بعد الفجر
(4)
.
القول الثالث: أنه يَجوز أن يطوف للإفاضة يوم التروية. وهو قول في مذهب مالك.
واستَدل مالك بأن الله عز وجل لم يَفرض على الحاج إلا طوافًا واحدًا، بقوله:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] وقال في سياق الآية: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] والواو لا توجب رتبة إلا بتوقيف، ومَن طاف
(1)
«مجموع الفتاوى» (26/ 231).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 132)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 46)، و «مواهب الجليل» (3/ 16).
(3)
«الأم» (2/ 213)، و «الإيضاح» (ص: 311)، و «المغني» (5/ 313)، و «الإنصاف» (4/ 4).
(4)
«شرح العمدة» (2/ 617، 618).
بالبيت يوم التروية فقد طاف للحج في وقته وحين عمله
(1)
.
ونوقش بأن سياق الآية يدل على أن المراد بالطواف هو طواف الإفاضة.
والدليل على ذلك أن الله ذَكَر الطواف بعد إلقاء التَّفَث والوفاء بالنذر، وهذا يكون يوم النحر بالإجماع؛ لأن العطف بالواو على (ثُم) فلا يكون الطواف المفترض الواجب إلا بعد ذلك، فدل على أن طواف الإفاضة لا يكون إلا قبل يوم النحر.
وأما السُّنة، فعن نافع، أن ابن عمر أراد الحج، فقال: أَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ. فظاهر الحديث أن ابن عمر لم يَطُف يوم النحر للإفاضة، واكتفى بطواف القدوم عنه.
ونوقش هذا الاستدلال بما قاله القرطبي: وقوله: «وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ» يعني: الطوافَ بين الصفا والمروة، وأما الطواف بالبيت فلا يصح أن يقال فيه: إنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة؛ لأنه هو الركن الذي لا بد منه للمُفْرِد والقارِن
…
وقوله: «وكذلك فَعَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم» يعني أنه اكتفى بالطواف بين الصفا والمروة حين طاف للقدوم، ولم يُعِدِ السعي
(2)
.
والراجح: عدم جواز طواف الإفاضة قبل فجر يوم النحر.
المبحث الثالث: نهاية وقت طواف الإفاضة:
نُقِل الإجماع على أنه يَجوز تأخير طواف الإفاضة إلى آخِر أيام التشريق
(3)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد اختَلف العلماء في نهاية وقت الإفاضة على أربعة أقوال:
القول الأول: أنه يَجوز تأخير الطواف بلا حد، إلا أن الحاج يَبقى مُحْرِمًا، إذا لم يتحلل التحلل الأكبر. وبه قال أبو يوسف ومحمد، وهو رواية عن مالك، والشافعية والحنابلة
(4)
.
(1)
«الكافي في فقه أهل المدينة» (1/ 363).
(2)
«المُفْهِم» (3/ 357، 358).
(3)
«شرح السُّنة» (7/ 208). نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 59)، والنووي في «شرح مسلم» (9/ 58)، والجَصَّاص في «أحكام القرآن» (5/ 75).
(4)
«المبسوط» (4/ 22)، و «الحاوي» (4/ 192)، و «المغني» (5/ 313). قال النووي: وَلَا يَحْرُمُ تَأْخِيرُهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً، وَلَا آخِرَ لِوَقْتِهِ، بَلْ يَصِحُّ مَا دَامَ الْإِنْسَانُ حَيًّا. «شرح مسلم» (8/ 346).
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمعقول:
أما الكتاب، فاستدلوا بقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فمَن طاف متأخرًا، فقد طاف وحَقَّق الأمر الشرعي، وقد قال تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ولا تمام للحج بدون طواف الإفاضة، ولم يَرِد تأقيت لآخِره.
وأما السُّنة، فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ حَاضَتْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ. قَالَ: «فَلَا إِذًا» .
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عَلِم أن صفية قد حاضت ظن أنها لم تَطُف للإفاضة، فقال:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» أي أن صفية لو كانت حائضًا ولم تَطُف للإفاضة، لانتظرها حتى تَطْهُر وتطوف، وهذا بَعْد أيام التشريق؛ لأنه قد حان طواف الوداع. فهذا الحديث يؤخذ منه أن طواف الإفاضة كان وقته مفتوحًا.
وأما المعقول، فهو أن طواف الإفاضة لم يَرِد دليل يُبيِّن آخِر وقته، فمتى أتى به صح، فلو تَوَقَّتَ آخِرُه لبَيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يَجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
القول الثاني: أن تأخير الطواف إلى انتهاء أيام التشريق موجب للدم. وهو مذهب الحنفية، وقول عند المالكية، ورواية عن أحمد
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والمعقول:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28، 29].
وَجْه الدلالة: أن طواف الإفاضة مؤقت بأيام التشريق وجوبًا، وذلك أن الله تعالى عَطَف الطواف على الذبح والأكل بقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ثم قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فكان وقتهما واحدًا، فتأخير
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 132)، و «الذخيرة» (3/ 271)، و «الفروع» (6/ 58)، و «نقد مراتب الإجماع» (293).
طواف الإفاضة إلى انتهاء أيام التشريق يوجب نقصانًا، فيُجبَر ذلك النقصان بالدم.
ونوقش بأنه لا يَلزم من عطف الطواف على الذبح وجوبه في أوقات الذبح، خاصة وأن العطف ب (ثُم) التي تقتضي التراخي، فدل على عدم وجوبه في أوقات الذبح. ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز طواف الإفاضة بعد أيام التشريق؛ لأنه قد حان طواف الوداع، فقال:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» أي أن صفية لو كانت حائضًا ولم تَطُف للإفاضة، لانتظرها حتى تَطهُر وتطوف. ولو كان يجب دم لبَيَّنه؛ لأنه لا يَجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
القول الثالث: أن تأخير الطواف إلى انتهاء شهر ذي الحجة موجب للدم. وهو المشهور عند المالكية
(1)
.
واستدلوا لذلك بعموم قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
وَجْه الدلالة: أن أَشْهُر الحج ثلاثة، وهي: شَوَّال وذو القعدة وذو الحجة. وتأخير الطواف عن شهر ذي الحجة فِعل للركن في غير أشهر الحج، وهذا يوجب عليه الدم.
ونوقش بأن أفعال الحج منها ما هو محدودٍ آخِرها شرعًا كالوقوف بعرفة، ومنها ما هو غير محدود شرعًا، كتأخير طواف الإفاضة، فيجزئ فِعله في أي وقت.
القول الرابع: أن تأخير الطواف إلى انتهاء شهر ذي الحجة مُبْطِل للحج. وبه قال ابن حزم؛ لأن أَشْهُر الحج ثلاثة، وهي: شَوَّال، وذو القعدة، وذو الحجة. فإذا انتهى شهر ذي الحجة قبل أن يطوف للإفاضة، فقد بَطَل حجه لانتهاء وقت الحج قبل تمامه
(2)
.
والراجح: أن وقت طواف الإفاضة لا حد لآخِره شرعًا، فيجوز تأخير الطواف بلا حد، ولو أن الحاج رجع إلى بلده بعد الحج قبل طوافه، ثم سافر إلى مكة فطاف الإفاضة، أجزأه. ولا يجب طواف الوداع لأنه لم يُتِم نسكه، ولا دليل على وجوب الدم عليه
(3)
.
(1)
«التاج والإكليل» (3/ 130)، و «الذخيرة» (3/ 278)، و «الشرح الصغير» (2/ 370).
(2)
«المُحَلَّى» (7/ 172).
(3)
وسُئلت اللجنة الدائمة (11/ 227): متى ينتهي طواف الإفاضة؟
فأجابت: يَبدأ طواف الإفاضة بعد منتصف الليل من ليلة النحر، للضَّعَفة ومَن في حكمهم. وليس لنهايته وقت محدد، لكن الأَوْلَى أن يُبادِر الحاج بالطواف للإفاضة قدر استطاعته، مع مراعاة الرفق بنفسه، وتَحيُّن الأوقات التي يكون المطاف فيها خفيفًا من الزحام؛ حتى لا يُؤذِي ولا يُؤذَى.
الباب السادس عشر
حُكْم ترتيب أعمال يوم النحر والتحلل
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حُكْم ترتيب أعمال يوم النحر.
المبحث الثاني: التحلل.
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: تعريف التحلل.
المطلب الثاني: بِمَ يَحصل التحلل الأول؟
المطلب الثالث: ماذا يبيح التحلل الأول من المحظورات؟
المطلب الرابع: التحلل الأكبر.
المطلب الخامس: بِمَ يَحصل التحلل من العمرة؟
المبحث الثالث: أكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الظُّهر يوم النحر بمكة أم بمِنًى؟
المبحث الأول: حُكْم ترتيب أعمال يوم النحر:
ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَى فِي حِجَّتِهِ الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ نَحَرَ بُدُنَهُ، ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا سُنَّةُ الْحَجِّ
(1)
.
قال ابن قُدامة: وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ لَا تُخْرِجُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ عَنِ الْإِجْزَاءِ، وَلَا يَمْنَعُ وُقُوعُهَا مَوْقِعَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ
(2)
.
وقد اختَلف العلماء في حكم ترتيب أعمال يوم النحر على أربعة أقوال:
القول الأول: أن ترتيب أعمال يوم النحر سُنة. وهو مذهب أبي يوسف من الحنفية، والشافعية، والمشهور عن الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بما ورد عَنِ ابْنِ عَمْرِو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. فَقَالَ:«ارْمِ وَلَا حَرَجَ» وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إِنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. فقالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ» وَأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: إِنِّي أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. فقالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ» . قَالَ: فَمَا رَأَيْتُهُ سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا قَالَ:«افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ»
(4)
.
القول الثاني: أن الترتيب واجب بين (الرمي والذبح والحلق) أما الترتيب بينها وبين الطواف فسُنة. وهذا مذهب الحنفية
(5)
.
واستدلوا لعدم جواز تقديم الحلق على الذبح بعموم قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] يعني: ولا تَحلقوا حتى تَذبحوا. فدلت الآية على وجوب تقديم النحر على الحَلْق.
(1)
«بداية المجتهد» (2/ 117). وكذا نَقَل الإجماع ابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 394).
ووقع خلاف شاذ عن بعض المالكية في القارن، فقال: لَا يَحْلِقُ حَتَّى يَطُوفَ. كَأَنَّهُ لَاحَظَ أَنَّهُ فِي عَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَالْعُمْرَةُ يَتَأَخَّرُ فِيهَا الْحَلْقُ عَنِ الطَّوَافِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ بِالْإِجْمَاعِ. «فتح الباري» (3/ 571).
(2)
«المغني» (5/ 323).
(3)
«الإيضاح» (ص: 311)، و «المجموع» (8/ 216)، و «المغني» (5/ 320).
(4)
رواه البخاري (83)، ومسلم (1306).
(5)
«بدائع الصنائع» (2/ 158)، و «المبسوط» (4/ 41، 42).
ونوقش بأن المراد ببلوغ الهَدْي محله: وصوله إلى الموضع الذي يَحِل ذبحه فيه، سواء ذُبِح أو لم يُذبَح، فلم يقل الله تعالى:(حتى تَنحروا) وكذا لا يَجوز حَلْق الشَّعر قبل التحلل الأول، ولا يَحصل إلا برمي الجمرة؛ فلذا لا يَجوز الحلق قبل الرمي.
واستدلوا بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] فالله عز وجل رَتَّب قضاء التَّفَث- وهو الحَلْق- على الذبح، وهذا يدل على الوجوب.
القول الثالث: أنه يجب تقديم الرمي على الحَلْق وعلى طواف الإفاضة، وما سِوي ذلك فسُنة. وهذا مذهب المالكية.
القول الرابع: أنه يَجوز التقديم والتأخير في حق الناسي والجاهل، أما العَالِم فإذا قَدَّم ما كان حقه التأخير في يوم النحر، فإنه يَجبر ذلك بدم. وهذا رُوي عن أحمد في رواية
(1)
.
واستَدل أحمد بما ورد عن ابن عمرو، وفيه: فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ! فَقَالَ:«اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ»
(2)
.
قوله: (لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ) دل على أن الرخصة في التقديم والتأخير مُقيَّدة بعذر الجهل والنسيان والخطأ؛ لأن هذه الرواية مُقيَّدة بعدم الشعور الذي يتضمن عدم الفطنة للشيء، جهلًا أو نسيانًا أو خطأ. وقالوا: إن المُطْلَق يُحْمَل على المُقيَّد
(3)
.
واعتُرض عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَسأل السائل في الرواية المُطْلَقة عن الجهل والنسيان، مع تعدد السائلين، لم يُفَرِّق النبي صلى الله عليه وسلم بين عالم وجاهل. ولو كان الدم واجبّا لبَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأن بعض أفراد العام لا يُخصِّصه.
والراجح: أن ترتيب أعمال يوم النحر (الرمي، ثم النحر، ثم الحَلْق، ثم الطواف) سُنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سُئل يومئذٍ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر، إلا قال:«افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» .
(1)
«الإنصاف» (4/ 42).
(2)
البخاري (83)، ومسلم (1306).
(3)
قال ابن دقيق العيد: ويُبنَى أيضًا على القاعدة، في أن الحُكْم إذا رُتِّب على وصف يمكن أن يكون معتبرًا، لم يَجُز اطراحه وإلحاق غيره مما لا يساويه به، ولا شك أن عدم الشعور وَصْف مناسب لعدم التكليف. والحُكْم عُلِّق به، فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمد به؛ إذ لا يساويه. «إحكام الأحكام» (ص: 332).
المبحث الثاني: التحلل: وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: تعريف التحلل
وأنواعه:
الْمُرَادُ بِالتَّحَلُّل: الْخُرُوجُ مِنَ الإْحْرَامِ، وَحِلُّ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ
(1)
.
أنواع التحلل: الحج له تحللان. وهو مذهب المذاهب الأربعة
(2)
.
المطلب الثاني: بِمَ يحصل التحلل الأول؟
اختَلف أهل العلم في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: أن التحلل الأول لا يَحصل إلا بالحلق بعد الرمي. وبه قال الحنفية
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والقياس:
أما الكتاب، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29].
وَجْه الدلالة: أن قضاء التَّفَث هو حَلْق الشَّعْر بعد رمي جمرة العقبة، ولُبْس الثياب، وما يَتبع ذلك من قص الشارب والأظفار؛ لأن التَّفَث في اللغة الوسخ، يقال:(امرأة تَفِثة) إذا كانت خبيثة الرائحة، فعموم الآية يَشهد بأن التحلل الأول يكون برمي الجمرة وحَلْق الشَّعر، وما يَتبع ذلك من لُبْس الثياب والتنظف، وهو قضاء التَّفَث
(4)
.
وأما السُّنة، فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَالثِّيَابُ، وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ»
(5)
.
وَجْه الدلالة: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن مَنْ رَمَى وحَلَق قد حل له الطِّيب والثياب وكل شيء
(1)
«الموسوعة الكويتية» (2/ 175) وهو قسمان: تَحَلُّل أصغر، وتَحَلُّل أكبر.
(2)
«العناية» (3/ 10)، و «الذخيرة» (3/ 269)، و «المجموع» (7/ 388).
(3)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 517)، و «بدائع الصنائع» (2/ 142).
(4)
قال مالك: التفث: حِلَاق الشَّعر ولُبْس الثياب. «الموطأ» (2/ 447).
(5)
ضعيف: أخرجه أحمد (25103)، وابن خُزيمة (3014). وفي إسناده الحَجَّاج بن أرطأة، وفيه ضعف. وقد اختُلف عليه اختلافًا كثيرًا في سنده ومتنه، قال البيهقي:«وَهَذَا مِنْ تَخْلِيطَاتِ الحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ» . «السُّنن الكبرى» (10/ 139)، وكذا ابن حجر في «التلخيص الحبير» (2/ 496).
إلا النساء- دليل على حصول التحلل الأصغر بالرمي والحلق.
واعتُرض عليه بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا بقول عائشة: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ، قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ- وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا-»
(1)
.
وَجْه الدلالة: إخبار عائشة رضي الله عنها بأنها طَيَّبَتِ النبي صلى الله عليه وسلم حين أَحَل قبل أن يطوف- دليل على أن التحلل الأصغر حَصَل قبل الطواف، أي: بعد الرمي والحلق
(2)
.
واستدلوا أيضًا بأن الحَلْق رُتِّبَ عليه الحِل في مسألة الإحصار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُحْصِرَ في الحُديبية أَمَرهم أن يَحلقوا ثم يَحِلوا، ولا حِل لمُحْصَر إلا بعد الحَلْق.
واستدلوا بالقياس على العمرة، فكما أن المعتمر لا يَحِل إلا بعد الطواف والسعي والحَلْق، فكذا الحاج لا يحل حتى يَرمي جمرة العقبة ويحلق، وأنه بعد الحَلْق يكون التحلل في العمرة والحج.
القول الثاني: أن التحلل الأول يَحصل بفعل اثنين من ثلاثة، وهي (الرمي، والحَلْق، والطواف) وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم
(3)
.
واستدلوا بما استَدل به أصحاب القول الثاني.
القول الثالث: يَحصل التحلل الأول برمي جمرة العقبة. وهو قول مالك، وقول عند الشافعية، ورواية عن أحمد
(4)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (1754)، ومسلم (1189).
(2)
قال النووي: وقولها: (ولحِله حين حل قبل أن يطوف بالبيت) فيه تصريح بأن التحلل الأول يَحصل بعد رمي جمرة العقبة والحلق قبل الطواف، وهذا متفق عليه. «شرح مسلم» (8/ 99).
(3)
«المجموع» (8/ 228)، و «المغني» (5/ 307)، و «المبدع» (3/ 243)، و «الإنصاف» (4/ 31).
(4)
«الذخيرة» (3/ 269)، و «المجموع» (8/ 229)، و «المغني» (5/ 310).
(5)
ضعيف: أخرجه أبو داود (1978) عن حَجاج بن أرطاة، عن الزُّهْري، عن عمرة، عن عائشة، به.
قال أبو داود: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، الْحَجَّاجُ لَمْ يَرَ الزُّهْرِيَّ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
وله شاهد عن ابن عباس، ومداره على الثوري، عن سَلَمَة بن كُهَيْل، عن الحَسَن العُرَنِيّ، عن ابن عباس،
وقد أعل هذا الحديث بعلتين:
الأولى: قد اختُلف عنه في الرفع والوقف، والوقف أصح: فرواه القطان عند النَّسَائي (3107)، وعبد الرحمن بن مهدي عند ابن ماجه (3057)، وأبو عاصم عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4039)، وعبد الرزاق وابن وهب عند البيهقي (9678)، وكلهم حُفاظ أثبات، رووه عن الثوري به موقوفًا.
ورواه وكيع عن الثوري واختُلف عليه في الوقف والرفع، فرواه أحمد (2090) عن وكيع به مرفوعًا. وخالف أحمدَ الثقاتُ، فرواه ابن شيبة (14331)، وأبو بكر بن خَلَّاد عند ابن ماجه (3057) وغيرهما، عن وكيع به موقوفًا. فظَهَر أن رواية الوقف أصح.
العلة الثانية: أن الحسن العُرَني لم يَسمع من ابن عباس شيئًا. قاله أحمد والبخاري، وقد سبق.
فهو لا يصح مرفوعًا ولا موقوفًا. والله أعلم.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ بِذَرِيرَةٍ لِحَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ، حِينَ أَحْرَمَ، وَحِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ»
(1)
.
وَجْه الدلالة: تعليق النبي صلى الله عليه وسلم الإحلال من الإحرام برمي جمرة العقبة- دليل على أن التحلل الأصغر يَحصل برميها دون التوقف على أشياء أُخَر. وقد أبان عن ذلك فِعله صلى الله عليه وسلم،
(1)
الذريرة: طِيب مسحوق مركب. والحديث صحيح دون قوله: «وَحِينَ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ» فهو شاذ.
ومداره على ابن جُرَيْج، عن عمر بن عروة، عن عروة، والقاسم، عن عائشة، واختُلف عنه.
وقد تفرد رَوْح بن عُبَادة، بزيادة «وحين رَمَى جمرة العقبة» عند أحمد (26078) في حديثه عن ابن جُريجٍ، به، ولم يتابعه أحد ممن روى الحديث عن ابن جُريجٍ، وهم: محمد بن يحيى الذُّهْلي عند البخاري (5930)، ومحمد بن بكر عند مسلم (1189)، ومحمد بن عبد الله الأنصاري عند أحمد (25641)، وعثمان بن الهيثم وسعيد بن سالم وهشام، عند أبي عَوَانة (3294) بلفظ:«طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي بِذَرِيرَةٍ، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ» فهؤلاء الثقات الأثبات رَوَوُا الحديث بدون ذكر هذه الزيادة، وتَفَرَّد رَوْح بذكرها.
وقد تفرد أيضا بهذه الزيادة سَعيدُ بْنُ عَبدِ الرَّحمَنِ عند النسائي (2707) عن ابن عُيينة، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحِلِّهِ بَعْدَ مَا رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ،. وهذه شاذة أيضا فقد خالفه الحميدي (213) ومُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ عند مسلم (1189) وجماعة عن ابن عُيينة به، بلفظ طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.، وذَكَر الدارقطني في «العلل» (9/ 53) أن يونس والزبيدي وإسحاق بن راشد- رَوَوْه عن الزُّهْري عن عروة عن عائشة، مِثل لفظ الجماعة عن ابن عُيينة.، فلا شك في شذوذها، والله أعلم.
كما أَخْبَرَتْ به عائشة رضي الله عنه، وأن تطييبها إياه كان عَقِب جمرة العقبة.
ونوقش بأنه لا يصح حديث في حصول التحلل الأول برمي جمرة العقبة.
وأما المأثور، فعن عمر بن الخطاب أنه قال: فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ، فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ، إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ
(1)
.
وعن عائشة أنها قالت: «إِذَا رَمَى حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ»
(2)
.
وعن ابن الزبير قال: إِذَا رَمَيْتَ الْجَمْرَةَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَدْ حَلَّ لَكَ مَا وَرَاءَ النِّسَاءِ
(3)
.
القول الرابع: أن التحلل الأول بعد جمرة العقبة مشروط بطواف الإفاضة قبل غروب الشمس. بمعنى أنه إذا رَمَى جمرة العقبة في يوم النحر، حَلَّ له كل شيء إلا النساء. وإذا لم يَطُف طواف الإفاضة حتى غربت الشمس من يوم النحر، عاد الحاج حُرُمًا، يَلبس الإحرام والإزار والرداء، كحاله قبل رمي جمرة العقبة، حتى يطوف بالإفاضة فيحل بذلك. رُوي هذا القول عن عروة بن الزبير وأبي قِلَابة
(4)
.
واستدل عروة وأبو قِلابة بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا يَوْمٌ رُخِّصَ لَكُمْ إِذَا أَنْتُمْ رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ أَنْ تَحِلُّوا- يَعْنِي: مِنْ كُلِّ مَا حُرِمْتُمْ مِنْهُ- إِلَّا مِنَ النِّسَاءِ، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا بِهَذَا الْبَيْتِ، عُدْتُمْ حُرُمًا، كَهَيْئَتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطُوفُوا بِهِ»
(5)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1225) عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِهِ.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (13991): حدثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، به.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (13990) عن ابن عُبينة، عن ابن المُنكدِر، به.
(4)
«طرح التثريب» (5/ 66).
(5)
منكر: مدار الحديث على محمد بن إسحاق، واختُلف عليه على خمسة أوجه:
الوجه الأول: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ أُمِّهِ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، بِهِ. أخرجه أحمد (26530).
الوجه الثاني: رواه يونس بن بُكَيْر، واقتَصَر على ذكر أُم أبي عُبيدة دون أبيه. خَرَّجها البيهقي (9682).
الوجه الثالث: رواه إبراهيم بن سعد، وقد روى عنه ابنه يعقوب، واختُلف عليه على وجهين:
الأول: فعن يَعْقُوب قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ خَالِدٍ مَوْلَى الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ، بِهِ. أخرجه أحمد (26588).
الثاني: أخرجه أحمد (26587): حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أُمِّهِ زَيْنَبَ بْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، بِهِ.
الوجه الرابع: رواه يزيد بن زُرَيْع، أخرجه أبو نُعَيْم في «معرفة الصحابة» (5560) من طريق يزيد بن زُرَيْع، وابن أبي عَدي قال: أنبأنا محمد بن إسحاق قال: حدثني أبو عُبيدة بن زَمْعَة، حدثتني أم قيس بنت مِحْصَن- وكانت جارة لهم- قالت: خرج من عندي عُكَّاشة بن مِحْصَن في نفر من بني أسد، به.
الوجه الخامس: رواه الخليل بن موسى، ثنا محمد بن إسحاق، عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن زَمْعَة، عن أبيه، عن أم سلمة. أخرجه أبو نُعَيْم (6488).
فالحاصل: أن مدار الحديث على ابن إسحاق عن أبي عُبيدة، وقد أُعِل بعلتين:
الأولى: أن ابن إسحاق وإن كان حسن الحديث، ولكن ما انفرد به فيه نكارة، وقد تفرد بهذه السُّنة التي خالف بها العمومات.
الثانية: أن أبا عُبيدة مجهول.
ونوقش بأن هذا الحديث منكر.
قال ابن كَثير: وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ جِدًّا، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِهِ
(1)
.
والراجح: أن التحلل لا يكون إلا بعد الرمي والحَلْق؛ لعموم قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} فعموم الآية يَشهد بأن التحلل الأول يكون برمي الجمرة وحَلْق الشَّعر، وما يَتبع ذلك من لبس الثياب والتنظف، فهذا هو قضاء التَّفَث. ويؤيد ذلك قول عائشة:«طَيَّبْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف للإفاضة» أي: بعد رمي الجمرة والحلق.
وأما القول بأن التحلل الأول يَحصل بفعل اثنين من ثلاثة (الرمي، والحلق، والطواف) فلم أقف له على دليل صريح.
وأما القول بأن التحلل يَحصل برمي جمرة العقبة، فالأحاديث التي فيها «إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ» لا تصح.
وأما القول بأن التحلل الأول يكون برمي جمرة العقبة، ولكن ذلك مشروط بأن يطوف للإفاضة قبل غروب الشمس؛ فالحديث الذي استدلوا به منكر، مخالف لقول جماهير العلماء وعَمَل الأمة المستفيض، والله أعلم.
(1)
«البداية والنهاية» (7/ 621). قال البيهقي: وَقَدْ رَوِيَتْ تِلْكَ اللَّفْظَةُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَعَ حُكْمٍ آخَرَ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ بِذَلِكَ. «السُّنن الكبرى» (10/ 139).
قال البُلقيني: فهذا مما أجمع العلماء على ترك العمل به. «مقدمة ابن الصلاح» (ص: 469).
المطلب الثالث: ماذا يبيح التحلل الأول من المحظورات
للحاج؟
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن التحلل الأول يبيح جميع المحظورات للحاج إلا النساء. وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة في الصحيح عنهم
(1)
.
واستدلوا بما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أَخْبَرَتْ عائشة رضي الله عنها أنها طَيَّبَتِ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أَحَلّ التحلل الأول بعد الرمي والحلق قبل أن يطوف. وفي هذا دلالة واضحة على إباحة الطِّيب بالتحلل الأول، وكذا يقاس عليه سائر ما يَحرم على الحاج قبل التحلل الأول إلا النساء. وصح عن عائشة وابن الزبير أن التحلل الأول يبيح جميع المحظورات للحاج إلا النساء.
القول الثاني: أن التحلل الأول يبيح جميع المحظورات للحاج، حتى مباشرة النساء، إلا الجماع. وبه قال الشافعي في وجه، وأحمد في رواية
(3)
.
واستدلوا بأن المُحَرَّم هو الجماع فقط، وهو الذي يَفسد به الحج.
واعتُرض عليه بأن هذه المقدمات ذريعة إلى الجماع، فلو لم تكن محرمة لِذَاتها، لحُرِّمَتْ من باب سد الذرائع.
واستدلوا أيضًا بأنه إذا أبيح الطِّيب بعد التحلل الأصغر، والطِّيب من دواعي الجماع، فيباح القُبلة والملامسة وغيرهما، ولا يَحرم إلا الوَطْء في الفرج.
القول الثالث: أن التحلل الأول يبيح جميع المحظورات للحاج إلا النساء وقَتْل الصيد والطِّيب. وهو مذهب المالكية
(4)
.
واستدلوا لتحريم الصيد بعد التحلل الأول بعموم قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 142)، و «الأم» (2/ 242)، و «كشاف القناع» (2/ 585).
(2)
رواه البخاري (1754)، ومسلم (1189).
(3)
«مغني المحتاج» (1/ 505)، و «المهذب» (1/ 418).
(4)
«المُدوَّنة» (1/ 329)، و «مواهب الجليل» (3/ 13)، و «حاشيةالعدوي» (1/ 543).
[المائدة: 95] وعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] فمَن تحلل التحلل الأول لم يَزَل مُحْرِمًا، بدليل أنه يَحرم عليه النساء، وإن كان قد حل له بعض ما حَرُم عليه، حتى يطوف طواف الإفاضة ويتحلل التحلل الأكبر.
واستدلوا لتحريم الطِّيب بما رُوي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ
…
إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ إِلَّا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، حَتَّى يَزُورَ الْبَيْتَ»
(1)
.
وبعموم قول عمر: إِذَا جِئْتُمْ مِنًى، فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ، فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ، إِلاَّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، لَا يَمَسَّ أَحَدٌ نِسَاءً وَلَا طِيبًا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.
وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِذَا رَمَى وَحَلَقَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ. قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
ففي هذا الأثر رَدٌّ على عمر وابنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم تَطَيَّبَ قبل طواف الإفاضة وبعد رمي الجمرة، أي: بعد التحلل الأول، وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تُتبع.
وقياس الطِّيب على القُبلة والمُباشَرة، بجامع أن كلًّا منهما من دواعي الجماع- لا يُسَلَّم؛ لأن القُبلة والمُباشَرة من دواعي قضاء الشهوة المتعلقة بالنساء، بينما الطِّيب قد يكون في اجتماعات الناس ولقاءاتهم.
والراجح: أنه يحل للحاج بالتحلل الأول كل شيء حَرُم عليه قبل الإحرام، إلا الجماع، وهذا بالإجماع، وكذا القُبلة والمُباشَرة سدًّا للذريعة، والله أعلم.
المطلب الرابع: التحلل الأكبر:
يَحصل التحلل الأكبر بفعل ثلاثة أشياء: رمي الجمرة، والحَلْق، وطواف الإفاضة.
والسُّنة الترتيب بين هذه الأعمال، رَمْي جمرة العقبة، ثم الحَلْق، ثم طواف الإفاضة. ويباح تقديم أو تأخير أحدها على الآخَر.
واتَّفق العلماء على أن الحاج إذا رمى جمرة العقبة، ثم حَلَق أو قَصَّر، ثم طاف طواف
(1)
أخرجه ابن خُزيمة (2800) وإن كان ظاهر إسناده الصحة، إلا أن لفظة «الطِّيب» منكرة؛ لأنها مُخالِفة لما ورد في «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها قالت:«طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ، حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ، قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ» .
(2)
إسناده صحيح: أخرجه النَّسَائي في «الكبرى» (4152).
الإفاضة، فيباح له جميع المحظورات حتى النساء، بالإجماع، وهذا هو التحلل الأكبر.
قال الشربيني: (وإذا فَعَل الثالث) بعد الاثنين (حَصَل التحلل الثاني، وحَلّ به باقي المُحَرَّمات) بالإجماع، يعني: الرمي والحَلْق والطواف
(1)
.
الحاصل في التحلل من الإحرام:
للحج تحللان: أول وثانٍ، يتعلقان برمي جمرة العقبة والحَلْق وطواف الإفاضة.
وأما النحر فلا مَدخل له في التحلل.
ويَحصل التحلل الأول برمي جمرة العقبة والحَلْق، ويحل له كل شيء حَرُم عليه إلا الجماع ومقدماته؛ سدًّا للذريعة.
ويَحصل التحلل الثاني بالرمي والحَلْق وطواف الإفاضة، والسعي للمتمتع، والمُفْرِد والقارن لمن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، ويحل به كل شيء حَرُم عليه حتى الجماع.
المطلب الخامس: بِمَ يَحصل التحلل من العمرة؟
اختَلف أهل العلم في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: أن المعتمر لا يحل إلا بعد الحَلْق أو التقصير. وهو مذهب الحنفية والمالكية، والصحيح عند الشافعية، وهو مذهب الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ
…
»
(3)
.
وَجْه الدلالة: أن المعتمر لا يحل إلا بعد الحَلْق أو التقصير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرهم به، وجَعَل الحِل بعده، وأَمْره صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب.
القول الثاني: أن المعتمر لا يحل إلا بعد أداء السعي. وهو قول عند الشافعية، ورواية
(1)
«مغني المحتاج» (2/ 273) ونَقَل الإجماع أيضًا ابن حجر الهيتمي في «تحفة المحتاج» (4/ 124).
قال ابن حزم: واتفقوا على أَنْ مَنْ طاف طواف الإفاضة يوم النَّحْر أَوْ بعده، وكان قد أَكْمَل مناسك حجه ورَمَى؛ فقد حل له الصيد والنكاح، وكل ما كان امتنع بالإحرام. «مراتب الإجماع» (ص: 45).
(2)
«المبسوط» (4/ 30)، و «المُدوَّنة» (1/ 702)، و «الأم» (5/ 78)، و «المغني» (5/ 241).
(3)
البخاري (1606)، ومسلم (3041).
عند الحنابلة
(1)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر أبا موسى أن يحل بعد السعي، ولم يأمره بالحلق، بقوله صلى الله عليه وسلم: «
…
طُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحِلَّ»
(2)
.
واعتُرض عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالحَلْق؛ لأن ذلك كان مشهورًا عندهم، فاستُغني عن ذِكره. وأما قوله صلى الله عليه وسلم:«ثم أَحِلّ» فإنما معناه الحِل بالحَلْق لأن الحِل لا يكون إلا به.
القول الثالث: أن المعتمر لا يحل إلا بعد الطواف بالبيت.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَاجٌّ وَلَا غَيْرُ حَاجٍّ، إِلَّا حَلَّ»
(3)
.
القول الرابع: أن المعتمر يحل من عمرته بدخول الحرم، وإن لم يَطُف بالبيت.
ففي «الصحيحين» : عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: «فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ، وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا»
(4)
.
قولها: (فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا) يدل على أن المعتمر يحل من عمرته بدخول الحَرَم قبل الطواف؛ لأن مسح الركن- أي: الحَجَر الأَسْوَد- يكون في أول الطواف.
ونوقش هذا الاستدلال بأن حديث أسماء مُجْمَل: (فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا) وحديث ابن عمر مُبيِّن، فيُحْمَل المُجْمَل على المُبيِّن الدالّ على أن التحلل لا يَتم إلا بالسعي والحَلْق. وهو قول عامة أهل العلم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا
(5)
.
(1)
«الحاوي» (4/ 161)، و «المجموع» (7/ 422)، و «الإنصاف» (4/ 56).
(2)
أخرجه البخاري (1795)، ومسلم (1221).
(3)
أخرجه البخاري (4396)، ومسلم (1245).
(4)
أخرجه البخاري (1796)، ومسلم (1237).
(5)
وقد استَنكر ابن حزم هذا الحديث في «حجة الوداع» (ص: 349)، و «المُحَلَّى» (5/ 95).
قال النووي: وَقَوْلهَا: (فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْن حَلُّوا) هَذَا مُتَأَوَّل عَنْ ظَاهِره؛ لِأَنَّ الرُّكْن هُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَمَسْحُهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ، وَلَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بِمُجَرَّدِ مَسْحِهِ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ وَأَتَمُّوا طَوَافَهُمْ وَسَعْيَهُمْ، وَحَلَقُوا أَوْ قَصَّرُوا، أَحَلُّوا. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِير هَذَا الْمَحْذُوف، وَإِنَّمَا حَذَفَتْهُ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ إِتْمَامِ الطَّوَافِ. «شرح مسلم» (8/ 222).
وقال ابن حجر: نَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ حَلَّ وَإِنْ لَمْ يَطُفْ، وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَهَذَا مِنْ شُذُوذِ الْمَذَاهِبِ. «فتح الباري» (3/ 616).
أما القول بأن المعتمر يحل من عمرته بدخول الحرم، وإن لم يَطُف بالبيت، وكذا القول بأن المعتمر لا يحل إلا بعد الطواف، فكلاهما شاذ لمخالفته للسُّنة وإجماع الأمة.
المبحث الثالث: أكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الظُّهر يوم النحر بمكة أم بمِنًى؟
حديث جابر عند مسلم صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظُّهر يوم النحر بمكة، وفيه: «
…
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ».
ولكن يُشكل عليه ما ورد في مسلم أيضًا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى
(1)
.
وقد جَمَع النووي بين الحديثين، فقال: وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى بِأَصْحَابِهِ، حِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَةِ الَّتِي بِمِنًى
(2)
.
وقد رَجَّح جماعة حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظُّهر بمكة، بمُرجِّحات، منها:
الأول: أن سياق جابر لحجة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها أتم سياق، وقد حَفِظ القصة وضَبَطها، حتى ضَبَط جزئياتها.
الثاني: أن حجة الوداع كانت في آذار، وهو تَساوِي الليل والنهار، وقد دَفَع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى مِنًى، وخَطَب، ونَحَر بُدنًا عظيمة وقسمها، وطُبخ له من لحمها وأَكَل منه، ورمى الجمرة، وحَلَق رأسه، وتَطَيَّب، ثم أفاض، فطاف وشَرِب من ماء زمزم.
وهذه أعمال تبدو في الأظهر أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى مِنًى، بحيث يُدرِك وقت الظُّهر في فصل آذار في مِنًى
(3)
.
(1)
ومدار الحديث على عُبَيْد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر، به، واختُلف عنه في الرفع والوقف:
فرواه عبد الرزاق عن عُبَيْد الله به مرفوعًا، عند مسلم (1308).
وخالف عبدَ الرزاق سفيانُ الثوري عند البخاري (1732) وحفص بن غِيَاث وعَبْدة بن سليمان، كلاهما عند ابن أبي شيبة (14401، 14402) ثلاثتهم عن عُبَيْد الله به موقوفًا، دون ذكر الصلاة.
قال البخاري: وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَقِيلُ، ثُمَّ يَأْتِي مِنًى، يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ. وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ.
(2)
«شرح النووي على مسلم» (8/ 193).
(3)
«زاد المعاد» (2/ 259 - 261). وقد رَجَّح ذلك القرطبي كما في «المُفْهِم» (3/ 411).
الباب السابع عشر: الهَدْي
الفصل الأول: الهَدْي وما يتعلق به:
وفيه تسعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الهَدْي وجنسه.
المبحث الثاني: وجوب الهَدْي على المتمتع.
المبحث الثالث: وجوب الهَدْي على القارن.
المبحث الرابع: حُكْم الاشتراك في الهَدْي للمتمتع والقارن.
المبحث الخامس: مكان ذبح الهَدْي.
المبحث السادس: زمن ذبح الهَدْي. وفيه مطلبان
المطلب الأول: أول زمن ذبح الهَدْي.
المطلب الثاني: آخِر زمن ذبح الهَدْي.
المبحث السابع: التطوع بالهَدْي.
المبحث الثامن: الأكل من الهَدْي. وفيه ثلاثة مطالب:
المبحث التاسع: مَنْ لم يجد الهَدْي. وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: حُكْم مَنْ لم يَقدر على الهَدْي.
المطلب الثاني: وقت ابتداء صيام الثلاثة أيام في الحج لمن لم يجد الهَدْي.
المطلب الثالث: الوقت المستحب لصيام الأيام الثلاثة في الحج.
المطلب الرابع: صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهَدْي.
المطلب الخامس: مَنْ لم يصم قبل عرفة، هل يَسقط الهَدْي عنه أو يَبقى في ذمته؟
المطلب السادس: حُكْم صيام السبعة أيام بمكة بعد فراغه من الحج.
المطلب السابع: هل يُشترَط أن يكون صيام الأيام العَشَرة متتا بعًا؟
المبحث الأول: تعريف الهَدْي وجنسه:
وسُمي هَدْيًا لأنه يُهْدَى من بهيمة الأنعام (غنم أو بقر أو إبل) لأهل الحَرَم.
والهَدْي هو ذبح المتمتع والقارن يوم النحر أو أيام التشريق، شاة أو سُبْع بدنة أو سُبْع بقرة. فإِنْ نَحَر بدنة أو ذَبَح بقرة فقد زاد خيرًا؛ لعموم قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
فيُستحَب لمَن قَصَد مكة حاجًّا أن يُهْدِي إليها من بهيمة الأنعام؛ لِما روى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: «أَهْدَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةَ بَدَنَةٍ، فَأَمَرَنِي بِلُحُومِهَا فَقَسَمْتُهَا»
(1)
.
قال ابن رُشْد: فَأَمَّا جِنْسُ الْهَدْيِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْهَدْيُ إِلَّا مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ، الَّتِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا
(2)
.
المبحث الثاني: وجوب الهَدْي على المتمتع:
يجب على المتمتع دم نسك إذا لم يكن من حاضري المسجد الحرام، فمَن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ لعموم قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
نُقِل الإجماع على وجوب الهَدْي على المتمتع، إذا لم يكن من أهل الحَرَم
(3)
.
ويُسَن لمَن أهدى شيئًا من الإبل أو البقر أن يُشْعِره ويُقَلِّده.
روى مسلم: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ»
(4)
.
(1)
رواه البخاري (1718).
(2)
«بداية المجتهد» (2/ 138). ونَقَل الإجماع على ذلك: ابن عبد البر في «الاستذكار» (2/ 10) والنووي في «شرح مسلم» (6/ 137)، والمَرْدَاوي في «الإنصاف» (4/ 53)، وغيرهم.
(3)
نَقَل الإجماع على ذلك: ابن المُنذِر في «الإجماع» (ص: 56)، وابن قُدامة في «المغني» (5/ 351)، وابن رُشد في «بداية المجتهد» (2/ 132)، وابن مُفْلِح في «الفروع» (5/ 347) وغيرهم.
(4)
رواه مسلم (1243). قال النووي: أَمَّا الْإِشْعَارُ، فَهُوَ أَنْ يَجْرَحَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْيُمْنَى بِحَرْبَةٍ أَوْ سِكِّينٍ، ثُمَّ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهَا. وَإِشْعَارُ الْهَدْيِ لِكَوْنِهِ عَلَامَةً لَهُ. وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ، فَإِنْ ضَلَّ رَدَّهُ وَاجِدُهُ. «شرح مسلم» (8/ 228) والتقليد: أن يُعَلَّق في عنق الهَدْي شيء كالقلادة؛ ليُعْلَم أنه هَدْي.
المبحث الثالث: وجوب الهَدْي على القارن:
أَجْمَع العلماء على وجوب الهَدْي على القارن الذي ساق الهَدْي معه.
واختلفوا في وجوب الهَدْي على القارن الذي لم يَسُق الهَدْي، على قولين:
القول الأول: أنه يجب. وذلك باتفاق المذاهب الأربعة
(1)
.
واستدلوا بعموم قول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وَجْه الاستدلال: أن القارن مُتمتِّع بالعمرة إلى الحج، فهو يعتمر ويحج في سفر واحد، وقد سَمَّاه الصحابة متمتعًا، فيكون داخلًا في عموم هذه الآية.
واستدلوا بما رُوي: عَنِ الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: أَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا، وَإِنِّي أَسْلَمْتُ، فَأَتَيْتُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ لِي: اجْمَعْهُمَا (بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ) وَاذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ، وَإِنِّي أَهْلَلْتَ بِهِمَا مَعًا، فَقَالَ لِي عُمَرُ رضي الله عنه: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
القول الآخَر: عدم وجوب الهَدْي على القارن. وهو مروي عن الحَسَن بن علي، وطاوس. وهو رواية عند الحنابلة، وداود الظاهري، وابن حزم
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة.
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: ظاهر القرآن أن الدم يجب على المتمتع دون المُفْرِد والقارن، والعلة الموجبة للدم في التمتع هي استمتاعه بمحظورات الإحرام بين الحج والعمرة، والقارن ليس كذلك؛ لأنه سيَبقى مُحْرِمًا من حين يُحْرِم إلى يوم العيد.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 174)، و «مواهب الجليل» (3/ 56)، و «المجموع» (7/ 190)، و «المغني» (5/ 350).
قال ابن حجر: وَفِيهِ أَنَّ الْقَارِنَ يُهْدِي. وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: لَا هَدْيَ عَلَى الْقَارِنِ. «فتح الباري» (4/ 7).
(2)
إسناده صحيح: رواه أبو داود (1799) وسيأتي تفصيله في حُكْم العمرة، إن شاء الله.
(3)
«المغني» (5/ 350)، و «المُحَلَّى» (5/ 177).
ونوقش من وجهين:
الأول: أن القارن تَرَفَّهَ وتَمَتَّع بسقوط أحد السفرين، فلَزِمه دم كالمُتمتِّعِ.
الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَهْدَى عن أزواجه وكُنَّ قارنات، فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ» .
وأما السُّنة، ففي «الصحيحين»: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
…
وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«دَعِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالحَجِّ» فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ. فَأَرْدَفَهَا، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا، فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَا صَوْمٌ
(1)
.
فقد صح أن عائشة حجت قارنة، ولم يجعل في ذلك هديًا ولا صومًا.
ونوقش بأن لفظة: «وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ
…
» مُدرجَة من قول هشام
(2)
.
(1)
رواه البخاري (1786)، ومسلم (1211).
(2)
ومدار هذا الحديث على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، واختُلف عنه:
فرواه يحيى القطان عن هشام به، عند البخاري (1786)، ورواه عَبْدة بن سُليمان وابن نُمَيْر، كلاهما عن هشام به، عند مسلم (1211).
وهذا الحديث فيه فقرتان مدرجتان:
الأولى: «فَقَضَى اللهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا» مدرج من قول عروة.
الأخرى: «وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلَا صَوْمٌ وَلَا صَدَقَةٌ» مدرج من قول هشام.
وقد صَرَّح بهذا الإدراج في عدة روايات، كرواية أبي أسامة والحَمَّادَين عن هشام، عند البخاري (317) وأبي داود (1778) وفيها: قَالَ هِشَامٌ: «وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلَا صَوْمٌ وَلَا صَدَقَةٌ» وكرواية وَكيع عن هشام، عند مسلم (1211) وفيها: قَالَ عُرْوَةُ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ قَضَى اللهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا. قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلَا صِيَامٌ وَلَا صَدَقَةٌ.
قال ابن بَطَّال: وقوله: (فَقَضَى اللهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَوْمٌ وَلَا صَدَقَةٌ) ليس من لفظ عائشة، وإنما هو لفظ هشام، لم يَذكر ذلك أحد غيره، ولا تقول به الفقهاء. «شرح البخاري» (4/ 444)، ورَجَّح ذلك النووي في «شرح مسلم» (8/ 145) وابن حجر في «فتح الباري» (3/ 610)، وابن القيم في «حاشيته علي أبي داود» (5/ 136).
والراجح: القول بوجوب الهَدْي على القارن؛ لقوة أدلته، وهو قول جماهير العلماء، ووَصْف القول بعدم وجوب الهَدْي على القارن بالشذوذ.
المبحث الرابع: حُكْم الاشتراك في الهَدْي للمتمتع والقارن:
اتَّفَق العلماء على أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد
(1)
.
واختلفوا في إجزاء البدنة أو البقرة عن سبعة، على قولين:
القول الأول: يَجوز الاشتراك في الهَدْي في الإبل والبقر، فتجزئ الواحدة من الإبل أو البقر عن سبعة أشخاص. وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة
(2)
.
قَالَ جَابِرٌ: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ
(3)
.
وَعَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ المُتْعَةِ، فَأَمَرَنِي بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الهَدْيِ فَقَالَ:«فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ»
(4)
.
وَجْه الدلالة: (أو شِرْك في دم) أي: مشاركة مع غيره في جزء من بعير بمقدار السُّبع.
القول الآخَر: أن الواحدة من الإبل لا تجزئ إلا عن واحد. وبه قال المالكية
(5)
.
واستدلوا بحديث عائشة قالت: «ذَبَحَ عَنَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حَجِّنَا (بَقَرَةً بَقَرَةً)
(6)
.
(1)
نَقَل الإجماع على ذلك: ابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 196) وابن عبد البر في «التمهيد» (12/ 140)، والنووي في «شرح مسلم» (9/ 67).
(2)
«بدائع الصنائع» (5/ 70)، و «الأم» (2/ 222)، و «الحاوي» (15/ 122)، و «المغني» (9/ 458).
(3)
رواه مسلم (1318).
(4)
رواه البخاري (1688).
(5)
«المُدوَّنة» (2/ 469).
(6)
شاذ بهذا اللفظ، ومداره على القاسم بن محمد عن عائشة، واختُلف عنه:
فرواه عَمَّار الدُّهْنِيّ، عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم به، عند النَّسَائي (4115) وهو شاذ مُخالِف لِما رواه ابن عُيينة، عن عبد الرحمن، به عند البخاري (294)، ومسلم (1211) بلفظ: قَالَتْ: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.
ومما يدل على شذوذ هذه اللفظة: ما روته عَمْرة عن عائشة قالت: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ. أخرجه البخاري (1709)، ومسلم (1211).
قال الذهبي: هذا حديث غريب. «ميزان الاعتدال» (1/ 210).
واستدلوا بالقياس، فكما أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد، فكذا الواحدة من الإبل أو البقر لا تجزئ إلا عن واحد.
ونوقش بأنه لا قياس مع النص، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. والله أعلم.
المبحث الخامس: مكان ذبح الهَدْي:
نَقَل الإجماع غير واحد على أن مكان نحر الهَدْي هو الحَرَم
(1)
.
يجب أن يكون ذبح الهَدْي في الحَرَم، ولا يختص بمِنًى، ولكن الأفضل أن يكون بمِنًى. وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمعقول:
أما الكتاب، فقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وفُسِّر محله بأنه الحَرَم عند القدرة على إيصاله. وقول الله تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، ومعلوم أنه لم يُرِد الكعبة بعينها، وإنما أراد الحرم. فهاتان الآيتان تدلان على أن مكان النحر هو الحَرَم.
وأما السُّنة، فعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«نَحَرْتُ هَاهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ»
(3)
.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم نَحَر هديه في مِنًى، وقال:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» .
وَجْه الدلالة: أن نَحْر الهَدْي لا يُجْزِئ إلا بِمِنًى أو بمكة
(4)
.
وأما المعقول، ف: الْهَدْيُ سُمِّيَ هَدْيًا لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْهَدِيَّةِ الَّتِي يَبْعَثُهَا الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ، وَالْهَدِيَّةُ لَا تَكُونُ هَدِيَّةً إِلَّا إِذَا بَعَثَهَا الْمُهْدِي إِلَى دَارِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِجَعْلِ مَوْضِعِ الْهَدْيِ هُوَ الْحَرَمُ
(5)
.
(1)
نَقَله ابن رُشْد في «بداية المجتهد» (1/ 310)، والماوردي في «الحاوي» (4/ 230)، والنووي في «المجموع» (8/ 145).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 224)، و «المجموع» (8/ 187 - 191)، و «الإنصاف» (3/ 376).
(3)
رواه مسلم (1297).
(4)
قال ابن حزم: وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُهْدِيَهُ وَيَنْحَرَهُ إلَّا بِمِنًى أَوْ بِمَكَّةَ. «المُحَلَّى» (5/ 158).
(5)
«تفسير الرازي» (5/ 306)، و «بدائع الصنائع» (2/ 200).
المبحث السادس: زمن ذبح الهَدْي:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أول زمن ذبح الهَدْي:
اختَلف العلماء في تحديد ابتداء وقت ذبح هَدْي التمتع والقِران، على قولين:
القول الأول: يبتدئ وقت ذبح الهَدْي يوم النحر، ولا يجزئ قبل ذلك. وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وقول عند الشافعية، والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة.
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: معلوم أن الإحلال لا يكون إلا يوم النحر، وحَلْق الرأس معلق ببلوغ الهَدْي مَحِله، ولو جاز ذبح الهَدْي قبل يوم النحر، لجاز الحَلْق، ومعلوم أن حلق الرأس لا يَجوز قبل يوم النحر.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28، 29].
وَجْه الدلالة: إذا كان قضاء التَّفَث وطواف الإفاضة يختصان بيوم النحر، فكذا الذبح؛ لذا يُسَمَّى يومَ النحر، أي: الذبح.
وأما السُّنة، فَعَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟! قَالَ:«إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم عَلَّق الحِل على النحر، ومعلوم أن الحِل لا يكون إلا يوم النحر.
القول الآخَر: جواز نحر هَدْي التمتع والقِران قبل يوم النحر وبعد عمرة التمتع. وهو
(1)
«المبسوط» (4/ 76)، و «مواهب الجليل» (3/ 247)، و «الأم» (2/ 239)، و «الشرح الكبير» (3/ 245).
(2)
رواه البخاري (1566)، ومسلم (1229).
قول عند الشافعية، وقول عند الحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة والقياس:
أما القرآن، فاستدلوا بقوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: دلت الآية على جواز ذبح هَدْي المتعة بعد الإحرام بالعمرة؛ إذ هَدْي التمتع له سببان: العمرة والحج، فإذا أَحْرَم بالعمرة جاز الذبح عند وجود السبب.
ونوقش بأن مجرد فَهْم الآية باجتهاد عَارَض نصًّا، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينحروا الهَدْي إلا في يوم النحر، ولا اجتهاد مع النص، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المُبيِّن لِما أُنْزِلَ إليه، وهو الذي يُفسِّر ذلك بنحره يوم العيد.
وأما السُّنة، فَعَنْ جَابِرِ يُحَدِّثُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«فَأَمَرَنَا إِذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نُهْدِيَ، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ مِنَّا فِي الْهَدِيَّةِ، وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ»
(2)
.
في الحديث جواز ذبح هَدْي التمتع بعد التحلل من العمرة، وقبل الإحرام بالحج
(3)
.
ونوقش بأن لفظة: «وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ» شاذة؛ فمدار الحديث على محمد بن بكر؛ فقد رواه الأئمة الثقات كمالك والليث وغيرهما بدون هذه الزيادة.
وأما القياس، فإنه يَجوز ذبح الهَدْي من بعد الإحرام بالعمرة؛ قياسًا على الصيام المذكور في قوله تعالى:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] لمَن لم يجد الهَدْي، فيَجوز له أن يصوم بعد العمرة وقبل يوم النحر؛ لأن الصيام بدل، والبدل له حُكْم المُبْدَل منه
(4)
.
واعتُرض عليه من وجهين:
الأول: أن هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه لا قياس مع وجود النص، والنصوص متكاثرة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يَنحروا إلا يوم العيد.
(1)
واختلفوا في أول وقت يَجوز فيه النحر: فقيل: يَجوز بعد إحرام العمرة. وقال به بعض الشافعية، وهو قول عند الحنابلة، كما في «نهاية المحتاج» (3/ 327)، و «الإنصاف» (3/ 327) وقيل: بعد الإحلال من العمرة. وقيل: من بعد الإحرام للحج، كما في «روضة الطالبين» (3/ 52).
(2)
أخرجه مسلم (1335).
(3)
«شرح النووي» (9/ 68).
(4)
«الفروع» (3/ 313).
الثاني: أن هذا القياس غير صحيح؛ وذلك أن الهَدْي يختص بمكان فاختص بزمان، كالرمي، بخلاف الصوم فإنه يصام في الحِل والحَرَم. والبدل يخالف المُبْدَل هنا؛ لأن مكان الذبح مكة، ومكان الصوم ثلاثة في الحَرَم وسبعة بعد الرجوع إلى الأهل
(1)
.
والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء، أي: عدم جواز نحر الهَدْي إلا يوم النحر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وعامة أصحابه لم يَنحروا هَدْيهم إلا يوم النحر، وقد قَدِموا وهم متمتعون في اليوم الرابع من ذي الحجة، وبقيت الغنم والإبل التي معهم موقوفة حتى جاء يوم النحر. فلو كان ذبحها جائزًا قبل ذلك، لبادر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليه في الأيام الأربعة، التي أقاموها قبل خروجهم إلى عرفات؛ ولا سِيَّما والمُبادَرة إلى إبراء الذِّمة أَوْلَى مِنْ التأخير؛ لأن الناس بحاجة إلى اللحوم في ذلك الوقت.
المطلب الثاني: آخِر زمن الذبح:
اتَّفَق العلماء على أن مَنْ نَحَر هَدْيه يوم النحر قبل غروب الشمس، أنه يجزيه، وأنه بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق- يكون قد خرج وقت نحر الهَدْي.
واختَلف أهل العلم في آخِر زمن الذبح على أقوال، أشهرها قولان: هل هي يوم العيد ويومان بعده؟ أو هي يوم العيد وثلاثة أيام بعده؟
القول الأول: أن أيام النحر أربعة: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، فينتهي بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق. وهذا مذهب الشافعي، وقول للحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالقرآن والسُّنة:
أما القرآن، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] والأيام المعلومات هي يوم العيد وأيام التشريق التي فيها ذِكر الله وذبح بهيمة الأنعام.
وأما السُّنة، فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»
(3)
وإذا كانت
(1)
«أضواء البيان» (5/ 545).
(2)
«الأم» (3/ 588)، و «الحاوي» (4/ 959)، و «الإنصاف» (4/ 63).
(3)
مسلم (1160). ورُوي أيضًا عن كعب بن مالك عند مسلم (1161).
أيام التشريق الثلاثة أيام أكل وشُرْب، ففيها ذبح للهَدْي والأضاحي.
القول الآخَر: أن أيام النحر ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده، فينتهي وقت النحر بغروب شمس ثاني أيام التشريق. وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بأن الأيام المعلومات هي يوم النحر ويومان بعده، ويدل على ذلك أن قوله تعالى:{فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] جَمْعُ قلة، لكن المُتيقَّن منه الثلاثة، وما بَعْد الثلاثة غَيْر مُتيقَّن فلا يُعْمَل به
(2)
.
(3)
.
وفي «الصحيحين» : عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ، فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»
(4)
.
وَجْه الدلالة ما ذَكَره الباجي بقوله: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْهَا فِي أَيَّامِ الذَّبْحِ، فَلَوْ كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْهَا، لَكَانَ قَدْ حَرُمَ عَلَى مَنْ ذَبَحَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ
(5)
.
ونوقش بأن هذا الحديث منسوخ، وفيه حث على الصدقة عند قلة لحوم الأضاحي، وعدم التأخر في الذبح إلى آخِر أيام التشريق، وعدم الادخار.
الراجح: أن أيام النحر أربعة، وهي يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ويَجوز الذبح ليالي أيام التشريق كالنهار، والله أعلم.
(1)
«بدائع الصنائع» (5/ 65)، و «المُدوَّنة» (1/ 550)، و «التمهيد» (23/ 196)، و «المغني» (9/ 358).
(2)
«تفسير القرطبي» (12/ 43).
(3)
«زاد المعاد» (2/ 291). قال الشافعي: «فَلَمَّا لَمْ يَحْظُرْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُضَحُّوا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، لَمْ نَجِدِ الْيَوْمَ الثَّالِثَ مُفَارِقًا لِلْيَوْمَيْنِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَرْمِي فِيهِمَا» . «الأم» (3/ 589).
(4)
البخاري (5569) ومسلم (2029).
(5)
«المُنتقَى» (3/ 99)، و «المغني» (5/ 300).
المبحث السابع: التطوع بالهَدْي:
يُسَن التطوع بالهَدْي للمُفْرِد والمتمتع والقارن، وللحاج ولغير الحاج.
فعن جابر رضي الله عنهما في حديثه الطويل، في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:«ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا، فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا» (3).
وَجْه الدلالة: أنه معلوم أن ما زاد على الواحدة منها تَطوُّع.
قال القَرَافي: ولا أَعْلَم في التطوع بالهَدْي خلافًا
(1)
.
المبحث الثامن: الأكل من الهَدْي:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأكل من هَدْي التطوع:
يُسَن لمَن أَهْدَى هديًا تطوعًا أن يأكل منه إذا بَلَغ مَحِله في الحَرَم؛ لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
وعن جابر رضي الله عنهما في حديثه الطويل، في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:«ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا» .
وما زاد على الواحدة منها تطوع، وقد أَكَلا منها وشَرِبا من مرقها جميعًا.
وأَجْمَع العلماءُ على أن الأكل من هَدْي التطوعِ وأُضحيَّته سُنة، ليس بواجب
(2)
.
المطلب الثاني: أكل المهدي من هَدْي التمتع والقِران:
اختَلف أهل العلم في حُكْم أكل المُهْدِي من هَدْي التمتع والقِران على قولين:
القول الأول: يُستحَب أكل المُهْدِي من هَدْي التمتع والقِران؛ لعموم قوله تعالى:
(1)
«الذخيرة» (3/ 354).
(2)
«شرح مسلم» (8/ 192)، ونَقَله ابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 113)، وابن حجر في «الفتح» (3/ 556).
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة
(1)
.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ذَبَح عنهن صلى الله عليه وسلم بقرًا، ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات، وعائشة منهن قارنة، وقد أكلن جميعًا مما ذُبح عنهن في تمتعهن وقِرانهن، بأمره صلى الله عليه وسلم. وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هَدْي التمتع والقِران.
القول الآخَر: أنه ليس للمُهْدِي أن يأكل من هَدْي التمتع والقِران. وبه قال الشافعية
(3)
.
واستدلوا بما رُوي عَنْ نَاجِيَةَ الأَسْلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ، فَقَالَ:«إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَانْحَرْهُ، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ»
(4)
.
وفي رواية: «وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ. أَوْ قَالَ: مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ»
(5)
.
المطلب الثالث: الأكل من هَدْي الكفارات:
لا يَجوز الأكل من هَدْي الكفارات الذي وجب لفعل محظور؛ لأنها دماء كفارات، يجب التصدق بها على الفقراء، وفي الأكل منها تفويت لِحَقِّهم. وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(6)
.
(1)
«البحر الرائق» (3/ 76)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 89)، و «الإنصاف» (4/ 75).
(2)
رواه البخاري (1709)، ومسلم (1211).
(3)
«الأم» (2/ 282)، و «الحاوي» (4/ 379).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (1762) من طريق هشام، عن أبيه، عن ناجية، به.
(5)
أخرجه مسلم (1325). قال ابن عبد البر: (قَوْلُهُ): (وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ) لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ وَسِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيه عَنْ نَاجِيَةَ، وَهَذَا عِنْدَنَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ذُؤَيْبٍ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَهْلُ رُفْقَتِهِ وَغَيْرُهُمْ فِي ذلك سَوَاءٌ. «التمهيد» (22/ 267).
(6)
«فتح القدير» (3/ 161)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 89)، و «المجموع» (8/ 417)، و «الإنصاف» (4/ 75).
المبحث التاسع: مَنْ لم يجد الهَدْي: وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: حُكْم مَنْ لم يَقدر على الهَدْي:
الواجب على المتمتع أو القارن هو ما استيسر من الهَدْي، شاة أو سُبْع بدنة. فإِنْ عَجَز أحدهما عن الهَدْي، صام عَشَرة أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «
…
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ».
قال ابن قُدامة: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ يَنْتَقِلُ إِلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ
(1)
.
وأَجْمَع العلماء على جواز صيام يوم عرفة لمَن لم يجد الهَدْي
(2)
.
المطلب الثاني: وَقْت ابتداء صيام الثلاثة أيام في الحج لمن لم يجد الهَدْي.
أَجْمَع العلماء على إجزاء الصيام، إذا صام بعد إحرامه بالحج، وقبل يوم النحر
(3)
.
واختلفوا في وقت ابتداء صيام الثلاثة أيام في الحج على ثلاثة أقوال
(4)
:
القول الأول: المتمتع إذا لم يجد الهَدْي له أن يبتدئ صيام الثلاثة إذا انتهى من عمرته. وكذا القارن إذا انتهى من طواف القدوم والسعي، فله أن يبتدئ الصيام. وهذا مذهب
(1)
«المغني» (5/ 360). ونَقَل الإجماع على ذلك: ابن المنذر في «الإجماع» (ص: 56)، وابن عبد البر في «التمهيد» (8/ 349)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 132)، والقرطبي في «تفسيره» (2/ 401).
(2)
«تفسير القرطبي» (2/ 391). وقال ابن عبد البر: «وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ جَائِزٌ صِيَامُهُ لِلْمُتَمَتِّعِ، إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا» . «التمهيد» (21/ 164).
(3)
قال الماوردي: أَنْ يَصُومَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَيُجْزِيهِ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ. «الحاوى» (4/ 108).
وقال ابن عبد البر: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ إِنْ صَامَهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَدْ أَتَى بِمَا يَلْزَمُهُ. «الاستذكار» (4/ 413).
وقال ابن تيمية: فَأَمَّا الصَّوْمُ بَعْدَ إِحْرَامِ الْحَجِّ، فَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ. «شرح العمدة» (2/ 337).
(4)
قال الكاساني: فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ، بِلَا خِلَافٍ. «بدائع الصنائع» (2/ 173).
الحنفية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمعقول:
أما الكتاب، فإن المتمتع إذا انتهى من عمرته، والقارن إذا انتهى من طواف القدوم والسعي، فصام، دخل في عموم قوله تعالى:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196].
وأما السُّنة، فعن جابر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ» .
وَجْه الدلالة: أنه يدل على جواز الصيام من الإحرام بالعمرة؛ وذلك لأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة.
وأما دليلهم من المعقول، فما قاله الكاساني: رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ، فَلَا يُمْكِنُهُ صِيَامُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ قَدْ نُهِيَ عَنْ الصِّيَامِ فِيهَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الصَّوْمِ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَجِّ
(2)
.
القول الثاني: لا يَجوز صيام الثلاثة أيام إلا بعد التلبس بإحرام الحج. وهو قول زُفَر من الحنفية، ومذهب المالكية والشافعية
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والمعقول:
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196].
وهذا نَصٌّ في وجوب صيامها في الحج، أي: بعد التلبس بإحرام الحج يوم التروية أو يوم عرفة، ولا يصام قبل ذلك؛ لأنه لا يكون صائمًا للثلاثة الأيام في الحج.
وأما دليلهم من المعقول، فأمران:
الأول: أن الله عَلَّق جواز الصيام بعدم الهَدْي، ولا نَعْلَم عَدَمه إلا قبل الإحرام بالحج؛ لأنه قد يُيَسَّر وجوده قبل ذلك.
الثاني: أنه لا يجوز تقديم المُبْدَل (الهَدْي) فكذا لا يَجوز تقديم البدل وهو الصيام.
(1)
«المبسوط» (4/ 181)، و «المغني» (5/ 361).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 173).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 173)، و «المُنتقَى» (2/ 230)، و «الحاوي» (4/ 53).
ونوقش بأن هذا القياس مع الفارق؛ لأنه لا خلاف في جواز الصوم قبل النحر، ولا يجوز ذبح الهَدْي قبل يوم النحر
(1)
.
القول الثالث: أنه يَجوز صيام الثلاثة أيام قبل الإحرام بالعمرة. وهو قول عطاء ومجاهد وطاوس، وأحمد في رواية
(2)
.
وهذا قول شاذ يخالف الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة
(3)
.
والراجح: أن المتمتع إذا لم يجد الهَدْي له أن يبتدئ صيام الثلاثة إذا انتهى من عمرته. وكذا القارن إذا انتهى من طواف القدوم والسعي، فله أن يبتدئ الصيام. والله أعلم.
المطلب الثالث: الوقت المستحب لصيام الأيام الثلاثة في الحج:
اختَلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الوقت المختار للصيام هو أن تكون الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة. وبه قال الشافعية، ورُوي عن مالك، وهو قول للحنابلة
(4)
.
واستدلوا بما رَوَى مالك عن عائشة قالت: «الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، لِمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، مَا بَيْنَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى»
(5)
.
واستدلوا بأنه يُستحب فطر يوم عرفة للتَّقَوِّي على الدعاء، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
القول الآخَر: أن المستحب أن يصوم قبل التروية يومًا ويوم التروية ويوم عرفة. وبه قال الحنفية والمالكية والحنابلة
(6)
.
الراجح: المتمتع إذا انتهى من عمرته والقارن إذا انتهى من طواف القدوم والسعي،
(1)
وقال القاضي: لا خلاف أن الصوم يتعين قبل يوم النحر، بحيث لا يَجوز تأخيره إليه، بخلاف الهَدْي. «الاستذكار» (4/ 414).
(2)
«الشرح الكبير» (3/ 334).
(3)
قال الكاساني: وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ، بِلَا خِلَافٍ. «بدائع الصنائع» (2/ 173).
(4)
«المجموع» (7/ 185)، و «تفسير القرطبي» (2/ 399)، و «المغني» (3/ 417).
(5)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (1281) ورُوي مثله عن ابن عمر عند البخاري (1999).
(6)
«البناية» (3/ 635)، و «الفواكه الدواني» (1/ 433)، و «المغني» (3/ 478).
فالأفضل أن يُقَدِّما صيام الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة؛ ليكونا يومَ عرفة مُفطرَين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة، ولأن الفطر في هذا اليوم أقوى لهما على العبادة، وأنشط لهما على الدعاء.
المطلب الرابع: صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهَدْي:
اختَلَف العلماء في تأخير الصيام عن يوم النحر لمن لم يجد الهَدْي، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز صوم أيام التشريق لمن لم يجد الهَدْي؛ لأن أيام التشريق أيام للحج، ففيها رمي الجمرات، فيَدخل في عموم قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} .
وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، قَالَا:«لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ» .
وهذا مذهب المالكية، وقول للشافعية، والمشهور عن الحنابلة
(1)
.
القول الثاني: أن مَنْ لم يجد الهَدْي، إذا انقضى يوم عرفة، ولم يكن قد صام الثلاثة أيام قبل يوم النحر، فعليه دم ولا يجزئه غيره، وليس له أن يصوم أيام التشريق ولا بعدها. وهو مذهب الحنفية، ورواية عن الحنابلة
(2)
.
القول الثالث: ذهب ابن حزم إلى أنه ليس له أن يصوم أيام التشريق؛ لأنها أيام أكل، ويصوم بعدها، بشرط أن يُؤخِّر طواف الإفاضة حتى يُتِم صيام الأيام الثلاثة؛ لأنه ما زال في الحج، فيَدخل في عموم الآية، فإن لم يَفعل حتى طاف فلا يصوم ويستغفر الله
(3)
.
والراجح: يَجوز صوم أيام التشريق لمن لم يجد الهَدْي.
المطلب الخامس: مَنْ لم يصم قبل عرفة، هل يَسقط الهَدْي عنه،
أو يَبقى في ذمته؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن مَنْ لم يصم الأيام الثلاثة في الحج، فإنه لا يَسقط الصيام عنه، ويَلزمه بعد ذلك القضاء. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(4)
.
(1)
«الكافي» (1/ 346)، و «المُدوَّنة» (1/ 414)، و «الحاوي» (3/ 455)، و «الإنصاف» (3/ 249).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 173)، و «المغني» (3/ 419).
(3)
«المُحَلَّى» (5/ 145).
(4)
«الذخيرة» (3/ 351)، و «المجموع» (7/ 186)، و «الإنصاف» (3/ 364).
المطلب السادس: حُكْم صيام السبعة أيام بمكة بعد فراغه من الحج:
اتَّفَق العلماء على أنه لا يَجوز صيام السبعة أيام قبل الفراغ من أفعال الحج.
ووقع الخلاف بينهم في حكم صومها بعد الفراغ من أفعال الحج بمكة، على قولين:
القول الأول: يجوز صيام السبعة أيام بمكة بعد فراغه من الحج. وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وهو قول للشافعي، والحنابلة
(1)
.
القول الآخَر: لا يجوز صيام الأيام السبعة إلا بعد رجوع الحاج إلى أهله
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ».
ونوقش هذا الاستدلال بما قاله ابن قُدامة: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَوَّزَ لَهُ تَأْخِيرَ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْإِجْزَاءَ قَبْلَهُ، كَتَأْخِيرِ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وُجِدَ مِنْ أَهْلِهِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، فَأَجْزَأَهُ، كَصَوْمِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ
(3)
.
فالحاصل: أن الأفضل أن يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله؛ رخصة وتخفيفًا ورفقًا به، ويَجوز صيامها بمكة بعد فراغه من الحج أو في الطريق قبل الوصول؛ لقوله تعالى:{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وقيل: المراد بالرجوع إلى الأهل: الفراغ من الحج؛ لأن الفراغ منه سبب الرجوع إلى أهله.
المطلب السابع: هل يُشترَط أن يكون صيام الأيام العَشَرة متتا بعًا؟
يَجوز صوم الثلاثة أيام في الحج، والسبعة إذا رجع إلى أهله، متتابعة ومتفرقة؛ لعموم قوله تعالى:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] فالله أَطْلَق الصيام ولم يَشترط فيه التتابع، وقد نُقِل الإجماع على ذلك
(4)
.
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 173)، و «المُدوَّنة» (2/ 415)، و «المجموع» (7/ 187)، «المبدع» (3/ 176).
(2)
وهو قول للشافعية «الحاوي» (4/ 57)، و «المجموع» (7/ 161).
(3)
«المغني» (5/ 362).
(4)
قال ابن قُدامة: وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. «المغني» (5/ 363).
الفصل الثاني
النوازل في الهَدْي
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: نَقْل الهَدْي إلى خارج الحَرَم. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نَقْل الدم الواجب إذا عُدِم المساكين في الحَرَم.
المطلب الثاني: ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع.
المبحث الثاني: ما يتعلق بالنيابة في الهَدْي. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: جواز النيابة في نحر الهَدْي.
المطلب الثاني: شراء كروت وبطاقات الهَدْي.
المبحث الثالث: حُكْم ذبح الهَدْي وتَرْكه.
المبحث الرابع: ذَبْح الهَدْي خارج الحَرَم في فِجاج مكة.
المبحث الخامس: الأضحية أو الهَدْي بمبتور الذَّنَب أو الأَلْيَة.
المبحث السادس: شراء الشركات جلود الهَدْي والأضاحي.
المبحث السابع: الاستعاضة بثمن الهَدْي.
المبحث الأول: نَقْل الهَدْي إلى خارج الحَرَم:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نَقْل الدم الواجب إذا عُدم المساكين في الحَرَم:
مما لا شك فيه أن أعداد الحُجاج قد زادت بصورة غير مسبوقة، فتُذبح الملايين من الهَدْي والدم الواجب، وعدد فقراء الحرم قليل، فإذا أُعطيَ فقراء الحَرَم من هذه اللحوم حاجتهم، وهم ليسوا بالكثير، فستَبقى الملايين من الهَدْي، فهل يَجوز نقل المتبقي من الهَدْي والدم الواجب إلى خارج الحَرَم أم لا؟
لأهل العلم في ذلك قولان:
القول الأول: يَجوز تفرقة لحم الهَدْي خارج الحَرَم. وبه قال الحنفية والمالكية
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فاستدلوا بقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
فلم يَخص فقيرًا دون فقير، فجاز التصدق على كل فقير نظرًا لإطلاق النص.
ونوقش بأن هذا النص المُطْلَق مُقيَّد بالحَرَم؛ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
وأجيب بأن محلها إلى البيت في الذبح، أما التوزيع فإن النص لم يُحدِّد هَدْي التمتع ولا القِران، فيبقى مطلقًا؛ ولذا يَجوز توزيع هَدْي التمتع والقِران خارج الحَرَم.
وأما السُّنة، فعن جابر قال: كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى، فَأَرْخَصَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«كُلُوا وَتَزَوَّدُوا» ولا شك أن التزود يكون للسفر، وهو خارج الحَرَم. فدل ذلك على جواز نقل لحوم الهَدْي خارج الحَرَم.
القول الآخَر: لا يَجوز تفرقة لحم الهَدْي خارج الحَرَم. وبه قال الشافعية والحنابلة
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وقوله تعالى: {مَحِلُّهَا إِلَى
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 174)، و «المُنتقَى» (3/ 14)، و «مواهب الجليل» (3/ 193).
(2)
«المجموع» (7/ 498)، و «مَطالب أُولِي النُّهَى» (2/ 365).
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33].
ولأن المعقول مِنْ ذبحه بالحَرَم التوسعةُ على مساكينه، وهذا لا يَحصل بإعطاء غيرهم، ولأنه نُسُك يَختص بالحَرَم، فكان جميعه مختصًّا به، كالطواف
(1)
.
ونوقش بأن محل هذا إذا لم يُعْطَ فقراء الحَرَم، أما إذا أُعْطُوا حاجتهم من هذه اللحوم، فستَبقى الملايين من الهَدْي، فيَجوز إعطاء غيرهم؛ لأنه إذا كان يَجوز نقل الزكاة بالإجماع إذا استغنى أهل بلد عنها، فكذا يَجوز نقل الهَدْي إذا استغنى أهل الحَرَم عنه.
الراجح: أنه يَجوز نقل الهَدْي خارج الحَرَم إذا عُدم المساكين، أو كان زائدًا عن حاجة مساكين الحَرَم، حيث تَفُوق كمية اللحوم حاجة المساكين، فتتكدس كميات كبيرة من اللحوم، لا يَنتفع بها أحد، بل على العكس، فإنها تكون عبئًا على الجهات المسئولة عن الحج، وذلك بما تسببه من أمراض وتلويث للبيئة من جَرَّاء تَعفُّن هذه اللحوم المتكدسة وصعوبة التخلص منها سريعًا.
فلا أظن عالمًا بالشريعة وحِكمها وأسرارها يقول بمنع نقل ما زاد من اللحوم على حاجة مساكين الحرم إلى خارجه، ولا سيما إذا كان مآلها الترك إلى أن تَفسد ثم تُرمَى؛ فإن ذلك من إضاعة المال الذي نهى عنه الله ورسوله
(2)
.
وقد وردت أدلة تدل على أن جزاء الصيد وفدية الأذى مختصة بفقراء الحَرَم، فتُقيَّد بهم، وأما لحوم التمتع والقِران فلم يَرِد نص يُقيِّد توزيعها بفقراء الحَرَم، فيَجوز توزيعها
المطلب الثاني: ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع:
النوع الأول: هَدْي التمتع والقِران، فهذا يَجوز النقل منه إلى خارج الحَرَم، وقد نَقَل الصحابة لحوم هداياهم إلى المدينة؛ فَعَنْ جَابِرِ يَقُولُ: كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى، فَأَرْخَصَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«كُلُوا وَتَزَوَّدُوا» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: قَالَ جَابِرٌ: «حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ» ؟ قَالَ: «نَعَمْ»
(3)
.
(1)
«المغني» (5/ 451).
(2)
«الزحام وأثره في النسك» لخالد المصلح (ص: 83).
(3)
صحيح دون لفظة (نَعَمْ) فهي شاذة، والصواب (لا):
فرواه محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جُريج قال: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: قَالَ جَابِرٌ: حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. أخرجه مسلم (1972).
وخالف محمدَ بن حاتم مُسَدَّدٌ عند البخاري (1719) والإمام أحمد في «المسند» (14412) وعمرو بن علي عند النَّسَائي، كما في «الفتح» (9/ 455).
فهؤلاء ثلاثة من الثقات الحفاظ، خالفوا محمد بن حاتم فقالوا:(لا) مكان (نعم) ولا شك أن روايتهم أرجح، وهو الذي جَزَم به الحافظ ابن حجر
وَعَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَصْلِحْ هَذَا اللَّحْمَ» قَالَ: فَأَصْلَحْتُهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ مِنْهُ حَتَّى بَلَغَ الْمَدِينَةَ
(1)
.
النوع الثاني: ما يذبحه الحاج داخل الحَرَم لارتكاب محظور أو تَرْك واجب، أو جزاء لصيد أو فدية لإزالة أذى. فهذا النوع لا يَجوز نقل شيء منه؛ لأنه كله لفقراء الحَرَم.
النوع الثالث: ما ذُبِح خارج الحَرَم من هَدْي الإحصار. فهذا يُوزَّع حيث يُذبَح، ولا مانع من نقله خارج الحَرَم.
المبحث الثاني: ما يتعلق بالنيابة في الهَدْي: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: جواز النيابة في نحر الهَدْي:
روى مسلم عن جابر قال: «ثُمَّ انْصَرَفَ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ»
(2)
.
(1)
صحيح دون لفظة (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) فهي شاذة:
ومداره على يحيى، عن الزُّبَيْدِيّ، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن أبيه، عن ثَوْبان. واختُلف عنه.
فرواه أبو مُسْهِر عن يحيى بن حمزة، به، فزاد فيه (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) عند مسلم (1975).
وخالف أبا مُسْهِر سائرُ الرواة عن يحيى بن حمزة، فلم يَذكروها، منهم: محمد بن المُبارَك عند مسلم (1975)، وعبد الله بن يوسف التِّنِّيسي عند أبي عَوَانة (7872)، ومَرْوان بن محمد عند الدارمي (2003) وغيرهم، بدون قوله:(فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ).
ومما يدل على شذوذها: ما رواه مسلم (1975) من طريق أبي الزاهرية، عَنْ جُبَيْرِ ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِيَّتَهُ، ثُمَّ قَالَ:«يَا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ» فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ.
قال البيهقي: رواه مسلم في «الصحيح» عن أبي مُسْهِر، وقال فيه:(فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ) ولا أَراها محفوظة، ورواه عبد الله الدارميّ، عن محمد بن المُبارَك دون هذه اللفظة. «السُّنن الكبرى» (19/ 352).
(2)
وقد اختَلفتْ روايات الأحاديث في عدد البُدن التي نحرها النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة يوم النحر.
فمدار الحديث على جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، به.
فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَحَر بيده الشريفة ثلاثًا وستين بدنة، فقد روى حاتم بن إسماعيل عند مسلم (1218) ويحيى القطان عند ابن الجارود (465)، ويزيد بن الهاد عند النَّسَائي في «الكبرى» (4332)، =
قال النووي: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ ذَبْحِ الْمُهْدِي هَدْيَهُ بِنَفْسِهِ، وَجَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، إِذَا كَانَ النَّائِبُ مُسْلِمًا
(1)
.
المطلب الثاني: شراء كروت وبطاقات الهَدْي:
هي في حقيقتها شراء للهَدْي مع التوكيل بذبحه وتوزيعه. ويَلجأ الحاج لشراء كروت وبطاقات الهَدْي؛ لصعوبة شراء الهَدْي وذبحه وتوزيعه.
وهنا إشكال، وهو جهالة المبيع، فالمعقود عليه فيه جهالة واضحة، فالهَدْي لم يوصف بسوى أنه هَدْي مجزئ شرعًا. وهذا وَصْف لا يكفي في انتفاء الجهالة؛ إذ الشياه تتفاوت في أوصافها المؤثرة في الثمن تفاوتًا كبيرًا.
وقد قال ابن قُدامة: وَإِنْ بَاعَهُ شَاةً مِنَ الْقَطِيعِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ شِيَاهَ الْقَطِيعِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةِ الْقِيَمِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى التَّنَازُعِ
(2)
.
=ووُهَيْب بن خالد عند البيهقي (5/ 238) جمعيهم عن جعفر به، فنَحَر ثلاثًا وستين بيده.
وخالفهم ابن عُيينة، وفيه:«فَنَحَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِتًّا وَسِتِّينَ بَدَنَةً» أخرجه الحُميدي (1306).
وهو شاذ بهذا اللفظ؛ لمخالفة ابن عُيينة في هذا العدد من الثقات الأثبات (كالقطان ويزيد وحاتم ووُهَيْب) فالمحفوظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَحَر بيده الشريفة ثلاثًا وستين بدنة.
وهنا إشكال ثانٍ في عدد البدن التي نَحَرها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَحَر بيده ثلاثين بدنة.
فَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَحَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ، فَنَحَرَ ثَلَاثِينَ بِيَدِهِ، وَأَمَرَنِي فَنَحَرْتُ سَائِرَهَا.
منكر بهذا اللفظ، أخرجه أحمد (1374)، وفي إسناده ابن إسحاق، لا يُحتجّ به إذا انفرد، فكيف إذا خالف الثقات؟! وقد خالف هنا، حيث ذَكَر أن عدد ما نَحَر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون، والمحفوظ ما رواه مسلم عن جابر، وفيه: فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ. وكذا رَجَّح ابن حجر في «فتح الباري» (3/ 555)، والبيهقي في «السُّنن الكبرى» (10/ 480)، وابن القيم في «زاد المعاد» (2/ 241).
الإشكال الثالث: في حديث البراء بن عازب الطويل: «
…
فَقَالَ النَّبِيُّ لِعَلِيٍّ: «انْحَرْ مِنَ البُدْنِ سَبْعًا وَسِتِّينَ- أَوْ: سِتًّا وَسِتِّينَ-» .... » أخرجه أبو داود (1791). وهو ضعيف، وعِلته تَفرُّد يونس بن إسحاق عن أبيه. قال أبو بكر الأثرم: سَمعتُ أبا عبد الله، وذَكَر يونسَ بن أَبي إسحاق، فضَعَّف حديثه عن أبيه. «تهذيب الكمال» (32/ 491)، وكذا أبو زُرْعَة في «شرح علل الترمذي» (2/ 710).
(1)
«شرح مسلم» (8/ 192).
وقد اختَلف العلماء في صحة تولية الكتابي في نحر الهدي. والراجح أنه لا يصح تولية الكتابي في نحر الهَدْي؛ لأن نحر الهَدْي عبادة لا تصح من غير المسلم، والكتابي لا يَجوز دخوله إلى الحرم، فكيف يَجوز توليته في نحر الهَدْي؟!
(2)
«المغني» (6/ 209).
ولكن قد يجاب عن هذا الإشكال من جهتين:
الأولى: أن الحاجة داعية لمِثل هذا البيع في هذا الزمان، ولا سيما مع كثرة الحجيج، وما كان هذا شأنه فلا تأتي الشريعة بتحريمه
(1)
.
الثانية: أن تحريم بيع شاة من القطيع يُفْضِي إلى التنازع للتفاوت بين الشياه.
وأجيب عنه بأن الغَرَر هنا لا يُفضِي إلى التنازع؛ فالحاج لا غرض له سوى هَدْي يُبَرِّئ ذمته، والشاة لا تُسَلَّم للمشتري حتى تُفضِي إلى النزاع.
المطلب الثالث: شروط جواز النيابة في شراء كروت وبطاقات الهَدْي:
إن من السُّنة أن يتولى المهدي ذبح هديه بنفسه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومَن شق عليه ذلك فله توكيل مَنْ يثق به في الذبح، فيَجوز له إخراج الهَدْي عن طريق شراء سندات الهَدْي من المَكاتب الذي تتولى بيعها في المشاعر وغيرها، وبالشروط الخمسة الآتية:
الأول: أن تكون الجهة التي يَشتري منها السندات جهة موثوقة.
الثاني: أن يكون مَنْ يتولى ذبح الهَدْي نيابة عن المهدي ممن يصح توكيله، وتنطبق عليه شروط الوكيل في الذبح
(2)
.
الثالث: أن يكون ذَبْح الوكيل للهَدْي في يوم النحر وأيام التشريق.
الرابع: أن يكون ما تذبحه تلك الجهات المُوكَّلة مما يجزئ في الهَدْي، وخاليًا من العيوب المؤثرة في الهَدْي.
الخامس: أن يَعْلَم أن هذه الجهة التي تبيع سندات الهَدْي- تقوم بتفريقه بعد ذبحه على مستحقيه من فقراء الحَرَم، وأنها لا تنقله خارج الحَرَم إلا إذا عُدم المساكين، أو كان
(1)
قال ابن تيمية: فَكَذَلِكَ رُخِّصَ فِيمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ كَوْنِهِ غَرَرًا، مِثْلُ بَيْعِ الْعَقَارِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ دَوَاخِلُ الْحِيطَانِ وَالْأَسَاسِ، وَمِثْلُ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ أَوِ الْمُرْضِعِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْحَمْلِ وَاللَّبَنِ. «الفتاوى الكبرى» (4/ 18).
(2)
مِنْ الخطأ ما يَجري عليه بعض الحُجاج من تسليم ثمن الهَدْي الواجب عليهم- لمن ليس بأهل لذلك بصفة التوكيل، حيث لا يباشرون بأنفسهم عمليات الشراء والذبح والتصدق باللحوم.
فيجب على الحاج ألا يوكل في ذبح الهَدْي مَنْ ليس بأهل لذلك؛ لأن بعض الناس معه سندات بسعر أقل، وهو لا يَذبح ولا يُوزِّع، بل يأخذ الأموال ويعطيها آخَرَ مقابل نسبة يأخذها منه.
زائدًا عن حاجة مساكين الحَرَم
(1)
.
فالحاصل: أن الحاج لا ينيب إلا مَنْ يثق به، أو يَغلب على ظنه صدقه؛ ولذا ففِعل بعض الحُجاج من توكيل بعض الأشخاص الذين يمرون في المخيمات أو في الحرم، ولم يُزكِّهم مَنْ يوثق بقوله- غَيْر مجزئ؛ لأنه لا يُعْلَم أذَبَح هديه أم لا؟ فهو مفرط. أما توكيل بنك الراجحي في ذبح الهَدْي وتوزيعه، فهي جهة موثوق بها، زَكَّاها أهل العلم.
وهنا وقفة، وهي أنه ينبغي تخصيص جهات لبيع هذه السندات وتوزيعها على مستحقيها من الفقراء والمحتاجين، ولا سيما مَنْ أصابهم الضر من الحروب والمجاعات.
المبحث الثالث: حُكْم ذبح الهَدْي وتَرْكه:
اختَلَف العلماء في حُكْم توزيع الهَدْي وإيصال اللحم إلى مستحقيه على قولين:
القول الأول: أن توزيع الهَدْي يجب، فمَن ذَبَح الهَدْي وتَرَكه حتى فسد ولم يوزعه، لم يجزئه. وهذا مذهب الشافعية
(2)
.
واستدلوا بأن المَقصِد من ذبح الهَدْي هو الأكل منه وإطعام المساكين؛ لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] فمَن لم يوزعه حتى فسد، لم يجزئه.
القول الآخَر: أن توزيع الهَدْي يُستحَب، فمَن ذَبَح الهَدْي وتَرَكه فيجزئه. وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بأنه في أيام النحر قُرِّبَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٌ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قَالَ:«مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ»
(4)
.
(1)
«الدماء الواجبة في الحج» (ص: 525) وهو بَحْث جيد ونافع، وقد أفدتُ منه كثيرًا، فاللهَ أسأل أن يسعد مؤلفه بجنته، وأن يشمله برحمته، وأن يكرمه بمغفرته، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.
(2)
«كفاية الأخيار» (ص: 230)، و «حاشية قليوبي» (2/ 146).
(3)
«المبسوط» (4/ 175)، و «الذخيرة» (3/ 367).
(4)
ضعيف، مُعَل بالانقطاع: أخرجه أبو داود (1765)
علة هذا الحديث، ما قاله أحمد: لم يَسمع ثور من راشد بن سعد شيئًا. «تحفة التحصيل» (ص: 46).
ولا يُلتفَت إلى تصريح ثور بالتحديث من راشد عند ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2408)، وابن حِبان (2811) لأن هذه الأدوات يَطرأ عليها الوهم، فالمُعوَّل عليه كلام الإمام أحمد.
قال ابن رجب: وقد ذَكَر أبو حاتم أن بقية بن الوليد كان يَروي عن شيوخه ما لم يسمعه، فيَظن أصحابه أنه سمعه، فيروون عنه تلك الأحاديث، ويُصرِّحون بسماعه لها من شيوخه، ولا يَضبطون ذلك. وحينئذٍ ينبغي التفطن، ولا يُغتَر بمجرد ذكر السماع، فقد ذَكَر ابن المديني أن شُعبة وجدوا له غير شيء يَذكر فيه الإخبار عن شيوخه، ويكون منقطعًا. «شرح علل الترمذي» (2/ 594).
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نَحَر خَمْس بَدَنات، ثم قال:«مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» ولم يُوزِّع ولم يُنِب مَنْ يُوزِّع، وإنما ذَبَحها وتَرَكها لمستحقيها.
ونوقش بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» ليس فيه دليل على أنه تَرَكها بدون توزيع، والذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أَذِن لمن حضر أن يأخذ من اللحم ما يريد.
واستدلوا بما روى ابن عباس، أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ، ثُمَّ يَقُولُ:«إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا، فَانْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ»
(1)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَره بالذبح وعدم الأكل منها، ولم يأمره بتوزيع اللحم.
ونوقش بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بتوزيع اللحم لأن هذا أمر معلوم، وهل أَمَره بالذبح لكي يتركه حتى تَفسد بدون توزيع؟!
والراجح: أن توزيع الهَدْي يجب، فمَن ذَبَح الهَدْي وتَرَكه حتى فَسَد، ولم يوزعه؛ لم يجزئه. وإن خَلَّى بينه وبين المساكين جاز؛ لقوله عليه السلام:«مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» .
المبحث الرابع: ذَبْح الهَدْي خارج الحرم في فِجاج مكة:
سبب دخول هذه المسألة في النوازل هو أن مكة قد اتسعت عمرانيًّا، حتى إن بعض أطرافها قد خرجت خارج حدود الحرم، فهل هذه الأطراف يشملها حُكم الحَرَم أم لا؟
قد تضافرت النصوص على عدم جواز ذبح الهَدْي في غير الحَرَم، وقد دل على ذلك عموم قوله تعالى في الهدايا:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وما بَلَغ الحَرَم فقد بَلَغ الكعبة.
وقد نُقل الإجماع على عدم جواز ذبح الهَدْي في غير الحَرَم
(2)
.
(1)
رواه مسلم (1326).
(2)
قال ابن عبد البر: وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ مَنْ نَحَرَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. «الاستذكار» (4/ 299).
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد ورد للشافعية قول بجواز ذبح الهَدْي خارج الحرم، بشرط أن يُنقَل اللحم ويُفرَّق في الحَرَم قبل أن يتغير؛ لأن المقصود هو اللحم، وقد حَصَل الغرض بإيصاله إلى أهله من مساكين الحَرَم
(1)
.
ونوقش هذا بما قاله السرخسي: إِنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ، أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ هُوَ الْحَرَمُ، وَهَذَا الدَّمُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالزَّمَانِ، فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْحَرَمُ؛ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ
(2)
.
واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز الذبح في مكة، بقوله صلى الله عليه وسلم:«وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ» فأطراف مكة التي خارج الحرم تَدخل في عموم هذا الحديث.
ونوقش بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وبيوت مكة كلها في الحَرَم، أما الآن فمكة قد اتسعت عمرانيًّا، حتى إن بعض أطرافها قد خرجت خارج حدود الحرم، فلا يُذبَح إلا داخل حدود الحَرَم.
فالحاصل: أنه لا يجزئ ذبح الهَدْي في أطراف مكة مما هو خارج الحرم، كجهة التنعيم؛ لعموم الأدلة التي تدل على أنه لا يُذبَح في غير الحَرَم؛ لذا لا بد أن تكون المَجازر داخل الحَرَم؛ لكيلا يضطر أحد لذبح هَدْيه خارج الحَرَم.
المبحث الخامس: الأضحية أو الهَدْي بمبتور الذَّنَب أو الأَلْيَة:
سبب دخول هذه المسألة في النوازل هو أنه أصبحت كثير من الأغنام التي تأتي من أستراليا قد استؤصلت أَلْيَتها، فهل تجزئ في الأضحية وأداء نسك الهَدْي؟
اختَلف أهل العلم في حُكْم الهَدْي بمبتور الذَّنَب أو الأَلْيَة- على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن مبتورة كامل الذَّنَب أو الأَلْيَة لا تجزئ، وأما مقطوعة بعض الذَّنَب فتجزئ. وهو مذهب الحنفية والمالكية، ورواية عند الحنابلة
(3)
.
(1)
«المجموع» (7/ 411)، و «روضة الطالبين» (3/ 187).
(2)
«المبسوط» (4/ 75).
(3)
«تبيين الحقائق» (6/ 7)، و «المُنتقَى» (3/ 84)، و «الفروع» (3/ 542).
القول الثاني: أن مبتورة بعض الذَّنَب لا تجزئ. وهو مذهب الشافعية
(1)
.
القول الثالث: أن مبتورة الأَلْيَة تجزئ. وهو مذهب الحنابلة
(2)
.
والراجح: أن مبتورة الأَلْيَة من الأغنام لغرض التسمين بالشروط المذكورة- تجزئ في الأضحية؛ لأن هذا النقص لا يُخِل بالمقصود من الأضحية
(3)
. مع أن الأصل في الأضحية هو طلب الكمال والسمن والسلامة من العيوب، وأفضل الأضاحي أسمنها؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
المبحث السادس: شراء الشركات جلود الهَدْي والأضاحي:
تقوم جمعيات خيرية بجمع جلود الأضاحي وبيعها لمؤسسات صناعة الجلود، وصَرْف ثمنها في مشاريع خيرية، فما الحكم في ذلك؟
اختَلف العلماء في حُكْم بيع جلود الهَدْي والأضاحي على قولين:
القول الأول: عدم جواز بيعه. وهو مذهب المالكية والشافعية
(4)
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
أما السُّنة، فَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ:«أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا»
(5)
.
(1)
«أسنى المطالب» (1/ 535)، و «تحفة المحتاج» (9/ 351).
(2)
«الفروع» (3/ 399)، و «الإنصاف» (4/ 81)، و «كشاف القناع» (3/ 6).
(3)
قال ابن عثيمين: وعلى كل حال، ينبغي أن نقسم العيوب إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دلت السُّنة على عدم إجزائه، وهي أربع: العوراء البَيِّن عَوَرها، والمريضة البَيِّن مرضها، والعرجاء البَيِّن ضَلَعها، والعجفاء التي لا تُنْقِي. فهذه منصوص على عدم إجزائها، ويقاس عليها ما كان مثلها أو أَوْلَى منها.
الثاني: ما ورد النهي عنه دون عدم الإجزاء، وهو ما في أذنه أو قَرْنه عَيْب من خرق. ولكن هذا النهي يُحْمَل على الكراهة؛ لوجود الحديث الحاصر لعدم المجزئ بأربعة أصناف.
الثالث: عيوب لم يَرِد النهي عنها، ولكنها تُنافِي كمال السلامة، فهذه لا أثر لها، ولا تُكْرَه التضحية بها ولا تَحرم، مثل العرجاء عرجًا يسيرًا. فهذه عيوب لكنها لا تَمنع الإجزاء، ولا توجب الكراهة لعدم وجود الدليل، والأصل البراءة.
(4)
«عمدة القاري» (5/ 404)، و «فتح الباري» (3/ 556).
(5)
مسلم (1317).
وأما القياس، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَحْمَهَا لَا يُبَاعُ، فَكَذَلِكَ الْجُلُودُ وَالْجِلَالُ
(1)
.
القول الآخَر: جواز بيعه والتصدق بثمنه. وهو مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37] أي أن المُحَرَّم بيع اللحم، أما الجِلد فلا بأس ببيعه والتصدق بثمنه على المحتاجين.
ونوقش بأنه لا يَجوز للمضحي أن يبيع جِلد أضحيته؛ لأنها بالذبح تعينت لله بجميع أجزائها، فلم يَجُز أخذ العوض؛ ولذا لا يُعطِي الجزار منها شيئًا على سبيل الأجرة.
والراجح: جواز إعطاء الجلود للجمعيات الخيرية التي تتولى بيعه والتصدق بثمنه؛ لأن أكثر الناس لا ينتفعون بجِلد الأضحية، فبيع الجمعيات الخيرية الجِلد والتصدق بثمنه على الفقراء -عَمَل خير وعَمَل بِر، ولا يجوز بيع المضحي جِلد الأضحية لنفسه.
فالحاصل: أنه يجوز بيع جلد الأضحية، وصَرْف ثمنه مصرف الأضحية، والله أعلم.
المبحث السابع: الاستعاضة بثمن الهَدْي:
دلت النصوص على عدم جواز الاستعاضة عن ذبح هديه بالتصدق بقيمته.
واستدلوا بالكتاب بالسُّنة والمعقول:
أما الكتاب، فقال تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
وَجْه الدلالة: أن الله أوجب على المتمتع في حال القدرة الهَدْي، فإذا لم يجد هديًا أو ثمنه فإنه ينتقل إلى الصيام، ولم يَجعل واسطة بين الهَدْي والصيام. ومَن قال بالتصدق، فإنه يُطالَب بدليل يخالف ذلك.
وأما السُّنة، فاستدلوا بأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى وَالْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ لَعَدَلُوا إِلَيْهَا، وَبِأَنَّ إِيثَارَ الصَّدَقَةِ عَلَى الهَدْيِ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(1)
«فتح الباري» (3/ 556).
(2)
«تبيين الحقائق» (6/ 9)، و «الإنصاف» (4/ 93). وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجَازَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ مَصْرِفَ الْأُضْحِيَةِ. «فتح الباري» (3/ 556).
وأما المعقول، فهو أن الهَدْي له وقت يَفوت بفوات وقته، والتصدق لا يَفوت، فكان أَفْضَل. ونظيره الطواف للآفاقي أَفْضَل من الصلاة؛ لأنه بالرجوع يَفوت، بخلاف المكي.
شبهتا مَنْ قال بجواز الاستعاضة عن ذبح هديه بالتصدق بقيمته، والجواب عنهما:
الشبهة الأولى: يَجوز الاستعاضة عن ذبح هديه بالتصدق بقيمته؛ نظرًا لصعوبة تنظيم الذبح في الوقت الحاضر، ومع تزايد عدد الحُجاج؛ فيفضي ذلك إلى تكدس كميات كبيرة من اللحوم لا يَنتفع منها أحد.
وأجيب عنها من وجهين:
الأول: أنه يَجوز نقل الهَدْي خارج الحَرَم إذا كان زائدًا عن حاجة مساكين الحَرَم، ولا سيما بعض البلدان التي بها حروب ومجاعات، ومع التقدم الحديث يَسهل ذلك.
الثاني: أن الهَدْي فيه جَمْع بين قُربتين: التقرب بإراقة الدم، والتصدق باللحم. بخلاف الصدقة بثمنها، ولا شك أن الجَمْع بين القريتين أَفْضَل.
الشبهة الثانية: ما يَجري عليه بعض الحُجاج من تسليم ثمن الهَدْي الواجب عليهم، لمن ليس بأهل لذلك بصفة التوكيل، حيث لا يُباشِرون بأنفسهم عمليات الشراء والذبح والتصدق باللحوم، فالتصدق بثمن الهَدْي أفضل من هذا.
وأجيب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه يجب على الحاج ألا يُسَلِّم ثمن الهَدْي الواجب عليه إلا إلى جهة موثوقة، تقوم بعمليات الشراء والذبح، والتصدق باللحوم على مستحقيها، فمَن وجب عليه الهَدْي وجب عليه أن يتحرى في إيصاله إلى مستحقه، كما في قوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27].
الثاني: أن قولهم: (الاستعاضة عن ذبح هديه بالتصدق بقيمته) يَفتح باب تلاعب في الشريعة، فلا يكون للنصوص قيمة، والنسك عبادة مبنية على التوقيف، فلا يَجوز العدول عن المشروع إلا بدليل شرعي.
الثالث: مع ما تقوم به الحكومة السعودية في خدمة الحرمين الشريفين، فنأمل السعي لعلاج مشكلة اللحوم، وقد يكون ذلك بالأمور الخمسة الآتية:
الأول: الإكثار من عدد المَجازر في أماكن مختلفة من مِنًى وفِجاج مكة؛ للإيفاء وإرشاد الناس إليها، مع توعية الحُجاج بفضل الهَدْي وبيان ما يجزئ منه.
الثاني: تنظيم عمليات شراء الهَدْي بأرخص الأسعار، مع عدم الربح إن أمكن، مع مراعاة الكشف عن التأكد من صلاحيته من حيث السلامة من الأمراض وموانع الإجزاء.
الثالث: التوسع في التوكيل عن ذبح الهَدْي بطريقة منظمة تضمن مصلحة صاحب الهَدْي ومصلحة الفقير والمصلحة العامة، ويكون بإشراف لجنة مختصة بذلك.
الرابع: عمل لجنة تتعرف على الفقراء بمكة، وتُوصِّل القَدْر المناسب لهم.
الخامس: ما زاد من اللحوم يُبعَث به إلى البلدان التي تعاني من المجاعات.
وأُوصي بعمل ندوات يَلتقي فيها أهل الخبرة في شراء الهَدْي، بأهل العلم بالشرع، وعَمَل اقتراحات وتنفيذها لحل هذه المشكلة. والله الهادي إلى سواء السبيل.
فالحاصل: عدم جواز الاستعاضة عن ذبح هديه بالتصدق بقيمته؛ لدلالة الكتاب والسُّنة والإجماع على منع ذلك؛ لأن المقصود الأول هو التقرب إلى الله بإراقة الدم، قال تعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]؛ ولأن القول بإخراج القيمة يُفضِي إلى التلاعب بالشريعة، فيقال:(تخرج نفقة الحج بدلًا منه لصعوبته)! فالقول بإخراج القيمة مصلحة ملغاة لمعارضتها الأدلة، فلا يَجوز اعتبارها.
•1•
الباب الثامن عشر: الأضحية
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: فَضْل وحُكْم الأضاحي. وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الأضاحي.
المبحث الثاني: حكمة مشروعية الأضحية.
المبحث الثالث: فضل الأضحية.
المبحث الرابع: حُكْم الأضحية.
الفصل الثاني: شروط صحة الأضحية.
الشرط الأول: أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام.
الشرط الثاني: أن تكون قد بَلَغَتِ السِّن المعتبرة شرعًا.
الشرط الثالث: السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء.
الشرط الرابع: نية التضحية.
الشرط الخامس: أن تكون التضحية في وقت الذبح. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أول وقت التضحية. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: ذَبْح الأضحية قبل طلوع الفجر يوم النحر.
المطلب الثاني: أول وقت التضحية لأهل الحَضَر.
المطلب الثالث: وَقْت الأضحية في غير أهل الأمصار.
المبحث الثاني: آخِر وقت التضحية.
المبحث الثالث: التضحية في ليالي أيام النحر.
الفصل الثالث: من آداب التضحية وسُننها. وفيه تمهيد وتسعة مباحث:
تمهيد: يُستحب التضحية بالأسمن والأكمل.
المبحث الأول: إحداد الشفرة قبل إضجاع الذبيحة.
المبحث الثاني: أن يَذبح بنفسه إذا استطاع.
المبحث الثالث: يُستحب توجيه الذبيحة نحو القبلة.
المبحث الرابع: استحباب التكبير بعد التسمية عند ذبح الأضحية.
المبحث الخامس: يُستحب بعد التسمية والتكبير قول: اللهم تَقَبَّلْه مني.
المبحث السادس: يُسَن نحر البعير، وذَبْح الشاة أوالبقرة.
المبحث السابع: استحباب الأكل من الأضحية، والتصدق منها.
المبحث الثامن: هل يُستحب للمضحي أن يُقَسِّم الأضحية إلى ثلاثة أقسام؟
المبحث التاسع: ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها.
الفصل الرابع: شروط الذكاة. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: التسمية.
المبحث الثاني: إنهار الدم.
المبحث الثالث: القَدْر الواجب الذي يُكتفَى به في حصول التذكية.
الفصل الخامس: ما يباح ويُنهَى عنه في الأضحية. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ما يباح في الأضحية. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: جواز الاشتراك في البدنة أو في الأضحية
المطلب الثاني: الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته في الأضحية.
المطلب الثالث: الاستنابة في ذبح الأضحية.
المبحث الثاني: ما يُنْهَى عنه في الأضحية. وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: حُكْم حَلْق الشَّعر وتقليم الأظفار لمَن أراد أن يضحي.
المطلب الثاني: حُكْم الفدية لمَن أراد أن يضحي، فأَخَذ من شعره
المطلب الثالث: يَحرم على المضحي أن يبيع شيئًا من الأضحية.
المطلب الرابع: إعطاء الجزار من الأضحية ثمنًا لذبحه.
المطلب الخامس: لا تُشْرَع الأضحية استقلالًا عن الميت.
الفصل الأول: فضل وحُكْم الأضاحي
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الأضاحي
الأضاحي لغة: الْأَضَاحِيُّ جَمْعُ أُضْحِيَّةٍ، وَكَأَنَّهَا اُشْتُقَّتْ مِنْ اسْمِ الْوَقْتِ الَّذِي شُرِعَ ذَبْحُهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ فِي الضُّحَى، وَبِهَا سُمِّيَ الْيَوْمُ الذِي تُذْبَحُ فِيهِ بِيَوْمِ الْأَضْحَى
(1)
.
الأضاحي شرعًا: ما يُذبَح من بهيمة الأنعام- الإبل والبقر والغنم- في يوم الأضحى، إلى آخِر أيام التشريق؛ تقربًا إلى الله تعالى
(2)
.
المبحث الثاني: حكمة مشروعية الأضحية
فَهِيَ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَإِحْيَاءُ سُنَّةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ بِذَبْحِ الْفِدَاءِ عَنْ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ النَّحْرِ.
وَأَنْ يَتَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ صَبْرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام، وَإِيثَارَهُمَا طَاعَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَالْوَلَدِ- كَانَا سَبَبَ الْفِدَاءِ وَرَفْعِ الْبَلَاءِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ ذَلِكَ اقْتَدَى بِهِمَا فِي الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عز وجل عَلَى هَوَى النَّفْسِ وَشَهْوَتِهَا.
وَقَدْ يُقَالُ: أَيُّ عَلَاقَةٍ بَيْنَ إِرَاقَةِ الدَّمِ، وَبَيْنَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عز وجل وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ؟!
وَالْجَوَابُ بِأَنَّ هَذِهِ الإِرَاقَةَ وَسِيلَةٌ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى النَّفْسِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْفَقِيرِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مَظَاهِرُ لِلْفَرَحِ وتَحَدُّثٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
(3)
.
(1)
«لسان العرب» (14/ 476)، و «سُبُل السلام» (2/ 529).
وفي هذا الباب بَحْث جيد ونافع في بابه، ألا وهو «فقه الأضحية» للشيخ محمد العَلَاوي، وقد أفدتُ منه كثيرًا، فأسأل الله أن يجازي مؤلفه خير الجزاء وأوفاه، وأن يَجعل جنة الفردوس مأواه.
(2)
«فتح القدير» (9/ 505)، و «كشاف القناع» (2/ 530).
(3)
«الموسوعة الفقهية الكويتية» (5/ 76).
المبحث الثالث: فضل الأضحية
لا شك أن للأضحية فضلًا عظيمًا وأجرًا جزيلًا، قال تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] فالأضحية من شعائر الله تعالى ومعالمه، وأن الذبح لله تعالى والتقرب إليه بالقرابين- من أعظم العبادات وأَجَلّ الطاعات.
وقد قَرَن الله عز وجل الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه العظيم؛ لبيان عظمة الذبح وكبير شأنه وعلو منزلته، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فأَمَر بالنحر كما أَمَر بالصلاة.
ويكفي شرفًا وفضلًا أن الأضحية هي سُنة خليل الرحمن، وفِعل سيد الأنام، والصحابة الأخيار ومَن تبعهم بإحسان.
ولكن وردت أحاديث خاصة في فضل الأضحية، منها حديث زيد بن أَرْقَم قال: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذِهِ الأَضَاحِيُّ؟ قَالَ:«سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» قَالُوا: فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ»
(1)
.
(1)
ضعيف جدًّا: أخرجه أحمد (19283) وفي إسناده (نُفَيْع بن الحارث) وهو متروك.
وفي الباب أحاديث:
الحديث الأول: عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللهِ عز وجل مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ عز وجل بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الأَرْضَ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» . أخرجه ابن ماجه (3127).
وفي سنده علتان: إحداهما: ضَعْف أبي المُثَنَّى. الثانية: ما قاله البخاري: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو المُثَنَّى مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
الحديث الثاني: عن أبي سعيد الخُدْري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك فاشهديها؛ فإن لكِ بأول قطرة تَقطر من دمها أن يُغْفَر لكِ ما سلف من ذنوبكِ» أخرجه العُقيلي في «الضعفاء» (2/ 11)، والبَزَّار في «كشف الأستار» (1202). وفي إسناده داود بن عبد الحميد وعطية العَوْفي، وكلاهما ضعيف. قال أبو حاتم: هذا حديث منكر (1596).
وقد أخرجه الحاكم (7731) عن عِمران بن حُصَيْن. وفي إسناده أبو حمزة الثُّمَالِيّ، وهو ضعيف جدًّا.
الحديث الثالث: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «اسْتَفْرِهُوا ضَحَايَاكُمْ؛ فَإِنَّهَا مَطَايَاكُمْ إِلَى الجنة» وفي رواية:«عَظِّموا ضحاياكم؛ فإنها مطاياكم على الصراط» .
«استَفرِهوا ضحاياكم» : استَكرِموها، فضَحُّوا بالكريمة الشابة، المليحة، الحسنة المنظر والسير.
قال ابن حجر: أخرجه صاحب «مُسنَد الفِردوس» . وفي إسناده: عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مَوْهَبٍ، ضَعِيفٌ جِدًّا. «التلخيص الحبير» (4/ 251).
الحديث الرابع: عن الحسين بن علي قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ضَحَّى طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، مُحْتَسِبًا لِأُضْحِيَّتِهِ؛ كَانَتْ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ» أخرجه الطبراني (2736) وفي إسناده سليمان النَّخَعي، كذاب.
الحديث الخامس: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أُنْفِقَتِ الْوَرِقُ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ نَحِيرَةٍ تَنْحَرُهَا فِي يَوْمِ عِيدٍ» رواه الطبراني (10894) وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخُوزِي، وهو متروك.
الحديث السادس: رُوي أَنْ الله تعالى يعتق بكل عضو من الضحية عضوًا من المضحي.
قال الرافعي: وهذا غريب، لا يَحضرني مَنْ خَرَّجه. وقال ابن الصلاح: إنه حديث غير معروف، وإنه لم يجد له سندًا يَثبت به. «البدر المنير» (9/ 276). وفي الباب أحاديث أخرى تالفة.
المبحث الرابع: حُكْم الأضحية:
اختَلَف العلماء في وجوب الأضحية على المُوسِر على قولين:
القول الأول: أن الأضحية سُنة مُؤكَّدة. وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، والمشهور عند المالكية، والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم عَلَّق الأضحية بالإرادة، والواجب لا يُعَلَّق بالإرادة ولا يُخيَّر فيه.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكَبْشٍ
…
لِيُضَحِّيَ بِهِ
…
فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ:«بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ»
(3)
.
وَجْه الدلالة: أن تضحيته صلى الله عليه وسلم عن أمته وعن أهله- تجزئ عن كل مَنْ لم يُضَحِّ.
وأما المأثور، فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَا يُضَحِّيَانِ عَنْ أَهْلِهِمَا؛ خَشْيَةَ أَنْ يُسْتَنَّ بِهِمَا
(4)
.
وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ: إِنِّي لَأَدَعُ الأَضْحَى وَإِنِّي لَمُوسِرٌ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى جِيرَانِي
(1)
«مواهب الجليل» (4/ 362)، و «الحاوي» (15/ 161)، و «كشاف القناع» (3/ 21).
(2)
أخرجه مسلم (2033).
(3)
رواه مسلم (1967).
(4)
صحيح: أخرجه وكيع في «أخبار القضاة» (3/ 41)، وعبد الرزاق (8287) من طرق عن الشَّعْبي، به.
أَنَّهُ حَتْمٌ عَلَيَّ
(1)
.
القول الآخَر: أن الأضحية واجبة على الموسر. وهذا مذهب الحنفية، وهو قول للمالكية، وقول مُخَرَّج في مذهب الحنابلة، اختاره ابن تيمية
(2)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أي: صَلِّ صلاة العيد، وانحر واذبح الأضحية بعدها. وهذا أَمْر، والأمر يقتضي الوجوب.
ونوقش بأن أَشْهَر التأويلات للآية الحث على الإخلاص، أي: صَلِّ لله، وانحر لله.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى»
(3)
.
دل على الوجوب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الذبح؛ لأن التطوع لا يؤمر فيه بالإعادة.
ونوقش بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ شَرْطِ الْأُضْحِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ صَلَّى رَاتِبَةَ الضُّحَى مَثَلًا، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَعِدْ صَلَاتَكَ.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو بُرْدَة بن نِيَار: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْتُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ. فَقَالَ:«اجْعَلْهُ مَكَانَهُ، وَلَنْ تُوفِيَ- أَوْ: تَجْزِيَ- عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»
(4)
أي: لن تقضي، والقضاء لا يكون إلا عن واجب، فاقتضى ذلك الوجوب.
ونوقش بأن الضَّحَايَا قُرْبَانٌ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عز وجل عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَهُوَ حُكْمٌ وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ، فَلَا يُتَعَدَّى بِهِ سُنَّتُهُ صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا»
(5)
. ونوقش بأنه ضعيف، ولا أعلم في وجوب الأضحية حديثًا يصح.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8297).
(2)
«المبسوط» (12/ 8)، و «أحكام القرآن» (4/ 459)، و «المغني» (13/ 360).
(3)
رواه البخاري (5500)، ومسلم (1960).
(4)
رواه البخاري (965).
(5)
ضعيف، ومدار هذا الحديث على الأَعرج عن أبي هريرة، واختُلف عليه في الوقف والرفع:
فرواه عبد الله بن عَيَّاش- وهو ضعيف- عن الأعرج، به مرفوعًا، عند أحمد (8273).
وقد خالفه عُبيد الله بن أبي جعفر، فرواه عن الأعرج عن أبي هريرة، موقوفًا. وقد رَجَّح الدارقطني الوقف. وقال البيهقي:«بَلَغَنِي عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ. قَالَ: ورَواه جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا» . «السُّنن الكبرى» (19/ 250).
وكذا الطحاوي كما نَقَله عنه الحافظ في الفتح 10/ 6)، وابن عبد البر في «الاستذكار» (15/ 164).
وفي الباب حديث عليّ وعائشة، ولا يصح فيما أعلم حديث في وجوب الأضحية.
الفصل الثاني: شروط صحة الأضحية:
الشرط الأول: أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام.
فلا تجزئ الأضحية من غير الإبل والبقر والضأن والماعز.
ودل على ذلك الكتاب والسُّنة والإجماع:
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] فلا يجزئ إلا بهيمة الأنعام.
وأما السُّنة، فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «
…
وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ»
(1)
.
ولم يُؤْثَر عن النبي صلى الله عليه وسلم التضحية بغير الإبل والبقر والغنم.
وأما الإجماع، فقد أَجْمَعوا على أن التضحية لا تصح إلا بالإبل أو البقر أو الغنم
(2)
.
وقد خالف ابنُ حزم جماهيرَ العلماء، فقال: وَالأُضْحِيَّةُ جَائِزَةٌ بِكُلِّ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ
(1)
هذا الحديث رواه عن عائشة القاسم وعَمْرة بنت عبد الرحمن. وفيه إشكالان:
الأول: هَلْ ضَحَّى رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ، أَوْ أَهْدَى عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ؟
فمدار الحديث على عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. واختُلف عليه:
فرواه ابن عُيينة عن عبد الرحمن به، عند البخاري (294)، ومسلم (1211)، ورواه المَاجِشُون عن عبد الرحمن، به، عند مسلم (1211) بلفظ:(أَهْدَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ) بدل (ضَحَّى).
وروى مسلم (1319): عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ» .
ويقاس على عائشة باقي أزواجه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعدل الناس في معاملة أهله.
قال ابن حجر: وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّصَرُّفَ مِنَ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ النَّحْرِ، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْأُضْحِيَةِ؛ فَإِنَّ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ، فَقَوِيَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ (أَهْدَى) وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ هَدْيُ التَّمَتُّعِ. «فتح الباري» (3/ 551).
وقال ابن القيم: وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ: «ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ» فَهُوَ هَدْيٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْأُضْحِيَةِ، وَأَنَّهُنَّ كُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ، فَالْبَقَرُ الَّذِي نَحَرَهُ عَنْهُنَّ هُوَ الْهَدْيُ الَّذِي يَلْزَمُهُنَّ. «زاد المعاد» (2/ 243).
الإشكال الثاني: ما ورد عن عَمْرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً وَاحِدَةً. وهذا حديث منكر؛ لأن في قصة نحر البقرة عنهن، وَهُنَّ تِسع- إشكالًا، وهو إجزاء البقرة عن أَكْثَر من سبعة. وله شاهد عن أبي هريرة، ولكنه ضعيف.
(2)
«المجموع» (8/ 394). ونَقَل الإجماع كذلك ابن عبد البر في «التمهيد» (23/ 188).
لَحْمُهُ، مِنْ ذِي أَرْبَعٍ أَوْ طَائِرٍ، كَالْفَرَسِ وَالإِبِلِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَالدِّيكِ وَسَائِرِ الطَّيْرِ
(1)
.
واستَدل لذلك بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فاستَدل بحديث أسماء قالت:«ضَحَّيْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْلِ» .
ونوقش بأني لم أقف على حديث أسماء بهذا المتن، والذي ورد في «الصحيحين»: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، قَالَتْ:«نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ» .
وأما المأثور، فعن أبي هريرة، أنه ضَحَّى بديك
(2)
.
وعن بلال قال: مَا أُبَالِي لَوْ ضَحَّيْتُ بِدِيكٍ.
وهذان الأثران ضعيفان، ولا يُعَرَّج على هذا القول ولا يُلتفَت إليه؛ لأنه يخالف الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة، والله أعلم.
الشرط الثاني: يُشترَط في الأضحية أن تكون قد بَلَغَتِ السن،
فلا تجزئ التضحية بما دون الثَّنِيَّة من الإبل والبقر والمعز، ولا بما دون الجذعة من الضأن، بالإجماع
(3)
.
والراجح: أن السن المعتبرة في الإجزاء الثني من الإبل، وهي ما أَتَم خمس سنين. ومن البقر ما أَتَم سنتين. ومن المعز ما أَتَم سَنة. والجَذَع من الضأن ما أَتَم ستة أشهر
(4)
.
ودل على ذلك ما رواه مسلم: عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً،
(1)
«المُحَلَّى» (7/ 370).
(2)
كما في «التلخيص الحبير» (4/ 251).
(3)
قال النووي: وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ إلَّا الثَّنِيُّ، وَلَا مِنَ الضَّأْنِ إِلَّا الْجَذَعُ. «المجموع» (8/ 394). ونَقَل الإجماع: القاضي عِيَاض في «إكمال المُعْلِم» (6/ 408)، وابن عبد البر في «التمهيد» (23/ 188)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 153) وغيرهم.
(4)
فالثَّنِيّ من الإبل: ما أتم خمس سنين، على قول المذاهب الأربعة.
والثَّنِيّ من البقر: ما تم له سنتان، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، كما في «تبيين الحقائق» (6/ 7)، و «الحاوي» (15/ 77)، و «المغني» (9/ 440) و «كشاف القناع» (3/ 531).
والجذع من الضأن: ما له ستة أشهر، عند الحنفية والحنابلة. كما في «المبسوط» (4/ 141)، و «المغني» (9/ 440).
والثَّنِيّ من المعز: ما تم له سنة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، كما في «بدائع الصنائع» (5/ 70).
إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ»
(1)
.
قال النووي: قَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَفْضَلِ، وَتَقْدِيرُهُ: يُسْتَحَبُّ لَكُمْ أَنْ لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَجَذَعَةَ ضَأْنٍ.
وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَنْعِ جَذَعَةِ الضَّأْنِ وَأَنَّهَا لَا تُجْزِ ئُ بِحَالٍ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجَوِّزُونَ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ، وَابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ يَمْنَعَانِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ
(2)
.
وقد نُقل الإجماع على أنه لا يجزئ الجَذَع من المعز
(3)
.
ولكن هذا الإجماع منخرم، وهذا قول جماهير العلماء من السَّلَف والخَلَف
(4)
.
(1)
رواه مسلم (2017).
(2)
«شرح مسلم» (13/ 117). فظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ لَا يُجْزِئُ، إِلَّا إذَا عَجَزَ عَنِ الْمُسِنَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَفْضَلِ. «التلخيص» (4/ 258).
(3)
قال الترمذي: وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ أَنْ لَا يُجْزِئَ الجَذَعُ مِنَ الْمَعْزِ. «السُّنن» (3/ 171). وقال ابن عبد البر: لَا خِلَافَ عَلِمْتُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الْمَعْزِ لَا يُجْزِئُ. «الاستذكار» (5/ 226).
(4)
فهناك قول للشافعية بإجزاء الجذع من المعز، كما في «الحاوي» (15/ 76)، و «المجموع» (8/ 394).
واستدلوا بما ورد في البخاري (2500)، ومسلم (1965): عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«ضَحِّ بِهِ أَنْتَ» .
وفي البخاري (5547)، ومسلم (1965) واللفظ لمسلم: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا ضَحَايَا، فَأَصَابَنِي جَذَعٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَصَابَنِي جَذَعٌ. فَقَالَ:«ضَحِّ بِهِ» فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاز لعقبة أن يضحي بالجَذَع من المعز؛ لأن العَتُود من أولاد المعز.
ونوقش من ثلاثة أوجه:
الأول: أن العَتُود من ولد المعز ما قوي ورعى، وأتى عليه حَوْل، فيكون هو الثَّنِيّ من المعز، فتَجوز الضحية به. «حاشية ابن القيم على سُنن أبي داود» (7/ 499).
الثاني: أنه لو صح التضحية بالجذع من المعز، فهو خاص بعقبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ضَحِّ بِهِ أَنْتَ» .
الثالث: قيل: إن حديث عقبة منسوخ بحديث البراء. «إكمال المُعْلِم» (6/ 409).
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْجَذَعَ يُوَفِّي مِمَّا يُوَفِّي مِنْهُ الثَّنِيُّ» .
وجه الاستدلال: جواز التضحية بالجذع من المعز.
ونوقش بأنه محمول على الجذع من الضأن؛ جمعًا بين الأحاديث، ففي حديث أبي بُرْدَة التصريح بعدم إجزاء الجذع من المعز.
وهناك قول ثالث: أن الجذع من المعز لا يجزئ، ويجزئ ما دونه وما فوقه. وهو قول ابن حزم، كما في «المُحَلَّى» (7/ 361). واستَدل ابن حزم لعدم إجزاء الجذع من المعز بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بُرْدَة:«اذْبَحْهَا، وَلَنْ تُجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ولو كان ما دون الجذعة لا يجزئ، لبَيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الْبَرَاءُ: ضَحَّى خَالِي أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً مِنَ الْمَعْزِ. فَقَالَ:«ضَحِّ بِهَا، وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ»
(1)
.
وعلي هذا فلا يجوز التضحية بالأنعام المسمنة التي لم تبلغ السن المقرر شرعا لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً» ، ولحديث البراء، وعلي هذا جماهير العلماء.
قال البلخي في «الفتاوى الهندية» فلا يجوز شيء مما ذكرنا من الإبل والبقر والغنم عن الأضحية إلا الثني من كل جنس وإلا الجذع من الضأن خاصة إذا كان عظيما.
الشرط الثالث: السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء:
فعن البراء قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعَةٌ لَا يَجُزْنَ فِي الأَضَاحِيِّ: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالعَرْجَاءُ البَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالكَسِيرَةُ الَّتِي لَا تُنْقِي»
(2)
.
ونُقل الإجماع على أنه يُشترَط في الأضحية السلامة من العيوب الأربعة المذكورة
(3)
.
وأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ خَفِيفًا، فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَنْعِ الْإِجْزَاءِ
(4)
.
قال الخَطَّابي: قوله: «العوراء البَيِّن عَوَرها» فالعيب الخفيف في الضحايا معفو عنه، ألا تراه يقول: بَيِّنٌ عَوَرها، وبَيِّنٌ مَرَضها؟ فالقليل منه غير بَيِّن، فكان معفوًّا عنه
(5)
.
العيوب التي تُلحَق بالعيوب الأربعة:
الأول: مقطوعة الأُذن أو أكثرها.
(1)
البخاري (5556)، ومسلم (1961) واللفظ له.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه النَّسَائي (4370)، والحاكم (1718).
(3)
ونَقَل الإجماع على ذلك: ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 153)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 193)، وابن قُدامة في «المغني» (13/ 369)، والنووي في «المجموع» (8/ 404)، وغيرهم كثير.
(4)
«بداية المجتهد» (2/ 193).
(5)
«معالم السُّنن» (2/ 230).
الثاني: العمياء؛ لأنه إذا لم تجزئ العوراء، فالعمياء أحرى ألا تجزئ بلا خلاف
(1)
.
الثالث: الْهَتْمَاءُ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الضَّحَايَا
(2)
.
الرابع: المجنونة التي لا تَرعى إلا قليلًا، فتَهْزِل، فلا تُجزئ بالاتفاق
(3)
.
الشرط الرابع: نية التضحية:
على المضحي أن يَنوي بها التضحية؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وهذا قول المذهب الأربعة
(4)
.
قال الكاساني: نِيَّةُ الْأُضْحِيَّةَ لَا تُجْزئُ الْأُضْحِيَّةُ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْقُرْبَةِ، وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ قُرْبَةً بِدُونِ النِّيَّةِ
(5)
.
الشرط الخامس: أن تكون التضحية في وقت الذبح: وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أول وقت التضحية: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: ذَبْح الأضحية قبل طلوع الفجر يوم النحر:
لا يجوز ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر في يوم النحر، بالإجماع
(6)
.
المطلب الثاني: أول وقت التضحية لأهل الحَضَر:
قال ابن عبد البر: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُضَحٍّ
(7)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد اختَلف العلماء في أول وقت التضحية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يَجوز ذبح الأضحية قبل صلاة العيد. وبه قال الحنفية والحنابلة
(8)
.
(1)
قال النووي: «أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعَمْيَاءَ لَا تُجْزِئُ» . «المجموع» (8/ 404).
(2)
«الاستذكار» (15/ 131).
(3)
«المجموع» (8/ 401).
(4)
«بدائع الصنائع» (5/ 71)، و «التاج» (3/ 252)، و «المجموع» (8/ 405)، و «الإنصاف» (4/ 61).
(5)
«بدائع الصنائع» (5/ 71).
(6)
ونَقَل الإجماع: ابن المنذر في «الإشراف» (1/ 60) وابن عبد البر في «التمهيد» (23/ 196).
وقال القرطبي: لا خلاف أنه لا يجزي ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر. (12/ 43).
(7)
«التمهيد» (23/ 182).
(8)
«شرح معاني الآثار» (4/ 174)، و «المغني» (9/ 452).
واستدلوا لذلك بعموم القرآن والسُّنة:
أما القرآن، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] قيل: نزلت في قوم ذَبَحُوا قبل أن يَنحر النبي صلى الله عليه وسلم، أو قَبْل أن يُصلِّي، فأَمَرهم أن يُعِيدُوا
(1)
.
ونوقش بأن هذا السبب لنزول الآية ضعيف
(2)
.
وأما السُّنة، فَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسْكِ فِي شَيْءٍ»
(3)
.
القول الثاني: يَدْخُلُ وَقْتُهَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَمَضَى قَدْرُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَخُطْبَتَيْنِ، فَإِنْ ذَبَحَ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ صَلَّى الْإِمَامُ أَمْ لَا. وهذا قول الشافعية
(4)
.
ونوقش هذا القول بأن التقييد في الأحاديث بالصلاة، وليس بالوقت، ولا يُلجأ إلى الوقت إلا عند قوم لا تقام فيهم صلاة العيد.
القول الثالث: أنه لا يُجْزِئ الذبح إلا بعد ذبحِ الإمام. وبه قال الإمام مالك.
واستَدل مالك بما روى مسلم: عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمَدِينَةِ، فَتَقَدَّمَ رِجَالٌ فَنَحَرُوا، وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَحَرَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ
(1)
ضعيف، وهو مُرسَل عن الحَسَن، ذَكَره ابن عبد البر في «الاستذكار» (21346) وقال مَعْمَر
…
به.
(2)
وسبب النزول الصحيح: ما رواه البخاري (4367): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرِ القَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ. قَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرِ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي. قَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ! فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا
…
} [الحجرات: 1].
(3)
رواه البخاري (965)، ومسلم (1961).
ورَوَى البخاري (5500)، ومسلم (1960): عَنْ جُنْدَبٍ البَجَلِيِّ قَالَ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُضْحِيَةً ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا أُنَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ:«مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى» .
(4)
«شرح النووي» (13/ 110، 111).
نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ، وَلَا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ونوقش بما ورد عن البراء: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَصْنَعُ أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ» .
قال ابن حجر: فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الذَّبْحِ يَدْخُلُ بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّأْخِيرُ إِلَى نَحْرِ الْإِمَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ لَمْ يَنْحَرْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْقِطًا عَنِ النَّاسِ مَشْرُوعِيَّةَ النَّحْرِ، وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، لَمْ يُجْزِئْهُ نَحْرُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ وَالنَّاسَ فِي وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ سَوَاءٌ
(2)
.
والراجح: أن أول وقت التضحية بعد صلاة العيد، ولا تجزئ قبل صلاة العيد؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى» .
المطلب الثالث: وقت الأضحية لغير أهل الأمصار:
يَبدأ وقت الأضحية لمن كان بمحل لا تُصلَّى فيه صلاة العيد، كأهل البوادي- بعد قدر فعل صلاة العيد. وهذا مذهب الحنابلة
(3)
.
المبحث الثاني: آخِر وقت التضحية:
أجمع العلماء على أن يوم العيد وقت لذبح الأضاحي
(4)
.
واختلفوا في نهاية وقت الأضاحي على أربعة أقوال:
القول الأول: أن أيام النحر أربعة: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، فينتهي بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق. وهذا مذهب الشافعي، وقول للحنابلة
(5)
.
(1)
مسلم (2018).
(2)
«فتح الباري» (10/ 22). وقال النووي: قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَالِكٌ فِي أَنَّهُ لَا يُجْزِي الذَّبْحُ إِلَّا بَعْدَ ذَبْحِ الْإِمَامِ. وَالْجُمْهُورُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ زَجْرُهُمْ عَنِ التَّعْجِيلِ الَّذِي قَدْ يُؤَدِّي إِلَى فِعْلِهَا قَبْلَ الْوَقْتِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَاقِي الْأَحَادِيثِ التَّقْيِيدُ بِالصَّلَاةِ، وَأَنَّ مَنْ ضَحَّى بَعْدَهَا أَجْزَأَهُ، وَمَنْ لَا فَلَا. «شرح النووي» (13/ 118).
(3)
«شرح منتهى الإرادات» (1/ 605)، و «كشاف القناع» (3/ 9).
(4)
قال ابن عبد البر: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ يَوْمُ الْأَضْحَى، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْأَضْحَى بَعْدَ انْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَا يَصِحُّ. «الاستذكار» (5/ 246).
(5)
«الأم» (3/ 588)، و «الحاوي» (4/ 959)، و «المغني» (5/ 300).
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] والمراد بالأيام المعلومات: يوم العيد وأيام التشريق، التي فيها ذِكر الله وذبح بهيمة الأنعام.
وأما السُّنة، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ»
(1)
.
ونوقش بأنه ضعيف، ولكن يَشهد لمعناه ما رواه مسلم: عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»
(2)
. وإذا كانت أيام التشريق الثلاثة أيام أكل وشرب، ففيها ذبح للهَدْي والأضاحي.
القول الثاني: أن أيام النحر ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده، فينتهي وقت النحر بغروب شمس ثاني أيام التشريق. وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا لذلك بالقرآن والسُّنة والمأثور:
أما القرآن، فقوله تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]. فالأيام المعلومات هي يوم النحر ويومان بعده.
قال القرطبي: ويدل على ذلك أن قوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] جَمْعُ قلة، لكن المُتيقَّن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير مُتيقَّن، فلا يُعْمَل به
(4)
.
(1)
ضعيف، ويرويه عن جُبَيْر بن مُطْعِم جماعة:
الأول: رواه سليمان بن موسى عن جُبَيْر به، عند أحمد (16751)، وقد اضطرب فيه.
قال البخاري: «سُلَيْمَانُ لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . «العلل الكبير» للترمذي (ص: 102).
الثاني: رواه عبد الرحمن بن أبي حسين- وهو مجهول- عن جُبَيْر، به، عند ابن حِبان (3854).
الثالث: رواه نافع بن جُبير، عند الطبراني (1583) وفي السند إليه سُويد بن عبد العزيز وهو ضعيف.
الرابع: رواه عمرو بن دينار، ولم يُدرِك جُبير بن مُطْعِم، عند الدارقطني (4758).
وله طرق وشواهد لا تخلو من مقال، ولا يصح الحديث بها، والله أعلم.
(2)
رواه مسلم (1141).
(3)
«بدائع الصنائع» (5/ 65)، و «التمهيد» (23/ 196)، و «المغني» (13/ 386).
(4)
«تفسير القرطبي» (12/ 43).
ونوقش هذا الاستدلال بما قاله ابن القيم: «وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ تَخْتَصُّ بِكَوْنِهَا أَيَّامَ مِنًى، وَأَيَّامَ الرَّمْيِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَيَحْرُمُ صِيَامُهَا، فَهِيَ إِخْوَةٌ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ، فَكَيْفَ تَفْتَرِقُ فِي جَوَازِ الذَّبْحِ بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ؟!»
(1)
.
وأما السُّنة، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ
(2)
.
وَجْه الدلالة: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْأَكْلِ مِنَ النُّسُكِ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَلَوْ كَانَ اليَوْمُ الرَّابِعُ يَوْمَ ذَبْحٍ، لَكَانَ الذَّبْحُ مَشْرُوعًا فِي وَقْتٍ يَحْرُمُ فِيهِ الْأَكْلُ
(3)
.
ونوقش بأن هذا الحديث منسوخ، وفيه حث على الصدقة عند قلة لحوم الأضاحي، وعدم التأخر في الذبح إلى آخِر أيام التشريق، وعدم الادخار.
وأما المأثور، فقد صح عن ابن عمر قال: الأَضْحَى يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ الأَضْحَى
(4)
.
وروى ابن أبي شيبة: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: الأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ
(5)
.
القول الثالث: أن نهاية وقت الأضحية بغروب شمس يوم النحر
(6)
.
واستُدل بعموم قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] والمراد بالأيام المعلومات هو العَشْر الأُوَل.
قال ابن رُشْد: وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ قَدِ انْعَقَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ مِنْهَا إِلَّا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ،
(1)
«زاد المعاد» (2/ 291). قال الشافعي: «فَلَمَّا لَمْ يَحْظُرْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُضَحُّوا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، لَمْ نَجِدِ الْيَوْمَ الثَّالِثَ مُفَارِقًا لِلْيَوْمَيْنِ قَبْلَهُ» . «الأم» (3/ 589).
(2)
رواه مسلم (1970). ورَوَى البخاري (5569) ومسلم (2029): عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ، فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» .
(3)
قال الباجي: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْهَا فِي أَيَّامِ الذَّبْحِ، فَلَوْ كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْهَا، لَكَانَ قَدْ حَرُمَ عَلَى مَنْ ذَبَحَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ. «المُنتقَى» (3/ 99)، و «المغني» (5/ 300).
(4)
إسناده صحيح: رواه مالك (1399) عن نافع، به.
(5)
إسناده صحيح: رواه ابن أبي شيبة، كما في «المُحَلَّى» (7/ 377) عن وَكيع، عن شُعبة، عن قتادة، به.
(6)
وهو مروي عن ابن سيرين. «التمهيد» (23/ 196).
وَهِيَ مَحَلٌّ الذَّبْحِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا; فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ إِنَّمَا هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ فَقَطْ
(1)
.
وعن أبي بَكْرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى
(2)
.
وقد سُمي اليوم العاشر من ذي الحجة ب (يوم النحر) لاختصاصه بالذبح.
القول الرابع: أن نحر الأضاحي يَجوز إلى آخِر شهر ذي الحجة. وهو قول الحسن، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وابن حزم
(3)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الْأَضَاحِيُّ إِلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ»
(4)
.
وأما المأثور، فَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: إِنْ كَانَ المُسْلِمُونَ لَيَشْتَرِي أَحَدُهُمُ الأُضْحِيَّةَ، فَيُسَمِّنُهَا فَيَذْبَحُهَا بَعْدَ الأَضْحَى، آخِرَ ذِي الحِجَّةِ
(5)
.
قال ابن رُشْد: وَقَدْ قِيلَ: الذَّبْحُ إِلَى آخِرِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ شَاذٌّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ
(6)
.
فالحاصل: أنه ينبغي للمسلم أن يَحرص على ذبح أضحيته يوم النحر لفِعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولِما فيه من المبادرة إلى الخير، وخروجًا من الخلاف. وإِنْ تَعَسَّر عليه ذلك، فله أن يضحي في أيام التشريق الثلاثة؛ لعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» وقد يُفْهَم من قوله صلى الله عليه وسلم: «
…
أَيَّامُ أَكْلٍ
…
» أن فيها ذبحًا للأضاحي.
(1)
«بداية المجتهد» (2/ 200). وقال البغوي في «تفسيره» : وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، آخِرُهُنَّ يَوْمُ النَّحْرِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
(2)
روى البخاري (4406)، ومسلم (1724).
(3)
«المُحَلَّى» (8/ 43)، و «التمهيد» (23/ 196).
(4)
ضعيف: رواه أبو داود في «المراسيل» (377) عن محمد بن إبراهيم، حدثني أبو سلمة وسليمان بن يسار، أنه بَلَغهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
…
فذَكَره. قلت: وهذا إسناد ضعيف لإرساله.
(5)
منكر: أخرجه البيهقي (19284) وقال: وَحَدِيثُ سَهْلِ بن حُنَيْفٍ حِكَايَةٌ عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ. قال أحمد: هذا الحديث عجيب. يشير إلى أن زيادة قوله: (فيَذبحها بعد الأضحى آخِر ذي الحجة) مستنكرة. «مرعاة المفاتيح» (5/ 108).
(6)
«بداية المجتهد» (2/ 199)، و «التمهيد» (23/ 196).
المبحث الثالث:
التضحية في ليالي أيام النحر:
اختَلف الفقهاء في حُكْم التضحية في الليل على ثلاثة أقوال:
الأول: جواز الذبح ليلًا. وهذا قول للحنابلة، وهو اختيار ابن حزم
(1)
.
الثاني: يُكْرَه الذبح ليلًا. وبه قال الحنفية والشافعية
(2)
.
الثالث: لا تجزئ التضحية في الليل. وهذا مذهب المالكية، وقول للحنابلة
(3)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] وبعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» .
ففي الآية والحديث ذِكر الذبح في الأيام دون الليالي.
ونوقش بما قاله الماوردي: «فَأَمَّا الْجَوَابُ، فَهُوَ أَنَّ اللَّيَالِيَ تَبَعٌ لِلْأَيَّامِ» .
واستدلوا بما روى الطبراني: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُضَحَّى لَيْلًا
(4)
.
قال الشوكاني: لا يَخفى أن القول بعدم الإجزاء وبالكراهة يَحتاج إلى دليل، ومجرد ذِكر الأيام في حديث الباب وإن دل على إخراج الليالي بمفهوم اللقب، لكن التعبير بالأيام عن مجموع الأيام والليالي، والعكس- مشهور متداول، لا يكاد يَتبادر غيره عند الإطلاق
(5)
.
(1)
«المغني» (9/ 454)، و «كشاف القناع» (3/ 10)، و «المُحَلَّى» (7/ 377).
(2)
«بدائع الصنائع» (5/ 174)، و «الأم» (3/ 566) وقول للحنابلة «كشاف القناع» (3/ 10).
(3)
قال خليل: والنهار شرط. «الشرح الكبير» (2/ 121)، و «الفواكه الدواني» (2/ 849).
(4)
موضوع: أخرجه الطبراني في «الكبير» (11458). وفي إسناده سليمان بن سَلَمَة الخَبَائِرِيّ، وهو متروك.
(5)
«نَيْل الأوطار» (5/ 126).
الفصل الثالث: من آداب التضحية وسُننها
وفيه تمهيد، وسبعة مباحث:
تمهيد: يُستحب التضحية بالأسمن والأكمل،
وقد ذَكَر الله عن إسماعيل فقال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] أي: بكبش عظيم.
وفي «الصحيحين» من حديث أنس قال: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا
(1)
.
المبحث الأول: إحداد الشفرة قبل إضجاع الذبيحة:
ذهب جماهير العلماء إلى استحباب إحداد الشفرة قبل إضجاع الذبيحة وإراحتها؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «هَلُمِّي الْمُدْيَةَ» ثُمَّ قَالَ: «اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ» فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا، وَأَخَذَ الْكَبْشَ، فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ
(2)
.
المبحث الثاني: أن يَذبح بنفسه إذا استطاع:
يُستحب أن يَذبح بنفسه إذا استطاع؛ لِفِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأنها قُربة إلى الله عز وجل؛ لِما روى أنس قال: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ.
المبحث الثالث: يُستحب توجيه الذبيحة نحو القبلة:
يُستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة عند الذبح
(3)
.
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ذَبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ
…
فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: «إِنِّي وَجَّهْتُ
(1)
البخاري (1712)، ومسلم (2020).
(2)
مسلم (2021).
(3)
قال أبو الحسن العدوي: (وتُوجَّه الذبيحة) في الأضحية وغيرها (عند الذبح إلى القِبلة) استحبابًا إجماعًا، على ما حكاه ابن المنذر. «حاشية العدوي» (1/ 574)، و «البحر الرائق» (8/ 194)، و «المجموع» (9/ 83)، و «كشاف القناع» (6/ 210).
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
…
»
(1)
.
وقال البيهقي: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَجَّهَهُمَا إِلَى القِبْلَةِ حِينَ ذَبَحَ
(2)
.
قال ابن عبد البر: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَقْبِلُ بِذَبِيحَتِهِ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولُ: «وَجَّهْتُ
…
»
(3)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ هُوَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ بِيَدِهِ، يَصُفُّهُنَّ قِيَامًا، وَيُوَجِّهُهُنَّ إِلَى الْقِبْلَةِ
(4)
.
قال السرخسي: لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ رُبَّمَا كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِذَبَائِحِهِمُ الْأَصْنَامَ، فَأَمَرَنَا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِتَعْظِيمِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ
(5)
.
المبحث الرابع: استحباب التكبير بعد التسمية عند ذبح الأضحية:
يُستحب التكبير بعد التسمية عند ذبح الأضحية، بالكتاب والسُّنة والإجماع.
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36].
وأما السُّنة، ففي «الصحيحين»: عَنِ أَنَسٍ قَالَ: «ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا»
(6)
.
وأما الإجماع، فقال ابن قُدامة: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا ذَبَحَ قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ» وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: وَسَمَّى وَكَبَّرَ. وَلَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا خِلَافًا
(7)
.
(1)
ضعيف: أخرجه أبو داود (2784). فمدار هذا الحديث على أبي عياش المعافري المصري، قال الحاكم أبو أحمد: لا أعرف اسمه. وقال ابن حجر: مقبول. وقال المِزي: روى له أبو داود وابن ماجه حديثًا واحدًا، وذَكَر هذا الحديث. قلت: الحاصل أنه مجهول.
(2)
«السُّنن الكبرى» للبيهقي (19/ 332).
(3)
«الاستذكار» (4/ 246).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1112) عن نافع، عن ابن عمر، به.
(5)
«المبسوط» (12/ 3).
(6)
رواه البخاري (5565)، ومسلم (1966).
(7)
«المغني» (13/ 360)، و «مرقاة المفاتيح» (3/ 1078).
المبحث الخامس: يُستحب بعد التسمية والتكبير
قول: (اللهم تَقَبَّلْه مني):
فَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا:«يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ» ثُمَّ قَالَ: «اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ» فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا، وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ
…
»
(1)
.
قال النووي: فِيهِ اسْتِحْبَابِ قَوْلِ الْمُضَحِّي، حَالَ الذَّبْحِ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي
(2)
.
المبحث السادس: يُسَن نحر الإبل وذَبْح الغنم:
يُسَن أن تُنحَر الإبل قائمة، وتُذبَح الشاة مضجعة، ويُخيَّر بين الذبح والنحر في البقر.
دل على نحر الإبل قائمة عموم قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] أي: سَقَطَتْ بعد الذبح، فهذا يدل على أن الإبل تُنحَر قائمة.
وروى البخاري: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: نَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا
(3)
.
ودل على استحباب إضجاع الغنم عند الذبح: ما ورد عن أنس قال: «ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ»
(4)
.
(1)
مسلم (2021).
(2)
«شرح النووي على مسلم» (13/ 122).
(3)
البخاري (1714). وروى البخاري (1713)، ومسلم (1320): عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، فَقَالَ:«ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» ومعنى (قيامًا مُقيَّدة) أي: معقولة الرِّجل اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها.
(4)
أخرجه البخاري (5558)، ومسلم (1320).
قال الصنعاني: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِضْجَاعُ الْغَنَمِ، وَلَا تُذْبَحُ قَائِمَةً وَلَا بَارِكَةً؛ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهَا، وَعَلَيْهِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ، وَيَكُونُ الْإِضْجَاعُ عَلَى جَانِبِهَا الْأَيْسَرِ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ لِلذَّابِحِ فِي أَخْذِ السِّكِّينِ بِالْيُمْنَى وَإِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِالْيَسَارِ. «سُبُل السلام» (2/ 531).
ويُخيَّر بين الذبح والنحر في البقر؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وعن جابر قال: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ البَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ»
(1)
.
وأما الإجماع، فنُقل الإجماع على النحر في الإبل، والذبح في الغنم
(2)
.
المبحث السابع: استحباب الأكل من الأضحية، والتصدق منها:
دل على استحباب ذلك عموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَكُلُوا وَادَّخِرُوا، وَتَصَدَّقُوا»
(3)
.
فهذان دليلان على أنه يُستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته، وأن يَتصدق منها على الفقراء والمحتاجين، وأن يُطْعِم منها الأقارب والجيران.
المبحث الثامن: هل يُستحب للمضحي أن يُقَسِّم الأضحية إلى ثلاثة أقسام؟
ذهب جمهور العلماء إلى أنه يُستحب للمضحي أن يُقَسِّم الأضحية إلى ثلاثة أقسام: قِسم يتصدق به على الفقراء والمحتاجين، وقِسم يُطْعِم به الأقارب والجيران، وقِسم يأكل منه هو وأهل بيته
(4)
.
واستدلوا بما ورد: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي صِفَةِ أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُطْعِمُ أَهْلَ بَيْتِهِ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ فُقَرَاءَ جِيرَانِهِ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى السُّؤَّالِ بِالثُّلُثِ
(5)
.
(1)
رواه مسلم (1318).
(2)
وقد نَقَل الإجماع على ذلك: ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 147)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 207)، والنووي في «شرح مسلم» (13/ 124)، وابن قُدامة في «المغني» (13/ 304).
قال القرطبي: وَشَذَّ عَطَاءٌ فَخَالَفَ، وَاسْتَحَبَّ نَحْرَهَا بَارِكَةً. وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها} مَعْنَاهُ: سَقَطَتْ بَعْدَ نَحْرِهَا. «تفسير القرطبي» (12/ 62).
(3)
أخرجه مسلم (2025، 2026).
(4)
قال القرطبي: «ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ، وَيُطْعِمَ الثُّلُثَ، وَيَأْكُلَ هُوَ وَأَهْلُهُ الثُّلُثَ» «تفسيره» (12/ 47). وقال الكاساني: «وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ، وَيَتَّخِذَ الثُّلُثَ ضِيَافَةً لِأَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ. «بدائع الصنائع» (5/ 81). وقال ابن حجر: وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: يُسْتَحبُّ قِسْمَتُهَا أَثْلَاثًا؛ لِقَوْلِهِ: «كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَأَطْعِمُوا» «فتح الباري» (10/ 27). وقال النووي: وَأَدْنَى الْكَمَالِ أَنْ يَأْكُلَ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ، وَيُهْدِي الثُّلُثَ. «شرح النووي» (13/ 131).
(5)
لم أقف له على سند، وذَكَره ابن قُدامة في «المغني» (13/ 380).
وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في الضحايا قِسم معلوم موصوف، والله قال:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
واستدلوا بعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا» وهذا يدل على أن الأكل والصدقة غير مُقيَّدين، والأمر على حَسَب الاستطاعة.
المبحث التاسع: ذَبْح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها:
ذَبْح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها. وبه قال الحنفية والمالكية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فالحكمة من الأضحية مع أكل اللحم هي التقرب إلى الله تعالى بذبحها، قال تعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
وأما السُّنة، فاستدلوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى وَالْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ لَعَدَلُوا إِلَيْهَا. وَبِأَنَّ إِيثَارَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
•1•
(1)
«البحر الرائق» (8/ 200)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 121)، و «الإنصاف» (4/ 77).
(2)
«المغني» (13/ 374). الأول: التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ، بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ أَفْضَلُ. الثَّانِي: أَنَّ الأَضَاحِيَ لَهَا وَقْتٌ تَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا، وَالتَّصَدُّقُ لَا يَفُوتُ، فَكَانَتْ أَفْضَلَ. وَنَظِيرُهُ الطَّوَافُ لِلْآفَاقِيِّ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ يَفُوتُ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ. «العناية» (9/ 513)، و «تبيين الحقائق» (6/ 5).
الفصل الرابع: شروط الذكاة:
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: التسمية:
اختَلف أهل العلم في اشتراط التسمية في الذكاة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن التسمية شرط، لا تَحِل الذكاة بدونه، عمدًا كان أو نسيانًا.
وبه قال أحمد في رواية، وهذا مذهب الظاهرية، واختاره ابن تيمية
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمعقول:
أما الكتاب، فاستدلوا بقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].
وأما السُّنة، فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم عَلَّق حِلّ الذبيحة بشرطين: إنهار الدم، وذِكر اسم الله.
وعن عَدي: قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ»
(3)
.
وَجْه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم وقف الإذن بالأكل على التسمية.
القول الثاني: أنها واجبة مع الذِّكر، وتَسقط بالنسيان. وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة
(4)
.
واستدلوا لسقوط الوجوب بالنسيان بعموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].
وَجْه الدلالة: أن الناسي لا يُسَمَّى فاسقًا، وأن النسيان يُسْقِط المُؤاخَذة، والجاهل
(1)
«الإنصاف» (10/ 302)، و «المُحَلَّى» (7/ 412)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 239).
(2)
رواه البخاري (3075)، ومسلم (1968).
(3)
رواه البخاري (7397)، ومسلم (1929).
(4)
«المبسوط» (11/ 202)، و «الاستذكار» (5/ 250)، و «الإنصاف» (10/ 302).
مُؤاخَذ؛ ولذلك يُفْطِر الجاهل بالأكل في الصوم دُون الناسي
(1)
.
واستدلوا بأن إسقاط التسمية في حال النسيان عليه إجماع العلماء
(2)
.
وعن ابن عباس قال: «فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسَمِّيَ عَلَى الذَّبِيحَةَ، فَلْيُسَمِّ وَلَيْأَكُلْ»
(3)
.
القول الثالث: أن التسمية سُنة مُؤكَّدة. وهذا مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد
(4)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} فَأَبَاحَ الْمُذَكَّى، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّسْمِيَةَ.
(فَإِنْ قِيلَ): لَا يَكُونُ مُذَكًّى إِلَّا بِالتَّسْمِيَةِ.
(قُلْنَا): الذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ الشَّقُّ وَالْفَتْحُ، وَقَدْ وُجِدَا. وَأَيْضًا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فَأَبَاحَ ذَبَائِحَهُمْ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ التَّسْمِيَةَ
(5)
.
قال ابن عبد البر: وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ أَنَّهَا تُؤْكَلُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَإِ ذَا لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ. وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمَجُوسِيَّ وَالْوَثَنِيَّ لَوْ سَمَّى اللَّهَ، لَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ. وَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ أَنَّ ذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ ذَبَحَ بِدِينِهِ
(6)
.
وأما السُّنة، فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَكُلُوهُ»
(7)
.
(1)
«المغني» (13/ 291).
(2)
قوله: (فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا لَمْ تُبَحْ، وَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا أُبِيحَتْ) هذا المذهب فيهما. وذَكَره ابن جرير إجماعًا في سقوطها سهوًا. «الإنصاف» (27/ 322).
(3)
إسناده صحيح: رواه عبد الرزاق (8538).
(4)
«المجموع» (8/ 410)، و «الإنصاف» (10/ 302).
(5)
«المجموع» (8/ 411).
(6)
«الاستذكار» (5/ 250).
(7)
مدار هذا الحديث علي هشام بن عروة عن أبيه واختُلِف عَنه؛
فرواه مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ وأُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ المَدَنِيُّ وأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، ثلاثتهم عند البخاري (2057)(5507)(7398) وعبد الرحيم بن سليمان، ويونس بن بُكَير، ومُحاضِر، والنَّضر بن شُمَيل عند الدارقطني في العلل (3515) وغيرهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به مرفوعا.
ورواه مالك في الموطأ (1376)، وحماد بن سَلَمَة عند أبي دواد (2829) ومعمر عند عبد الرزاق (8705)
وعِيسَى بْنُ يُونُسَ عند ابن راهوية (838) وحماد بن زيد، وسفيان بن عُيينة، ويحيى القطان، والمُفَضَّل بن فَضالة، عند الدارقطني في العلل (3515) وغيرهم عن هِشام، عن أَبيه، مرسلًا، ليس فيه عائشة.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الصَّحيحُ: هشامُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النبيِّ، مُرسَلً أصحُّ؛ كَذَا يَرْوِيهِ مالكٌ وحمَّادُ بن سَلَمة
قال الدارقطني: والمُرسَل أَشْبَه بالصواب.
وجه الدلالة من وجهين:
الأول: ما قاله ابن حجر: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ شَرْطٍ عَلَى الذَّبِيحَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَمْ تُسْتَبَحِ الذَّبِيحَةُ بِالْأَمْرِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ
…
حَيْثُ وَقَعَ الْجَوَابُ فِيهِ، فَسَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: لَا تَهْتَمُّوا بِذَلِكَ، بَلِ الَّذِي يُهِمُّكُمْ أَنْتُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَتَأْكُلُوا
(1)
.
الثاني: ما قاله النووي: وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «سَمُّوا وَكُلُوا» هَذِهِ التَّسْمِيَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ عِنْدَ أَكْلِ كُلِّ طَعَامٍ، وَشُرْبِ كُلِّ شَرَابٍ، فَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ
(2)
.
المبحث الثاني: إنهار الدم:
قال ابن قُدامة: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَكْمَلَ قَطْعُ الْأَرْبَعَةِ: الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ، فَالْحُلْقُومُ مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْمَرِيءُ وَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْوَدَجَانِ وَهُمَا عِرْقَانِ مُحِيطَانِ بِالْحُلْقُومِ؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ لِخُرُوجِ رُوحِ الْحَيَوَانِ، فَيَخِفُّ عَلَيْهِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الْخِلَافِ، فَيَكُونُ أَوْلَى
(3)
.
(1)
«فتح الباري» (9/ 636).
(2)
«المجموع» (8/ 412). قال ابن عبد البر: وَأَمَّا قَوْلُهُ: «سَمُّوا اللهَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كُلُوهَا» فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْأَكْلِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الذَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالْأَطْعِمَةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى التَّذْكِيَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُظَنُّ بِهِ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عَلَى ذَبِيحَتِهِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ إِلَّا الْخَيْرُ
…
وَفِيمَا وَصَفْنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ سُنَّةٌ مَسْنُونَةٌ لَا فَرِيضَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا مَا سَقَطَتْ بِالنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يُسْقِطُ مَا وَجَبَ عَمَلُهُ مِنَ الْفَرَائِضِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وَالحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي رَافِعٍ، وَطَاوُسٍ، والنَّخَعِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَتَادَةَ. «الاستذكار» (5/ 249).
(3)
«المغني» (13/ 304). قال ابن المنذر: أَجْمَع أهل العلم على أنه إذا سَمَّى، وقَطَع الحلقوم والمَرِيء والوَدَجَين، وأسال الدم؛ حَصَلت الذكاة وحَلَّت الذبيحة. «المجموع» (9/ 90).
المبحث الثالث: القَدْر الواجب الذي يُكتفَى به في حصول التذكية:
اختَلف الفقهاء في القَدْر الذي يُشترَط في حصول الذكاة به على أقوال، منها:
القول الأول: يُشترَط قطع الجميع: الحلقوم والمَرِيء والوَدَجين. وهذا قول للمالكية، ورواية عن أحمد
(1)
.
القول الثاني: يُشترَط قطع الوَدَجَيْن والحلقوم. وهو مذهب المالكية في المشهور، ورواية عن أحمد. وذلك لأنه بقطع الوَدَجين يَحصل إنهار الدم، ولا يوصل إلى قطع الوَدَجين في الغالب إلا بعد قطعه الحلقوم لأنه قبلهما. أما المَرِيء فهو مَجْرَى الطعام والشراب، وهو وراء ذلك ملتصق بعظم القفا
(2)
.
القول الثالث: الواجب قطع الحُلقوم والمَرِيء. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة
(3)
.
قال النووي: وَيُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الذَّكَاةِ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالمَرِيءِ، ومَقْصُودِ الذَّكَاةِ، وَهُوَ الْإِزْهَاقُ بِمَا لَا يُعَذِّبُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْطَعَ الْوَدَجَيْنِ مَعَ الحُلْقُومِ وَالمَرِيءِ
(4)
.
(1)
«القوانين الفقهية» (ص: 123)، و «الإنصاف» (10/ 295). قال الجَصَّاص: وَأَمَّا مَا يَجِبُ قَطْعُهُ فَهُوَ الْأَوْدَاجُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْحُلْقُومُ، وَالْمَرِيءُ، وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ. فَإِذَا فَرَى الْمُذَكِّي ذَلِكَ أَجْمَعَ، فَقَدْ أَكْمَلَ الذَّكَاةَ عَلَى تَمَامِهَا وَسُنَّتِهَا. «أحكام القرآن» (3/ 300).
(2)
«بداية المجتهد» (1/ 445)، و «القوانين الفقهية» (ص: 123)، و «الإنصاف» (10/ 295).
(3)
قال النووي: وَأَمَّا الحُلْقُومُ فَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ خُرُوجًا وَدُخُولًا، والمَرِيءُ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ تَحْتَ الْحُلْقُومِ، وَوَرَاءَهُمَا عِرْقَانِ فِي صَفْحَتَيِ الْعُنُقِ، يُحِيطَانِ بِالْحُلْقُومِ، وَقِيلَ: يُحِيطَانِ بِالمَرِيءِ، يُقَالُ لَهُمَا: الوَدَجَانِ، وَيُقَالُ لِلْحُلْقُومِ وَالمَرِيءِ مَعَهُمَا: الْأَوْدَاجُ. وَيُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الذَّكَاةِ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالمَرِيءِ. «المجموع» (9/ 86)، و «الإنصاف» (10/ 295).
(4)
«المجموع» (9/ 86).
القول الرابع: يجب قطع ثلاثة من أربعة بدون تعيين. وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية، ووجه للحنابلة، واختاره ابن تيمية
(1)
.
القول الخامس: الواجب قطع الوَدَجين. وهذا وجه للحنابلة
(2)
.
واستدلوا بما رُوي عن رافع رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا» .
وَجْه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم عَلَّق الحُكم على إنهار الدم، ومن المعلوم أن أبلغ ما يكون به الإنهار قَطْع الوَدَجين، فبقطعهما يَخرج الدم.
•?•
(1)
«تبيين الحقائق» (5/ 290)، و «الإنصاف» (10/ 295).
(2)
يَكفي قطع الأوداج، فقَطْع أحدهما مع الحلقوم أو المَرِيء- أَوْلَى بالحِل. «الإنصاف» (10/ 295).
الفصل الخامس: ما يباح ويُنهَى عنه في الأضحية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ما يباح في الأضحية: وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: جواز الاشتراك في البدنة والبقرة في الأضحية، وأن كلًّا منهما تجزئ عن سبعة، فروى مسلم: عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ
(1)
.
وفي رواية الحاكم: «نَحَرْنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً، الْبَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ»
(2)
.
أما ما ورد عن ابن عباس قال: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ النَّحْرُ، فَاشْتَرَكْنَا فِي البَعِيرِ عَنْ عَشَرَةٍ، وَالبَقَرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ»
(3)
(1)
رواه مسلم (1318).
(2)
لفظة: (البدنة عن عَشَرة) شاذة، مدار الحديث على أبي الزبير، عن جابر، ويرويه عنه جماعة:
سفيان الثوري، واختُلف عنه، فرواه إبراهيم بن أبي طالب، عن محمد بن المُثَنَّى ومحمد بن بشار قالا: ثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: نحرنا يوم الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن عَشَرة، وقال رسول الله:«ليشترك النفر في الهَدْي» . أخرجه الحاكم (7558).
فرواه أبو عَروبة الحَرَّاني عن محمد بن بشار، فقال: البدنة عن سبعة. كما عند ابن حِبان (4004).
ورواه زُهير بن حرب، عن ابن مهدي، عن الثوري فقال: البدنة عن سبعة. عند أبي يعلى (2150).
ورواه الضحاك بن مَخْلَد، عند أبي عَوَانة (3272)، ويَعْلَى بن عُبيد عند الدارمي (1998)، ويحيى بن آدم، عند الدارقطني في «سُننه» (2533)، ومعاوية بن هشام، عند السَّرَّاج (1739) جميعًا عن الثوري، وفي حديثهم:(البدنة عن سبعة) وهذا الصحيح عن الثوري.
وكذا رواه مالك بن أنس، وعَزْرة بن ثابت، وزُهير بن معاوية، وابن جُريج، أربعتهم عند مسلم (1318)، وغيرهم عن أبي الزبير، عن جابر، وقالوا في حديثهم:(البدنة عن سبعة).
وكذا رواه عطاء بن أبي رباح، عند مسلم (1318)، وطلحة بن نافع، وسليمان بن قيس، عند أحمد (14398)(14808)، وعمرو بن دينار، عند الطبراني في «الأوسط» (3156) جميعًا عن جابر، وقالوا:(البدنة عن سبعة).
فالمحفوظ: (البدنة عن سبعة) لاتفاق الحُفاظ الأثبات على ذلك. فرواية مَنْ قال: (البدنة عن عَشَرة) شاذة، وقد أشار البيهقي إلى ذلك كما في «السُّنن الكبرى» (19237).
(3)
صحيح دون قوله: «وَفِي الجَزُورِ عَشَرَةً» فهو منكر لتفرد الحسين بن واقد بها، أخرجه أحمد (2484). =
فهو منكر، ومُخالِف لإجماع المسلمين
(1)
.
المطلب الثاني: الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته في الأضحية.
روى مسلم: عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ:
=
وفي إسناده الحسين بن واقد، وإن كان قد يُحَسَّن حديثه في الجملة، ولكن قال أحمد: في أحاديثه زيادة لا أدري أيش هي. وقد تفرد الحسين بن واقد بلفظ: «وَفِي الجَزُورِ عَشَرَةً» ومِثله لا يُتحمل تفرده، بل يُعَد ما تفرد به منكرًا، ويدل على نكارته أن المستفيض المشهور في الصحيح وغيرهما: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ.
وأشار الترمذي في «سُننه» (2/ 223)، والدارقطني في «أطراف الغرائب والأفراد» (3/ 249)، والطبراني في «المعجم الأوسط» (8/ 114) إلى إعلال الحديث بتفرد الحسين بن واقد، به.
وله شاهد عنِ المِسْوَر، ومَرْوَان، وفيه:(فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةٍ) أخرجه أحمد (18910).
وعلة هذا الخبر محمد بن إسحاق، وإن كان صدوقًا فإنه لا يُحتجّ بما انفرد به، فكيف إذا خالف؟!
قال الطحاوي: «لم نجد أحدًا ممن روى هذا الحديث عن الزُّهْري تَابَع محمد بن إسحاق على ما رواه عليه من عدد الناس الذين كانوا حينئذٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا سَبعمِائة، فمَن خالفه في ذلك، وذَكَر أنهم بضع عَشْرة مِائة: مَعْمَر بن راشد، وسفيان بن عُيينة» «شرح مشكل الآثار» (7/ 6)، وكذا قال البيهقي في «السُّنن الكبرى» (10/ 465).
وقال ابن كَثير: «الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ إِسْحَاقَ، مِنْ أَنَّ أَصْحَابَ الحُدَيْبِيَةِ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ» . «البداية والنهاية» (4/ 196).
والمحفوظ في عدد الصحابة يوم الحُديبية ما رواه البخاري (1694): «فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً» .
وعند مسلم (1904): عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةً.
وصح عن جابر أيضًا أنهم كانوا ألفًا وخَمسمِائة، كما في «الصحيحين» وغيرهما.
وفي «الصحيحين» : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما: كَانَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ.
وكل هذه الأعداد متقاربة ولا خلاف فيها، وهذه الروايات تدل على ما ورد في رواية ابن إسحاق، من أنهم كانوا سَبعمِائة من أوهامه.
(1)
قال ابن عبد البر: أَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ لَا تُجْزِئُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ. «الاستذكار» (15/ 190).
«بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ» ثُمَّ ضَحَّى بِهِ
(1)
.
قال الخَطَّابي: وفي قوله: «تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ» دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله، وإِنْ كَثُروا
(2)
.
وروى البخاري: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هُوَ صَغِيرٌ» فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ، وَكَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ
(3)
.
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنَّا نُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، يَذْبَحُهَا الرَّجُلُ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، ثُمَّ تَبَاهَى النَّاسُ بَعْدُ، فَصَارَتْ مُبَاهَاةً
(4)
.
فالحاصل: أن الشاة الواحدة تُجْزئ في الأضحية عن الرجل وأهل بيته.
المطلب الثالث: الاستنابة في ذبح الأضحية.
يَجوز للمضحي أن يستنيب في ذبح أضحيته، إذا كان النائب مسلمًا، دل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نَحَر ثلاثًا وستين بيده، ثم أَعْطَى عليًّا، فنَحَر ما بقي من المِائة.
قال ابن عبد البر: وَجَائِزٌ أَنْ يَنْحَرَ الهَدْيَ وَالضَّحَايَا غَيْرُ صَاحِبِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ نَحَرَ بَعْضَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَهُوَ أَمْرٌ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي إِجَازَتِهِ
(5)
.
(1)
مسلم (2021).
(2)
«معالم السُّنن» (2/ 228).
(3)
البخاري (7210).
(4)
صحيح موقوفا: ومداره علي عُمارة بن صَيَّاد، عن عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، عن أَبَي أَيُّوبَ واختلف عنه؛
فرواه مالك في «الموطأ» (1396) عن عُمارة بن صَيَّاد، موقوفا به.
ورواه الضَّحَّاك بْن عُثْمَانَ عن عُمَارة به مرفوعًا عند الترمذي (1505)، بلفظ: كَيْفَ كَانَتِ الضَّحَايَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ.
ومدار الرواية المرفوعة علي الضَّحَّاك بْن عُثْمَانَ، وهو مختلف فيه، وقد خالفه مالك فالموقوف أصح.
(5)
«التمهيد» (2/ 107)، و «الاستذكار» (4/ 308).
المبحث الثاني: ما يُنهَى عنه في الأضحية:
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: حُكْم حَلْق الشَّعر وتقليم الأظفار لمَن أراد أن يضحي:
اختَلف العلماء في حكم حَلْق الشَّعر لمَن أراد أن يضحي على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز. وهذا مذهب الحنفية، وقول للمالكية، والليث
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَحْرُم عليه شيء يبعثه بهديه، والبعث بالهَدْي أكثر من إرادة التضحية، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليَفعل ما نَهَى عنه.
وأما المعقول، فإن إرادة التضحية إذا كانت لا تَمنع من الجماع، وهو أغلظ ما يَحرم بالإحرام، كانت أحرى أن لا تَمنع مما دون ذلك
(3)
.
القول الثاني: يَحرم على مَنْ أراد أن يضحي أن يَحلق شعره ويُقلم أظفاره حتى يضحي. وهو مذهب الحنابلة، ووَجْه للشافعية، واختاره ابن حزم
(4)
.
روى مسلم: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ
(1)
«شرح معاني الآثار» (4/ 182)، و «التمهيد» (17/ 235 - 237).
(2)
رواه البخاري (1700)، ومسلم (1321).
(3)
قال ابن قُدامة: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ وَاللِّبَاسُ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ حَلْقُ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُضَحِّيَ. «المغني» (13/ 362، 363).
(4)
«الإنصاف» (4/ 79)، و «المغني» (13/ 362، 363)، و «المُحَلَّى» (7/ 355).
يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»
(1)
.
فمقتضى النهي التحريم، وهو خاص، ويجب تقديمه على عموم غيره
(2)
.
القول الثالث: يُكْرَه لمن أراد أن يضحي أن يَحلق شعره ويُقلم أظفاره حتى يضحي. وهذا مذهب المالكية، والشافعية، وهو قول للحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالجَمْع بين نصوص الباب، بحَمْل نصوص النهي على الكراهة، ونصوص الإباحة على عدم التحريم
(4)
.
المطلب الثاني: حُكْم الفدية لمَن أراد أن يضحي، فأَخَذ من شعره
أو قَلَّم أظفاره. لا فدية عليه بالإجماع
(5)
.
المطلب الثالث: يَحرم على المضحي أن يبيع شيئًا من الأضحية.
قال الماوردي: يَحْرُمُ بَيْعُ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُضَحِّي؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} فَنَصَّ عَلَى أَكْلِهِ وَإِطْعَامِهِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ. وَعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ البَيْعِ. وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي الْقُرْبِ لَا يَجُوزُ لِلْمُتَقَرِّبِ بَيْعُهَا، كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ
(6)
.
(1)
رواه مسلم (1977). وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ الظُّفُرِ وَالشَّعْرِ: النَّهْيُ عَنْ إِزَالَةِ الظُّفْرِ بِقَلْمٍ أَوْ كَسْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمَنْعُ مِنْ إِزَالَةِ الشَّعْرِ بِحَلْقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ أَوْ نَتْفٍ أَوْ إِحْرَاقٍ، أَوْ أَخْذِهِ بِنَوْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ شَعْرُ الْإِبْطِ وَالشَّارِبِ وَالْعَانَةِ وَالرَّأْسِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شُعُورُ بَدَنِهِ. «شرح النووي» (13/ 139).
(2)
«المغني» (13/ 363).
(3)
«الذخيرة» (4/ 141)، و «الحاوي» (15/ 74)، و «المغني» (13/ 362، 363).
(4)
وَهَذَا نَهْيٌ، وَالنَّهْيُ إِذَا لَمْ يَقْتَضِ التَّحْرِيمَ حُمِلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ. «مواهب الجليل» (3/ 244).
(5)
قال ابن قُدامة: إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ قَطْعَ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ، فَإِنْ فَعَلَ اسْتَغْفَرَ اللهَ تَعَالَى، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ إجْمَاعًا، سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا. «المغني» (13/ 363).
وقال المَرْداوي: لو خالف وفَعَل، فليس عليه إلا التوبة، ولا فدية عليه إجماعًا. «الإنصاف» (4/ 80).
(6)
«الحاوى» (15/ 272). قال ابن قُدامة: «لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ، لَا لَحْمِهَا وَلَا جِلْدِهَا، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالذَّبْحِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَبِيعُهَا، وَلَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْهَا. وَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! كَيْفَ يَبِيعُهَا، وَقَدْ جَعَلَهَا لِلهِ عز وجل؟!» . «المغني» (13/ 382).
المطلب الرابع: إعطاء الجزار من الأضحية ثمنًا لذبحه:
لا يَجوز إعطاء الجزار من الأضحية ثمنًا لذبحه. وهذا قول المذاهب الأربعة
(1)
.
ودل على التحريم ما ورد في «الصحيحين» : عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا، لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا، وَلَا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا
(2)
.
قال ابن قُدامة: وَلِأَنَّ مَا يَدْفَعُهُ إِلَى الْجَزَّارِ أُجْرَةً عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ وَجِزَارَتِهِ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. فَأَمَّا إِنْ دَفَعَ إلَيْهِ لِفَقْرِهِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ، فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْأَخْذِ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَهَا وَتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهَا
(3)
.
المطلب الخامس: لا تُشْرَع الأضحية استقلالًا عن الميت.
قد أجاز بعض العلماء الأضحية عن الميت قياسا علي الصدقة، ومنعها آخرون؛
لأنه لم يَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة- أنهم ضَحَّوْا عن الأموات استقلالًا؛ فالأضحية عبادة، ولا تُفْعَل إلا بتوقيف وهو مذهب الشافعية، وكَرِهها المالكية
(4)
.
•1•
(1)
«بدائع الصنائع» (5/ 79)، «الشرح الكبير» (2/ 124)، «الحاوي» (15/ 120)، «المغني» (9/ 450).
(2)
البخاري (1717)، ومسلم (1317).
(3)
«المغني» (13/ 382). قال الحافظ: وَأَمَّا إِذَا أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ كَامِلَةً، ثُمَّ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا كَمَا يَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ
…
بِشَرْطِ لِئَلَّا تَقَعَ مُسَامَحَةٌ فِي الْأُجْرَةِ؛ لِأَجْلِ مَا يَأْخُذُهُ فَيَرْجِعُ إِلَى الْمُعَاوَضَةِ. «فتح الباري» (3/ 556).
(4)
«مواهب الجليل» (4/ 377)، و «مغني المحتاج» (4/ 292) و «الشرح الممتع» (7/ 423).
الباب التاسع عشر:
أحكام المبيت بمِنًى:
وفيه فصلان:
الفصل الأول: المبيت بمِنًى
الفصل الثاني: نوازل مِنًى
الفصل الأول: المبيت بمِنًى
وفيه تسعة مباحث:
المبحث الأول:
سبب تسمية مِنًى وأيام التشريق بهذين الاسمين،
وفضل الذِّكر في أيام منى:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: سبب تسمية مِنًى بهذا الاسم:
قيل: سُميت (مِنًى) لكثرة ما يُمْنَى بها- أي: يراق- من الدماء.
وقيل: لأن الله تعالى يَمُن على عباده بالمغفرة فيها.
وقيل: لأن الله تعالى مَنَّ على الخليل بأن فدى ابنه بكبش، واستنقذه من الذبح
(1)
.
المطلب الثاني: سبب تسمية أيام التشريق بهذا الاسم:
سُميت أيام التشريق بذلك لأن الحُجاج كانوا يُشَرِّقون فيها لحوم الأضاحي- أي: يضعونها في الشمس.
وقيل: سُميت أيام التشريق؛ لإشراق نهارها بنور الشمس ولإشراق ليلها بنور القمر؛ لأن هذه الليالي الثلاث يكون القمر فيها مكتملًا
(2)
.
المطلب الثالث: يُسَن الإكثار من ذكر الله في أيام مِنًى.
فعن نُبَيْشَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أَكْل وشُرْب وذِكر لله عز وجل»
(3)
.
(1)
«معجم البلدان» (5/ 198)، و «الحاوي» (15/ 125).
(2)
«شرح السُّنة» (4/ 364)، و «مغني المحتاج» (1/ 505).
(3)
رواه مسلم (1141).
المبحث الثاني: مواقيت المبيت في مِنًى:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المواقيت المكانية بمِنًى:
حدود مِنًى من مَهبِط العقبة إلى وادي مُحَسِّر طولًا، وعَرْضًا ما بين جبلين، وما أَقْبَل منهما وما أَدْبَر ليس منها، فمِنًى وادٍ بين جبال، فيَحُد مِنًى من الشمال جبل ثَبير، ومن الجنوب جبل الصابح، ومن الشرق وادي مُحَسِّر، ومن الغرب جمرة العقبة.
وحدود مِنًى المكانية الآن واضحة جلية، بأعلام كبيرة تتضح للقادم إليها من أي جهة، وذلك مبني على لجان حكومية من العلماء وغيرهم، ولله الحمد على التيسير
(1)
.
المطلب الثاني: المواقيت الزمانية للمبيت بمِنًى:
المبيت بمِنًى يَبدأ من غروب شمس يوم النحر، مبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وينتهي بطلوع شمس اليوم الرابع عشر. دل على ذلك عموم قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] والأيام المعدودات هي أيام التشريق
(2)
.
المبحث الثالث: حُكْم المبيت بمِنًى ليالي أيام التشريق:
أَجْمَع العلماء على أن المبيت بمِنًى ليلة الوقوف بعرفة سُنة.
واختلفوا في حكم المبيت بمِنًى ليالي أيام التشريق على قولين:
القول الأول: المبيت بمِنًى ليالي أيام التشريق واجب. وهو مذهب المالكية، وقول عند الشافعية، والمشهور عند الحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمأثور:
أما الكتاب، فعموم قول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
(1)
«معجم البلدان» (5/ 229)، و «القِرى لقاصد أُم القُرى» (543).
(2)
قال الطبري: اذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام محصيات، وهي أيام رمي الجمار. أَمَر عباده يومئذٍ بالتكبير أدبار الصلوات، وعند الرمي مع كل حصاة. «تفسير الطبري» (4/ 208).
(3)
«مواهب الجليل» (3/ 131)، و «الإيضاح» (ص: 375)، و «الإنصاف» (4/ 60).
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] فالآية دليل على أنه يجب على الحاج أن يقيم يومين في الموضع الذي شُرِع فيه ذكر الله ورمي الجمار، ويُرخَّص له في الانصراف في اليوم الثالث. فدلت الآية على وجوب المبيت بمِنًى.
وأما السُّنة، فاستدلوا بدليلين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمِنًى ليالي أيام التشريق، وقال:«لتأخذوا مناسككم» .
الثاني: ما ورد في «الصحيحين» : عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اسْتَأْذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنه رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى؛ مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ
(1)
.
وَجْه الدلالة: أن كلمة (استأذن) تدل على أن المبيت بمِنًى ليالي أيام التشريق واجب، ولو كان المبيت سُنة لَمَا احتاج العباس إلى الترخيص والإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما المأثور، فَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يَبِيتَ أَحَدٌ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مِنًى
(2)
.
فنَهْي عُمَر الحُجاج عن المبيت خارج مِنًى ليالي أيام التشريق، وحِرصه على دخول الناس في حدود مِنًى- دليل على وجوب المبيت، وهو ممن أُمِرنا باتباعهم.
القول الآخَر: أن المبيت بمِنًى ليالي أيام التشريق سُنة. وبه قال الحنفية، وهو قول مرجوح عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، وهو مذهب الظاهرية
(3)
.
واستدلوا بما ورد عن ابن عباس قال: إِذَا رَمَيْتَ الْجِمَارَ، فَبِتْ حَيْثُ شِئْت
(4)
.
(1)
رواه البخاري (1634)، ومسلم (1315).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (1208)، واللفظ له، عن نافع، عن ابن عمر، به.
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 159)، و «المجموع» (8/ 247)، و «الإنصاف» (4/ 60)، و «المُحَلَّى» (5/ 194).
(4)
إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (14614)، وفي إسناده زيد بن الحُبَاب، وهو صدوق.
وروى عبد الرزاق كما في «التمهيد» (17/ 262): عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، وَيَظَلَّ إِذَا رَمَى الْجِمَارَ. وهذا سند صحيح.
ونوقش بأن ابن عباس خالفه عمر بن الخطاب، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بات في مِنًى ليالي أيام التشريق، وقال:«لتأخذوا مناسككم» .
والراجح: أن المبيت بمِنًى ليالي أيام التشريق واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمِنًى، وقال:«لتأخذوا مناسككم» ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أَذِن للعباس أن يبيت بمكة ليالي أيام التشريق من أجل سقايته، ولو كان المبيت سُنة لَمَا استأذنه العباس. ولأن عمر كان يَمنع المبيت خارج مِنًى ليالي أيام التشريق، فدل ذلك على الوجوب.
المطلب الثالث: حُكْم المبيت بمِنًى ليلة الثالث عشر للمُتعجِّل:
أيام المبيت بمِنًى هي أيام التشريق، وهي الأيام المعدودات، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فمَن تَعجَّل فليس عليه سوى مبيت ليلتين فقط، ويَسقط عنه المبيت ورمي الجمرة لليوم الثالث عشر؛ لعموم قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203].
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»
(1)
.
قال ابن قُدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مِنًى شَاخِصًا عَنِ الْحَرَمِ، غَيْرَ مُقِيمٍ بِمَكَّةَ، أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
(2)
.
فالحاصل: أن مَنْ تَعَجَّل فبات ليلة الثاني عشر ورمى الجمرات بعد الزوال، يباح له أن يغادر ويتعجل من مِنًى، ويَسقط عنه. وهذه رخصة إسقاط، فالحاج مُخيَّر في التعجيل والتأخير، وإن كان الأكمل والأفضل التأخر لمبيت الليلة الثالثة، ورمي جمرات اليوم الثالث من أيام التشريق؛ لفِعْله صلى الله عليه وسلم، ولأن فيه زيادة عمل مشروع.
(1)
صحيح: أخرجه أحمد (18773، 18954)، وأبو داود (1940)، وقد سبق تخريجه.
(2)
«المغني» (5/ 331)، ونَقَل الإجماع أيضًا الماوردي في «الحاوي» (4/ 199).
المبحث الرابع: حُكْم المُتعجِّل إذا غَرَبَتْ عليه شمس ثاني أيام التشريق:
اختَلَف أهل العلم في حُكْم مَنْ تَعَجَّل في اليوم الثاني عشر وغَرَبَتْ عليه الشمس، هل يبيت أم يرتحل؟ على قولين:
القول الأول: إذا غَرَبَتْ شمس يوم الثاني عشر على المُتعجِّل وهو بمِنًى، لزمه مبيت ليلة الثالث عشر والرمي من الغد. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وهو رواية عن أبي حنيفة
(1)
.
واستدلوا بالقرآن والمأثور:
أما القرآن، فاستدلوا بعموم قوله تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203].
ف (اليوم) اسم للنهار، فإذا غَرَبَتِ الشمس فقد خرج اليوم، فيجب عليه المبيت والرمي.
وأما المأثور، فعن عُمر رضي الله عنه أنه قال:«مَنْ أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلْيَقُمْ إِلَى الْغَدِ حَتَّى يَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ»
(2)
.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: «مَنْ غَرَبَتْ لَهُ الشَّمْسُ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ بِمِنًى، فَلَا يَنْفِرَنَّ حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ مِنَ الْغَدِ»
(3)
.
القول الآخَر: أن التعجل يتحقق بالخروج من مِنًى قبل الفجر. وبه قال الحنفية
(4)
.
واستدلوا بأن الليالي تابعة للأيام الماضية، فإذا كان يجوز رمي يوم الثاني عشر حتى طلوع فجر الثالث عشر، فكذا يَجوز له النفر بعد الغروب ما لم يطلع عليه الفجر.
ونوقش بما قاله الماوردي: وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ
(1)
«مواهب الجليل» (4/ 188)، و «الأم» (2/ 215)، و «المغني» (5/ 332)، و «تبيين الحقائق» (2/ 34).
(2)
إسناده صحيح: رواه البيهقي (9772) بهذا المتن عن ابن عمر من طريق مالك. وعَقَّب بقوله: وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ
…
فَذَكَرَهُ.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1214) عن نافع، به. وروى ابن أبي شيبة (12959) بسند صحيح: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَلَا يَنْفِرُ حَتَّى الْغَدِ وَتَزُولَ الشَّمْسُ.
(4)
«المبسوط» (4/ 68)، و «بدائع الصنائع» (2/ 159)، و «الهداية» (3/ 177).
فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَتْبَعُ مَا قَبْلَهُ فِي الْحَجِّ كَلَيْلَةِ عَرَفَةَ، وَلَا يَتْبَعُ مَا بَعْدَهَا مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ.
وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْجِيلَ يَتَعَلَّقُ بِالْيَوْمِ، وَخُرُوجُ الْيَوْمِ مُعْتَبَرٌ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّفْرَ نَفْرَانِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مَا بَعْدَ النَّفْرِ الثَّانِي مِنَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ، ثَبَتَ أَنَّ مَا بَعْدَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ لَيْلَةِ عَرَفَةَ فَلَيْسَتْ تَبَعًا، وَإِنَّمَا هِيَ وَيَوْمُ عَرَفَةَ فيه سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ
(1)
.
والراجح: أن مَنْ غَرَبَتْ عليه شمس يوم الثالث عشر يجب عليه المبيت إلى الغد ويَرمي الجمار؛ لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ولأن التعجل يتعلق باليوم، وخروج اليوم يتعلق بغروب الشمس، فالتعجل إذًا متعلق بالغروب.
المبحث الخامس: إذا غَرَبَتِ الشمس قبل انفصاله من مِنًى:
مَنْ رمى الجمار واشتغل بالرحيل حتى غَرَبت الشمس له أن يرتحل.
قال النووي: وَلَوْ غَرَبَتْ وَهُوَ فِي شُغْل الارْتِحَالِ، جَازَ النَّفْرُ عَلَى الأَصَحِّ
(2)
.
وهذا هو الأرفق بالناس مع كثرة الزحام، والتزام الناس بوسائل النقل الحديثة الذي يكون التحكم في سيرها خارجًا عن إرادة مالكها، والله رَفَع الحرج عن العباد رحمة بهم.
قال الشيخ ابن عثيمين: لو أن جماعة حلوا الخيام وحملوا العفش وركبوا، ولكن حَبَسهم المسير لكثرة السيارات، فغَرَبت عليهم الشمس قبل الخروج من مِنًى، فلهم أن يستمروا في الخروج؛ لأن هؤلاء حُبسوا بغير اختيارهم
(3)
.
(1)
«الحاوي» (1/ 7).
(2)
وقال في «الإيضاح» (ص: 372): وَلَوْ رَحَلَ فَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَهُوَ سَائِرٌ فِي مِنًى قَبْلَ انْفِصَالِهِ مِنْهَا، فَلَهُ الِاسْتِمْرَارُ فِي السَّيْرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَبِيتُ وَلَا الرَّمْيُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ. وانظر «المجموع» (8/ 249)، و «الذخيرة» (3/ 281).
(3)
«تلخيص كتاب الحج من الشرح الممتع» (ص: 74).
المبحث السادس:
القَدْر الذي يتحقق به الوجوب من المبيت في مِنًى:
اختَلَف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الواجب على الحاج أن يبيت معظم الليل. وهو مذهب المالكية، والشافعية في الصحيح عنهم. وذلك لأن مُسَمَّى المبيت لا يَحصل إلا بمعظم الليل، كما لو حلف لا يبيت بمكان، لم يَحنث إلا بمبيت معظم الليل
(1)
.
القول الثاني: أن الواجب في المبيت نصف الليل. وبه قال المالكية
(2)
.
القول الثالث: أن يكون بعد منتصف الليل ولو بوقت يسير. وبه قال الحنابلة
(3)
.
والراجح: أن المُعتبَر في المبيت الكون بمِنًى معظم الليل؛ إذ المبيت ورد مطلقًا، والاستيعاب غير واجب اتفاقًا، فأقيم المُعْظَم مُقام الكل، فالمبيت المطلوب بمِنًى معناه أن يَقضي الحاج بمِنًى مُعْظَم الليل ليلتي الحادي عشر والثاني عشر إِنْ تَعَجَّل.
ومَن ذهب للطواف يوم النحر، فتَأخَّر للعودة إلى مِنًى للازدحام وللتعب، حتى ذهب أكثر الليل، وبات باقي ليلة الحادي عشر في مِنًى، فلا تجب عليه فدية، والله أعلم.
(1)
«الشرح الكبير» (2/ 49)، و «الإيضاح» (ص: 353)، و «نهاية المحتاج» (3/ 300).
(2)
«حاشية الدسوقي» (2/ 48، 49).
(3)
«المبدع» (3/ 264).
المبحث السابع: حُكْم الدم لمَن تَرَك المبيت بمنى ليلة من ليالي التشريق:
اختَلَف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: لا يَلزمه شيء؛ لأن المبيت سُنة. وهو مذهب الحنفية، ورواية للحنابلة.
الثاني: يَلزمه دم بترك المبيت بمِنًى ليلة من ليالي التشريق. وهو مذهب المالكية، ورواية عن أحمد.
الثالث: مَنْ تَرَك المبيت بمِنًى ليلة من ليالي التشريق، فعليه أن يتصدق بمُدّ طعام. وهو قول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة.
قال ابن عثيمين: لو تَرَك ليلة من الليالي، فإنه ليس عليه دم، بل عليه إطعام مسكين إِنْ تَرَك ليلة، وإطعام مسكينين إِنْ تَرَك ليلتين، وعليه دم إِنْ تَرَك ثلاث ليالٍ.
وقال ابن باز: المنصرف في اليوم الحادي عشر قد أَخَل بما يجب عليه من الرمي، فعليه دم يُذبَح في مكة للفقراء، أما تَرْكه المبيت في منى ليلة الثاني عشر، فعليه عن ذلك صدقة بما يتيسر، مع التوبة والاستغفار عما حصل منه من الخلل والتعجل في غير وقته؛ وإِنْ فَدَى عن ذلك كان أحوط؛ لِما فيه من الخروج من الخلاف؛ لأن بعض أهل العلم يرى عليه دمًا بترك ليلة واحدة من ليلتي الحادي عشر والثاني عشر بغير عذر شرعي
(1)
.
المبحث الثامن: سقوط المبيت عن أصحاب سقاية الحجيج ورعاة الإبل
(2)
:
يَسقط المبيت عن أصحاب سقاية الحجيج ورعاة الإبل. وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
ففي «الصحيحين» : عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اسْتَأْذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، رضي الله عنه رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى؛ مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ.
(1)
«مجموع فتاوى ابن باز» (17/ 386)، و «الشرح الممتع» (7/ 358).
(2)
(أهل السِّقاية) أي: سِقاية الحُجاج من زمزم. و (الرعاية): رعاية إبل الحُجاج. وذلك أن الناس فيما سبق كانوا يحجون على الإبل، فإذا نزلوا في مِنًى احتاجوا إلى مَنْ يَرعى إبلهم؛ وقد رَخَّص النبي صلى الله عليه وسلم للرعاة أن يَدَعُوا المبيت بمِنًى ليالي مِنًى لاشتغالهم برعاية الإبل. «الشرح الممتع» (7/ 390، 391).
(3)
«الشرح الكبير» (2/ 49)، و «المجموع» (8/ 247)، و «الفروع» (6/ 61).
المبحث التاسع: هل يُلحَق سائر أهل الأعذار كالمرضى ونحوهم بأهل السقاية والرعاة في عذرهم بالمبيت خارج مِنًى؟
اختَلَف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن سائر أهل الأعذار كالمرضى يُلْحَقون بأهل السقاية والرعاة، في جواز المبيت خارج مِنًى، وتَسقط عنهم الفدية. وبه قال الشافعية، وهو قول للحنابلة
(1)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّص لأصحاب سقاية الحجيج ورعاة الإبل؛ تنبيهًا على غيرهم، أو أنه نَصَّ عليه لمَعْنًى وُجِد في غيرهم، فوَجَب إلحاقه بهم.
واستدلوا بعموم الآيات والأحاديث الدالة على أن الإنسان لا يُكلَّف إلا ما يستطيع.
القول الآخَر: أن مَنْ تَرَك المبيت لعذر كالمرضى ونحوهم، فقد تَرَك الواجب، فيجب عليه دم. وبه قال المالكية، وهو المشهور عند الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بأن الرخصة مقصورة على عذر السقاية والرعي، ولا تتعدى إلى غير هذه الأعذار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن إلا لهذين الصنفين، مع احتمال وجود غيرهم من أهل الأعذار في ذلك الوقت، ولم يُنْقَل الإذن إلا لهؤلاء، فدل على أنه لا يُعْذَر سواهم.
ونوقش هذا بأن الرخصة تَثبت بالقياس، إذا وُجدت العلة الجامعة بينهما.
والراجح: أن سائر أهل الأعذار كالمرضى ونحوهم يُلْحَقون بأهل السقاية والرعاة في جواز المبيت خارج مِنًى، وأن الرخصة تتعدى لغير أهل السقاية والرعي إذا وُجدت العلة، فيقاس على أهل السقاية المريض ومَن يقوم على شئونه، والجنود ورجال الأمن والصحة والنظافة، الذين يقومون بمصالح الحجيج، ويكون تقدير ذلك لأهل العلم
(3)
.
(1)
«الحاوي» (4/ 199)، و «الإيضاح» (ص: 362)، و «المغني» (5/ 379).
(2)
«المُنتقَى» (3/ 45)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 49)، و «الإنصاف» (9/ 249).
(3)
قال ابن قُدامة: ولأنهم يشتغلون بالرعاية واستقاء الماء، فرُخِّص لهم في ذلك. وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله- كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم «الكافي في فقه الإمام أحمد» (1/ 528). وقال النووي: وَمِنَ الْمَعْذُورِينَ مَنْ لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالْمَبِيتِ، أَوْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يَشُقُّ مَعَهُ الْمَبِيتُ، أَوْ يَشْتَغِلُ بِأَمْرٍ آخَرَ يَخَافُ فَوْتَهُ. «المجموع» (8/ 248).
الفصل الثاني
نوازل مِنًى
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: حُكْم المبيت بجوار مِنًى لمن لم يجد مكانًا مناسبًا
للمبيت فيها.
المبحث الثاني: مَنْ عَلِم أن حَمْلته لن تبيت بمِنًى.
المبحث الثالث: المبيت في شوارع مِنًى وأرصفتها.
المبحث الرابع: البناء في مِنًى وامتلاك مبانيها.
المبحث الخامس: البناء على سفوح جبال مِنًى مما لا يَتمكن الحُجاج
من استغلاله.
المبحث السادس: تأجير الأراضي والخيام والمساكن بمِنًى.
المبحث السابع: استغلال الأماكن الفارغة مما تم تأجيره.
المبحث الأول:
حُكْم المبيت بجوار مِنًى لمن لم يجد مكانًا مناسبًا
للمبيت فيها
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: يجب عليه أن يبيت في أقرب مكان يلي مِنًى؛ لعموم قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وهو فتوى اللجنة الدائمة، وقول ابن عثيمين
(1)
.
واستدلوا بقياس امتلاء مِنًى على امتلاء المسجد، فإن المسجد إذا امتلأ وجب على الناس أن يُصَلُّوا حوله لتتصل الصفوف؛ حتى يكونوا جماعة واحدة. والمبيت نظير هذا. ولأن ما جاور الشيء يُعطَى حُكْمه، وأن الزيادة لها حكم المَزيد.
ونوقش بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الصلاة في حاجة لاتصال الصفوف من أجل الإمام والاقتداء، وليس هناك اقتداء في المبيت بمِنًى.
واستدلوا بأن المقصود من المبيت أن يكون الناس مجتمعين أُمَّة واحدة، وهذا من أعظم مقاصد الحج، وهو توحيد الناس في عبادتهم وفي لبسهم وفي مبيتهم، فالواجب أن يكون الإنسان عند آخِر خيمة حتى يكون مع الحجيج.
ونوقش بأن هذا الاجتماع قد حَصَل بغيرهم، فقد اكتظت بالحجاج، وهو إنما تَرَك الاجتماع معهم لتَعَّذُّر المكان. وبأنه لا يمكن اتصال الصفوف؛ لأن حد مِنًى الشرقي وادي مُحَسِّر، والسُّنة عند عبوره الإسراع فيه؛ فكيف يقال باستحباب المبيت فيه؟! وحَدُّ مِنًى الغربي من جهة مكة عبارة عن طرق للجمرات، ولا يمكن مكث الحاج فيها!
(1)
وقد أفتت اللجنة الدائمة (11/ 266) بأن أماكن الحج وأزمنته محددة من الشارع، وليس فيها مجال للاجتهاد، وقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وقال فيها:«خذوا عني مناسككم» ، وبَيَّن فيها الأزمنة والأمكنة. وحدود مِنًى: من وادي مُحَسِّر إلى جمرة العقبة، فعلى مَنْ حج أن يلتمس مكانًا له داخل حدود مِنًى. فإِنْ تَعَذَّر عليه حصول المكان، نَزَل في أقرب مكان يلي مِنًى ولا شيء عليه.
وسُئل ابن عثيمين عن الحاج لا يجد مكانًا في مِنًى، هل يجزئه أن يبيت خارج مِنًى؟
فأجاب: لا حرج عليه أن يبيت خارج مِنًى؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ولكن يكون منزله متصلًا بمنازل الحُجاج، كالجماعة إذا امتلأ المسجد، يَصُفون عند نهاية الصفوف، ويكون لهم حكم المصلين داخل المسجد. «مجموع فتاوى العثيمين» (23/ 240).
واستدلوا بأن مَنْ لم يتمكن من المبيت في مِنًى، فلا يَسقط عنه المبيت إلى غير بدل، بل يقف فيما جاور المكان من العزيزية أو المزدلفة.
ونوقش بأن الذي يحدده البدل هو وجود نص، كقوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا» ولم يَرِد نص يدل على بدل للمبيت بمِنًى، فيبقى كغيره من الواجبات التي تَسقط إلى غير بدل.
القول الآخَر: إذا اجتهد الحاج في التماس مكان في مِنًى ليبيت فيه ليالي مِنًى، فلم يجد شيئًا، فيَسقط عنه المبيت في مِنًى في هذه الحال، ويَجوز له عند ذلك أن يبيت خارج مِنًى، في مزدلفة أو العزيزية أو غيرهما، ولا شيء عليه. وهو قول ابن باز
(1)
.
واستَدل ابن باز بعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
واعتُرض عليه بأن من التقوى لمن لم يجد مكانًا في مِنًى أن يقف فيما جاور المكان لأنه في استطاعته، ويكون ما جاوره له حكمه كالمسجد.
واستَدل بالقياس، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم أَسْقَط المبيت عن أهل الأعذار كالسقاة والرعاة، فكذا يَسقط عمن لم يجد مكانًا في مِنًى؛ لأن هذا عذر.
واعتُرض على هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن هذا قياس مع الفارق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عَذَر مَنْ بات في مكة من أجل السقاية؛ لأن السقاية هناك، ورَخَّص للرعاة للمبيت في أماكن رعيهم. أما مَنْ لم يجد مكانًا في مِنًى، فما عذره الخاص الذي يبيح له الانتقال من الأماكن المجاورة لمِنًى؟!
الثاني: على هذا القول فإن مَنْ لم يجد مكانًا في مِنًى، وهو من أهل الأماكن القريبة من الحرم، كأهل جدة، فله أن يبيت في بيته. وهذا مُنافٍ لمَقصِد الحج، وهو اجتماع الناس.
وأجيب عنه بأن المبيت إذا تَعَذَّر في مِنًى، فلا يعني الخروج من حدود الحرم، بل له أن يبيت في أي مكان، ما دام داخلًا في حدود الحَرَم.
(1)
«مجموع فتاوى ابن باز» (17/ 362).
والراجح: هو جواز المبيت في أقرب مكان يلي مِنًى، ولكن بشرط امتلاء مِنًى؛ لعموم قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
ولأنه إذا كان من أعظم مقاصد الحج أن يكون الناس مجتمعين أمة واحدة؛ لإقامة ذكر الله، فالمبيت في أقرب مكان يلي مِنًى أقرب إلى توحدهم.
وتَجدر الإشارة في هذا المقام إلى التنبيه على أمرين:
الأول: تَساهُل كثير من الحُجاج في التأكد من امتلاء مِنًى أم لا؟ ولذا قد تَوسَّع كثير من الحُجاج في ترك هذا الواجب (المبيت في مِنًى) للترفه والبقاء في الفنادق الفارهة في أنحاء مكة؛ مما أَفْقَدَ الحجَّ معناه الحقيقي، الذي سَمَّاه به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» فالحج جهاد. فيجب على هؤلاء الدم لتساهلهم في ترك واجب؛ لأنه يجب على الحاج أن يجتهد في إيجاد مكان للمبيت في مِنًى.
الثاني: أنه مع ما قامت به الحكومة السعودية في خدمة الحرمين، من المشاريع العملاقة والتوسعات الجبارة، نحتاج إلى مزيد من الجهود، فلو بُني عدد من المساجد الكبيرة العملاقة، وكل مسجد به عدد كبير من الأطباق في مِنًى وعرفة، كمسجد الخَيْف ومسجد عرفة، لمَكَّنَتِ الكثير من الحُجاج من المبيت في مِنًى، ولخَفَّ كثير من الزحام.
المبحث الثاني: مَنْ عَلِم أن حملته لن تبيت بمِنًى:
قد تكون الحملة عَيَّنَتْ مكانًا في مزدلفة، فإن كان الحاج يستطيع أن يَحجز مع حملة أخرى تُناسِب قدرته المادية بمِنًى، فهذا يجب عليه تغيير حملته إلى الحملة التي بمِنًى؛ لعموم قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
أما إذا كان الحاج لا يستطيع أن يَحجز مع حملة أخرى، فله أن يَبقى في حملته في مزدلفة، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها.
المبحث الثالث: المبيت في شوارع مِنًى وأرصفتها:
هذا لا يخلو من حالين:
الأول: إذا وَجَد الحملة مكانًا في مِنًى تجلس أغلب الليل فيه، في طريق أو غيره، ولا يترتب على الجلوس فيها ضرر على المارة والسيارات، فلها أن تجلس في هذا الموضع؛ عملًا بحديث:«مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» .
الثاني: إذا لم يجد الحملة مكانًا مناسبًا للمبيت في مِنًى، فلا يجب عليها المبيت على الأرصفة والطرق المزدحمة بالمارة والسيارات، مثل الطرق الموصلة للجَمَرات، فيُمْنَع من ذلك؛ لِما يسببه هذا الفعل من تعطيل الحركة وإرباك الحُجاج، وقد يَحدث دهس وتزاحم ينتج عنهما بعض حالات وفاة؛ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مَنَع الصحابة من الجلوس في طرق الدواب، فما بالك بطرق الناس والسيارات؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا عَرَّسْتُمْ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ؛ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ»
(1)
.
المبحث الرابع: البناء في مِنًى وامتلاك مبانيها:
لا يَجوز التملك في مَشْعَر مِنًى؛ فقد اتَّفق العلماء على أن بقاع المناسك لا تباع، كالمسعى ومِنًى وعرفة ومزدلفة، كالمساجد
(2)
.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَبْنِي لَكَ بِمِنًى بَيْتًا أَوْ بِنَاءً يُظِلُّكَ مِنَ الشَّمْسِ؟ فَقَالَ:«لَا، إِنَّمَا هُوَ مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ»
(3)
.
فالحاصل: أن بِقاع المناسك كعرفة ومِنًى حُكْمها حُكْم المساجد، بغير خلاف.
ولذا قد أفتت هيئة كبار العلماء بأن البناء في مِنًى لا يجوز؛ لأن مِنًى مَشْعَر من المشاعر المقدسة، وأنها مُنَاخُ مَنْ سَبَق، وأن أهل العلم رحمهم الله قد مَنعوا البناء فيها؛ لكَوْن ذلك يُفضِي إلى التضييق على عباد الله حُجاج بيته الحرام.
وقد قرروا في بعض المواطن جواز البناء إن كان لمصلحة عموم الحجيج
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (1926).
(2)
قال ابن عَقيل: أَمَّا بِقَاعُ الْمَنَاسِكِ كَمَوْضِعِ السَّعْيِ وَالرَّمْيِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسَاجِدِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. «المغني» (6/ 367). وقال الطحاوي: فَرَأَيْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ بِنَاءً، وَلَا يَحْتَجِرَ مِنْهُ مَوْضِعًا، وَكَذَلِكَ حُكْمُ جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَقَعُ لِأَحَدٍ فِيهَا مِلْكٌ، وَجَمِيعُ النَّاسِ فِيهَا سَوَاءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ (عَرَفَةَ) لَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْنِيَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ فِيهَا بِنَاءً، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ؟ وَكَذَلِكَ (مِنًى) لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا دَارًا، كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَمْنُوعًا. «شرح معاني الآثار» (4/ 50).
(3)
ضعيف: أخرجه أحمد (25541)، وأبو داود (2019).
وإسناده ضعيف لتفرد إبراهيم بن مُهاجِر به، وهو ضعيف. ووالدة يوسف بن مَاهَك- وهي مُسَيْكة المكية- مجهولة، تَفرَّد بالرواية عنها ابنها يوسف، ولم يوثقها مُعتبَر.
(4)
«أبحاث هيئة كبار العلماء» (3/ 403)، و «النوازل في الحج» (ص: 450).
المبحث الخامس:
البناء على سفوح جبال مِنًى مما لا يَتمكن الحُجاج من استغلاله:
يجوز لسببين:
الأول: أن سفوح جبالها غير صالحة في الغالب لسكنى الحُجاج فيها أيام مِنًى، وأنها يمكن أن تُستغل بطريقة تحقق المصلحة العامة، وذلك قد يخفف الزحام في مِنًى.
الثاني: أن ذلك مما يُمَكِّن كثيرًا ممن لا يُمْكِنه المبيت في مِنًى أن يبيت فيها، ولا شك أن هذا مطلب شرعي، وأن هذا لا يترتب عليه ضرر بالحُجاج الآخرين.
ويراعى أن يكون هذا البناء مرفقًا عامًّا وما تحته لمن سبق إليه من الحُجاج، كبقية أراضي مِنًى، على أن يكون الإشراف على هذا البناء للدولة
(1)
.
المبحث السادس: تأجير الأراضي والخيام والمساكن بمِنًى:
نص قرار هيئة كبار العلماء على جواز إنشاء الخيام في مِنًى، على أن التوزيع على الحُجاج على حَسَب الأسبقية؛ عَمَلًا بحديث:«مِنًى مُناخ مَنْ سَبَق» واعتبار ذلك شرطًا أساسيًّا في الموضوع، يستوي في ذلك الأفراد ومؤسسات الطوافة، وحَمَلات الحُجاج، كُلٌّ بقَدْر حاجته، كبقية أراضي مِنًى
(2)
.
وحيث إن الدولة قد تكلفت في مشروع الخيام الكثير من الأموال، فهل يَجوز تأجيرها؟
نعم، يَجوز تأجير هذه الخيام بأربعة ضوابط:
الأول: يراعى في قيمة الإيجار أن يُكتفَى بقيمة الصيانة والخدمات. وإذا كانت الخيمة
(1)
وفي «أبحاث هيئة كبار العلماء» (3/ 403):
ونظرًا إلى أن سفوح جبالها غير صالحة في الغالب لسكنى الحُجاج فيها أيام مِنًى، وأنه يمكن أن تُستغل هذه السفوح بطريقة تُحقِّق المصلحة العامة، ولا تتعارض مع العلة في منع البناء في مِنًى، فإن المجلس يُقَرِّر بالأكثرية جواز البناء على أعمدة في سفوح الجبال المطلة على مِنًى على وجه يَضمن المصلحة للحُجاج، ولا يعود عليهم بالضرر، ويكون هذا البناء مَرفقًا عامًّا، وما تحته لمن سبق إليه من الحُجاج كبقية أراضي مِنًى، على أن يكون الإشراف على هذا البناء للدولة. ويُنظَر «فقه النوازل» د. محمد الجيزاني (2/ 342).
(2)
قرار هيئة كبار العلماء رقم (185).
تُستهلَك في خمس سنوات، فيؤخذ خُمس تكلفة الخيمة مع قيمة الصيانة والخدمات، فمعنى ذلك أنه لا يؤخذ إلا ثمن التكلفة.
الثاني: يراعى في المساحة، أن لا تُعطَى الحملة أكثر من حاجتها، ومَن تَعمَّد أخذ مساحة زائدة ليؤجرها من أجل أن يتكسب، فقد اغتَصب مكانًا لا حق له فيه، وأَخَذ مالًا زائدًا من أجل الموقع والأرض، ويكون بذلك أَكَل سُحتًا.
الثالث: الموقع لا يكون له تأثير في قيمة الإيجار؛ لأن الإيجار هو تكلفة الخيمة مع قيمة الصيانة والخدمات، وهي متساوية من أول مِنًى إلى آخرها. ومَن زاد الأجرة اعتبارًا للموقع، فمعنى ذلك أنه قد زاد من أجل الأرض التي لا يختص بها أحد دون أحد، فلا يحق له الزيادة في أجرتها.
الرابع: يراعى أن يكون التوزيع بحَسَب الأسبقية عملًا بحديث: «مِنًى مُناخ مَنْ سَبَق» ولَمَّا كان ذلك متعذرًا في الوقت الحالي، فيكون التوزيع بالقرعة
(1)
.
المبحث السابع: استغلال الأماكن الفارغة مما تم تأجيره:
هذا لا يخلو من حالين:
الأول: أنه توجد بعض المساحات الفارغة الملحقة ببعض المخيمات، والتي لا تُستغل، والمسئولون عن هذه المخيمات يَمنعون الحُجاج من استغلال هذه المساحات الفارغة؛ بحجة أنها مستأجرة.
وهذا استدلال باطل؛ لأن الاستئجار يكون للخيام، أما تأجير المكان وتَرْكه خاليًا، فيَحرم بالإجماع، ولا يحق لأحد أن يَمنع الحُجاج منه، ولو كان تابعًا لأحد المخيمات المحاطة؛ لأن «مِنًى مُناخ مَنْ سَبَق» .
الثاني: أنه توجد بعض الأماكن الفارغة، كالطرق المؤدية للخيام، فلا يَجوز المبيت فيها؛ لعدم التضييق على الحُجاج وأذيتهم في طرقهم.
•1•
(1)
«النوازل في الحج» (ص: 453) وهو كتاب جيد ونافع وماتع، وقد أفدتُ منه كثيرًا، فجزى الله مؤلفه خير الجزاء وأوفاه، وجَعَل جنة الفردوس مأواه.
الباب العِشرون
رمي الجمار
وفيه تمهيد وأربعة فصول:
التمهيد: تعريف رمي الجمار، وحُكْمه.
الفصل الأول: شروط الرمي.
الفصل الثاني: وقت رمي الجمار.
الفصل الثالث: سُنن رمي الجمار.
الفصل الرابع: شروط الوكالة في الرمي.
التمهيد: تعريف رمي الجمار، وحُكْمه.
المبحث الأول: تعريف رمي الجمار:
الرمي لغة: هو الإلقاء والقذف. والجمرة هي الحصاة الصغيرة
(1)
.
وسُميت الجمرات الثلاث (الكبرى والوسطى والصغرى) بمِنًى بذلك، إما لأنها تُرمَى بالجمار، وإما لأنها مَجْمَع الحصى التي يُرمَى بها.
وشرعًا: هُوَ الْقَذْفُ بِالْحَصَى، فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، الجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ فِي مِنًى، وَعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، سَبْعُ حَصَيَاتٍ لِكُلِّ جَمْرَةٍ.
المبحث الثاني: أنواع الجمرات:
وَالْجَمَرَاتُ الَّتِي تُرْمَى ثَلَاثَةٌ، هِيَ: الْجَمْرَةُ الأْولَى، وَتُسَمَّى الصُّغْرَى، سُمِّيَتْ (دُنْيَا) مِنَ الدُّنُوِّ؛ لأِنَّهَا أَقْرَبُ الْجَمَرَاتِ إِلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ. الْجَمْرَةُ الثَّانِيَةُ: وَتُسَمَّى الْوُسْطَى. وَجَمْرَةُ الْعَقَبَةِ: وَهِيَ الثَّالِثَةُ، وَتُسَمَّى أَيْضًا (الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى) وَتَقَعُ فِي آخِرِ مِنًى تُجَاهَ مَكَّةَ، وَلَيْسَتْ مِنْ مِنًى. وَتُرْمَى هَذِهِ الْجَمَرَاتُ كُلُّهَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ
(2)
.
المبحث الثالث: حُكْم رمي الجمار:
نُقِل الإجماع على أن رمي الجمار واجب من واجبات الحج، ولكن هذا الإجماع منخرم، والصحيح أن هذا قول جماهير العلماء
(3)
.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] فهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، والمقصود بالذِّكر هنا الرمي، يوضحه قوله تعالى: {فَمَنْ
(1)
«لسان العرب» مادة (رم ي)، وتطلق الجمرة على معانٍ، منها: اجتماع القبيلة على مَنْ ناوأها، أو أَلْف فارس، أو قطعة من النار المتقدة، أو الظُّلمة الشديدة. انظر «تاج العروس» .
(2)
«الموسوعة الفقهية الكويتية» (23/ 150).
(3)
قال الكاساني: إن الأمة أجمعت على وجوبه. «بدائع الصنائع» (2/ 136)، وقال النووي: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ. «المجموع» (8/ 162)، ونَقَل الإجماع أيضًا ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (17/ 460)، ولكن هذا الإجماع منخرم، فقد نُقِل عن ابن الماجشون من المالكية أن رمي الجمار ركن من أركان الحج، كما في «بداية المجتهد» (1/ 258)، وهو مسبوق بالإجماع. وقد رُوي عن عِيَاض من المالكية أن رمي الجمار سُنة مُؤكَّدة، كما في «التاج والإكليل» (3/ 130).
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّص للعباس ولرعاة الإبل في ترك المبيت بمِنًى، ولم يُرخِّص لهم في ترك الرمي، فدل ذلك على وجوب الرمي.
المبحث الرابع: الحكمة من رمي الجمار:
الرمي فيه اقتداء بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ويُقصَد به الانقياد للأمر وإظهار العبودية، بعيدًا عن تخبطات العقل وهواجسه.
ومِن أهم حِكم رمي الجمار ما يلي:
الأولى: هي طاعة لله، بامتثال أمره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
الثانية: أن الرمي شُرع لإقامة ذكر الله.
لعموم قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203].
وَيَدْخُلُ فِي الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ رَمْيُ الْجِمَارِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} الْآيَةَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّمْيَ شُرِعَ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ.
الثالثة: الِاقْتِدَاءُ بِإِبْرَاهِيمَ فِي عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ وَرَمْيِهِ، وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] الْآيَةَ، فَكَأَنَّ الرَّمْيَ رَمْزٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَا
(2)
.
(1)
قال النووي: اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْعِبَادةِ الطَّاعَةُ، والعِبَادَاتُ كُلهَا لَهَا مَعَانٍ قَطْعًا؛ فإِنَّ الشَّرْعَ لَا يأْمُرُ بِالْعَبَثِ، ثُمَّ مَعْنَى الْعِبَادَاتِ قَدْ يَفْهَمُهُ المُكَلَّفُ وَقَدْ لَا يَفْهَمُهُ
…
وَمِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتي لَا تُفْهَمُ مَعَانِيهَا السَّعْيُ وَالرَّمْيُ، فَكُلّفَ الْعَبْدُ بِهَا لِيَتِمَّ انْقِيادُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا حَظَّ للنَّفْسِ فِيهِ وَلَا أُنسَ لِلْعَقْلِ بِهِ، فَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرَّدُ امتِثَالِ الأَمْرِ وَكَمالِ الانْقِيَادِ. «الإيضاح» (ص: 373).
(2)
وقد ورد هذا المعنى عن ابن عباس، وله طريقان:
الطريق الأول: ما رواه الحاكم (1713): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ قَالَ: «لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللهِ الْمَنَاسِكَ، عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ، وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ تَنْعُونَ» . قلت: وفي إسناده (محمد القُرَشي) ضَعَّفه الدارقطني، وقال الحاكم في «التاريخ»: ثقة مأمون، واتهمه الذهبي بالوضع. «لسان الميزان» (6/ 493).
الطريق الثاني: رَوَاهُ حَمَّادٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. رواه أحمد (2794).
وفي إسناده عطاء بن السائب، اختَلَط، وحماد روى عنه قبل الاختلاط وبعده.
ورواه حَمَّاد، عن أبي عاصم، عن أبي الطُّفَيْل به، عند أحمد (2707) وأبو عاصم الغَنَوِيّ مجهول.
الفصل الأول
شروط الرمي
للرمي ثمانية شروط، وهي:
الأول: النية مع الرمي بالحصى.
الثاني: أن يكون الرمي بحصيات.
الثالث: العدد المخصوص.
الرابع: أن يَرمي الجمرة بالحصيات السبع متفرقات، واحدة فواحدة.
الخامس: وقوع الحصى في الجمرة التي يَجتمع فيها الحصى.
السادس: ترتيب الجمرات في رمي أيام التشريق.
السابع: الموالاة بين الرميات السبع للجمرة الواحدة.
الثامن: أن يكون الرمي في زمن الرمي.
الفصل الأول: شروط الرمي
الشرط
الأول: النية مع الرمي بالحصى:
قال النووي: يُشْتَرَطُ فِي الرَّمْيِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُسَمَّى رَمْيًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالرَّمْيِ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّمْيِ، فَلَوْ وَضَعَ الْحَجَرَ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ
…
وَيُشْتَرَطُ قَصْدُ الْمَرْمَى، فَلَوْ رَمَى فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ الْحَجَرُ فِي الْمَرْمَى، لَمْ يُجْزِهِ بِلَا خِلَافٍ
(1)
.
الشرط
الثاني: أن يكون الرمي بحصيات:
يُشترَط أن يكون المرمي به من الحصى، وهي الحجارة الصغار، ولا يصح الرمي بالطين ولا بالتراب. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
ثَبَت أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى؛ لقول جابر: «فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ»
(3)
.
وذهب الحنفية إلى جواز الرمي بما كان من جنس الأرض كالطين، واستثنَوْا من ذلك الذهب والفضة. واستدلوا بأن المقصود فِعل الرمي، وذلك يَحصل بالطين كالحصى
(4)
.
ونوقش بأن النبي صلى الله عليه وسلم رَمَى بالحصى، ولا يَجوز إلحاق غيره به؛ لأنه موضع لا يَدخل القياس فيه
(5)
.
الراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء، من اشتراط أن يكون المرمي به من الحصى، ولا يجزئ عنه غيره؛ لقول جابر:«فَرَمَاهَا صلى الله عليه وسلم بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ» .
(1)
«المجموع» (8/ 173).
(2)
«مواهب الجليل» (3/ 133)، و «الأُم» (2/ 234)، و «الحاوي» (4/ 179)، و «المغني» (5/ 290).
(3)
أخرجه مسلم (1218). وفي الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ، فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» خرجه أبو داود (1966) وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف. وله طرق أخرى ضعيفة.
(4)
«الهداية» (3/ 168)، و «رد المحتار» (2/ 514).
(5)
«المغني» (5/ 290). قال النووي: فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِالْحَصَى، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. «المجموع» (8/ 186).
الشرط
الثالث: العدد المخصوص:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أن يكون عدد الحصيات سبعًا لكل جمرة:
فيجب استيفاء عدد حصيات الرمي السبع في كل جمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى كل جمرة بسبع حصيات؛ لحديث جابر، وفيه:«فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ»
(1)
.
المطلب الثاني: لو تَرَك شيئًا من الحصى، وفَاتَه أن يتداركه:
اختَلف أهل العلم فيما لو تَرَك شيئًا من الحصى، وفَاتَه أن يتداركه على قولين:
القول الأول: يجب استيفاء عدد حصيات الرمي السبع في كل جمرة، فيجب الدم ولو بترك حصاة واحدة. وهو المذهب عند المالكية، ورواية عند أحمد
(2)
.
القول الآخَر: يجب الدم بترك ثلاث حصيات من كل جمرة، وجعلوا للأكثر حُكْم الكل. وهو مذهب الحنفية والشافعية، والحنابلة في المشهور
(3)
.
المطلب الثالث: اختلف العلماء في الذي يجب على مَنْ ترك حصاة:
فمِن قائل: عليه أن يتصدق بمُدّ طعام، ومِن قائل: بنصف صاع، ومِن قائل: بدرهم.
(1)
وروى البخاري (1752) عن ابن عمر أنه كان يَرمي الجمرة الدنيا بسَبْع حَصَيات، ويقول: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ. ورَوَى النَّسَائي (3102) بسند صحيح: عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَخِيهِ الفَضْلِ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ.
ويشكل عليه ما رواه أبو داود (1967) بسند صحيح: عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ يَقُولُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجِمَارِ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي، أَرَمَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسِتٍّ أَوْ بِسَبْعٍ.
وقد روى أحمد (14832) بسند صحيح: عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:«لَا أَدْرِي بِكَمْ رَمَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» .
وَجْه الإشكال: أن جابرًا وابن عباس جزما بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ووافقهما على ذلك ابن عمر. وقد روى أبو مِجْلَز عن ابن عباس، وروى أبو الزبير عن جابر خلاف ما جزما به؛ إذ فيهما أن ابن عباس وجابرًا نفيا درايتهما بِكمْ رَمَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة.
والراجح ما قاله ابن القيم: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَمَى الْجَمْرَة بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وابْنِ عُمَرَ، وَشَكُّ الشَّاكّ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَزْمِ الجازمِ. «حاشية ابن القيم» (5/ 312).
(2)
«الكافي» (1/ 410)، و «الذخيرة» (3/ 265). وقال المَرْدَاوي: وَفِي عَدَدِ الحَصَى رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: سَبْعٌ. وَهِيَ المَذْهَبُ. وَالأُخْرَى: يُجْزِئُهُ خَمْسٌ. «الإنصاف» (9/ 243).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 139)، و «المهذب» (1/ 420)، و «الإنصاف» (9/ 243).
واستدلوا بالقياس، فكما أن مَنْ تَرَك الرمي وجب عليه الدم، فمَن تَرَك حصاة تَصَدَّق بما يعادل تلك الحصاة لفقراء الحرم
(1)
.
الشرط
الرابع: أن يَرمي الجمرة بالحصيات السبع متفرقات، واحدة فواحدة:
فلو رمى السبع جملة، فهي حصاة واحدة، ويَلزمه أن يَرمي بسِتّ سواها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى كل جمرة بسبع حصيات مفرقات، أي: بسبع رميات. وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
الشرط
الخامس: وقوع الحصى في الجمرة التي يجتمع فيها الحصى:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: يُشترَط وقوع الحصى في الأحواض المُشاهَدة حول الشاخص.
اتَّفَق العلماء على أن من شروط الرمي أن تقع في الأحواض المُشاهَدة حول الشاخص. سواء اصطدمت بالشاخص أو لم تصطدم.
ودل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى في هذا المكان المخصوص، وقال:«لتأخذوا مناسككم» ولله الحمد، فهذا الأمر قد سهل الآن، فإذا وقعت الحصاة في الحوض الذي هو محل اجتماع الحصى، فتجزئ
(3)
.
المطلب الثاني: الرمي من الأدوار العليا:
يَجوز الرمي من الأدوار العليا، واستُدل لذلك بالسُّنة والمأثور والمعقول:
أما السُّنة، فرَوَى مسلم عن جابر قال:«رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ» .
فالرسول صلى الله عليه وسلم رمى الجمرات راكبًا، والرمي من الدور الثاني مُشابِه لرمي الراكب.
وأما المأثور، فَعَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ فَوْقِهَا
(4)
.
وَجْه الدلالة: أن عمر رمى جمرة العقبة من فوقها خَشية الزحام، ولم يُنكِر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فهذا دليل على جواز رمي الجمرات من فوق الطابق.
واستُدل بأن سماحة الشريعة تقتضي جواز الرمي من الأدوار العليا، خاصة في هذه
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 139)، و «شرح المُحَلَّى» (2/ 124)، و «المغني» (5/ 230).
(2)
«حاشية الدسوقي» (2/ 50)، و «المجموع» (8/ 176)، و «كشاف القناع» (2/ 501).
(3)
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه إذا رَمَى على أي حال كان الرمي، إذا أصاب مكانَ الرمي، أجزأه. «الإجماع» (ص: 71). وكذا نَقَل الإجماع ابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 118).
(4)
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (13588) وفي إسناده حَجَّاج بن أرطأة، وفيه ضَعْف.
السنوات التي تزايد فيها عدد الحُجاج، إلى حد يوقع في الحرج، بل تَزهق فيه الأرواح، فبناء الأدوار العليا يُسَهِّل أداء نسك الرمي مع الراحة وسلامة النفوس.
وأما المعقول، فاستدلوا بأن الهواء تابع للقرار، فمَن رمى من أعلى الطابق الذي بُني على الوادي، فهو في حُكم مَنْ رمى من بطن الوادي؛ لأن الهواء تابع للقرار.
وأما ما رُوي عن ابن عمر من أنه رمى الجمرات من بطن الوادي، فقيل له: إن ناسًا يرمونها من فوقها! فقال: «مِنْ هاهنا، والذي لا إله إلا هو، رأيتُ الذي أُنْزِلَتْ عليه سورة البقرة رماها» فإنه حَثٌّ على الفضيلة في الرمي من جهة بطن الوادي عند السَّعة.
الشرط
السادس: ترتيب الجمرات في رمي أيام التشريق:
يُشترَط أن يَرمي الجمار الثلاث على الترتيب: يَرمي أولًا الجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخَيْف من جهة مِنًى، ثم الوسطى، ثم يرمي الكبرى (جمرة العقبة).
دل على هذا الشرط أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرات مُرَتَّبة، ولو كان يَجوز الرمي غير مرتب لفَعَله صلى الله عليه وسلم، ولو مرة لبيان الجواز. وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالقياس على السعي، فمَن بدأ بالمروة قبل الصفا، فإن هذا الشوط لا يجزئه.
وذهب الحنفية إلى أن ترتيب رمي الجمار سُنة
(2)
.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل فيمن قَدَّم نُسكًا على نُسك، كان يقول:«لا حرج» .
ونوقش بأن الحديث فيمن قَدَّم نُسكًا على نسك، لا فيمن قَدَّم بعض نسك على بعض.
الشرط
السابع: الموالاة بين الرميات السبع للجمرة الواحدة:
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم والى في رمي الحصيات في الجمرة الواحدة. وهو قول عند الحنفية، والمالكية والشافعية، والمشهور عند الحنابلة
(3)
.
(1)
«حاشية الدسوقي» (2/ 46)، و «الإيضاح» (ص: 366)، و «المغني» (5/ 329).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 139)، و «فتح القدير» (2/ 497).
(3)
«ابن عابدين» (2/ 514)، و «مختصر خليل» (2/ 334)، و «المجموع» (8/ 240)، و «الفروع» (6/ 53).
الفصل الثاني:
وقت رمي الجمار
وفيه تمهيد، وتسعة مباحث:
التمهيد: الرمي أيام التشريق.
المبحث الأول: الوقت المتفق على إجزاء الرمي فيه في أيام التشريق.
المبحث الثاني: حُكْم رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال.
المبحث الثالث: رمي الجمار في الليل.
المبحث الرابع: حُكْم الرمي لليوم الثاني عشر من منتصف الليلة التي قبله.
المبحث الخامس: نهاية وقت الرمي أيام التشريق.
المبحث السادس: تأخير رمي الجمار إلى آخِر أيام التشريق.
المبحث السابع: النَّفْر الأول إذا رمى الجمار ثاني أيام التشريق.
المبحث الثامن: النَّفْر الثاني إذا رمى الجمار ثالث أيام التشريق.
المبحث التاسع: مَنْ تَرَك الرمي حتى انقضت أيام مِنًى.
التمهيد
يَرمي الحاج في أيام التشريق الجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى، كل جمرة بسبع حصيات، في اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر واليوم الثالث عشر.
المبحث الأول: الوقت المتفق على إجزاء الرمي فيه في أيام التشريق:
نُقِل الإجماع على إجزاء الرمي في أيام التشريق الثلاثة، بعد زوال الشمس
(1)
.
المبحث الثاني: حُكْم رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال:
اتَّفَق العلماء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَمَى جمرة العقبة ضُحَى يوم النحر.
وحُكي الإجماع على أنه لا يجوز تقديم رمي الجمار في أيام التشريق قبل الزوال
(2)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد اختلف العلماء في جواز الرمي قبل الزوال على أربعة أقوال:
القول الأول: لا يصح الرمي قبل زوال الشمس في أيام التشريق، ومَن رمى قبل الزوال فعليه الإعادة. وبه قال أبو حنيفة في رواية، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فبما ثَبَتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رمى بعد الزوال، في أحاديث كثيرة:
فعن جَابِرٍ قَالَ: «رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ» يعني أما بعد يوم النحر في أيام التشريق، فيَرمي الجمرات إذا زالت الشمس.
(1)
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن مَنْ رَمَى الجمار في أيام التشريق بعد زوال الشمس، أن ذلك يجزئه. «الإجماع» (ص: 58). وقد نَقَل الإجماع: ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص: 46)، وابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 272)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 118)، وابن تيمية في «شرح العمدة» (2/ 557).
(2)
قال الماوردي: فلا يَجوز تقديم رمي يوم على زواله إجماعًا. «مرقاة المفاتيح» (5/ 1816).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 137)، و «المُدوَّنة» (1/ 436، 437)، و «الأُم» (2/ 332)، و «المغني» (5/ 328).
قال ابن عبد البر: وَاخْتَلَفُوا إِذَا رَمَاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ رَمَاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَعَادَ رَمْيَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ. «الاستذكار» (4/ 353).
وروى البخاري: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا»
(1)
.
وروى أبو داود: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «
…
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ»
(2)
.
فدلت هذه الأحاديث على أن رمي النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد الزوال، ولم يَثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رمى قبل الزوال، والرمي عبادة محضة لا تُدرَك بالعقل ولا تُعْرَف بالقياس، فيجب فيها اتباع النقل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لتأخذوا مناسككم» .
ونوقش بأنَّ فِعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد عن الأمر والنهي- لا يدل على وجوب تحديد وقت الرمي بالزوال؛ لأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم منها الأركان، ومنها الواجبات، ومنها المستحبات، فالرَّمَل والاضطباع ودعاء الطواف كل هذه مستحبات بالإجماع، فقد يكون الرمي بعد الزوال سُنة، ويَجوز قبل الزوال.
وأجيب عنه بأَنَّ فِعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا احتفت به القرينة الدالة على الوجوب، فإنه واجب، ورَمْي النبي صلى الله عليه وسلم الجمار بعد الزوال احتفت به قرائن تدل على وجوبه:
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم بادر بالرمي بعد الزوال وقبل صلاة الظهر، وكأنه يترقب زوال الشمس ليرمي ثم يصلي الظهر، فهذا دليل على عدم جواز الرمي قبل الزوال. ولو جاز لفَعَله لكي يصلي الظهر في أول وقتها.
الثانية: لو كان يَجوز الرمي قبل الزوال، لفَعَله النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة بيانًا للجواز؛ لأنه لا يَجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولِما فيه من التيسير على العباد؛ فإن الرمي في الصباح أيسر على الأمة؛ لأنه بعد الزوال يشتد الحر ويشق على الناس، فلا يمكن أن يختار النبي صلى الله عليه وسلم الأشد ويَدَع الأخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، ولو كان يحل الرمي قبل الزوال، لاختاره النبي صلى الله عليه وسلم تيسيرًا على أمته.
الثالثة: أن العبادات مبناها على التوقيف، ولم يَرِد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومَن تبعهم أنهم رَمَوْا قبل الزوال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لتأخذوا مناسككم» .
الرابعة: أنه لو كان يَجوز الرمي قبل الزوال، لبَيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للتوسيع على أمته،
(1)
أخرجه البخاري (1746).
(2)
إسناده حسن: رواه أبو داود (1973)، وقد سبق تخريجه.
فهو القائل: «نَحَرْتُ هنا، ومِنًى كلها مَنْحر» فوَسَّع صلى الله عليه وسلم على أمته، ولم يَرِد أنه صلى الله عليه وسلم قال:(رَميتُ في هذا الوقت، وقبل الزوال يجزئ) فوجب الالتزام بفعله صلى الله عليه وسلم.
وأما دليلهم من المأثور على عدم جواز تقديم رمي الجمار في أيام التشريق قبل الزوال، فهو قول ابن عمر:«كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا» فتَرقُّب الزوال والانتظار مع شدة الحر لا يكون إلا انتظارًا لبداية وقت الرمي، وإلا كان عَبَثًا وهَدْرًا للأوقات، فلو كان يجوز الرمي قبل الزوال، لفَعَله الصحابة ولدَلَّهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وأما القياس، فكما أنه لا يَجوز الرمي في مكان غير المكان الذي رمى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فكذا لا يَجوز الرمي في غير الزمن الذي رمى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرمي بعد الزوال في أيام التشريق. وكما أنه لا يَجوز صلاةٌ قبل وقتها، فكذا لا يَجوز الرمي قبل الزوال.
القول الثاني: أن الرمي قبل الزوال جائز في سائر أيام التشريق. وهو قول عند الحنفية، وقول بعض الشافعية وبعض الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمعقول والقياس:
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203].
وَجْه الدلالة: فمَن تَعَجَّل في اليوم الثاني عشر، فرَمَى الجمار قبل الزوال، ثم خرج من مِنًى، فالآية تَشهد بصحة فعله؛ لأن لفظ (اليوم) يَعُم أول النهار وآخِره.
واعتُرض عليه بأن لفظ (اليوم) وإن دل على أول النهار وآخِره، فإِنَّ فِعل النبي صلى الله عليه وسلم مُبيِّن لعموم القرآن، ومُفسِّر له، بأن وقته بعد الزوال، فوجب أن يُحْمَل لفظ الذِّكر ورمي الجمار المطلق على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قَيَّده بالرمي بعد الزوال، كما يطلق على يوم العيد يوم الأضحى، ولا يَجوز ذبح الأضحية قبل صلاة العيد.
وأما السُّنة، فَعَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِرِعَاءِ الإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ بِيَوْمَيْنِ، وَيَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ
(3)
.
(1)
صح عن ابن عمر عند مالك (1219) أنه قال: لَا تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ.
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 137)، و «تحفة المحتاج» (4/ 138)، و «الفروع» (6/ 590). وهو قول الجُويني والرافعي من الشافعية، وابن الجوزي من الحنابلة، وبه قال عطاء وطاوس، كما في «الفتح» (3/ 678).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (1220)، وأبو داود (1975)، مِنْ طريق الْقَعْنَبِيّ وابن وهب بهذا اللفظ، وأحمد (23775)، والترمذي (955) من طريق عبد الرزاق بلفظ: ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَرْمُونَهُ فِي أَحَدِهِمَا. قَالَ مَالِكٌ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَالَ: فِي الأَوَّلِ مِنْهُمَا، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ.
وهناك كلام مُعارِض لهذا، فقد قال مالك: وَتَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَمْيَ الْجِمَارِ، فِيمَا نُرَى، وَاللهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ، رَمَوْا مِنَ الْغَدِ، وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الأَوَّلِ، يَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى، ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى، كَانَ الْقَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَدَا لَهُمُ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا، وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الْغَدِ، رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الآخِرِ، وَنَفَرُوا. «موطأ مالك» (1/ 546).
وَجْه الدلالة: قوله: «ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ بِيَوْمَيْنِ» أي: يَجوز للرعاة أن يَرموا في أول أيام التشريق، ليومين، وإنه إذا جاز للرعاة أن يُقَدِّموا رمي اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الأول، وهو تقديم يوم بكامله، فمِن باب أَوْلَى أن يَجوز تقديمه في اليوم نفسه قبل الزوال.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: جاء الحديث من طريق أخرى، وفيه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَتَعَاقَبُوا، فَيَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَدَعُوا يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ يَرْمُوا الْغَدَ
(1)
.
فهذه الرواية بَيَّنَتْ أن الرمي لا يُقَدَّم إلى اليوم الأول، ولكن يُؤخَّر رمي اليوم الأول إلى اليوم الثاني، وعلى هذا يَبطل الاستدلال بالحديث على جواز الرمي قبل الزوال.
الثاني: أن الرخصة خاصةٌ بالرعاء، ويُلْحَق بهم غيرهم من أهل الأعذار، ومَن عداهم يَبقى على الأصل وهو الرمي بعد الزوال.
واستدلوا بما رُوي: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ، وَأَيَّ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ شَاءُوا
(2)
. أي: في أي ساعة من النهار، قبل الزوال وبعده.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ. فَقَالَ: «لَا حَرَجَ»
(3)
.
فهذا دليل على جواز الرمي قبل الزوال؛ لأن الرجل ما سأل عن الرمي مساء، إلا بعد أن تَقَرَّر لديه جواز الرمي نهارًا قبل الزوال وبعده.
واعتُرض عليه بأن هذا الحديث خاص بترتيب أعمال يوم النحر، وليس أيام التشريق،
(1)
إسناده صحيح: أخرجه أحمد (23777).
(2)
ضعيف: أخرجه الدارقطني (2685). وفي إسناده إبراهيم بن يزيد، قال ابن القَطَّان: وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ هَذَا إِنْ كَانَ هُوَ الْخُوزِيَّ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ؟ «نَصْب الراية» (3/ 86).
(3)
رواه البخاري (1723).
والرمي يوم النحر يكون من الضحى قبل الزوال.
وأما المعقول، فاستدلوا بأن من قواعد الشرع رَفْع الحرج ونَفْي المشقة في الحج وغيره، ومع كثرة الحُجاج وما يَحدث من زحام وتَدافُع يؤدي في بعض الأحيان إلى إزهاق الأنفس عند زوال الشمس، وهذه مشقة، والمشقة تَجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، والله يقول:{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فكل هذه الأمور تدل على جواز الرمي قبل الزوال.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: دعوى الضرورة مردودة؛ لأن الزحام في بعض الأوقات كبَعْد الظهر، وفي بعض الأدوار كالدور الأول، ويمكن تأخير الرمي بعد العصر حتى يزول الزحام؛ لأن الوقت الذي يُشْرَع فيه الرمي طويل.
الثاني: أن الأعذار والضرورات لا تجيز تقديم العبادة عن وقتها، فالمريض لا يصلي الظُّهر قبل الزوال بحال، فكذا لا يجوز الرمي قبل الزوال، ولا سيما مع توسيع الجمرات وكثرة الأدوار والوقت الطويل الذي يُشْرَع فيه الرمي.
واستدلوا بما رُوي: عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: رَمَقْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَمَاهَا عِنْدَ الظَّهِيرَةِ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ
(1)
. أي: قبل الزوال.
ونوقش بأن هذا يحتمل أن يكون في يوم النحر، ولو كان في أيام التشريق فقد خالفه غيره من الصحابة، والعبرة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رمى بعد الزوال.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: ذَهَبْتُ أَرْمِي الْجِمَارَ، فَسَأَلْتُ: هَلْ رَمَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما؟ فَقَالُوا: لَا، وَلَكِنْ قَدْ رَمَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. يَعْنُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما. قَالَ عَمْرٌو: فَانْتَظَرْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ، فَأَتَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى فَرَمَاهَا
(2)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (14795): ولا تضر عنعنة ابن جُريج، قال يحيى القطان: أحاديث ابن جُريج عن ابن أبي مُليكة كلها صحاح. كما في مقدمة «الجَرْح والتعديل» (ص: 241).
(2)
إسناده ضعيف إلى ابن الزبير: أخرجه الفاكهي (2664). وفي إسناده محمد بن أبي عمر العدني، صدوق، كان ملازمًا لابن عُيينة، قال أبو حاتم: وكانت فيه غفلة. «التقريب» (6391).
وهو متصل؛ لأن عمرو بن دينار أَخْبَر عن مشاهدته لرمي ابن عمر، ولم يُخْبِر عن مشاهدته لابن الزبير مباشرة، وإنما بواسطةٍ غير مسماة، فهو من التحديث عن المُبْهَم.
وَجْه الدلالة: أن هذا يُفْهَم منه أن ابن الزبير رمى قبل الزوال.
ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه ضعيف، وأنه جاء خلاف هذا القول عن ابن الزبير، فَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ:«رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَعُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَرْمِيَانِ الْجِمَارَ، بَعْدَ مَا زَالَتِ الشَّمْسُ»
(1)
. وهذا هو الأرجح من فعل ابن الزبير، وهو موافق لعمل الصحابة.
الثاني: أن في الأثر نفسه أن ابن عمر لم يَرْمِ حتى زالت الشمس.
الثالث: أن هذا الأثر يدل على أن الإمام لا يَرمي إلا بعد زوال الشمس، وإلا لزم أن ابن عمر يفتي مَنْ سأله بالاقتداء بمن يَعلم أنه يخالف هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الرمي! وهذا في غاية البطلان، ولا سيما وابن عمر قد اشتهر بتعظيم السُّنة بما يَعرفه كل أحد.
وأما القياس، فاستدلوا بأمرين:
الأول: كما أنه يَجوز الرمي بعد طلوع الشمس في يوم النحر، فكذا يَجوز في أيام التشريق؛ لأن الكل أيام نحر، ولا يُفَرَّق بين مُتماثلَين.
واعتُرض عليه بأن مَنْ قاس الرمي في أيام التشريق على يوم النحر في وقته، فعليه أن يقيسه في الكيفية، فلا يَرمي في سائر أيام التشريق إلا جمرة العقبة؛ قياسًا على يوم النحر! ولا شك أن هذا مُخالِف لهديه صلى الله عليه وسلم بالإجماع، وهو القائل:«خذوا عني مناسككم» .
الثاني: أنه إذا كان يَجوز للحاج تأخير رمي الجمار إلى آخِر أيام التشريق؛ لأن يوم النحر مع أيام التشريق وقت واحد للرمي، فمِن باب أَوْلَى القول بجواز رمي كل يوم في يومه قبل الزوال.
ونوقش بأن هذا القياس غير صحيح؛ لأن رمي الجمار قبل الزوال رَمْي لها قبل وقتها، وفِعل العبادة قبل وقتها مُبْطِل لها، بينما جَمْعها في آخِر يوم هو من جنس تأخيرها عن وقتها، وهو غير مُبْطِل لها، إنما فيها التحريم إذا لم يكن معذورًا.
القول الثالث: لا يَجوز الرمي قبل الزوال إلا في يوم النفر، فمَن نَفَر في الثاني عشر أو في
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (14794) وإسناده حسن؛ لحال أبي خالد الأحمر. وابن جُريج من أعلم الناس بعمرو بن دينار، كما قاله ابن المديني والدارقطني «شرح علل الترمذي» (2/ 130).
الثالث عشر من ذي الحجة، فيَجوز أن يَرمي في اليوم الذي ينفر فيه قبل الزوال. وهذا قول أبي حنيفة في رواية، ورواية عن أبي يوسف، ورواية عن أحمد
(1)
.
واستدلوا بالكتاب والمأثور والقياس:
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203].
وَجْه الاستدلال: فمَن تَعَجَّل في اليوم الثاني عشر، فرمى الجمار قبل الزوال، ثم خرج من مِنًى، فالآية تَشهد بصحة فعله؛ لأن لفظ (اليوم) يَعُم أول النهار وآخِره.
وأما المأثور، فاستدلوا بما رُويَ عن ابنِ عباس رضي الله عنهما قال:«إِذَا انْتَفَحَ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ النَّفْرِ الآخِرِ، فَقَدْ حَلَّ الرَّمْيُ وَالصَّدْرُ»
(2)
.
قوله: «إِذَا انتفح (ارتَفَعَ) النَّهارُ» أي: يَجوز الرمي في ضحى يوم النفر الثاني قبل الزوال.
واعتُرض على هذا بأنه ضعيف، ولو صح فليس بصريح؛ لأنه يحتمل أن يكون الانتفاح قبل الزوال أو بعده، وإذا تَطَرَّق النص للاحتمال بَطَل به الاستدلال.
وأما القياس، فإن الرمي في اليوم الثالث للتشريق يجوز تركه، فجاز الرمي قبل الزوال.
ونوقش بأن النوافل المؤقتة لا يصح عملها إلا في وقتها، كصلاة الكسوف والعيدين.
القول الرابع: لا يَجوز الرمي قبل الزوال إلا في ثالث أيام التشريق. وهذا قول أبي حنيفة في رواية
(3)
.
والراجح: عدم جواز رمي الجمار أيام التشريق فبل الزوال؛ لفِعله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ:«رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ» .
وكذا فإن عامة الآثار الواردة مُوافِقة للسُّنة الصحيحة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:«كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا» .
ولو كان يَجوز الرمي قبل الزوال لفَعَله النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة، أو رَخَّص لأحد من
(1)
«المبسوط» (4/ 68)، و «المغني» (5/ 328)، و «الفروع» (6/ 60).
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (9773) وفي إسناده طلحة بن عمرو المكي، وهو ضعيف.
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 138)، و «فتح القدير» (2/ 499).
أصحابه، والعبادات مبناها على التوقيف كمواقيت الصلاة، ولا يُعبَد الله إلا بما شَرَع.
فعدم الرمي قبل الزوال هو فِعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمين، وفِعل صحابته الغُر الميامين، وقول عامة السلف حتى عهد قريب
(1)
.
ومع الجهد الرائع الذي بَذَلَتْه بلاد الحرمين، من تنظيم منطقة الجمرات، وجَعْل مسارات مستقلة لكل اتجاه، والأدوار المتتابعة؛ مما نتج عن ذلك بعون الله سهولة رمي الجمار، مع الابتعاد عن أوقات الزحام. ومع حُسن التنظيم، فينبغي أن يكون هناك تفويج للحُجاج بالقرعة في أوقات محددة.
وقد صَدَر قرار بذلك من هيئة كبار العلماء، وفيه عدم جواز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال؛ لفِعله صلى الله عليه وسلم وقال:«لتأخذوا مناسككم» ولقول ابن عمر أيام التشريق: «كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا» . ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأنصح الناس وأرحمهم، فلو كان جائزًا قبل الزوال لبَيَّنه
(2)
.
المبحث الثالث: رمي الجمار في الليل:
اتَّفَق أهل العلم على أن مَنْ رَمَى الجمار قبل مغيب الشمس، فقد رماها في وقتها
(3)
ولكن لو فات النهار، هل يَجوز له أن يرميها ليلًا أم لا؟
اختَلف العلماء في تحديد نهاية وقت رمي الجمار، هل بغروب الشمس أو بطلوع فجر اليوم الثاني؟ على قولين:
القول الأول: جواز الرمي ليلًا، وأن آخِر وقت رمي الجمار هو طلوع فجر اليوم التالي. وهذا مذهب الحنفية، وقول للمالكية، وقول عند الشافعية، وقول عند الحنابلة
(4)
.
(1)
قال شيخ الإسلام: «
…
الحَاجَّ يَرْمِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ أَيَّامَ مِنًى الثَّلَاثَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي تَنَاقَلَتْهُ الْأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ عَنْ نَبِيِّهَا صلى الله عليه وسلم». «شرح العمدة» (2/ 557).
(2)
«بيان هيئة كبار العلماء» (25/ 388، 389).
(3)
«المغني» (5/ 295).
(4)
«المبسوط» (4/ 64)، و «مواهب الجليل» (3/ 135)، و «الأم» (2/ 333)، و «مسائل ابن هانئ» (1/ 178).
واستدلوا بالسُّنة والمأثور والقياس:
أما السُّنة، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ. فَقَالَ: «لَا حَرَجَ»
(1)
.
وَجْه الدلالة: تصريح النبي صلى الله عليه وسلم برفع الحرج عمن رمى بعد ما أمسى، والمساء يَدخل فيه الليل، فدل ذلك على جواز الرمي ليلًا.
ويدل على جواز الرمي ليلًا ما ورد من الإذن للرعاة أن يَرموا ليلًا، فعَنْ أَبِي بَدَّاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ، وَأَنْ يَجْمَعُوا الرَّمْيَ
(2)
.
ونوقش بأن لفظة (رَخَّص) تدل على أن الإذن إنما كان لهم للعذر، ولا يقاس عليهم.
وأجيب بأن الرعاة لا عذر لهم في الرمي؛ لأن بعضهم كان يمكن أن يستنيب بعضًا.
وأما المأثور، فما ورد عن ابن عمر، أنه أَذِن لزوجته صفية وابنة أخيها أن ترميا بالليل.
روى مالك: أَنَّ ابْنَةَ أَخٍ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ نُفِسَتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَتَخَلَّفَتْ هِيَ وَصَفِيَّةُ حَتَّى أَتَتَا مِنًى، بَعْدَ أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَرَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ أَنْ تَرْمِيَا الْجَمْرَةَ حِينَ أَتَتَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِمَا شَيْئًا
(3)
.
أما دليلهم من القياس، فإذا كان يَجوز الوقوف بعرفة ليلًا لأن الليل تبع للنهار، فكذا يجوز رمي الجمار بالليل؛ لأن الليل يتبع النهار، ولأنه إذا رُخص في رميها في اليوم الثاني، فالرمي بالليل أَوْلَى.
(1)
أخرجه البخاري (1735).
(2)
شاذ بهذا اللفظ، ومدار هذا الحديث على مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي بَدَّاح، عن أبيه، واختُلف عنه: فرواه وَكيع، عن مالك بهذا اللفظ عند ابن خُزيمة (3051).
وخالف وكيعًا الثقات الحُفاظ (كابن مهدي والقطان وعبد الرزاق
…
) وغيرهم، فرووه عن مالك، ولم يَذكروا الرمي ليلًا، وإنما ذكروا البيتوتة بمِنًى (رَخّصَ لرعاء الإبل في البيتوتة) وجمع الرمي فقط (ثم يجمعوا رمي يومين) وخالفهم وكيع فذَكَر الرمي ليلًا، فشَذَّ بهذه الزيادة.
وقد يكون هذا الوهم من سَلْم بن جُنَادة الراوي عن وكيع، قال ابن حجر: ثقة ربما خالف. وقال أبو أحمد الحاكم: يخالف في بعض حديثه.
ولهذا الحديث طرق أخرى كلها ضعيفة، أعرضتُ عنها لعدم الإطالة.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1223) عن أبي بكر بن نافع، به.
القول الآخَر: أن رمي الجمرة ليلًا لا يَجوز؛ لأن وقت الرمي يوم النحر ينتهي بغروب الشمس. وهو قول للمالكية، وأحد الوجهين عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور:
أما السُّنة، فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرْمِ الجمرات إلا نهارًا، فدل على عدم جوازه ليلًا.
ونوقش بأَنَّ فِعله هذا للاستحباب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أجاز مَنْ رمى مساء، والمساء يَدخل فيه الليل، فلما سأله رجل فقال: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ:«لَا حَرَجَ» .
وأما المأثور، فما ورد عن ابن عمر قال:«مَنْ نَسِىَ أَيَّامَ الْجِمَارِ- أَوْ قَالَ: رَمْيَ الْجِمَارِ إِلَى اللَّيْلِ- فَلَا يَرْمِي حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنَ الْغَدِ»
(2)
.
ونوقش بأنه مُعارَض بما ثَبَت عن ابن عمر من الترخيص لزوجته بالرمي ليلًا.
والراجح: أنه يجوز الرمي ليلًا، فيمتد وقت جواز رمي كل يوم إلى فجر اليوم التالي، وأن آخِر وقت لرمي جمرة العقبة يوم النحر هو طلوع فجر أول أيام التشريق؛ لِما رواه ابن عباس قال: سأل رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رميتُ بعدما أمسيتُ، فقال:«لا حرج» .
المبحث الرابع:
حُكْم الرمي لليوم الثاني عشر من منتصف الليلة التي قبله:
مَنْ قالوا بجواز الرمي قبل الزوال اختلفوا هل يَبدأ بطلوع الفجر أو الشمس؟
القول الأول: يَبدأ الرمي بطلوع الفجر. وهو رواية عند الحنفية وبعض الشافعية
(3)
.
واستدلوا بأن طلوع الفجر هو أول النهار، كما في الصيام وغيره، وبه ينتهي وقت الرمي لليوم الذي قبله، فناسب أن يكون بداية للرمي في اليوم الجديد.
القول الآخَر: يَبدأ الرمي بطلوع الشمس. وهو قول بعض الحنابلة
(4)
.
(1)
«المُدوَّنة» (2/ 419)، و «المجموع» (8/ 162)، و «المغني» (5/ 295).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه البيهقي في «السُّنن الكبرى» (9758).
(3)
«نَصْب الراية» (3/ 35)، و «تحفة المحتاج» (4/ 138).
(4)
«مسائل إسحاق» (ص: 497)، و «الفروع» (3/ 382).
واستدلوا بما رُويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إِذَا انْتَفَحَ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ النَّفْرِ الآخِرِ، فَقَدْ حَلَّ الرَّمْيُ وَالصَّدْرُ» .
وَجْه الدلالة: (إِذَا انْتَفَحَ النَّهَارُ) فدل ذلك على عدم جواز الرمي قبل طلوع الشمس.
والراجح عند مَنْ أجاز الرمي قبل الزوال: جواز الرمي بطلوع الفجر؛ لأنه بداية اليوم ونهاية رمي اليوم السابق.
وهنا مشكلة كبرى، وهي أن حُجاج أكثر الحَمَلات يَرمون الجمرات من منتصف ليلة الثاني عشر، وينصرفون من مِنًى في ذلك الوقت؛ وذلك بِناء على أن اليوم الجديد يَبدأ من الساعة الثانية عَشْرة مساء، كما هو معمول به في المطارات والحجوزات ونحو ذلك، فهل يَجوز الرمي لليوم الثاني عشر من منتصف الليلة السابقة له؟
والجواب: لا يَجوز؛ لأن اليوم لا يَبدأ لغة ولا شرعًا قبل طلوع الفجر.
والعلماء الذين قالوا بجواز الرمي قبل الزوال اختلفوا: هل يَبدأ الرمي بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس؟ ولم أقف على دليل مَنْ قال بجواز الرمي لليوم الثاني عشر من منتصف الليلة السابقة له، إلا تجار الحملات.
وبعضهم يذهب قبل منتصف الليل بنصف ساعة، من ليلة الثاني عشر، فيرمي لليوم الحادي عشر، ثم بانتهائه يدور بعد منتصف الليل، ويرمي لليوم الثاني عشر، وكأنه في نزهة خلوية، وقد نسي أن الحج جهاد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» .
وتأتي مِنًى بعد منتصف الليل، فتكاد تكون المخيمات خالية من الحُجاج، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولذا فلا اعتبار لهذا الرمي من منتصف ليلة الثاني عشر؛ لِما فيه من خداع وتغرير بالحُجاج بدون دليل، والله أعلم.
المبحث الخامس: نهاية وقت رمي الجمار أيام التشريق:
ينتهي وقت الرمي أداء وقضاء بغروب شمس آخِر يوم من أيام التشريق، بالإجماع
(1)
.
واختَلف أهل العلم في آخِر وقت كل يوم للرمي على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن آخِر وقت كل يوم للرمي بغروب شمس كل يوم بيومه، ومَن أَخَّره فعليه دم. وهو مذهب المالكية
(2)
.
القول الثاني: أن آخِر الرمي كل يوم من أيام التشريق بطلوع فجر اليوم التالي. وهو مذهب الحنفية
(3)
.
القول الثالث: أنه إلى آخِر أيام التشريق، ومَن أَخَّره بعدها فعليه دم. وهو مذهب الشافعية والحنابلة وصاحبَي أبي حنيفة
(4)
.
والراجح: أن أوقات الرمي تتفاوت، وهي ثلاثة:
فوقت الفضيلة: من بعد الزوال إلى الغروب؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ووقت الجواز: من بعد غروب الشمس إلى طلوع فجر اليوم التالي.
فقد سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم سائل فقال: «رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ» أي: بعد دخول وقت المساء، والليل يَدخل فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا حَرَجَ» فهذا يدل على جواز الرمي ليلًا، وإن كان السؤال يوم النحر، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
ووقت النَّهْي: وهو من بعد الفجر حتى الزوال، والله أعلم.
(1)
قال ابن عبد البر: أَجْمَع العلماء على أن مَنْ فاته رمي ما أُمِر برميه من الجمار في أيام التشريق، حتى غابت الشمس من آخرها، وذلك اليوم الرابع من يوم النحر، وهو الثالث من أيام التشريق؛ فقد فاته وقت الرمي، ولا سبيل له إلى الرمي أبدًا، ولكن يَجبره بالدم أو بالطعام، على حَسَب ما للعلماء في ذلك من الأقاويل. «التمهيد» (17/ 255). وقد نَقَل الإجماع على ذلك: ابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 119)، والنووي في «المجموع» (8/ 239)، والقرطبي في «تفسيره» (3/ 7)، وابن تيمية في «نقد مراتب الإجماع» (ص: 293). وقد ورد خلاف عن عطاء لا يُلتفت إليه. «تبيين الحقائق» (2/ 35).
(2)
«مواهب الجليل» (3/ 130، 131)، و «حاشية الدسوقي» (2/ 48).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 137).
(4)
«الإيضاح» (ص: 366)، و «المغني» (5/ 333)، و «بدائع الصنائع» (2/ 139).
المبحث السادس: تأخير رمي الجمار إلى آخِر أيام التشريق:
اختَلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يَجوز تأخير رمي الجمار إلى آخِر أيام التشريق (اليوم الثالث عشر) ويرميه مُرَتَّبًا: رَمْي اليوم الأول، ثم رَمْي اليوم الثاني
…
وهكذا؛ لأنها في حُكم اليوم الواحد. وهو قول صاحبَي أبي حنيفة، ومذهب الشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمعقول:
أما السُّنة، فَعَنْ عَاصِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِرِعَاءِ الإِبِلِ فِي البَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الغَدَ، ومِنْ بَعْدِ الغَدِ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ.
وأما المعقول، فإن أيام التشريق كلها كاليوم الواحد، وقت للرمي، فإذا أَخَّره عن أول وقته إلى آخره أجزأه، كتأخير الوقوف بعرفة إلى آخِر وقته، وكذا جميع أيام التشريق وَقْت لذبح للأضاحي؛ فوجب أن تكون جميعها وقتًا لرمي الجمار.
(2)
.
القول الآخَر: أن تأخير رمي كل يوم عن وقته يوجب الدم. وهو قول أبي حنيفة، ومذهب المالكية، وقول عند الشافعية
(3)
.
واستدلوا بأن الرمي في كل يوم مؤقت به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى كل يوم في يومه.
ونوقش بِأَنَّ التَّرْخِيصَ بِجَمْعٍ أَيَّامَ الرَّمْيِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوْقَاتَ الرَّمْيِ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ مَنْ رَمَى عَنْ يَوْمٍ فِي الَّذِي بَعْدَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِإِذْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلرِّعَاءِ فِي ذَلِكَ.
(1)
«المبسوط» (4/ 650)، و «الحاوي» (4/ 196)، و «المغني» (5/ 333)، و «كشاف القناع» (2/ 510).
(2)
قال الشربيني: (وإذا تَرَك رمي يوم) أو يومين من أيام التشريق، عمدًا أو سهوًا أو جهلًا (تَدارَكه في باقي الأيام) منها، بالنص في الرِّعاء وأهل السِّقاية، وبالقياس في غيرهم؛ إذ لو كانت بقية الأيام غير صالحة للرمي، لم يَفترق الحال فيها بين المعذور كما في الوقوف بعرفة و مزدلفة. وكذا يتدارك رمي يوم النحر في باقي الأيام إذا تَرَكه. «مغني المحتاج» (2/ 278). قال الشنقيطي: فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رَمْيَ يَوْمٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ قَضَاءٌ لِعِبَادَةٍ خَرَجَ وَقْتُهَا بِالْكُلِّيَّةِ؛ لأَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ عِبَادَةٌ مُوَقَّتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي فِعْلِهَا فِي وَقْتٍ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنْ أَجْزَاءِ وَقْتِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مُوَقَّتَةً بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ يَنْتَهِي بِالْإِجْمَاعِ فِي وَقْتٍ مَعْرُوفٍ، وَيَأْذَنُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي فِعْلِهَا فِي زَمَنٍ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا، فَهَذَا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ «أضواء البيان» (4/ 469).
(3)
«المبسوط» (4/ 65)، و «المُدوَّنة» (2/ 424)، و «الحاوي» (4/ 197).
والراجح: أنه يصح تأخير رمي كل يوم إلى اليوم الثاني إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وكذا يجوز تأخير الرمي كله إلى آخِر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر، ويرميه مرتبًا: رمي اليوم الأول، ثم رمي اليوم الثاني؛ لأن أيام التشريق كلها كاليوم الواحد، وقت للرمي، فإذا أَخَّره عن أول وقته إلى آخره أجزأه، كتأخير الوقوف بعرفة إلى آخِر وقته. ولإذن النبي صلى الله عليه وسلم للرِّعَاء في ذلك، ولكن لا يجوز تأْخير يوم إلى يومٍ آخَر إلا لعُذْر، فهو وَقْت له، ولكنه كالوقت الضروري، كمَن صلى العصر قبل غروب الشمس، فهو قد أداها في وقتها الضروري، فيأثم للتأخير إلا لعذر، والله أعلم.
المبحث السابع: النَّفْر الأول إذا رمى الجمار ثاني أيام التشريق:
إذا رمى الحاج الجمار ثاني أيام التشريق، فيَجوز له أن ينفر إن أحب التعجل في الانصراف من مِنًى، هذا هو النَّفْر الأول، وبذلك يَسقط عنه المبيت ورَمْي اليوم الأخير.
قال الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أيام منى ثلاثة: فمَن تَعَجَّل في يومين فلا إثم عليه، ومَن تَأخَّر فلا إثم عليه» .
قال ابن قُدامة: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مِنًى شَاخِصًا عَنِ الْحَرَمِ، غَيْرَ مُقِيمٍ بِمَكَّةَ، أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
(1)
.
المبحث الثامن: النَّفْر الثاني إذا رمى الجمار ثالث أيام التشريق:
التأخير إلى ثالث أيام التشريق أفضل، فإذا رمى الحاج الجمار في اليوم الثالث من أيام التشريق بعد الزوال، انصرف من مِنًى إلى مكة، ويسمى النَّفْر الثاني
(2)
.
المبحث التاسع: مَنْ تَرَك الرمي حتى انقضت أيام مِنًى:
اتفقت كلمة المذاهب الأربعة على أن مَنْ تَرَك الرمي حتى انقضت أيام مِنًى، سَقَط عنه الرمي ووجب عليه الدم.
(1)
«المغني» (5/ 331). وقد نَقَل الإجماع على ذلك: الماوردي في «الحاوي» (4/ 199)، والنووي في «المجموع» (8/ 249)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 118) وغيرهم كثير.
(2)
قال الماوردي: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّعْجِيلِ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ، فَالْمُقَامُ إِلَى النَّفْرِ الثَّانِي أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَعَجَّلْ وَأَقَامَ إِلَى النَّفْرِ الثَّانِي، فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِهِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ رُخْصَةٌ وَالْمُقَامَ كَمَالٌ. وَلِأَنَّ المُتَعَجِّلَ قَدْ تَرَفَّهَ بِتَرْكِ بَعْضِ الأَعْمَالِ وَالمُقِيمَ لَمْ يَتْرُكْهَا «الحاوي» (4/ 199).
الفصل الثالث
سُنن رمي الجمار
الأولى: التقاط الجمار، كما فَعَل النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: أن يكون الرمي بمثل حصى الخَذْف.
الثالثة: طهارة الحصيات.
الرابعة: المبادرة بالرمي، فيَرمي جمرة العقبة بعد وصوله إلى مِنًى يوم النحر.
الخامسة: قَطْع التلبية مع أول حصاة يَرمي بها جمرة العقبة يوم النحر.
السادسة: التكبير مع كل حصاة.
السابعة: أن يَرمي الجمرة الصغرى، جاعلًا مِنًى عن يساره، ومكة عن يمينه.
الثامنة: الدعاء الطويل عقب رمي الجمرة الصغرى والوسطى.
التاسعة: الموالاة بين الجمرات الثلاث.
العاشرة: النزول بالأبطح بعد خروج الحاج من مِنًى يوم النفر.
الفصل الثالث: سُنن رمي الجمار
السُّنة الأولى: التقاط الجمار كما فَعَل النبي صلى الله عليه وسلم
-: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: لقط حصيات الرجم.
قال ابن قُدامة: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَخْذُ الحَصَيَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَ
(1)
.
واختلفوا في موضع استحبابه على قولين:
القول الأول: يُستحب أخذ حصى الجمار من مزدلفة. وبه قال المالكية والشافعية
(2)
.
قال النووي: ولأن السُّنة إذا أَتَى مِنًى لا يُعَرِّج على غير الرمي، فاستُحب أن يأخذ الحصى حتى لا يشتغل عن الرمي. وإِنْ أَخَذ الحصى من غيرها جاز
(3)
.
القول الآخَر: يلتقطها من مزدلفة أو من طريقه وحيث شاء. وهو مذهب الحنفية، ونَصَّ عليه مالك والحنابلة
(4)
.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ:«الْقُطْ لِي حَصًى» فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ، وَيَقُولُ:«أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا»
(5)
.
وَجْه الدلالة: وَيَأْخُذُ حَصَى الْجِمَارِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ أَوْ مِنَ الطَّرِيقِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
«المغني» (5/ 288)، قال ابن المنذر: لا أعلم خلافًا بينهم أنه من حيث أَخَذ أجزأه. «الإشراف» (3/ 322)، و «الإجماع» (ص: 71).
(2)
«الكافي» (1/ 377)، و «المجموع» (8/ 124 - 182).
(3)
«المجموع» (8/ 124).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 156)، و «المُدوَّنة الكبرى» (1/ 437)، و «كشاف القناع» (2/ 499).
(5)
مُعَل: رواه النَّسَائي (3082) مختصرًا بدون ذكر النهي عن الغلو في الدين. وابن ماجه (3044) واللفظ له، وأحمد (1851) من طرق: عَنْ عَوْفٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ.
وفي رواية ابن خُزيمة: قال عوف: لا أدري الفضل، أو عبد الله بن عباس. قال ابن حجر: ابن عباس المذكور في هذا الحديث هو الفضل لا عبد الله؛ لأن الفضل هو الذي أردفه النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يَزَل يلبي حتى رمى الجمرة. وأما عبد الله، فكان تَقدَّم مع الضعفاء من المزدلفة. وكل ذلك ثابت في الصحيح، وقد أخرجه البيهقي من هذا الوجه، فصَرَّح فيه بالفضل. «النُّكت الظِّراف» (5427).
أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَى مِنْ مُزْدَلِفَةَ. وَعَلَيْهِ فِعْلُ الْمُسْلِمِينَ
(1)
.
المطلب الثاني: حُكْم الرمي بحجر قد رُمي به على جهة التعبد.
اختَلف أهل العلم في حُكم الرمي بحجر قد رُمي به على جهة التعبد على قولين:
القول الأول: جواز الرمي بحجر قد رُمي به من قبل، وإن كان الأَوْلَى تَرْكه. وهو مذهب الحنفية، والصحيح عند المالكية، والشافعية، وبعض الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بحديث جابر، وفيه:«حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ» . ولأن العبرة هي الرمي بحجر، وقد وُجد، استُعمل أو لم يُستعمل.
القول الآخَر: أن الرمي بحجر قد رُمي به لا يجزئ. وهو قول للمالكية، والمُزَني من الشافعية، والحنابلة
(3)
.
واستدلوا بما روى أبو سعيد قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ الْجِمَارُ الَّتِي يُرْمَى بِهَا كُلَّ عَامٍ، فَنَحْتَسِبُ أَنَّهَا تَنْقُصُ، فَقَالَ:«إِنَّهُ مَا تُقُبِّلَ مِنْهَا رُفِعَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَيْتَهَا أَمْثَالَ الْجِبَالِ»
(4)
. فكيف يُرمى بحجر لم يُقبل مرة أخرى؟!
والراجح: جواز الرمي بحجر قد رُمي به، مع أن الأفضل التقاط الجمار كما فَعَل النبي صلى الله عليه وسلم، والحصيات التي تكون عند الجمرات قد سقطت أثناء الرمي، فيجوز الرمي بها.
السُّنة الثانية: أن يكون الرمي بمثل حصى الخَذْف:
فيُستحب أن يكون الرمي بمثل حصى الخَذْف. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة
(5)
.
واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه وفيه: «حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 156).
(2)
«المبسوط» (4/ 670)، و «المُدوَّنة» (2/ 422)، و «الأُم» (2/ 213)، و «الإنصاف» (4/ 26).
(3)
«الكافي» (ص: 146)، و «المجموع» (8/ 185)، و «المغني» (5/ 290).
(4)
خرجه الدارقطني (2789) وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن سِنَان.
(5)
«تبيين الحقائق» (2/ 30)، و «الكافي» (1/ 375)، و «المجموع» (8/ 183)، و «كشاف القناع» (2/ 499).
بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ».
وروى مسلم: عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ- وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ وَغَدَاةِ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا: «عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ» وَهُوَ كَافٌّ نَاقَتَهُ، حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا - وَهُوَ مِنْ مِنًى - قَالَ:«عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ»
(1)
.
السُّنة الثالثة: طهارة الحصيات:
يُستحب أن يَرمي بحصى طاهرة؛ لعدم النص على اشتراط طهارة الحصى، ولصِدق اسم الرمي على الرمي بالحجر النجس. وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، ووَجْه عند الحنابلة
(2)
.
ولا يُستحب غسل الحصى إلا إذا رأى فيها نجاسة ظاهرة، ولم يجد غيرها، فتغسل النجاسة لئلا تتنجس اليد أو الثياب؛ لأنه لم يَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أَمَر بغسلهن
(3)
.
السُّنة الرابعة: المبادرة بالرمي:
فيَرمي جمرة العقبة بعد وصوله إلى مِنًى يوم النحر.
السُّنة الخامسة: قَطْع التلبية مع أول حصاة يَرمي بها جمرة العقبة يوم النحر:
وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة
(4)
.
واستدلوا بما روى الفضل، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَزَل يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
وَجْه الدلالة: أن الفضل كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، وهو أعلم بحاله من غيره.
السُّنة السادسة: التكبير مع كل حصاة:
يُستحب أن يُكبِّر مع كل حصاة. وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة
(5)
.
(1)
مسلم (1282).
(2)
«الفتاوى الهندية» (1/ 233)، و «الكافي» (1/ 377)، و «الأم» (2/ 235)، و «الإنصاف» (4/ 28).
(3)
قال ابن المنذر: ولا يُعْلَم في شيء من الأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غَسَل الحصى، ولا أَمَر بغسله، ولا معنى لغَسْل الحصى. «الإشراف» (3/ 327).
(4)
«البحر الرائق» (2/ 371)، و «المجموع» (8/ 154)، و «الإنصاف» (4/ 27).
(5)
الفتاوى الهندية (1/ 231)، و «الكافي» (1/ 374)، و «المجموع» (8/ 154)، و «كشاف القناع» (2/ 501).
واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه، وفيه:«حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة» .
وإذا تَرَك التكبير، فليس عليه شيء بالإجماع
(1)
.
السُّنة السابعة: أن يَرمي الجمرة الصغرى،
جاعلًا مِنًى عن يساره،
ومكة عن يمينه. والوسطى والكبرى جاعلًا مِنًى عن يمينه، ومكة عن يساره. وهو مذهب الحنفية والمالكية، والصحيح عند الشافعية
(2)
.
واستدلوا بما ورد في «الصحيحين» : عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى، جَعَلَ البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ، وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ، صلى الله عليه وسلم
(3)
.
فالحاصل: أنه يُستحب أن يَرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ويَجعل الكعبة عن يساره ومِنًى عن يمينه؛ لفِعل النبي صلى الله عليه وسلم. وإن رماها من الجوانب الأخرى، أجزأه ذلك إذا وقع الحصى في المرمى، ويَجوز رمي الجمرات من أي جهة كانت، من فوقها أو من أسفل منها، من أمامها أو من خلفها. نَقَل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم
(4)
.
(1)
نَقَل الإجماع على ذلك: النووي في «شرح مسلم» (9/ 42). وقال ابن حجر: وأجمعوا على أن مَنْ لم يُكبِّر، فلا شيء عليه. «فتح الباري» (3/ 582).
(2)
«الفتاوى الهندية» (1/ 233)، و «شرح مختصر خليل» (2/ 341)، و «المجموع» (8/ 163)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 135)، و «زاد المعاد» (2/ 237).
(3)
البخاري (1748)، ومسلم (3112).
هذه الرواية تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، جاعلًا البيت عن يساره ومِنًى عن يمينه.
وبهذا قال جمهور العلماء، ولكن يشكل على هذه الرواية أنه وردت رواية بخلاف ذلك، تدل على أنه صلى الله عليه وسلم رماها مُستقبِل القبلة. فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: لَمَّا أَتَى عَبْدُ اللهِ جَمْرَةَ العَقَبَةِ، اسْتَبْطَنَ الوَادِيَ، وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ. ولفظة (اسْتَبْطَنَ الوَادِيَ، وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ) منكرة مُخالِفة لِما ورد في «الصحيحين» أنه صلى الله عليه وسلم جَعَل البيت عن يساره، ولعل الوهم من المسعودي فإنه قد اختَلَط. أخرجه أحمد (4117)، والترمذي (911)، وابن ماجه (3045) من طرق: عَنِ المَسْعُودِيِّ، عَنْ جَامِعِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِهِ.
قال ابن حجر: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَخْرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: لَمَّا أَتَى عَبْدُ اللهِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، اسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. وَهَذَا شَاذٌّ، فِي إِسْنَادِهِ الْمَسْعُودِيُّ وَقَدِ اخْتَلَطَ. «الفتح» (3/ 582).
(4)
قال النووي: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ رَمَاهَا جَازَ، سَوَاءٌ اسْتَقْبَلَهَا أَوْ جَعَلَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا أَوْ أَسْفَلِهَا، أَوْ وَقَفَ فِي وَسَطِهَا وَرَمَاهَا. «شرح مسلم» (9/ 42). وقد نَقَل الإجماع على ذلك: ابن عبد البر في «الاستذكار» (4/ 351)، وابن رُشْد في «بداية المجتهد» (2/ 118).
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد نُقِل عن مالك: لا يرميها إلا مِنْ أسفلها
(1)
.
السُّنة الثامنة: الوقوف عند الجمرة الأولى (الصغرى) والثانية (الوسطى) وقوفًا طويلًا، بعد رمي كل منهما للدعاء، ولا يقف عند جمرة العقبة الكبرى.
روى البخاري: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ
(2)
.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَفَاضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، كُلُّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقِفُ عِنْدَ الأُولَى، وَالثَّانِيَةِ، فَيُطِيلُ الْقِيَامَ وَيَتَضَرَّعُ، وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا
(3)
.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَفَضْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ، فَرَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا. ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صَنَعَ
(4)
.
(1)
قال الحَطَّاب: فِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَرْمِيهَا إلَّا مِنْ أَسْفَلِهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ. «مواهب الجليل» (3/ 126)، ونُقِل عن بعض الشافعية أن رمي الجمار من أعلاها باطل. «مغني المحتاج» (2/ 277).
(2)
أخرجه البخاري (1751).
(3)
إسناده حسن: أخرجه أبو داود (1973)، وأحمد (24592)، وغيرهما من طريق: مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبدِ الرَّحمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، بِهِ.
وقد صَرَّح ابن إسحاق بالتحديث عند ابن حِبان (3868) فانتفت شبهة تدليسه.
وقول عائشة: أَفَاضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى.
(4)
منكر بذكر الدعاء: أخرجه ابن أبي شيبة (14213) واللفظ له، وأحمد (4061).
وفي إسناده ليث، وهو إلى الضعف أقرب، وقد تفرد بذكر هذا الدعاء، وقد خالفه الثقات الأثبات، فقد ورد من طرق كثيرة عن عبد الرحمن بن يزيد، به، دون ذكر هذا الدعاء، كما في «الصحيحين» .
وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ انْطَلَقَا إِلَى الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لَهُ: ارْمِ وَكَبِّرْ. قَالَ: فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ، حَتَّى أَفَلَ الشَّيْطَانُ، ثُمَّ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَمْرَتَيْنِ الأُخْريَيْنِ
(1)
.
السُّنة التاسعة: الموالاة بين الجمرات الثلاث:
استَحب جمهور العلماء الموالاة بين الجمرات الثلاث عند الرمي، مع الدعاء
(2)
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة الصغرى، ثم تَنَحَّى فدعا طويلًا. فهذا من جنس العبادة؛ ولذا ينبغي للحاج ألا ينشغل في رمي الجمار إلا بالرمي والدعاء.
السُّنة العاشرة: النزول بالأبطح بعد خروج الحاج من مِنًى يوم النفر:
وَيُقَالُ: المُحَصَّبُ، سُمِّيَ بِهِ لِلْحَصْبَاءِ الَّتي فِيهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَكَانٍ مُتَّسِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى، وَهُوَ إلَى مِنًى أَقْرَبُ، وَكَانَ مَوْضِعًا نَزَلَ بِهِ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِنًى يَوْمَ النَّفْرِ وَقَبْلَ تَوْدِيعِهِ لِلْبَيْتِ، فَأَمَّا اليَوْمَ فَقَدْ مَلَأَهُ العُمْرَانُ
(3)
.
فالحاصل: استحباب نزول المُحَصَّب بعد خروجه من مِنًى يوم النفر وقبل توديعه للبيت؛ لفِعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ورد عن عائشة وابن عباس، أن نزول الأَبْطَحِ ليس بسُنَّة
(4)
لأن نزول الأَبْطَحِ غير مقصود، وإنما حَصَل اتفاقًا للاستراحة.
فنوقش بأن في حديث أبي هريرة الإشارة إلى سببٍ دعا النبيَّ لاختيار ذلك الموضع منزلًا في طريقه لتوديع البيت، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ»
(5)
.
•1•
(1)
مرسل: أخرجه ابن أبي شيبة (15323) وفيه أبو مِجْلَز وهو من التابعين.
(2)
«حاشية ابن عابدين» (3/ 514)، و «بُلغة السالك» (2/ 43)، و «المجموع» (8/ 177).
(3)
قال وليد بن صالح: والمُحَصَّب يشمل الآن جزءًا من حي الششه، وجزءًا من حي الروضة. وفيه مَقَر إمارة مكة ومستشفى المَلِك فيصل. كما في «الموسوعة المُيسَّرة» (ص: 241).
(4)
أثر عائشة عند مسلم (1311)، وأثر ابن عباس عند البخاري (1766)، ومسلم (1312).
(5)
رواه البخاري (1590)، ومسلم (1314).
الفصل الرابع
شروط الوكالة في الرمي
الأول: أن يكون المُوكِّل عاجزًا عن الرمي.
الثاني: أن يكون الوكيل مسلمًا عاقلًا بالغًا.
الثالث: أن يكون الوكيل حاجًّا.
الرابع: هل يُشترَط أن يكون النائب (الوكيل) قد رمى عن
نفسه جميع الجمار؟ وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في اشتراط أن يكون النائب قد رمى عن نفسه.
المطلب الثاني: حُكْم سفر المعذور قبل رمي وكيله.
الفصل الرابع: شروط الوكالة في الرمي:
الشرط الأول: أن يكون المُوكِّل عاجزًا عن الرمي:
لا خلاف بين العلماء في جواز الوكالة في الرمي لمن عجز عنه
(1)
.
فالحاصل: أن مَنْ عَجَز عن الرمي أو لا يقوى على مباشرة الرمي بنفسه؛ كالصبي والمريض وكبير السن، يَجوز لهم توكيل غيرهم في الرمي عنهم، والله أعلم.
وذهب عامة أهل العلم إلى أن القادر على الرمي لا يَجوز له أن يُوكِّل غيره؛ إذ لو كان ذلك جائزًا لأَذِن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاة في توكيل غيرهم في الرمي؛ لِما في ذلك من المشقة في المجيء إلى مِنًى للرمي، وإنما أَمَرهم النبي صلى الله عليه وسلم بجمع رمي يومين في يوم واحد، فكانت الوكالة خاصة بأهل الأعذار، كالمرضى والصبيان ومَن في حكمهم
(2)
.
واستدلوا لذلك بما رُوي عن جابر قال: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَلَبَّيْنَا عَنِ الصِّبْيَانِ، وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ
(3)
.
(1)
قال ابن عبد البر: لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ لِعُذْرٍ، رُمِيَ عَنْهُ «الاستذكار» (4/ 352). وقال ابن المنذر: وأجمعوا على أن على الصبي الذي لا يطيق الرمي أنه يُرمَى عنه. «الإجماع» (ص: 59). وقد نَقَل الإجماع على ذلك: النووي في «المجموع» (8/ 283)، والقرطبي في «تفسيره» (3/ 12).
وقد حَكَى الشوكاني قولًا بإسقاط واجب الرمي عن العاجز دون إنابة، فقال: وتصح النيابة للعذر؛ فهو
وإن لم يَرِد ما يدل على ذلك، ولكن الأعذار مُسوِّغة للاستنابة، إلا أن يقال: إن العذر مُسقِط للوجوب من الأصل؛ لأنه لا وجوب على معذور، إلا أن يكون مِثل رِعاء الإبل. «السيل الجَرَّار» (ص: 331).
(2)
«المبسوط» (4/ 69)، و «الحاوي» (4/ 197)، و «المغني» (5/ 379).
(3)
ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3038)، وأحمد (14370). وفي إسناده أشعث بن سَوَّار، وهو ضعيف، ولكن تابعه أيمن بن نابل عند البيهقي (9996) وإن كان وثقه ابن مَعين، وقال النَّسَائي: لا بأس به. فقد قال يعقوب بن شيبة: مكي صدوق، وإلى الضعف ما هو. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال الدارقطني: ليس بالقوي، خالف الناس. وقال ابن حجر: صدوق يهم. قلت: هو إلى الضعف أقرب.
ومدار الحديث على ابن نُمَيْر، فرواه عن أشعث مرة، وعن أيمن مرة، كلاهما عن أبي الزبير عن جابر.
فالحاصل: أن ذِكر أيمن غير محفوظ، ولا سيما وقد قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نَعرفه إلا من هذا الوجه. فالمحفوظ أن مدار هذا الحديث على أشعث.
وعند الترمذي لفظة منكرة، وهي:«فَكُنَّا نُلَبِّي عَنِ النِّسَاءِ» تَفرَّد بها محمد بن إسماعيل الواسطي. وقال الذهبي: غلط غلطة ضخمة. «تهذيب التهذيب» (9/ 49). وقد قال الترمذي: وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ المَرْأَةَ لَا يُلَبِّي عَنْهَا غَيْرُهَا، بَلْ هِيَ تُلَبِّي عَنْ نَفْسِهَا.
وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحُجُّ بِصِبْيَانِهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ أَنْ يَرْمِيَ رَمَى، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ رَمَى عَنْهُ
(1)
.
واستدلوا بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ النِّيَابَةُ عَنْه فِي أَصْلِ الْحَجِّ، فَجَوَازُهَا فِي أَبْعَاضِهِ أَوْلَى.
واستدلوا أيضًا بأن الرمي واجب لا يَسقط في حق أحد؛ ولذا فإنه يُرخَّص للمرضى وكبار السن الذين لا يستطيعون الرمي في الوكالة؛ لئلا يَفوت وقت الرمي؛ إذ لا يُشْرَع القضاء بعد فواته، بخلاف الطواف والسعي، فإنهما لا يفوتان فلا تُشْرَع النيابة فيهما.
وذهب المالكية إلى أن مَنْ استناب غيرَه جاز فعله وعليه دم؛ لأن الإنابة إنما هي لرفع الإثم، وعليه الدم لأن في البدل نقصًا عن المبدل منه فيُجبر بدم
(2)
.
الراجح: أن القادر على الرمي لا يَجوز له أن يُوكِّل غيره، وأنَّ مَنْ لم يستطع الرمي لعذر- يُشْرَع في حقه استنابة غيره، وأيام التشريق كلها كيوم واحد لأهل الأعذار، فإذا زال العذر في أيام التشريق فإنه يَرمي في اليوم الذي برأ فيه عن يومه الذي سبقه
(3)
.
الشرط الثاني: أن يكون الوكيل مسلمًا عاقلًا بالغًا،
فلا يصح أن يُوكِّل غيرَ بالغ لأن الحج في حقه نافلة، فلا يقوم بالرمي عن غيره؛ لأن البلوغ من شروط الوجوب.
الشرط الثالث: أن يكون الوكيل حاجًّا:
اشتَرط الحنابلة أن يكون الوكيل حاجًّا تلك السَّنة، وذلك لأن الرمي بعض أعمال الحج، فلا يصح الرمي إلا مِنْ حاج، ولو رمى الجمرات غير حاج فرَمْيه عبث إذ لم يصح رميه عن نفسه لأنه غير حاج، فكيف يصح رميه عن غيره؟!
(4)
.
(1)
«مصنف ابن أبي شيبة» (14374). وقد سبق تخريجه في باب شروط الحج.
(2)
«المُدوَّنة» (2/ 424)، و «الذخيرة» (3/ 280).
(3)
قال ابن تيمية: وكذلك مَنْ عَجَز عن الرمي بنفسه لمرض أو نحوه، فإنه يستنيب مَنْ يَرمي عنه، ولا شيء عليه، وليس مَنْ تَرَك الواجب للعجز كمَن تَرَكه لغير ذلك. «مجموع الفتاوى» (26/ 245).
(4)
«كشاف القناع» (2/ 381) والشافعية لا يَشترطون أن يكون الوكيل حاجًّا. «المجموع» (8/ 245) واستدلوا بأنه إذا كانت الاستنابة جائزة في الحج كله، فكذا جائزة في بعضه وهو الرمي.
الشرط الرابع: اشتراط أن يكون النائب قد رمى عن نفسه، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: هل يُشترَط أن يكون النائب قد رمى عن نفسه جميع الجمار.
اختَلف العلماء في اشتراط ذلك على قولين:
القول الأول: لا يُشترَط ذلك، وأنه يَجوز للوكيل أن يَرمي عن نفسه كل جمرة وحدها، ثم يَرمي عن موكله. وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وهو وَجْه للشافعية
(1)
.
القول الآخَر: يُشترَط أن يكون النائب قد أتم رمي الجمرات الثلاث عن نفسه، ثم يعود فيَرمي عن موكله. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وهو قول للمالكية
(2)
.
واستدلوا بأن أصل الحج لم يصح عن الغير حتى يحج عن نفسه، فكذا الرمي لا يصح عن الوكيل إلا بعد أن يُتِم الرمي عن نفسه؛ لأنه بعض الحج.
ونوقش بأن حديث: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» ضعيف ولا يصح.
والراجح: أن الوكيل يَرمي عن نفسه سبع حصيات أولًا، ثم يرمي عن موكله سبع حصيات عند كل جمرة في موقف واحد؛ لأن تكليف النائب رمي الجمرات الثلاث عن نفسه أولًا، ثم يعود فيَرمي عن موكله- فيه مشقة وحرج، والله رَفَع الحرج. ولم يُنقَل اشتراط ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رَمَوْا عن صبيانهم، ولو فعلوا ذلك لنُقل؛ لأنه مما تتوافر الهمم على نقله.
المطلب الثاني: حُكْم سفر المعذور قبل رمي وكيله.
مَنْ وَكَّل عن الرمي وسافر قبل رمي الوكيل لا يخلو من حالين:
الأول: أن يكون توكيله بلا عذر، بأن كان قادرًا على الرمي، فالتوكيل غير جائز؛ لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فيجب عليه دم؛ لتَرْكه واجبًا للحج.
الحال الآخَر: أن يكون التوكيل بعذر، فمَن كان موعد سفره في الطائرة في اليوم الثاني عشر، وقد يتضرر بتأجيل السفر، فله أن يُوكِّل، ولا يَجوز له أن يطوف للوداع قبل رمي الوكيل، وعليه دم وذلك لوقوع طوافه في غير وقته؛ لأنه يكون بعد انتهاء رمي الجمرات.
(1)
«فتح القدير» (2/ 498)، و «التاج» (3/ 135)، و «الكافي» (1/ 410)، و «الحاوي» (4/ 204).
(2)
«المُدوَّنة» (1/ 437)، و «الأم» (2/ 214)، و «كشاف القناع» (2/ 381).
الباب الحادي والعِشرون
طواف الوداع
وفيه تمهيد، وثمانية مباحث:
المبحث الأول: حُكْم طواف الوداع.
المبحث الثاني: شروط طواف الوداع.
الشرط الأول: أن يكون من أهل الآفاق. وفي مطلبان:
المطلب الأول: يُشترَط أن يكون الحاج من أهل الآفاق.
المطلب الثاني: يطوف للوداع مَنْ كان منزله قريبًا من مكة.
الشرط الثاني: الطهارة من الحيض والنفاس.
الشرط الثالث: أن يكون طواف الوداع عند وداع الحَرَم. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وقت طواف الوداع.
المطلب الثاني: حد البقاء بعد الوداع، أو حُكْم مَنْ طاف طواف الوداع ثم مكث
بمكة أو اشتغل بتجارة، فهل يعيد الطواف أم لا؟
المبحث الثالث: دخول طواف الوداع في طواف الإفاضة. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حُكْم دخول طواف الوداع في طواف الإفاضة.
المطلب الثاني: إذا نوى بطوافه الوداع، فهل يجزئه عن طواف الإفاضة؟
المبحث الرابع: حُكْم مَنْ خرج قبل طواف الوداع.
المبحث الخامس: حُكْم طواف الوداع للعمرة.
المبحث السادس: فيمن طاف للوداع أول أيام التشريق، ثم عاد إلى مِنًى فبات،
ورمى الجمار، وسافر لبلده من فوره ولم يَرجع للحَرَم، فهل يجزئه ذلك؟
المبحث السابع: هل صح دعاء مُعَيَّن بعد طواف الوداع؟
التمهيد:
سُمي طواف الوداع؛ لأنه شُرِع لتوديع البيت ومفارقته
(1)
.
المبحث الأول: حُكْم طواف الوداع:
اختَلف أهل العلم في حُكْم طواف الوداع على قولين:
القول الأول: أن طواف الوداع واجب، ويجب بتركه دم، إلا أنه يُعْفَى عن المرأة الحائض. وبه قال الحنفية، وهو الصحيح عند الشافعية، والمشهور عند الحنابلة
(2)
.
ففي «الصحيحين» من حديث ابن عباس قال: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ»
(3)
.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- أَيْضًا- قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِى كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ»
(4)
.
وَجْه الدلالة: ما قاله الشوكاني: وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم بِهِ، وَنَهْيُهُ عَنْ تَرْكِهِ، وَفِعْلُهُ الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِلْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ
(5)
.
قال ابن قُدامة: تَخْصِيصُ الْحَائِضِ بِإِسْقَاطِهِ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهَا؛ إِذْ لَوْ كَانَ سَاقِطًا عَنِ الْكُلِّ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهَا بِذَلِكَ مَعْنًى
(6)
.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «لَا يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ؛ فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ»
(7)
.
(1)
ويطلق عليه (طواف الصَّدْر) لأَنه عند صدور الناس من مكة، و (طواف الخروجِ)، و (طواف آخِر عهد بالبيت)، و (طواف الرجوع). «المغني» (5/ 337)، و «بدائع الصنائع» (2/ 142).
(2)
«بدائع الصنائع» (3/ 104)، و «المجموع» (8/ 271)، و «المغني» (3/ 316).
(3)
البخاري (1755)، ومسلم (3284).
(4)
مسلم (1327).
(5)
«نيل الأوطار» (5/ 106)، و «فتح الباري» (3/ 585).
(6)
«المغني» (5/ 337).
(7)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (1079) عن نافع، عن عبد الله بن عمر، به.
القول الآخَر: أن طواف الوداع مستحب، ولا يجب بتركه دم. وهو مذهب المالكية، وقول عن الشافعية، ورواية عن أحمد
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
أما السُّنة، ففي «الصحيحين» مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاضَتْ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فَقُلْتُ: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَلْتَنْفِرْ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: قوله صلى الله عليه وسلم: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» أي: حتى تطوف طواف الإفاضة، فلما قيل له:(إنها أفاضت) أي: طافت طواف الإفاضة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فَلْتَنْفِرْ» ولم يقل لها: انتظري حتى تطوفي طواف الوداع بالإقامة له. ولو كان واجبًا لأُمِرَتْ بجبران ذلك بدم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأما القياس، فإذا كان طواف القدوم سُنة لأنه تحية للبيت، فيقاس عليه طواف الوداع لتوديع البيت، ولو كان واجبًا لم يَسقط عن المكي.
ونوقش بأن طواف الوداع شُرع لتودع البيت، والمكي لا يُودِّع البيت، فكيف يطوف للوداع وهو مقيم في الحَرَم؟! ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» .
والراجح: أن طواف الوداع واجب، ويجب بتركه دم، إلا أنه يُعْفَى عن المرأة الحائض؛ لحديث ابن عباس:«أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» .
وقد دل على وجوب طواف الوداع من ثلاثة ألفاظ:
الأول: لفظ: «أُمِرَ» والأمر يقتضي الوجوب، فدل ذلك على وجوب طواف الوداع.
الثاني: النهي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» .
الثالث: قوله: «إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» فدل ذلك على وجوب طواف الوداع على غير الحائض.
(1)
«حاشية الدسوقي» (2/ 53)، و «المجموع» (8/ 254)، و «الإنصاف» (2/ 60).
(2)
البخاري (4401)، ومسلم (1211).
المبحث الثاني: شروط طواف الوداع:
الشرط الأول: أن يكون من أهل الآفاق:
وفي مطلبان:
المطلب الأول: يُشترَط أن يكون الحاج من أهل الآفاق، فلا يجب طواف الوداع على المكي بالإجماع. ولأن هذا الطواف إما وَجَبَ توديعًا للبيت، وهذا لا يوجد في أهل مكة؛ لأنهم في وطنهم
(1)
.
المطلب الثاني: يطوف للوداع مَنْ كان منزله قريبًا من مكة:
ذهب جمهور العلماء إلى أن طواف الوداع لكل خارج حدود الحرم، كالتنعيم وجدة وغيرهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ»
(2)
.
الشرط الثاني: الطهارة من الحيض والنفاس:
فيَسقط طواف الوداع عن الحائض إذا حان موعد السفر، وهما كذلك، ولا يجب عليهما دم بتركه، ففي «الصحيحين»: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ»
(3)
.
وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فَقُلْتُ: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَلْتَنْفِرْ» .
قال النووي: هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ، وَلَا يَلْزَمُهَا الصَّبْرُ إِلَى طُهْرِهَا لِتَأْتِيَ بِهِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهَا فِي تَرْكِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ
(4)
.
(1)
قال النووي: مَنْ فَرَغَ مِنْ مَنَاسِكِهِ وَأَرَادَ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ، لَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَرِيبًا. وَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ غَيْرِهِ، طَافَ لِلْوَدَاعِ. «المجموع» (8/ 254). ونَقَل الإجماع أيضًا الكاساني في «بدائع الصنائع» (2/ 142).
(2)
«حاشية الدسوقي» (2/ 53)، و «المجموع» (8/ 256)، و «المغني» (3/ 338).
وذهب الحنفية إلى أن مَنْ كان دون المواقيت بمنزلة أهل مكة، ولا وداع عليهم. «بدائع الصنائع» (2/ 142) وهذا القول ضعيف لمخالفته الحديث.
(3)
البخاري (1755)، ومسلم (1328).
(4)
«شرح النووي على مسلم» (8/ 154)، و «الاستذكار» (4/ 371).
وقد رُوي عن بعض الصحابة إيجاب طواف الوداع على الحائض، وعليها دم في تركه. وهو قول عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت
…
وغيرهم
(1)
.
واستدلوا بما رَوى أبو داود: عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَرْأَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ تَحِيضُ، قَالَ: لِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ. قَالَ: فَقَالَ الْحَارِثُ: كَذَلِكَ أَفْتَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
. فتصريح الراوي بأن فتوى رسول الله: لِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِ الحَائِضِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ.
ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الأول: أن حديث الحارث محمول على ما إذا كان في الزمان نَفَس وفي الوقت مُهلة. فأما إذا أعجلها السير، فلها أن تَنفر من غير وداع؛ بدليل خبر صفية
(3)
.
الثاني: أن حديث الحارث منسوخ بالأحاديث المُرخِّصة للحائض بترك طواف الوداع
(4)
.
الثالث: أنه رُوي رجوع زيد وابن عمر إلى القول بسقوط الوداع عن الحائض
(5)
.
والصحيح: أن طواف الوداع يَسقط عن الحائض؛ لثبوت ذلك بالسُّنة الصحيحة.
وهل يُلْحَق بالحائض كل معذور يترتب على انتظاره ضرر ومشقة، فيَسقط عنه الوداع؟
الجواب: فيه تفصيل؛ فالمعذور لا يخلو من حالين:
الأول: إذا كان يستطيع أن يطوف للوداع بنفسه أو محمولًا، فلا يَسقط عنه بحال؛ لِما روت أُم سلمة قالت: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي، فقالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ
(1)
أثر عمر أخرجه أبو داود (2004)، وابن عمر عند البخاري (1761)، وزيد عند البخاري (1758)، ومسلم (3221).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (2004)، وأحمد (15440) من طريق: أبي عَوَانَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ، بِهِ.
(3)
«معالم السُّنن» (2/ 216).
(4)
قال الطحاوي:
…
فَثَبَتَ بِذَلِكَ نَسْخُ هَذِهِ الْآثَارِ؛ لِحَدِيثِ الْحَارِثِ. «معاني الآثار» (2/ 235).
(5)
قال ابن المنذر: وَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدٍ. «الاستذكار» (4/ 371).
وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ». فأُم سلمة شَكَتْ ولم يَعذرها بشكواها، بل أَمَرها أن تطوف راكبة.
الثاني: أن مَنْ لم يستطع أن يطوف للوداع بنفسه أو محمولًا، يَسقط عنه طواف الوداع
عند الحنفية وبعض الشافعية
(1)
.
فالحاصل: أنه إذا كان يستطيع أن يطوف للوداع بنفسه أو محمولًا، فلا يَسقط عنه طواف الوداع بحال، وإذا كان لا يستطيع أن يطوف للوداع بنفسه أو محمولًا، فإنه يَفدي، وهذا أحوط للدين وأبرأ للذمة، والله أعلم.
الشرط الثالث: أن يكون طواف الوداع عند وداع الحرم:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: بداية وقت طواف الوداع:
اختَلف أهل العلم في بداية وقت طواف الوداع على قولين:
القول الأول: أن وقت طواف الوداع يَبدأ من نهاية أعمال مِنًى، فإذا رمى الحاج في اليوم الثاني عشر إذا كان متعجلًا، أو في اليوم الثالث عشر إذا لم يتعجل، فإنه يَبدأ طواف الوداع ليكون آخِر عهده بالبيت. وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة
(2)
.
القول الآخَر: ذهب الحنفية إلى أن وقت طواف الوداع يَبدأ بعد طواف الإفاضة إذا كان عَزَم على السفر
(3)
.
ونوقش بأن طواف الوداع يكون بعد انتهاء أعمال الحج ومغادرة الحَرَم؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» .
المطلب الثاني: حد البقاء بعد طواف الوداع، أو حُكْم مَنْ طاف طواف الوداع ثم مكث بمكة أو اشتغل بتجارة، فهل يعيد الطواف أم لا؟
اختَلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن مَنْ طاف طواف الوداع فلا يمكث بعده، فإن مكث بعده أو أقام أعاده، إلا إذا مكث مكثًا يسيرًا لانتظار رفقة أو نحو ذلك. وبه قال صاحبا أبي حنيفة، وهو
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 142)، و «نهاية المحتاج» (3/ 317).
(2)
«حاشية الدسوقي» (2/ 53)، و «المجموع» (8/ 255)، و «المغني» (3/ 337).
(3)
«بدائع الصنائع» (1/ 143).
مذهب الشافعية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» .
فهذا صريح في أن يكون آخِر عهد الحاج بمكة الطواف، ولا يمكث بعده. ومَن تشاغل كان آخِر عهده ما انشغل به، وما سُمي (طواف الوداع) إلا لأنه إنما وَجَب توديعًا للبيت.
القول الثاني: يَجوز للحاج المكث بعد طواف الوداع ما شاء أن يمكث؛ لأن طواف الوداع لوداع النسك لا لوداع مكة، مع أن الأفضل طوافه للوداع. وهذا مذهب الحنفية
(2)
.
ونوقش بأنه لو كان لوداع النسك لا لوداع مكة، لوجب على أهل مكة طواف الوداع.
القول الثالث: أنه لا يعاد طواف للوداع إذا لم يَزد عن مُقام يوم وليلة بعد أدائه. وهذا مذهب المالكية
(3)
.
والراجح: أن مَنْ طاف للوداع ثم أقام مدة طويلة عرفًا، فإنه يعيد الطواف؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» .
وإن أقام مدة يسيرة عرفًا، فإنه لا يعيد طواف الوداع، فيُغتفَر له أن يشتغل بعد طواف الوداع بأسباب السفر، كشراء الزاد، أو حَمْل الأمتعة أو انتظار رفقة
…
ونحو ذلك ولا يعيده؛ لأنه قد يكون في بعض الأحيان هناك مشقة في الطواف بعد الفجر، فإن طاف الساعة الثانية ليلًا فإنه يَجوز؛ لعدم الحرج والمشقة
(4)
.
المبحث الثالث: دخول طواف الوداع في طواف الإفاضة:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حُكْم دخول طواف الوداع في طواف الإفاضة:
إذا أَخَّر الحاج طواف الإفاضة إلى آخِر أيام التشريق وبعد أيام مِنًى، ثم طاف الإفاضة بعد نهاية مناسكه، وأراد أن يرجع إلى بلده بعد طواف الإفاضة، فهل يَجوز أن يرجع إلى
(1)
«المبسوط» (4/ 29)، و «الحاوي» (4/ 212)، و «المجموع» (8/ 255)، و «المغني» (5/ 338).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 143)، و «فتح القدير» (2/ 297).
(3)
«المُنتهَى شرح الموطأ» (2/ 293).
(4)
قال ابن عثيمين: ويَجعل طواف الوداع آخِر عهده بالبيت إذا أراد أن يرتحل للسفر، فإن بقي بعد الوداع لانتظار رفقة، أو تحميل رحله، أو اشترى حاجة في طريقه؛ فلا حرج عليه، ولا يعيد الطواف. «مجموع فتاوى ابن عثيمين» (24/ 387).
بلده، ويكفي طواف الإفاضة عن طواف الوداع أم لا؟ على قولين:
القول الأول: يَسقط عنه طواف الوداع؛ وذلك لأن آخِر عهده بالبيت الطواف. وهو مذهب المالكية، والمشهور عند الحنابلة
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
أما السُّنة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ» .
فإذا كان الحاج أُمِر أن يكون آخِر عهده بالبيت الطواف، وقد فَعَل ما أُمِر به، وقد ودع البيت بعد طواف الإفاضة ورجع إلى بلده، فيسقط عنه طواف الوداع.
وأما القياس، فيقاس طواف الوداع على طواف القدوم، بأنه إذا كان طواف القدوم يَسقط عن الحاج المتمتع؛ لأنه انشغل بطواف العمرة، فكذا لا يجب طواف الوداع.
القول الآخَر: أن الحاج إذا أَخَّر طواف الإفاضة بعد الانتهاء من مناسكه، وأراد أن يرجع إلى بلده، فلا يَرجع إلى بلده حتى يطوف طوافًا آخَر للوداع أو يَجبر ذلك بدم لأنه واجب. وهو مذهب الحنفية والشافعية، والحنابلة في رواية
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والقياس:
أما السُّنة، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» أي: الطواف، والمراد به هنا طواف الوداع، وليس طواف الإفاضة.
ونوقش بأن مَنْ طاف للإفاضة ثم رجع إلى بلده في الحال، فقد فَعَل ما أُمِر به ووَدَّع البيت بالطواف، وإن كان طوافه هو طواف الإفاضة.
وأما القياس، فاستدلوا بأنهما عبادتان واجبتان، فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى.
والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء، وهو أن الحاج إذا أَخَّر طواف الإفاضة إلى آخِر أيام التشريق وبعد الانتهاء من مناسكه، وأراد أن يرجع إلى بلده، يَسقط عنه طواف الوداع؛ وذلك لأنه فَعَل ما أُمِر به، وجَعَل آخِر عهده بالبيت الطواف.
ولكن ينبغي لمن أراد أن يُدخِل طواف الوداع في طواف الإفاضة- أن تكون نيته عن
(1)
«بداية المجتهد» (1/ 343)، و «المُنتقَى» (2/ 293)، و «المغني» (5/ 338)، و «الفروع» (6/ 64).
(2)
«المبسوط» (4/ 43)، و «مغني المحتاج» (1/ 510)، و «كشاف القناع» (2/ 513).
طواف الإفاضة أحد أركان الحج المُجْمَع عليها، ولا يَسقط عن الحاج حتى يؤديه.
المطلب الثاني: إذا نوى بطوافه الوداع، فهل يجزئه عن طواف الإفاضة؟
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: إن طاف بِنِية طواف الوداع، ثم أراد أن يَجعل معه طواف الإفاضة، فإن طواف الوداع يجزئه عن طواف الإفاضة. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية
(1)
.
واستدلوا بما روى مسلم: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ
…
قَالَتْ: فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ:«اجْعَلُوهَا عُمْرَةً» فَأَحَلَّ النَّاسُ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ
…
»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن الصحابة خرجوا في حجة الوداع لا يريدون إلا الحج، وطافوا طواف القدوم وهو سُنة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«اجعلوها عمرة» وطواف العمرة ركن من أركانها.
فالشاهد: أن الصحابة طافوا بِنِية طواف القدوم، وأَمَرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحَوِّلوا هذا الطواف إلى طواف العمرة الذي هو ركن، وقد أجزأ ذلك. فدل ذلك على أن مَنْ طاف للوداع ثم نوى به أن يَجعل معه طواف الإفاضة بعد ذلك، أجزأ عنه.
القول الآخَر: أن مَنْ طاف للوداع، ثم أراد بعد ذلك أن يَجعل معه طواف الإفاضة، فإنه لا يجزئه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ولأنه لا يجزئ أن يصلي الرجل النافلة ثم تجزئه عن الفريضة. وبه قال الحنابلة
(3)
.
واعتُرض عليه بأنه طاف ناويًا نُسُك الطواف، ولا يضره تعيين ذلك للإفاضة؛ لأن نية الحج عند الإحرام كافية؛ لأنها تشمل جميع أجزائها، من طواف وسعي ورمي
…
وغيرها.
والراجح: أن نية الحج عند الإحرام كافية؛ لأنها تشمل جميع أجزائها، كالوقوف بعرفة والطواف وغير ذلك؛ لأن نية الحج تَشملها كلها، كما أن نية الصلاة تَشمل جميع أفعالها،
(1)
«بدائع الصنائع» (2/ 143)، و «مواهب الجليل» (3/ 53)، و «الإيضاح» (ص: 349).
(2)
أخرجه مسلم (1211).
(3)
«المغني» (5/ 316)، و «كشاف القناع» (2/ 596).
ولا يُحتاج إلى النية في ركوع ولا غَيْره. ولأنه لو وَقَف بعرفة ناسيًا، أجزأه بالإجماع
(1)
.
المبحث الرابع: حُكْم مَنْ خرج قبل طواف الوداع:
مَنْ خرج من مكة إلى جدة قبل طواف الوداع؛ لزيارة أو لشراء، بنية العودة إلى مكة، فإنه إن رجع وطاف للوداع أجزأه.
وأما إن كان من أهل جدة، فلا يجوز له أن يَنفر ويَخرج حتى يطوف للوداع.
ومَن خرج خارج المواقيت، كزيارة للمدينة، فلا يحل له أن يَنفر حتى يكون آخِرُ عهده بالبيت الطواف
(2)
.
والدليل: أَنَّ عُمَرَ رَدَّ رَجُلًا مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ، لَمْ يَكُنْ وَدَّعَ الْبَيْتَ، حَتَّى وَدَّعَ
(3)
.
فالحاصل: أن مَنْ خرج من مكة قبل الوداع، ويمكنه الرجوع بلا مشقة، فعليه الرجوع ويطوف للوداع ولا دم عليه. ومَن خرج من مكة قبل الوداع ولم يَعُد، فيَلزمه الدم.
المبحث الخامس: حُكْم طواف الوداع للعمرة:
لا خلاف بين العلماء على أن المُعتمِر إذا طاف وسَعَى وحَلَق، ورجع إلى بلده من فوره، أنه يُجْزئه من طواف الوداع، كما فَعَلَتْ عائشة في عمرتها في حجة الوداع
(4)
.
واختلفوا في حُكم طواف الوداع لمن أقام بمكة أيامًا بعد عمرته على قولين:
القول الأول: يُسَن للمُعتمِر طواف الوداع إذا لم يَخرج من فوره، ولا يجب عليه.
وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقول عند الشافعية، وقول عند الحنابلة
(5)
.
(1)
«المجموع» (8/ 17).
(2)
وبهذا قال الحنفية والمالكية، كما في «بدائع الصنائع» (2/ 143)، و «المُدوَّنة» (1/ 315).
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الحاج إذا خرج من مكة قبل الوداع؛ لزيارة أو لشراء بِنِيَّة العودة إلى مكة، فلا يطوف للوداع إلا في مسافة يَقصُر فيها الصلاة. «المجموع» (8/ 254)، و «المغني» (3/ 340).
(3)
ضعيف لانقطاعه: أخرجه مالك في «الموطأ» (1081) وفيه يحيى بن سعيد، لم يُدرِك عمر.
(4)
«شرح البخاري» لابن بَطَّال (4/ 445)، و «فتح الباري» (3/ 612).
(5)
«بدائع الصنائع» (2/ 227)، و «التمهيد» (17/ 269)، و «المجموع» (8/ 186)، و «الفروع» (6/ 70).
واستدلوا بالسُّنة والمأثور والقياس:
أما السُّنة، فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ»
(1)
فدل هذا الحديث على أن طواف الوداع يكون للحُجاج دون غيرهم.
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّق طواف الوداع بالحج، فدل على عدم وجوبه في العمرة.
وأما دليلهم من المأثور، فعن عمر بن الخطاب قال:«لَا يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ؛ فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ»
(3)
.
وأما دليلهم من القياس، فيقاس طواف الوداع على طواف القدوم، فإنه إذا كان لا يجب على المعتمر طواف القدوم بالإجماع، فكذا لا يجب عليه طواف الوداع.
القول الآخَر: أن طواف الوداع واجب على المعتمر إذا فارق مكة ورجع إلى بلده. وهو قول بعض الحنفية، وقول عند الشافعية، وقول عند الحنابلة
(4)
.
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالبَيْتِ»
(5)
.
(1)
صحيح دون لفظة: «مِنَ الْحَاجِّ» فهي شاذة. ومدار الحديث على ابن عُيينة، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فرواه الشافعي في «مسنده» (1029) به، فزاد لفظة:«مِنَ الْحَاجِّ» .
وخالف الشافعيَّ الثقات الأثبات بدون زيادة: «مِنَ الْحَاجِّ» منهم: سعيد بن منصور، وزُهَيْر بن حرب عند مسلم (1327)، وأحمد (1936)، ومحمد بن يوسف عند الدارمي في «سُننه» (1956)، ويونس بن عبدِ الأعلى عند ابن خُزيمة (3000)، وغيرهم. جمعيهم عن ابن عُيينة به، بدون لفظة «مِنَ الْحَاجِّ» فهي شاذة؛ لمخالفة الشافعي للثقات الأثبات والأئمة الحُفاظ عن ابن عُيينة.
ومما يؤكد شذوذ هذه اللفظة: ما رواه البخاري (1755): عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ. بدون هذه اللفظة.
(2)
ضعيف: أخرجه مُسَدَّد كما في «المطالب العالية» (1289) من طريق ابن أبي ليلى عن عطاء مرسلًا، وقد ضُعف لحال ابن أبي ليلى والإرسال.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 369) ومن طريقه الشافعي في «مسنده» (2/ 288).
(4)
«بدائع الصنائع» (2/ 227)، و «الحاوي» (4/ 213)، و «مَطالب أُولِي النَّهَى» (2/ 436).
(5)
إسناده ضعيف بهذه السياقة؛ لضَعْف الحَجَّاجِ بن أرطاة وعبد الرحمن بن البَيْلَمانيّ، ولفظة «أَوِ اعْتَمَرَ» منكرة. أخرجه الترمذي (944).
وفضلًا عن كونه كذلك، فهذا السند معلول؛ فقد خالف الحَجَّاجَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، فَرَوَاهُ عَنِ الْحَارِثِ قَالَ:«أَتَيْتُ عُمَرَ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَرْأَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ تَحِيضُ، قَالَ: لِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ» رواه أبو داود (2004). وقد قال الترمذي: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ أرْطَاةَ مِثْلَ هَذَا، وَقَدْ خُولِفَ الحَجَّاجُ فِي بَعْضِ هَذَا الإِسْنَادِ.
فهذا صريح في وجوب طواف الوداع على المعتمر.
ونوقش بأن لفظة «أَوِ اعْتَمَرَ» منكرة.
واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» .
فكلمة (أَحَدٌ) نكرة في سياق النفي، فتعم كل مَنْ خرج، سواء كان من حج أو عمرة.
ونوقش بأن هذا مِنْ قَبيل العامّ الذي أريدَ به الخصوص؛ إذ المراد بهذا الخطاب الحجيج، بدلالة الحال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الصحابة، وكلهم حُجاج في حجة الوداع.
والراجح: عدم وجوب طواف الوداع على المُعتمِر، وإنما هو خاص بالحجيج؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» .
فإن دلالة سياق الحديث تُبيِّن أن الأمر مقصور على الحجيج؛ إذ المراد بهذا الخطاب الحجيج، بدلالة الحال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الصحابة في حجة الوداع، وأنه لم يُنقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف للعمرة طواف الوداع؛ إذ مثله مما تتوافر الهمم على نقله.
المبحث السادس: فيمن طاف للوداع أول أيام التشريق، ثم عاد إلى مِنًى فبات ورمى الجمار، وسافر لبلده من فوره، ولم يَرجع للحرم، فهل يجزئه ذلك؟
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجزئه طواف الوداع إلا بعد الفراغ من جميع أعمال المناسك ومغادرة مكة. وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة
(1)
.
القول الآخَر: أنه يُجْزئه طواف للوداع إذا رجع إلى بلده مِنْ مِنًى؛ لأنه طاف للوداع عند مفارقة البيت، ثم مكث بمِنًى خارج مكة ورجع منها إلى بلده. وهو مذهب الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة
(2)
.
ونوقش بأنه وَدَّع البيت قبل أن ينتهي من نسكه، ولم يَجعل آخِر عهده بالبيت الطواف.
(1)
«مواهب الجليل» (3/ 138)، و «المغني» (5/ 337).
قال النووي: وَلَوْ أرادَ الحَاجُّ الرُّجُوعَ إِلَى بَلَدِهِ مِنْ مِنًى، لَزِمَهُ دُخُولُ مَكَّةَ لِطَوَافِ الوَدَاعِ، يَنْبَغِيٍ أنْ يقَعَ طَوَافُ الْوَدَاعِ بَعْدَ الْفَرَاغ مِنْ جَمِيعِ أشْغَالِهِ. «الإيضاح» (ص: 405).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 143)، و «المجموع» (8/ 187)، و «شرح المُنتهَى» (1/ 575).
والراجح: أنه يُشترَط لطواف الوداع أن يكون بعد الفراغ من جميع أعمال المناسك، ويَعقبه الخروج من غير مُكْث، وليس على الحاج بمكة بعد انتهائه من أيام التشريق، الخارج إلى التنعيم- وداع ولا دم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ، فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ» ولم يَرِد أنه صلى الله عليه وسلم أَمَر عائشة بطواف الوداع قبل عمرة التنعيم.
المبحث السابع: هل صح دعاء مُعَيَّن بعد طواف الوداع؟
لم يصح في هذا الباب حديث، وهذه بعض الآثار في هذا الصدد:
فَعَنِ المُهَاجِرِ قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَنِ الرَّجُلِ يَقْضِي صَلَاتَهُ وَطَوَافَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَيَسْتَقْبِلُ البَيْتَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا اليَهُودَ
(1)
.
وَعَنْ عَطَاءِ قَالَ: رَأَى ابْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما رَجُلًا خَرَجَ مِنَ الْكَعْبَةِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، فَقَالَ: هَكَذَا تَصْنَعُ الْيَهُودُ فِي كَنَائِسِهَا، لِيَدْعُ الرَّجُلُ فِي مَجْلِسِهِ بِمَا شَاءَ، ثُمَّ لِيَقُمْ
(2)
.
والحاصل: أنه لم يَرِد في هذا الباب غير طواف الوداع، وخَيْر الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم القائل:«لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» ، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم دعاء مُعَيَّن بعد طواف الوداع، وأما ما يفعله بعض الناس بعد طواف الوداع، وهو أن يسير بظهره، حتى يصل إلى الباب الذي يَخرج منه، فلم يَرِد هذا الفعل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته.
(1)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن خُزيمة (2705)، وفيه قَزْعَة بن سُويد، وهو ضعيف.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (422) وعبد الرزاق (5/ 77). وأخرج الفاكهي في «أخبار مكة» (708): عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِذَا أَرَدْتَ وَدَاعَ الْبَيْتِ فَارْتَحِلْ، ثُمَّ ائْتِ الْمَسْجِدَ فَطُفْ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ سَبْعِكَ، فَأْتِ الْمُلْتَزَمَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَضَعْ خَدَّيْكَ بَيْنَهُمَا، وَابْسُطْ يَدَيْكَ، وَقُلْ: اللَّهُمَّ هَذَا وَدَاعِي بَيْتَكَ، فَحَرِّمْنِي وَعِيَالِي عَلَى النَّارِ. اللَّهُمَّ خَرَجْتُ إِلَيْكَ بِغَيْرِ مِنَّةٍ عَلَيْكَ، أَنْتَ أَخْرَجْتَنِي، فَإِنْ كُنْتَ قَدْ غَفَرْتَ ذُنُوبِي، وَأَصْلَحْتَ عُيُوبِي، وَطَهَّرْتَ قَلْبِي، وَكَفَيْتَنِي الْمُهِمَّ مِنْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي؛ فَلَا يَنْقَلِبُ الْمُنْقَلِبُونَ إِلَّا لِفَضْلٍ مِنْكَ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَذُنُوبِي وَمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، فَاغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي.
ثُمَّ تَنَحَّ خَلْفَ الْمَقَامِ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتُطِيلُ فِيهِمَا، وَلَا تَأْلُ أَنْ تُحْسِنَ الدُّعَاءَ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ إِلَى زَمْزَمَ، فَاسْتَقِ دَلْوًا فَاشْرَبْ، وَاسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ. ثُمَّ تَنْصَرِفُ حَتَّى إِذَا كُنْتَ عَلَى بَعْضِ الْأَبْوَابِ مِنَ الْمَسْجِدِ، رَمَيْتَهَا بِطَرْفِكَ، وَتَحَزَّنْ عَلَى فِرَاقِهَا، وَتَمَنَّ الرَّجْعَةَ إِلَيْهَا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوَدَاعَ إِنْ شَاءَ اللهُ.
وفي إسناده إبراهيم بن الحَكَم، وهو ضعيف جدًّا.
الباب الثاني والعِشرون: من نوازل الحج
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: الحج السريع:
وهو أن يتجه الحاج عصرًا إلى عرفة، وبعد المغرب إلى مُزدلِفة، ثم بعد منتصف الليل يتجه إلى منًى ليَرمي جمرة العقبة، ويَحلق ويتحلل، ويتوجه إلى الحَرَم فيطوف ويسعى، جامعًا بين الإفاضة والوداع، ويُنيب مَنْ يقوم عنه برمي الجمرات أيام التشريق.
وقد خَصَّصَتْ بعض الشركات التي تقوم بمثل هذا الحج بعضًا من موظفيها؛ لكي ينوبوا عن الحاج فيما يتعين عليه القيام به، من رمي ونحوه.
وهذا الفعل فيه استهتار بشعائر الله وتلاعب بأوامره؛ لأن الله أَمَر بإتمام الحج لمن دخل فيه، بقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وتمامه لا يَحصل إلا بالإخلاص والمُتابَعة. وأيّ مُتابَعة لمَن تَرَك هذه الواجبات؟! وأي متابعة لمن أضاع رُوح العبادة وثمرتها، وهو الخشوع وحضور القلب في تلك الأماكن، التي تَنزل فيها الرحمات وتُغفَر الخطايا والسيئات؟! وليس الحج للنزهة والفسحة، وإنما الحج عبادة وجهاد يُتعِب فيها نفسه ويُرضِي فيها ربه.
ويجب على صاحب هذا الحج: التوبة والاستغفار، ويَلزمه دم لترك المبيت بمِنًى لوجوبه، ودم ثانٍ لرمي الجمار التي وَكَّل فيها؛ لأن توكيل القادر لا يصح ولا تَبرأ به الذمة، ودم ثالث لتَرْك طواف الوداع، ولا يصح أن يَجمع بين طواف الإفاضة و طواف الوداع يوم النحر؛ لوقوع طواف الوداع في غير وقته؛ فبداية وقته في اليوم الثاني عشر؛ لأنه لا يكون إلا بعد انتهاء رمي الجمرات وجميع المناسك
(1)
.
(1)
قالت اللجنة الدائمة (11/ 289): ومَن وَكَّل في رمي جمراته أيام التشريق أو أحد أيام التشريق، ونَفَر يوم النحر- يُعتبَر مخطئًا مستهترًا بشعائر الله. ومَن يُوكِّل في رمي الجمرات اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر من أيام التشريق، ويطوف طواف الوداع ليتعجل بالسفر؛ فقد خالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أَمَر به في أداء المناسك وترتيبها، وعليه التوبة والاستغفار من ذلك.
ويَلزم مَنْ فعل ذلك دم عن ترك المبيت بمِنًى، ودم عن تركه رمي الجمرات التي وَكَّل فيها ونَفَر، ودم ثالث عن طواف الوداع، وإن كان طاف بالبيت لدى مغادرته؛ لوقوع طوافه في غير وقته؛ لأن طواف الوداع إنما يكون بعد انتهاء رمي الجمرات.
المبحث الثاني: حَمَلات الحج: وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: تعريف حَمَلات الحج:
هي أن يَدفع الحاج مبلغًا من المال؛ مقابل إصدار تأشيرة ومواصلات طيران أو بري، من بلده إلى مكة، ذَهابًا وإيابًا، ومواصلات بين المشاعر ومخيمات في عرفة ومِنًى، وتوفير السكن مدة الإقامة.
ونُذكِّر أصحاب الحَمَلات بأنهم إذا أحسنوا القصد بالتيسير على الناس في أداء نسكهم، وقضاء حجهم، وتخفيض الأسعار عليهم، وتطبيق سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم في المناسك
…
وغير ذلك من المقاصد الحسنة، فإن الله يَكتب لهم المثوبة والأجر العظيم.
المطلب الثاني: مشروعية حَمَلات الحج:
إن هذه الحَمَلات بهذه الصورة لم تكن موجودة في عصور السلف، ولكن كان هناك ما يشابه حَمَلات الحُجاج ممن كانوا يَنقلون الحُجاج بالكِرَاء.
قال ابن قُدامة: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِجَازَةِ كِرَاءِ الْإِبِلِ إِلَى مَكَّةَ وَغَيْرِهَا
…
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] أَنْ تَحُجَّ وَتُكْرِيَ. وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَى السَّفَرِ، وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْحَجَّ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَلَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ بَهِيمَةٌ يَمْلِكُهَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مُعَانَاتِهَا، وَالْقِيَامِ بِهَا وَالشَّدِّ عَلَيْهَا، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اسْتِئْجَارِهَا، فَجَازَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ
(1)
.
المطلب الثالث: ضوابط الإعلان عن حَمَلات الحج:
هناك بعض الضوابط الشرعية التي يجب مراعاتها في الإعلان عن حَمَلات الحج، وهي: الأول: ينبغي أن يُقتصَر في الإعلان عن حَمَلات الحج على ذِكر اسم الحملة،
(1)
«المغني» (8/ 89).
وموقعها ومزاياها الخدمية.
الثاني: ينبغي عدم المتاجرة بوجود بعض طلبة العلم والدعاة في الحملة؛ لأن في ذلك امتهانًا للعلم الذي هو من أعظم القربات.
الثالث: يجب أن يتحقق الصدق والأمانة في الإعلان، وأن يُطابِق الإعلانُ الواقعَ؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
المطلب الرابع: الحج مع الحملات الباهظة الثمن:
الحج مع الحملات الباهظة الثمن يخالف هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ثلاث جهات:
الأولى: الإسراف الزائد في المأكل والمشرب، وهذا أمر منهي عنه، قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].
الثانية: ما يُحْدِثه الحج مع الحملات الباهظة الثمن من التباهي والتفاخر! ومَقام الحج مَقام عبودية وتواضع وإخبات.
الثالثة: أن الحج نوع من أنواع الجهاد. والناظر في حال حج تلك الحَمَلات يرى معاني الجهاد التي شُرع الحج من أجلهاضعيفة.
المطلب الخامس: اشتراط الضمان البنكي للحملات والإيداع للأشخاص:
تَشترط وزارة الحج على الحملات الداخلية والخارجية للمشاركة في موسم الحج، استصدار ضمان بنكي من أي بنك من البنوك المعتمدة، يَعتمد على عدد الحُجاج المُسجَّلين، بدفع مبلغ مُعيَّن لكل حاج، وفائدة الخطاب البنكي أنه بمنزلة التأمين في حال التخلف عن إنجاز ما اتفق عليه، فيُخصَم عليه منه.
فالحاصل: أنه يُفرَض على الحَمَلات أن يُودَع في البنك عن كل حاج مبلغ من المال، ولكن المشكلة أن أكثر هذه البنوك ربوية، فما حُكْم ذلك؟
إن استصدار ضمان بنكي أو خطاب لضمان حملات الحج من التلاعب- لا بأس به، إذا لم يأخذ البنك فوائد ربوية، إلا ما يوازي المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان فحَسْب. وأما إيداع مبالغ نقدية لبعض الحُجاج في بنوك ربوية، فمُحَرَّم باتفاق
(1)
.
(1)
وسُئلت اللجنة الدائمة (11/ 42): يجب على مَنْ يريد الحج هنا في تركيا- أن يضع مبلغًا وقَدْره (125) ألف ليرة تركي في البنك، وهو مبلغ كبير جدًّا، مع العلم أن البنوك ربوية، ولا توجد وسيلة للذَّهاب إلى الحج إلا هذه الوسيلة، فهل الحج في هذه الحالة فرض على المسلم المقتدر؟ وإذا حج المسلم فهل يكون حجه صحيحًا؟
فأجابت: الحج صحيح. وما ذُكِر لا يُعتبَر عذرًا في تأخير الحج إذا كان صاحبه قادرًا على ذلك.
المبحث الثالث: من حلول الزحام في المناسك:
الأول: تنظيم وتفويج الحجيج بين المشاعر:
من أسباب الزحام في المناسك ضِيق الطرق التي تَربط بين المشاعر، وعدم قدرتها على استيعاب الأعداد الهائلة من المركبات، مع صعوبة تنظيم الحركة المرورية فيها.
ومن الحلول المطروحة في تخفيف ذلك: تفويج الحُجاج على دفعات عند انطلاقهم من مَشْعَر عرفة إلى مَشْعَر مُزدلِفة، ومن مِنًى إلى مكة. وذلك بترتيب مواعيد انطلاق المركبات تجنبًا لاكتظاظ الطرقات بين المشاعر.
ومِن أهم الوسائل التي تَربط بين المشاعر المقدسة، وتُسَهِّل على الحُجاج وصولهم إلى المشاعر- هي القطارات، فينبغي الاهتمام بمحطات القطارات.
الثاني: بناء الأبراج السكنية في مِنًى:
يَجوز بناء الأبراج في مِنًى، إذا كان مرفقًا عامًّا، وتحت إشراف الجهات المسئولة.
الثالث: جواز توسيع دائرة المرمى، مع المحافظة على حوض المرمى:
إن مرمى الجمار من المشاعر المقدسة، والمناسك الموروثة التي لا يجوز تغييرها أو تبديلها، وقد حَفِظ الله تعالى آثار نبيه صلى الله عليه وسلم ومَعَالم دِينه أن يَتطرق إليها تغيير عما كانت عليه. وبه يُعْلَم أن إطباق الناس على الرمي إلى الجِمار، وعَدَمُ تَعَرُّض الملوك لِما يَمنعهم من ذلك- أَوْضَحُ دليل على أن المَرْمَى الموجود الآن هو الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم.
فالأصل في تحديد المشاعر التوقيف، فلا دخل للعقل فيها بزيادة أو نقص أو تغيير عن مواضعها؛ إذ إن تعيين هذه المواضع وتحديدها مِنْ قِبل الشرع، ومواضع رمي الجمار من ذلك، فلا يزاد فيها عما كان عليه الأمر منذ أن جعلها الله مواضع لأداء العبادات التي شُرع أداؤها فيها، وهذا كتحديد أوقات الصلوات الخمس، وتعيين ما لكل صلاة من الوقت،
وكذلك أعداد الصلوات وكلمات الأذان
(1)
.
وقد قَرَّر مجلس هيئة كبار العلماء بشأن حوض الجمار بالاتفاق: أنه لا يجوز بناء حوض زائد عن الحوض الموجود حاليًّا، وأن يبقى على ما كان، ومعلوم أن الحصى متى وصل إلى الحوض أجزأ، ولو لم يستقر فيه وتدحرج وسقط خارجه
(2)
.
الثالث: استخدام التِّقْنية الحديثة:
من أهم الحلول للزحام في المناسك: الأخذ بوسائل التِّقْنية الحديثة المتطورة، سواء كان ذلك في تخطيط المشاعر، أو تنظيم توافد الحجيج، أو أثناء أداء الحجيج لنسكهم في المواقيت والمشاعر المقدسة والمسجد الحرام، أو في التنقل بينها، من إنشاء وسائل حديثة للنقل كإنشاء قطار يَربط بين المشاعر، أو إنشاء أداة مترو الأنقاق، أو إنشاء القطار المعلق، أو العربات الكهربائية المعلقة.
وكل ذلك من شأنه التخفيف من الزحام بين المشاعر، وقد تم تنفيذ جزء من هذا المشروع عام (1431 هـ) وهو قطار المشاعر، وهو يَربط بين عرفة ومُزدلِفة ومِنًى. ونحن في حاجة إلى مزيد من التِّقْنية الحديثة المتطورة
(3)
.
الرابع: توعية الحُجاج:
فمِن أنفع الحلول في تخفيف الزحام توعية الحُجاج بكل ما يتعلق بالمناسك من أحكام شرعية وإجراءات سلوكية، مع تكثيف المرشدين والموجهين من الأَكْفاء.
ويُقترَح استصدار شهادة حج لكل مَنْ يريد القيام بهذه الفريضة، بعد خضوعه لدورة قصيرة، تُعْرَض فيها طريقة أداء المناسك، وكل ما يُحتاج إليه.
(1)
«أبحاث هيئة كبار العلماء» (3/ 284)، و «الفتاوى الفقهية الكبرى» لابن حجر الهيتمي (2/ 132).
(2)
«توضيح الأحكام من بلوغ المرام» (4/ 172).
(3)
«حلول الزحام في المناسك» (ص: 625) للشيخ خالد بن محمد السياري. وهو بحث جيد ونافع وفريد في بابه، وهو يَطرح حلولًا فقهية وفنية وتنظيمية وسلوكية لتخفيف الزحام في المناسك، ثم يُبيِّن المقبول منها شرعًا، فالله أسأل أن يجازي مؤلفه خير الجزاء وأوفاه، وأن يَجعل جنة الفردوس مأواه، وأن يُيسِّر له أمر دينه ودنياه.
وقد جاء في قرار هيئة كبار العلماء:
دعوة الحكومات والهيئات والمنظمات لتوعية الحُجاج بأحكام المناسك، وتعريف الحُجاج بمقاصد الحج في العبادة والتربية والأخلاق والنظام، والتمسك بكل ما يُعِين على أن يكون الحج مبرورًا، بواسطة وسائل الإعلام المختلفة، وذلك في وقت مبكر.
التذكير الدائم بقداسة الحج وأماكنه، وما يرتبط بهذه القدسية من ضرورات أخلاقية، تَقضي بوجوب ابتعاد الحُجاج عن التوتر والجدل وتَجَنُّب الاختلاف.
إرشاد الحُجاج وتعريفهم بضرر المسارعة، والرفق والأناة في تأدية حج مبرور.
تذكيرهم دائمًا بفوائد الصبر والتعاون مع المسلمين، وجزاء ذلك عند الله تعالى.
ترسيخ معاني الأخوة الإيمانية بين الحُجاج، وتذكيرهم بقواعد الأخلاق الفاضلة والتعامل الإسلامي الراقي، وبث رُوح التراحم والتفاهم والتعاطف والتعاون بينهم، والتحذير من العنف والقسوة والإضرار بالآخرين
(1)
.
المبحث الرابع: حُكْم زيارة المشاعر في غير النسك:
لا تخلو زيارة المشاعر كمِنًى ومُزدلِفة وعرفة من حالتين:
الأولى: زيارة المشاعر للتعبد في النسك، كمِنًى ومُزدلِفة وعرفة، كزيارة جبل عرفة للصلاة عليه والنَّيْل من بركته. فلا شك أن الزيارة على هذا الوجه لا تَجوز
(2)
.
الثانية: زيارة المشاعر كمِنًى ومزدلفة وعرفة للتعرف عليها، هذا لا بأس به.
المبحث الخامس: المفاضلة بين حج النافلة والتصدق بنفقته:
اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن التنفل بالحج أفضل من التصدق بنفقته. وبه قال عامة أهل العلم
(3)
.
القول الثاني: أن الصدقة بنفقة حج النافلة أفضل من الحج ذاته. وهو قول لأبي حنيفة، ورواية عن أحمد
(4)
.
(1)
«حلول الزحام» (ص: 634، 635).
(2)
«اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 273).
(3)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 621)، و «حاشية الدسوقي» (1/ 561)، «المجموع» (4/ 316).
(4)
«مختصر اختلاف العلماء» (2/ 242)، و «الفروع» (1/ 497).
القول الثالث: التفصيل، وهو أن الأصل تفضيل الحج على الصدقة، إلا إذا كانت هناك حاجة لا تندفع إلا ببذل نفقة الحج فيها، كالحروب والمجاعات. واستدلوا بأن دفع المال على الرحم المحتاجة وإطعام الجائعين في المجاعات ومعالجة المرضي- من فرائض الإسلام، وهي مُقدَّمة على نافلة الحج. وهو قول أحمد في رواية
(1)
.
المبحث السادس: تظليل المسجد الحرام:
من أسباب الزحام في صحن المطاف بالليل: عدم وجود ما يقي من الشمس، فمِن الحلول المطروحة لتخفيف الزحام إنشاء مظلات آلية على غِرار مظلات المسجد النبوي، ويكون ذلك في المطاف والسطح والساحات الخارجية؛ لحماية المصلين من حرارة الشمس التي تتجاوز الخمسين درجة، ولترغيب الناس في الطواف نهارًا
(2)
.
ملخص أعمال الحج
أعمال الحج ثلاثة أقسام: أركان، وواجبات، وسُنن.
أما أركان الحج فأربعة: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي. والأركان لا يَتم الحج إلا بها.
وأما واجبات الحج، فسبعة:
الأول: إنشاء الإحرام من الميقات.
الثاني: الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والجَمْع بين الليل والنهار.
الثالث: المبيت بمزدلفة.
الرابع: الحَلْق أو التقصير.
الخامس: المبيت بمِنًى ليالي أيام التشريق.
السادس: رمي الجمار.
السابع: طواف الوداع.
وأما سُنن الحج، فهي كل ما يؤمر به في الحج سوى الأركان والواجبات.
(1)
«الفروع» (4/ 386). ونَقَل ابن هانئ: وإن كان قرابته فقراء؟ فقال أحمد: يضعها في أكباد جائعة أَحَبُّ إليَّ. فظاهره العموم. «اختيارات ابن تيمية» (ص: 115).
(2)
«حلول الزحام في المناسك» (ص: 269).
الباب الثالث والعِشرون:
أحكام تختص بالعمرة
وفيه تمهيد وثمانية مباحث:
تمهيد: تعريف العمرة.
المبحث الأول: من فضائل العمرة.
المبحث الثاني: حُكْم العمرة.
المبحث الثالث: وقت العمرة.
المبحث الرابع: عدد عمرات النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الخامس: زمان عمرات النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث السادس: نوع النُّسك الذي أَهَّلَتْ به أُم المؤمنين عائشة.
المبحث السابع: تَكرار العمرة، أو حُكم عمرة التنعيم.
المبحث الثامن: مشروعية العمرة لأهل حرم مكة.
تمهيد: تعريف العمرة:
العمرة لغة: الزيارة أو القصد إلى موضعٍ عامر، وهو الكعبة.
وشرعًا: زِيَارَةُ بَيْتِ اللَّهِ لِلنُّسُكِ الْمَعْرُوفِ، الْمُتَرَكِّبِ مِنْ إِحْرَامٍ، وَطَوَافٍ، وَسَعْيٍ، وَحَلْقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ
(1)
.
المبحث الأول: من فضائل العمرة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا»
(2)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» وفي رواية: «حَجَّةً مَعِي»
(3)
.
المبحث الثاني: حُكْم العمرة:
اختَلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أن العمرة واجبة عند الشافعية والحنابلة، وقول للحنفية والمالكية
(4)
.
(1)
«المجموع» (7/ 2)، و «أضواء البيان» (5/ 227)، و «الفروع» (5/ 201).
(2)
رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
(3)
ومدار هذا الحديث على عطاء، عن ابن عباس، واختُلف عنه:
فرواه حَبِيبٌ المُعَلِّم عن عطاء، به، فزاد فيه:«أَوْ حَجَّةً مَعِي» رواه البخاري (1863)، ومسلم (1256).
وخالف حَبِيبًا ابنُ جُرَيْجٍ، فرواه عن عطاء به، بلفظ:«فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً» رواه البخاري (1782)، ومسلم (1256) واللفظ له.
وابن جُريج مِنْ أثبت الناس في عطاء. وحبيبٌ المُعَلِّم قال فيه الحافظ: صدوق. ومما يدل على عدم ضبطه لهذه الرواية أنه رواها على الشك، فقال:«تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي» .
وقد تابع ابن جُرَيْجٍ ثلاثة، وإن كانوا ضعفاء إلا أنه يُعتبَر بهم، وَهُمْ: ابن أبي ليلى عند أحمد (2808)، والحَجَّاج بن أرطاة عند ابن ماجه (2994)، ويعقوب بن عطاء عند ابن حِبان (3699) ثلاثتهم عن عطاء به، قالوا في حديثهم:«تَقْضِي حَجَّةً» ولم يَذكروا «أَوْ حَجَّةً مَعِي» .
وقد روى عامر الأحول، عن بكر المُزَنِيّ، عن ابن عباس، بدون شك عند أبي داود (1990) وما انفرد به عامر الأحول لا يُحتجّ به.
فالحاصل: أن حبيبًا المُعَلِّم تفرد بزيادة «حَجَّةً مَعِي» وفيه مقال وقد شَكَّ، وقد خالفه ابن جُريج، وهو مِنْ أثبت الناس في عطاء، وروايته مُقدَّمة عليه، وكيف وقد انضم إليه غيره؟! والله أعلم.
(4)
«المجموع» (7/ 7)، و «الإنصاف» (3/ 387)، و «مَجْمَع الأنهار» (1/ 257).
هناك قول ثالث، وهو قول الحنفية، أن العمرة فَرْض كفاية، كما في «مَجْمَع الأنهار» (1/ 257)، واستدلوا بأن العمرة من شعائر الإسلام الظاهرة. وهذا قول ضعيف لا يُعَرَّج عليه.
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فعموم قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] والمراد بالإتمام في الآية ابتداء فعلها على الوجه الأكمل، ومقتضى الأمر الوجوب، وعَطْف العمرة على الحج يقتضي التساوي بينهما، فدل ذلك على وجوب العمرة.
ونوقش بأن المراد بالإتمام هو الإتمام بعد الشروع، كَمَنْ دخل في صلاة نافلة فوجب عليه إتمامها، ولا يعني ذلك وجوب صلاة النافلة.
وأما السُّنة، فاستدلوا بأدلة كثيرة، من أشهرها:
عن عمر في حديث جبريل: فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا الإِسْلَامُ؟ قَالَ: «الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ،
…
وَتَحُجَّ البَيْتَ وَتَعْتَمِرَ»
(1)
.
وَجْه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جَعَل العمرة من أركان الإسلام، كالحج.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ جِهَادٍ؟ قَالَ:«نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ»
(2)
.
فلفظة (عَلَيْهِنَّ) ظاهرها وجوب الحج والعمرة.
(1)
صحيح دون لفظة: (وَتَعْتَمِرَ) فهي شاذة: رواه ابن خُزيمة (3065) من طريق سليمان التيمي، عن يحيى بن يَعْمَر، عن ابن عمر، عن عمر، به.
قال ابن حِبان (173): تَفَرَّدَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِقَوْلِهِ: (وتَعْتَمِرُ). وقال ابن العربي: وأما حديث جبريل فقد رواه العَالَم وليس فيه: (وتَعتمر) فلا تُقْبَل هذه الزيادة. «القبس» (ص: 541). وقال الدارقطني: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قَالَ صَاحِبُ «التَّنْقِيحِ»: الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» لَيْسَ فِيهِمَا: (وَتَعْتَمِرُ) وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهَا شُذُوذٌ. «نَصْب الراية» (3/ 147). وقال الزرقاني: وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ
…
» فَذِكْرُ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ، وَزِيَادَتُهَا فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ شَاذَّةٌ ضَعِيفَةٌ. «شرح الموطأ» (2/ 405).
وقال ابن التركماني: والمشهور من الحديث ذِكر الحج وحده دون العمرة، وهو المُوافِق للأحاديث المشهورة، كحديث «بُنِيَ الْإِسْلَامُ
…
» وغيره.
(2)
صحيح دون لفظة: (العمرة) فهي شاذة: ومدار الحديث على حبيب بن أبي عَمْرة، عن عائشة بنت طلحة، به. واختُلف عنه: فرواه محمد بن فُضَيْل، فزاد (والعمرة) أخرجه ابن ماجه (2901).
وخالف ابنَ فُضيل جماعةٌ من أصحاب حبيب، فذكروه بسياق آخَر ولم يَذكروا العمرة فيه، وهم: عبد الواحد بن زياد، وخالد بن عبد الله الواسطي، كلاهما عند البخاري (784، 1520، 1861). وجرير بن عبد الحميد عند النَّسَائي (2628). ويزيد بن عطاء عند أحمد (24422).
فتَفرُّد ابن فُضيل بزيادة لفظة (والعمرة) شاذة لمخالفته للثقات من أصحاب حبيب، الذين رووه بدونها.
ومما يدل على شذوذ هذه الزيادة ما روته عائشة بنت طلحة، به، عند البخاري (2875) بدونها.
وكذا روته عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة عند الطبراني (1323) بدون لفظة (والعمرة).
وقد أَعَل الزيادة ابن عبد الهادي والزيلعي في «تنقيح التحقيق» (3/ 425)، و «نَصْب الراية» (3/ 148).
وقد وردت هذه اللفظة من طرق أخرى عن عائشة، ولكنها لا تصح. روى أحمد (24463) عن عِمران بن حِطَّان، عن عائشة، وفي سماعه منها اختلاف، مرفوعًا:«الحج والعمرة هما جهاد النساء» .
ورواه أبو نُعيم في «الحِلية» (8/ 357) من طريق آخَر فيه عمرو بن عُبيد، وهو متروك الحديث.
واعتُرض عليه بأن لفظة (العمرة) ضعيفة.
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ»
(1)
.
واستدلوا بما رُوي عن أبي رَزِين العُقيلي، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الحَجَّ وَلَا العُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ. قَالَ:«حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ»
(2)
.
وَجْه الدلالة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «واعتَمِر» صيغة أمر بالعمرة، مقرونة بالأمر بالحج، فأفادت صيغة الأمر الوجوب.
واعتُرض عليه بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ؛ إذِ الْأَمْرُ فِيهِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْهُ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ
(3)
.
(1)
ضعيف، ومداره على محمد بن سيرين، واختُلف عنه في الرفع والوقف:
فرواه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف، عن ابن سيرين، به، مرفوعًا، أخرجه الدارقطني (2718).
ورَوى الدارقطني (2719) مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ هِشَام بْن حَسَّانَ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، فَقَالَ:«صَلَاتَانِ لَا يَضُرُّكُ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ» . وإسناده صحيح، وابن سيرين قال البخاري: سَمِع زيد بن ثابت.
وقال الحافظ: وَفِي إسْنَادِهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثُمَّ هُوَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ زَيْدٍ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى زَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا، وَإِسْنَادُهُ أَصَحُّ. «التلخيص» (2/ 430)، قال الحاكم: وَالصَّحِيحُ عَنْ زَيْدٍ قَوْلُهُ.
وله شاهد: عَنْ جَابِرِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الحَجُّ وَالعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ» أخرجه ابن عَدي في «الكامل» (10008)، والبيهقي (8830) وقال: وَابْنُ لَهِيعَةَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ.
(2)
إسناده صحيح: رواه أحمد (16184)، والترمذي (930)، وأبو داود (1810) من طرق: عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، بِهِ. قال الإمام أحمد: لَا أَعْلَمُ فِي إِيجَابِ العُمْرَةِ حَدِيثًا أَجْوَدَ مِنْ هَذَا، وَلَا أَصَحَّ مِنْهُ. «السُّنن» للبيهقي (9/ 277).
(3)
«نَصْب الراية» (3/ 148).
واستدلوا بما رُوي عن الصُّبَيّ بن مَعْبَد قَالَ: أَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كُنْتُ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا، وَإِنِّي أَسْلَمْتُ، وَأَنَا حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ، وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ، فَأَتَيْتُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ لِي:(اجْمَعْهُمَا وَاذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) وَإِنِّي أَهْلَلْتُ بِهِمَا مَعًا. فَقَالَ لِي عُمَرُ رضي الله عنه: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقوله: (مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ) يدل على أن العمرة واجبة. ونوقش بأن هذه اللفظة شاذة.
القول الآخَر: أن العمرة سُنة. وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقول للشافعية، ورواية عن أحمد
(2)
.
(1)
فقرة (وإني وَجَدْتُ الحج والعمرة مكتوبين عليّ) شاذة:
مدار هذا الحديث على أبي وائل، عن الصُّبَيّ بن مَعْبَد، واختُلف عنه، ويرويه منصور بن المُعتمِر واختُلف عنه: فرواه جرير بن عبد الحميد: «إني وَجَدْتُ الحج والعمرة مكتوبين عليّ» .
وخالف جريرًا الثقاتُ عن منصور بن المُعتمِر، فلم يذكروها، منهم: الثوري عند أحمد (256)، وشُعبة عند الطيالسي (58)، وزائدة بن قُدامة عند النَّسَائي (2720)، وشَريك عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3675) أربعتهم عن منصور، وقالوا في حديثهم:«فأتيتُ رجلًا من قومي فسألتُه، فأَمَرني بالحج، فقرنتُ بين الحج والعمرة» أو بنحوه.
ورواه جماعة من الثقات عن أبي وائل دون قوله: «وإني وَجَدْتُ الحج والعمرة مكتوبين عليّ» منهم: مجاهد بن جَبْر، عند النَّسَائي (2721). والحَكَم بن عُتيبة، وسَيَّار أبو الحَكَم، والأعمش، ثلاثتهم عند أحمد (83، 227، 254). وعَبْدة بن أبي لُبابة، عند ابن ماجه (2970). وأبو معاوية، عند ابن أبي شيبة (14291)، وسَلَمة بن كُهَيْل وعاصم بن بَهْدَلة، عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3677، 3678)، وغيرهم. جميعًا: عن أبي وائل شقيق بن سلمة، وقالوا في حديثهم:«فأهللتُ بالحج والعمرة» أو بنحوه، وليس في حديث أحد منهم هذه الزيادة.
وقد رواه جماعة من التابعين عن الصُّبَيّ دون هذه الزيادة، منهم: عمرو بن مُرَّة وعامر الشَّعْبي، كلاهما عند الطبراني في «الأوسط» (8260، 9413)، وإبراهيم النَّخَعي، عند أبي حنيفة في «مسنده» (926، 927، 928، 929)، ثلاثتهم: عن الصُّبَيّ بن مَعْبَد، ولم يَذكر أحد منهم لفظة:«وإني وَجَدْتُ الحج والعمرة مكتوبين عليّ» إلا جرير بن عبد الحميد الضَّبِّيّ، وهو وإن كان ثقة صحيح الكتاب، إلا أنه خالف مَنْ هو أوثق منه عن منصور وسائر الرواة عن أبي وائل، وسائر الرواة من التابعين عن الصُّبَيّ، ولعله حَدَّث بها من حفظه؛ فقد قيل: كان في آخر عمره يَهِم في حفظه.
(2)
«فتح القدير» (3/ 139)، و «الفواكه الدواني» (1/ 437)، و «المجموع» (7/ 7)، و «الفروع» (3/ 204).
واستدلوا بالكتاب والسُّنة:
أما الكتاب، فقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
وَجْه الدلالة: أن الله ذَكَر وجوب الحج، ولو كانت العمرة واجبة لذَكَرها الله في كتابه.
وأما السُّنة، فاستدلوا بحديث أنس بن مالك، وفيه: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: «صَدَقَ» قَالَ: ثُمَّ وَلَّى. قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَئِنْ صَدَقَ، لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ»
(1)
.
قوله: (لا أَزيد عليهن ولا أَنقص منهن) دل ذلك على أن العمرة غير واجبة.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ: أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ»
(2)
.
وَعَنْ طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«الْحَجُّ جِهَادٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (12).
(2)
ضعيف، وله عن جابر ثلاثة طرق، وهي:
الطريق الأول: طريق الحَجَّاج بن أَرْطَاةَ، عن ابن المنكدر، عن جابر، مرفوعًا، عند أحمد (14397).
الطريق الثاني: طريق أبي عِصمة- وهو كذاب- عن ابن المنكدر، عند ابن عَدي (17179) قال: وهذا يُعْرَف بحَجَّاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر، وأبو عِصمة قد رواه عن ابن المنكدر، ولعله سرقه منه.
الطريق الثالث: طريق سعيد بن عُفَيْر، عن يحيى بن أيوب، عن عُبَيْد الله بن المُغِيرة، عن أبي الزبير، عن جابر. أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 251)، والطبراني في «الأوسط» (6572).
وهذا الطريق منكر؛ لأن المشهور أن هذا حديث الحَجَّاج بن أرطاة؛ ولذا عَقَّب الطبراني بقوله: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ إِلَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، تَفَرَّدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ.
قال الذهبي: هذا غريب عجيب، تَفَرَّد به سعيد عن يحيى بن أيوب. «ميزان الاعتدال» (4/ 363).
فالحاصل: أن هذا حديث الحَجاج بن أرطاة، تَفَرَّد به وفيه ضعف، قاله ابن عبد البر في «التمهيد» (20/ 14) والنَّحَّاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص: 132)، وابن مفلح في «الفروع» (3/ 153).
وقد استَنكر جماعة من الأئمة تصحيح الترمذي لهذا الحديث؛ ولذا قال ابن عبد الهادي: وقد أُنْكِرَ عليه تصحيح هذا الحديث، وقد ضَعَّفه الإمام أحمد في رواية ابن هانئ عنه. «تنقيح التحقيق» (3/ 430).
(3)
إسناده ضعيف جدًّا: رواه ابن ماجه (2989)، وقد تفرد به عمر بن قيس المكي، وهو متروك.
وقد سُئل أبو حاتم عن هذا الحديث، فقال: حديث باطل، كما في «العلل» (850).
وقد رُوي هذا الحديث من طريقين آخَرين، وهما:
الأول: عَنْ أَبِي صَالِحٍ الحَنَفِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الحَجُّ جِهَادٌ، وَالعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» أخرجه الشافعي في «الأُم» (2/ 187)، وفي «المسند» (737).
وهذا ضعيف لإرساله، وقد لَخَّص البيهقي القول فقال: وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ
…
فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَرُوِيَ مِنْ أَوْجُهِ أُخَرَ ضَعِيفَةٍ مَوْصُولًا. «السُّنن الصغير» (2/ 143).
وله شاهد عن ابن عباس عند الطبراني (12252)، وفي إسناده محمد بن الفضل، وهو كذاب.
وقد تبين من ذلك أن كل ما رُوي مرفوعًا: «الحج جهاد، والعمرة تطوع» لا يصح.
وقال ابن حجر بعد ذكر طرقه: ولا يصح من ذلك شيء. «التلخيص الحبير» (2/ 241).
وقال ابن عبد البر: ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: «العمرة تطوع» بأسانيد لا تصح، ولا تقوم بمثلها حجة. «التمهيد» (20/ 14). وقال ابن كَثير بعد ذكر حديث طلحة، وبيان ضعفه: وقد رُوي نحو هذا الحديث من طرقٍ كلها ضعيفة. «إرشاد الفقيه» (1/ 302).
والراجح: أنه لا يجب غير الحج، فعن أبي هريرة قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» والأدلة التي توجب العمرة لا تخلو من مقال، فالعمرة مستحبة وليست بواجبة.
المبحث الثالث: وقت العمرة:
نَقَل ابن رُشْدٍ الإجماع على جواز العمرة في كل أوقات السَّنة
(1)
.
وهذا الإجماع منخرم؛ فقد ورد أن العمرة تُكْرَه في يوم عَرَفَة، ويوم النَّحْر، وأيام التشريق. وهو مذهب الحنفية، ورواية عند أحمد
(2)
.
واستدلوا بما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: حَلَّتِ العُمْرَةُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إِلاَّ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ
(3)
.
واعتُرض عليه بأنه لا يصح، ولو صح لكان محمولًا على مَنْ كان متلبسًا بالحج.
قال البيهقي: وَهَذَا مَوْقُوفٌ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالحَجِّ، فَلَا يُدْخِلُ العُمْرَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْتَمِرُ حَتَّى يُكْمِلَ عَمَلَ الحَجِّ كُلَّهُ
(4)
.
(1)
«بداية المجتهد» (2/ 90).
(2)
«بدائع الصنائع» (2/ 227)، و «الفروع» (5/ 322).
(3)
رواه البيهقي في «السُّنن الكبرى» (8812).
(4)
«السُّنن الكبرى» (9/ 265).
فالحاصل: مشروعية العمرة في سائر أيام السَّنة لمن لم يكن ملتبسًا بأعمال الحج، وعدم كراهة العمرة في شيء منها، فالمُحْرِم بالحج لا يصح إحرامه بعمرة بالاتفاق إلا بعد فراغه من جميع أفعال الحج.
المبحث الرابع: عدد عمرات النبي صلى الله عليه وسلم
-:
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلَّهُنَّ فِي ذِي القَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةً مِنَ الحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ
(1)
.
فهذا الحديث صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَر، ولكن يشكل عليه ما رواه البَرَاءُ رضي الله عنهما يَقُولُ:«اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي القَعْدَةِ، قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ»
(2)
.
ويُجْمَع بينهما بِأَنَّهُ أَرَادَ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ الْمُسْتَقِلَّةَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمَا اثْنَتَانِ، فَإِنَّ عُمْرَةَ الْقِرَانِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِلَّةً، وَعُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ صُدَّ عَنْهَا وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِتْمَامِهَا
(3)
.
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ: عُمْرَةً فِي شَوَّالٍ
…
(4)
ولكنه ضعيف.
المبحث الخامس: زمان عمرات النبي صلى الله عليه وسلم
-:
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلَّهُنَّ فِي ذِي القَعْدَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ.
(1)
البخاري (4148)، ومسلم (1253).
(2)
البخاري (1781).
(3)
«زاد المعاد» (2/ 87).
(4)
ضعيف، أُعِلَّ بالإرسال، ومدار هذا الحديث على هشام بن عروة، عن أبيه، واختُلف عنه:
فرواه داود بن عبد الرحمن عند أبي داود (1991)، وابن أَبي الزِّناد عند ابن سعد في «الطبقات» (2/ 156)، والدراوردي عند البيهقي (8811) ثلاثتهم عن هشام، عن أَبيه، عن عائشة، موصولًا، به.
وخالفهم مالك في «الموطأ» (972) فرواه عن هشام، عن أبيه، مرسلًا، به.
والأقرب أن المرسل أصح؛ فمالك لا يقاس به الذين رووه موصولًا، وقد رَجَّح المرسل ابن عبد البر كما في «التمهيد» (10/ 270) وابن القيم في «زاد المعاد» (2/ 125).
قال ابن القيم: فَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ» فَوَهْمٌ مِنْهُ رضي الله عنه، قَالَتْ عائشة لَمَّا بَلَغَهَا ذَلِكَ عَنْهُ:«يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمْرَةً قَطُّ إِلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ»
(1)
.
المبحث السادس: نَوْع النسك الذي أَهَلَّتْ به أُم المؤمنين عائشة:
اختَلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن عائشة حجت قارنة. وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يوم النفر: «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ»
(2)
.
واستدلوا أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة بعد ما وَقَفَتِ المواقف، حتى إذا طَهَرَتْ طافت بالكعبة والصفا والمروة:«قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا»
(3)
.
فهذان لفظان صريحان في أن عائشة كانت قارنة.
القول الآخَر: أن عائشة حجت مُفرِدة. وهذا مذهب الحنفية.
واستدلوا بما روى مسلم عن عائشة، وفيه:«كُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَظَلَّنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «ارْفُضِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالحَجِّ» فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي
(4)
.
دل هذا الحديث على أن عائشة حجت مُفرِدة من أربعة أوجه:
الوجه الأول: «ارْفُضِي عُمْرَتَكِ» اتركي عمرتك، وتَحَلَّلِي منها، وأَهِلي بالحج مُفرِدة.
ونوقش بأن معنى الرفض هنا تَرْك أعمال العمرة والإمساك عنها، من طواف وسعي، لا رَفْض الإحرام بالعمرة رأسًا والانتقال إلى حج مفرد؛ إذ لو كان المراد برفض العمرة إلغاؤها، لَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة يوم النفر:«يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» فهذا
(1)
«زاد المعاد» (2/ 88).
(2)
رواه مسلم (1211).
(3)
رواه مسلم (1213).
(4)
البخاري (1783).
تصريح بأن عمرتها باقية صحيحة مُجْزِئة، وأنها لم تُلْغِها
(1)
.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة بعد أمرها برفض عمرتها: «وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالحَجِّ» فهذا دليل على أنها خرجت من عمرتها وألغتها.
ونوقش بأن نقض الشعر والامتشاط للمُحْرِم لا يَلزم منه إبطال العمرة، بل فيه دليل على أنه يَجوز للمُحْرِم أن يمشط شعره، ولكن يكون امتشاطًا رفيقًا لا يَقطع الشَّعر.
الوجه الثالث: قول عائشة: فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي.
فهذا يدل على أن عمرتها من التنعيم كانت قضاء لتلك العمرة التي رفضتها؛ فإن عمرتها الأولى لو كانت باقية لم تكن عمرة التنعيم مكانها، بل كانت عمرة مستقلة.
ونوقش بما قاله النووي: وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَمَّا مَضَتْ مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَن لِيُعْمِرهَا مِنَ التَّنْعِيم:«هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ» فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا عُمْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ عَنِ الْحَجِّ، كَمَا حَصَلَ لِسَائِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرهنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ، الَّذِينَ فَسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَأَتَمُّوا الْعُمْرَةَ وَتَحَلَّلُوا مِنْهَا قَبْل يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، ثُمَّ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّة يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَحَصَلَ لَهُمْ عُمْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ وَحَجَّةٌ مُنْفَرِدَةٌ.
وَأَمَّا عَائِشَةُ، فَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا عُمْرَةٌ مُنْدَرِجَةٌ فِي حَجَّةِ بِالْقِرَانِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّفْرِ:«يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» أَيْ: وَقَدْ تَمَّا وَحُسِبَا لَكِ جَمِيعًا. فَأَبَتْ وَأَرَادَتْ عُمْرَةً مُنْفَرِدَةً، كَمَا حَصَلَ لِبَاقِي النَّاس، فَلَمَّا اعْتَمَرَتْ عُمْرَةً مُنْفَرِدَةً، قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ» أَيْ: الَّتِي كُنْتِ تُرِيدِينَ حُصُولَهَا مُنْفَرِدَةً غَيْرَ مُنْدَرِجَةٍ، فَمَنَعَكِ الْحَيْضُ مِنْ ذَلِكَ.
(1)
قال النووي: وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «ارْفُضِي عُمْرَتَكِ» لَيْسَ مَعْنَاهُ إِبْطَالَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَالْخُرُوجَ مِنْهَا؛ فَإِنَّ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِالتَّحَلُّلِ بَعْدَ فَرَاغِهَا.
بَلْ مَعْنَاهُ: ارْفُضِي الْعَمَلَ فِيهَا وَإِتْمَامَ أَفْعَالِهَا، الَّتِي هِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَتَقْصِيرُ شَعْرِ الرَّأْسِ. فَأَمَرَهَا صلى الله عليه وسلم بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَأَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ، فَتَصِيرَ قَارِنَةً، وَتَقِفَ بِعَرَفَاتٍ وَتَفْعَلَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ، فَتُؤَخِّرَهُ حَتَّى تَطْهُرَ. وَكَذَلِكَ فَعَلَتْ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ: «وَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ» . «شرح مسلم» (8/ 139).
وَهَكَذَا يُقَالُ فِي قَوْلِهَا: «يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَرْجِعُ بِحَجٍّ؟!» أَيْ: يَرْجِعُونَ بِحَجٍّ مُنْفَرِدٍ وَعُمْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا وَلَيْسَ لِي عُمْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ. وَإِنَّمَا حَرَصَتْ عَلَى ذَلِكَ لِتُكْثِرَ أَفْعَالَهَا. وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ:(الْقِرَانُ أَفْضَلُ) وَلَيْسَ عُمْرَةَ القِرَانِ.
الوجه الرابع الذي يؤيد أن عائشة حجت مُفرِدة، ثم اعتمرت من التنعيم: أنها قالت: «فَقَضَى اللهُ حَجَّنَا وَعُمْرَتَنَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ» إذ لو كانت قارنة أو متمتعة، لكان عليها هَدْي.
ونوقش بأن هذه الجملة مدرجة من قول عروة، وليست من قول عائشة
(1)
.
واستدلوا بأن عائشة حجت مفردة بقولها: «لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ»
(2)
.
ونوقش بأن المراد بقولها: «لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ» أن مَنْ خرج مُفرِدًا أو متمتعًا أو قارنًا، فإنه يَصدق عليه أنه لبى للحج، أو أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحرموا في أول الأمر بالحج وحده، حتى أَمَر النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ لم يكن معه هَدْي منهم بفسخ حجه في عمرة لما كانوا بمكة.
فالراجح: أن عائشة حجت قارنة، والله أعلم.
المبحث السابع: تَكرار العمرة، أو حُكْم عمرة التنعيم:
اتَّفق العلماء على مشروعية العمرة والإكثار منها، واختلفوا في إطلاق ذلك على قولين:
القول الأول: أنها مُطْلَقة في كل وقت. وهو مذهب الحنفية والشافعية والظاهرية
(3)
.
واستدلوا بعمومات الأدلة التي تُرغِّب في الإكثار من العمرة، ولم تُقيِّد.
قال ابن عبد البر: وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ بِرٍّ وَخَيْرٍ، فَلَا يَجِبُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ أَمْنَعَ مِنْهُ، بَلِ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الْحَجِّ: 77]
(4)
.
(1)
وقد سبق تفصيل ذلك في باب الهَدْي.
(2)
رواه مسلم (1211).
(3)
«بدائع الصنائع» (2/ 227)، و «المُحَلَّى» (7/ 69).
(4)
«الاستذكار» (4/ 113). وقال النووي: وَلَا يُكْرَهُ عُمْرَتَانِ وَثَلَاثٌ وَأَكْثَرُ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا. «المجموع» (7/ 147).
واستدلوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا»
(1)
.
واستدلوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ»
(2)
.
أما الأدلة الخاصة، فإن عائشة اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مرتين، فقال لعبد الرحمن رضي الله عنه:«اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ»
(3)
.
قال ابن حجر: وَبَعْدَ أَنْ فَعَلَتْهُ عَائِشَةُ بِأَمْرِهِ، دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ
(4)
.
ونوقش من وجهين:
الأول: أن هذا الفعل من خصائص عائشة.
وأجيب بطلب الدليل على التخصيص؛ إذ الأصل العموم.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عائشة ابتداء، بل أَذِن لها به بعد مراجعتها إياه. وفَرْق بين الأمر الذي يُفْهَم منه الاستحباب، والإذن الذي يُفْهَم منه مجرد الإباحة.
ونوقش: هل يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في مُحَرَّم؟
أما المأثور، فقد ورد عن عدد من الصحابة والتابعين جواز العمرة من التنعيم.
فَعَنْ بَعْضِ وَلَدِ أَنَسِ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَنَسِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا حَمَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ
(5)
.
وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ هَاشِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ عَنِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ، فَأَمَرَتْنِي بِهَا
(6)
.
(1)
البخاري (1773)، ومسلم (1370).
(2)
حسن: وقد سبق تخريجه.
(3)
البخاري (1560)، ومسلم (1230).
(4)
«فتح الباري» (3/ 606).
(5)
إسناده ضعيف للإبهام الذي فيه، فقال:(عَنْ بَعْضِ وَلَدِ أَنَسِ) أخرجه الشافعي في «مسنده» (778)، وابن أبي شيبة (13159). وأخرجه عبد الرزاق (9872) قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ نَسِيبٍ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يُقَيمُ بِمِكَّةَ، فَكُلَّمَا حَمَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَاعْتَمَرَ.
(6)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9883) وابن أبي شيبة (13474) عن ابن عيينة، عن الوليد، به.
القول الآخَر: أن العمرة مُقيَّدة، واختلفوا في التقييد على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن العمرة مُقيَّدة بسَنة، فيُكْرَه تَكرارها أكثر من مرة في السَّنة. وهذا مذهب مالك، والمُزَني من الشافعية
(1)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور والقياس:
أما السُّنة، فَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ عُمْرَتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَاعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرَ أَوْ أَرْبَعًا، كُلُّ عُمْرَةٍ مِنْهَا فِي سَنَةٍ، فَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا فَعَلَهُ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَا يَنْحَصِرُ فِي أَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ كَانَ يَتْرُكُ الشَّيْءَ وَهُوَ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ. وَقَدْ نَدَبَ إِلَى الْعُمْرَةِ بِلَفْظِهِ، فَثَبَتَ الِاسْتِحْبَابُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ
(2)
.
وأما المأثور، فَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ فِي آخِرِ أَمْرِهَا إِذَا حَجَّتْ، بَقِيَتْ بِمَكَّةَ حَتَّى يُهِلَّ الْمُحْرِمُ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَتُهِلُّ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ، فَكَانَ يَقَعُ حَجُّهَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَعُمْرَتُهَا فِي عَامٍ آخَرَ
(3)
.
ونوقش بأن هذا خلاف المروي من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معها؛ إذ لم يؤخرها حتى إهلال المُحْرِم، بل أَمَر أخاها عبد الرحمن أن يُعْمِرها من التنعيم فور الانتهاء من حجها.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَعَائِشَةُ كَانَتْ قَارِنَةً فِي ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ اعْتَمَرَتْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِعْمَارِهَا بَعْدَ الْحَجِّ، فَكَانَتْ لَهَا عُمْرَتَانِ فِي شَهْرٍ
(4)
.
وأما القياس، فقاسوا العمرة على الحج لاقترانهما في الأمر بقوله:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ولأنهما كليهما عبادة تحتاج إلى طواف وسعي. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سَمَّى العمرة: (الحج الأصغر) وسَمَّى الله الحج ب (الحج الأكبر) بقوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3] وإذا كان الحج الأكبر لا يُشْرَع في العام إلا مرة واحدة، فكذا العمرة.
(1)
«بداية المجتهد» (1/ 326)، و «الشرح الصغير» (2/ 73)، و «الحاوي» (4/ 231).
قال ابن تيمية: فَكَرِهَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ،، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَا كَانُوا يَعْتَمِرُونَ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. «مجموع الفتاوى» (26/ 267).
(2)
«فتح الباري» (3/ 598)، و «نَيْل الأوطار» (4/ 336).
(3)
«التمهيد» (20/ 19).
(4)
«الأم» للشافعي (3/ 332).
واعتُرض عليه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن هذا القياس مع الفارق؛ لأن العمرة تُشْرَع طَوَال العام، بخلاف الحج، فلا يكون إلا مرة في العام، إذا فات الوقوف بعرفة فات الحج.
الثاني: أن عائشة اعتمرت لحجها قارنة، فعمرتها في ذي الحجة، ثم اعتمرت لما سألته العمرة في ذي الحجة، فكانت هذه عمرتين في شهر؛ فكيف يُنْكَر ذلك مع أمره صلى الله عليه وسلم به؟!
الثالث: استُنبط من عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا
…
» وَهَذَا مَعَ إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ؛ إِذْ لَوْ كَانَتِ الْعُمْرَةُ لَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً، لَكَانَتْ كَالْحَجِّ، فَكَانَ يُقَالُ: الْحَجُّ إِلَى الْحَجِّ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: «فِي كُلِّ سَنَةٍ عُمْرَةٌ»
(1)
.
القول الثاني: أن العمرة مُقيَّدة بسفرة، بأن تكون في سفرة مفردة، وكرهوا تَكرارها في سفرة واحدة. وهو اختيار ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، ومحب الدين الطبري
(2)
.
واستدلوا بالسُّنة والمأثور والمعقول:
أما السُّنة، فَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ قَدِ اعْتَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرَ فِي أَرْبَعِ سَفَرَاتٍ، لَمْ يَزِدْ فِي كُلِّ سَفْرَةٍ عَلَى عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ.
وأما المأثور، فَقَالَ طَاوُسٌ: الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ مِنَ التَّنْعِيمِ، مَا أَدْرِي يُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا أَوْ يُعَذَّبُونَ؟ قِيلَ لَهُ: فَلِمَ يُعَذَّبُونَ؟! قَالَ: لِأَنَّهُ يَدَعُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَيَخْرُجُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ وَيَجِيءُ، وَإِلَى أَنْ يَجِيءَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ قَدْ طَافَ مِائَتَيْ طَوَافٍ، وَكَلَّمَا طَافَ بِالْبَيْتِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَمْشِيَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ.
واعتُرض عليه بأن هذا قول تابعي لا حجة فيه، وقد خالفه غيره، وقد سبق.
وأما المعقول فاستدلوا بأنه إذا كان المقصود الأعظم من العمرة هو الطواف بالبيت،
(1)
«مصنف ابن أبي شيبة» (3/ 129).
(2)
«مجموع الفتاوى» (26/ 103)، و «زاد المعاد» (2/ 164).
وأَغْرَبَ ابن تيمية فقال: فَهُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. «مجموع الفتاوى» (26/ 264).
وتابع شيخه ابن مفلح فقال: ويُكْرَه الإكثار والموالاة بينها باتفاق السلف. كما في «الفروع» (6/ 71)، والخلاف ثابت. وقد قال ابن عبد البر: وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.
وذلك ممكن لأهل الحرم بلا خروج منه، ومَن كان متمكنًا من المقصود بلا وسيلة- لم يُؤمَر أن يَترك المقصود ويشتغل بالوسيلة
(1)
.
فَعَنْ قُدَامَةَ بْنِ مُوسَى، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الطَّوَافِ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ أَمِ الْعُمْرَةُ؟ قَالَ:«بَلِ الطَّوَافُ»
(2)
.
القول الثالث: أن العمرة مُقيَّدة بألا يوالي بينها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُنْقَل عنهم الموالاة بينهما، وإنما نُقِل عنهم إنكار ذلك، والحَقّ في اتباعهم. وقَيَّدوا ذلك بعَشَرة أيام، وكرهوا تَكرارها في أقل من ذلك. وهو مذهب الحنابلة
(3)
.
وأما المأثور الذي استدلوا به، فهو ما قاله ابن قُدامة: فَأَمَّا الْإِكْثَارُ مِنَ الِاعْتِمَارِ وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُسْتَحَبُّ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ السَّلَفِ، وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَحْوَالُهُمْ تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ
(4)
.
الراجح: لا بد أن نُفَرِّق بين حالين:
الأول: العمرة من التنعيم مشروعة، وكذا الإكثار منها، لكن تَكرار العمرة في زمن يسير، كتَكرار العمرة في يوم، فهذه الصفة لم تُعْهَد عن السلف، ولأن العمرة إحرام وطواف وسعي وحَلْق، وكيف يتسنى لمن يعتمر في كل يوم أن يؤدي نسك الحلق؟! وبعض الحُجاج يُكرِّر هذه العمرة في أوقات الزحام، فيؤذي إخوانه.
فالأَوْلَى والمستحب ألا يوالي بين عُمَره في زمن يسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُنْقَل عنهم الموالاة بينها بهذه الطريقة، وفِعل الصحابة يُقيِّد الأدلة.
الثاني: أن مَنْ والى بين عُمَره فقد فَعَل خلاف الأَوْلَى؛ لفِعل عائشة وإِذْن النبي صلى الله عليه وسلم لها. وقيل بخلاف الأَوْلَى؛ لقرينة ترك جميع الصحابة غير عائشة ذلك.
(1)
«مجموع الفتاوى» (26/ 261، 262).
(2)
ضعيف لضعف مسلم بن خالد الزنجي، أخرجه الأزرقي «أخبار مكة» (2/ 3).
(3)
«المغني» (5/ 17)، و «الإنصاف» (9/ 284). وقال أحمد: إِذَا اعْتَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَفِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرَّأْسِ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
ونوقش بأن هذا العدد تقدير واجتهاد من عالم، ولا يكون إلا بنص من قرآن أو سُنة.
(4)
«المغني» (5/ 17).
فعلى هذا يَجوز تَكرار العمرة، ولا سيما أهل البلدان البعيدة الذين يحبون أن يعتمروا عن آبائهم. ويُخَص ذلك بمن يَشُق عليهم رجوعهم إلى الحرم؛ قياسًا على فعل عائشة لوجود الحاجة.
ومع القول بمشروعية تَكرار العمرة والإكثار منها، إلا أن الأَوْلَى ترك ذلك مطلقًا في أوقات الزحام والمواسم؛ دفعًا لمفسدة الزحام، ولا سيما وهي عمرة مسنونة، ولأن الذَّهاب إلى التنعيم كل يوم للإتيان بعمرة- لم يُعْهَد عن السلف، وإنما الأفضل الانشغال بالطواف والذِّكر والصلاة
(1)
.
المبحث الثامن: مشروعية العمرة لأهل حَرَم مكة:
واختلفوا في مشروعية خروج أهل حرم مكة إلى الحِل للاعتمار على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى جواز خروج أهل مكة للحِل للاعتمار. وبه قال الحنفية والمالكية، وهو قول للشافعية، ورواية عن أحمد
(2)
.
(1)
وسُئلت اللجنة الدائمة (10/ 355): ما حُكْم مَنْ يأتي بأكثر من عمرة في زمن يسير، وفي كل عمرة يَذهب إلى التنعيم للإحرام منه؟
فأجابت: تَكرار العمرة لمن جاء إلى مكة في زمن يسير- لم يكن من هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فَعَله أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان هو الأفضل لسَبَقوا إليه.
والمشروع لمَن جاء إلى مكة وقضى نسكه: الإكثار من الطواف خاصة، وقراءة القرآن والصلاة والصدقة
…
وغيرها من العبادات.
وإن اعتَمر لنفسه أو لغيره ممن يَجوز الاعتمار عنه، كالميت، والعاجز لكِبَر أو مرض لا يُرجَى برؤه، فلا بأس إذا لم يكن عليه مشقة ولا على الناس، كأوقات الزحام. لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ولِما ثَبَت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أَمَر عائشة رضي الله عنها أن تعتمر من التنعيم بعد حِلها من حجها وعمرتها لَمَّا استأذَنَتْه في ذلك.
(2)
«حاشية ابن عابدين» (2/ 473)، و «الشرح الصغير» (1/ 284)، و «المجموع» (7/ 149).
قال السرخسي: وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ، خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ، مِنْ أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ، وَأَقْرَبُ الْجَوَانِبِ التَّنْعِيمُ. «المبسوط» (4/ 29).
قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الْعُمْرَةُ مِنَ التَّنْعِيمِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ يُحْرِمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَلَكِنِ الْفَضْلُ أَنْ يُهِلَّ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. «الموطأ» (995).
قال الشافعي: وَأَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعْتَمِرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ مِنْهَا، فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ اعْتَمَرَ مِنَ التَّنْعِيمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تَعْتَمِرَ مِنْهَا، وَهِيَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إِلَى الْبَيْتِ. «الأم» (3/ 330).
قال أحمد: اعتَمِر في كل شهر مرارًا إن قدرت. «مسائل أحمد، رواية ابن هانئ» (ص: 173).
وقد قال الشوكاني: وَالِاعْتِمَارُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ لِمَنْ شَاءَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ. «نَيْل الأوطار» (4/ 365).
فعَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ
(1)
.
وروى عبد الرزاق، عن ابن جُرَيجٍ، في قصة بناء ابن الزبير الكعبة، وفيه: فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي أَرَى أَنْ تَعْتَمِرُوا مِنَ التَّنْعِيمِ مُشَاةً
(2)
.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ فِي عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ: هِيَ تَامَّةٌ تُجْزِئُهُ
(3)
.
القول الآخَر: أن خروج أهل مكة إلى الحِل للاعتمار بدعة. وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم ومحب الدين الطبري.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر وهو بمكة قَطُّ، بل جميع عُمَره كان يكون فيها قادمًا إلى مكة، لا خارجًا منها إلى الحِل. وكذا أصحابه الذين كانوا معه، فدل ذلك على عدم مشروعية خروج أهل الحَرَم إلى الحِل للاعتمار
(4)
.
ونوقش بأن إِذْن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بالخروج إلى التنعيم بعمرة- كافٍ في جواز ذلك.
والراجح: أن المكي لو خرج من مكة مسافرًا، فلو عاد ومر بميقات فله أن يعتمر، ولا مانع من الخروج إلى الحِل للاعتمار لفعل عائشة، والله أعلم.
?
•1•
(1)
إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1061) عن هشام، به.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9147).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9879) قال: أَخْبَرَنَا الثوري، عن ابن جُريج، به.
(4)
«مجموع الفتاوى» (26/ 252)، و «زاد المعاد» (2/ 175)، و «القِرَى لقاصد أُم القُرَى» (ص: 332).