المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ملخص البحث الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن والاه، - جنى الخرفة في إبطال القول بالصرفة - جـ ٦٠

[عرفة بن طنطاوي]

فهرس الكتاب

‌ملخص البحث

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن والاه، وبعد

فهذا بحث لطيف مختصر، سعي فيه الباحث في حدود قدرة البشر للذب عن حياض الدين، والدفاع عن القرآن الكريم- كلام رب العالمين، ووحيه المبين-، المعجز بلفظه وأسلوبه، الذي تحدَّى به اللهُ الإنسَ والجنَّ أن يأتوا بمثله فعجزوا مجتمعين، وقد وسمه بـ "جَنَى الخُرْفَةِ فِيِ إبْطَالِ القَولِ بِالصَّرْفَةِ"

(1)

.

وقد تناول فيه الباحث دراسة "القول بالصَّرْفة" الذي انطلقت الشرارة الأولى بالقول بها من المدرسة العقلانية الأولى-المعتزلة، والذين استقوا فكرتها من الفلسفة الهندية التي دعا لها "براهما" في كتاب:"الفيدا".

وقد عقد الباحثُ بحثَهُ في فصلين اثنين:

أما الفصل الأول:

فقد تعرَّض فيه الباحثُ لبيان مفهومِ الصَّرْفة في اللغة والاصطلاح ليجلِّي للقارئ معناها ويبين له فحوها.

ثم عرَّج الباحثُ بعدها على بيان المعنى العام المقصود بالصَّرْفة- إجمالًا وتفصيلًا- عند القائلين بها، فضمَّن بذلك إيضاح المقصود العام للصَّرْفة من جهتين:

من جهة: -المعنى اللغوي والاصطلاحي-، ومن جهة: مقصد القائلين بالصَّرْفة وماذا يعنون بها، حتى تتضحَ الصورة ويتجلَّى معناها لدى القارئ الكريم.

وأما الفصل الثاني:

فقد تعرَّض فيه الباحثُ لعرض القولِ بالصَّرْفةِ ومناقشته- وتفنيده، فبين فيه المصدر الأول لفكرة القولِ بالصَّرْفة، ثم عرَّج على وفودها ومصدر تلقِّيها والترويج لها، ثم صدَّر ما يراه وزيَّله بأقوال العلماء الذين أثبتوا تلقي "النَّظام" لفكرة القول بالصَّرْفة.

ولقد قدَّم الباحثُ تعريفًا موجزًا عرَّف فيه بـ"المعتزلة" ونشأتها وعقيدتها ومنهجها وأبرز فرقها ورؤوسهم، ثم تناول بيان أبرز أقوال القائلين بالصَّرْفة، سواء كانوا من المعتزلة أو من غيرهم، فبين وجلَّى أمرَ أول من قال بالصَّرْفَةِ من المعتزلة- ألا وهو "النظّام"-، ثم ذكر من تابعه على هذا القول من أفراخ المعتزلة، ثم بيَّن بعد ذلك من قال بالصَّرْفة من الأشاعرة وغيرهم، ثم أفرد مبحثًا خاصة بالقائلين بالصَّرْفَةِ من الشيعة الإمامية، ثم ختم هذا المبحث الهام بخلاصة القول بالصَّرْفَةِ.

ثم ختم الباحث هذا الفصل بردِّ شُبهةِ القولِ بالصَّرْفَةِ وبيان دلائل بطلانها بالحجج الواضحات الدمغات، مقرونة بالأدلة الشَّرعية

(1)

- ولا بد هنا من تعريف موجز لكلمتي: (جَنَى)، و (خُرْفَة).

وبعد.

أولًا: تعريف كلمة: (جَنَى)

أ - جَنَى: (فعل): جَنَى ثِمَارَ مَا غَرَسَ: قَطَفَهُ، غَنَمَهُ، وجَنَى لَهُ الثَّمَرَةَ: نَاوَلَهُ إِيَّاهَا.

ب- جَنى: (اسم) الجمع: أَجْنَاءُ، أَجْنٍ، مصدر جَنَى: مَا يُجْنَى مِنَ الثَّمَرِ أَوِ العِنَبِ أَوِ العَسَلِ وَغَيْرِهِ وَاحِدَتُهُ جَنَاةٌ، يُقَالُ: أَتَانَا بِجِنَاةٍ طَيِّبَةٍ، والجَنَى: كلّ ما يُجْنى أو يقطف من الشجر، يُنظر: تعريف ومعنى جنى في معجم المعاني الجامع.

ثانيًا: تعريف كلمة: (الخُرْفَة)

الخُرْفَة: ما يُجْتَنى من الفَوَاكه في الخريف، وخرَفَ يَخرُف، خَرْفًا وخِرافًا، فهو خارِف، والمفعول مَخْروف وخرِيف. يُنظر: تعريف ومعنى خرفة في معجم المعاني الجامع.

وفي الحديث الصحيح عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: (جَنَاهَا). رواه الإمام مسلم: (2568). والمعنى أن عائد المريض لا يزال يَجنِي مِنْ خرفة الجنة وثمارِها مُدَّةَ بقائه عند المريض، فهو في خرفة الجنة وفي روضتها يلتقط من ثمارها ومُجتنَاهَا.

ص: 83

النقلية، ومصحوبة بالبراهين العقلية المرعية، وزيَّل ذلك بأقوال العلماء الذين فنَّدوها وردُّوها بالحجة والبيان وواضح وساطع البرهان، ثم ختم بحثه بأهم النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسة المختصرة.

ص: 84

‌دِيْباجةُ البحث

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)(الكهف: 1).

فبهر إعجازُهُ الذاتي عقولَ أولي الألباب والنُّهى، وسلب ببلاغته فهومَ أولي الفهم والأبصار فعلموا أن إعجازه ليس له منتهى، لأنه (تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: من آية: 42). وذلك لِما حوته آياته من إعجاز وفصاحة وبيان، فهدى الله برحمته به من اصطفاه من عباده وفضله، وأضل عنه أهلَ الشقاء بقسطه وعدله، فأقر أهلُ الإيمان بإعجازه الظاهر للعيان، وصرف اللهُ أهلَ الشقاء عن الإقرار بإعجازه، وقد قالوا بإمكان العرب أن يأتوا بمثله لولا أنْ صرفهم عن ذلك الملك الديان، فأخرسهم الله بقوله:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء: 88). فكانت تلك الآية من الحجج الدامغة وساطع البرهان.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملك ولا معقب له في أمره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

‌خطة البحث

وقد ضمَّن الباحث بحثه خطة بحث مكونة من فصلين، وكل فصل مكون من عدة مباحث، ويندرج تحت كل مبحث عدة مطالب، وقد بيَّن فيه ما يلي:

أولًا: أهمية موضوع البحث

ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها

ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث

رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه

خامسًا: منهجية البحث

سادسًا: خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة.

سابعًا: مجموع الفهارس:

وخطة البحث مكونة من فصلين على النحو التالي:

الفصل الأول

بيان مفهوم الصَّرْفة

وفيه مبحثان

المبحث الأول: مفهوم الصَّرْفة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: مفهوم الصَّرْفة في اللغة

المطلب الثاني: مفهوم الصَّرْفة في الاصطلاح

المبحث الثاني: بيان المعنى العام المقصود بالصَّرْفة- إجمالًا وتفصيلًا-

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: بيان معاني الصَّرْفة إجمالًا

المطلب الثاني: مقاصد للقائلين بالصَّرْفة تفصيلًا

الفصل الثاني القول بالصَّرْفة

(عرض- ومناقشة- وتفنيد)

وفيه ثلاثة مباحث

مصدر القول بالصَّرْفة المبحث الأول:

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: المصدر الأول لفكرة القول بالصَّرْفة

ص: 85

المطلب الثاني: وفود القول بالصَّرْفة، ومصدر تلقيها والترويج لها

المطلب الثالث: أقوال العلماء في إثبات تلقي النَّظام لفكرة القول بالصَّرْفة

المبحث الثاني: أبرز أقوال القائلين بالصَّرْفة من المعتزلة وغيرهم

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: أول من قال بالصَّرْفَةِ من المعتزلة

المطلب الثاني: القائلون بالصَّرْفَةِ من المعتزلة غير النظّام

المطلب الثالث: القائلون بالصَّرْفَةِ من غير المعتزلة، من الأشاعرة وغيرهم.

المطلب الرابع: القائلون بالصَّرْفَةِ من الشيعة الإمامية

المطلب الخامس: خلاصة القول بالصَّرْفَةِ

المبحث الثالث: ردُّ شُبهةِ القولِ بالصَّرْفَةِ وبيان بطلانها

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الرد على القائلين بالصَّرْفَةِ وبيان دلائل بطلانها

المطلب الثاني: أقوال العلماء في رد القول بالصَّرْفَةِ وبيان بطلانها

المطلب الثالث: أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة.

‌منهجية البحث

‌أولًا: أهمية موضوع البحث،

ونختصره في النقاط التالية:

1 -

إنما تكمن أهمية هذا البحث في شرف متعلقه، ألا وهو " القرآن الكريم، وذلك لأن شرف العلم من شرف المعلوم.

2 -

وإنما ترجع أهمية بحث "القول بالصَّرْفة " لتعلقه بقضية عقدية عند أهل السنة والجماعة، ألا وهي قضية إعجاز القرآن المبنية على قضية وقوع التحدي بالقرآن.

3 -

وقوع خلاف قديم في نشأة القول بالصَّرْفة ومصدرها الرئيس، ما بين الفلسفة الهندية عند" براهما" والمأخوذة من كتاب "الفيدا"، وما بين "النظّام" من المعتزلة.

4 -

وقوع خلاف واسع في قبول "القول بالصَّرْفة " ورفضه، مما يحتاج لمثل هذه الدراسة والفصل فيها بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة على رفضه ورده وبيان بطلانه.

5 -

وقوع خلاف وتردد عند القائلين بالصَّرْفة أنفسهم، فمنهم القائل بأن الصرفة كانت بسلب قدرة العرب على الإتيان بمثل القرآن، ومنهم القائل بأن الله سلبهم العلوم التي يمكنهم الإتيان بمثلها، ومنهم القائل بأن الله صرفهم عن الإتيان بمثلها وسلب إرادتهم فلم يخطر لهم ببال أن يأتوا بمثله.

‌ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها

لقد صنف أهل العلم قديمًا وحديثًا في مبحث" القول بالصَّرْفة "، وهم في ذلك ما بين مؤيد، ومعارض، ومن هذه المصنفات ما أُفْرِد له بالتصنيف، ومنها ما هو

ص: 86

موجود في ثنايا بعض تلك الكتب، وإن كثيرًا من المتأخرين من يعزوا لتلك المصنفات التي قال مصنفوها بـ "القول بالصَّرْفة "، ولاسيما فيما له تعلقه بموضوع الصَّرْفة ككتب الإعجاز، وما كُتِب كذلك في علم البلاغة لتعلقه بنفس الموضوع.

ومن أبرز ما صُنِفَ في ذلك في حدود بحثنا الضيق ما يلي:

‌أ- دراسات الرافضة:

1 -

كتاب: "أوائل المقالات" للشيخ المفيد، وهو أبوعبد الله، محمد بن محمد بن النعمان، البغدادي العكبري، رئيس المذهب الشيعي الإمامي في وقته:(ت: 338 هـ).

2 -

كتاب: "الموضح من جهة إعجاز القرآن"، لعلي بن الحسين المعروف بالشريف المرتضى (على بن الحسين بن موسى بن محمد) (ت: 355 هـ) نقله عنه الطوسي (نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن)(ت: 385: هـ)، وقد صرح بذلك السبحاني في "الإلهيات".

3 -

شرح كتاب: "جمل العلم والعمل" للطوسي: نصر الدين محمد بن محمد بن الحسن (ت: 385 هـ)، وأصل الكتاب للشريف المرتضى، والشرح للطوسي، ولكن المرتضى تراجع عن القول بالصرفة صراحة في كتاب (الاقتصاد).

4 -

كتاب: "سر الفصاحة"، لابن سنان الخفاجي (ت: 466 هـ) عبد الله بن محمد بن سعيد الخفاجي الشاعر الأديب الشيعي في كتابه الشهير، وكتابه يُعد من الكتب المعدودة في البلاغة، وقد ألفه على طريقة الأدباء.

5 -

حقيقة القول بالصَّرْفة في الإعجاز القرآني، محمد هادي معرفة (من معاصري الرافضة)، وهو محمد هادي بن علي بن الميرزا محمد علي معرفة (1930 م- كربلاء-2006 م- قم)، مؤسّسة النّشر الإسلامي، التّابعة لجماعة المدرّسين بقم، ط 6، 1428 هـ.

‌ب- دراسات عامة لعموم الباحثين المعاصرين

1 -

الصَّرْفة دلالتها لدى القائلين بها وردود المعارضين لها د. سامي عطا الجيتاوي- منشور عن دنيا الوطن، بتاريخ: 17/ 5/ 2008 م.

2 -

القول بالصَّرْفة في إعجاز القرآن الكريم، إبراهيم بن منصور التركي، بحث منشور على الشبكة بصيغة:(بي دي إف)(د. ت) ..

3 -

المتهمون بالصَّرْفة (دراسة تحليلية نقدية) محسن الخالدي، قسم أصول الدين، كلية الشريعة، جامعة النجاح الوطنية،، نابلس، فلسطين.، 22/ 3/ 2010 م.

4 -

الصَّرْفة "معانيها والقائلون بها: دراسة استقرائية نقدية"، د. عبد الله بن سالم بن حمد الهنائي، قسم العلوم الإسلامية - كلية التربية - جامعة السلطان قابوس - سلطنة

ص: 87

عمان، 2019 م.

5 -

القول بالصَّرْفة في إعجاز القرآن-عرض ونقد- د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري، ط 2، 1432 هـ، دار ابن الجوزي-الدمام- المملكة العربية السعودية.

6 -

الصَّرْفة ونشأتها بين مؤيد ومعارض، محمد فقهاء، كتاب الألوكة: 1436 هـ-2015 م. عدد الأجزاء 1. (د. ت).

‌ج- مصنفات تضمنت وتناولت مبحث القول بالصَّرْفة

1 -

المعجزة الكبرى-القرآن- أبو زهرة، محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى: 1394 هـ) - دار الفكر العربي بالقاهرة، عدد الأجزاء 1. (د. ت)

2 -

إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، طبع المقتطف سنة 1928 م

3 -

إعجاز القرآن بين المعتزلة والاشاعرة، منير سلطان، الناشر: منشأة المعارف - الإسكندرية، الطبعة: الثالثة/ 1986 م، سلسلة، كتب الدراسات القرآنية. عدد الأجزاء 1.

4 -

الإعجاز البياني: د. محمد محمد أبو موسى، ط 2. مكتبة وهبة: 1418 هـ.

5 -

فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر مع نقد وتعليق، نعيم الحمصي: نسخة بصيغة: (بي دي إف)(د. ت).

‌ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث

إن التخبط في موضوع "القول بالصَّرْفة" وردّ القول بأن إعجاز القرآن ليس بإعجاز ذاتي، إنما هو إعجاز خارجي ناشئ عن "الصَّرْفة"، هو السبب الرئيس في اختيار موضوع البحث ومدارسته ومناقشته.

ويتركز ذلك الاختيار لسببين رئيسين:

السبب الأول: الانتصار لكتاب الله تعالى والذب عن حياضه.

السبب الثاني: معرفة كنه وحقيقة "القول بالصَّرْفة" ومصدرها وردها بالحجة والبرهان، وبيان دلائل الكتاب والسنة وكلام أئمة أهل السنة على الإعجاز الذاتي للقرآن.

‌رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه

إن تسرب فكرة "القول بالصرفة" عن طريق الفلسفة الهندية القديمة واستقاء تلك الفكرة من كتاب الفيدا، وتسلل تلك الفكرة للمدرسة العقلانية الأولى "المعتزلة" ثم نشرها بين المسلمين وحدوث رواج كبير لها فتلقفتها عقول أهل الإعجاب بكل جديد، من هنا نشأ الخلاف بين العلماء قديمًا وحديثًا حول قبول "القول بالصَّرْفة" أو ردِّها، ومن هنا كان لزامًا من عرض تلك الفكرة وبيان نشأتها وأسباب انتشارها ورواجها، وعرض أقول العلماء القائلين بها والرادِّين لها ومناقشتها وبيان حجج كل فريق، والرد

ص: 88

عليها بالأدلة النقلية والعقلية وما يمليه العقل والنظر الصحيح المبني على أصول الشريعة وعموم الأدلة الشرعية، ثم ختم البحث بالقول الصحيح، ألا وهو رد "القول بالصَّرْفة".

‌خامسًا: منهجية البحث

1 -

إن الإحاطة بكل ما دونه القائلون بالصرفة والرادِّين لها أمر يصعب جمع شمله وقد بعثر في مصنفات شتى، بل هو شبيه بالمحال، لذا فقد سُلِط الضوء هنا على أبرز تلك المصنفات وعلى أشهر أقوال العلماء فيها.

2 -

ولقد عرف الباحث الصَّرْفة وبين مصدرها وزيل ذلك بأقوال العلماء قديمًا وحديثًا.

3 -

عرض الباحث لأشهر الأقوال الواردة في "الصَّرْفة" وعزاها لقائليها في مصادرها الأصلية - في الأغلب والأعم-، ثم قام بمناقشتها ومدارستها -عرضًا، ونقدًا، وتحليلًا، وترجيحًا.

ولذا فإن الباحث قد سلك مناهج عدة في تناول بحثه منها أبينها ما يلي:

‌أ- المنهج الاستقرائي

وذلك باستقراء ما سطره أئمة البلاغة وما دونوه عن إعجاز القرن الكريم، وتتبع أقوال القائلين بـ "القول بالصَّرْفة" في مظانها، ثم عقد مقارنة بين أقوال أئمة أهل السنة النافين لـ"القول بالصَّرْفة"، وبين أقوال المعتزلة ومن سلك سبيلهم من الرافضة، وبعض الأشاعرة ومن نحى نحوهم في الانتصار للـ "القول بالصَّرْفة".

‌ب- المنهج النقدي

فبعد عرض الباحث لأقوال القائلين بـ "القول بالصَّرْفة"، نقدها وفندها بواضح الأدلة وساطع البراهين.

‌ج- المنهج التحليلي

فقد قام الباحث بتحليل تلك الأقوال ومناقشتها ورد الأمور إلى نصابها بالردود المقنعة والأجوبة المسكتة.

4 -

انتصر الباحث للقول الحق في موضوع البحث ألا وهو رد "القول بالصَّرْفة".

وبطلانه

سادسًا: خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة.

سابعًا: مجموع الفهارس: ولأن البحث مختصر، فقد ختم الباحث بحثه بمجموع فهارس مختصر- كذلك- وقد احتوى على ما يلي:

أ- فهرس أهم المراجع والمصادر

ب- فهرس الموضوعات

‌تمهيد في وقفة مع مناقشة القول بالصَّرْفة

نقول: إن البشر عجزوا ما استطاعوا أن يعارضوا هذا القرآن، ولكن هذا العجز ليس كما يقول المعتزلة إن الله صرفهم عن معارضته، وهذه عقيدة مشهورة قال بها المعتزلة يقال لها الصَّرْفة، يقولون إن الله عز وجل صرف الناس عن معارضة القرآن فعجزوا، صرف هممهم ودواعيهم فما استطاعوا، لأنه سبحانه صرفهم فزعموا أن الإعجاز إنما هو أن الله صرفهم لا أن القرآن معجز بنفسه.

ولهذا قد اشتغل علماء

ص: 89

السنة منذ أن ظهرت هذه البدعة وهذه العقيدة الفاسدة الباطلة بالرد عليها، لأن عقيدة الصَّرْفة عقيدة باطلة ونحن نقول كما قال أهل السنة القرآن لفظًا ومعنى هو دليل الإعجاز وهو دليل التحدي.

فالقول بهذه العقيدة عقيدة الصَّرْفة يعني أن القرآن في ذاته ليس فيه فضيلة في الامتياز ليس فيه فضيلة في التفوق، ولا شك أن هذا باطل بنصوص القرآن، لأن الله عز وجل أخبر في نصوص كثيرة من القرآن أنه تحدى العرب أن يأتوا بمثله ثم بإجماع الأمة على أن الإعجاز ذاتيٌ في القرآن غير منفك عنه بإجماعهم، لا كما تقول المعتزلة أن الإعجاز إنما هو في بالصَّرْفة، أي أن الله صرفهم فعجزوا، لا أن القرآن معجز بنفسه، إنما جعلوا الإعجاز في قدرة الله، فرجعت إلى صفة القدرة، التي هي أن الله بقدرته صرفهم فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، وهذا من أبطل الباطل ترده النصوص الكثيرة.

(1)

ولقد سلك العلماء في بيان وجوه إعجاز القرآن مسالك عديدة، واتجهوا في البحث عنها وجهات مختلفة، وقرر جمهورهم أن القرآن الكريم معجز بذاته، لا لسبب خارج عنه، بينما قرر القائلون الصَّرْفة أن الاعجاز أمر خارج عن ذات القرآن، فكان هذا البحث لبيان مضمون القول الصَّرْفة، ودلالتها، وحجج القائلين بها وردود المعارضين لها.

(2)

ولا شك في أن القول بالصَّرْفة قولٌ باطلٌ وفاسدٌ ويرد هذا القول الفاسد التحدي الوارد في غير ما موضع من كتاب الله ولاسيما قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)) (الإسراء: 88).

يقول الطبري:

" يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ قَالُوا لَكَ: إِنَّا نَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، لَا يَأْتُونَ أَبَدًا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَوْنًا وَظَهْرًا. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبَبِ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ جَادَلُوهُ فِي الْقُرْآنِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ غَيْرِهِ شَاهِدَةٍ لَهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ بِهِمْ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ".

(3)

ولاشك في دلالة الآية على أن عجزهم قائم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا تلك القدرة لم يبق هناك أي فائدة لاجتماعهم.

‌الفصل الأول بيان مفهوم الصَّرْفة

وفيه مبحثان

وقبل مناقشة القول بالصَّرْفة لابد من بيان وإيضاح مسائل ومباحث هامة من أبينها ما يلي:

‌المبحث الأول: مفهوم الصَّرْفة

وفيه مطلبان:

‌المطلب الأول: مفهوم الصَّرْفة في اللغة

فمن المناسب بمكان بيان معنى ومفهوم الصَّرْفة في اللغة ودلالتها.

الصَّرْفة لغة: على وزن فَعلَة، بفتح الفاء واللام وسكون العين- رد الشيء عن

(1)

- يُنظر: موقع ميرا ث الأنبياء، عرفات بن حسن المحمدي، بتاريخ: 15/ 9/ 2016 م. بتصرف.

(2)

- إعجاز القرآن الكريم بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: 15/ 6/ 2006 م.

(3)

- تفسير الطبري: (15/ 75)

ص: 90

وجهه، يقال: صَرَفَهُ يَصْرِفهُ، صَرفًا، فانصرف، وصارف نفسه عن الشيء: صرفها عنه، قال تعالى:(وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)(التوبة: 127)

فقوله: - (ثم انصرفوا

) أي: رجعوا عن المكان الذي استمعوا منه، وقيل: - انصرفوا عن العمل بشيء مما سمعوا، وقوله تعالى: - (صرف الله قلوبهم .. ) أي: - أضلهم الله مجازاة على فعلهم، وصرفت الرجل عني فانصرف).

(1)

أي: صرف الله عن الخير والتوفيق والإيمان بالله ورسوله قلوبَ هؤلاء المنافقين

(2)

.

ويأتي الصرف بمعاني أخرى كالتوبة والتطوع والقيمة والعدل والمثل والميل والنافلة

(3)

.

فـ" أصلُ الصرفةِ من الفعلِ صرفَ، والصرفُ لغة هو ردُّ الشيءِ عن وجهِه".

(4)

ويقول الخليل بن أحمد الفراهيدي:

"الصَّرْفُ فَضْلُ الدَّرْهَم في القيمة وجَوْدةُ الفِضَّة وبيع الذَّهَبِ بالفضَّةِ ومنه الصَّيْرَفِيُّ لتَصريفه أحدهما بالآخَر".

(5)

.

وقال الراغب الأصفهاني:

" الصَّرْفُ: ردّ الشيء من حالة إلى حالة، أو إبداله بغيره، يقال: صَرَفْتُهُ فَانْصَرَفَ. قال تعالى: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ)[آل عمران: 152]، وقال تعالى:(أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ)(هود: 8)، وقوله:(ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)(التوبة: 127)، فيجوز أن يكون دعاء عليهم، وأن يكون ذلك إشارة إلى ما فعله بهم، وقوله تعالى:(فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا)(الفرقان: 19)، أي: لا يقدرون أن يَصْرِفُوا عن أنفسهم العذاب، أو أن يصرفوا أنفسهم عن النّار. وقيل: أن يصرفوا الأمر من حالة إلى حالة في التّغيير، ومنه قول العرب:(لا يُقبل منه صَرْفٌ ولا عدل)، وقوله:(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِ)[الأحقاف: 29]، أي: أقبلنا بهم إليك وإلى الاستماع منك، والتَّصْرِيفُ كالصّرف إلّا في التّكثير، وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حالة إلى حالة، ومن أمر إلى أمر. وتَصْرِيفُ الرّياح هو صرفها من حال إلى حال.

(6)

.

ويقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة:

" صرف الصاد والراء والفاء معظم بابه يدل على رجع الشيء، من ذلك صرفت القوم صرفًا وانصرفوا اذا رجعتهم فرجعوا".

(7)

وقيل إن الصَّرْفة:

"هي كوكب نير، وسمي هذا الكوكب بالصرفة لانصراف الحر عند طلوعه مع الفجر من المشرق وانصراف البرد إذا غرب مع الشمس، ويقال الصرفة ناب الدهر لأنها تفتر عن فصل الزمانين".

(8)

.

قال ابن قتيبة الدينوري: (ت: 276 هـ)

"وسميت الصَّرْفَة لانصراف البرد و إقبال الحر

(9)

وقد جعلها العرب في أسجاعهم، كقولهم: إذا طلعت الصَّرْفة بكرت الخُرْفة وكثرت الطُّرْفة وهانت للضيف الكُلْفَة

(10)

وكقولهم أيضًا إذا طَلِعَت الصَّرْفَة احتَالَ كلُّ ذي حِرْفَة وقيل اخْتَالَ كلُّ ذِي خُرْفَة وجَفَرَ كلُّ ذي نُظْفَة وامْتِيزَ عن المياه زُلْفَة

(11)

.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ:

الصَّرْفَةُ نابُ الدَّهْرِ لأَنها تفْتَرُّ عَنِ الْبَرْدِ أَوْ عَنِ

(1)

- لسان العرب - مادة صرف - لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري (ت: 711 هـ) - دار صادر - بيروت 1955 م.

(2)

- يُنظر: تفسير الطبري: (12/ 94).

(3)

- لسان العرب - مادة صرف مرجع سابق: مادة (صرف).

(4)

- المرجع السابق: مادة (صرف).

(5)

- الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، دار ومكتبة الهلال، (بدون ذكر الطبعة وسنة النشر)، ت: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، (ج 7/ ص 109).

(6)

- الأصفهاني، الحسين بن محمد المعروف بالراغب (ت: 502 هـ)، المفردات، دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، (ط: الأولى - 1412 هـ)، ت: صفوان عدنان الداودي، (ج 1/ ص 482).

(7)

- معجم مقاييس اللغة: (3/ 342).

(8)

- القلقشندي، أحمد بن علي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، نشر: دار الفكر - دمشق،

(الطبعة الأولى، 1987 م) تحقيق: د. يوسف علي طويل (ج 2، ص 177).

(9)

- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدينوري، أدب الكتّاب، (ج 1، ص 20).

(10)

- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، (الطبعة الأولى، 1998) تحقيق: فؤاد علي منصور، (ج 2، ص 446).

(11)

- ابن سيده، علي بن إسماعيل، المخصص، دار إحياء التراث العربي - بيروت - 1417 هـ 1996 م، الطبعة: الأولى، تحقيق: خليل إبراهم جفال، (ج 2، ص 369).

ص: 91

الحَرّ فِي الْحَالَتَيْنِ؛ قَالَ ابْنُ كُناسةَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لانْصراف الْبَرْدِ وَإِقْبَالِ الْحَرِّ، وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لانْصراف الحرِّ وَإِقْبَالِ الْبَرْدِ. والصَّرْفةُ: خرَزةٌ من الخرَز التي تُذْكر فِي الأُخَذِ

(1)

، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ

(2)

: يُسْتَعْطَفُ بِهَا الرِّجَالُ يُصْرَفون بِهَا عَنْ مَذاهِبهم وَوُجُوهِهِمْ.

والخلاصة مما جاء أنفًا من معاني يعود إلى معنى التبدل والتحول وانتقال شيء إلى شيء، أو من حال إلى حال.

(3)

.

‌المطلب الثاني: مفهوم الصَّرْفة في الاصطلاح

وبعد بيان مفهوم الصرفة في اللغة وبيان مدلولاتها، فمن المناسب كذلك بيان معناها في الاصطلاح ليكتمل معناها ويتضح فحواها ومبناها.

والصَّرْفة في الاصطلاح تعني: -

1 -

أن الله صرف همم العرب عن معارضة القرآن، وسلب عقولهم عنها، وكانت في مقدورهم، لكن عاقهم عنها أمر خارجي، فصار معجزة كسائر المعجزات، ولو لم يصرفهم عن ذلك لجاءوا بمثله.)

(4)

2 -

وقيل تعني: صرف الهمم عن المعارضة

(5)

.

3 -

وقيل تعني: صرف اللهِ هممَ العرب عن معارضة القرآن

(6)

.

وهي كلها بمعنى واحد ألا وهو أن الصَّرْفة تعني:

أن معارضة العرب للقرآن كانت ممكنة وهي بمقدورهم، غير إن الله تعالى صرف همم عنها بقدرته.

ولا شك أن القول بالصَّرْفة كلام فاسد وباطل كما أسلفنا، ويلزم منه أن القرآن الكريم ليس بمعجز في حد ذاته، وسيأتي معنا بيان ذلك في محل بحثه بشيء من زيادة التفصيل والإيضاح والبيان.

‌المبحث الثاني: بيان المعنى العام المقصود بالصَّرْفة - إجمالًا وتفصيلًا

-

وفيه مطلبان:

‌المطلب الأول: بيان معاني الصَّرْفة إجمالًا

والصَّرْفة لها عند أصحابها معنيان:

المعنى الأول: أنَّ الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتِهم عليها فكانَ هذا الصرفُ خارِقًا للعادة.

المعنى الثاني: أن الله سلبهم العلوم التي يحتاجُ إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن".

(7)

وفي نحو ذلك يقول ابن سنان الخفاجي الشيعي: (ت: 466 هـ)

" إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن: صرف العرب عن معارضته، بأن

سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة، وقت مرامهم ذلك".

(8)

وبشيء من الإيضاح والبيان نبين المقصود بالصَّرْفة والتي تدور مادتها حول

(1)

- ابن منظور، لسان العرب، (ج 9، ص 189).

(2)

- ابن سيده، المخصص، (ج 1، ص 375).

(3)

- يُنظر: الصرفة ونشأتها بين مؤيد ومعارض لمحمد فقهاء، بحث عن موقع الألوكة:(ص: 10).

(4)

البرهان في علوم القرآن - لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت: 794) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - الطبعة الأولى - دار إحياء الكتب العربية، مصر 51376 - 1957 م، ج 2/ ص 93

، ويُنظر: الاتقان في علوم القرآن - لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 للهجرة) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - دار التراث بالقاهرة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ-1985 م .... ج 2/ ص 118.

(5)

- الرماني، علي بن عيسى، النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ود. محمد زغلول سلام، دار المعارف، ط 4، القاهرة (ص 110).

(6)

- الخطابي، حمد بن محمد أبو سليمان، بيان إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ود. محمد زغلول سلام، دار المعارف، ط 4، القاهرة (ص 23).

(7)

- مباحث في علوم القرآن: مناع القطان (ت: 1420 هـ)، " ص: 261)، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة: الطبعة الثالثة 1421 هـ- 2000 م عدد الأجزاء: 1.

(8)

- سر الفصاحة: (ص: 100).

ص: 92

إثبات التحدي بالقرآن بالحيلولة بينه وبين العرب في أن يأتوا بمثله.

وفي بيان معنى هذا الوجه من بالصَّرْفة يقول الرّماني:

"أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات الّتي دلّت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز الّتي يظهر منها للعقول

".

(1)

‌المطلب الثاني: مقاصد للقائلين بالصَّرْفة تفصيلًا

وقد اختلف القائلون بالصَّرْفة في بيان حقيقة ما يقصدونه بها، فقالوا: إن الله سبحانه لأجل اثبات التحدي، حال بين فصحاء العرب وبلغائهم، وبين الإتيان بمثل القرآن بأحد الأمور الثلاثة التالية:

المقصد الأول: صرف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة، فكلما هموا بها وجدوا في أنفسهم صارفًا ودافعًا يصرفهم عن منازلته في حلبة المعارضة، ولم يكن ذلك لعدم قدرتهم عن الانصداع لهذا الأمر، بل إن المقتضى فيهم كان تامًا، غير أن الدواعي والهمم صارت مصروفة عن الالتفات لهذا الأمر، بصرف الله قلوبهم عنه، ولولا ذلك لأتوا بمثله.

المقصد الثاني: إن الله سبحانه سلبهم العلوم التي كانت العرب مالكة لها ومتجهزة بها، وكانت كافية للإتيان بما يشاكل القرآن، ولولا هذا السلب لأتوا بمثله ..

وممن تبنى هذا القول الشريف المرتضى الشيعي الرافضي (ت: 463 هـ)

وهو المتهم بوضع كتاب (نهج البلاغة) المنسوب لأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث يقول:

" اللهَ تعالى سلبهُمُ العلومَ التي يُحتاجُ إليها في مُعارضَةِ القرآنِ والإتيانِ بمثلِهِ".

(2)

وقد تابع الشريف المرتضي على هذا القول ابنُ سنان الخفاجي: (ت: 466 هـ)

وقد مر معنا آنفًا قوله في الصَّرْفة.

المقصد الثالث: إنهم كانوا قادرين على المعارضة، ومجهزين بالعلوم اللازمة لها، ولكن الله منعهم بالإلجاء على جهة القسر من المعارضة، مع كونهم قادرين، فتقهقروا في حلبة المعارضة، لغلبة القوة الإلهية على قواهم.

(3)

وسنبين أن الصَّرْفة بكل صورها غير مقبولة، لأنها تسلب الاعجاز الذاتي للقرآن، وأنها وِهمُ ذهب إليه خيال القائلين بها دون سند أو دليل.

وفي نحو ما سبق يجمل القرطبي القول فيقول رحمه الله:

" إن بعض أصحاب الصَّرْفة زعموا أن العرب صرفوا عن القدرة على القرآن ولو تعرضوا له لعجزوا عنه،

(1)

النكت في إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: (ص: 110).

(2)

-المعجزة الكبرى القرآن: ص 79.

(3)

- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز - ليحيى بن حمزة الحسيني اليمني الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (المتوفى: 745 هـ) - طبع في مصر في ثلاثة أجزاء، طبعة المتقطف عام 1333 للهجرة. ج 3/ ص 291. ويُنظر: إعجاز القرآن - للأستاذ علي العماري - سلسلة الثقافة الإسلامية - عدد 44، حزيران 1963 م، القاهرة. وانظر البيان في إعجاز القرآن - للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي - دار عمار - عمان - ص 82 - 83.

ص: 93

وأن البعض الآخر زعموا أن العرب صرفوا عن التعرض للقرآن مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه، بمعنى أنهم لم يأتوا بمثله سابقًا، غير أنه لا يخرج عن حدود قدرتهم لولا أنه حيل بينهم وبين ممارسة ذلك الاقتدار".

(1)

‌الفصل الثاني القول بالصَّرْفة (عرض- ومناقشة- وتفنيد)

وفيه ثلاثة مباحث

‌المبحث الأول: مصدر القول بالصَّرْفة

وفيه ثلاثة مطالب:

‌المطلب الأول: المصدر الأول لفكرة القول بالصَّرْفة

لقد أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا على أن القرآن معجز بذاته، وأن إعجازه بذاته لا بسبب خارج عنه، وقد بذلوا مهجهم في بيان أوجه إعجازه.

ومن ذهب إلى القول بالصَّرْفة أراد بذلك أن " إعجاز القرآن أمرًا خارجًا عنه ".

ويعزى القول بالصَّرْفة عند الباحثين الى أنه من التيارات التي وفدت علينا من الخارج

وأن بعض فلاسفة المسلمين، وقفوا على أقوال البراهمة في كتابهم - الفيدا -

(2)

،

(3)

وهو يشتمل على مجموعة من الأشعار والآداب ليس في كلام الناس ما يماثلها - في زعمهم -، ويقول جمهور علمائهم: - إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله

، لأن - براهما-

(4)

صرفهم عن أن يأتوا بمثلها ........

وقد لاقى هذا الرأي انتقاضًا من أحد الباحثين. محتجًا بأن البراهمة لم يقولوا مثل أشعار الفيدا احترامًا لها، وليس بمقتضى التكوين، ثم إن كلام البراهمة في الفيدا كان محل سخرية العقل الإسلامي، فلا مستنصر لهذا الرأي.

(5)

وكل هذا لا ينكر وجود التأثر، فالتأثر برأي لا يوجب نقله كاملًا، كما أن السخرية بالبراهما قد تؤدي إلى تنزيل الصرف على القرآن، وإن كان من وجه مختلف لأنه الكتاب المعجز حقًا.

(6)

وفي نحو ذلك يقول أبو الريحان البيروني (ت: 430 هـ) في كتابه - ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة - ما نصه:

" إن خاصتهم يقولون إن في مقدورهم أن يأتوا بأمثالها، ولكنهم ممنوعون عن ذلك احترامًا لها، ولم يبين - البيروني وجه المنع، أهو منع تكليفي يسبقه الإيمان بهذه الكتب، وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواح أخرى .. ؟ أم هو منع تكويني .. بمعنى: أن -براهما- صرفهم بمقتضى التكوين عن أن يأتوا بمثلها

؟ وهذا الأخير هو الظاهر، لأنه هو الذي يتفق مع قول جمهور علمائهم، وما اشتهروا به من أن القول بالصرفة نبع في واديهم

‌المطلب الثاني: وفود القول بالصَّرْفة، ومصدر تلقيها والترويج لها

ولقد وفدت إلينا هذه الفكرة عندما ترجمت الفلسفة الهندية في عهد - أبي جعفر المنصور (وهو الخليقة الثاني من خلفاء بني العباس ت: 156 هـ)، فتلقف الذين يحبون

(1)

- الجامع لأحكام القرآن: (1/ 76).

(2)

-المعجزة الكبرى القرآن لمحمد أبو زهرة ص 76.

(3)

- والفيدا: كتاب يشمل أربعة كتب مقدسة للهندوس، وقد كتب باللغة السنسكريتية - يُنظر كتاب: مشكلة الألوهية د. محمد غلاب - ص 97. ويُنظر: موسوعة المورد: للبعلبكي - ج 10/ ص 82.

(4)

- براهما: من آلهة الهندوس، وهو عندهم مرادف للمطلق الأعلى أو (الأتمان) - يُنظر: المرجع السابق ص 98

(5)

- يُنظر: الإعجاز البياني: د. محمد أبو موسى ص 358. ط 2. مكتبة وهبة: 1418 هـ.

(6)

- عن مدونة: نورة الشريف: بتاريخ: 13/ 6/ 2008 م.

ص: 94

كل وافد من الأفكار، ويركنون إلى الاستغراب في أقوالهم، هذه الفكرة الغريبة الوافدة، واعتنقوا هذا القول وطبقوه على القرآن، وإن كان لا ينطبق، فقال قائلهم: إن العرب اذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن، ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه، ومعانيه، ونسجه ونظمه، بل كان لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله

"

(1)

فلا غرابة في انتقال قول - البراهمة - في كتابهم المقدس - الفيدا - إلى بعض المسلمين، عن طريق الذين يتلقفون كل وافد من الأفكار، وهي ليست أول وآخر فكرة انتقلت من الفكر البراهمي إلينا، يعرف ذلك كل من وقف على حقيقة ذلك الفكر.

إن رواج فكرة - الصَّرْفة - يؤدي الى أن القرآن الكريم ليس في درجة من الفصاحة والبلاغة تمنع محاكاته، وتعجز القدر البشرية عن أن تأتي بمثله، فالإعجاز القرآني عند القائلين - بالصَّرْفة - ليس من صفات القرآن الذاتية، وبالتالي ما دامت بلاغة القرآن لا تزيد على بلاغة سائر الناس، فمؤدى كلامهم: أن يكون القرآن من جنس

كلام البشر

(2)

وحول كيفية انتقال القول بالصرفة إلى رحاب المسلمين يوضح ويجلي ذلك

الرافعي حيث يقول رحمه الله:

(3)

"لما نجَمَت آراء المعتزلة بعد أن أقبل جماعة من شياطينها على دراسة كتب الفلسفة مما وقع إليهم عن اليونان وغيرهم نبغت لهم شؤون أخرى من الكلام، فمزجوا بين تلك الفلسفة على كونها نظرًا صرفًا، وبين الدين على كونه يقينًا محضًا

فذهب شيطانُ المتكلمين أبو إسحاق إبراهيم النَّظام

(4)

إلى أن الإعجاز كان بالصَّرْفة، وهي أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها فكان هذا الصرف خارقًا للمادة

(5)

.

وقد تكلم عدد من الباحثين حول قضية نشأة القول بالصرفة وذكروا أقوالًا مفادها أنه

لا علاقة بالبراهمة بهذا القول، ولا يوجد أحد من القدامى أشار أو نبه على ذلك الأمر.

ومما ذكر في ذلك قول أحد الباحثين:

" .... ويبدو الرأي الثاني - أي أن هذا القول من بيئة العرب قولًا خالصًا لا من غيرهم - في نظري هو الأقرب للصواب، نظرًا لعدم ورود أي إشارة من العلماء القدامى الذين تحدّثوا عن هذه القضية تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى كون الفكرة مستقاة من البراهمة أو من غيرهم ".

(6)

.

‌المطلب الثالث: أقوال العلماء في إثبات تلقي النَّظام لفكرة القول بالصرفة

ويبدوا أن أصحاب هذا الرأي لم يقفوا على ما ذكره بعض المتقدمين، ونسوق بعض أقوالهم ليتبين ويتضح بالبرهان الساطع منشأ القول بالصَّرْفة ومصدر تلقيه الأول كان من البراهمة، وأن أصحاب هذا الرأي قد أصابوا الحق فيه ومن هذه الأقوال

(1)

يُنظر: المعجزة الكبرى - القرآن: لمحمد أبي زهرة - ص 69 - 71، طبع دار الفكر العربي بالقاهرة - (د- ت).

(2)

- إعجاز القرآن الكريم بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: 15/ 6/ 2006 م. بتصرف.

(3)

- مصطفى صادق الرافعي (1298 - 1356 هـ = 1881 - 1937 م)، مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعى:

عالم بالأدب، شاعر، من كبار الكتاب. أصله من طرابلس الشام، ومولده في بهتيم (بمنزل والد أمه) ووفاته في طنطا (بمصر) أصيب بصمم فكان يكتب له ما يراد مخاطبته به. شعره نقي الديباجة، على جفاف في أكثره. ونثره من الطراز الأول. له عدد من الدواوين الشعرية و الأدبية، وغيرها من المصنفات.

يُنظر: المنتخب من أدب العرب 1: 55 ومحمود بسيوني، في مجلة الرابطة العربية 18 ربيع الأول 1357 والمقتطف 73: 352 وتراجم علماء طرابلس 211 في آخر ترجمة عمه عبد الحميد بن سعيد الرافعي ومعجم المطبوعات 926 والفهرس الخاص - خ وتعليقات عبيد.

مع تصرف واختصار يسير من الباحث.

(4)

- إبراهيم بن سيّار بن هانئ البصري أبو إسحاق النظّام، من أئمة المعتزلة، ذكروا أن له كتبًا كثيرة في الفلسفة والاعتزال، وقال عنه الجاحظ: في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن كان ذلك صحيحًا فأبي إسحاق من أولئك. (ت: 231 هـ). الأعلام: (1/ 43)، فوات الوفيات:(1/ 23).، وقيل:(ت: 224 هـ).

(5)

- الرافعي، مصطفى صادق بن عبد الرزاق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثامنة - 1425 هـ - 2005 م، (ص 101).

(6)

- التركي، إبراهيم بن منصور، القول بالصرفة في إعجاز القرآن الكريم، بحث منشور على الشبكة بصيغة: بي دي إف، (ص: 7).

ص: 95

1 -

قول أبي منصور البغدادي التميمي (ت: 1037 هـ) حيث يقول رحمه الله عن النَّظام: "وأعجب - أي النَّظام - بقول البراهمة بإبطال النبوات ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفًا من السيف فأنكر إعجاز القران في نظمه وأنكر ما روى في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم".

(1)

.

2 -

قول أبي المظفر الإسفراييني

(2)

حيث يقول رحمه الله عن النَّظام:

"كَانَ يصحب ملحدة الفلاسفة

(3)

وقال عنه أيضًا: وَمن فضائحه - النَّظام - قَوْله فِي الْقُرْآن أَنه لَا معْجزَة فِي نظمه وَكَانَ يُنكر سَائِر المعجزات مثل انشقاق الْقَمَر وَأَنْ كَانَ قد نطق بِهِ الْقُرْآن

(4)

فِي قَوْله {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر} (القمر: 1) وَكَذَلِكَ كَانَ يُنكر تَسْبِيح الْحَصَى فِي يَده ونبوع المَاء من بَين أَصَابِعه وَكَانَ فِي الْبَاطِن يمِيل إِلَى مَذْهَب البراهمة الَّذين يُنكرُونَ جَمِيع الْأَنْبِيَاء فَتكلم بِهَذَيْنِ المذهبين اللَّذين يبطل أَحدهمَا حدث الْعَالم وَالْآخر يبطل ثُبُوت النُّبُوَّة وَكَانَ لَا يقدر على إِظْهَار مَا كَانَ يضمره من الْإِلْحَاد

(5)

.

3 -

قول عضد الدين الإيجي

(6)

حيث يقول رحمه الله عن النَّظام:

"

النَّظام وهو من شياطين القدرية طالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة

(7)

وتابع عنه وعن أتباعه بتأثرهم في الفلاسفة وأنه مال في بعض المسائل إلى قول الطبيعيين، إلى أن قال: وقالوا نظم القرآن ليس بمعجز إنما المعجز إخباره بالغيب من الأمور السالفة والآتية، وصرف الله العرب عن الاهتمام بمعارضته حتى لو خلاهم لأمكنهم الإتيان بمثله بل بأفصح منه

(8)

.

"وبعد هذه النقول يتبين لنا أصل موضوع الصَّرْفة، ومن ثم يتبين لنا كذلك أول من قال بها ممن ينتسب للمسلمين وروجها، فمصدرها البراهمة وأخذها النَّظام، والقدماء نسبوها له بشكل مستفيض، وعلى زعم أن النَّظام لم يقل بهذا لم يرد ولو نص واحد ينسب للنَّظام لا له ولا لتلامذته ولا لمخالفيه يقول بعكس ما نسب إليه من القول بالصَّرْفة، فلو وجد لسطر كما سطرت أقواله الأخرى، وكما ينقل عن الكثير من الأئمة أقوالهم، ولو كانت متعددة حتى ولو في المسألة الواحدة، فهناك الكثير من أراء ومسائل لعلماء نقلت إلينا آرائهم في المسألة الواحدة ربما أكثر من خمسة أراء، فإذا لم يوجد يبقى الرأي المنسوب إليه منصوب على قدميه، حتى يأتينا ما يخالفه أو يناقضه، أو ما يرده، وإلى ذلك الوقت سيبقى ما نسب إليه منسوب".

(9)

‌المبحث الثاني: أبرز أقوال القائلين بالصرفة من المعتزلة وغيرهم

وفيه خمسة مطالب:

وبين يدي هذا المبحث الهام جدير بنا أن نعرف بالمعتزلة ومنهجهم في

(1)

- البغدادي، عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي أبو منصور، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، دار الآفاق الجديدة - بيروت الطبعة الثانية، 1977،

(2)

- شَاهْفُوْرُ أَبُو المُظَفَّرِ طَاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ، العَلاَّمَةُ، المُفْتِي، أَبُو المُظَفَّرِ طَاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الإِسفرَايينِيّ، ثُمَّ الطُّوْسِيُّ، الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ (التَّفْسِيْر الكَبِيْر).

كَانَ أَحَدُ الأَعْلَامِ. حَدَّثَ عَنِ: ابْنِ مَحمِش، وَأَصْحَاب الأَصَمّ. رَوَى عَنْهُ: زَاهِرٌ الشَّحَّامِيّ، وَغَيْرهُ.

صَاهر الأُسْتَاذ أَبَا مَنْصُوْرٍ البَغْدَادِيّ. تُوُفِّيَ: بطُوسَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة. سير أعلام النبلاء (18/ 401).

(3)

- الإسفراييني، طاهر بن محمد أبو المظفر، ت 471 هـ، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، المحقق: كمال يوسف الحوت، عالم الكتب - لبنان، الطبعة: الأولى، 1403 هـ - 1983 م، (ص 71).

(4)

- عبارة "نطق بِهِ الْقُرْآن" وما في نحوها لا تليق بالقرآن أبدًا، لأن الذي ينطق ويتكلم هو المخلوق، والقرآن الذي هو كلام الله "منزل غير محلوق". الباحث.

(5)

- التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، ص 74

(6)

عَضُد الدين الإِيجي: ( ..... 765 هـ- ..... -1355 م)

عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو الفضل، عَضُد الدين الإيجي: عالم بالأصول والمعاني والعربية. من أهل إيج (بفارس) ولي القضاء، وأنجب تلاميذ عظامًا. وجرت له محنة مع صاحب كرمان، فحبسه بالقلعة، فمات مسجونًا.

يُنظر: بغية الوعاة 296، ومفتاح السعادة 1: 169، والدرر الكامنة 2: 322 وطبقات السبكي 6:، والكتب خانة 4: 145 ثم 7: 160، ومعجم المطبوعات 1331

(7)

- الإيجي، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد، المواقف، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى، 1997، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، (ج 3، ص 661).

(8)

- السابق، ص 663

(9)

- يُنظر: الصرفة ونشأتها بين مؤيد ومعارض لمحمد فقهاء، بحث عن موقع الألوكة:(ص: 20).

ص: 96

خطوات مختصرة جدًا على النحو التالي:

‌أولًا: التعريف بالمعتزلة

المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.

(1)

‌ثانيًا: منهجها

"وهي فرقة عقلانية كلامية فلسفية، تتكون من طوائف من أهل الكلام، الذين خلطوا بين الشرعيات والفلسفة والعقليات في كثير من مسائل العقيدة، وقد خرجت المعتزلة

عن السنة والجماعة في مصادر التلقي ومناهج الاستدلال ومنهج تقرير العقيدة وفي أصول الاعتقاد".

(2)

‌ثالثًا: نشأتها

الواقع أن نشأة الاعتزال كانت ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية، وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية؛ فقبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي، على أن هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية؛ فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي

(3)

. وقيل أيضًا: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية

(4)

قد أدت إلى تشكيكه في دينه، وابتداعه لنفي الصفات، كما أن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تُعدُّ موردًا من موارد الفكر الاعتزالي؛ إذ إنه كان يقول بالأصلح، ونفي الصفات

(5)

الأزلية وحرية الإرادة الإنسانية

(6)

.

‌رابعًا: بروزها

وقد برزت المعتزلة بعد ذلك كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الذي كان تلميذًا للحسن البصري، وذلك عندما دخل رجل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفِّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركنًا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا؟ فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء

(7)

: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقًا ولا كافر مطلقًا، بل هو في

(1)

- الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، المؤلف: د. مانع بن حماد الجهني (ت: 1423 هـ)،، الناشر: دار الندوة للنشر; عدد المجلدات: 2. (ص: 69).، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية:(ص: 73).

(2)

- ناصر العقل: الجهمية والمعتزلة ص 127.

(3)

- شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى: (5/ 20)

(4)

-السمنية: بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات. يُنظر: شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى: (5/ 22).

(5)

نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ابن عبد البر قوله: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يَحُدُّون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبِّه وهم -عند من أقر بها- نافون للمعبود، والحق فيها ما قال القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة. يُنظر: شيخ الإسلام ابن تيمية، مجموع الفتاوى (3/ 264. (

(6)

- يُنظر: الندوة العالمية للشباب الإسلامي: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة: (ص: 64) وما بعدها.

(7)

- واصل بن عطاء الغزَّال، البصري المتكلم، كبير المعتزلة، ولد سنة (80 هـ) ومات سنة (131 هـ)، كان تلميذًا للحسن البصري فحصل خلاف بينه وبين شيخه الحسن البصري، فطرده من مجلسه.

ص: 97

منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه معتزلة

(1)

. ولأجل هذا سمَّاهم المسلمون معتزلة لاعتزالهم قول الأمة بأسرها

(2)

.

وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون: إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن؛ لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من الله تعالى، ولمعرفته بأن ما جاء من عند الله حق، ولكنه فاسق بكبيرته، وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام، وعلى هذا القول مضى سلف الأمة من الصحابة وأعلام التابعين.

(3)

‌خامسًا: انتشارها

ولقد "انتشرت حركة الاعتزال في أنحاء الممالك الإسلامية واستقطبت شخصيات بارزة، أمثال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، وإبراهيم النَّظام وغيرهم، وقد كان لهذه الشخصيات تأثير بعيد المدى في مختلف ميادين الحياة العقلية، فنظرية المعرفة عندهم كانت تستند على العقل، كونهم أطلقوا العنان للعقل في البحث في جميع المسائل من غير أن يحده أي حد، وجعلوا له الحق في أن يبحث في السماء، وفي الأرض، وفي ذات الله تعالى، وفي الإنسان، وفيما دق وجل. "

(4)

‌سادسًا: انقسامها

لقد انقسمت المعتزلة إلى فرق شتى، تسمى كل منها باسم زعيمها، ومن أبرز تلك الفرق:

أ- الواصلية: (أصحاب واصل بن عطاء المخزومي- مولاهم-)(ت: 131 هـ)

ب- النَّظامية: (أصحاب إبراهيم بن سيار النَّظام). (ت: 185 هـ)

ج- الجاحظية: (أصحاب الجاحظ) أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري (ت: 255 هـ)

‌سابعًا: أصوله مذهبها

ورغم عن هذا الانقسام، إلا أن ثمة أصول خمسة ظلت تجمع فرق المعتزلة ألا وهي: التوحيد، العدل، الوعد، الوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي نحو ذلك يقول الخياط أحد كبرائهم في كتابه "الانتصار":

" ليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كملت في الإنسان هذه الخصال الخمس، فهو معتزلي".

(5)

‌ثامنًا: أبرز أسباب توسع أفكارها عن الأصول الخمسة

إن المعتزلة كغيرها من الفرق بدأت بأفكار ومعتقدات مختصرة ومحدودة ومحصورة في أصولهم الخمسة التي

(1)

- الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 61، 62.

(2)

-البغدادي: الفرق بين الفرق: (ص 105).

(3)

-المرجع السابق نفسه: (ص 108).

(4)

- ضحى الإسلام - أحمد أمين: (3/ 86). بتصرف.

والكاتب "أحمد أمين" -هذا- أحد رؤوس العصرانيين " العقلانيين " في عصرنا، ممن عظموا العقل حتى ردوا به أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم، وانتصروا للمعتزلة ضد أهل السنة - وطالع ما يقول عنه ولده جلال في مذكراته:(ص 303 - 304) يتبين لك أمر الرجل.

(5)

- الانتصار: (ص: 126).

ص: 98

ذكرها الحياط آنفًا. ولكن تعمقهم وتوسعهم في بحثها والتنقيب عن شرح معانيها، فتفرع عن بحثهم وتنقيبهم هذا مسائل فرعية عدة منبثقة عن تلك الأصول الخمسة وعن غيرها أيضًا، وكان ذلك لأسباب عدة لعل من أبرزها.

أ- أنهم يتقيدوا بنصوص وحيي التنزيل "الكتاب والسنة"، واعتمدوا على العقل وبالغوا في ذلك حتى قدموه على النقل، مما كان له أعظم وأبلغ الأثر في وقوع الخلاف والاحتدام فيما بينهم البعض.

ب- أنهم انفتحوا على مطالعة ومدارسة كتب الفلسفة اليونانية، فقد استمدوا أفكارها منها ومزجوها وخلطوها بالعقيدة الإسلام الصحيحة المنبثقة من الوحي المنزل، فتشعبت بهم الأهواء بسبب سوء المصدر الفلسفي اليوناني وعدم لزومهم وتقيدهم بنصوص الكتاب والسنة، فنتج عن ذلك اختلاف في الآراء، وزاد بينهم الجدل العقيم، واشتد بينهم الحوار والتنازع والانقسام إلى فرق شتى أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين فرقة، وأصبح لكل فرقة منها رؤساؤها وآراؤها وأفكارها الخاصة بها.

وهذا أمر لا غرابة فيه، فالسنة تجمع والبدعة تفرق، فأهل الحق سُمُوا بـ "أهل السنة والجماعة" بسبب لزومهم السنة واجتماعهم عليها، وأهل الباطل سُمُوا بـ " أهل البدعة والاختلاف" بسبب تفرقهم وتنازعهم.

نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام والسنة والجماعة حتى نلقاه سبحانه، وحتى نرد حوض المعصوم صلى الله عليه وسلم ونشرب منه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا يوم يقول لأهل البدع سحقًا سحقًا، فقد ثبت في الصحيحين من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الساعدي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي".

(1)

.

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (ت: 790 هـ)

"ولقوله: (قد بدلوا بعدك)، ولو كان الكفر: لقال: " قد كفروا بعدك"

، وأقرب ما يحمل عليه: تبديل السنة، وهو واقع على أهل البدع

ومن قال: إنه النفاق: فذلك غير خارج عن مقصودنا؛ لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقيةً، لا تعبدًا، فوضعوها غير مواضعها، وهو عين الابتداع

ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنَّة والعمل بها حيلةً وذريعةً إلى نيل حطام الدنيا، لا على التعبد بها لله تعالى؛ لأنه تبديل لها، وإخراج لها عن وضعها الشرعي".

(2)

قال النووي رحمه الله معلقًا على الحديث: (ت: 676 هـ)

"هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال: ..... والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم

(1)

- رواه البخاري: (6212)، ومسلم:(2290).

(2)

- الاعتصام: (1/ 96).

ص: 99

عن الإسلام".

(1)

قال القرطبي رحمه الله: (ت: 671 هـ)

"قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكلُّ مَنْ ارتد عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله: فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طردًا: مَنْ خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدِّلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور، والظلم، وتطميس الحق، وقتل أهله، وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر، المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ، والأهواء والبدع".

(2)

‌المطلب الأول: أول من قال بالصَّرْفَةِ من المعتزلة

كان إبراهيم النَّظام الذي هو أحد رؤوس هؤلاء المعتزلة، هو أول من قال بالصَّرْفَةِ منهم وفي ذلك يقول عنه محمد أبو زهرة:

"فهو أول من جاهر به، وأعلنه ودعا إليه، ولاحى عنه، كأنه مسألة من مسائل علم الكلام، ونقول إنه أول من جهر به، ولا نقول إنه أول من فكر فيه، أو أول من ابتدأ القول به، لأن الأفكار لا يعرف ابتداؤها وهي تتكون في خلاياها، بل لا تعرف إلا بعد أن تظهر، ويجاهر بها.

جاهر بها، وكان ذا فصح وبيان وحجة وبرهان، وإن لم يكن مستقيم الفكر، بل إنه يظن الظن فيحسبه يقينًا، ثم يبني عليه ويقايس، ويصحح القياس والتنظير بين الأشياء، بينما الأصل ذاته يحتاج إلى قياس صحيح".

(3)

.

يقول عنه تلميذهُ الجاحظ: (ت: 255 هـ)

"وَإنما كان عيبُهُ الذي لا يفارقه سوءَ ظنِّهِ وجَودة قياسِهِ عَلَى العارض والخاطر،

كان يظنُّ ثمَّ يقيس عليه وينسى أنَّ بدءَ أمرِه كان ظَنًّا فإذا أتقنَ ذلك وأيقنَ جَزَم عليهِ".

(4)

"ولم يكن رد الجاحظ على شيخه رد المجادل المحاور، ولكنه كان بالعمل، فقد كان أول من كتب في إعجاز القرآن من الناحية البيانية؛ ليكون الرد على الصرفة ببيان الإعجاز الذاتي".

(5)

وليتجلى الأمر بصورة أوضح

فقد "كان النَّظام - ابراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري من الموالي، وإليه تنتسب الفرقة النظامية

(6)

-أول من اقترن اسم الصَّرْفَةِ باسمه، واشتهر أنه أول المنادين بها، وقيل له - النَّظام - لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، تتلمذ على خاله أبي الهذيل العلاف في الاعتزال، ثم انفرد عنه وكون مذهبًا خاصًا به، مات في ريعان شبابه (سنة 231 للهجرة) عن ست وثلاثين عامًا، وكان أستاذ - الجاحظ -

(7)

، ترجم له أبو منصور البغدادي - في كتابه - الفرق بين الفرق - عند ذكره الفرقة النظامية فقال: - (عاشر النَّظام في شبابه قومًا من الثنوية

(8)

وقومًا من السمنية

(9)

القائلين بتكافؤ الأدلة، وخالط قومًا من ملاحدة الفلاسفة، ثم

(1)

-شرح النووي على مسلم: (3/ 136، 137).

(2)

- التذكرة في أحوال الموتى والدار الآخرة: (ص 352)

(3)

- يُنظر: أبو زهرة، المعجزة الكبرى للقرآن، ص: 59، الشاملة الحديثة.

(4)

- الحيوان للجاحظ: (2/ 229 - 230 (.

(5)

- يُنظر: أبو زهرة، المعجزة الكبرى للقرآن، (ص: 59)، الشاملة الحديثة.

(6)

-النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار بن هانئ النظّام طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة. يُنظر: الملل والنحل-الشهرستاني: (1/ 61).

(7)

-المعتزلة - زهدي حسن جار الله - منشورات النادي العربي في يافا - 1947 م - ص 120 - 129.

(8)

-الثنوية: قوم يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، يُنظر: الملل والنحل: للشهرستاني: الإمام أبي الفتح بعد الكريم (ت: 584 هـ) ج 1/ ص 80 بهامش الفصل. دار صادر - بيروت.

(9)

- السمنية: فرقة هندية قالت بقدم العالم وبتناسخ الأرواح -يُنظر: الفرق بين الفرق - للبغدادي الفصل الثاني عشر ص 270.

ص: 100

دون مذاهب الثنوية، وبدع الفلاسفة، وشبه الملاحدة في دين الإسلام، وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفًا من السيف، فأنكر إعجاز القرآن في نظمه، وأنكر ما روي في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر، وتسبيح الحصى في يده، ونبع الماء من بين أصابعه، ليتوصل بإنكار معجزات نبينا عليه السلام الى إنكار نبوته، ثم أنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها، ولم يجسر على إظهار رفعها، فأبطل الطرق الدالة عليها، فأنكر لأجل ذلك حجية الإجماع، وحجية القياس في الفروع الشرعية، وأنكر الحجة من الأخبار التي توجب العلم الضروري ثم إنه ذكر الصحابة بما يقرؤها غدًا في صحيفة مخازيه، وطعن في فتاوى أعلام الصحابة رضي الله عنهم ثم قال: - والفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه - أي النَّظام -: أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته، ليست بمعجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا دالة على صدقه في دعواه النبوة، وإنما وجه الدلالة منه على صدقه، ما فيه من الإخبار بالغيوب، فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته، فان العباد قادرون على مثله، وعلى ما هو أحسن منه في النظم والتأليف"

(1)

.

وقد تبنت الفرقة - النَّظامية - بالإضافة الى ما تقدم من مخالفات لجماعة المسلمين، آراء شاذة في العقائد منها: أن الله لا يقدر أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح فيه، ولا أن يزيد وينقص من عقاب وثواب، والتواتر يحتمل الكذب، وأوجبوا النص على الإمام، وثبوت الإمامة لعلي رضي الله عنه -لكن عمر- رضي الله عنه كتمه

(2)

.

وقال الشهرستاني في الملل والنحل: (ت: 548 هـ)

"والنظَّامية: أصحاب ابراهيم بن سيار بن هانئ النظَّام.، وإبراهيم النظَّام قد طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، وانفرد عن أصحابه بمسائل منها: قوله في إعجاز القرآن أنه من حيث إخباره عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب من الاهتمام به جبرًا وتعجيزًا، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله، بلاغة، وفصاحة، ونظمًا .... "

(3)

ففي رأي - النَّظام - إذن: أن الله قد صرف أوهام العرب عن معارضة القرآن، فانصرفوا عن ذلك، وتعذرت عليهم المعارضة، لا لأن القرآن في حد ذاته خارج عن طوق البشر، أو خارقًا لمقدرتهم، ومألوف عادتهم، فهو في ذلك لا يتفوق على البليغ الفصيح من كلام العرب، ولا تكاد تكون له مزية أو فضل في ذلك، ولو ترك لهم المجال، وأفسح أمامهم الطريق، لأتوا بمثل القرآن فصاحة، وبلاغة، وحسن نظم، وتأليف ....

(4)

نعوذ بالله من الخذلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

‌المطلب الثاني: القائلون بالصرفة من المعتزلة غير "النظّام "

ليس القول بالصرفة مقصورًا على النظّام كما يظنه البعض بل لقد سلك هذا الطريق أقوام كُثُر سواء من المعتزلة أو من غيرهم كذلك.

وإن كان النظّام أبرز من قال بالصرفة من المعتزلة، فقد تابعه عليه كذلك أقوام وكان من أبرز هؤلاء كل من:

(1)

- الفرق بين الفرق: لعبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت 429 هـ) ص 128 - 150، تحقيق - لجنة إحياء التراث العربي - بيروت - 1987 م.

(2)

- مباحث في إعجاز القرآن - د. مصطفى مسلم، الطبعة الثانية - دار المسلم بالرياض - سنة 1996 م، نقلا عن لوامع الأنوار لمحمد بن أحمد السفاريني - ج 1/ ص 78.

(3)

-الملل والنحل - للشهرستاني: ج 1/ ص 67 بهامش الفصل.

(4)

- إعجاز القرآن الكريم (مرجع سابق) بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: 15/ 6/ 2006 م. بتصرف.

ص: 101

1 -

عيسى بن صبح المكنى بأبي موسى المُزدار (ت: 226 هـ): كان معروفًا بالناسك وقد تلمذ لبشر بن المعتمر وأخذ العلم عنه وتزهد ويسمى راهب المعتزلة.

(1)

، وقد تلمذ له أيضًا الجعفران،

والجعفران هما:

أ- جعفر بن حرب الثقفي المعتزلي العابد أبو الفضل: (ت: 234 هـ) من نساك القوم وله تصانيف.

ب- وجعفر بن مبشر الهمداني المعتزلي البغدادي أبو محمد: (ت: 236 هـ) الفقيه البليغ كان مع بدعته يوصف بزهد وتأله وعفة.

وكان الجعفران سيدا معتزلة بغداد في عصرهما، ومضربا المثل في العلم والعمل عندهم.

كما تلمذ له أيضًا أبو زفر وهو من مصنفي المعتزلة، ومحمد بن سويد المعتزلي.

وصحبه (أبو جعفر) محمد بن عبد الله الإسكافي وعيسى بن الهيثم وجعفر بن حرب الأشج. وحكى الكعبي عن الجعفرين أنهما قالا: إن الله تعالى خلق القرآن

(2)

في اللوح المحفوظ ولا يجوز أن ينقل إذ يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة وما نقرؤه فهو حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ وذلك فعلنا وخلقنا.

(3)

.

وقد تولى المُزدار رئاسة المعتزلة ببغداد

(4)

.

وقال في القرآن: إن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ونظمًا وبلاغة،

وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن وكفر من قال بقدمه.

(5)

وهو الذي نُسِبَ إليه القول بأن: (الناس قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وبما هو أفصح منه).

(6)

2 -

عباد بن سليمان الصخري: معتزلي من أهل البصرة من تلامذة هشام بن عمرو القوطي.

(7)

3 -

القاضي هشام بن عمرو القوطي: بصري، عدّه القاضي في نهاية الطبقة السادسة من المعتزلة كان يحظى باحترام المأمون.

(8)

4 -

أبو إسحاق النصيبي: من الطبقة الحادية عشرة من المعتزلة وكان يشك في النبوات كلّها.

(9)

5 -

"الجاحظ" أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري المعتزلي

(10)

.

ولقد فنَّد (الجاحظُ) دعوى أستاذه (النظّام) في كتابٍ مفقودٍ سماهُ "الاحتجاج لنظم القرآن".

قال في مقدمته:

"فلم أدع فيه مسألةً لرافضي ولا لحديثي، ولا لحشوي ولا لكافر مباد، ولا لمنافق

مقموع، ولا لأصحاب النظّام، ولمن نجم بعد النظّام ممن يزعم أن القرآن حق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل، وليس ببرهان ولا دلالة".

(11)

ورجّح (الرافعي) أن الجاحظ تابع طائفته المعتزلة في القول بالصَّرْفة، وإن

(1)

الملل والنحل للشهرستاني: (1/ 68). بتصرف يسير.

(2)

- وذلك لأن المعتزلة يقولون بخلق القرآن، وأما أهل السنة فيقولون بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. الباحث.

(3)

- المرجع السابق: (1/ 69).

(4)

-طبقات المعتزلة ص 70 الفرق بين الفرق ص 154 د، عمر السلامي؛ الإعجاز الفني في القرآن ص 52 ـ 65

(5)

-الملل والنحل للشهرستاني: (1/ 68).

(6)

- الفرق بين الفرق - ص 154.

(7)

- ابن النديم؛ الفهرست 269 ــ 280

(8)

- طبقات المعتزلة 69

(9)

- أبو حيان التوحيدي الإمتاع والمؤانسة: (1/ 141).

(10)

- العلامة المتبحر، ذو الفنون، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري المعتزلي، صاحب التصانيف. أخذ عن النظام. وروى عن: أبي يوسف القاضي، وثمامة بن أشرس. قال ثعلب: ما هو بثقة. قلت: كان ماجنًا قليل الدين، له نوادر مات سنة خمسين ومائتين. وقال الصولي: مات سنة خمس وخمسين ومائتين. . سير أعلام النبلاء: (11/ 527). بتصرف.

(11)

- نقلاً عن الإعجاز البياني: (ص: 360).

ص: 102

كان له رأيٌ في أن القرآن في الدرجة العليا من الفصاحة. يقول عنه: "لم يسلم

من القول بالصَّرْفة، وإن كان قد أخفاها وأومأ إليها من عُرض". واستدل بقوله في كتاب "الحيوان":"ومثل ذلك ما رفع من أوهام العَرب وصرف نفوسهم عن المعارَضَة للقرآن بَعْدَ أنْ تحدَّاهم الرَّسولُ بنظْمه".

(1)

وقال العلامة محمود محمد شاكر:

"إن الجاحظ يقول بالصَّرْفة مثل شيخه (النظّام)، وأنه هو الذي أظهر هذا القول وأشاعه، لكنه أضاف إليها الإعجاز بالنظم. ولما رأى الجاحظ التناقض بين قوليه كاد أن يتراجع".

(2)

.

وقد نفى أحد الباحثين المعاصرين عن الجاحظ هذا الانتساب لمذهب الصرفة بتفريقه بين مراد الجاحظ ومراد شيخه.

(3)

والحقيقة: لقد وقع الجاحظ في التناقض والاضطراب لقوله بالصرفة - وإن اختلف مفهومه لها عن مفهوم أستاذه النظّام.

قال مصطفى صادق الرافعي: -

" أما الجاحظ فان رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، غير أن الرجل كثير الاضطراب، فان هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا في منخل، ولذلك لم يسلم هو أيضًا من القول بالصَّرْفة ...... ثم قال (الرافعي) مبررًا قول الجاحظ بالصرفة: وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أمر أستاذه النظّام، وهو شيء ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبه له أو نبه عليه، أو يكون هو ناقلًا ولا يدري

".

(4)

وما قاله الرافعي عن الجاحظ هو القول العدل فيه الذي يشهد له كلام الجاحظ نفسه.

6 -

"الرماني" علي بن عيسى أبو الحسن الرماني المعتزلي.

(5)

والصَّرْفة عنده تشبه الصَّرْفة عند الجاحظ، فهي لا تقدح في بلاغة القرآن وحسن تأليفه، وإن كان الجاحظ فيه ما فيه من التناقض والاضطراب.

وقد ذكر الرماني أن القرآن في أعلى مراتب البيان، ولا يدانيه شيء من كلام فصحاء العرب وبلاغييهم، وصَّرْفة الرماني - كما هو الشأن عند الجاحظ - من فعل الله بالقوم، فهي إذن شيء خارج عن إرادتهم، ووقع عليهم بقدرة الله وتدبيره.

يقول الرماني:

"وأما الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الاعجاز .. "

(6)

وقول الرماني لا يحتاج إلى زيادة بيان، إذ إنه يقول بالصَّرْفة ويرى أنها أحد

(1)

-إعجاز القرآن للرافعي: (ص: 102)

(2)

محمود شاكر: مداخل إعجاز القرآن، (ص: 56 - 68)

(3)

-الإعجاز البلاغي للدكتور. محمد أبو موسى، (ص: 370)، ويُنظر مدونة: نورة الشريف-بتاريخ: 13/ 6/ 2008 م.

(4)

- إعجاز القرآن - مصطفى صادق الرافعي - طبع المقتطف سنة 1928 م - ص 165.

(5)

- أبو الحسن الرماني (296 - 384 هـ = 908 - 994 م).

باحث معتزلي مفسر. من كبار النحاة. أصله من سامراء، ومولده ووفاته ببغداد. يُنظر: بغية الوعاة 344 ووفيات الأعيان 1: 331 وسير النبلاء - خ. الطبقة الحادية والعشرون. وتاريخ بغداد 12: 16 ونزهة الألباب 389 ومفتاح السعادة 1: 142 وإنباه الرواة 2: 294.

(6)

- النكت في إعجاز القرآن - علي بن عيسى الرماني - (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) الطبعة الثالثة دار المعارف بمصر - ص 110 تحقيق محمد خلف الله أحمد وزميله.

ص: 103

وجوه الإعجاز عند المعتزلة.

7 -

القاضي عبد الجبار

القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبدالله

الأسد آبادي المعتزلي.

(1)

وبسبب المعتقدات الفاسدة التي يعتقدها النظّام ويتبناها ويقول بها فقد كفره جمع من العلماء هو وفرقته، حتى إن بعض المعتزلة أنفسهم قد كفره كذلك.

‌موقف القاضي عبد الجبار وقوله في الصَّرْفة

القاضي عبد الجبار: " قد خالف جميع من تقدموه ممن تحدثوا عنها، ولم يرض عن تفسيراتهم، وأعطى القضية بعدًا أعمق، وفهما أنضج فقد أبعد مفهوم الجبرية الذي ساد في حديث - النظّام - والجاحظ- والرماني - عنها، لأنها كانت عندهم جميعا شيئًا خارجًا عن إرادة القوم، مجبورين عليه جبرًا".

(2)

وقدم بين يدي ذلك أدلة منها: -

أولًا: لو كانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح، أو قول بليغ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم، لما أمكنهم الكلام المعتاد، ولكن القوم ظلوا يتكلمون ويأتون بالقول الفني الممتاز، ولم ينحدر مستوى بيانهم أو يهبط، ولكنه كان - على علوه - لا يرقى الى مستوى القرآن.

ثانيًا: ولو ثبت هذا المنع لكان في حد ذاته هو المعجز وليس القرآن، فان من سلك هذا المسلك في القرآن، يلزمه أن لا يجعل له مزية ألبتة.

ثالثًا: ولو ثبت هذا المنع بأية صورة من صوره لبطل بعض القرآن، ولما كان صحيحًا قوله تعالى: - (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)(الإسراء: 88)

رابعًا: القول بالصَّرْفة يتعارض مع الآية السابقة، لأنه لا يقال في الجماعة إذا امتنع عليها الشيء: إن بعضها يكون ظهيرًا لبعض، لأن المعاونة والمظاهرة، انما تمكن مع القدرة، ولا تصح مع العجز والمنع)

(3)

.

وبعد أن قدم - القاضي عبد الجبار- هذه الأدلة التي نقض بها مفهوم من تقدموه عن - الصَّرْفة -، توصل القاضي الى مفهوم جديد للصَّرْفة، وهو في هذه المرة يرتبط بالقوم أنفسه، وليس شيئًا خارجًا عنهم، أو مفروضًا عليهم فرضًا، وهذا المفهوم: هو

إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة لعلمهم بأنها غير ممكنة على ما دللنا عليه، ولولا علمهم بذلك لم تكن لتنصرف دواعيهم، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعًا لمعرفتهم بأنها متعذرة عليهم ..

(4)

.

فهي صرفة تشبه اليأس الذي يعتري الانسان من أمر ما حاوله عدة مرات، وكان يمنى كل مرة بالإخفاق الذريع، فإذا بعزيمته تتثبط،

(1)

- القاضِي عبد الجبار (000 - 415 هـ = 000 - 1025 م).

عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسد أبادي، أبو الحسين المعتزلي:

العلامة المتكلم، شيخ المعتزلة، أبو الحسن الهمذاني صاحب التصانيف، من كبار فقهاء الشافعية ولي قضاء القضاة بالري، وتصانيفه كثيرة تخرج به خلق في الرأي الممقوت. مات في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة من أبناء التسعين.

سير أعلام النبلاء، الطبقة الثانية والعشرون، القاضي عبد الجبار (17/ 254).

(2)

التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة - د. وليد قصاب - الدوحة - دار الثقافة - ط أولى سنة 1985 م - ص 320.

(3)

- المغني في أبواب التوحيد والعدل - ج 16 - للقاضي عبد الجبار - تحقيق: أمين الخولي - وزارة الثقافة والإرشاد القومي - بمصر ج 16/ ص 323.

(4)

-المرجع السابق ج 16/ ص 324.

ص: 104

وهمته تنهار، وذلك كان شأن القوم مع القرآن، فلم يكن تركهم للمعارضة لأمر خارجي، وانما لإحساسهم باليأس، وتيقنهم من العجز عن الاتيان بمثل القرآن

يقول القاضي عبد الجبار:

" واعلم أن الخلاف في هذا الباب أنا نقول: إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة لعلمهم أنها غير ممكنة، ولولا علمهم بذلك لم تكن لتنصرف دواعيهم، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعًا لمعرفتهم بأنها متعذرة، وهم يقولون: ان دواعيهم انصرفت مع التأتي، ولأجل انصراف دواعيهم، لم يأتوا بالمعارضة مع كونها ممكنة، فهذا موضع الخلاف .. "

(1)

.

ثم ينهي - القاضي عبد الجبار - حديثه عن مفهومه للصَّرْفة فيقول: -

" فالصحيح ما قلناه، من أنهم علموا بالعادات تعذر مثله، فصار علمهم صرفًا عن المعارضة .. "

(2)

.

فالصَّرْفة بهذا المفهوم الجديد عند القاضي عبد الجبار، ليست تلك الصَّرْفة التي عند - النظّام - أو - الجاحظ -، والتي تعني: القهر والجبر، وإنما هي صَّرْفة ذاتية، فهم أدركوا بالفطرة أن أسلوب القرآن في علوه وسموه، وروعة نظمه وبيانه، لا يمكن مجاراته ومعارضته، فانصرفوا ذاتيًا بلا قهر أو جبر من قوة خارجية عن المعارضة، اقتناعًا منهم ويقينًا بالعجز، فالأمر في الحقيقة: انصراف .. وليس صرفة ..

(3)

.

وبذلك يكون القاضي عبد الجبار أقل القوم وأضعفهم تعسفًا في قضية القول بالصَّرْفة.

‌المطلب الثالث: القائلون بالصرفة من غير المعتزلة، من الأشاعرة وغيرهم.

‌أولًا: الأشاعرة:

أما الأشاعرة: فَجُلّهم إنّما يقبل بنظرية الصَّرْفة إماّ كوجه ثانوي من أوجه الإعجاز فهو عندهم تابع للوجه الأوّل، والأهمّ وهو إعجاز القرآن بنظمه وذاته، وإمّا يقولون بها من باب المجادلة والمنافحة عن الحق لا غير.

‌ثانيًا: ما ينسب إلى أبي الحسن الأشعري (ت: 324 هـ)

يقول الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم (ت: 548 هـ) أثناء حديثه عن أبي الحسن الأشعري: -

"والقرآن عنده معجز من حيث البلاغة، والنظم، والفصاحة، إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة، فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة، ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي، وهو المنع من المعتاد".

(4)

‌ثالثًا: ما يُنسب للقاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت: 544 هـ)

قال محمد بن أحمد السفاريني: (ت: 1189 هـ): -

"وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة، فإنه قال: وذهب الشيخ أبو الحسن (الأشعري) إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر، ويقدرهم الله عليه، ولكنه لم يكن هذا، ولا يكون، فمنعهم الله هذا، وعجزهم عنه ".

(5)

. ولاشك في وضوح قول القاضي عياض

(1)

- المرجع السابق نفسه، ونفس الجزء والصفحة.

(2)

المرجع السابق ج 16/ ص 325.

(3)

- إعجاز القرآن الكريم (مرجع سابق) بقلم: سامي عطا الجيتاوي-عن موقع دنيا الوطن، بتاريخ: 15/ 6/ 2006 م. بتصرف يسير.

(4)

- الشهرستاني: الملل والنحل، بهامش الفصل:(: 135 ـ 136) وجل هذه الأقوال نقلًا من بحث الصَّرْفة للدكتور/ سامي عطا حسن. بتصرف

(5)

- محمد بن أحمد السفاريني: لوامع الأنوار البهية: (1/ 175).

ص: 105

بالصرفة، فالمنع والتعجيز بمعنى أنه سبحانه صرفهم عنه بمنعهم وتعجيزهم عن الإتيان بمثله.

‌رابعًا: الفخر الرازي (ت: 606 هـ)

أطلق القول بالصَّرْفة في بعض مواضع تفسيره كقوله عند تعرضه لآية التحدي في سورة البقرة: حيث يقول:

الطريق الثاني، أن نقول:" القرآن لا يخلو إما أن يقال: إنه كان بالغًا في الفصاحة إلى حد الإعجاز، أو لم يكن كذلك، فإن كان الأول: ثبت أنه معجز، وإن كان الثاني: كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة، فعدم إتيانهم بالمعارضة، مع كون المعارضة ممكنة، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها، أمر خارق للعادة، فكان ذلك معجزًا، فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه، وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب".

وفي مواضع أخرى قيدها بالسور القصار حيث يقول:

" فإن قيل: قوله (فأتوا بسورة من مثله) يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر، وسورة (قل يا أيها الكافرون)، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله، أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم: إن الإتيان بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر، كان ذلك مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين، قلنا: فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا: إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعجاز، فقد حصل المقصود، وإن لم يكن الأمر كذلك، كان امتناعهم عن المعارضة - مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره -معجزًا، فعلى هذين التقديرين يحصل المعجز.

(1)

‌خامسًا: الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت: 774 هـ)

أقرّها على سبيل المجادلة والمنافحة على الحق لا غير حيث يقول:

"وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة، وقول المعتزلة في الصَّرْفة، فقال: إن كان القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله، ولا في قواهم معارضته، فقد حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله، ولم يفعلوا مع شدة عداوتهم له، كان ذلك دليلًا على أنه من عند الله، لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطريقة - وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا - إلا أنها تصلح على سبيل التنزل، والمجادلة، والمنافحة عن الحق، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار، كالعصر، وإنا أعطيناك الكوثر".

(2)

فابن كثير هنا يقرر أن القرآن معجز بذاته، وفي ذلك رد للصَّرْفة، وهو بذلك يقررها فقط على سبيل التنزل والمجادل عن الحق والمنافحة عنه كما قرر رحمه الله آنفًا، وفي نحو ذلك يقول عند تفسيره لآية التحدي في سورة الإسراء: فـ "لو

(1)

- الرازي: مفاتيح الغيب 1\ 116 ـ 117، ومحسن عبد الحميد: الرازي مفسرًا (ص: 233 ـ 234).

(2)

- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 60).

ص: 106

اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا، فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق، الذي لا نظير له ولا مثال له، ولا عديل له؟! ".

(1)

‌سادسًا: أبو إسحاق الإسفراييني (ت: 418 هـ)

فقد عدّها وجهًا من أوجه الإعجاز حيث قال في شرحه للمواقف:

"وقيل: إعجازه بالصَّرْفة، على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل البعثة، لكن الله صرفهم عن معارضته، واختلف في كيفية الصرف، (فقال الأستاذ) أبو إسحاق منا، (والنظّام) من المعتزلة، (صرفهم الله عنها مع قدرتهم) عليها، وذلك بأن صرف دواعيهم إليها، مع كونهم مجبولين عليها، خصوصًا عند توفر الأسباب الداعية في حقهم، كالتقريع بالعجز، والاستنزال عن الرياسات، والتكليف بالانقياد، فهذا الصرف خارق للعادة، فيكون معجزًا ".

(2)

‌سابعًا: الراغب الأصبهاني (ت: 425 هـ)

حيث يقول:

"اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين:

أحدهما: إعجاز يتعلق بنفسه.

والثاني: بصرف الناس عن معارضته" ثم يتبع ذلك بقوله: " فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة، الذين يهيمون في كل واد من المعاني - بسلاطة لسانهم - إلى معارضة القرآن، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ولم يقصدوا لمعارضته، فلم يخف على ذوي البلاغة أن صارفًا إلهيًّا صرفهم عن ذلك، وأي إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا في الظاهر عن معارضة مصروفة في الباطن عنها".

(3)

‌ثامنًا: أبو الحسن الماوردي (ت: 450 هـ) قال في أعلام النبوة:

"الوجه العشرون من أوجه إعجازه: الصَّرْفة عن معارضته، واختلف من قال بها: هل صرفوا عن القدرة على معارضته مع دخوله في مقدورهم .. ؟ على قولين:

أحدهما: - إنهم صرفوا عن القدرة، ولو قدروا لعارضوا.

والقول الثاني: - إنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم.

والصرفة إعجاز على القولين معًا .... ".

ثم يقول:

" فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها، صح أن يكون كل واحد منها معجزًا، فإذا جمع القرآن سائرها كان إعجازه أقهر، وحجاجه أظهر، وصار كفلق البحر، واحياء الموتى، لأن مدار الحجة في المعجزة إيجاد ما لا يستطيع الخلق مثله"

(4)

ومثل ذلك يقوله في تفسيره النكت والعيون:

" فأما إعجاز القرآن الذي عجزت به العرب عن الإتيان بمثله، فقد اختلف العلماء فيه على ثمانية أوجه، إلى أن يقول: والثامن: أن إعجازه هو الصَّرْفة، وهو أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته، مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله،

(1)

- تفسير ابن كثير: (5/ 117).

(2)

- القاضي عضد الدين الإيجي: شرح المواقف 8\ 646

(3)

- مقدمة جامع التفاسير: (ص: 104)، السيوطي: معترك الأقران في إعجاز القرآن: (1/ 5 ـ 6).

(4)

-الماوردي: أعلام النبوة: (ص: 85 ـ 86).

ص: 107

فلم تحركهم أنفة التحدي، فصبروا على نقص العجز، فلم يعارضوه، وهم فصحاء العرب، مع توفر دواعيهم على إبطاله، وبذل نفوسهم في قتاله، فصار بذلك معجزًا لخروجه عن العادة كخروج سائر المعجزات عنها.

واختلف من قال بهذه الصَّرْفة على وجهين:

أحدهما: أنهم صرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا لعجزوا عنه.

والثاني: - أنهم صرفوا عن التعرض له، مع كونه في قدرتهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه فهذه ثمانية أوجه، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازًا، فإذا جمعها القرآن، وليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزًا بأولى من غيره، صار إعجازه من الأوجه الثمانية، فكان أبلغ في الإعجاز، وأبدع في الفصاحة والإيجاز".

(1)

‌تاسعًا: أبو المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين (ت: 478 هـ) يقول في العقيدة النظامية:

"وقد أكثر الناس في وجه إعجاز القرآن، وتقطعوا فيه أيادي سبأ، وصار معظم الناس إلى أن القرآن تميز على صنوف الكلام بمزية البلاغة والجزالة، خارج عن المعتاد في ذلك، ثم زعم زاعمون: أن إعجازه في شرف جزالته، وذهب آخرون: إلى أن إعجازه في الجزالة الفائقة، وأسلوبه الخارج عن أساليب النظم والنثر، والخطب، والأراجيز، ثم يقول: - من رام أن يثبت إعجاز القرآن بأنه في جزالته خارق للعادات، مجاوز لفصاحة اللدد البلغاء، واللسن الفصحاء، فقد حاد عن مدرك الحق، ثم يقرر ويقول: فتبين قطعًا أن الخلق ممنوعون عن مثل ما هو من مقدورهم، وذلك أبلغ عندنا من خرق العوائد بالأفعال البديعة في أنفسها، ومن هدي إلى هذا المسلك فقد رشد إلى الحق المنير، وانعكس كل مطعن ذكره الطاعنون عضدًا وتأييدًا.

إلى أن يقول: فإذا لم تجر المعارضة، لم يبق لامتناعها، مع توفر الدواعي عليها محمل إلا صرف الله الخلق، فكيف يهتدي إلى إعجاز القرآن، من يحاول أن يثبت خروجه عن العادة في الجزالة، وشفاء الصدور في الحكم؟ فإن مثله من مقدورات الخلق، ولكنهم مصدودون ممنوعون بصرف الله إياهم ".

(2)

‌عاشرًا: أبو حامد الغزالي (ت: 505 هـ) والذي يقول في باب المحاجاة:

"فإن قيل: لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن، ولو قصدت لقدرت عليه، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به، والجواب: - إن ما ذكروه هوس، فإن دفع تحدي المتحدي بنظم كلام أهون من الدفع بالسيف، مهما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي، وشن الغارات، ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى، والصرف عن المقدور

(1)

الماوردي: تفسير النكت والعيون: (1/ 30 ـ 31).

(2)

- الجويني: العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية: (ص: 72 ـ 73).

ص: 108

المعتاد من أعظم المعجزات ".

(1)

‌حادي عشر: ابن حزم الأندلسي الظاهري: (ت: 456 هـ)

وممن قال بالصَّرْفة أيضًا الفقيه ابن حزم الأندلسي الظاهري، وكلامه في بالصَّرْفة مضطرب، فهو تارة يقول بها، وتارة يقول بغيرها فهو مضطرب في تلك المسألة، وتمشيًا مع القاعدة الأصولية "المثبت مقدم على النافي" فننقل كلام ابن حزم في القول بالصَّرْفة حيث إنه يرى أن القرآنَ ليس مُعْجِزًا في ذاتِهِ، بل لِأنَّ اللهَ صرفَ العربَ عن الإتيانِ بمثلِهِ، ويقول بعد إيرادهِ عدةَ آياتٍ من كتابِ الله عز وجل:

" ...... فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز وجل غير معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلامًا له أصاره معجزًا ومنع من مماثلته وهذا برهان كافٍ لا يحتاجُ إلى غيره".

(2)

.

وبمطالعة أقوال بعض الباحثين في عدد من المصادر وجدت أكثرها أو جلها على هذا الرأي في ابن حزم رحمه الله، بأنه مضطرب ولم يحسم رأيه وقوله في المسألة، لأنه تارة يقول بها وتارة يقول بغيرها، ولكن كما قال ربنا:(وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)(يوسف: 81).

‌المطلب الرابع: القائلون بالصرفة من الشيعة الإمامية

والشيعة الإمامية هم حملة لواء القول بالصَّرْفة في العصور المتأخرة خاصة وأنهم ورثة الفكر الاعتزالي. وممن قال بها منهم:

أ- الشيخ المفيد: (ت: 339 هـ) في كتابه أوائل المقالات، وإن حكى عنه غيره.

ب- الشريف المرتضى: (ت: 355 هـ) في رسالة خاصة تحت عنوان: (الموضح من جهة إعجاز القرآن).

ج- الطوسي: نصر الدين محمد بن محمد بن الحسن (ت: 385 هـ) في شرحه لكتاب (جمل العلم والعمل) للشريف المرتضى ولكنه تراجع عن القول بها صراحة في كتاب (الاقتصاد).

د- ابن سنان الخفاجي: (ت: 466 هـ) في كتابه سرّ الفصاحة.

هذا قول من قال بالصَّرْفة من الشيعة الإمامية إجمالًا ونسوق أقوالهم بشيء من التفصيل على النحو التالي:

أ- الشيخ المفيد، أبوعبد الله، محمد بن محمد بن النعمان، البغدادي العكبري، رئيس المذهب الشيعي الإمامي في وقته:(ت: 338 هـ) قال في جهة إعجاز القرآن:

" إنّ جهة ذلك هو الصَّرْف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثله في النظّام عند تحدّيه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم دليلاً على نبوته. واللُّطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان. وهذا أوضح برهان في الإعجاز، وأعجب بيان.

(1)

- الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد: (ص: 129 ــ 130 (.

(2)

- الفصل في الملل: (3/ 12).

ص: 109

وهو مذهب النظّام، وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال

".

(1)

ب- علي بن الحسين المعروف بالشريف المرتضى (على بن الحسين بن موسى بن محمد)(ت: 355 هـ) نقل عنه الطوسي (نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن)(ت: 385: هـ) قوله: " إن الله سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن، متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم ".

(2)

ج- نصير الدين الطوسي (ت: 385: هـ)

قال بالصَّرْفة في كتابه (تمهيد الأصول في علم الكلام) وهو شرح لكتاب (جمل العلم والعمل) للشريف المرتضى ولكنه تراجع عن القول بها صراحة في كتاب (الاقتصاد).

فقال: " وأقوى الأقوال عندي قول من قال إنما كان معجزًا خارقًا للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص، دون الفصاحة بانفرادها، ودون النظم بانفراده، ودون الصَّرْفة، وإن كنت نصرت في شرح الجمل القول بالصرفة، على ما كان يذهب إليه المرتضى من حيث شرحت كتابه، فلم يحسن خلاف مذهبه".

(3)

.

د-ابن سنان الخفاجي (ت: 466 هـ) عبد الله بن محمد بن سعيد الخفاجي الشاعر الأديب الشيعي في كتابه الشهير- سر الفصاحة- وهو من الكتب المعدودة في البلاغة، ألفه على طريقة الأدباء، حيث يقول:

" إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن: صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة، وقت مرامهم ذلك

،

ويقول أيضًا:

إن الصحيح أن إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته، وإن فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف

ويقول في موضع آخر:

متى رجع الانسان إلى نفسه، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه

!! ".

(4)

(5)

.

نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله تعالى الثبات على الحق، (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران: 8).

ومما سبق يتبين لنا أن الصَّرْفَةِ وإن كانت نشأت في بيئة المعتزلة على يد النَّظام ومن تابعه إلا أننا وجدنا طائفة من علماء أهل السنة، وبعض الظاهرية، والشيعة الإمامية، قالوا بها كذلك، وإن لم يوافقوا النَّظام على ما ذهب إليه.

‌المطلب الخامس: خلاصة القول بالصَّرْفَةِ

يمكننا أن نتعرف من أقوال القائلين بالصَّرْفَةِ على أنهم مذهبين:

المذهب الأول- مذهب النَّظام ومن تبعه، فقد ذهبوا إلى أن العرب صُرِفوا عن

(1)

- الإلهيات، جعفر السبحاني (م) جعفر بن محمد حسين السبحاني الخياباني التبريزي - منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية، إيران:(الطبعة الأولى، 1409 - 1989 م)، عدد الأجزاء 4، ص 341، نقلًا عن: أوائل المقالات للشيخ المفيد: (ص: 31).

(2)

- الإلهيات جعفر السبحاني- المرجع السابق، ويُنظر: الاقتصاد للطوسي: (ص: 172).

(3)

- الإلهيات جعفر السبحاني، مرجع سابق، (ص: 341) نقلًا عن: أوائل المقالات- للمفيد: (ص: 31)، نقلًا عن: بحار الأنوار للمجلسيي: (92/ 137)، نقلًا عن: الاقتصاد للطوسي: (ص: 172).

(4)

- ابن سنان الخفاجي: سرّ الفصاحة: (ص: 89 ـ 217).

(5)

- يُنظر: الصَّرْفة دلالتها لدى القائلين بها وردود المعارضين لها د. سامي عطا الجيتاوي: (صـ: 19) وما بعدها، من مبحث القائلين بالصَّرْفة من أهل السنة، وقصده بأهل السنة كل الفرق المخالفة للشيعة كما هو مقرر معلوم عندهم.

ص: 110

المعارضة أصلًا، ولم يتوجهوا إليها، ولو توجهوا لاستطاعوا أن يأتوا بمثل القرآن.

المذهب الثاني- وقال به الشريف المرتضى، وابن سنان الخفاجي، ومن تبعهما، فقد ذهبوا إلى أن الله سلب العرب علومهم التي يحتاجون إليها في معارضة القرآن، والإتيان بمثله، ولو توجهوا لمعارضته لما استطاعوا أن يأتوا بمثل القرآن.

ولا شك في أن كل القولين مردود .. ولا يقوم على قدم، ولا يستوى على ساق، وسنسوق بين يديك مصداقًا من البرهان التفصيلي على انتقاض بنيان هذه القضية بأدلة منها:

1 -

إجماع الأمة قبل ظهور القول بالصَّرْفة على أن إعجاز القرآن ذاتي

وقد حكى القرطبي الإجماع في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)، فقال بعد أن ذكر قول القائلين بالصرفة:" وهذا فاسد، لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف: أن القرآن هو المعجز، فلو قلنا: أن المنع و الصَّرْفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزًا، وذلك خلاف الإجماع، وإن كان كذلك، علم أن نفس القرآن هو المعجز، لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه، فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفًا معتادًا منهم، دل على أن المنع والصَّرْفة لم يكن معجزًا ".

(1)

2 -

أن الله تعالى وصف القرآن بأوصاف ذاتية تجعله في منزلة لاتصل إليها معجزات أخرى، فكانت هذه توجب أن إعجازه ذاتيًا، ولقد قال تعالى:(ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعًا)(الرعد: 31).

ويقول تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)(الزمر: 32).

وإذا كان القرآن بهذه الأوصاف التي وصفه الله بها منزله- سبحانه وتعالى أفيقال بعد ذلك أن الناس يستطيعون أن يأتوا بمثله؟ اللهم إن هذا بهتان عظيم.

(2)

‌المبحث الثالث: ردُّ شُبهةِ القولِ بالصَّرْفَةِ وبيان بطلانها

وفيه ثلاثة مطالب

‌المطلب الأول: الرد على القائلين بالصَّرْفَةِ وبيان دلائل بطلانها

إذا رجعنا إلى المصدر الأصلي الذي أثبت إعجاز القرآن، وهو القرآن نفسه، واحتكمنا إليه في هذا؛ فإنا نجده يثبت الإعجاز لذات القرآن، لا للصرف عنه وذلك من أوجه كثيرة نذكر منها:

أولًا - أن الله قد تحداهم أن يأتوا بمثله، كما في قوله: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن

(1)

- الجامع لحكام القرآن-لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: (ت: 671 هـ) دار الكتب العلمية-بيروت 1993 م-المجلد الأول 1 - 2/ ص: 54

(2)

-المعجزة الكبرى-القرآن- لمحمد أبي زهرة- دار الفكر العربي بالقاهرة: (ص: 74).

ص: 111

على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا) (الإسراء: 88)

ومما ورد في سبب نزولها ما أخرجه ابْن إِسْحَاق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَنْ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَحْمُود بن سيحان ونعيمان بن أُصَي ومجزئ بن عمر وَسَلام بن مشْكم فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد هَذَا الَّذِي جِئْت بِهِ حق من عِنْد الله فإنا لَا نرَاهُ متناسقًا كَمَا تتناسق التَّوْرَاة

فَقَالَ لَهُمْ: أما وَالله إِنَّكُمْ لتعرفون أَنه من عِنْد الله.

(1)

"فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقًا لأتوا بمثله".

(2)

فـ " لو اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله

، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا، فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق، الذي لا نظير له ولا مثال له، ولا عديل له؟! ".

(3)

والاجتماع المذكور هنا في آية الإسراء إنما هو:

"اجتماع تظافر على عمل واحد ومقصد واحد، وهذه الآية مفحمة للمشركين في التحدي بإعجاز القرآن".

(4)

فإن الله تعالى نص على أن الإنسان والجن لو اجتمعوا ليعارضوه لم ولن يستطيعوا أن يأتوا بمثله. فلو كان الإعجاز بالصَّرْفَةِ لقيل: " لو اجتمعوا لما انعقدت لهم عزيمة على الإتيان بمثله أو لو اجتمعوا لما اتجهت هممهم ولا همة واحد منهم إلى هذا الأمر. ولم يرد مثل هذا بحال. وإنما نص القرآن على أنهم لا يأتون بمثله ولو تضافرت جهودهم وتآزرت مساعيهم، فدل على أن التحدي إنما وقع بنفس القرآن وأن الإعجاز قائم في ذاته.

قال السيوطي رحمه الله تعالى بعد ذكره آية التحدي في الإسراء:

"فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم يبق لهم فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره، هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزًا وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله".

(5)

ونظير ذلك قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين)(البقرة: 23 - 24).

قال ابن كثير رحمه الله:

"ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبًا للكافرين:(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)[البقرة: 23] يعني

(1)

- الدر المنثور في التفسير بالمأثور: (9/ 442)

(2)

-تفسير البغوي: (5/ 127).

(3)

- تفسير ابن كثير: (5/ 117).

(4)

- التحرير والتنوير: (16/ 302).

(5)

الإتقان: (2/ 1006).

ص: 112

محمدًا فأتوا بسورة من مثل ما جاء به:، إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص:(قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين)[القصص: 49] وقال في سورة سبحان: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا)[الإسراء: 88] وقال في سورة هود: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين)[هود: 13] وقال في سورة يونس: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين)[يونس: 37، 38] وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضًا في المدينة فقال في هذه الآية:(وإن كنتم في ريب) أي شك (مما نزلنا على عبدنا) يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم (فأتوا بسورة من مثله) يعني من مثل القرآن، فتحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا أعجزوا عن ذلك".

(1)

فدلت هذه الآية ونظائرها على أن القرآن معجز بنفسه لمزايا وخصائص استقرت فيه، تقصر طاقة البشر وقدرتهم عن مضاهاتها، لذلك ورد التحدي بالقرآن ذاته.

ثانيًا - لو كان العجز بالصَّرْفَةِ لكان مقتضى الحكمة إنزال القرآن في مستوى بلاغي قريب المتناول- لا في الدرجة القصوى من البلاغة والفصاحة - لتظهر عظمة المعجزة في المنع من مثله والصرف عنه. وهذا يخالف ما ورد في القرآن من أوصاف له تشيد بعظمة بيانه وسموه، فهو الكتاب المبين؛ والقرآن المجيد؛ وفيه الآيات البينات، وهو النور، والنور المبين؛ والكتاب المنير؛ وفيه الهدى والنور وشفاء لما في الصدور ....

ثالثًا - ومن الدلائل التي تثبت إعجاز أسلوب القرآن ما ورد في القرآن نفسه من الآيات الدالة على قوة تأثيره في النفوس. وقد بلغ من تأثيره في نفوس الكافرين ما حملهم على التواصي على الإعراض عنه، كما ذكره الله عنهم

(وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)(فصلت: 26).

فقد نفذ صبرهم عن الصمود لاستماعه لمبلغ تأثيره فيهم وخشيتهم منه على أتباعهم وأنفسهم.

ووصف الله تأثيره في نفوس المؤمنين فقال سبحانه: (الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. ذلك هدى الله يهدي به من

(1)

- تفسير القرآن العظيم (1/ 59 - 60) بتصرف.

ص: 113

يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) (الزمر: 23).

قال أحد زعماء المشركين وهو الوليد بن المغيرة: " فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجز ولا قصيدة مني ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا. ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته ".

(1)

وهذه دلالة واضحة على أن الإعجاز في القرآن نابع من نظمه وذاته من اعتراف بلغاء المشركين والفضل ما شهدت به الأعداء.

ومثل الوليد بن المغيرة فعل نده من المشركين عتبة بن ربيعة إذ قال لقومه: " إني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ .... ".

(2)

ولو لم يكن الإعجاز نابعًا من ذات القرآن وجهته، وليس من حائل خارجي يمسكهم عن القول إمساكًا ملزمًا، لما استعظموا القرآن هذا الاستعظام ووصفوه بما وصفوه، غير أنهم أحسوا أن القرآن فوق ما سمعوا وما يستطيعونه من الكلام روعة وجلالًا وجمالًا في ألفاظه ومعانيه.

‌دلائل أخرى تنفي القول بالصَّرْفَةِ:

أولاً- يلزم من قولهم إن العرب قد صرفوا عن هذا المستوى فحيل بينهم وبينه بحيث لم يحاولوه قط؛ أن حالهم في البلاغة والبيان وجودة النظم وشرف اللفظ قد تراجعت، فنقصت قرائحهم وأذهانهم وعدموا كثيرا مما كانوا يستطيعونه. وبالتالي فإنه يلزم منه أيضًا أن أشعارهم التي قالوها وخطبهم التي قاموا بها وكل تعابيرهم بعد الوحي جاءت قاصرة عما سمع منهم من قبل، فضاق عليهم مجال كان متسعًا، ونضبت مواردهم التي كانت غزيرة، وخذلتهم قوى كانوا بها يصولون. وبناء عليه فلا بد أن تخرج أشعار شعراء النبي التي امتدحوه بها ونددوا بالمشركين ناقصة متقاصرة عن شعرهم الجاهلي!؟

وبالتالي فإن التساؤل يدخل على هؤلاء القوم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت (اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك)

(3)

فكيف يكون مؤيدًا بعون الله في حين أن الله يعدمه كثيرًا من المواهب والقدرة التي كان يتمتع بها قبل!؟

وينبني على قولهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تقاصرت بلاغته أيضًا والذي يحكم به علماء اللغة والأدب - وهو حقيقة لا مرية فيها - أن آداب العرب زمن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن قاصرة عن آداب الجاهلية بحال. بل إن الأمر أكثر من هذا فقد نزل القرآن بلغة فيها من قوة البيان والبلاغة والفصاحة، ما أشرقت بها للعرب بيانهم، وارتقت بها بلاغتهم، وأثمرت ثمارًا طيبة لم

(1)

- يُنظر: المستدرك على الصحيحين للنيسابوري - كتاب التفسير - تفسير سورة المدثر - مدح كلام الله من لسان الكافر: مسألة: (1506)، (3926)، قال النيسابوري: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه.، ورواه الحاكم: في كتاب التفسير (3872) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، يُنظر: صحيح السيرة النبوية ص 159. وضعفه الذهبي وحكم عليه بالإرسال كما في تاريخ الإسلام: (1/ 154) وقال: روي مرسلاً، وضعفه كذلك مقبل بن هادي الوادعي في صحيح أسباب النزول: (1/ 262). وثبوت الأثر عند الباحث محل نظر، لوجود اضطراب لدى المحققين في ثبوته وصحته.

(2)

- وأثر: عتبة بن ربيعة ضعيف: وقد أخرج قصة عتبة بن ربيعة ابن إسحاق فيما ذكر ابن هشام (1/ 293 - 294) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 204 - 205). حديث رقم: (536)، الاعتقاد إلى سبيل الرشاد للبيهقي: حديث رقم: (262). والأثر: إسناده ضعيف لأن به موضع إرسال، وفيه أحمد بن عبد الجبار العطاردي وهو ضعيف الحديث.

(3)

- رواه الشيخان: البخاري، كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، (7/ 107) وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، (4/ 1933)، وغيرهما

ص: 114

يكن للعرب قبل الإسلام بها عهد.

ثانيًا- إن إجماع المسلمين قد انعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن، قبل خلاف المخالفين، فهذا دال على إجماعهم على أن الإعجاز نابع من ذات القرآن لا من أمر خارج عنه.

ثالثًا - أنه خابت محاولات بعض الأدعياء لمعارضة القرآن، كالذي فعله مسيلمة الكذاب وسُجَاح

(1)

. وإذا كان كلامهم الذي أتوا به عُرَّةً في جبينهم أبد الدهر وخزيًا لهم؛ فإنه ينفي الصَّرْفَةِ، لأنها تعني أنهم صرفت هممهم عن معارضة القرآن! وفي الواقع أن محاولة المعارضة قد حصلت!! فلو كان ثمة صرفة لما أظهر هؤلاء من الكلام ما زعموا أنه معارض للقرآن.

رابعًا - أنهم يوردون علينا استدلالًا على الصَّرْفَةِ: أن العرب بلغاء فصحاء، وكان بعضهم يتقن نظم كلمتين بديعتين في جملة كلامية تبلغان طبقة من البلاغة جد عالية فلو أن الواحد منهم ضم ما جادت به القريحة ثانيًا إلى الأول وهكذا .. يتكامل له بعد حين، قدر سورة من القرآن.

والجواب: أن من قدر على الكلام البليغ العالي ليس لازمًا أن يقدر على معارضة أبلغ كلام على الإطلاق .. فإن الأمر يحتاج إلى ملكة في هذا المستوى العالي قادرة على السبك المبدع والتنسيق الفائق بحيث تبلغ المستوى القرآني، وهذا ما يتجاوز وسع المخلوقات. ثم إن التلفيق بين جمل متناثرة، جادة بها القرائح في موضوعات ودواعي مختلفة؛ لا يقدم أسلوبًا أدبيًا متماسكًا محكمًا يرضى عنه الأدباء، فكيف يسوغ الزعم بأنه معارض للقرآن!؟.

خامسًا: وإذا كان القول بالصَّرْفَةِ قد عزي للنَّظام من المعتزلة، فليس من شك أن من أبلغ الردود لمذهب الصَّرْفَةِ ما ورد على لسان علم من مشاهير المعتزلة. وهو جواب القاضي عبد الجبار لمن زعم: أن الله قد منع العرب من هذا القدر من الفصاحة والبلاغة حين أنزل القرآن؛ قال:

"فقد كان يجب أن يكون قدر القرآن في الفصاحة قدر ما جرت به العادة من قبل، وإنما منعوا من مثله في المستقبل، ولو كان كذلك لم يكن المعجز هو القرآن، لكونه مساويًا لكلامهم، ولتمكنهم من قبل من فعل مثله في قدر الفصاحة. وإنما كان يكون المعجز ما حدث منهم من المنع. فكان التحدي يجب أن يقع بذلك المنع لا بالقرآن، حتى لو لم ينزل الله تعالى القرآن، ولم يظهر أصلًا، وجعل دليل نبوته امتناع الكلام عليهم على الوجه الذي اعتادوه، لكان وجه الإعجاز لا يختلف. وهذا مما نعلم بطلانه باضطرار، لأنه صلى الله عليه وسلم تحدى بالقرآن وجعله العمدة في هذا

(1)

-سُجَاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان امرأة نجدية من بني تميم. ادعت النبوة في الردة وتبعها قوم ثم صالحت مسيلمة وتزوجته ثم بعد قتله عادت إلى الإسلام فأسلمت وعاشت إلى خلافة معاوية ذكر ذلك صاحب التاريخ المظفري: (8/ 198). ويُنظر: الإصابة في تمييز الصحابة: رقم: (11361)(ص: 102).

ص: 115

الباب، على أن ذلك لو صح لم يقدح في صحة نبوته، لأنه كان يكون بمنزلة أن يقول صلى الله عليه وسلم: " دلالة نبوتي أني أريد المشي في جهة فيتأتى لي على العادة وتريدون المشي فيتعذر عليكم.

فإذا وجد الأمر كذلك دل على نبوته، لكون هذا المنع على هذا الوجه ناقضًا للعادة".

سادسًا - على أنهم لو صُرفوا، كما زعم القائلون، فإن من كان قبلهم من أهل الجاهلية لم يخاطبوا بالتحدي ولم يصرفوا عما يعدل القرآن فصاحة وبلاغة وحسن نظم وروائع وصف، فهلا جاءونا بشيء من أقوالهم يساويه في ذلك؟ فإذا عجزوا عن استخراج ذلك لعدم وجوده أصلًا، فقد انكشف أن قولهم بالصَّرْفَةِ فاضح البطلان.

(1)

سابعًا - ومن أهم الأدلة على بطلان القول بالصَّرْفَةِ أن أهل الصنعة البلاغية إذا سمعوا كلامًا يطمعون في مجاراته لم يخف عليهم ولم يشتبه لديهم، فلا بد أن يحاولوا مباراته! كيف وقد تضافرت عليهم دوافع عديدة من سب آلهتهم وتسفيه عقول آبائهم ومطالبتهم بالإتباع مما يذهب بزعامتهم ومصالحهم .. !؟

وكيف يلزمون الصمت مع القدرة على المباراة؟ وقد تحداهم عشرين سنة بشيء من صناعتهم التي فاقوا بها وافتخروا، مع تقريعهم بالعجز مرارًا وتكرارًا، وهم مضرب المثل في الحمية والأنفة وإباء الضيم.

لو أنهم أحسوا بالحيلولة والحجز لدرأوا عن أنفسهم وصمة العجز، فإنه ليس معتادًا في بني الإنسان قاطبة - فضلًا عمن ذكرنا أوصافهم من العرب - أن يذعن الواحد لخصمه فيستكين له ويلقي بيديه ويسكت عن التقريع بالعجز أمدًا بعيدًا. فلما لم يؤثر عنهم مثل ذلك التشكي والتضجر دل ذلك على أنه لا أصل لما انصرف إليه أصحاب الصرفة واهمين.

قال الجرجاني

(2)

رحمه الله تعالى:

" ومما يلزمهم على أصل المقالة أنه كان ينبغي له إن كانت العرب منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها؛ أن يعرفوا ذلك من أنفسهم كما قدمت. ولو عرفوه لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك من أنفسهم كما قدمت. ولو عرفوه لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك. ولكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به. ولكنك قد سحرتنا واحتلت في شيء حال بيننا وبينه. فقد نسبوه إلى السحر في كثير من الأمور كما لا يخفي. وكان أقل ما يجب في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم. ويشكوه البعض إلى البعض ويقولوا مالنا قد نقصنا من قرائحنا وقد حدث كلول في أذهاننا .. فبقي أن لم يُرْوَ ولم يذكر أنه كان منهم قول في هذا المعنى لا ما قلَّ ولا ما كثر، دليل أنه قول فاسد ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل".

(3)

فهذا كله يجعل القول بالصَّرْفة باطلًا داحضًا يستوجب الانصراف

(1)

- حكى القرطبي أن بعض أصحاب الصرفة زعموا أن العرب صرفوا عن القدرة على القرآن ولو تعرضوا له لعجزوا عنه، وأن البعض الآخر زعموا أن العرب صرفوا عن التعرض للقرآن مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه، بمعنى أنهم لم يأتوا بمثله سابقا، غير أنه لا يخرج عن حدود قدرتهم لولا أنه حيل بينهم وبين ممارسة ذلك الاقتدار. يُنظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 76

(2)

- قال الإمام الذهبي: كان شافعيّاً، عالمًا، أَشعريّاً، ذا نسُكٍ ودين. سير أعلام النبلاء - (35/ ص 404).

(3)

- الرسالة الشافية: (ص: 135).

ص: 116

عنه.

ثم يقول في موضع آخر رحمه الله:

" .... لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن وعن أن يأتوا بمثله، لأنه معجِز فى نفسه إلا أن أدخل عليهم العجز عنه، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله، وكان حالهم حال من أُعدم العلم بشيء قد كان يعلمه، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتسع له، لكان ينبغي أن لا يتعاظَمَهم؛ ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم أمره، وتعجبهم منه، وعلى أنه قد بهرهم، وعظم كل العِظَم عندهم، بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم والتعجب للذي دخل من العجز عليهم، ورأوه من تغير حالهم، ومن أن حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلاً، وأن سُدَّ دونهم باب كان لهم مفتوحًا، أرأيت لو أن نبيًا قال لقومه: (إن آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة، وتمنعون كلكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رؤوسكم)، وكان الأمر كما قال، ممَّ يكون تعجب القوم، أمِن وضعه يده على رأسه، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رؤوسهم؟). "

(1)

يقول الباقلاني:

"وأخيرا فإن الصَّرْفَةِ تصور القرآن معجزة حسية معقدة خفية. فلو كان المراد الإعجاز الحسي لما كان ثمة داع لجعله مصحوبًا بتلك الصورة الكلامية مع التحدي بها. فذلك نمط مُرْبِكٌ عسير الإدراك، يُستغنى عنه بأهون شيء يقطع ما بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه من جدل ومعاناة ".

(2)

‌المطلب الثاني: أقوال العلماء في رد القول بالصَّرْفَةِ وبيان بطلانها

‌1 - شيخ الإسلام بن تيمية:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"ومن أضعف الأقوالِ - أي في إعجاز القرآن - قول من يقول من أهل الكلام: إنه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها، أو بسلب القدرة التامة، أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبًا عامًا، مثل قوله تعالى لزكريا: (

آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سويًا) (مريم: 10) وهو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله، فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة من أبلغ الآيات الخارقة للعادات بمنزلة من يقول: إني آخذ أموال جميع أهل هذا البلد العظيم، وأضربهم جميعهم، وأجوعهم، وهم قادرون على أن يشكوا إلى الله، أو إلى ولي الأمر، وليس فيهم - مع ذلك - من يشتكي، فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.

ولو قدر أن واحدًا صنف كتابًا يقدر أمثاله على تصنيف مثله، أو قال شعرًا، يقدر أمثاله أن يقولوا مثله، وتحداهم كلهم، فقال: عارضوني، وإن لم تعارضوني فأنتم كفار، مأواكم النار، ودماؤكم لي حلال، امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد. فإذا لم

(1)

دلائل الإعجاز في علم المعاني: (ص: 390).

(2)

- إعجاز القرآن للباقلاني ص 29 - 30 وبيان إعجاز القرآن للخطابي ص 20 - 21. ويُنظر: إعجاز القرآن للرافعي: (ص: 162).

ص: 117

يعارضوه كان هذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.

والذي جاء بالقرآن قال للخلق كلهم: أنا رسول الله إليكم جميعًا، ومن آمن بي دخل الجنة، ومن لم يؤمن بي دخل النار، وقد أبيح لي قتل رجالهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، ووجب عليهم كلهم طاعتي، ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق، ومن آياتي هذا القرآن، فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله، وأنا أخبركم أن أحدًا لا يأتي بمثله.

فيقال: لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين.

فإن كانوا قادرين، ولم يعارضوه، بل صرف الله دواعي قلوبهم، ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه، فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل:

معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب، فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد - فهذا من أبلغ الخوارق.

وإن كانوا عاجزين، ثبت أنه خارق للعادة، فثبت كونه خارقًا على تقدير النقيضين; النفي والإثبات. فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر".

(1)

وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية آنفًا يدل على أنه يرد القول بالصرفة ولا يقبله، بل ويعتبره من أضعف ما قيل في بيان أوجه الإعجاز، وهو في ضوء كلامه آنفًا لا يقبله إلا على سبيل التنزل مع المخالف.

ولذا قال في محض كلامه: (فهذا غاية التنزل، وإلا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمد صلى الله عليه وسلم نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وسائر كلامه لكل من له أدنى تدبر

).

(2)

‌2 - الباقلاني:

قال الباقلاني الأشعري:

"وما يبطل القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزًا، وإنما يكون المنع معجزًا فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه، وقال أيضًا: وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به ولا بأعجب من قول آخرين، أن العجز وقع منهم، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله، وكل هذا لا يعتد به".

(3)

.

وقال أيضًا:

"فإن قيل: فلم زعمتم أنّ البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرُّفهم في أجناس الفصاحات، وهلَّا قلتم: إنَّ من قدر على جميع هذه الوجوه بوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادرًا، وإنما يصرفه عنه ضرب من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرب من المنع، أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله تعالى من الدلالة،

(1)

- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: (5/ 429).

(2)

المرجع السابق نفسه: (5/ 431)

(3)

-إعجاز القرآن للباقلاني: (ص: 24).

ص: 118

ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة؛ لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك على ضمّ الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة.

ونرى من هذا أنَّ القائلين بهذا القول يشككون في مرتبة القرآن وكونه من عند الله تعالى من غير أن يقدموا دليلًا، بل إنَّ القصد الذي يبدو من لحن القول والدعوى هو التشكيك المجرَّد في علوِّ البلاغة القرآنية، ومن وراء ذلك التشكيك ما يريدون من توهين ثم دعاوي بأنه من صنع محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا يسير الخط من الاحتمالات تنافي الواقع إلى توهين لأمر القرآن، إلى ادِّعاء أنه ليس من عند الله".

(1)

‌3 - الخطابي:

أما الخطابي فقد رد القول بالصَّرْفة بعد أن بين معناها ووضح مفهومها ومقصدها عند من قال بها، ثم عقب ذلك بقوله:

" .... لأن دلالة الآية تشهد بخلافه، وهي قوله سبحانه {قُلْ لَئِنْ اجَتَمعَتِ الإنسُ والجِنُّ عَلى أَنْ يأتُوا بمثْلِ القُرآنِ لا يأتُونَ بمِثْلِهِ وَلوْ كانَ بَعْضُهمْ لبعضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء، 88]، فأشار في ذلك إلى أمر طريقة التكلف والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد، والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلاءم هذه الصفة، فدل على أن المراد غيرها والله أعلم

(2)

.

والخطابي هنا يرد الصَّرْفة ويرد على القائلين بها بحجية آية التحدي في الإسراء، ومع ذلك فإن القائلين بها استدلوا بنفس الآية مع إنها حجة عليهم لا لهم، والخطابي حينما يستدل بآية الإسراء التي هي عمدة الاستدلال كأنه يشير إلى أن الآية واضحة الدلالة وواضحة المعاني لا تحتاج لزيادة تأويل.

‌4 - الإيجي:

يقول الإيجي: "لو سلبوا القدرة - أي العرب - كما قال به - الشريف الرضي - لعلموا ذلك من أنفسهم ولتناطقوا به عادة ولتواتر عنهم ذلك التناطق لجريان العادة بالتحدث بخوارق العادات لكنه لم يتواتر قطعًا".

(3)

.

‌5 - الزركشي

أما الزركشي فيقول في " البرهان " في محض كلامه عن إبطال الصَّرْفة والرد على النَّظام ما يلي:

"إن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات وهو قول فاسد بدليل قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} (الإسراء: 88) فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ولو سلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى بكبير يحتفل بذكره هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزًا غيره وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم

(1)

- المرجع السابق: (ص: 25).

(2)

- الخطابي، بيان إعجاز القرآن، ص 23.

(3)

- الإيجي، عبد الرحمن بن أحمد، المواقف، دار الجيل - بيروت، (ط/ 1، 1997) تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، (ج 3، ص 397).

ص: 119

قدرتهم عن الإتيان بمثله وأيضا يلزم من القول بالصَّرْفة فساد آخر وهو زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي وخلو القرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول العظمى ولا معجزة له باقية سوى القرآن وخلوه من الإعجاز يبطل كونه معجزة".

(1)

‌6 - الرافعي:

وعلى الجملة فإن القول بالصَّرْفة لا يختلف عن قول العرب فيه " يقول الرافعي:

(إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ)(المدثر: 24)، وهذا زعم رده الله على أهله، وأكذَبهم فيه، وجعل القول به ضربًا من العمى .. (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) (الطور: 15)

فاعتبر ذلك بعضه ببعضه فهو كالشيء الواحد ".

(2)

وهذا القول: (يعني القول بالصَّرْفة) باطل من وجوه:

الوجه الأول: إنه لو صح لكان الإعجاز في الصرفة لا في القرآن ذاته، وهو باطل بالإجماع

الوجه الثاني: إنه لو صح لكان تعجيزًا لا إعجازًا؛ لأنه يكون بمثابة ما لو قطعنا لسان إنسان وكلفناه بالكلام، فهو من باب التعجيز وليس من باب العجز.

الوجه الثالث: قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء: 88)، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سُلِبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم فإنه يصبح بمنزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى بالأمر الكبير الذي يُحتفل بذكره".

(3)

وإنَّ رواج تلك الفكرة يؤدي إلى أمرين

أولهما: إنَّ القرآن الكريم ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع محاكاته، وتعجز القدرة البشرية عن أن تأتي بمثله، فالعجز ليس من صفات القرآن الذاتية.

وثانيهما: الحكم بأنه ككلام الناس لا يزيد عليه شيء في بلاغته، أو في معانيه.

(4)

.

‌7 - الجرجاني:

و الجرجاني ممن قال ببطلان الصَّرْفة في " الشافية"

و يرد على من حصر التحدي في إعجاز القرآن في النظم واللفظ والمعنى فحسب فيقول:

" .... فإن قلت: فكيف الكلام عليهم، إذا ذهبوا في " الصَّرْفة " إلى الوجه الآخر، فزعموا أن التحدي كان أن يأتوا في أنفس معاني القرآن بمثل نظمه ولفظه؟ وما الذي دل على فساده؟ فإن على فساد ذلك أدلة منها قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [هود: 13]، وذاك أنا نعلم أن المعنى: فأتوا بعشر سور تفترونها أنتم وإذا كان المعنى على ذلك، فبنا أن ننظر في الافتراء إذا وصف المعنى، وإذا لم يرجع إلا إلى المعنى وجب أن يكون المراد: إن كنتم تزعمون أني قد وضعت القرآن وافتريته، وجئت به من عند نفسي، ثم زعمت أنه وحي من الله، فعضوا

(5)

أنتم أيضًا عشر سور وافتروا معانيها كما زعمتم أني افتريت معاني القرآن

(6)

، وفي موضع

(1)

- الزركشي، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه، الطبعة: الأولى، 1376 هـ - 1957 م، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (ج 2، ص 94).

(2)

- إعجاز القرآن للرافعي: (ص: 103).

(3)

-يُنظر: محاضرات في علوم القرآن: (ص: 169) لـ: أ. د. صلاح الصاوي ود. محمد سالم

(4)

-المعجزة الكبرى القرآن: (ص: 8).

(5)

"عضوا" من الاستعاضة- اِستِعاضة (اسم) مصدر اِسْتَعاضَ- يجب الاِسْتِعاضَةُ عَنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ آخَرَ: أَنْ تَجْعَلَ فِي مَكانِهِ شَيْئاً آخَر. يُنظر: معجم المعاني الجامع: مادة استعاضة.

(6)

- الجرجاني، أبو بكر عبد القاهر، بن عبد الرحمن، الرسالة الشافية، ضمن ثلاث رسائل في أعجاز القرآن، دار المعارف - مصر، (ط: 3، 1976 م) (ت: محمد خلف الله، د. محمد زغلول سلام)، ص 150

ص: 120

موضع آخر يقول في رده على الشريف الرضي الشيعي بقوله:

"

أنه كان ينبغي لهم لو أن العرب كانت منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها أن يعرفوا ذلك من أنفسهم، كما قدمت، ولو عرفوا لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك، ولكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:"إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به، ولكنك قد سحرتنا، واحتلت في شيء حال بيننا وبينه"، فقد نسبوه إلى السحر في كثير من الأمور، كما لا يخفى، وكان أقل ما يجب في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم، ويشكوه البعض إلى البعض، ويقولوا:"ما لنا قد نقصنا في قرائحنا، وقد حدث كلول في أذهاننا" ففي أن لم يرو ولم يذكر أنه كان منهم قول في هذا المعنى، لا ما قل ولا ما كثر، دليل [على] أنه قول فاسد، ورأى ليس من آراء ذوى التحصيل

(1)

.

وفي موضع آخر من "الشافية" في محض دفاعه عن إعجاز القرآن والرد على القائلين بالصرفة بما جاء عن العرب في شأن القرآن من أخبار فيقول أيضًا:

"ومنها الأخبار التي جاءت عن العرب في تعظيم شأن القرآن وفي وصفه بما وصفوه به من نحو: "إن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر"

(2)

، وذاك أن محالًا أن يعظموه، وأن يبهتوا عند سماعه، ويستكينوا له، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون ما يوازيه، ويعلمون أنه لم يتعذر عليهم لأنهم لا يستطيعون مثله

(3)

.

ويقول في موضع آخر من "الشافية" في نهاية قوله بإبطال الصرفة والرد على قائليها أيضًا:

" .... ينبغي أن يقال: ما هذا الذي أخذتم به أنفسكم؟ وما هذا التأويل منكم في عجز العرب عن معارضة القرآن؟ وما دعاكم إليه؟ وما أردتم منه؟ أأن يكون لكم قول يحكى، وتكونوا أمة على حدة، أم قد أتاكم في هذا الباب علم لم يأت الناس؟

فإن قالوا: أتانا فيه علم.

قيل: أفمن نظر ذلك العلم أم خبر؟

فإن قالوا: من نظر.

قيل لهم: فكأنكم تعنون أنكم نظرتم في نظم القرآن ونظم كلام العرب ووازنتم فوجدتموه لا يزيد إلا بالقدر الذي لو خلوا والاجتهاد وإعمال الفكر، ولم تفرق عنهم خواطرهم عند القصد إليه، والمقصد له لأتوا بمثله؟

فإن قالوا: كذلك نقول.

قيل لهم: فأنتم تدعون الآن أن نظركم في الفصاحة نظر لا يغيب عنه شيء من أمرها، وأنكم قد أحطتم علمًا بأسرارها، وأصبحتم ولكم فيها فهم وعلم لم يكن للناس قبلكم.

وإن قالوا: عرفنا ذلك بخبر.

قيل: فهاتوا عرفونا ذلك، وأني لهم تعريف ما لم يكن، وتثبيت ما لم يوجد!

ولو كان الناس إذا عن لهم القول نظروا في موداه، وتبينوا عاقبته، وتذكروا وصية الحكماء حين نهوا عن الورود حتى يعرف الصدر، وحذروا أن تجيء أعجاز الأمور بغير ما أوهمت الصدور إذا لكفوا البلاء، ولعدم هذا وأشباهه من فاسد الآراء،

(1)

- السابق، ص 148 - ص 149.

(2)

- يُنظر: المستدرك على الصحيحين للنيسابوري - كتاب التفسير - تفسير سورة المدثر - مدح كلام الله من لسان الكافر: مسألة: (1506)، (3926)، قال النيسابوري: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه. وقد سبق تخريجه بطوله كذلك في المبحث الثالث: ردُّ شُبهةِ القولِ بالصَّرْفَةِ وبيان بطلانها. وقلنا في نهاية تخريجه: أن ثبوت الأثر عند الباحث محل نظر، لوجود اضطراب لدى المحققين في ثبوته وصحته.

(3)

- السابق، ص 152.

ص: 121

ولكن يأتي الذي في طباع الإنسان من التسرع، ثم من حسن الظن بنفسه، والشغف بأن يكون متبوعًا في رأيه، إلا أن يخدعه وينسبه أنه موصى بذلك، ومدعو إليه، ومحذر من سوء المغبة إذا هو تركه وقصر فيه. وهي الآفة لا يسلم منها ومن جنايتها إلا من عصم الله. وإليه عز اسمه الرغبة في أن يوفق للتي هي أهدى، ويعصم من كل ما يوتع الدين، ويثلم اليقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه

(1)

.

وقال أيضًا:

"إنه لا يتصور الإعجاز بالصَّرْفة، وذلك لأنهم كانوا حينئذ يعارضونه بما اعتيد منهم من مثل القرآن الصادر عنهم قبل التحدي به، بل قبل نزوله، فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به فلهم بعد الصَّرْفة الواقعة بعد التحدي، أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصَّرْفة)

(2)

.

‌8 - السيوطي

يقول السيوطي مستدلا بآية التحدي في الإسراء:

"

فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة، لم تبق فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره،

".

(3)

‌9 - الإجماع

ومن أقوى الأقوال والردود والحجج الواردة في إبطال القول بالصَّرْفة الإجماع الذي حكاه القرطبي وقد مر معنا في طيات البحث ولا حرج من إعادة ذكره هنا لمسيس الحاجة إليه، والأمة لا تجتمع على ضلالة أبدًا كما صح الخبر بذلك عن خير البشر في قوله عليه الصلاة والسلام:(إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة)

(4)

وإجماع الأمة إنما كان قبل ظهور القول بالصَّرْفة على أن إعجاز القرآن ذاتي

وقد حكى القرطبي الإجماع في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)، فقال بعد أن ذكر قول القائلين بالصرفة:

" وهذا فاسد، لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف: أن القرآن هو المعجز، فلو قلنا: أن المنع و الصَّرْفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزًا، وذلك خلاف الإجماع، وإن كان كذلك، علم أن نفس القرآن هو المعجز، لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه، فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفًا معتادًا منهم، دل على أن المنع والصَّرْفة لم يكن معجزًا ".

(5)

.

وممن قال بالإجماع واستدل به على بطلان الصرفة كذلك علي بن محمد الجرجاني (ت: 812 هـ) في شرح المواقف

(6)

والألوسي في روح المعاني

(7)

.

وفي الجملة فإن الرد على القائلين بالصَّرْفة يُعد من الأقوال كذلك، فلا يُظن أن أقوال العلماء منفردة في القول ببطلان الصَّرْفة فحسب، بل إن رودوهم تعد من أقوى أقوالهم كذلك، وهي وإن كانت كثيرة غير أنا تخيرنا أبرزها وأبينها على الدلالة ببطلان القول بالصَّرْفة.

(1)

- الجرجاني، الرسالة الشافية، ص 155

(2)

شرح المواقف: (8/ 249)

(3)

- الإتقان: (1/ 6 ـ 7).

(4)

- حسن بمجموع طرقه، السلسلة الصحيحة:(3/ 319).

(5)

- الجامع لحكام القرآن-لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: (ت: 671 هـ) دار الكتب العلمية-بيروت 1993 م-المجلد الأول 1 - 2/ ص: 54

(6)

- شرح المواقف: (8/ 249)

(7)

- روح المعاني: (1/ 27).

ص: 122

‌المطلب الثالث: أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة.

1 -

إن القول بالصَّرْفة زعم لا دليل عليه من العقل أو النقل.

2 -

لقد انكشف نقض القول بالصَّرْفة وبطلانه بأدلة من القرآن والحديث والإجماع وبأدلة أخرى قوية حاسمة.

3 -

إن القول بالصَّرْفة دحضه الواقع وكذَّبَهُ، فقد عرف تاريخ الدعوة الإسلامية أناسًا كذَّابين من العرب لم تنصرف هممهم عن محاولة معارضة القرآن بل بذلوا في ذلك كل همتهم وغاية اهتمامهم. فكانت معارضتهم وصمة عار أبدية في جباههم، وازدادت البصائر إكبارًا للقرآن المجيد وخصائص إعجازه الذاتية.

(1)

.

ولعل فيما مضى معتبر لأهل البحث والنظر، ولا اعتبار لمن نظره وعقله عن وصوله الحق قصر. والحمد لله رب العالمين.

(1)

يُنظر: القول بالصَّرْفة - مقال عن موقع جامعة أم القرى. بتصرف يسير.

ص: 123

‌فهرس أهم المصادر والمراجع

1 -

أبو زهرة، المعجزة الكبرى - القرآن: لمحمد أبي زهرة (ت: 1394 هـ)، طبع دار الفكر العربي بالقاهرة - (د- ت).

2 -

أبو موسى، الإعجاز البياني: د. محمد محمد أبو موسى (م)، ط 2. مكتبة وهبة: 1418 هـ.

3 -

ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري (ت: 711 هـ) - لسان العرب، دار صادر - بيروت 1955 م

4 -

الأصفهاني، الحسين بن محمد المعروف بالراغب (ت: 502 هـ)، المفردات، دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، (ط: الأولى - 1412 هـ)، ت: صفوان عدنان الداودي.

5 -

الإسفراييني، طاهر بن محمد أبو المظفر، (ت: 471 هـ)، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، المحقق: كمال يوسف الحوت، عالم الكتب - لبنان، الطبعة: الأولى، 1403 هـ - 1983 م.

6 -

الإيجي، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد، (ت: 765 هـ)، المواقف، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى، 1997، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة.

7 -

البغدادي، عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي أبو منصور (ت: 429 هـ)، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، دار الآفاق الجديدة - بيروت الطبعة الثانية، 1977 م.

8 -

الرماني، علي بن عيسى (ت: 384 هـ)،، النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ود. محمد زغلول سلام، دار المعارف، ط 4، القاهرة.

9 -

الرافعي، مصطفى صادق بن عبد الرزاق (ت: 1356 هـ)،، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثامنة - 1425 هـ - 2005 م.

10 -

الزركشي، البرهان في علوم القرآن - لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي

(ت: 794) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - الطبعة الأولى - دار إحياء الكتب العربية، مصر 51376 - 1957 م.

11 -

السيوطي، الإتقان في علوم القرآن - لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت: 911 هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم - دار التراث بالقاهرة، بالقاهرة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ-1985 م

12 -

السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت: 911 هـ)، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، (الطبعة الأولى، 1998 م) تحقيق: فؤاد علي منصور.

13 -

السبحاني، الإلهيات، جعفر السبحاني (م) جعفر بن محمد حسين السبحاني الخياباني التبريزي - منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية، إيران:(الطبعة الأولى، 1409 - 1989 م)، عدد الأجزاء 4

14 -

القرطبي، الجامع لحكام القرآن-لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي:(ت: 671 هـ) دار الكتب العلمية-بيروت 1993 م.

15 -

القطان، مباحث في علوم القرآن: مناع خليل القطان (ت: 1420 هـ)، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة: الطبعة الثالثة 1421 هـ- 2000 م عدد الأجزاء: 1.

16 -

الجهني، الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، المؤلف: د. مانع بن حماد الجهني (ت: 1423 هـ)،، الناشر: دار الندوة للنشر; عدد المجلدات: 2.

ص: 131