المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة المعتني بالكتاب إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله - حث الأتباع على تجريد الاتباع

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

‌مقدمة المعتني بالكتاب

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد: فقد كان الناس قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء يعيشون في ظلمات من الشرك والجهل، وتسيطر عليهم الخرافات، ويتطاحنون في نزاعات وصراعات قبلية، يسبي بعضهم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا، يعيشون في تخلف وهمجية وفرقة، شعارهم:

ص: 5

ومَن لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بسلاحِهِ

يُهدَّمْ ومَنْ لا يَظلمِ النَّاسَ يُظْلَمِ

حتى إذا أذن الله لشمس الإسلام أن تشرق، بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم ليعلن للبشرية أنّه:"لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه".

لقد جاء بالتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، والغاية العظمى من الخلق:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات].

به بُعث الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأنزلت الكتب، ورفع من أجله علم الجهاد.

ثلاث عشرة سنة في مكة والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه، ويغرس جذوره في أعماق النفوس، ويبني أسسه ودعائمه في سويداء القلوب، ويثبت أركانه في الوجدان؛ حتى اتضحت سبيله للسالكين، وبانت معالمه للراغبين، فأظهر الله الحق وأزهق الباطل، وأضاءت القلوب أنوار التوحيد الخالص، فجلته من أوضار الشرك، وصقلته من أدران التنديد.

لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم والقلوب أرضٌ جرداء فسقاها من نمير التوحيد، وأرواها من سلسبيل الإخلاص، وساقها إلى الله بدليل المتابعة، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فعزت الأمة بعد ذلتها، واجتمعت بعد فرقتها، وصارت غالبة بعد أن كانت مغلوبة.

بقيت العقيدة على صفائها ونقائها وطُهرها؛ حتى إذا قضى الله أمرًا كان مفعولًا، ودخل في دين الله من لم يتشرب قلبه التوحيد الخالص، حدث في الناس الخلل، وتفرقت بهم السبل، وراجت المذاهب المنحرفة، والأفكار الهدامة، وأطلت الفتن برأسها، وفشت البدع ببؤسها، حتى إذا زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا؛ قيض الله من أئمة الهدى، ومصابيح الدجى من يعيد الناس إلى مشكاة النبوة وقلعة الإيمان، ويكشف لهم زيوف الباطل، ويدحض شبه المبطلين، ويردَّهم إلى منهج السلف الصالح.

ص: 6

إن المتبصِّر في تاريخ الأمة الإسلامية؛ ليرى أن عزَّتها وعلوَّها وغلبتها ودينونة الأمم لها مرتبطة بصفاء عقيدتها، وصدق توجهها إلى الله، واتباعها لأثر النبي صلى الله عليه وسلم وسيرها على منهج السلف الصالح، واجتماعها على أئمتها، وعدم منازعتهم في ذلك، وأن ذلها وضعفها وانخذالها، وتسلط الأمم عليها مرتبط بانتشار البدع والمحدثات في الدين، واتخاذ الأنداد والشركاء مع الله، وظهور الفرق الضالة، ونزع يد الطاعة، والخروج على الأئمة.

إنّ الانحرافات العقدية، والحيدة عن منهج السلف الصالح، والانخداع بزخرف قول أرباب المذاهب المنحرفة هو الذي فرق الأمة، وأضعف قوتها، وكسر شوكتها، والواقع شاهد على ذلك، ولا مخرج لها من ذلك إلا بالرجوع إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة الهدى، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

وإن النكوص عن جادة التوحيد، والرغبة عن منهج السلف الصالح، منافاة للعدل، ومجافاة للعقل.

قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

وإن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وبه قوامه، وإن أظلم الظلم الشرك، قال تعالى حكاية عن لقمان في وصيته لابنه:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وإن أعظم الفرية أن تشرك بالله وقد خلقك.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمر بالإصلاح، ونهى عن الفساد والإفساد، كما قال جل ثناؤه:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف].

ص: 7

فإن أعظم الإفساد أن تفسد عقائد الناس، وتصوراتهم، وأفكارهم، ويقطع عليهم الطريق في مسيرهم إلى الله ويحاد بهم عن الفطرة التي فطرهم الله عليها، ففي الحديث:"كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"

(1)

.

ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا: كل مالٍ نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا

"

(2)

.

ولا شك أن هذا أعظم الظلم وأشنعه، كيف لا، وقد صار عاقبة ذلك خسران الدنيا والآخرة.

وفي هذه الأزمنة المتأخرة التي حدثت فيها الغير، وتزينت الدنيا لخطابها، كشف أهل الأهواء عن أقنعتهم، وانتشرت بدعهم، وأحييت مذاهب أسلافهم بعد أن كانت بائدة، ونبشت كتب لهم كانت منسية، وظهرت أفكار جديدة، وبرزت جماعات معاصرة متباينة في مقاصدها، مختلفة في توجهاتها، متناقضة في غاياتها ووسائلها، كلما خرجت جماعة أو فرقة لعنت أختها، وتطاول أناس على قامة التوحيد والسنة، ولوثوا أفكار النّاس، وأفسدوا عليهم عقائدهم، وهونوا عليهم أمر الشرك، ورفعوا أعلام الفتن، ونازعوا ذوي السلطان في سلطانهم، وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، واتبعوا غير سبيل المؤمنين.

مما يوجب على الغيورين من علماء الأمة ودعاة السنة المقتفين للأثر؛ القيام بواجب الإبانة عن أصول الديانة، وتبيين معالم منهج السّلف، وإيضاح سبيله، وتقريب كتب أئمة الهدى، وإبرازها بالتحقيق

(1)

رواه مسلم.

(2)

رواه مسلم.

ص: 8

وشرح عبارات الأئمة، وبيان مقاصدهم والعناية بأمر التوحيد والمنهج في دروسهم وخطبهم ومحاضراتهم ومؤلفاتهم، وإرشاد العباد إلى اتباع خطى النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته، والسير على أثر أصحابه امتثالًا لقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بتقوى الله والسّمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"

(1)

. فهذا هو الصراط المستقيم، الموصل إلى رضا رب العالمين، كما قال تعالى في سورة الأنعام:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} . وهو السبيل الذي دعا إليه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].

وهو عقيدة الفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:

"لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم؛ حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك"

(2)

.

وهي التي بقيت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين

(1)

رواه أبو داود.

(2)

رواه البخاري، باب (28) حديث (3641).

ص: 9

ملة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة؛ كلهم في النار إلا ملة واحدة" قال - أي: عبد الله بن عمرو راوي الحديث -: من هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"

(1)

.

ومن هنا تأتي أهمية العناية بهذا الأمر، وتربية الناشئة عليه، وتصحيح مسيرة الصحوة إليه؛ حتى لا تتشعب بها السبل، فتضل في متاهات الأهواء والفتن.

وقد وفَّق الله سبحانه وتعالى عددًا من مشايخنا وعلمائنا ونفرًا من طلبة العلم المخلصين إلى الاهتمام بهذا الموضوع العظيم تدريسًا وتحقيقًا وتأليفًا وكان منهم:

صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور محمد بن خليفة التميمي كتابه الكبير الماتع: "حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة".

وقد انتقيت من هذا الكتاب النفيس البحث الذي يتعلق "بوجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباع سنته" رغبت إفراده بالنشر لما حواه من فوائد عظيمة وتحقيق بديع وسميته: "حث الأتباع على تجريد الاتباع" رجاء أن ينفع الله به عموم المسلمين؛ لأن من حقه صلى الله عليه وسلم على أمته الإيمان به، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم هو: تصديقه وطاعته واتباع شريعته، وهذا يعني الانقياد له صلى الله عليه وسلم، وذلك بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والالتزام بسنته المطهرة والاعتقاد الجازم أن طاعته طاعة الله جل ثناؤه وأن معصيته صلى الله عليه وسلم معصيته الله سبحانه لأنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بين الله وبين الثقلين في تبليغ رسالته جل جلاله.

وسيأتي بيان ذلك في هذا البحث بإذن الله تعالى.

(1)

رواه الترمذي.

ص: 10

وأسأل الله أن يجزي صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور محمد بن خليفة التميمي على هذا الجهد المبارك، وأن يمتعه بالصحة والعافية، ويبارك له في عمره وعلمه وعمله.

كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، مقربًا إليه نافعًا لعباده، إنه سميع مجيب.

وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

كتبه

الفقير إلى عفو ربه ورحمته

عبد الجبار بن عبد العظيم بن محمد آل ماجد

غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين

[email protected]

ص: 11

‌مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتمَّ علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالدين القيم، والملة الحنيفية، وجعله على شريعة من الأمر، أمر باتباعها، وأمره بأن يقول:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.

وبعد: فإن الله عز وجل لم يخلق الخلق عبثًا، قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون].

بل خلقهم لغاية ذكرها في كتابه الكريم في أكثر من موضع، فقال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].

وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات].

فالحكمة من خلقه للخلق اختبارهم وابتلاؤهم ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

فهذه هي الحكمة من خلقهم أولًا وبعثهم ثانيًا. ولذلك لم يتركهم هملًا، بل أرسل إليهم رسله، فكان من سنة الله تبارك وتعالى مواترة الرسل وتعميم الخلق بهم، بحيث يبعث في كل أمة رسولًا ليقيم هداه وحجته كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ

ص: 13

وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر]، وقال تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44]، وقال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء]. فالرسل هم الواسطة بين الله عز وجل وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، وإرشاد العباد إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم.

وإن الله تبارك وتعالى جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأرسله للناس أجمعين، وأكمل له ولأمته الدين، وبعثه على حين فترة من الرسل وظهور الكفر وانطماس السبل، فأحيا به ما درس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الشرك والكفر من عبدة الأوثان والنيران والصلبان، وأذل به كفار أهل الكتاب، وأهل الشرك والارتياب، وأقام به منار دينه الذي ارتضاه، وشاد به ذكر من اجتباه من عباده واصطفاه.

فالله سبحانه وتعالى أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم للناس رحمة، وأنعم به نعمة يا لها من نعمة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء].

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] وهم الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإرساله أعظم نعمة أنعم الله به على عباده.

فقد جمع الله لهذه الأمة بخاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين ما فرقه في غيرهم من الفضائل، وزادهم من فضله أنواع الفواضل، بل أتاهم كفلين من رحمته، كما قال تعالى في سورة الحديد:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} .

وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أجَلَكم - في أجل من خلا من الأمم - ما بين

ص: 14

صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالًا فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟، فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟، فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟، ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء، قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أعطيه من شئت"

(1)

.

"وقد خصَّ الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بخصائص ميزه الله بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجًا - أفضل شرعة وأكمل منهاج مبين - كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة خيرها وأكرمها على الله

(2)

من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم وجعلهم وسطًا عدلًا خيارًا، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، فأخرجهم بذلك من الظلمات إلى النور، فحصل لهم ببركة رسالته ويمن سفارته خير الدنيا والآخرة.

فلقد هدى الله الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من

(1)

أخرجه بهذا اللفظ البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. فتح الباري (6/ 495 - 496)(ح 3459).

(2)

انظر في هذا الموضوع وأدلته: المبحث الثالث من الفصل الأول من الباب الثالث.

ص: 15

البينات والهدى هداية جلَّت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين به عمومًا، ولأولي العلم منهم خصوصًا من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علمًا وعملًا - الخالصة من كل شوب - إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتا تفاوتًا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فلله الحمد والمنة كما يحب ربنا ويرضى"

(1)

.

فهو المبعوث بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فكمل الله به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء، وأوضح بها المحجة البيضاء، فبين عن طريقه صلى الله عليه وسلم الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقين من الفجار، فهو المبعوث رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين.

ولقد نوَّه الله عز وجل في كتابه الكريم بهذه النعمة العظمى التي امتن بها على هذه الأمة في آيات كثيرة منها:

قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164][آل عمران].

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة].

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 3).

ص: 16

وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة].

وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة].

وإنما كان إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أعظم منة امتن بها على عباده لأن في ذلك تخليص من وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي، وذلك بسبب الإيمان بالله ورسوله، والابتعاد عن كل ما يوجب دخول النار والخلود فيها.

ولذلك فإن الناس أحوج ما يكونون إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به من الدين، فهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب بل ومن نفس الهواء الذي يتنفسونه، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته كما قال تعالى:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل]؛ أي: كذب به وتولى عن طاعته، فهم محتاجون إلى الإيمان بالرسول وطاعته والأخذ بما جاء به والالتزام بذلك في كل مكان وزمان ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، سرًا وعلانية.

ولما كانت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه بهذه المرتبة وكانت حاجة الناس إليه بهذه الدرجة، فقد أوجب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة جملة من الحقوق والواجبات تنظم العلاقة التي تربطهم به تنظيفًا دقيقًا لا لبس في ولا اشتباه.

وهذه الحقوق منها ما يتصل بجانب الرسالة التي بعث بها، ومنها ما يتعلق بخاصة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم تفضيلًا وتكريمًا من الله له.

ص: 17

وقد وردت في شأن تلك الحقوق نصوص كثيرة في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، وضحت وفصلت وبينت جوانب تلك الحقوق.

وهذه الحقوق في جملتها هي الأصل الثاني من أصلي الدين كما يدل عليه قولنا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله".

ولذا فقد كان لزامًا على كل من ينطق بهذه الشهادة، ويدين الله بهذا الدين، أن يحيط بتلك الحقوق معرفة، ويلتزم بها اعتقادًا وقولًا وعملًا، فذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يحصل إيمان العبد إلا به.

ومما يؤسف له أن كثيرًا من المسلمين اليوم هم على درجة كبيرة من الجهل بهذه الحقوق، فتراهم لذلك على طرفي نقيض هذا المقام:

- فإما مقصِّر عن القيام بهذه الحقوق التي أوجبها الله على الأمة، فتراه لا يقيم لها وزنًا ولا يلقي لها بالًا.

- وإما غال مبتدع منكب على ما ابتدعه، يظن أنه بما يفعله من أمور مبتدعة في هذا المقام قد أحسن صنعًا، وأنه مؤد لما أوجبه الله من حق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكلا الطرفين صاحب حال مذموم غير محمود.

فلما كان عامة أصحاب هذين الطرفين إنما أوقعهم فيما هم فيه، جهلهم بمعرفة تلك الحقوق على الوجه المطلوب شرعًا.

ولما كانت هذه الحقوق هي من جملة هذا الدين الذي تعبدنا الله به، فكان لا بد فيها من توفر شرطي القبول:

1 -

الإخلاص.

2 -

الصواب (الاتباع).

كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف].

فقد أحببت أن أوضح تلك الحقوق النبوية وفق ما جاءت بذلك النصوص الشرعية، وما كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، عسى أن

ص: 18

يكون في هذا البيان والتوضيح تعليم للجاهل، وتذكير للغافل، وتحذير وردع للمبتدع، ومدارسة للعارف.

فأسأل الله عز وجل التوفيق والرشاد، وأن يرزقنا التمسك بسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم والسير على هديه والتأسي به، وأن يشرح لذلك صدورنا وينير قلوبنا، إنه جواد كريم وعلى كل شيء قدير.

* * *

ص: 19

‌الفصل الأول: وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

وفيه ستة مباحث:

المبحث الأول: تعريف الإيمان وبيان معنى شهادة أن محمدًا رسول الله.

المبحث الثاني: وجوب الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم.

المبحث الثالث: وجوب الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم.

المبحث الرابع: وجوب الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.

المبحث الخمس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة وأكملها.

المبحث السادس: وجوب الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم.

ص: 21

‌المبحث الأول: تعريف الإيمان وبيان معنى شهادة أن محمدا رسول الله

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: تعريف الإيمان عمومًا.

المطلب الثاني: تعريف الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثالث: معنى شهادة أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المطلب الرابع: نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 23

‌المطلب الأول: تعريف الإيمان عمومًا

‌أ - المعنى اللغوي لكلمة "آمن ":

الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانًا، فهو مؤمن.

أ - ويرى جمعٌ من أهل اللغة: أن الإيمان في اللغة معناه: التصديق وقد حكوا الإجماع على ذلك قال الأزهري

(1)

: "واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه التصديق"

(2)

.

واستدلوا لذلك بقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} فقالوا معناه ما أنت بمصدق لنا.

2 -

أما علماء السلف

(3)

فيقولون: إن الإيمان يأتي في اللغة لمعنيين هما:

أ - بمعنى صدَّق به، وذلك إذا عدي بالباء كما في قوله تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ

} [البقرة: 285]؛ أي صدق الرسول

(4)

.

(1)

هو: محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي أبو منصور: أحد الأئمة في اللغة والأدب ولد سنة 282 هـ وتوفي سنة 370 هـ وهو صاحب كتاب تهذيب اللغة. انظر الأعلام للزركلي (5/ 311).

(2)

تهذيب اللغة (5/ 513)، لسان العرب لابن منظور، مادة:(آمن)(13/ 23).

(3)

شرح العقيدة الأصفهانية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 143).

(4)

تفسير القرطبي (3/ 425).

ص: 25

ب - وبمعنى أقر له وذلك إذا عدي باللام كما في قوله تعالى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف]، وقوله تعالى {فَآمَنَ لَهُ لُوط} [العنكبوت: 26].

وقد اعترض السلف على حصر أهل اللغة لمعنى الإيمان بالتصديق فقط وقالوا: "إن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار

(1)

والطمأنينة أيضا"

(2)

واستدل السلف لقولهم بالأمور التالية:

أولا: إن الترادف التام ممتنع بين التصديق والإيمان من عدة وجوه، يوضحها الجدول التالي

الإيمان

التصديق

- إن كلمة آمن تتعدى بالباء وباللام وقد تقدم التمثيل لذلك

أما كلمة "صدق" فلا تتعدى باللام فلا يقال "صدق له" إنما يقال "صدق به" فهي تتعدى بالباء وبنفسها فيقال صدقه

- إن كلمة "آمن" تتضمن ثلاثة معان هي: الأمن، والتصديق، والأمانة

أما كلمة صدق فلا تتضمن معنى الأمن والأمانة.

- إن لفظ الإيمان لا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب لأن فيه أصل معنى الأمن والائتمان وهذا إنما يكون في الخبر عن الغائب، فلا يقال لمن قال طلعت الشمس آمنا له وإنما يقال صدقناه ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في الخبر عن الغائب

أما لفظ "التصديق" فيستعمل في كل مخبر عن مشاهد أو غيب، فمن قال السماء فوقنا، قيل له: صدقت

(1)

الإقرار: متضمن لمعنيين هما: قول القلب الذي هو التصديق. وعمل القلب الذي هو الانقياد. مجموع الفتاوى (7/ 638 - 639).

(2)

الصارم المسلول لابن تيمية (ص 519).

ص: 26

الإيمان

التصديق

- إن لفظ الإيمان ضده الكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب فقط بل هو أعم منه، إذ يمكن أن يكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب ومع ذلك يسمى كفرا كما لو قال شخص: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك، فهذا كفر أعظم

أما لفظ التصديق ضده التكذيب فقط.

وبهذا يتبين عدم الترداف التام بين اللفظين، وأن الإيمان ليس التصديق فقط

(1)

كما أن الكفر ليس التكذيب فقط.

ثانيا: من المعلوم أن كلام الله وشرعه إنما هو خبر وأمر.

فالخبر: يستوجب تصديق الخبر.

والأمر: يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب، جماعه: الخضوع والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به.

فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو "الطمأنينة والإقرار" فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد. فلو فُسِّر الإيمان بالتصديق فقط، كما قال أهل اللغة، فإن التصديق إنما يعرض للجزء الأول من الشرع فقط الذي هو الخبر، ولا يعرض للجزء الثاني وهو الأمر، لأن الأمر ليس فيه تصديق من حيث هو أمر.

ومن المعلوم أن إبليس لم يكفر بسبب عدم تصديقه، فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولا، ولكن لم ينقد للأمر ولم يخضع له، واستكبر عن الطاعة فصار كافرا، قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ

(1)

انظر شرح العقيدة الطحاوية (ص 380 - 381).

ص: 27

الْكَافِرِينَ} [البقرة]، فسماه الله كافرًا وسلب عنه وصف الإيمان لاستكباره وعدم انقياده لأمر الله له بالسجود لآدم.

‌لازم القول بأن الإيمان مجرد التصديق فقط:

وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق، ثم يرون مثل إبليس وفرعون مما لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب وكفره من أغلظ الكفر فيتحيرون.

ومثل هؤلاء القوم لو أنهم هُدوا لما هُدي إليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قول وعمل؛ أعني: في الأصل قولًا في القلب، وعملًا في القلب، فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته - وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره - فيصدِّق القلب أخباره تصديقًا يوجب حالًا في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو من نوع العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمنًا إلا بمجموع الأمرين، فمتى ترك الانقياد كان مستكبرًا فصار من الكافرين وإن كان مصدِّقًا، لأن الكفر أعم من التكذيب، فالكفر يكون تكذيبًا وجهلًا، ويكون استكبارا وظلما، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب، ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس، وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالا وهو "الجهل" ألا ترى أن نفرا من اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء، فأخبرهم، فقالوا: نشهد أنك نبي، ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق.

ألا ترى أن من صدَّق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله، وقد تضمنت خبرًا وأمرا، فإنه يحتاج إلى مقام ثان، وهو تصديق خبر الله وانقياده لأمر الله، فإذا قال:"أشهد أن لا إله إلا الله" فهذه الشهادة

ص: 28

تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره. "وأشهد أن محمدًا رسول الله" تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله.

فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار.

فلما كان التصديق لا بد منه في كلا الشهادتين - وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول - ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان وغفل عن أن الأصل الآخر لا بد منه وهو الانقياد، وإلا فقد يصدق الرسول، ظاهرا وباطنا ثم يمتنع من الانقياد للأمر، إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه كإبليس"

(1)

.

ثالثًا: ما استدل به أهل اللغة على أن معنى الإيمان في قوله تعالى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف] هو التصديق غير مسلم.

إذ يرى علماء السلف أن تفسيرها بـ "أقررت" أقرب من تفسيرها بـ "صدقت" وذلك لأن لفظ "آمن" متى عُدّي باللام يكون بمعنى "أقر" وليس بمعنى "صدق"، إذ لا يكون بمعنى صدق إلا إذا عُدّي بالباء أو بنفسه.

‌ب - المعنى الشرعي للإيمان:

تنوعت عبارات السلف في تعريف الإيمان:

أ - فتارة يقولون: الإيمان قول وعمل.

2 -

وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية.

3 -

وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية واتباع سُنَّة

(2)

.

(1)

الصارم المسلول (ص 519 - 520) بتصرف.

(2)

هذه التعريفات الثلاثة أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الايمان. انظر (ص 162).

ص: 29

4 -

وتارة يقولون: الإيمان: قول اللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

بعد أن أورد التعريفات الثلاثة الأول: "وكل هذا صحيح"

(3)

وعلل ذلك بقوله

(4)

:

"فمن قال: إن الإيمان قول وعمل، فمرداه قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح".

وقول اللسان وعمل الجوارح معروفان.

وأما المقصود من قول القلب: فهو إقراره ومعرفته وتصديقه.

وأما عمله: فهو انقياده لما صدق به.

ومن عبَّر عن الإيمان بهذا التعريف ليس مراده كل قول أو عمل، وإنما المراد ما كان مشروعًا من الأقوال والأعمال.

كما أن تعبير بعض السلف بهذه العبارة في تعريف الإيمان إنما جاء في معرض الرد على المرجئة

(5)

الذين جعلوه قولًا فقط، فقال بعض

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 642).

(2)

هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن تيمية النميري، الحرّاني الدمشقي، ولد سنة إحدى وستين وستمائة (661 هـ) بحران، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (728 هـ) بدمشق، اشتهر رحمه الله بالعلم والزهد والورع والعبادة والجهاد والدفاع عن عقيدة السلف وقد ألف في سيرته المؤلفات الكثيرة.

انظر كتاب: الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، تأليف مرعي بن يوسف الحنبلي.

(3)

كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 162).

(4)

كلام شيخ الإسلام نقلته بتصرف من كتابه الايمان (ص 162 - 163).

(5)

المرجئة: هم الذين أرجؤوا العمل عن مسمى الإيمان، وهم خمس طوائف سيأتي ذكرهم.

ص: 30

السلف ردا عليهم: بل قول وعمل

(1)

.

وأما من عرَّفه بقوله: هو قول وعمل ونية، فمقصوده بزيادة لفظ "ونية": أن القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان.

وأما العمل فقد لا يفهم منه النية، فزاد ذلك

(2)

.

وأما من عرَّفه بأنه قول وعمل ونية واتباع سنة، فقد زاد لفظة:"واتباع سنة" لأن ذلك كله لا يكون محبوبا لله إلا باتباع السنة

(3)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد سئل سهل بن عبد الله التستري

(4)

عن الإيمان ما هو؟، فقال: قول وعمل ونية واتباع سنة".

(1)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الناس لهم في مسمَّى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال:

1 -

فالذي عليه السلف والفقهاء والجمهور أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعًا.

2 -

وقيل: بل مسماه اللفظ، والمعنى ليس جزء مسماه بل هو مدلول مسماه، وهذا قول كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وطائفة من المنتسبين إلى السنة، وهو قول النحاة لأن صناعتهم متعلقة بالألفاظ.

3 -

وقيل: مسمَّاه هو المعنى وإطلاق الكلام على اللفظ مجاز لأنه دال عليه وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.

4 -

وقيل: "بل هو مشترك بين اللفظ والمعنى، وهو قول بعض المتأخرين من الكلابية ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين" كتاب الإيمان (ص 162).

(2)

كتاب الإيمان (ص 163).

(3)

المصدر السابق (ص 163).

(4)

هو: سهل بن عبد الله بن يونس التستري، أبو محمد: ولد سنة (200 هـ) وتوفي سنة (283 هـ)، عامة كلامه في تصفية الأعمال من المعائب، وأسند الحديث وأسند عنه. شذرات الذهب (3/ 182)، والأعلام (3/ 143).

ص: 31

لأن الإيمان إذا كان قولا بلا عمل فهو كفر.

وإذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق.

وإذا كان قولا وعملا ونية بلا سنة فهو بدعة

(1)

.

وأجمع التعاريف الواردة وأشملها هو: أن الإيمان قول اللسان واعتقاد بالجنان وعمل الجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

وهذا التعريف هو الذي يميز قول السلف في مسمَّى الإيمان عن قول غيرهم من الفرق

(2)

ولهذا كان هذا التعريف هو أجمع التعاريف الواردة عن السلف وأكثرها دقة في بيان قولهم.

(1)

كتاب الإيمان (ص 163).

(2)

الذين خالفوا السلف في مسمى الإيمان هم:

أ - المرجئة بطوائفهم الخمس:

1 -

الجهمية: وقالوا: الإيمان هو معرفة القلب فقط؛ أي: المعرفة الفطرية التي هي المعرفة بربوبية الله

2 -

الأشاعرة: وقالوا: الإيمان هو التصديق فقط؛ أي: التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله.

3 -

الماتريدية: وقولهم في الإيمان مثل قول الأشاعرة.

4 -

الكرامية: قالوا: الإيمان قول باللسان فقط.

5 -

مرجئة الأحناف (أو مرجئة الفقهاء): قالوا: الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وهو قول الكلابية وكل هذه الطوائف الخمسة أخرجت العمل عن الإيمان.

ب - الخوارج: قالوا: الإيمان قول واعتقاد وعمل، ولكنهم يكفرون من أخل بشيء من هذه الثلاثة ويقولون بأنه كافر في الدنيا وفي الآخرة خالد في النار.

ج - المعتزلة: وقالوا بقول الخوارج إلا أنهم يقولون: إنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين بمعنى أنه ليس بمؤمن ولا كافر واتفقوا معهم في باقي الأمور.

انظر تفاصيل هذه الأقوال: في كتاب الإيمان لابن تيمية، والجزء السابع من مجموع الفتاوى وشرح العقيدة الطحاوية (ص 373 - 392) وكتاب النبوات (ص 199).

ص: 32

‌ج - دلالة اسم الإيمان:

تتحدد دلالة اسم "الإيمان" بحسب سياق الكلام الذي تستعمل فيه هذه اللفظة فلفظ "الإيمان" إما أن يستعمل:

1 -

مطلقًا: أي يذكر مطلقًا عن لفظ "العمل" و"الإسلام".

2 -

أو مقيدًا: فتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام.

فإذا استعمل مطلقًا: "فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة - من الصحابة والتابعين وتابعيهم - الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات - فرضها ونفلها - في مسماه"

(1)

.

ويلاحظ هنا أن لفظ "الإيمان" على هذا الاستعمال يكون مرادفًا للفظ "العبادة" والعبادة كما هو معروف هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.

ومن استعمال الشارع للفظ الإيمان بهذا المعنى ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة

(2)

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 642).

(2)

أبو هريرة بن عامر: واختلف في اسمه إلى عدة أقوال: منها أنه عبد الرحمن، وهو دوسي أسلم عام خيبر وشهدها ثم لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله إليه، وكان من أحفظ الصحابة رضي الله عنهم، توفي عام 57 هـ. أسد الغابة (2/ 167).

(3)

أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أمور الدين.

انظر: فتح الباري (1/ 51) ح 9 وأخرجه مسلم - واللفظ له - كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان (1/ 46).

ص: 33

فالإيمان في هذا الحديث شمل جميع أمور الدين بما في ذلك أمور الإسلام. ومن هذا الاستعمال أيضا ما جاء في حديث عبد الله بن عباس

(1)

رضي الله عنهما: أن وفد عبد القيس

(2)

لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: "أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم خمس

" الحديث

(3)

.

فلفظ الإيمان استعمل في الحديث مطلقًا فدخل فيه الأمور الظاهرة مع أنها من أمور الإسلام كما جاء في حديث جبريل المشهور.

وأما إذا استعمل اسم الإيمان مقيدا كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]، وقوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: "الإيمان أن تؤمن بالله

(1)

عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي - ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات في الشعب أثناء الحصار، وكان رضي الله عنه ترجمان القرآن وحبر الأمة لعلمه وفهمه، توفي سنة 84 هـ.

الإصابة (6/ 167 - 173).

(2)

هي قبيلة كبيرة كانوا يسكنون البحرين ينسبون إلى عبد القيس بن أفْصى - بسكون الفاء بعدها مهملة بوزن أعمى - ابن دُعمِيّ - بضم ثم سكون المهملة وكسر الميم بعدها تحتانية ثقيلة - ابن جَديلة - بالجيم وزن كبيرة - ابن أسد بن ربيعة بن نزار. انظر: فتح الباري (8/ 85).

(3)

أخرجه البخارى في صحيحه واللفظ له: كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان. انظر: فتح الباري (1/ 129) ح 53، وأخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه (1/ 35 - 36).

ص: 34

وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره"

(1)

.

فهنا قد يقال: إنه متناول لذلك، وإن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى:{وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، وقوله:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم} الآية [الأحزاب: 7].

وقد يقال: إن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كانا صنفين: كما في آية الصدقة، ولا ريب أن فروع الإيمان مع أصوله كالمعطوفين، وهي مع جميعه كالبعض مع الكل

(2)

.

قلت: إن القول بأن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام ينطبق على الآية وهي قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [فصلت: 8]، وقوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس].

والقول بأن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران ينطبق على حديث جبريل حيث ذكر الإسلام والإيمان فأصبح كل واحد منهما يختص بأمور معينة فالإسلام اختص بالأمور الظاهرية، والإيمان اختص بالأمور الاعتقادية الباطنية.

"فلفظ الإسلام والإيمان إذا أُفرد كل واحد من الاسمين دخل في مسمى الآخر إما تضمنا وإما لزوما، ودخوله فيه تضمنا أظهر، وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند انفراد الآخر، وهذه قاعدة جليلة من أحاط بها زالت عنه إشكالات

(1)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله (1/ 29). والحديث أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل بلفظ:"الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث". انظر: فتح الباري (1/ 114)، ح 50.

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 647 - 648).

ص: 35

كثيرة أشكلت على كثير من الناس"

(1)

.

‌خلاصة القول:

إن اسم الإيمان إذا أُفرد: تناول جميع أمور الدين الظاهرة والباطنة كما في حديث الشعب.

وإذا اقترن اسم الإيمان مع الإسلام دل الإيمان على الأمور الباطنة ودل الإسلام على أمور الدين الظاهرة كما في حديث جبريل.

وإذا اقترن العمل مع الإيمان: فهو من باب عطف الخاص على العام

(2)

كما في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البروج: 11].

(1)

كتاب: زاد المهاجر إلى ربه (الرسالة التبوكية) بتصرف.

(2)

قال شارح الطحاوية: "اعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب:

1 -

أعلاها: أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزءا منه، ولا بينهما تلازم، كقوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، وقال تعالى:{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران]، وهذا هو الغالب.

2 -

ويليه: أن يكون منهما تلازم، كقوله تعالى:{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة]، وقال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92].

3 -

الثالث: عطف بعض الشيء عليه كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وقال تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال} [البقرة: 98] وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك} [الأحزاب: 7]، وفى مثل هذا وجهان: أحدهما: أن يكون داخلا في الأول، فيكون مذكورا مرتين. والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلا فيه هنا وإن كان داخلا فيه منفردًا كما قيل في لفظ "الفقراء والمساكين" ونحوهما، تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران.

4 -

الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله تعالى:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]. شرح العقيدة الطحاوية (ص 387 - 388).

ص: 36

‌المطلب الثاني: تعريف الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

" الإيمان بالرسول: هو تصديقه وطاعته واتباع شريعته"

(1)

.

وهذه الأمور هي الركائز التي يقوم عليها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وعن بيان هذه الأمور مطلوبة عند الإيمان به بالنبي صلى الله عليه وسلم.

قال العلماء:

‌أ - أما تصديقه صلى الله عليه وسلم فيتعلق به أمران عظيمان:

أحدهما: إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله، وهذا مختص به صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ويندرج تحت هذا الإثبات والتصديق عدة أمور منها:

1 -

الإيمان بعموم رسالته إلى كافة الثقلين إنسهم وجنَّهم.

2 -

الإيمان بكونه خاتم النبيين، ورسالته خاتمة الرسالات.

3 -

الإيمان بكون رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع.

4 -

الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة وأكملها، وأدى الأمانة ونصح لأمته حتى تركهم على البيضاء ليلها كنهارها.

5 -

الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم.

6 -

الإيمان بما له من حقوق خلاف ما تقدم ذكره؛ كمحبته

(1)

كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (ص 92).

(2)

مجموع الفتاوى (15/ 91).

ص: 37

وتعظيمه صلى الله عليه وسلم. وسيأتي تفصيل الأمور الخمسة المتقدمة بأدلتها في المباحث اللاحقة من هذا الفصل بإذن الله تعالى.

أما الحقوق الأخرى الواجبة له فسيأتي تفصيلها في الأبواب القادمة إن شاء الله تعالى.

الثاني: "تصديقه فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب اتباعه. وهذا يجب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل أحد"

(1)

.

فيجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما أخبر به عن الله عز وجل، من أنباء ما قد سبق وأخبار ما سيأتي، وفيما أحل من حلال وحرّم من حرام، والإيمان بأن ذلك كله من عند الله عز وجل، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم].

قال شارح "العقيدة الطحاوية: "يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانا كاملا، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على التفصيل فرض على الكفاية"

(2)

.

‌ب - طاعته واتباع شريعته:

إن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم كما يتضمن تصديقه فيما جاء به فهو يتضمن كذلك العزم على العمل بما جاء به وهذه هي الركيزة الثانية من ركائز الإيمان به صلى الله عليه وسلم.

وهي تعني: الانقياد له صلى الله عليه وسلم وذلك بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وزجر امتثالا لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر]. فيجب على الخلق اتباع شريعته والالتزام بسنته مع الرضا بما قضاه والتسليمله، والاعتقاد الجازم أن طاعته هي طاعة لله وأن معصيته معصية لله، لأنه هو الواسطةبين الله وبين الثقلين في التبليغ.

(1)

مجموع الفتاوى (15/ 91).

(2)

شرح العقيدة الطحاوية (ص 66).

ص: 38

وسيأتي بيان هذه المسألة في الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يجب على الخلق الإقرار

(1)

بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة وتفصيلا عند العلم بالتفصيل، فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة"

(2)

.

* * *

(1)

يقول ابن تيمية في بيان معنى الإقرار: "إن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق وعمل القلب الذي هو الانقياد".

مجموع الفتاوى (7/ 638، 639).

(2)

مجموع الفتاوى (5/ 154).

ص: 39

‌المطلب الثالث: معنى شهادة أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشروط ومراتب الشهادتين

‌أ - معناها:

" معنى شهادة أن محمدًا رسول الله: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع"

(1)

.

وهذه الشهادة هي الشطر الثاني من الركن الأول من أركان الإسلام الخمسة، كما أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم داخل في الركن الرابع من أركان الإيمان الستة، ويشهد لذلك حديث جبريل المشهور. ويلاحظ أننا عرّفنا الشهادة والإيمان به بتعريف واحد، وهذا الأمر يصح في حالة الإفراد كما سبق وأن ذكرت في لفظ الإسلام والإيمان، أما في حالة الاقتران فالإيمان به يختص بتصديق القلب وإقراره، والشهادة يراد بها نطق اللسان واعترافه، ويجب تحقيق هذه الشهادة معرفة وإقرارا وانقيادا وطاعة

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الإيمان بالرسول فهو المهم، إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله سبحانه، ولهذا كان ركنا الإسلام: "أشهد أن

(1)

الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 9) ضمن مجموعة الرسائل المفيدة.

(2)

زاد المعاد (1/ 34).

ص: 40

لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"

(1)

.

‌ب - شروط الشهادتين:

بعد ذكر معنى "شهادة أن محمدا رسول الله" ناسب المقام أن نشير ههنا إلى شروط هذه الشهادة بشقيها؛ لأننا في زمان يجهل فيه كثير من الناس هذه الشروط، إذ يعتقد كثير منهم لجهلهم أن التلفظ وحده يكفي لتحقيق الشهادة ويستغنون بهذا عن العمل بالمقتضى المترتب على هذه الشهادة.

وتصويبًا لهذا الخطأ وإزالة لهذا الجهل أقول: إنه من المعلوم أن العبد لا يدخل في دين الإسلام إلا بعد الإتيان بالشهادتين "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله".

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 15].

وقال صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"

(2)

.

ومن المعلوم كذلك أن جميع الدين داخل في الشهادتين إذ مضمونهما أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ونطيعه فيما جاء به عن ربه سبحانه وتعالى، والدين كله داخل في هذا.

ولهاتين الشهادتين شروط لا بد من توفرها فيهما، إذ لا يمكن لقائلهما أن ينتفع بهما إلا بعد اجتماعها فيهما، وهذه الشروط مطلوبة في

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 638، 639).

(2)

أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/ 250)، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/ 38).

ص: 41

كلا الشهادتين، وذلك لما بينهما من التلازم، فالعبد لا يدخل في الدين إلا بهما معا.

وهي سبعة شروط:

‌الشرط الأول: العلم:

إذ العلم بالشيء شرط عند الشهادة به ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف].

ومن الأدلة على وجوب العلم بالشهادة قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة"

(1)

. والعلم المراد به هنا هو معرفة معنى الشهادتين ومقتضاهما واللوازم المترتبة على ذلك.

فلا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله.

ومقتضاها ولازمها: نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله تعالى وإفراده بالعبادة مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به

(2)

.

ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله: الإقرار والاعتراف للرسول صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة

(3)

.

ومقتضاها ولازمها: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع.

‌الشرط الثاني: اليقين:

أي: استيقان القلب بالشهادتين، وذلك بأن يعتقدهما اعتقادا جازما لا يصاحبه شك أو ارتياب، لأن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار. انظر (1/ 41).

(2)

تيسير العزيز الحميد (ص 58).

(3)

دليل المسلم في الاعتقاد للشيخ عبد الله خياط (ص 45).

ص: 42

لا علم الظن، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستقينا بها قلبه فبشره بالجنة" الحديث

(1)

. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة"

(2)

.

‌الشرط الثالث: الإخلاص:

" وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك"

(3)

.

قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [البينة: 5]. وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]؛ "أي لا يقبل الله من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له".

وقال قتادة

(4)

في قوله تبارك وتعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} شهادة أن لا إله إلا الله"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 44).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 41 - 42).

(3)

معارج القبول للشيخ حافظ بن أحمد حكمي (1/ 382).

(4)

قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري، ولد سنة 61 هـ وتوفي سنة 118 هـ ثقة ثبت، مفسر حافظ ضرير أكمه. قال عنه الإمام أحمد: قتادة أحفظ أهل البصرة.

انظر: تهذيب التهذيب (8/ 351) وتذكرة الحفاظ (1/ 115).

(5)

تفسير ابن كثير (4/ 45).

ص: 43

وعن عتبان بن مالك

(1)

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه"

(3)

.

‌الشرط الرابع: "الصدق فيها المنافي للكذب. وهو أن يقولها صدقا من قلبه يواطيء قلبه لسانه"

(4)

.

قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت]، "أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة"

(5)

.

وعن أنس بن مالك

(6)

رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ

(7)

رديفه على

(1)

عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري الخزرجي السالمي، صحابي من البدريين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عمر، مات في خلافة معاوية وقد كبر. الإصابة (2/ 445) رقم 5318.

(2)

أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، انظر: فتح الباري (1/ 519) ح 425، ومسلم في صحيحه كتاب الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر (2/ 126).

(3)

أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، انظر: فتح الباري (11/ 418) ح 6570.

(4)

معارج القبول (1/ 381).

(5)

تفسير ابن كثير (3/ 404).

(6)

أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم النجاري الخزرجي الأنصاري أبو حمزة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد المكثرين من الرواية عنه، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة توفي سنة 93 هـ.

(7)

معاذ بن جبل الأنصاري: أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار، وقد شهد بعد ذلك المشاهد كلها، كان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، توفي =

ص: 44

الرحل - قال: "يا معاذ بن جبل" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "يا معاذ" قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا. قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار" الحديث

(1)

.

‌الشرط الخامس: المحبة:

" لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها والعاملين بها الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك"

(2)

.

قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة]، ففي الآية دليل على وجوب محبة الله ورسوله ولا خلاف في ذلك بين الأمة وأن ذلك مقدم على كل محبوب

(3)

.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} الآية [البقرة: 165].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية [المائدة: 54].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه

= سنة 17 هـ في طاعون عمواس بالشام. الإصابة (3/ 406، 407) رقم 8039.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحها واللفظ له، كتاب العلم باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا. انظر فتح الباري (1/ 226) ح 128.

وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 43).

(2)

معارج القبول (1/ 383).

(3)

تفسير القرطبي (8/ 95).

ص: 45

وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"

(1)

.

‌الشرط السادس: الانقياد:

أي: الانقياد والاستسلام ظاهرًا وباطنًا لأوامر الله وما أنزله من الشرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم

قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان].

ففي هذه الآية: "يقول تعالى مخبرًا عمن أسلم وجهه لله؛ أي: أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه، ولهذا قال: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}، أي في عمله: باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}؛ أي: فقد أخذ موثقًا من الله متينا أنه لا يعذبه {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} "

(2)

.

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب]. والآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول كما قال تبارك وتعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء]

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان. انظر: فتح الباري (1/ 72) ح 21. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، واللفظ له. انظر: (1/ 48).

(2)

تفسير ابن كثير (3/ 450).

(3)

تفسير ابن كثير (3/ 490).

ص: 46

‌الشرط السابع: القبول:

أي قبول الشهادتين والالتزام بمقتضياتها ولوازمها.

قال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة]، وقال تعالى في شأن من لم يقبلها:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات].

وعن أبي موسى الأشعري

(1)

رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية

(2)

قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب

(3)

أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان

(4)

لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"

(5)

.

(1)

واسم أبي موسى: عبد الله بن قيس بن سليم من بني الأشعر من قحطان، صحابي أسلم بمكة ثم رجع إلى اليمن وقدم مع الأشعريين وكان حسن الصوت بالقرآن، وكان من الشجعان الولاة الفاتحين، توفي بالكوفة سنة 44 هـ، وقيل غير ذلك. الإصابة (2/ 351) رقم 4899.

(2)

هي مستنقع الماء في الجبال والصخور. فتح الباري (1/ 176).

(3)

هي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء. فتح الباري (1/ 176).

(4)

بكسر القاف - جمع قاع: وهو الأرض المستوية اللمساء التي لا تنبت. فتح الباري (1/ 177).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم: باب فضل من علِم وعلَّم واللفظ له. انظر فتح الباري (1/ 175) ح 79. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم. انظر: (7/ 63).

ص: 47

فهذه هي شروط الشهادتين يجب على المسلم تحقيقها والإتيان بها على الوجه المطلوب حتى يكون من أهلها.

‌ج - مراتب الشهادة:

إذا علم العبد معنى الشهادتين وشروطهما فينبغي له أن يكون على علم بأن للشهادة مراتب يتدرج عليها الشاهد مرتبة بعد مرتبة حتى يتم له تحقيق الشهادة على الوجه المطلوب.

ومراتب الشهادة أربع هي

(1)

:

المرتبة الأولى: العلم والمعرفة والاعتقاد لصحة المشهود به وثبوته، فلا بد للشاهد أن يعلم ويعرف معنى الشهادتين وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به. قال تعالى في سورة الزخرف:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .

المرتبة الثانية: تكلمه بالشهادتين وإن لم يُعلِم بها غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها.

والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف] فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم.

المرتبة الثالثة: أن يُعلِم غيره بما شهد به ويخبره به ويبينه له ومرتبة الإعلام والإخبار نوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل.

وهذا شأن كل مُعلِم لغيره بأمر، تارة يعلمه به بالقول وتارة بفعل ومما يدلعلى أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ

(1)

انظر: كتاب الكواشف الجلية عن معاني الواسطية للشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان من (ص 38 إلى ص 40) بتصرف.

ص: 48

يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} الآية [التوبة: 17]، فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه

(1)

.

المرتبة الرابعة: أن يلتزم بمضمونها ويأتمر به.

ومجرد الشهادة لا يستلزم هذه المرتبة، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه، فإنه سبحانه وتعالى شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده كما قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا} [الإسراء: 23].

وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} الآية [التوبة: 31].

والقرآن كله شاهد بذلك.

وقد شهد الله لنفسه بالوحدانية فقال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فشهادته سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع وهي: علمه بذلك، وتكلمه، وإخباره لخلقه، وإلزامهم وأمرهم به

(2)

.

(1)

الكواشف الجلية (39 - 40) بتصرف.

(2)

المصدر السابق (ص 40) بتصرف.

ص: 49

‌المطلب الرابع: نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

إن مما ينبغي معرفته بعد توضيح معنى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وتبيين شروط الشهادة ومراتبها أن تعرف نواقض هذا الأمر ومبطلاته حتى يحترز المسلم من الوقوع فيها، فعن حذيفة بن اليمان

(1)

رضي الله عنه قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني

" الحديث

(2)

.

وعن عمر بن الخطاب

(3)

رضي الله عنه: "إنما تنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"

(4)

.

ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أعظم هذه الأمة إيمانا لكمال عرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما

(1)

حذيفة بن اليمان العبسي، شهد أحدا وكان من كبار الصحابة وصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفى عام 36 هـ الإصابة (1/ 316، 317)، رقم 1647.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن: باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟، انظر: فتح الباري (3/ 35) ح 7084. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر. انظر: (6/ 20).

(3)

عمر بن الخطاب بن نقيل: ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، كان إسلامه فتحًا على المسلمين، شهد المشاهد كلها، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، ولي الخلافة بعد الصديق واستشهد سنة 23 هـ، قتله أبو لؤلؤة المجوسي. الإصابة (2/ 511، 511) رقم 5738.

(4)

تيسير العزيز الحميد (ص 90).

ص: 50

علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي.

ولمعرفة نواقض الإيمان به صلى الله عليه وسلم نقول:

لما كان الإيمان به صلى الله عليه وسلم؛ يعني: تصديقه وتصديق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، والانقياد له، فإن الطعن في أحد هذين الأمرين ينافي الإيمان ويناقضه فالنواقض على هذا الاعتبار يمكن تقسيمها إلى قسمين:

* القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.

* القسم الثاني: الطعن فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو معلوم من الدين بالضرورة، إما بإنكاره أو بانتقاصه.

‌القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم:

ومما يدخل تحت هذا القسم نسبة أي شيء للرسول عليه الصلاة والسلام مما يتنافى مع اصطفاء الله له لتبليغ دينه إلى عباده، فيكفر كل من طعن في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو أمانته أو عفته أو صلاح عقله ونحو ذلك.

كما يكفر من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرّض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه أو العيب له، فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب يقتل كفرا، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهُجر

(1)

ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو تنقَّصه ببعض العوارض البشرية الجائزة المعهودة لديه"

(2)

.

(1)

الهُجر بالضم: القبيح من الكلام. لسان العرب (5/ 253).

(2)

الشفا للقاضي عياض (2/ 932) بتحقيق علي محمد البجاوي.

ص: 51

فالسَّابُّ إن كان مسلمًا فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.

وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك

(1)

وأهل المدينة وهو مذهب أحمد

(2)

وفقهاء الحديث وهو المنصوص عن الشافعي

(3)

نفسه كما حكاه غير واحد"

(4)

.

وهذا الحكم على الساب والمستهزئ، يستوي فيه الجاد والهازل بدليل قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .

(1)

مالك بن أنس: إمام دار الهجرة، وأحد أئمة أهل السنة المشهورين، وإليه تنسب المالكية له مؤلفات عدة على رأسها (الموطأ) الكتاب المشهور، ولد بالمدينة، وتوفى بها عام 179 هـ. الديباج المذهب (1/ 82 - 135) والبداية (10/ 174).

(2)

أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: الإمام المشهور في الفقه والحديث ونصرة الإسلام، إمام أهل السنة والجماعة أعز الله به السنة وقمع به البدعة وفضائله أكثر من أن تحصر توفي سنة 241 هـ تاريخ بغداد (4/ 412) وطبقات الحنابلة (1/ 4).

(3)

محمد بن إدريس الشافعي الإمام المشهور أحد الأئمة الأربعة، ولد بغزة بفلسطين ثم سافرت به أمه إلى مكة، كان ذكيا فطنا برع في الأدب واللغة ثم أقبل على الحديث والفقه وله مصنفات عدة من أشهرها: الأم والرسالة، توفي بمصر سنة 204 هـ. تاريخ بغداد (2/ 56) والتذكرة (367).

(4)

الصارم المسلول على شاتم الرسول، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 4 و 8) بتصرف.

وقد تعرض شيخ الإسلام لهذه المسائل مفصلة في هذا الكتاب فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه.

ص: 52

وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، (فالسب المقصود بطريق الأولى)، وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جادا أو هازلا فقد كفر.

وقد رُوي عن رجال من أهل العلم منهم ابن عمر

(1)

ومحمد بن كعب

(2)

وزيد بن أسلم

(3)

وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض - أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك

(4)

: كذبت ولكنك رجل منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق.

(1)

عبد الله بن عمر بن الخطاب: ولد بعد البعثة بثلاث سنوات وهاجر وهو ابن عشر سنين، وقد كان من أشد الصحابة تتبعا للسنة ومن أكثرهم عبادة مع زهد وورع توفي عام 84 هـ.

الإصابة (2/ 338 - 341) رقم 4834.

(2)

هو محمد بن كعب بن سليم القرظي المدني، كان أبوه من سبي قريظة، ثقة، عالم، ولد سنة أربعين على الصحيح، ومات سنة 120 هـ وقيل غير ذلك. وقال عنه ابن حبان: كان من أفاضل أهل المدينة علما وفقها. تهذيب التهذيب (9/ 420، 422).

(3)

زيد بن أسلم المدني الفقيه: كان عالمًا بالتفسير وكان له حلقة بالمسجد النبوي توفي عام 136 هـ تهذيب التهذيب (3/ 395).

(4)

عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي الغطفاني: صحابي جليل، شهد مؤتة، وشهد الفتح وكانت معه راية قومه يومئذ وشهد فتح الشام، توفي سنة ثلاث وسبعين بالشام.

تهذيب التهذيب (8/ 168)، والبداية (8/ 346).

ص: 53

قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة

(1)

ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" ما يلتفت إليه، ولا يزيده عليه"

(2)

.

فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه والعلماء من أصحابه واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه، استهزاء فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟

(3)

.

ومن الأدلة على كفر الطاعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} .

واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافرا

(4)

.

وفي هذه الآية قرن الله بين أذى النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه كما قرن في آيات أخر بين طاعته وطاعة نبيه، وفى هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن أذى الرسول فقد أذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منهم طريق غيره ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه فلا يجوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور

(5)

.

(1)

النِّسْعة بكسر فسكون: سير مضفور يجعل زمامًا للبعير. لسان العرب (8/ 352).

(2)

تفسير ابن كثير (2/ 367).

(3)

الصارم المسلول (ص 31 - 33).

(4)

الصارم المسلول (ص 41).

(5)

الصارم المسلول (ص 40 - 41) بتصرف.

ص: 54

ومن الأدلة الواردة في السنة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما

(1)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف

(2)

فإنه قد آذى الله ورسوله"، فقام محمد بن مسلمة

(3)

فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟، قال: "نعم

" الحديث

(4)

. فعلم من هذا الحديث أن من آذى الله ورسوله كان حقه أن يقتل كما قتل كعب بن الأشرف والأدلة من الكتاب والسنة على هذه المسألة كثيرة ولا مجال لاستيعابها هنا.

- الإجماع: وقد أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.

وقال الإمام إسحاق بن راهوية

(5)

أحد الأئمة الأعلام: "أجمع

(1)

جابر بن عبد الله الأنصارى: شهد العقبة الثانية وهو صغير، وشهد المشاهد كلها بعد أحد، وكان من المكثرين الحفاظ. للسنّة، توفي سنة 74 هـ وقيل غير ذلك.

الإصابة (1/ 214) ت رقم 1026.

(2)

كعب بن الأشرف الطائي، من بني نبهان، كانت أمه من بني النضير فدان باليهودية وكان سيدا في أخواله اليهود. أدرك الإسلام ولم يسلم، وأكثر من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتحريض القبائل عليهم وإيذائهم والتشبب بنسائهم. خرج إلى مكة بعد وقعة بدر فندب قتلى قريش فيها، وحض على الأخذ بثأرهم، وعاد إلى المدينة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فانطق إليه نفر من الأنصار، فقتلوه في ظاهر حصنه. تاريخ الطبري (3/ 2).

(3)

محمد بن مسلمة الأنصاري، من فضلاء الصحابة شهد بدرا وما بعدها إلا غزوة تبوك فإنه تخلف بإذن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يقيم في المدينة، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين وقيل غير ذلك. الإصابة (3/ 363، 364) رقم (788).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه - واللفظ له - كتاب المغازي باب قتل كعب بن الأشرف. انظر: فتح الباري (7/ 336) ح 4037، وأخرجه في مواضع أُخر. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد: باب قتل كعب بن الأشرف. انظر: (5/ 184).

(5)

إسحاق بن إبراهيم بن مخلد المعروف بابن راهوية المروزي قال عنه =

ص: 55

المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبيا من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بكل ما أنزل إليه".

وقال الخطابي

(1)

: "لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله". وقال محمد بن سحنون

(2)

: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر"

(3)

.

ومن المعلوم أن‌

‌ سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق:

‌1 - حق الله سبحانه:

من حيث كفر برسوله، وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته.

= الخطيب البغدادي: كان أحد أئمة المسلمين وعَلَمًا من أعلام الدين اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد توفي سنة 238 هـ. تاريخ بغداد (6/ 345).

(1)

أبو سليمان حمد ويقال أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي أحد المشاهير الأعيان، والفقهاء المجتهدين المكثرين، له من المصنفات معالم السنن وشرح البخاري وغير ذلك، توفي بمدينة بست سنة 388 هـ. البداية:(11/ 324).

(2)

محمد بن عبد السلام (سحنون) بن سعيد بن حبيب التنوخى، أبو عبد الله فقيه مالكي، مناظر كثير التصانيف، توفي سنة 256 هـ. الوافي بالوفيات:(3/ 86) والأعلام (6/ 204، 205).

(3)

الصارم المسلول (ص 3 - 4).

ص: 56

‌2 - وتعلق حق جميع المؤمنين:

من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم به، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسفارته فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين.

‌3 - وتعلق حق رسول الله صلى الله عليه وسلم به:

من حيث خصوص نفسه، فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه وعلو قدره قد يكون أعظم عنده من قتله، فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة

"

(1)

.

وبهذا يعلم أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في غيره من الأمور كالكفر والمحاربة.

وبما تقدم ذكره من الأدلة يتضح انتقاض إيمان من طعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بسب أو استهزاء أو انتقاص سواء كان في ذلك جادا أو هازلا.

ويستثنى من ذلك المكره بدليل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} فالآية نزلت في عمار بن ياسر

(2)

حين

(1)

الصارم المسلول (ص 293 - 294).

(2)

عمار بن ياسر حليف بني مخزوم: من السابقين الأولين هو وأبوه وأمه، =

ص: 57

عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فوافقهم على ذلك مكرهًا وجاء معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية، وروى أن مما قاله أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا رسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير، قال: "كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنا بالإيمان، فقال: "إن عادوا فعد" وفي ذلك أنزل الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} ، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى، كما كان بلال

(1)

رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل

"

(2)

.

‌القسم الثاني: من نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم:

الطعن فيما أخبر به الرسول لا - مما هو معلوم من الدين بالضرورة - إما بإنكاره أو انتقاصه.

فإذا اجتمعت الشروط التالية في المنكر وهي:

أ - أن يكون ذلك الأمر المنقض من الأمور التي أجمعت عليها الأمة وأن يكون من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة: أي أن يكون

= هاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها، قتل بصفين سنة 37 هـ. الإصابة (2/ 505، 506) رقم: 5706.

(1)

بلال بن رباح الحبشي: مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحد السابقين إلى الإسلام الذين عذبوا بمكة، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة: فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول وهو على ذلك أَحَدٌ أَحَدٌ، فمرَّ به أبو بكر فاشتراه منه وأعتقه، ومناقبه كثيرة، شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، مات بالشام سنة عشرين. الإصابة (1/ 169) رقم 736.

(2)

تفسير ابن كثير (2/ 587، 588) بتصرف.

ص: 58

علمه منتشرًا كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، وعموم رسالته

(1)

.

ب - أن لا يكون المنكر حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده فهذا إذا أنكر شيئا من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة جهلا به فإنه لا يكفر

(2)

.

ج - أن لا يكون المُنكِر مكرها على ذلك، فإن المكره له حكم آخر كما قدمنا ذلك.

والمُنكِر في هذه الحالة يحكم بكفره وانتقاض إيمانه. والمنتقص لأمور الدين إذا كان غير مكره فإنه يكفر سواء كان جادا في ذلك أم هازلا.

والأمثلة على هذا القسم كثيرة جدا، نذكر منها على سبيل المثال ما يختص بجانب الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

أولا: "أن يعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه وأن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون القانون الوضعي على حكم الشرع ويصفون الشريعة الإسلامية بالقصور والرجعية وعدم مسايرة التطور، وهذا من أعظم المناقضة لشهادة أن محمدا رسول الله.

ثانيا: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فهو كافر"

(3)

.

ثالثا: اعتقاد الإنسان أنه يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولهذا الأمر صورتان:

الأولى: أن لا يرى وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا وجوب طاعته فيما أمر به وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عظيم القدر

(1)

انظر صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 205).

(2)

المصدر السابق (1/ 205).

(3)

الجامع الفريد: رسالة نواقض الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 282).

ص: 59

علما وعملا وأنه يجوز تصديقه وطاعته ولكنه يقول إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدا ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته وهذا هو قول الفلاسفة والصابئة

(1)

وهذا القول لا ريب في كفر صاحبه "فمن نواقض الإسلام أن يعتقد الإنسان عدم كفر المشركين ويرى صحة مذهبهم، أو يشك في كفرهم"

(2)

.

وهذا القول هو الذي ينادي به في وقتنا الحاضر من يدعون إلى وحدة الأديان ويروج لهم في ذلك الماسونية

(3)

اليهودية

(4)

.

الثانية: من يرى طلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، وهؤلاء وإن كانوا يعتقدون أنه يجب تصديق الرسول أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك بل يسلكون مسلكا آخر إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجدان، وإما من جهة التقليد، وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه وإما أن يردوه إلى ما سلكوه.

وإضافة إلى هذه النواقض فإن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ينتقض أيضا بالنواقض العامة الأخرى للإسلام وهي:

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 639).

(2)

الجامع الفريد (ص 282).

(3)

الماسونية: عبارة فرنسية معناها البناؤون الأحرار، والماسونية حركة يهودية سرية تعمل تحت ستار التآخي بين الأديان، وهدفها الرئيسي السيطرة على العالم عن طريق أصحاب الجاه والنفوذ في بقاع العالم، وذلك بواسطة المحافل التي تقيمها في بقاع كثيرة من العالم.

انظر: "كتاب الماسونية ذلك العالم المجهول"، لصابر طعيمة.

(4)

كتاب الولاء والبراء (ص 344).

ص: 60

‌1 - الشرك في عبادة الله تعالى:

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .

‌2 - أن يجعل بينه وبين الله وسائط:

يدعوهم ويسألهم الشفاعة فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويتوكل عليهم فهذا كافر بالإجماع

(1)

.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} .

وقال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} ، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} .

‌3 - السحر:

ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر

(2)

بدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} .

(1)

الجامع الفريد (ص 282).

(2)

المصدر السابق (ص 282). والمراد بالصرف: التفريق بين الزوجين. والعطف: الجمع بينهما.

ص: 61

‌4 - " مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين"

(1)

:

والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهذا من أعظم النواقض التي وقع فيها سواد الناس اليوم في الأرض وهم بعد ذلك يحسبون على الإسلام ويتسمون بأسماء إسلامية، فلقد صرنا في عصر يُستحى فيه أن يقال للكافر يا كافر.

ومظاهرة المشركين أخذت صورا شتى فمن الميل القلبي إلى انتحال مذاهبهم الإلحادية إلى مجاراتهم في تشريعاتهم، إلى كشف عورات المسلمين لهم، إلى كل صغير وكبير في حياتهم

"

(2)

‌5 - الإعراض عن دين الله تعالى:

لا يتعلمه ولا يعمل به

(3)

والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} .

ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه

(4)

، ومعرفة المسلم لهذه الأمور تجعله على بصيرة من أمره، وتكسبه وتزيده معرفة لأمور عقيدته، فبضدها تتميز الأشياء.

* * *

(1)

الجامع الفريد (ص 383).

(2)

كتاب الولاء والبراء في الإسلام، تأليف محمد بن سعيد القحطاني (ص 83) بتصرف بسيط.

(3)

الجامع الفريد (ص 284).

(4)

المصدر السابق (ص 384).

ص: 62

‌المبحث الثاني: وجوب الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم

وفيه ثلاث مطالب:

المطلب الأول: معنى النبوة والرسالة.

المطلب الثاني: الأدلة من القرآن والسنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثالث: دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.

ص: 63

‌المطلب الأول: معنى النبوة والرسالة

جمع الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بين النبوة والرسالة قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .

‌أ - معنى النبي لغة وشرعا:

النبوة في اللغة العربية مشتقة إما: من (النبأ) أو (النباوة) أو (النَّبْوة) أو (النبي)

(1)

:

1 -

فإذا كانت مأخوذة من (النبأ) فتكون بمعنى الإخبار، لأن النبأ هو الخبر.

2 -

وإذا كانت مأخوذة من (النباوة أو النبوة) فتكون بمعنى الرِّفعة والعلو، لأن (النباوة أو النبوة: هي الشيء المرتفع).

3 -

أما إذا كانت مأخوذة من (النبي) بدون همز، فيكون معناها الطريق إلى الله عز وجل لأن معنى "النبي" الطريق.

ولو نظرنا إلى النبوة الشرعية لوجدنا أنها تشمل كل هذه المعاني إذ النبوة إخبار عن الله عز وجل، وهي رفعة لصاحبها لما فيها من التشريف والتكريم، وهى الطريق الموصلة إلى الله سبحانه.

(1)

انظر: لسان العرب مادة: "نبأ"(1/ 162 - 163)، ومعجم مقاييس اللغة (5/ 384، 385).

ص: 65

أما النبوة في اصطلاح الشرع: "فهي خبر خاص يكرم الله عز وجل به أحدًا من عباده فيميزه عن غيره بإيحائه إليه ويوقفه به على شريعته بما فيها من أمر ونهي ووعظ وإرشاد ووعد ووعيد"

(1)

.

أما النبي فقد اختلف العلماء في تعريفه:

- فمنهم من قال: هو الذي أوحى الله إليه بشرع

(2)

ليعمل به ولم يؤمر بتبليغه.

- فمنهم من قال: هو الذي أوحى الله إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله

(3)

.

- ومنهم من قال: هو الذي أوحى الله إليه وأخبره بأمره ونهيه وخبره، ويعمل بشريعة رسول قبله بين قوم مؤمنين

(4)

.

وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، ولعله هو أرجح الأقوال وأسلمها من الاعتراض فقد اعترض على القول الأول بأنه غير صحيح لأن قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} يدل على أن كلا منهما مرسل وأنهما مع ذلك بينهما تغاير

(5)

وكذلك مما يؤكد كون الأنبياء مأمورين بتبليغ قومهم ما أوحي إليهم والحكم بينهم بذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي

(1)

شعب الإيمان للبيهقي، الباب الثاني من شعب الإيمان (ص 275) رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بتحقيق فالح بن ثاني.

(2)

المصدر السابق (ص 275)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 167).

(3)

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (5/ 735).

(4)

كتاب النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 255).

(5)

أضواء البيان (5/ 735).

ص: 66

خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي

" الحديث

(1)

.

"أي تتولى أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية. والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه"

(2)

.

وقد اعتُرض على القول الثاني بأن الضابط الذي ذكروه لا يستقيم فيوسف عليه السلام كان رسولا وكان على شريعة إبراهيم قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} .

وكذلك داود وسليمان عليهما السلام كانا رسولين وكانا على شريعة التوراة قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .

‌ب - معنى الرسول لغة وشرعًا:

الرسول لغة: إما مأخوذ من الرِّسل.

والرِّسل: هو الانبعاث على تؤدة. يقال: ناقة رسله؛ أي: سهلة السير، وإبل مراسيل: منبعثة انبعاثًا سهلًا. ولفظ (الرِّسل) متضمن لمعنى الرفق ومعنى الانبعاث. فإذا تصور منه معنى الرفق يقال على رسلك إذا أمرته بالرفق. وإذا تصور منه معنى الانبعاث يقال إبل مراسيل أي منبعثة.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل. انظر: فتح الباري (6/ 495) ح 3455. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (6/ 17).

(2)

النهاية في غريب الحديث (2/ 421).

ص: 67

ولفظ الرسول اشتق من المعنى الثاني؛ أي: الانبعاث.

فالرسول على هذا الاشتقاق هو المنبعث

(1)

.

وإما مأخوذ من الرَّسْل: وهو التتابع، فيقال: جاءت الإبل رَسْلًا؛ أي متتابعة، ويقال جاءوا أرْسَالًا: أي متتابعين.

ومعنى الرسول على هذا الاشتقاق: هو الذي يتابع أخبار الذي بعثه

(2)

.

ولو نظرنا إلى كلا الاشتقاقين فإنا نجد أن لفظ الرسول في اصطلاح الشرع يدل عليهما فالرسول مبعوث من قبل الله، وهو كذلك يتابع أخبار الوحي المنزل إليه من الله تعالى.

ولفظ الرسول تارة يقال للقول المُتَحَمَّل كقول الشاعر:

ألا بلِّغ أبا حفص رسولا

.......................

وتارة لمُتَحَمِّل القول والرسالة

(3)

.

والرسول في الشرع: عُرِّف بعدة تعريفات:

فمن العلماء من عرَّفه بقوله: هو الذي أوحى الله إليه بخبر وأمره بتبليغه للناس، وهؤلاء فرقوا بينه وبين النبي بأن النبي أوحي إليه بخبر ولم يؤمر بتبليغه

(4)

.

ومنهم من عرَّفه بقوله: هو الذي أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي تثبت بها نبوته.

(1)

المفردات في غريب القرآن، تأليف أبي القاسم حسين محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ص 195) مادة "رسل".

(2)

المصدر السابق (ص 195) ولسان العرب مادة: "رسل"(11/ 284).

(3)

المصدر السابق (ص 195) ولسان العرب مادة: "رسل"(11/ 284).

(4)

شعب الإيمان للبيهقي (ص 275 - 276) بتحقيق فلاح بن ثاني، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 167).

ص: 68

وقالوا: إن النبي هو الذي لم ينزل إليه كتاب وإنما أوحي إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله

(1)

.

ومنهم من قال: إن الرسول هو الذي ينبئه الله ثم يأمره أن يبلغ رسالته إلى من خالف أمره؛ أي: إلى قوم كافرين.

أما النبي فهو من أوحى الله إليه وأخبره بأمره ونهيه وخبره، ويعمل بشريعة رسول قبله بين قوم مؤمنين بهما.

وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، واستشهد لذلك بأن نوحا عليه السلام كان هو أول رسول بعث إلى أهل الأرض وكان أول شرك بالله قد وقع في قومه.

وقد كان قبل نوح أنبياء كشيث وإدريس عليهما السلام وقبلهما آدم كان نبيا مكلما، وقد كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وكان المبعوثون في هذه القرون أنبياء فقط

(2)

.

وهذا القول الثالث هو أرجح الأقوال.

أما القول الأول فهو غير مسلَّم كما سبق، وإن وضحت في الكلام على معنى النبي. وكذا الأمر بالنسبة للقول للثاني فليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة كما تقدم ذكر ذلك.

* * *

(1)

أضواء البيان (5/ 735).

(2)

النبوات (ص 255 - 256).

ص: 69

‌المطلب الثاني: الأدلة من القرآن والسنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم

‌أ - الأدلة من القرآن:

أوجب الله سبحانه وتعالى على الثقلين - الإنس والجن - الذين أدركتهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به كما شهدت بذلك نصوص الكتاب العزيز.

كما أكد الله وجوب الإيمان بأن جعله مقترنًا بالإيمان به سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم منها:

قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وقال تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} ، وقال تعالى:{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ، وقال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ

ص: 70

وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}. والإيمان به صلى الله عليه وسلم واحد من ثلاثة حقوق اقترن بها حقه صلى الله عليه وسلم مع حق الله تعالى في القرآن الكريم.

أما الحق الثاني له:

فهو طاعته قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وسيأتي بيانه في الفصل الثاني من هذا الباب.

والحق الثالث هو:

محبته قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، وسيأتي بيانه في الباب الثاني.

"كما أن الإيمان به واجب متعين لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه"

(1)

.

وقال تعالى في حق من لم يؤمن: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} .

وبما تقدم من آيات يعلم وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهميته وأنه لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، كما لا تحصل نجاة ولا سعادة بدون الإيمان به لأنه هو الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان أول أركان الإسلام "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله".

‌ب - الأدلة من السُّنَّة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم:

وردت في السُّنَّة أحاديث كثيرة جدا تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم على الجن والإنس الذين أدركتهم رسالته، سواء كانوا أهل كتاب، أم

(1)

الشفا للقاضي عياض (2/ 538) بتصرف.

ص: 71

ليسوا بأهل كتاب، ويستوي في ذلك عربهم وعجمهم، وذكرهم وأنثاهم، فلا يسع أحدا من هؤلاء الخروج عن شريعته أو التعبد لله بغير ما جاء به. لأن الله لا يقبل من أحد عملا يخالف شرع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وسأورد ههنا بعضا من تلك الأحاديث الواردة في هذا الشأن:

أ - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"

(1)

.

2 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"

(2)

.

3 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع لي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"

(3)

.

4 -

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/ 39).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان: باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، انظر: فتح الباري (1/ 75) ح 25. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، انظر (1/ 39).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1/ 93).

ص: 72

قال لهم: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس .... " الحديث

(1)

.

5 -

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله فقال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"

(2)

.

وهذه الأحاديث وغيرها تؤكد وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وكذلك طاعته، ويكون ذلك بأن يحل ما أحل الله ورسوله، ويحرم ما حرم الله ورسوله، ويوجب ما أوجبه الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويكره ما كرهه الله ورسوله. وقد تقدم معنى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم في المبحث الأول فليرجع إليه.

‌ج - دليل الإجماع:

أجمعت الأمة على وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما أجمعت كذلك على أن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمدًا - من الإنس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى، كما يستحقه أمثاله من الكافرين.

(1)

تقدم تخريجه (ص 34).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه (1/ 35)؛ وأخرجه بنحوه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى. انظر: فتح الباري (1/ 347)(ح 7372).

ص: 73

الذين بعث إليهم الرسول، وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم

(1)

؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه وبيَّنه الرسول أيضًا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإن الله تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، ولم يبتدع المسلمون شيئًا من ذلك من تلقاء أنفسهم

(2)

.

(1)

إيضاح الدلالة في عموم الرسالة، لشيخ الإسلام ابن تيمية مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية. انظر:(2/ 99).

(2)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 126).

ص: 74

‌المطلب الثالث: دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم

أيَّد الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالدلائل، والمعجزات الكثيرة الدالة على وجوب الإيمان به وصدق رسالته وهذه الدلائل والمعجزات فاقت الألف معجزة كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء

(1)

ومنها ما هو حسي ومنها ما هو معنوي، وكذلك هي متنوعة فمنها ما كان قبل مولده كبشارات الأنبياء به ومنها ما كان وقت ولادته كقصة الفيل والعجائب التي حدثت عام مولده الدالة على نبوته، ومنها ما كان عند مبعثه كالقرآن الكريم وانشقاق القمر ونبع الماء بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك.

ومن تلك الدلائل ما استمر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كالقرآن الكريم، وما أخبر به من المغيَّبات كعلامات الساعة، وما يحدث بعده. ولقد ألف عدد من العلماء مؤلفات في هذا الشأن جمعوا فيها تلك الدلائل والمعجزات

(2)

.

وإن من أعظم دعائم الإيمان معرفة المسلم لهذه الدلائل وأخذ العظة والعبرة منها وذلك بتدبر ما فيها من حكم وآيات دلت على صدق رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم. والمقام هنا لا يستوعب إيراد هذه الدلائل والمعجزات،

(1)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 140).

(2)

من تلك المؤلفات: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ودلائل النبوة لقوام السنة الأصبهاني، ودلائل النبوة للبيهقي، والخصائص الكبرى للسيوطي.

ص: 75

ولكني سأشير إلى بعض هذه الدلائل إشارات سريعة على سبيل المثال:

‌أ - القرآن الكريم:

هو أعظم الآيات والبراهين والدلائل والمعجزات التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من آية أبدع ولا أروع منه.

فهو المعجزة الخالدة التي أعطاها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لتكون خالدة كخلود رسالته، ومشهودة لكل من أتى بعد زمانه ليعم الانتفاع بها ولتقوم بها الحجة على أهل كل زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد تعهد الله بحفظه وبقائه فقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فكان في هذا الحفظ دوامه وبقاؤه إلى قيام الساعة.

ولقد ميَّز الله نبيه بهذه المعجزة عن سائر إخوانه من الأنبياء كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحي أوحاه الله إلي، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة"

(1)

.

وفى تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بالذكر هنا دون المعجزات الأخرى التي أعطيها - والتي تزيد على الألف - إشارة إلى عظم هذه المعجزة ومكانتها حتى أنه أصبح غيرها بالنسبة إليها كلا شيء لشيء.

ولقد تضمنت هذه المعجزة وجوها متعددة من الإعجاز، فالقرآن الكريم معجز بلغته وفصاحته وبيانه وبلاغته وأحكامه وتشريعاته وبما حواه من أخبار وقصص، ومغيَّبات، وعلوم، فهو معجز من جميع الوجوه،

(1)

أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بعثت بجوامع الكلم" واللفظ له، انظر فتح الباري (3/ 247) ح 7274. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته. انظر (1/ 92، 93).

ص: 76

ولقد تحدَّى الله قوم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يأتوا بمثله أو بشيء منه، فالقرآن الكريم نزل بلغتهم فهم يعرفون حروفه ومعانيه، إضافة إلى أنه نزل في أوان وزمان بلغت فيه قريش ذروة الفصاحة والبلاغة والبيان، فلقد كان فيهم أولوا الأحلام والنهى والأفهام والألسن الحداد، والقرائح الجياد، والعقول السداد.

فالتحدي كان لهم بأمر يعرفون طريقه ولهم بجنسه عهد بل إنهم نبغوا فيه وبلغوا فيه ذروته.

ولذلك فقد توهم كفار قريش في بداية أمرهم أن باستطاعتهم الإتيان بمثله وقدروا أن في وسعهم معارضته فقالوا: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} .

فجاءهم التحدي من الله على ثلاث مراحل هي:

-‌

‌ المرحلة الأولى:

التحدي بالإتيان بمثل القرآن، وذلك كما جاء في قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .

-‌

‌ المرحلة الثانية:

تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله حيث قال تبارك وتعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

-‌

‌ المرحلة الثالثة:

حيث تحداهم تبارك وتعالى بالإتيان بسورة واحدة فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ منْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، فعجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مع شدة الاجتهاد وقوة الأسباب فقد كانوا حريصين على

ص: 77

تكذيبه وإبطاله بكل طريق، ولكن مع هذا كله فقد عجزوا عن ذلك.

ولقد أخبر الله بعجزهم عند تحديه إياهم بالإتيان بسورة من مثله فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} .

ولما عجزوا عن الإتيان بما تحدَّاهم به قطع الله طمعهم على أن يأتوا بمثله فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .

وبعد مرحلة قطع الطمع أنزل الله فواتح السور كـ {الم، الر، المر} وغيرها تقريعا وتوبيخًا للكفار، مخبرا لهم أن ما تحداهم به مكون من حروف هي حروف العربية التي يتحدثون بها والتي بلغوا ذروتها فهم أفصح العرب، والقرآن نزل بلغة العرب، ولقد جرت سنة الله بأن يعطي كل رسول من المعجزات ما يناسب ما اشتهر به قومه، فلقد أعطى موسى العصا لاشتهار من أرسل إليهم بالسحر وما يتعلق به، وأعطى عيسى معجزة إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والأعمى لاشتهار قومه بالطب وهكذا، فأعطى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن لما اشتهرت به قريش من الفصاحة والبيان.

فهذا ما كان من أمر التحدي الذي تحدى الله به أهل مكة وغيرهم من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وسأعرض لذكر بعض جوانب هذا الإعجاز القرآني الذي عجز الكفار أن يأتوا بمثل هذا القرآن من جهتها وهى ما يلي:

أولا: تحدَّاهم بفصاحة القرآن وعلو أسلوبه، وأحكامه، ودقة تعبيره، ولذا تكلف بعض سفهاء الأحلام منهم أن يأتوا بسور خيل لهم أنها على نمطه وشاكلته، فأضحكوا على أنفسهم العقلاء، وأما ذووا العقل والرأي منهم فأسلموا أنفسهم إلى العجز وأيقنوا من قرارة نفوسهم

ص: 78

أنه الحق وأنه من عند الله لا من كلام البشر ولكن أكثرهم يجهلون فأبوا إلا الكفر أنفة واستكبارا.

ثانيا: تحدَّاهم بتشريعه الكامل الموافق لمقتضى العقل والفطرة، الهادي جميع البشر إلى سواء السبيل من جوانب الحياة كلها عقيدة وعبادة واقتصادا وسياسة وأدبا وأخلاقا مع بقاءه كذلك صالحا لهداية العالم وإصلاحه في جميع جوانب الحياة إلى يوم القيامة.

ثالثا: تحداهم بما تضمنه القرآن من الأخبار الغيبية التفصيلية المسهبة، وبوقوف الرسول صلى الله عليه وسلم من إخوانه المرسلين السابقين موت المصدق لهم المبين لتحريف أقوامهم شرائعهم، المعلن لخزاياهم وفضائحهم في خروجهم على أنبيائهم بيان الواثق بنفسه المؤمن بما أوحي إليه من ربه، وهو أمي عاش في أمة أمية، ومن أمته أهل الكتاب الذين فضحهم بسوء صنيعهم مع رسلهم وفى شرائعهم ومع ذلك لاذوا بالصمت ولم يردوا عليه ما اتهمهم به تبرئة لأنفسهم ودفعا للنقيصة والعار عنها، فكان ذلك إيذانًا بأنه رسول الله الصادق الأمين وأن ما جاء به إنما هو وحي من رب العالمين

(1)

.

ولقد تضمن القرآن الكريم جوانب أخرى من الإعجاز، فنحن في زمان انتشر فيه سلطان العلم المادي وتباهى الإنسان بمعرفته لكثير من الأمور التي خفيت عمن قبله من الأجيال، ولكن كثيرا من هذه الأمور التي يدعي الإنسان اكتشافها ومعرفتها، نجد أن القرآن الكريم قد تحدث عنها وبينها فعلى سبيل المثال تكوين الإنسان في بطن أمه تحدثت عنه آيات كثيرة من القرآن قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان بينما لم يتعرف

(1)

انظر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد التاسع (ص 27 - 28) مقال بعنوان بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية إعداد هيئة كبار العلماء.

ص: 79

علماء الطب على ذلك إلا في زمن متأخر، وكذا الأمر بالنسبة لكثير من الأمور الأخرى كتكوين الأرض وعلوم البحار وعلوم الحيوان وشتى أنواع العلوم الأخرى، وقد اهتم عدد من العلماء المسلمين بهذا الشأن فأنشؤوا ما يسمى "بهيئة الإعجاز العلمي في القرآن" لبيان سبق القرآن في توضيح كثير من أمور العلم التي يدعي كثير من العلماء الماديين أنها لم تعرف إلا في هذا الزمان.

وهذا كله شاهد بأن كتاب الله العزيز يبقى المعجزة الخالدة التي لا تنتهي عجائبها، قال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} .

فالقرآن يبقى معجزًا في عصر العلم كما كان معجزا في عصر الفصاحة والبلاغة.

ومن الآيات الحسية التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم زمن بعثته:

‌ب - انشقاق القمر:

قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر"

(1)

.

وعن عبد الله بن مسعود

(2)

رضي الله عنه قال: "انشق القمر على عهد

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية، فأراهم انشقاق القمر. انظر: فتح الباري (6/ 631) ح 3637.

(2)

عبد الله بن مسعود الهذلي: أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، وكان أول من جهر بالقرآن بمكة وكان من فقهاء الصحابة، توفي عام 32 هـ بالمدينة.

الإصابة: (1/ 360، 362) رقم 4954.

ص: 80

النبي صلى الله عليه وسلم شقين، فقال:"اشهدوا"

(1)

.

‌ج - نبع الماء بين أصابعه:

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء

(2)

فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة: قلت لأنس كم كنتم؟، قال: ثلاثمائة، أو زهاء ثلاثمائة"

(3)

وقد روى حديث نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة منهم أنس وجابر وابن مسعود

(4)

.

‌د - إشباع العدد الكثير من الطعام القليل:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قال أبو طلحة

(5)

لأم سليم

(6)

: لقد

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية، فأراهم انشقاق القمر. انظر: فتح الباري (6/ 631) ح 3636.

(2)

الزوراء: موضع بالمدينة عند سوقها في ذلك الوقت. وفاء الوفاء (4/ 1229).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه واللفظ له، كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام. انظر: فتح الباري (6/ 580) ح 3572، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم (7/ 49).

فائدة: قال ابن حجر في فتح الباري (6/ 585): "حديث نبع الماء من أصابعه صلى الله عليه وسلم جاء من رواية أنس عند الشيخين وأحمد وغيرهم من خمسة طرق. وعن جابر بن عبد الله من أربعة طرق وعن ابن مسعود عند البخاري والترمذي، وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين. وعن ابن أبي ليلى والد عبد الرحمن عند الطبراني". انتهى كلامه.

(4)

الشفا (1/ 402).

(5)

أبو طلحة: اسمه زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري النجاري الخزرجي، مشهور بكنيته، شهد العقبة ثم شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، توفي عام 31 هـ وقيل 34 هـ.

الإصابة (1/ 549) ت رقم 2905.

(6)

أم سليم بنت ملحان بن خالد الأنصارية: وهي أم أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم =

ص: 81

سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟، قالت: نعم، فأخرجت أقراصًا من شعير ثم أخرجت خمارًا لها، فلفت الخبز ببعضه ثم دسَّته تحت يدي، ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آرسلك أبو طلحة؟ "، فقلت: نعم. قال: بطعام؟، قلت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه:"قوموا"، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هلمي يا أم سليم ما عندك"، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء أن يقول. ثم قال:"ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال:"ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأكل القوم حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا"

(1)

.

وأحاديث تكثير الطعام القليل تعددت، وتكررت في مواطن متعددة ورويت عن بضعة عشر من الصحابة، ورواها عنهم أضعافهم من التابعين ثم من لا يُعد بعدهم، وأكثر هذه الأحاديث مروية في الصحيح

= اشتهرت بكنيتها واختلف في اسمها فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل غير ذلك. أسلمت مع السابقين من الأنصار، ولها مواقف مشهودة تدل على فضلها ومكانتها. الإصابة (4/ 441، 442) ت رقم 1321.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب، علامات النبوة في الإسلام. انظر: فتح الباري (6/ 586) ح 3578.

ص: 82

وأكثرها في قصص مشهورة، ومجامع مشهورة، ولا يمكن التحدث عنها إلا بالحق، ولا يسكت الحاضر لها على ما أنكر منها

(1)

.

‌هـ - ما اطّلع عليه من الغيوب وما سيكون في المستقبل:

" والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره، ولا ينزف غمره، وهي من جملة معجزاته المعلومة على القطع"

(2)

ومنها على سبيل المثال حديث حذيفة بن اليمان قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون منه الشيء نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه"

(3)

.

وبعد، فهذا جزء يسير جدًّا من دلائل نبوته المعنوية والحسية وصدق رسالته صلى الله عليه وسلم، أيد الله بها نبيه ليقيم الحجة على الخلق فيحيا من حيي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.

فيجب على كل مسلم أن يتدبر في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ويطَّلع عليها، فإن فيها عظة وعبرة وتزيد من إيمان المرء ويقينه بنبوة خاتم المرسلين وإمامهم، الذي أعطاه الله من الآيات والبراهين ما لم يعط أحدًا من الأنبياء قبله.

* * *

(1)

الشفا (1/ 419)(بتصرف).

(2)

المصدر السابق (1/ 470) وقد ذكر طرفًا من هذه الأحاديث فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن: باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة (8/ 172).

ص: 83

‌المبحث الثالث: وجوب الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم

وفيه تمهيد وثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الأدلة من القرآن على عموم رسالته.

المطلب الثاني: الأدلة من السُّنَّة على عموم رسالته.

المطلب الثالث: دليل الإجماع على عموم رسالته.

ص: 85

‌تمهيد

إن من الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الإيمان بجميع ما جاء به، ومما جاء به صلى الله عليه وسلم الإخبار بعموم رسالته للإنس والجن بجميع أجناسهم وأشكالهم وألوانهم ومللهم ولغاتهم. لذا فإنه يجب أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الإنس والجن وأنه أوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأنه لا يسع أحدا من هؤلاء الخروج عن شريعته ولا أن يدين لله بغير ما جاء به، "ومن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله"

(1)

قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .

وعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعالميتها هي إحدى الخصائص التي انفرد بها صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء قبله، إذ كان النبي إنما يُبعث إلى قومه خاصة ثم يبقى غيرهم محتاجا إلى من يبلغهم أمر الله عز وجل، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله للناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهو المبعوث رحمة للعالمين، فعمت رسالته جميع المكلفين إنسهم وجنهم، كما صحبت كذلك الزمان في مسيرته، فإذا انتهى جيل من الناس فإن الجيل الذي يليه مخاطب ومكلف بها.

والإيمان بعموم الرسالة وعالميتها هو الذي يدين به كل مسلم يؤمن

(1)

مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 422).

ص: 87

بالله ورسوله، فهذا ما جاءت به آيات الكتاب الكريم ونصوص السُّنَّة الثابتة، فهو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة والتي أجمعت عليها الأمة.

* * *

ص: 88

‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن على عموم رسالته

وردت آيات كثيرة في كتاب الله العزيز تثبت عموم دعوته وعالمية رسالته صلى الله عليه وسلم ومن سمة هذه الآيات أنها اتصفت بتنوع العبارة مع اتحاد في المضمون الذي هو الدلالة على عموم الرسالة وعالميتها.

وسوف نعرض لهذه الآيات بحسب اتحادها في السياق.

‌أ - الآيات التي ورد فيها لفظ "الناس" منها:

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} .

وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس} .

وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} .

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} .

وقوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} .

وقوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} .

وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .

والشاهد من هذه الآيات أنها بيَّنت شمول رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

ص: 89

للناس

(1)

جميعًا. قال صاحب اللسان: "الناس قد يكون من الإنس ومن الجن"

(2)

.

فلفظ الناس يطلق على الجن والإنس كما في قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فسمى الله الجن في هذا الموضع ناسا كما سماهم في موضع آخر رجالا، فقال:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} فجعل الجن رجالا وكذلك جعل منهم ناسا

(3)

. وهناك رأي آخر يقول إن لفظ الناس دخل فيه الجن تغليبا

(4)

.

والذي أراه أن الآيات تفسر بالمعنى الشامل للإنس والجن إذ لا مخصص للعموم هنا.

وكنموذج لتفسير ما أوردته من آيات في هذا الشأن أذكر ما قاله بعض علماء التفسير في بيان قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ، قال أبو جعفر الطبري

(5)

في تفسيرها: "قل يا محمد للناس كلهم {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قبلي من الرسل مرسلًا إلى

(1)

لفظ "الناس" فيه وجهان: أحدهما: أن يكون جمعًا لا واحد له من لفظه وإنما واحده "إنسان" وواحدته "إنسانة"، والوجه الآخر: أن يكون أصله "أناس" أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها تخفيفا، ثم أدخلت الألف واللام المعرفتان، فأدغمت اللام التي دخلت مع الألف فيها للتعريف في النون. انظر: تفسير الطبري (1/ 116).

(2)

لسان العرب (6/ 244) مادة نوس.

(3)

تفسير الطبري (30/ 356).

(4)

تفسير ابن كثير (4/ 575).

(5)

هو محمد بن جرير الطبري: المؤرخ المفسر الإمام، كان مولده سنة أربع وعشرين ومائتين، روى الكثير عن الجم الغفير، صنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير توفي سنة 310 هـ. البداية (1/ 145 - 147).

ص: 90

بعض الناس دون بعض، فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، لكنها إلى جميعكم"

(1)

.

وقال ابن كثير

(2)

: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ} يا محمد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أي جميعكم وهذا من شرفه وعِظَمه صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى الناس كافة"

(3)

.

‌ب - الآيات التي ورد فيها لفظ "العالمين": ومنها:

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .

وقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} .

وقوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .

وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} .

وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .

وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إن هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .

والمراد بالعالمين هنا هم الإنس والجن إذ هم المكلَّفون.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "العالمون الجن والإنس، دليله قوله تعالى:

(1)

تفسير الطبري (9/ 86).

(2)

هو: إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الدمشقي، حافظ مؤرخ، فقيه ولد سنة 701 هـ وتوفي سنة 774 هـ وهو صاحب كتاب تفسير القرآن العظيم والبداية والنهاية. شذرات الذهب (1/ 231)، والأعلام (1/ 320).

(3)

تفسير ابن كثير (2/ 254 - 255).

ص: 91

{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} ولم يكن نذيرا للبهائم"

(1)

.

‌ج - الآيات التي ورد فيها لفظتا "كافة" و"جميعًا" وهي:

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} . وهناك ثلاث عبارات هي: "الناس" و"كافة" و"جميعا" دلت جميعها على العموم.

‌د - الآية التي ورد فيها لفظ "ومن بلغ":

قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، فالشاهد من الآية هو قوله تعالى:{لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فلفظ (من) في قوله {وَمَنْ بَلَغَ} من صيغ العموم، فالآية نص في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى الآية أن الله يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه إن الله أوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة، أو يا معشر العرب ومن بلغه هذا القرآن سواء كان عربيا أو عجميا وسواء كان موجودا الآن، أم سيأتي بعد إلى أن تقوم الساعة وهذا هو الذي ذكره أهل التفسير عند هذه الآية

(2)

‌هـ - الآيات التي ورد فيها خطاب الجن ومنها:

قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} إلى آخر الآيات التي نزلت في شأن دعوة الجن إلى الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وسميت هذه السورة بسورة الجن.

(1)

تفسير القرطبي (1/ 138).

(2)

انظر على سبيل المثال: تفسير الطبري (7/ 162، 163) وتفسير ابن كثير (2/ 126).

ص: 92

وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} والآيات نزلت في جن نصيبين

(1)

عندما سمعوا القرآن، فآمن به من آمن منهم ثم ولوا إلى قومهم منذرين، ثم أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام بشعب معروف بمكة، والأحاديث بذلك كثيرة مشهورة في الصحيح والسنن والمسند وكتب التفسير والفقه وغيرها

(2)

.

وكذلك فإن سورة الرحمن هي خطاب للثقلين الإنس والجن معًا.

‌و - الآيات التي وردت في دعوة أهل الكتاب:

ومنها: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} .

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

وبالجملة فإن في القرآن من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن دعوة المشركين وعباد الأوثان وجميع الإنس والجن ما لا يحصى إلا بكلفة وهذا كله معلوم بالاضطرار من دين الإسلام

(3)

.

* * *

(1)

مدينة تقع في تركيا بالقرب من الحدود السورية. أطلس العالم (ص 52).

(2)

كتاب النبوات لابن تيمية (ص 396).

(3)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 112).

ص: 93

‌المطلب الثاني: الأدلة من السُّنَّة على عموم رسالته

الأدلة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وعالميتها كثيرة جدا في السنة النبوية سواء من الناحية القولية أو الناحية العملية، وسنعرض هنا لكلتا الناحيتين بإذن الله.

‌أ - السنة القولية:

أ - عن أبي الدرداء

(1)

رضي الله عنه قال: "كانت بين أبي بكر

(2)

وعمر محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه عمر مغضبًا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل، حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء ونحن عنده: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم هذا فقد غامر"

(3)

.

(1)

واسم أبي الدرداء كما قيل: عويمر بن عامر، ولعل كنيته هي اسمه: أنصاري أسلم يوم بدر وشهد المشاهد بعدها، وكان أحد الحكماء العلماء الفضلاء توفي في عهد عثمان. الاستيعاب (4/ 59 - 60).

(2)

واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر: ولد بعد الفيل بسنتين وسنة أشهر، صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنين قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به واستمر معه طوال إقامته بمكة ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وولي الخلافة من بعده فكان أول الخلفاء الراشدين، ومناقبه كثيرة رضي الله عنه توفي سنة 13 هـ. الإصابة (2/ 333 - 336) رقم 4817.

(3)

غامر؛ أي خاصم غيره، ومعناه: دخل في غمرة الخصومة، وهي معظمها. والمغامر الذي يرمي بنفسه في الأمور المهلكة. النهاية:(3/ 384).

ص: 94

قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله، لأنا كنت أظلم .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل أنتم تاركوا لي صاحبي، هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟، إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت"

(1)

.

2 -

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"

(2)

.

3 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضِّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون"

(3)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير: باب تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} . انظر: فتح الباري (8/ 303) ح 4640، وأخرجه أيضا في كتاب فضائل الصحابة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا". انظر: فتح الباري (7/ 18) ح 3661.

(2)

أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب التيمم واللفظ له. انظر فتح الباري (1/ 435 - 436) ح 335، وكذلك 438 - 3122، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد (2/ 63).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد (2/ 64).

ص: 95

4 -

وعن أبي ذر

(1)

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت خمسًا لم يؤتهن نبي قبلي، نُصرت بالرعب فيرعب مني العدو عن مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وبعثت إلى الأحمر والأسود"

(2)

.

5 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"

(3)

.

وذكر اليهود والنصارى تنبيهًا على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى

(4)

.

6 -

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني ثم لم يؤمن بي دخل النار"

(5)

.

(1)

أبو ذر الغفاري: الزاهد المشهور الصادق اللهجة، مختلف في اسمه واسم أبيه والمشهور أنه جندب بن جنادة بن السكن، وكان من السابقين إلى الإسلام، توفي بالربذة سنة إحدى وثلاثين وقيل في التي بعدها. الإصابة (4/ 63 - 65) ت رقم 384.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (5/ 145) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رجاله رجال الصحيح"(8/ 259)، وأخرجه أيضًا من طرق أخر عن ابن عباس (1/ 250) وأبي أمامة (5/ 248). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 259):"رجال أحمد - أي في هذا الحديث - ثقات"، وجد عمرو بن شعيب (22/ 2). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 367):"رجاله ثقات"، وقال أحمد شاكر:"إسناده صحيح"(13/ 16) - المسند بتحقيقه.

(3)

تقدم تخريجه. انظر (ص 72).

(4)

انظر صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 188).

(5)

أخرجه أحمد في مسنده (4/ 396 - 398).

ص: 96

‌ب - السُّنَّة العملية:

إن المتأمل في سيرته ودعوته صلى الله عليه وسلم يعلم حرصه صلى الله عليه وسلم على نشر الرسالة وإبلاغها لجميع المكلفين، فقد دعا صلى الله عليه وسلم الإنس على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، سواء كانوا أهل كتاب أم ليسوا بأهل كتاب، كما دعا الجن كذلك فآمن له من آمن منهم وبايعوه على الإسلام.

ولقد صدع النبي صلى الله عليه وسلم بعالمية الرسالة وعمومها في أوائل دعوته عندما انتقل من المرحلة السرية في الدعوة إلى المرحلة الجهرية حيث قال صلى الله عليه وسلم بعد أن حمد الله: "إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها للجنة أبدا أو النار أبدا"

(1)

.

وإن المتأمل للآيات القرآنية التي نصَّت على عموم رسالته وعالميتها يجد أن جلَّها كان مكي النزول، وهذا يؤكد أن عالمية الرسالة مقررة منذ بداية الوحى. ومن المعلوم أن طريقة الدعوة كانت تتبع أسلوب التدرج في التبليغ وهذا التدرج لم يكن ينافي شمول الدعوة لكل المكلفين، لأن المرحلية كانت ضرورية لدعوته صلى الله عليه وسلم، ولقد دلت السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم اتبع أسلوب التدرج في إبلاغ الرسالة، فأول ما بدأ به هو الدعوة السرية لهذا الدين فآمن له من آمن.

ثم انتقل إلى الدعوة الجهرية ونهج فيها كذلك أسلوب التدرج فبدأ بأهل مكة عندما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام.

ثم بعد ذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مجامعهم وأسواقهم ويبلغهم دعوة الله.

(1)

الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/ 61).

ص: 97

ثم ذهب إلى الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام ولكنهم لم يجيبوه لذلك، ثم عاد إلى مكة وأخذ يعرض دعوته على القبائل في الموسم إلى أن التقى بالخزرج وهم من أهل المدينة وعرض عليهم الإسلام فأسلموا وأسلم النجاشي من قبلهم وكان على النصرانية.

ومن هنا كانت بداية المرحلة الجديدة في الدعوة فبعد تمكن الإسلام بالمدينة، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليها فاتسع بذلك نطاق الدعوة حتى شمل أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بالمدينة حواليها حينئذ، كما تنوعت كذلك أساليب الدعوة إلى هذا الدين فشرع الجهاد في سبيل الله واتسعت رقعة الدعوة فشملت قبائل العرب ومن كان في جزيرة العرب من أهل الكتاب كيهود المدينة وخيبر ونصارى نجران واليمن وغيرهم، واستمر التدرج إلى أن كان عام الحديبية ومهادنة قريش فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت إلى جميع الطوائف يدعوهم إلى الإسلام.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى

(1)

.

ثم جاءت بعد هذه المرحلة مرحلة أخرى حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بغزو النصارى فأرسل جيشا بقيادة زيد بن حارثة فقاتلوا النصارى بمؤتة من أرض الكرك

(2)

ثم غزاهم بنفسه وأمر جميع المسلمين أن يخرجوا معه ولم يأذن بالتخلف لأحد، وغزا في عشرة آلاف في غزوة تبوك وأقام بها عشرين ليلة ليغزو النصارى عربهم وعجمهم، وأقام ينتظرهم ليقاتلهم فسمعوا به وأحجموا عن قتاله ولم يقدموا عليه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير: باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل (5/ 166).

(2)

تقع حاليًا في الأردن.

ص: 98

ثم بعد ذلك جهَّز جيشًا بقيادة أسامة بن زيد

(1)

ولكنه صلى الله عليه وسلم لحق بالرفيق الأعلى قبل أن يخرج الجيش، فأوصى وهو في سكرات الموت بإرسال هذا الجيش فقال:"أنفذوا بعث أسامة".

ولقد سار أصحابه رضوان الله عليهم من بعده على نهجه واستنوا بسنته حتى فتح الله عليهم بلاد فارس والروم وغيرها فانتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجًا.

والشاهد من هذا كله أن سيرته صلى الله عليه وسلم هي مثال تطبيقي عملي على شمول دعوته وعالمية رسالته التي من أجلها كرس النبي صلى الله عليه وسلم حياته لكي ينشرها ويبلغها للناس كافة، لتقوم بذلك الحجة على الناس أجمعين.

وما ذكرته ههنا ليس إلا إشارات سريعة فمن أراد الاستزادة فعليه بكتب الحديث والسيرة ففيها الغنية بإذن الله.

* * *

(1)

أسامة بن زيد بن حارثة، الحِب ابن الحِب: ولد في الإسلام، صحابي جليل، توفي سنة أربع وخمسين هجرية. الإصابة (1/ 46).

ص: 99

‌المطلب الثالث: دليل الإجماع على عموم رسالته

إن الإجماع منعقد من أئمة المسلمين وعامتهم على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأمم - أهل الكتاب وغير أهل الكتاب

(1)

- فإن الذي يدين به المسلمون هو أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث رسولا إلى الثقلين الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله، مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه، وبينه النبي أيضا في سنته.

وهذا الإجماع تواترت في نقله كتب أهل العلم وهو منقول عندهم نقلا متواترا يعلمونه بالضرورة. وكتب التوحيد السنة مليئة بهذا.

وبما تقدم إيراده من الأدلة والنصوص يعلم ثبوت عموم رسالته وشمولها كما يعلم كذلك انتفاء كل دعوى تخالف هذا الأمر أو تطعن فيه كدعوى أنه رسول للعرب خاصة، أو دعوى أن رسالته ليست ناسخة لما قبلها من الرسالات وأنه يسع الناس التدين بما جاء في قبله من الرسالات.

فنصوص القرآن والسنة والإجماع ترد هذه الدعاوى وتفندها وتبطلها. وبالنسبة إلى ما تعلق به أصحاب هذه الأقوال من شبه ظنوها أدلة لهم، فإنما مردها إلى سوء فهمهم وجهلهم بمعاني النصوص التي أوردوها وكما قيل:

(1)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 124).

ص: 100

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

(1)

ولا يتسع المجال هنا لإيراد تلك الشبه وتفنيدها

(2)

كما أن معرفة الحق تغني وكما قيل: بضدها تتميز الأشياء.

وإن الواجب على كل مسلم اعتقاد عموم رسالته وشموليتها وعالميتها لجميع المكلفين وإنه لا يسع أحدا الخروج عنها أو أن يدين لله بغيرها.

كما أنه لا يسع المسلم أن يجهل مثل هذا الأمر لأنه من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، ومن الواجب عليه كذلك أن يرد على كل من يطعن في هذا الأمر أو يشكك فيه سواء ممن ينتسبون إلى الإسلام أو من غيرهم، وبالخصوص أننا أصبحنا في زمان ظهرت فيه الدعوة إلى وحدة الأديان وتقاربها بدعوى أنها جميعا تدعو إلى عبادة إله واحد وأن مصدرها واحد إلى غير ذلك من الأمور التي يروج لها أصحاب هذه الدعوة والتي لا تنطلي إلا على ساذج لا يعي الأمور الضرورية من دينه.

* * *

(1)

ديوان أبي الطيب المتنبي (ص 232).

(2)

لمزيد من التفصيل في هذا الموضوع: انظر كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 128) وما بعدها.

ص: 101

‌المبحث الرابع: وجوب الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

وفيه تمهيد وخمسة مطالب:

المطلب الأول: معنى ختم النبوة.

المطلب الثاني: الجوانب التي عصم فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثالث: الأدلة من السنة على ختم النبوة.

المطلب الرابع: ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم في تأكيد عقيدة ختم النبوة.

المطلب الخامس: إجماع الأمة.

المطلوب السادس: تعريف العصمة.

ص: 103

‌تمهيد

من الخصائص التي خصَّ الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ورسالته جعله خاتم النبيين وجعل رسالته خاتمة الرسالات، فانفرد صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وبغيره عن إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فأصبح ختم النبوة من خصائصة صلى الله عليه وسلم.

ولذا فإن من حقه صلى الله عليه وسلم على كل من يؤمن له، أن يعتقد بهذا الأمر، يؤمن به لثبوته بنصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة، بل هو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة التي لا يعذر المسلم بجهلها.

ولمزيد من البيان لهذه الخاصية والحق الواجب له صلى الله عليه وسلم، سوف أتحدث في هذا المبحث عن الجوانب التالية:

ص: 105

‌المطلب الأول: معنى ختم النبوة.

‌أ - معنى الختم في اللغة:

الختم في اللغة ورد لعدة معان هي:

‌1 - الطبع:

قال "صاحب المحكم: "ختمه، يختمه، ختمًا: طبعه"

(1)

.

وقد ذكر هذا "صاحب اللسان"

(2)

و"القاموس المحيط"

(3)

.

وفي "تاج العروس": "معنى ختم وطبع واحد في اللغة"

(4)

.

‌2 - تغطية الشيء والاستيثاق منه بحيث لا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء:

قال "صاحب المحكم": "والختم على القلب ألا يفهم شيئًا ولا يخرج منه شيء كأنه طبع. ومعنى ختم وطبع في اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء والاستيثاق من أن لا يدخله شيء كما قال عز وجل:{أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}

(5)

، وذكر هذا "صاحب اللسان"

(6)

و"صاحب تاج العروس"

(7)

.

(1)

المحكم لابن سيده (5/ 26) بتحقيق: إبراهيم الأبياري.

(2)

لسان العرب (12/ 163).

(3)

القاموس المحيط (2/ 15) بترتيب الزاوي.

(4)

تاريخ العروس للزبيدى (8/ 266).

(5)

المحكم (5/ 26).

(6)

لسان العرب (12/ 163).

(7)

تاج العروس (8/ 266).

ص: 106

‌3 - آخر الشيء ونهايته:

قال "صاحب المحكم": "وختم الشيء يختمه: ختمًا بلغ آخره، وخاتم كل شيء: عاقبته وآخرته، وختام كل مشروب آخره، وفرض التنزيل {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي آخره، وختام القوم وخاتمهم آخرهم

وفي التنزيل {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} أي آخرهم"

(1)

.

وقال "صاحب المفردات" في معرض كلامه عن الصور التي يرد بها لفظ الختم: "وتارة يعتبر منه بلوغ الآخر ومنه قيل: ختمت القرآن؛ أي: انتهيت إلى آخره

" إلى أن قال: "وخاتم النبيين لأنه ختم النبوة، أي تممها بمجيئه صلى الله عليه وسلم"

(2)

. وقال صاحب القاموس: "والخاتم من كل شيء: عاقبته وآخرته، وآخر القوم كالخاتم"

(3)

.

"هذه هي المعاني اللغوية لفعل "الختم" واسم فاعله "خاتم" كما أوردها أعلام اللغة في مصنفاتهم عن العرب، وهي مع تعددها وتعدد ألفاظها المعبرة عنها والتي هي: الطبع على الشيء وإنهاؤه وتغطيته وآخر القوم وعاقبة الأمر، هي مع ذلك كله تتمشى مع دلالة قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} على أن النبوة قد طبع عليها فلا تفتح، وأنها قد انتهت وسُدَّت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه آخر الأنبياء وشرعه آخر الشرائع وعاقبتها"

(4)

.

‌ب - معنى ختم النبوة:

تقدم معرفة معنى الختم في اللغة، وتقدم أيضا معرفة معنى النبوة في المبحث الثاني من هذا الفصل.

(1)

المحكم (5/ 26).

(2)

المفردات (ص 142 - 143).

(3)

القاموس (2/ 15) بترتيب الزاوي.

(4)

كتاب عقيدة ختم النبوة، للدكتور أحمد بن سعد الغامدي (ص 13).

ص: 107

"فإذا ما ركِّبا في جملة واحدة هي "ختم النبوة" فإنه يكون معناها: "انتهاء إنباء الله للناس وانقطاع وحي السماء"

(1)

.

* * *

(1)

كتاب عقيدة ختم النبوة (ص 16).

ص: 108

‌المطلب الثاني: الأدلة من القرآن الكريم على ختم النبوة

‌أ - آية الختم:

قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .

والآية نص صريح واضح على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وكونه خاتم الأنبياء وآخرهم مبعثًا فلا نبي بعده ولا رسول.

وقد سبق الربط بين دلالة الآية والمعنى اللغوي لكلمة "ختم".

وتتميمًا للفائدة سأعرض بعض ما ذكره علماء التفسير عند تفسير هذه الآية.

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة

(1)

ولا أبا أحد من رجالكم، الذين لم يلده محمد، فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين الذي ختم النبوة فطبع عليها فلا تفتح لأحد من بعده إلى قيام الساعة، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء"

(2)

.

(1)

زيد بن حارثة بن شراحيل الكعبي، تبناه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدعى زيد بن محمد حتى نزلت الآية:{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} ، شهد بدرًا وما بعدها واستشهد في غزوة مؤتة. الإصابة (1/ 545 - 546).

(2)

تفسير الطبري (22/ 16).

ص: 109

وقال ابن كثير رحمه الله: "فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فكل رسول نبي ولا ينعكس، بذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم

إلى أن قال: فمن رحمة الله بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له.

وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل"

(1)

.

وأقوال المفسرين عمومًا متفقة على أن المراد من الآية هو ختم النبوة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء مبعثًا، ولم ينقل عن أحد من أهل التفسير خلاف ذلك.

وقد تعرض أهل التفسير للقراءات الواردة في قوله "خاتم" من هذه الآية فذكروا أن فيها قرائتين:

‌الأولى: قراءة الكسر "خاتِم":

وهي الأشهر عند أهل اللغة والتفسير الذين أجمعوا أن قراءة الكسر هي قراءة الجمهور وعامة قراء الأمصار

(2)

وعلى هذه القراءة: {وخاتم النبيين} يكون المعنى أنه: "ختم النبيين" لأنه ختم به النبيون فهو خاتمهم.

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 494).

(2)

تفسير الطبري (22/ 16)، وتفسير البغوي (6/ 565) وتفسير القرطبي (14/ 196).

ص: 110

‌الثانية: قراءة الفتح "خاتَم":

وهي الأقل استعمالًا بين القراء، ولهذا فإن المفسرين لا يعزونها إلا إلى أفراد القراء كعاصم

(1)

وابن عامر

(2)

وغيرهما.

فعلى هذه القراءة {وخاتم النبيين} يكون المعنى؛ أي آخر النبيين مبعثًا فبه انتهت النبوة.

وبالرغم من ورود القرائتين في الآية إلا أن المفسرين لا يرون أن في ذلك تأثيرًا على المعنى، وهو انقطاع النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

‌ب - الآيات الدالة ضمنًا على ختم النبوة:

في القرآن الكريم آيات كثيرة دلت ضمنا على ختم النبوة والرسالة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن هذه الآيات آيات عموم الرسالة وعالميتها والتي تقدم ذكرها في المبحث الثالث، حيث إن عموم الرسالة من الناحيتين الزمانية والمكانية يدل على كونها خاتمة الرسالات؛ لأن البشرية على هذا الحال لاتحتاج إلى دين جديد ما دام هذا الدين قد خاطبهم جميعًا على اختلاف أجناسهم وأماكنهم وأزمانهم. ومن الأدلة كذلك الإخبار بإكمال هذا الدين وإتمامه:

قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} فالآية تؤكد أن الأمة لم تعد تحتاج إلى نبي يكمل لها دينها أو يتم عليها نعمة ربها، لأن الله سبحانه وتعالى قد أكمله على يد

(1)

عاصم بن أبي النجود الضرير الكوفي: أحد القراء السبعة، توفي سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب (5/ 38 - 40).

(2)

عبد الله بن عامر اليحصبي: أحد القراء السبعة، كان قاضي دمشق في أيام الوليد بن عبد الملك وإمام مسجد دمشق وتوفي بها سنة ثماني عشرة ومائة. تهذيب التهذيب (5/ 274، 275).

ص: 111

رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم رضيه له ربها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أكمله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم رضيه له ولأمته دينًا يعبدون الله به إلى يوم القيامة

(1)

.

قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: "هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن

"

(2)

.

* * *

(1)

كتاب عقيدة ختم النبوة (ص 27 - 28).

(2)

تفسير ابن كثير (2/ 12).

ص: 112

‌المطلب الثالث: الأدلة من السُّنَّة على ختم النبوة

إلى جانب ما ورد في القرآن من أدلة على كون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ورسالته هي خاتمة الرسالات، فقد ورد في السنة كذلك أحاديث كثيرة أكدت هذا الأمر وبينته ونبهت عليه.

وقد وردت هذه الأحاديث بعبارات متعددة متنوعة لكنها جميعًا أكدت على مدلول واحد، هو انقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم وختم النبوة به. وقد بلغ بعض هذه الأحاديث حد التواتر، كما أنها في جملتها متواترة تواترا قطعيا. ونظرا لتنوع ألفاظ تلك الأحاديث واختلاف صورها في الدلالة على هذا المعنى وتأكيده، فإن من المناسب أن أعرضها لك على النحو التالي:

‌أ - الأحاديث التي ورد فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومنها:

أ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهس

(1)

منها نهسة ثم قال "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مما ذلك؟ "، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وما يحدث فيه من استشفاع الناس بالأنبياء للحساب حتى يصلوا إليه صلى الله عليه وسلم، فذكر صلى الله عليه وسلم

(1)

النهس: أخذ اللحم بأطراف الأسنان، والنهش: الأخذ بجميعها. النهاية (5/ 136).

ص: 113

أنهم يقولون: "أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، تشفع لنا إلى ربك

" الحديث

(1)

.

2 -

عن ثوبان

(2)

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض

(3)

وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم

(4)

وإن ربي قال لي يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها - أو قال بأقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضًا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق".

قال ابن عيسى: "ظاهرين"، ثم اتفقا: "لا يضرهم من خالفهم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير: باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} . انظر فتح الباري (8/ 395، 396) ح 4712، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب أدنى الجنة منزلة فيها (1/ 127).

(2)

ثوبان: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي مشهور، اشتراه ثم أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخدمه إلى أن مات. ثم تحول إلى الرملة ثم حمص، ومات بها سنة 54 هـ. الإصابة (1/ 205) رقم 967.

(3)

أي: الذهب والفضة. النهاية (1/ 438).

(4)

أي: مجتمعهم، وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم. النهاية (1/ 172).

ص: 114

حتى يأتي أمر الله"

(1)

.

والشاهد من هذا الحديث هو قوله: "وأنا خاتم النبيِّين أن لا نبي بعدي" فهذا نصٌّ في كونه صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء.

3 -

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر"

(2)

.

‌ب - الأحاديث التي ورد فيها ضربه صلى الله عليه وسلم الأمثال لختم النبوة ومنها:

أ - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة". متفق عليه

(3)

،

(1)

أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في السنن، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها (2/ 450، 452) ح 4252، وأخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 278) وابن ماجة في السنن، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن (2/ 1304)، وأخرجه مختصرا مسلم في صحيحه إلى قوله "يسبي بعضهم بعضًا" كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة (8/ 171)، وكذلك أخرج مسلم آخره من قول " لا تزال طائفة من أمتي .... " كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين

الخ" (6/ 52)، وأخرج الترمذي في السنن بعضه من قوله "لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي" - إلى قوله - "لا نبي بعدي" كتاب الفتن: باب ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون (4/ 498، 499) ح 2218، وقال هذا حديث حسن صحيح.

(2)

أخرجه الدارمي في السنن (1/ 27) وقد اعتبره صاحب المشكاة من قسم الحسان وارتضاه الألباني المحقق (3/ 128).

(3)

البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (6/ 558) ح 3534، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (7/ 65).

ص: 115

وعند مسلم بزيادة لفظ: "فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء".

2 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟، قال: "فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"

(1)

.

‌ج - الأحاديث التي ورد فيها تصريحه صلى الله عليه وسلم بانقطاع النبوة وأنه لا نبي بعده ومنها:

1 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خَلَفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون

" الحديث

(2)

.

2 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستار والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه، فقال: أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له"

(3)

.

3 -

وعن سعد بن أبي وقاص

(4)

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم واللفظ له. انظر: فتح الباري (6/ 558) ح 3535، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (7/ 64).

(2)

تقدم تخريجه (ص 67).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة: باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (2/ 48).

(4)

سعد بن أبي وقاص: واسم أبيه مالك بن أهيب وكان سابع من أسلم، وقد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، وأحد العشرة، وكان مجاب الدعوة وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله توفي سنة 54 هـ. الإصابة (2/ 30 - 32) رقم 3194.

ص: 116

تبوك واستخلف عليًّا

(1)

فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي"

(2)

.

‌د - الأحاديث التي ورد فيها تحذيره صلى الله عليه وسلم من المتنبِّئين بعده ومنها:

1 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله .. "

(3)

2 -

عن جابر بن سمرة

(4)

رضي الله عنه قال: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم"

(5)

.

(1)

علي بن أبي طالب: ولد قبل البعثة بعشر سنين تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وشهد معه المشاهد كلها ما عدا غزوة تبوك، حيث استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، وهو رابع الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين ومناقبه كثيرة، قتل على يد عبد الرحمن بن ملجم عام 40 هـ. الإصابة (2/ 501 - 503) رقم 5690.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي: باب غزوة تبوك، انظر فتح الباري (8/ 112) ح 4416، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (7/ 120).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن واللفظ له. انظر: فتح الباري (13/ 81، 82) ح 7121، وأخرجه مختصرًا مسلم في صحيحه، كتاب الفتن: باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (8/ 170).

(4)

جابر بن سمرة بن جنادة العامري: له ولأبيه صحبة، وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص، توفي سنة 74 هـ. الإصابة (1/ 213) رقم 1018.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب الناس تبع لقريش (6/ 4).

ص: 117

‌هـ - الحديث الذي ورد فيه التصريح بأنه آخر الأنبياء وأن مسجده آخر المساجد وأن أمته آخر الأمم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وإن مسجده آخر المساجد

".

قال عبد الله بن إبراهيم قارظ

(1)

أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني آخر الأنبياء وإن مسجدي آخر المساجد"

(2)

.

‌و - دلالة بعض أسمائه صلى الله عليه وسلم على كونه خاتم الأنبياء:

عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى لي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي"

(3)

.

والأحاديث في مسألة ختم النبوة كثيرة لا يتسع المقام هنا لإيرادها جميعها، وقد جمع هذه الأحاديث صاحب كتاب "عقيدة ختم النبوة" فمن أراد الزيادة فليرجع إليه

(4)

.

* * *

(1)

ويقال: إبراهيم بن عبد الله بن قارظ الكناني وهما واحد، روى عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة وغيرهم، ذكره ابن حبان في الثقات. تهذيب التهذيب (1/ 134).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (4/ 124، 125).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر: فتح الباري (6/ 554) ح 3532، وأخرجه مسلم، كتاب الفضائل: باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، واللفظ له (7/ 89).

(4)

وهي رسالة ماجستير مطبوعة.

ص: 118

‌المطلب الرابع: ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم في تأكيد عقيدة ختم النبوة

لقد كان موقف الصحابة رضوان الله عليهم تجاه هذا الأمر متمثلا في الأمور التالية:

‌أ - روايتهم للأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن والتي بلغت حد التواتر

على تنوع عبارات تلك الأحاديث واختلاف المناسبات التي قيلت فيها، وهذا مما يدل على اعتقادهم لهذا الأمر وحرصهم على إبلاغه لهذه الأمة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه خالف هذا الأمر، ولو كانت هناك أدنى شبهة عن أحد منهم لنقلت لنا "وقد بلغ عدد الصحابة رضي الله عنهم الذين رووا أحاديث الختم سبعة وثلاثين صحابيا"

(1)

.

‌ب - إجماع الصحابة على قتال المتنبئين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

فلقد سير أبو بكر رضي الله عنه الجيوش - والتي كان معظم جندها من الصحابة رضوان الله عليهم - وذلك لقتال مسيلمة الكذاب

(2)

وطليحة الأسدي

(3)

اللذين ادعيا النبوة.

(1)

عقيدة ختم النبوة (ص 55).

(2)

هو: مسيلمة بن ثمامة بن كبير الكذاب، ادعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في أواخر سنة عشر، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم قبل القضاء على فتنته، فلما انتظم الأمر لأبي بكر رضي الله عنه، انتدب له خالد بن الوليد على رأس جيش قوي فقتل مسيلمة الكذاب. البداية (5/ 49 - 52، 6/ 323 - 327) والأعلام (7/ 226).

(3)

طليحة بن خويلد الأسدي: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد من بني أسد سنة =

ص: 119

‌ج - ما ورد من الأقوال المأثورة عنهم والتي تضمَّنت التأكيد على ختم النبوة

وانقطاع الوحي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الأقوال: ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم

"

(1)

.

وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عند تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .

قال في تفسيرها: "إن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا"

(2)

.

وعن ابن أبي أوفى

(3)

رضي الله عنه لما سئل عن إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مات صغيرًا، ولو قضى أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه ولكن لا نبي بعده"

(4)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان إبراهيم - يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم قد ملأ الأرض، ولو بقي لكان نبيًّا، ولكن لم يبق إلا نبيكم آخر الأنبياء"

(5)

.

= (9 هـ)، وأسلموا، ولما رجعوا ارتد طليحة، وادعى النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. سيَّر إليه أبو بكر خالد بن الوليد، فانهزم طليحة وفر إلى الشام ثم أسلم وحسن بلاؤه في الفتوح، واستشهد في نهاوند سنة 21 هـ. الإصابة (2/ 226) رقم 4290، والأعلام (3/ 230).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كناب الشهادات، باب الشهداء العدول. انظر: فتح الباري (5/ 251) ح 2641.

(2)

معالم التنزيل للبغوي (6/ 565).

(3)

هو: عبد الله بن أبي أوفى واسمه علقمة بن خالد الأسلمي: له ولأبيه صحبة، شهد الحديبية، وروى أحاديث شهيرة نزل الكوفة، ومات بها سنة ثمانين. الإصابة (2/ 271) رقم 4555.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب: باب من سمى بأسماء الأنبياء.

انظر: فتح الباري (10/ 577).

(5)

أخرجه أحمد في المسند (3/ 133).

ص: 120

‌المطلب الخامس: إجماع الأمة

تلقت الأمة النصوص الواردة في الكتاب والسنة بشأن ختم النبوة بالقبول التام فحصل بهذا إجماعها على كون النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين فلا نبي ولا رسول بعده، ورسالته هي خاتمة الرسالات وآخرها.

وقد نقل هذا الإجماع غير واحد من العلماء، أذكر على سبيل المثال قول بعض منهم:

قال ابن عطية

(1)

في معرض كلامه على آية الختم: "وهذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفًا وسلفًا متلقاة على العموم التام مقتضية نصًّا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

وقال القاضي عياض

(3)

: "أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأنه أرسل كافة لله للناس وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد منه دون

(1)

واسمه عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الغرناطي: مفسر فقيه، عارف بالأحكام والحديث، توفي سنة 541 هـ. طبقات المفسرين للداودي (1/ 265) والأعلام (3/ 282).

(2)

تفسير القرطبي (14/ 196).

(3)

عياض بن موسى بن عياض السبتي، أبو الفضل: عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، توفي عام 544 هـ. الأعلام (4/ 99).

ص: 121

تأويل ولا تخصيص"

(1)

.

قال الألوسى

(2)

: "وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب، وصدعت به السُّنَّة، وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدَّعي خلافه ويقتل إن أصرَّ"

(3)

.

ولقد تكلم علماء الأمة على تقرير هذه المسألة وأقوالهم محفوظة في ذلك، فإن شئت فارجع إلى كتب التفسير عند تفسير قوله تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وارجع كذلك إلى كتب العقيدة فقلَّ أن يخلو كتاب من الحديث في هذا الأمر وتقريره بما ورد في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ومن بعدهم من علماء الأمة.

وبما تقدم من أدلة على تقرير ختم النبوة فإنه يجب على كل من يؤمن بالله ورسوله أن يؤمن بهذا الأمر ويعتقده.

* * *

(1)

الشفا (2/ 1071).

(2)

محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي: مفسر محدث، أديب وهو صاحب كتاب روح المعاني، توفي سنة 1270 هـ، الأعلام (7/ 176).

(3)

روح المعاني (22/ 32، 39).

ص: 122

المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة وأكملها

ص: 123

‌المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة وأكملها

من تمام نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن أكمل لهم دينهم فلا ينقصه أبدًا، ولا يحتاج إلى زيادة أبدًا، واقترن هذا الإكمال برضاه سبحانه بأن يكون هذا الدين الكامل دينا نتعبده به، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} .

وهذه الآية دليل على كمال الدين وحيًا من الله، وتبليغًا من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد نزلت هذه الآية الكريمة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات في حجة الوداع، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إحدى وثمانين ليلة.

وهي شهادة من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على تبليغه لما أرسله به أتم تبليغ وأكمله وبذلك جعله الله خاتم النبيين، لأن الخلق بعد هذا لن يحتاجوا إلى نبي غير نبيهم صلى الله عليه وسلم ليكمل لهم دينهم، كما أنهم لا يحتاجون إلى دين آخر وذلك لكمال دينهم.

ووجه الدلالة من الآية على ذلك: "أن الله أخبر في هذه الآية بأنه قد أكمل الدين، وإنما كمل بما بلغه، إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه، فعلم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده"

(1)

.

وما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة إلا أن استشهد الناس على ذلك في نفس المناسبة التي نزلت فيها الآية.

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم

(1)

مجموع الفتاوى (5/ 155، 156) بتصرف.

ص: 125

ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ ". قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات

" الحديث

(1)

.

فشهد له خير قرون هذه الأمة وهم صحابته رضوان الله عليهم وكانوا في ذلك الموقف نحوا من أربعين ألفًا

(2)

.

ولقد أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في مواطن متعددة من كتابه العزيز بأن يبلغ أمور هذا الدين البلاغ المبين الواضح فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ، وقال تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، وقال تعالى:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، وقال تعالى:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} .

وهذا الأمر والحث من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على البلاغ لشرع الله والدين الذي أوحاه إليه نابع من كون الرسول صلى الله عليه وسلم هو الطريق الوحيد الذي يعرف بواسطة ما شرعه من دين يدين العباد له به، فليس ثمت طريق آخر إلى معرفة شرع الله وأوامره ونواهيه إلا طريقه بها فهو المبلغ عن الله تعالى، وهذه هي سنة الله في خلقه حيث جعل طريق معرفته وعبادته عن طريق من أرسله من الرسل "فلا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدارين إلا على أيدي الرسل، كما أنه لا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث والحلال من الحرام إلا من جهتهم، ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 41).

(2)

تفسير ابن كثير (2/ 77).

ص: 126

توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير"

(1)

وبهذا وبغيره نلمس عظم الحاجة إلى تبليغ الرسل.

ومما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الأنبياء بلاغًا، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على هداية أمته، وقد قال تعالى في حقه:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، وسيرته صلى الله عليه وسلم كلها دليل على مدى حرصه على إبلاغ رسالة ربه والتفاني في إبلاغها دون أن تأخذه في الله لومة لائم. وهو صلى الله عليه وسلم أحق الناس بالوصف الوارد في قوله تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} "فقد امتدح الله تبارك وتعالى في هذه الآية الذين يبلغون رسالته إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد إبلاغ رسالات الله، وسيد الناس في هذا المقام بل وفي كل مقام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب وإلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع"

(2)

.

ولقد أيد الله تبارك وتعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بكل ما يلزم لتبليغ وحي الله وشرعه، فأعطاه العصمة في التبليغ فقال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، فهذه الآية دليل واضح على عصمته صلى الله عليه وسلم في كل أمر بلغه عن ربه تبارك وتعالى، كما أنها شهادة

(1)

زاد المعاد، لابن القيم (1/ 69).

(2)

تفسير ابن كثير (3/ 492) بتصرف.

ص: 127

وتزكية من الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سلامة شرعه الذي أوحاه إليه من كل ما ينقص منه.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به فإني لن أكذب على الله"

(1)

وبالإضافة إلى عصمته في أمر التبليغ فقد عصمه الله كذلك من الناس حتى يتم له أمر إبلاغ هذا الدين وإكماله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} فاقترن تعهد الله بعصمة رسوله من قتل الناس وإيذائهم له مع الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل إليه، وفى هذا الاقتران دليل جلي على أن عصمة الله تعالى وحفظه ونصره وتأييده على أعدائه قد صاحبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى تم له إبلاغ هذا الدين ونشره بين الناس.

ومع عصمة الله لنبيه في التبليغ، وعصمته من الناس، فكذلك عصم الله كتابه الذي أنزله إليه ليكون محفوظا من كل تحريف أو تغيير قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

كما تعهد كذلك بحفظ هذا الدين وإبقاء طائفة في كل زمان من الأزمنة تنصر هذا الدين وتحفظه وتبلغه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله"

(2)

. وفي هذه الأمور ضمان لاستمرار هذا الدين وإبلاغه لكل أهل زمان، لأنه شامل لكل الناس في كل وقت إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا (7/ 95).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب قوله من: "لا تزال طائفة من أمتي

" (6/ 52، 53).

ص: 128

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في مواطن متعددة بأنه قد أبلغ أمور الرسالة وأوضحها لأمته، وهو صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"قد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"

(1)

وهذا هو الحق، فقد بلَّغ وحي ربه وصدع بأمره، ونهض بأعباء الرسالة كما أراد الله منه، فأدى الأمانة ونصح لأمته وجاهد في الله حق جهاده، وما ترك لأمته من شيء يقربهم إلى الجنة إلا وقد دلهم عليه ورغبهم فيه، ولا من شيء يبعدهم عن النار إلا وقد حدثهم به وحذرهم منه، وبين لهم كل ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم فهذه هي مهمته ورسالته {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، وقد أتم عليه الصلاة والسلام ما أوكل إليه على أتم وجه وأكمله فأبان الطريق ودل على صراط الله المستقيم وترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

ولقد شهد الصحابة رضوان الله عليهم بهذا. فهم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وكانوا ملازمين له في كل أحواله وحركاته فهم أعلم بما كان. وسأورد بعض ما ورد عنهم في هذا الشأن.

فقد سئل سلمان الفارسي

(2)

رضي الله عنه فقيل له: "أقد أعلمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال: "أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (4/ 126) واللفظ له، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 27) ح 49، وابن ماجة في السنن، المقدمة: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 16) ح 43، والحاكم في المستدرك (1/ 96) وقال الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة (1/ 270). "حديث صحيح".

(2)

سلمان أبو عبد الله الفارسي: أصله من رامهرمز، وقيل من أصبهان سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فتغرب بحثًا عنه، وتسبب ذلك إلى وقوعه في الرق ومنّ الله عليه بالإسلام. أول مشاهده الخندق، وكان رضي الله عنه خيّرًا فاضلًا حبرًا عالمًا زاهدًا، توفي عام 35 هـ. الإصابة (2/ 60، 61) رقم 3357.

ص: 129

بول، أو أن نستجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع

(1)

أو بعظم"

(2)

.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "لقد تركنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علمًا"

(3)

.

وعن عائشة

(4)

رضي الله عنها قالت: "من حدَّثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} "

(5)

. وفى رواية "من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فلا تصدِّقه، إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} "

(6)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله لكتم: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} "

(7)

.

(1)

الرجيع: العذرة والروث، سُمي رجيعًا: لأنه رجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعامًا أو علفًا. النهاية (2/ 203).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة: باب الاستطابة (1/ 154).

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (5/ 153).

(4)

هي: الصديقة أم المؤمنين، واسمها عائشة بنت أبي بكر الصديق ولدت بعد البعثة بأربع سنوات أو خمس، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع وكانت رضي الله عنها من أعلم الصحابة وأفقههم، وكانت أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم، توفيت عام 58 هـ. الإصابة (4/ 348 - 350) رقم 7040.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير: باب تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، انظر فتح الباري (8/ 275) ح 4612.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ، انظر: فتح الباري (13/ 503) ح 7531.

(7)

أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 13).

ص: 130

فمن حقه صلى الله عليه وسلم على أمته أن يقروا له بفضله وصدقه وأمانته في تبليغ رسالة ربه التي ائتمنه عليها، وكلَّفه أن يقوم بها، فلا يكون إيمانُ للمرء إذا لم يقر للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قد بلَّغ الرسالة أعظم ما يكون التبليغ، وقام بأدائها أعظم ما يكون القيام، واحتمل في سبيلها أشق ما يحتمله البشر، ومن أنكر شيئًا من ذلك أو شك في صدقه فهو كافر مارق عن الإسلام مكذب لله ولرسوله.

* * *

ص: 131

‌المبحث السادس: وجوب الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم

وفيه تمهيد وثلاثة مطالب:

المطلب الأول: تعريف العصمة.

المطلب الثاني: الجوانب التي عصم فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثالث: مسألة وقوع الخطأ منه.

ص: 133

‌تمهيد:

تقدم في المبحث السابق الحديث عن وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها، وأشرت إلى أن هذا البلاغ قد اقترن بعصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في كل ما يبلغه عن ربه عز وجل.

ولقد رأيت أن أُفرد هذا المبحث في الحديث عن عصمته صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب وفي الجوانب الأخرى التي عُصم فيها باعتبار أن أمر الإيمان بعصمته من الأمور الداخلة في الحقوق الواجبة له، والتي يجب على الأمة الإيمان له بها.

وقد ضمَّنت هذا المبحث ثلاثة مطالب:

ص: 135

‌المطلب الأول: تعريف العصمة

‌المعنى اللغوي:

العصمة وردت في اللغة لعدة معان، منها:

‌1 - المنع:

قال "صاحب اللسان:: "العصمة في كلام العرب: المنع، وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يوبقه. عَصَمه، يَعْصِمه، عَصْمًا: منعه ووقاه"

(1)

.

‌2 - الحفظ:

قال "صاحب اللسان": "والعصمة الحفظ، يقال: عصمته فانعصم، واعتصمت بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية"

(2)

.

‌3 - القلادة:

قال "صاحب اللسان": "العصمة القلادة"

(3)

، وكذا في القاموس المحيط

(4)

.

‌4 - الحبل:

قال الزجّاج

(5)

: "أصل العصمة: الحبل وكل ما أمسك شيئًا فقد

(1)

لسان العرب (12/ 403) مادة عصم.

(2)

لسان العرب (12/ 404).

(3)

المصدر السابق (12/ 405).

(4)

(4/ 152، 153).

(5)

الزجّاج - بفتح الزاي والجيم المشددة - أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل =

ص: 136

عصمه"

(1)

.

‌5 - السبب:

قال الطبري: "وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته: عاصم ومنه قول الشاعر:

إلى المرء قيس أطيل السرى

وآخذ من كل حي عصم

(2)

يعنى بالعصم: الأسباب، أسباب الذمة والأمان"

(3)

.

قلت: إذا أمعنت النظر في هذه المعاني وجدتها جميعًا ترجع إلى المعنى الأول الذي هو "المنع" فالحفظ منع للشيء من الوقوع في المكروه أو المحظور، والقلادة تمنع سقوط الخرز منها، والحبل يمنع من السقوط والتردي، والسبب يمنع صاحبه عما يكره.

‌المعنى الشرعي:

أما عصمة النبي صلى الله عليه وسلم فقد عرفت بعدة تعريفات ولعل من أحسنها وأسلمها ما ذكره صاحب كتاب "نسيم الرياض" بأنها "لطف من الله تعالى يحمل النبي على فعل الخير ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقًا للابتلاء"

(4)

.

= الزجاج النحوي: كان عالمًا أديبًا ديِّنًا صنف كتابًا في معاني القرآن، روى عن المبرد وثعلب وغيرهما، توفي في بغداد سنة 311 هـ. وفيات الأعيان (1/ 32).

(1)

لسان العرب (12/ 405).

(2)

ديوان الأعشى (ص 37) بشرح الدكتور محمد حسين.

(3)

تفسير الطبري (4/ 26).

(4)

نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض (4/ 39).

ص: 137

‌المطلب الثاني: الجوانب التي عصم فيها النبي صلى الله عليه وسلم

‌أ - العصمة في التبليغ ودعوى الرسالة:

وهذه العصمة هي التي عليها المناط، فبها يحصل المقصود من البعثة، فتبليغ شرع الله إلى الخلق هي مهمة الرسل من أولهم إلى آخرهم فهم الواسطة بين الله وبين خلقه الذين أرسلوا إليهم، فبطريقهم يهتدي البشر ويرشدون إلى دين الله إذ هم المبلغون عن الله أمره ونهيه وشرعه.

ولذلك فقد أوجب الله العصمة لأنبيائه ورسله في هذا الجانب حتى تصل الرسالة إلى العباد كاملة تامة غير منقوصة ولا محرفة، وبذلك تقوم الحجة على العباد.

ولقد دلت نصوص القرآن والسُّنَّة على عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، وانعقد إجماع الأمة على ذلك.

‌فمن القرآن:

1 -

قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، فالآية نص في عصمة لسانه صلى الله عليه وسلم من كل هوى وغرض فهو لا ينطق إلا بما يوحى إليه من ربه ولا يقول إلا ما أمر به فيبلغه إلى الناس كاملًا موفورًا من غير زيادة ولا نقصان.

وهذه الآية شهادة وتزكية من الله لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما بلغه للناس من شرع الله.

ص: 138

2 -

وقوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} ، فالآيات نصت على أن الله سبحانه وتعالى لا يؤيد من يكذب عليه بل لابد أن يظهر كذبه وأن ينتقم منه.

ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الجنس كما يزعم الكافرون فيما حكاه الله عنهم {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} - وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك - لأنزل الله به من العقوبة ما ذكره في هذه الآيات، وحيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقع له شيء من ذلك فلم يهلكه الله ولم يعذبه، فهو على هذا لم يتقول على الله ما لم يقله ولم يفتر شيئا من عند نفسه، وبهذا تثبت عصمته في كل ما بلغه عن ربه عز وجل.

قال ابن كثير بعد أن فسر هذه الآيات: "والمعنى في هذا بل هو صادق راشد لأن الله عز وجل مقر له ما يبلغه عنه ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات"

(1)

3 -

وقوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} . وهذه الآيات دالة على عصمة الله وتثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما أوحى إليه، ومعناها مقارب لمعنى الآيات التي ذكرناها قبلها "فقد أخبر تعالى عن تأييده لرسوله صلوات الله عليه وسلامه وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه في مشارق الأرض ومغاربها"

(2)

.

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 417).

(2)

المصدر السابق (3/ 53).

ص: 139

وأما الأدلة من السُّنَّة على ذلك فمنها:

1 -

حديث طلحة بن عبيد الله

(1)

وجاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله"

(2)

والحديث نص على عصمته صلى الله عليه وسلم من الكذب فيما يخبر به عن الله.

2 -

حديث عبد الله بن عمرو

(3)

رضي الله عنهما قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق"

(4)

.

3 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لا أقول إلا حقا"، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله. قال: "إني لا أقول إلا حقا"

(5)

.

(1)

طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي أبو محمد، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية السابقين للإسلام، توفي سنة ست وثلاثين من الهجرة. الإصابة (2/ 220، 222).

(2)

تقدم تخريجه (ص 122).

(3)

عبد الله بن عمرو بن العاص: أسلم قبل أبيه وكان رضي الله عنه فاضلا، حافظا عالما، توفي بالشام سنة 65 هـ وقيل غير ذلك. الإصابة (2/ 343 - 344).

(4)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 162، 192)، وأبو داود في سننه، كتاب العلم: باب في كتاب العلم (4/ 60) ح 3646، والحاكم في المستدرك (1/ 104، 105) وصححه ووافقه الذهبي.

(5)

أخرجه أحمد في مسنده (2/ 340، 360). والترمذي في سننه، كتاب البر والصلاة: باب مما جاء في المزاح (4/ 357) ح 1990 وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 140

‌دليل الإجماع:

نقل غير واحد من العلماء إجماع الأمة واتفاقها على عصمته صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما أوحي إليه من ربه عز وجل.

قال القاضي عياض: "وأجمعت الأمة في ما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا"

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه ..... والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين"

(2)

.

‌ب - العصمة من الكفر والشرك:

الحديث عن عصمته صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب ذو شقين هما:

الأول: عصمته قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم.

الثاني: عصمته بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم.

أما الشق الأول: وهو عصمته من الشرك والكفر قبل بعثته ونزول الوحي إليه:

فقد دلت النصوص الثابتة على أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم منذ نشأته من الكفر والشرك فلم يعهد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد لصنم أو استلمه أو إلى غير ذلك من أمور الشرك التي كان يفعلها قومه. فقد فطره الله على معرفته والاتجاه إليه وحده وهذا هو المعلوم من سيرته. فمن النصوص التي يستدل بها على هذا الأمر ما يلي:

-

(1)

الشفا (2/ 746).

(2)

مجموع الفتاوى (10/ 289، 290).

ص: 141

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعنى ظئره

(1)

- فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك الخيط في صدره"

(2)

.

فالحديث نص على إخراج جبريل لحظ الشيطان منه صلى الله عليه وسلم وتطهيره لقلبه فلا يقدر الشيطان على إغوائه إذ لا سبيل له عليه. وهذا دليل على تنزيهه من الشرك منذ صغره صلى الله عليه وسلم.

- وعن زيد بن حارثة رضي الله عنه قال: كان صنم من نحاس يقال له إساف أو نائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تمسه، فقال زيد: فطفت فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون فمسحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تنه؟، قال زيد: فوالذى هو أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه"

(3)

.

وهذا الحديث نص في بعده صلى الله عليه وسلم عن عبادة الأوثان التي كان عليها أهل مكة فنهيه لزيد - الذي كان ابنه بالتبني في ذلك الحين - يؤكد

(1)

أي مرضعته.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 101، 102).

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 216 - 217) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 145). وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 34) بتحقيق عبد المعطي قلعجي. وأورده ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 288). وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 151، 152).

ص: 142

نفرته صلى الله عليه وسلم من تلك الأوثان التي كان يعكف عليها أهل مكة.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحضر مع أهل سكة ما يقيمونه من أعياد لأصنامهم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثتني أم أيمن

(1)

قالت: كان ببوانة صنم يحضره قريش يوما في السنة، وكان أبو طالب

(2)

يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه فيأبى حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب، آلهتنا وجعلن يقلن يا محمد: ما تريد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعًا، فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع إلينا مرعوبا فزعا فقلن عماته: ما دهاك؟ قال: "إني أخشى أن يكون بي لمم"، فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت؟ قال: "إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي وراءك يا محمد لا تمسه" فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبئ"

(3)

.

كما عُصم صلى الله عليه وسلم من الحلف بأسماء تلك الأصنام التي كان يعبدها قومه ويحلفون بها تعظيما لها فقد جاء في قصة بحيرى الراهب

(4)

أنه

(1)

أم أيمن: مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وحاضنته، واسمها: بركة بنت ثعلبة، وهي أم أسامة بن زيد بن حارثة. الإصابة (4/ 415، 416).

(2)

أبو طالب بن عبد المطلب: عم النبي صلى الله عليه وسلم، شقيق أبيه، كفل النبي صلى الله عليه وسلم وذبَّ عنه ونصره بعد بعثته ولم يمت على الإسلام. الإصابة (4/ 115، 118).

(3)

أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 144). وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 151) وعزاه إلى ابن سعد وأبي نعيم وابن عساكر.

(4)

راهب من رهبان النصارى يقال: إنه كان من عبد القيس وكان اسمه: جرجيس. البداية (2/ 286).

ص: 143

استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات والعزى حينما لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي لما رأى فيه علامات النبوة فقال بحيرى للنبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط"

(1)

.

والنصوص في مثل هذا كثيرة، وقد عني بجمعها من ألَّف في دلائل النبوة مثل الحافظ أبي نعيم الأصبهاني

(2)

فقد عقد فصلا في كتابه دلائل النبوة بعنوان: "ذكر ما خصه الله عز وجل به من العصمة وحماه من التدين بدين الجاهلية

" وقد أورد تحت هذا العنوان العديد من الأحاديث والشواهد في هذا الشأن

(3)

.

وكذلك فعل البيهقي

(4)

في "دلائل النبوة" أيضًا، فعقد عنوانًا لهذا الموضوع فقال:"باب ما جاء في حفظ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في شبيبته عن أقذار الجاهلية ومعائبها، لما يريده به من كرامته برسالته حتى يبعث رسولا"

(5)

.

(1)

أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 125 - 128)، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 26، 27) بتحقيق عبد المعطي قلعجي. وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 142، 144) وعزاه للبيهقي.

(2)

أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني وأبو نعيم. حافظ مؤرخ من الثقات في الحفظ والرواية، ولد ومات بأصبهان عام 430 هـ من مؤلفاته: حلية الأولياء ودلائل النبوة. الأعلام (1/ 157).

(3)

انظر (ص 143 - 147).

(4)

أحمد بن الحسين البيهقي: صاحب التصانيف المشهورة ومنها: السنن الكبرى، وشعب الإيمان، ودلائل النبوة، ولد سنة 384 هـ وتوفي سنة 458 هـ. تذكرة الحفاظ (3/ 1132) والأعلام (1/ 116).

(5)

انظر (2/ 30، 42).

ص: 144

ومثلهما السيوطي في الخصائص الكبرى

(1)

حيث قال: "باب اختصاصه صلى الله عليه وسلم بحفظ الله إياه في شبابه عما كان فيه أهل الجاهلية"

(2)

.

الإجماع:

نقل الجرجاني

(3)

إجماع الأمة على عصمة الأنبياء من الكفر والشرك قبل النبوة وبعد حيث قال: "وأما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها ولا خلاف لأحد منهم في ذلك"

(4)

.

وهذا هو الحق فالله سبحانه وتعالى قد نزَّه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الكفر والشرك وعصمه من الوقوع فيهما وذلك داخل في باب إعداده لتحمل الرسالة، ومثل ذلك صيانة الله لنسبه الذي تناسل منه فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يلتق أبواي على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبًا لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما"

(5)

.

وكل ذلك حتى لا يبقى لمنتقص حجة يتعلق بها لتنفير الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم أن كفار قريش كانوا حريصين أشد الحرص على تجريح النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بما ينقص من قدره ويحط من شأنه لتنفير الناس منه وصدهم عن دعوته. فلقد رموه واتهموه بالسحر والجنون وغير

(1)

عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي: حافظ مؤرخ أديب له نحو (600 مصنف) ولد سنة 849 هـ وتوفي سنة 911 هـ. الأعلام (3/ 301 - 302).

(2)

انظر: (1/ 148، 152).

(3)

هو: علي بن محمد بن علي المعروف بالشريف الجرجاني: ولد سنة 740 هـ وتوفي سنة 816 هـ له كتاب التعريفات، وشرح المواقف وغيرهما. الأعلام (5/ 7).

(4)

شرح المواقف (ص 134).

(5)

أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 24) من عدة طرق والحديث له شواهد متعددة أوردها السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 63، 66).

ص: 145

ذلك من النقائص، ولكن لم يكن الشرك والكفر من ضمن ما رمَوه به، فسكوتهم عن ذلك دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه إذ لو كان لنقل، وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عند تحويل القبلة كما حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} .

وبهذا يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على دين قومه من عبادة الأصنام وتعظيمها، فقد عصمه الله من ذلك فلم يجعل لكفار قريش طريقًا عليه فلذلك لجؤوا إلى تلفيق التهم الباطلة المتناقضة كاتهامه بالسحر تارة وبالجنون تارة وبالكهانة تارة أخرى.

وإذا كان الله قد عصم نبيه صلى الله عليه وسلم فيما هو دون الشرك من الأمور المنكرة التي كان عليها أهل الجاهلية ففي ذلك دليل على أن عصمته من أمور الشرك من باب أولى.

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره فقال له العباس عمَّه: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة، قال فحله فجعله على منكبه فسقط مغشيا عليه فما رؤي بعد ذلك عريانًا صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

إزالة ما يوهم عدم إيمان نبينا وضلاله قبل بعثته:

وردت بعض النصوص التي قد يتوهم منها البعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على كفر وضلال قبل بعثته، وسوف أعرض لهذه النصوص وأبين التوجيه الصحيح لها بما يبين الحق ويصحح الفهم ويزيل ما يقع من الوهم إن شاء الله.

أ - فمن تلك النصوص قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة: باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها. انظر فتح الباري (1/ 474) ح 364 وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض: باب الاعتناء بحفظ العورة (1/ 184).

ص: 146

إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ}.

فقد يتوهم البعض أن هذه الآية تعني انتفاء معرفة النبي للإيمان بالكلية قبل بعثته بمعنى أنه لم يكن مؤمنا.

والجواب على ذلك: أن هذه الفهم خاطئ لأن الإيمان في قوله {وَلا الإِيمَانُ} مصدر بمعنى المفعول فيكون المعنى المراد: أي ما يجب الإيمان به من الفرائض والأحكام الشرعية التي كلف بها علما وعملا، فالمنفي هو الإيمان التفصيلي لا الإجمالي.

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي إليه مبغضًا للشرك وعبادة الأصنام ومتجهًا إلى الله وحده كما سبق الاستدلال على ذلك، فلما نزلت عليه الفرائض والأحكام الشرعية التي لم يكن يدري بها قبل الوحي آمن بها وطبقها. فهذا هو المعنى الصحيح للآية، كما ذكر ذلك علماء التفسير عند تفسيرها قال ابن كثير:" {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} على التفصيل الذي شرع لك في القرآن"

(1)

.

وقال الشوكاني

(2)

: "ومعنى {وَلا الإِيمَانُ} أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يعرف تفاصيل الشرائع ولا يهتدي إلى معالمها، وخص الإيمان لأنه رأسها وأساسها"

(3)

.

ب - ومن النصوص كذلك قول الله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} فقد يتوهم البعض أن الآية تعني أن نبينا كان على ضلال قبل مبعثه وهذا فهم خاطئ وباطل ترده النصوص التي سبق إيرادها والتي نصَّت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أول حاله إلى نزول الوحي عليه

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 122).

(2)

محمد بن علي بن محمد الشوكاني: فقيه مجتهد، من كبار علماء اليمن له (114 مؤلفًا) ولد سنة 1173 هـ وتوفي سنة 1250 هـ. الأعلام:(6/ 298).

(3)

فتح القدير (4/ 530).

ص: 147

معصومًا من عبادة الأوثان وقاذورات أهل الفسق والعصيان.

وقد أشار إلى بطلان هذا الفهم القرطبي عند تفسيره لهذه الآية حيث قال: "فأما الشرك فلا يظن به"

(1)

.

وأما المعنى الصحيح لهذه الآية فقد أشار العلماء إلى عدة معان صحيحة لهذه الآية تشترك جميعها في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن ينسب إليه شيء من الشرك أو الكفر قبل بعثته، ومن تلك المعاني ما يلي:

1 -

أن يفسر الضلال هنا بمعنى الغفلة كما في قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ، وكما في قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} والمعنى أنه وجدك غافلا عما يراد بك من أمر النبوة

(2)

.

2 -

وقال بعضهم: معنى (ضالا) لم تكن تدري ما القرآن والشرائع فهداك الله إلى القرآن وشرائع الإسلام، وهو بمعنى قوله تعالى:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} وعلى هذا التفسير يكون المعنى: أي: وجدك ضالا عن شريعتك التي أوحاها إليك لا تعرفها قبل الوحي إليك، فهداك إليها

(3)

.

3 -

وقال بعضهم: معنى الآية: أي: وجدك في قوم ضلال فهداهم الله بك

(4)

.

4 -

وقال بعضهم: الضلال بمعنى الطلب؛ أي وجدك طالبًا للقبلة

(1)

تفسير القرطبي (20/ 99).

(2)

تفسير القرطبي (20/ 96) وفتح القدير (5/ 458).

(3)

انظر: تفسير ابن كثير (5/ 523) وتفسير القرطبي (20/ 96، 97)، وفتح القدير (5/ 458).

(4)

انظر: تفسير القرطبي (20/ 97)، وفتح القدير (5/ 458).

ص: 148

فهداك إليها

(1)

كما في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} .

فلقد أورد العلماء عددًا من المعاني لهذه الآية منها ما هو معنوي ومنها ما هو حسي، وهي معان كلها حسان

(2)

.

ج - ومن النصوص كذلك قوله تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} .

فليس المقصود بالغفلة هنا الشرك والغواية إنما المقصود منها الغفلة عن قصة يوسف مع الله وإخوته كما يوضح ذلك سياق الآية. فهذه القصة وأمثالها لا تعلم إلا من الوحي فلهذا لا يلحقه نقص بسببها.

وهذا هو ما ذكره علماء التفسير عند هذه الآية.

قال القرطبي: "أي من الغافلين عما عرَّفناكه"

(3)

. وقال الشوكاني: "والمعنى أنك من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عن هذه القصة"

(4)

.

د - ومن تلك النصوص ما رواه عثمان بن أبي شيبة

(5)

بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين من خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلفه، فقال الآخر: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام

(1)

انظر: تفسير القرطبي (20/ 97) وفتح القدير (5/ 458).

(2)

انظر: تفسير القرطبي (20/ 97) بتصرف.

(3)

تفسير القرطبي (9/ 120).

(4)

المصدر السابق (3/ 4).

(5)

هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة الكوفي العبسي، من حفاظ الحديث، وله من المصنفات:"المسند"، و"التفسير"، ولد سنة 156 هـ وتوفي سنة 239 هـ. تاريخ بغداد (11/ 382).

ص: 149

الأصنام، فلم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهدهم"

(1)

.

والمنكر من هذا الحديث قوله عن الملك: "عهده باستلام الأصنام" والجواب عن هذا الحديث ذو شقين هما:

أولا: الكلام على سند الحديث:

تكلم العلماء على سند الحديث وأوردوا عللًا منها:

1 -

أن عثمان بن أبي شيبة لم يتابع عليه

(2)

.

ولكن الذهبي

(3)

أجاب عن هذا بقوله: "عثمان لا يحتاج إلى متابع ولا ينكر له أن ينفرد بأحاديث لسعة ما روى، وقد يغلط، وقد اعتمده الشيخان في صحيحيهما

"

(4)

.

2 -

قال الدارقطني

(5)

: "يقال إن عثمان بن أبي شيبة وهم في إسناده، وغيره يرويه عن جرير

(6)

عن سفيان بن عبد الله

(7)

بن محمد بن

(1)

أخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 1447)، والخطيب في تاريخ بغداد (11/ 286).

وأبو يعلى الموصلي في مسنده، والعقيلي في الضعفاء، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 166)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 35). وأورده الذهبي في الميزان (3/ 35) وأورده ابن حجر في لسان الميزان (3/ 53) وأورده ابن كثير في التاريخ (2/ 288) وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 152).

(2)

العلل المتناهية لابن الجوزي (1/ 167).

(3)

محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، حافظ، مؤرخ، علامة محقق له تصانيف كثيرة كبيرة تقارب المئة، منها: سير أعلام النبلاء، وتذكرة الحفاظ وغيرها، ولد سنة 673 هـ، وتوفي سنة 748 هـ. الأعلام (5/ 326).

(4)

ميزان الاعتدال (3/ 35).

(5)

علي بن عمر الدارقطني الشافعي إمام عصره في الحديث، ولد سنة 306 هـ وتوفي سنة 385 هوله كتاب "السنن" و "العلل". الأعلام (4/ 314).

(6)

جرير بن عبد الحميد الضبي نزيل الري وقاضيها ثقة صحيح الكتاب مات سنة ثمان وثمانين ومائة. تهذيب التهذيب (2/ 75).

(7)

سفيان بن عبد الله بن زياد بن جدير: مجهول، لسان الميزان (3/ 53).

ص: 150

زياد بن جدير مرسلا وهو الصواب

(1)

.

ومن كلام الدارقطني نتبين لنا علتان:

أ - أن الحديث مرسل وليس متصلا.

ب - جعله لسفيان الثوري

(2)

مكان سفيان بن عبد الله وهذا وهم في السند فسفيان بن عبد الله مجهول، وأما الثوري فهو ثقة

(3)

.

3 -

أن في سند عثمان بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن عقيل

(4)

وهو ضعيف عند القوم

(5)

. وبهذا يتبين ضعف إسناد الحديث.

ثانيا: الكلام على متن الحديث:

بالإضافة إلى ضعف هذا الحديث الذي لا تقوم به حجة فإن ظاهر اللقظ وهو قوله إنما عهده باستلام الأصنام يخالف ما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لم يكن على شيء مما كان عليه أهل مكة من الشرك وذلك منذ ولادته إلى أن بعثه الله رسولا نبيا ليدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وترك ما يعبد من دونه. ولقد سبق إيراد الأدلة على ذلك فليرجع إليها.

وقد ذكر بعض العلماء: أن ظاهر الحديث ليس مرادا، فليس المقصود أنه باشر الاستلام، وإنما المقصود أنه شهد مباشرة المشركين

(1)

العلل المتناهية (1/ 167).

(2)

سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة حافظ فقيه، عابد إمام حجة، مات سنة إحدى وستين ومائة. تهذيب التهذيب (4/ 111).

(3)

لسان الميزان (3/ 53) بتصرف.

(4)

عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي، كان خيرا فاضلا موصوفا بالعبادة، ولكن لم يكن متقنا في الحديث فضعفوه. تهذيب التهذيب (6/ 13 - 16).

(5)

العلل المتناهية (1/ 167).

ص: 151

استلام أصنامهم

(1)

.

الشق الثاني: عصمته صلى الله عليه وسلم من الكفر والشرك بعد النبوة:

بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس إلى عبادة الله وحده وترك ما هم فيه من الكفر والشرك.

ولقد كان صلى الله عليه وسلم في تطبيق ما أمر به هو المثل الأعلى الذي يحتذى به. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .

فهو منزه عن كل ضلال وغواية كما أخبر الله بذلك في كتابه العزيز {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} فهذه شهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال ولا غاو، بل هو صلوات الله وسلامه عليه في غاية من الاستقامة والاعتدال والسداد والهداية.

وإجماع الأمة منعقد على ذلك قال الرازي

(2)

: "واجتمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة"

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ففي الجملة كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله تعالى فهم متفقون على تنزيههم عنه"

(4)

.

وقال الآمدي

(5)

: "فما كان منها كفرا فلا نعرف خلافا بين أهل

(1)

ميزان الاعتدال (3/ 35)، وتاريخ بغداد (11/ 286).

(2)

هو: محمد بن عمر الرازي الملقب بالفخر الرازي، ولد سنة 544 هـ وتوفي سنة 606 هـ. الأعلام (4/ 313).

(3)

عصمة الأنبياء (ص 18).

(4)

منهاج السنة النبوية (1/ 130).

(5)

علي بن محمد بن سالم التغلبي أبو الحسن سيف الدين الآمدي، أصولي باحث، ولد سنة 551 هـ وتوفي سنة 631 هـ، من أشهر مؤلفاته: الإحكام في أصول الأحكام. الأعلام (4/ 332).

ص: 152

الشرائع في عصمتهم عنه"

(1)

.

ولم يخالف هذا الإجماع إلا من لا يعتد بخلافهم

(2)

.

والمعلوم من خلال سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان حربًا على الكفر والشرك علااختلاف صوره وألوانه، فلم يدع طريقا أو سبيلا لهدم الشرك والكفر إلا وقد سلكه مستخدما في ذلك لسانه وسنانه، وهذا كله يؤكد عصمته صلى الله عليه وسلم من الكفر والشرك وهذا أمر مشتهر وأعظم من أن يحتاج إلى دليل يؤكده.

(1)

الإحكام في أصول الأحكام (1/ 128).

(2)

الذين خالفوا في هذه المسألة هم:

أ - الأزارقة: وهم فرقة من فرق الخوارج وقد نقل عنهم أنهم قالوا بجواز بعثة نبي علم الله أنه يكفر بعد نبوته. انظر الإحكام في أصول الأحكام (1/ 128)، والمواقف للإيجي (358، 359).

ب - والفضيلية: رهم من فرق الخوارج، ويقولون بجواز الكفر على الأنبياء من جهة كونهم يعتقدون جواز صدور الذنوب عن الأنبياء وكل ذنب هو كفر - على حسب اعتقادهم - فمن هذا الباب جوزوا صدور الكفر عنهم. انظر: عصمة الأنبياء للرازي (ص 18) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 128).

ج - الرافضة: فقد جوزوا على الأنبياء إظهار الكفر على سبيل التقية عند خوف الهلاك، بل نقل عنهم أنهم أوجبوه. ويعللون ذلك بقولهم: إن إظهار الإسلام إن كان مفضيا إلى القتل كان إلقاء للنفس في التهلكة، وإلقاء النفس في التهلكة حرام لقوله تعالى:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} ، وإذا كان إظهار الإسلام حراما كان إظهار الكفر واجبا. انظر: عصمة الأنبياء للرازي (ص 18).

د - ذكر ابن حزم في كتابه الفِصَل (4/ 2): "أنه رأى في كتاب أبي جعفر السمناني قاضي الموصل صاحب الباقلاني أنه كان يقول: كل ذنب دق أو جل فإنه جائز على الرسل حاشا الكذب في التبليغ فقط، قال: وجائز عليهم أن يكفروا".

ص: 153

‌ج - عصمته من الكذب في غير الوحي والتبليغ:

من المعروف عن سيرته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها أنه متصف بكل خلق فاضل من صدق وأمانة وبر وصلة رحم وإحسان وجود إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق التي جبله الله عليها منذ نشأته، وحري به صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك فقد اختاره الله لحمل الأمانة العظمى التي هي أداء الرسالة وتبليغها إلى الناس كافة، فكان لابد من إعداده لهذه المهمة، ولذا فقد فطره الله على كل خلق فاضل كريم وقد جمع الله له خصال الخير كلها، فلم يكن يدعى إلا بالأمين، ومن الأدلة التي يستدل بها على اتصافه بالصدق قبل بعثته ما يلي:

1 -

قول خديجة بنت خويلد

(1)

رضي الله عنها حينما أتاها النبي صلى الله عليه وسلم خائفا بعد أن لقيه جبريل في غار حراء وقال لها: "إني قد خشيت على نفسي"، فقالت له:"كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"

(2)

.

2 -

إجماع قريش على الإقرار بصدقه حينما جمعها ليصدع بالدعوة جهرا فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهريا بني عدي" - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن

(1)

خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية: زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأول من صدقت ببعثته مطلقا، توفيت بعد خروج بني هاشم من الشعب. الإصابة (4/ 273 - 276).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير. انظر: فتح الباري (8/ 715) ح 4953.

ص: 154

يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب

(1)

وقريش، فقال:"أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدِّقي". قالوا: ما جربنا عليك إلا صدقًا.

قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد

" الحديث

(2)

.

فالشاهد من الحديث قولهم "ما جربنا عليك إلا صدقا" فالنبي صلى الله عليه وسلم انتزع منهم هذه الشهادة الجماعية بصدقه وانتفاء الكذب عنه، لعلمه بما قد سيقع من تكذيبهم له عند إخبارهم بأمر الرسالة.

3 -

على تكذيب قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوة النبوة إلا أن أحدا منهم لم يجرؤ على وصفه بالكذب في سواها فقد قال أبو جهل

(3)

للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به

(4)

فأنزل الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .

وكذلك عندما سأل الأخنس بن شريق

(5)

أبا جهل بعد ما خلا به يوم بدر فقال: "يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليمر ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن

(1)

اسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وكنيته أبو عتبة: وهو أحد أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم، كان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والبغضة له ولدينه. تفسير ابن كثير (4/ 564).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير: باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ، انظر: فتح الباري (18/ 501) ح 4770، واللفظ له.

(3)

اسمه عمرو بن هشام، وكان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر. ابن الأثير (1/ 23 - 47).

(4)

انظر: تفسير الطبري (7/ 182).

(5)

الأخنس بن شريق الثقفي: كان من المؤلفة، وشهد حنينًا، ومات في أول خلافة عمر. الإصابة (1/ 39 - 40).

ص: 155

إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ "

(1)

.

4 -

ومما يستدل به كذلك جواب أبي سفيان

(2)

لهرقل

(3)

عندما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن فيها أبا سفيان وكفار قريش، فكان مما سأله عنه: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا. فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله

(4)

.

وبعد؛ فهذه نماذج على صدقه صلى الله عليه وسلم وعصمته من الكذب قبل بعثته.

وكذا الحال بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فهذه أخبار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآثاره وسيره وشمائله معتنى بها مستوفاة تفاصيلها لم يرد في شيء منها تداركه صلى الله عليه وسلم لخبر صدر منه رجوعا عن كذبة كذبها، أو اعترافًا بخلف في خبر أخبر به ولو وقع شيء من ذلك لنقل إلينا.

ومن المعلوم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله والثقة بجميع إخباره في أي باب كانت وعن أي شيء وقعت دون توقف أو تردد في شيء منها أو استثبات عن حاله

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 182)، وأورده ابن كثير في تفسيره (2/ 130).

(2)

اسمه صخر بن حرب بن أمية أبو سفيان القرشي الأموي، مشهور باسمه وكنيته، أسلم عام الفتح وشهد حنينا والطائف وكان من المؤلفة، توفي في آخر خلافة عثمان.

الإصابة (2/ 172، 173).

(3)

هَرَقل: هو ملك الروم، وهرقل اسمه - وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف - ولقبه قيصر، كما يلقب ملك الفرس كسرى ونحوه. فتح الباري (1/ 33).

(4)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي. انظر: فتح الباري (1/ 31) ح 7.

ص: 156

تلك هل وقع فيها سهوًا أم لا"

(1)

.

وهذا كله يؤكد عصمته صلى الله عليه وسلم من الكذب بأي حال من الأحوال.

قال القاضي عياض: "وأما أقواله الدنيوية من إحباره عن أحواله وأحوال غيره وما يفعله أو فعله فقد قدمنا أن الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال وعلى أي وجه من عمد أو سهو، أو صحة أو مرض، أو رضا أو غضب وأنه معصوم منه صلى الله عليه وسلم.

هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق والكذب، فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة كتوريته عن وجه مغازيه لئلا يأخذ العدو حذره.

وكما روي من ممازحته ودعابته لبسط أمته وتطييب قلوب المؤمنين من صحابته، وتأكيدا في تحببهم ومسرة نفوسهم، كقوله:"إني حاملك على ولد الناقة"

(2)

، وقوله للمرأة التي سألته عن زوجها:"أهو الذي بعينه بياض"

(3)

وهذا كله صدق لأن كل جمل ابن ناقة، وكل إنسان بعينه بياض، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إني أمزح ولا أقول إلا حقا"

(4)

.

(1)

الشفا (2/ 768 - 769).

(2)

أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب ما جاء في المزاح (5/ 270 - 271) ح 4998، وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب البر والصلة: باب ما جاء في المزاح (4/ 357) ح 1989، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

(3)

عزاه السيوطي إلى ابن أبي الدنيا. انظر: مناهل الصفا (ص 233) ح رقم 1270.

(4)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 340)، وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب البر والصلة: باب ما جاء في المزاح (4/ 357) وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه الطبراني في الصغير والأوسط والكبير عن ابن عمر كما في المجمع (8/ 89)، وقال الهيثمي:"وفيه من لم أعرفه" والطبراني في الأوسط عن =

ص: 157

‌د - عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي دون الشرك:

جبل الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم على كل خلق فاضل كريم قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فخلَّقه بأكرم السجايا، وجميل الأخلاق، وحسن الطوية وصفات الخير جميعها، كما نزهه عن كل ما يحط من قدره وينقص من منزلته، قال تعالى:{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ، فهو صلى الله عليه وسلم منزه من كل ضلال وغواية، وقد كان من صيانة الله وحفظه له أن حماه من أقذار الجاهلية قبل مبعثه ونزول الوحي إليه، فهو معصوم عن كل ما يحط من قدره ويدق في شخصه ومما ورد في هذا الشأن من الأحاديث ما يلي:

- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه

(1)

: يا ابن أخي لو حللت إزارك، فجعلته على منكبك دون الحجارة، قال: فحلَّه على منكبه فسقط مغشيا عليه فما رؤي بعد عريانا صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمُّون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، فدخلت حتى إذا جئت أول دار مكة

= أبي هريرة كما في المجمع (9/ 17) وقال الهيثمي: إسناده حسن. وانظر: الشفا (2/ 877، 878).

(1)

العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي: عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بسنتين يقال إنه أسلم وكتم إسلامه، هاجر إلى المدينة قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح وثبت يوم حنين، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين. الإصابة (2/ 263).

(2)

تقدم تخريجه (ص 146).

ص: 158

سمعت عزفًا بالغرابيل والمزامير، قلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟، قلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟، قلت: لا شيء ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله بنبوته"

(1)

.

وعن علي رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل عبدت وثنا قط؟، قال:"لا".

قالوا: فهل شربت خمرا قط؟

قال: "لا وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان"

(2)

.

فهذا عن عصمته قبل مبعثه فما بالك بعد مبعثه والأمر لا يتعلق بنفسه فقط بل يتعداه لغيره بكونه هو القدوة ومعلم الناس وهاديهم ومرشدهم بل إن كل قول من أقواله وكل فعل من أفعاله يعد تشريعًا تأخذ به أمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فأمر عصمته صلى الله عليه وسلم من

(1)

أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 143)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 33، 34)، وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 149، 150)، وعزاه لابن راهويه في مسنده وابن إسحاق والبزار والبيهقي وأبي نعيم وابن عساكر وقال: قال ابن حجر: إسناده حسن متصل ورجاله ثقات. وأورده ابن كثير في البداية (2/ 287).

(2)

أورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 150) وعزاه لأبي نعيم وابن عساكر.

ص: 159

الكبائر أمر دلت عليه النصوص من القرآن والسنة ويكفي المسلم أن يقرأ في ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فهذه تزكية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم توجب سلامته من كل ما يحط من منزلته ويقدح في نبوته بما في ذلك الكبائر.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" الحديث

(1)

ومما يندرج تحت هذه الخشية والتقوى، بُعده عن كل ما يسخط الرب عز وجل ومن ضمن ما يسخطه ارتكاب الكبائر، فهو صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عنها لكمال خشيته وتقواه لربه عز وجل، فلقد زكاه الله وطهر نفسه ولم يجعل للشيطان عليه من سبيل، وقد تقدم إيراد الحديث الذي جاء فيه أن جبريل شق قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير فاستخرج منه علقة وقال: هذا حظ الشيطان منك

(2)

.

* * *

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح: باب الترغيب في النكاح. انظر: فتح الباري (9/ 104) ح 5063، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه. (4/ 128).

(2)

انظر: تخريجه (ص 142).

ص: 160

‌المطلب الثالث: مسألة وقوع الخطأ منه

تقدم ذكر الأمور التي عُصم فيها صلى الله عليه وسلم، وبقي أن نعلم هل يقع الخطأ منه في غير ما تقدم؟، والجواب على هذا: أن القول الذي عليه أكثر علماء الإسلام

(1)

والذي دلت عليه نصوص القرآن والسنة أن الخطأ يقع منه صلى الله عليه وسلم في غير ما تقدم ذكره ولكنهم يعتقدون الأمور التالية:

1 -

أن الله لا يقره على هذا الخطأ الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم، بل يوجهه الله للحق وقد يحصل له العتاب على ذلك.

2 -

أن الخطأ يقع منه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاجتهاد من غير أن يتعمده ولذلك لا تسمَّى "معصية" فهذه العبارة تعد إساءة أدب معه صلى الله عليه وسلم ولا يصح إطلاقها في حقه صلى الله عليه وسلم.

3 -

أن ما يقع منه من هذا القبيل ليس مما يقدح في حقه أو ينقص من منزلته وقدره، ولقد سبق بيان الأمور التي عصم فيها صلى الله عليه وسلم وتلك الأمور هي التي في حالة وقوعها تقدح في حقه ومنزلته، وقد عصم فيها.

4 -

أن التوبة حاصلة منه عن هذا الخطأ، وهذا مما يرفع من قدره ويعلي منزلته

(2)

كما أن الله قد وعده بالمغفرة بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} .

وأما النصوص التي يستدل بها على هذا القول فمنها:

قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ

(1)

مجموع الفتاوى (4/ 319).

(2)

المرجع السابق (10/ 293).

ص: 161

يَزَّكَّى}. فهذه الآيات نزلت عتابًا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم

(1)

فقد ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في إسلامه فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم

(2)

وكان ممن أسلم قديما فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء ويلح عليه وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر فأنزل الله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)}

(3)

.

وكذلك قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .

وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} .

قال قتادة: "ثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما، إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي، وأخذه من الأسارى الفدية، فعاتبه الله كما تسمعون"

(4)

.

وأما ما يقع من الخطأ منه في جانب الأمور الدنيوية فمن الأدلة على ذلك حديث رافع بن خديج

(5)

رضي الله عنه قال: "قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة

(1)

تفسير القرطبي (19/ 212).

(2)

ابن أم مكتوم اختلف في اسمه، فقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وعمرو أكثر، وهو ابن قيس بن زائدة القرشي، أسلم قديمًا بمكة وكان من المهاجرين الأولين، قيل: استشهد بالقادسية وقيل مات بالمدينة. الإصابة (2/ 516 - 517).

(3)

تفسير ابن كثير (4/ 470).

(4)

تفسير القرطبي (8/ 154، 155).

(5)

رافع بن خديج بن رافع الأنصاري الأوسي، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر =

ص: 162

وهم يؤبِّرون النخل، يقولون: يلقحون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا. فتركوه، فنقصت قال: فذكروا ذلك له، فقال:"إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر"

(1)

.

وفى رواية أنس: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"

(2)

، وفي رواية طلحة:"إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لا أكذب على الله عز وجل"

(3)

، وكما حكى ابن إسحاق

(4)

أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل بأدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر

(5)

: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، قال: فإنه ليس بمنزل، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القُلُب، فنشرب ولا يشربون، فقال:"أشرت بالرأي"، وفعل ما قاله

(6)

.

= فاستصغره وأجازه يوم أحد فخرج بها وشهد ما بعدها، مات في زمن معاوية. الإصابة (1/ 483، 484).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي (7/ 95).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (7/ 95).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (7/ 95).

(4)

محمد بن إسحاق بن يسار المدني المطلبي، مولاهم، نزيل العراق، إمام المغازي، مات سنة 150 هـ. تهذيب التهذيب (9/ 38).

(5)

الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري الخزرجي، شهد بدرا، مات في خلافة عمر. الإصابة (1/ 302).

(6)

الشفا للقاضي عياض (2/ 871، 872) وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 31 - 35)، وعزاه السيوطي في مناهل الصفا (ص 80) لابن إسحاق والبيهقي عن عروة والزهري وجماعة.

ص: 163

قال القاضي عياض: "فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها بعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها، يجوز عليه فيه ما ذكرنا

(1)

إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها، وجعلها همه وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية، ولكن هذا

(2)

إنما يكون في بعض الأمور، ويجوز في النادر فيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها، لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة"

(3)

.

وكذلك الأمر بالنسبة لأحكام البشر الجارية على يديه وقضاياهم، ومعرفة المحق من المبطل، وعلم المصلح من المفسد، فهذه أمور اجتهادية يجتهد فيها برأيه فقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحوما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار"

(4)

.

قال القاضي عياض: "وتجرى أحكامه صلى الله عليه وسلم على الظاهر وموجب غلبات الظن بشهادة الشاهد، ويمين الحالف، ومراعاة الأشبه، ومعرفة العفاص والوكاء مع مقتضى حكمة الله في ذلك"

(5)

.

فاقتضت حكمته تعالى أن لا يكون معصومًا في هذا الجانب

(1)

أي من وقوع الخطأ.

(2)

أي الخطأ.

(3)

الشفا (2/ 872، 873).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الشهادات، باب من أقام البينة مع اليمين.

انظر: فتح الباري (5/ 288) ح 2680. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية: باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، واللفظ له (5/ 128، 129).

(5)

الشفا (2/ 875).

ص: 164

وذلك حتى تقتدي به الأمة من بعده في النظر في القضايا والأحكام على ما كان يقضي به بين الناس، لأنه قد استوى في ذلك هو وغيره من الناس.

وكذا الأمور بالنسبة لما يقع عليه من الأسقام والأمراض فهو صلى الله عليه وسلم بشر من البشر يقع عليه مثل ما يقع على غيره من البشر.

وهذا هو الحق الذي دلت وأرشدت عليه النصوص الثابتة في القرآن والسنة. وهذا هو القول الوسط بين أهل الإفراط وأهل التفريط في هذه المسألة. فمن قال بالعصمة المطلقة وهم الرافضة

(1)

وبعض المعتزلة

(2)

وبعض المتأخرين

(3)

فهؤلاء قد خالفوا نصوص القرآن والسنة وتعسفوا في دفعها وتأويلها بتأويلات هي من جنس تأويلات الجهمية

(4)

(1)

الرافضة: عبارة تطلق على الشيعة الغلاة، وهم عدة فرق من أشهرها: الإمامية الاثنا عشرية، ولهم مخالفات كثيرة في الاعتقاد من أشهرها: مسائل الإمامة، والصحابة، والغلو في آل البيت وأصل تسميتهم بالرافضة مأخوذ من قول زيد بن علي بن الحسين عندما سُئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما، فرفضه جماعة من أتباعه فقال: رفضتموني فسموا رافضة.

مقالات الإسلاميين (1/ 88، 89، 144)، والملل والنحل، (1/ 173 - 174).

(2)

أتباع واصل بن العطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، ولهم مخالفات كثيرة في مسائل الاعتقاد، منها أنهم يقولون بنفي الصفات، والمنزلة بين المنزلتين. ميزان الاعتدال (3/ 274) والفرق بين الفرق (20، 21)، والملل والنحل (1/ 49).

(3)

مجموع الفتاوى (4/ 320).

(4)

الجهمية: فرقة من الفِرَق التي ظهرت في بداية القرن الثاني وانتحلت مذهب الجهم بن صفوان في مسائله المدونة في كتب المقالات ومن أشهرها نفي الأسماء والصفات والقول بالجبر، وفناء الجنة والنار. الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد (ص 65). تاريخ الجهمية والمعتزلة (ص 59، 60).

ص: 165

والباطنية

(1)

ومن تدبر تلك التأويلات تبين له فسادها، وعرف أنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه

(2)

.

وأما من نفى عنه العصمة من الذنوب وأجاز عليه الإقدام على الكبائر والصغائر وهم الكرَّامية

(3)

والأزارقة

(4)

والفضيلية

(5)

وغيرهم

(6)

فهؤلاء قوم فرطوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا عنه ما دل القرآن والسنة على براءته منه، وأضافوا إليه ذنوبا نزهه الله منها فقولهم هذا مخالف للقرآن والسنة وواضح البطلان.

* * *

(1)

عبارة تطلق على عدة فرقٍ من أشهرها: الإسماعيلية، القرامطة، والنصيرية، وهم الذين يجعلون لكل ظاهر من الكتاب باطنًا. ولكل تنزيل تأويلا. الملل والنحل (1/ 426 - 447) والفَرْق بين الفِرَق (ص 169).

(2)

مجموع الفتاوى (10/ 311 - 314) بتصرف.

(3)

أتباع محمد بن كرَّام السجستاني المتوفى سنة 255 هـ، لهم عدد من المخالفات في مسائل العقيدة، منها: التشبيه في الصفات، والإرجاء في الإيمان. الملل والنحل (1/ 180، 193)، والفرق بين الفرق (30، 137).

(4)

إحدى فرق الخوارج، وهم أتباع نافع بن الأزرق، كانت أكثر فرق الخوارج عددا وأشدهم شوكة. الفَرْق بين الفِرَق (ص 83).

(5)

من الخوارج، ذكرهم الأشعري في المقالات (ص 118).

(6)

الفصل (4/ 2)، وعصمة الأنبياء للرازي (ص 18)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 128).

ص: 166

‌الفصل الثاني

وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته والمحافظة عليها

وفيه تمهيد وثلاث مباحث:

‌المبحث الأول: الأدلة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم.

المبحث الثاني: منهج السلف في اتباعه طاعته صلى الله عليه وسلم.

المبحث الثالث: التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه.

ص: 167

‌تمهيد

" فرض الله على جميع الخلق الإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه، وإيجاب ما أوجبه، وتحريم ما حرمه، وشرع ما شرعه. وبه فرق الله بين الهدي، والضلال، والرشاد، والغي، والحق، والباطل، والمعروف، والمنكر. وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه، ويهدي إلى صراط مستقيم، وأنه على صراط مستقيم، قال تعالى في سورة الأحزاب:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} . وقال تعالى: {وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم} [الشورى].

وقال تعالى: " {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)} -[الزخرف]، وهو الذي جعل الرب طاعته طاعة له في مثل قوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].

وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته، ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن الإيمان به واتباعه وطاعته، وبه يمتحنون في القبور، قال تعالى {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف].

وهو الذي أخذ الله له الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على الميثاق أنه إذا جاءهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه.

ص: 169

وهو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار، فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة، ومن كذبه وعصاه كان من أهل النار.

قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء 170]

والوعد بسعادة الدنيا والآخرة والوعيد بشقاء الدنيا والآخرة معلق بطاعته. فطاعته هي الصراط المستقيم وهي حبل الله المتين، وهي العروة الوثقى، وأصحابها هم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون. والمخالفون له هم أعداء الله حزب إبليس اللعين.

قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان].

وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} [الأحزاب].

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران].

وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء].

وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور].

ص: 170

وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69].

وجميع الرسل أخبروا أن الله أمر بطاعتهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].

فهم يأمرون بعبادة الله وحده وخشيته وحده وتقواه وحده، ويأمرون بطاعتهم كما قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور].

وقال نوح علي السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)} [نوح].

وقال في سورة الشعراء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)} [الشعراء].

وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط

(1)

.

والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول وطاعته في كل مكان، وزمان، ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، سرًا وعلانية، جماعة وفرادى، وهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب بل من النفس، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته، كما قال تعالى:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل]؛ أي: كذب به وتولى عن طاعته، كما قال في موضع آخر:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)} [القيامة]، وقال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)} [المزمل]. وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء]. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النساء: 42].

والله تعالى قد سمّاه سراجًا منيرًا، وسمى الشمس سراجا وهاجًا،

(1)

انظر: الآيات (126، 131، 144، 150، 163، 179) من سورة الشعراء.

ص: 171

والناس إلى هذا السراج المنير أحوج منهم إلى السراج الوهاج، فإنهم محتاجون إليه سرًا وعلانية، ليلًا ونهارًا، بخلاف الوهاج، وهو أنفع لهم فإنه منير ليس فيه أذى بخلاف الوهاج فإنه ينفع تارة ويضر أخرى

(1)

.

ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول بهذه الدرجة، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى على العباد طاعة الرسل وأتباعهم، فقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، فهذا الإلزام ناشئ من ضرورة العباد وحاجتهم للرسالة إذ لا بد لهم منها، بل إن حاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، "فالرسالة ضرورية في إصلاح العباد في معاشهم ومعادهم، فكما أنه لا صلاح لهم في آخرتهم إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح لهم في معاشهم ودنياهم إلا باتباع الرسالة.

والإنسان مضطر إلى الشرع لأنه بين حركتين: حراسة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره.

والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمنًا.

وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، وإنما المراد بالشرع التمييز بين الأفعال التي تنفع فاعلها والأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده؛ كنفع الإيمان والتوحيد، والعدل والبر، والتصدق والإحسان، والأمانة والعفة، والشجاعة والحلم، والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق وإخلاص العمل الله والتوكل عليه، والاستعانة به والرضا بمواقع القدر به، والتسليم

(1)

الرد على الأخنائي (ص 180 - 183).

ص: 172

لحكمه والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعتهم في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.

فلولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، ودون لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة البهائم بل أشر حالًا منها.

فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسوأ حالًا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم"

(1)

. والرسل هم وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده، يبلغونهم شرع ربهم ويرشدونهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، وقد جعلهم الله:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء].

وقد بعث الرسل جميعًا بأصول ثلاثة هي:

1 -

الدعوة إلى الله.

2 -

إرشاد العباد وتعريفهم بالطريق الموصل إلى الله.

3 -

بيان حال العباد في معادهم.

فالأصل الأول: يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه وهي القصص التي قصها الله على عباده والأمثال التي ضربها لهم.

(1)

مجموع الفتاوى (19/ 99، 100) بتصرف.

ص: 173

والأصل الثاني: يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله ويكرهه.

والأصل الثالث: يتضمَّن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار والثواب والعقاب، فعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر؛ بل السعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل، فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة

(1)

.

ومن أجل ذلك فإن الله خص بالفلاح من اتبع رسوله ونصره، فقال تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف]؛ أي: لا مفلح إلا هم، كما قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران]، فخص هؤلاء بالفلاح كما خص المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة بالهدى والفلاح قال تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة]، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر على الرسالة وجودًا وعدمًا.

كما جعل الله سعادة العباد ونجاتهم في يوم المعاد متعلقة بطاعته وطاعة رسوله، وجعل شقاءهم وهلاكهم متعلقًا بمعصيته ومعصية رسوله، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ

(1)

مجموع الفتاوى (19/ 96) بتصرف.

ص: 174

يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء].

وخاتم المرسلين وسيدهم وأكرمهم على ربه - نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء]، وأرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فختم به الرسالة وهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء وأوضح بها المحجة البيضاء، فبين عن طريقه صلى الله عليه وسلم الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقين من الفجار، فهو المبعوث رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين.

وقد أوجب الله وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه، وأوصاه باتباع شرعه ونهجه والسير على هداه، وجعل طريقه هي الطريق الوحيد الموصلة إليه، وسد باقي الطرق فلم يفتح لأحد طريقًا غير طريقه، وسمى تلك الطرق سبلًا تضل عن سبيله، فقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام].

ولذلك فإن الخير كل الخير في اتباعه والاقتداء به، والشر كل الشر في مخالفته والبعد عن شرعه وما جاء به.

والأدلة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته واتباع شريعته كثيرة، وهذا ما سأتطرق إليه في هذا الفصل بإذن الله تعالى، والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

* * *

ص: 175

المبحث الأول: الأدلة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الأدلة من القرآن على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثاني: الأدلة من السُّنَّة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثالث: دليل الإجماع على وجوب طاعته.

ص: 177

‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم

-

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعًا"

(1)

.

وقال الآجري

(2)

: "فرض على الخلق طاعته صلى الله عليه وسلم في نيف وثلاثين موضعًا من كتابه"

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعًا من القرآن، وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه، فلا يذكر الله إلا ذكر معه"

(4)

.

قلت: إن الآيات الواردة في الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به جاءت في مواطن متعددة من القرآن الكريم. واتصفت تلك الآيات بتنوع أساليبها وتعدد صيغها مع اتحادها جميعها في الأمر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع ما جاء به من شرائع وأحكام من عند الله عز وجل، سوف أعرض لهذه الآيات بعد تقسيمها على حسب ما اتحدت به في السياق على النحو التالي:

(1)

الصارم المسلول، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 56).

(2)

محمد بن الحسين بن عبد الله أبو بكر الآجري: فقيه شافعي، محدث، توفي سنة (360 هـ) بمكة، وله مصنفات كثيرة منها:"كتاب الشريعة". الأعلام (6/ 97)

(3)

الشريعة (ص 49).

(4)

مجموع الفتاوي (19/ 103).

ص: 179

‌أ ـــ الآيات التي جاء فيها الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم

-:

ومن تلك الآيات قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

وهذه الآية ضمن سلسلة من الآيات ربطت بين طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله طاعته وطاعة رسوله شيئًا واحدًا، وجعل الأمر بطاعة رسوله مندرجًا في الأمر بطاعته سبحانه، وفي ذلك بيان للعباد بأن طاعته سبحانه لا تتحقق إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

ومن تلك الآيات الواردة بهذه الصيغة:

1 -

قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران].

2 -

وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران].

3 -

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء].

4 -

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)} [الأنفال].

5 -

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور].

6 -

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب].

7 -

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح].

وفي آيات أُخر يأمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مع إعادة الفعل، وفي ذلك إشارة إلى أن ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه

ص: 180

وإن لم يكن مأمورًا به بعينه في كلام الله الذي هو القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردة كما تجب مقرونة بأمره سبحانه، ومن هذه الآيات:

1 -

قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} [المائدة].

2 -

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} [محمد.

3 -

وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} [النور].

4 -

وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)} [التغابن.

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

ويقول ابن القيم

(1)

عند هذه الآية: "أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالًا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقًا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه

(2)

. ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالًا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في

(1)

محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي المشهور بابن القيم: ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة، تفنن في علوم الإسلام، لازم شيخ الإسلام ابن تيمية، وله مؤلفات كثيرة في الدفاع عن العقيدة والسنة، توفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. طبقات المفسرين للداودي (2/ 93، 97).

(2)

كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه

" الحديث، أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة (5/ 10)(ح 4460).

ص: 181

ضمن طاعة الرسول، إيذانًا بأنهم إنما يطاعون تبعًا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر منهم بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف"

(1)

، وقال:"إنما الطاعة في المعروف"

(2)

، وقال:"على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"

(3)

.

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها: "إنهم لو دخلوها لما خرجوا منها" مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم، وظنًا أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بمعصية الله وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يرده الأمر صلى الله عليه وسلم وما قد علم من دينه إرادة خلافه، فقصروا الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبيت وتبين هل ذلك طاعة الله ورسوله أم لا؟، فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (6/ 15).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد. انظر: فتح الباري (13/ 233)(ح 7257)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، انظر:(6/ 15).

(3)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (6/ 12)؛ وأخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، فتح الباري (13/ 121، 122)(ح 7144)

(4)

إعلام الموقعين (1/ 48، 49).

ص: 182

وأما قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} [النور]، فقد أخبر تعالى في هذه الآية أن الهداية في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفى بانتفائه، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن أنه محتاج في تقرير الدلالة منه لا تقرير كون المفهوم حجة.

بل هذا من الأحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها، إذ ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه، وإلا لم يكن شرطًا له وإذا ثبت هذا: فالآية نص في انتفاء الهداية عند عدم طاعته، وقوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} الفعل للمخاطبين وأصله فإن تتولوا، فحذفت إحدى التائين تخفيفًا، والمعنى: أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها، وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم.

روي عن الزهري

(1)

أنه قال: "من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم".

فإن تركتم أنتم ما حملتم من الإيمان والطاعة فعليكم لا عليه. فإنه لم يحمل إيمانكم وإنما حمل تبليغكم، وإنما حمل أداء الرسالة إليكم.

{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ليس عليه هداهم وتوفيقهم"

(2)

.

(1)

محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري: الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه، مات سنة (125 هـ)، وقيل قبل ذلك. تذكرة الحفاظ (1/ 102)

(2)

الرسالة التبوكية (ص 37، 38).

ص: 183

‌ب ـــ الآيات التي جاء فيها الأمر باتباعه والتأسي به والأخذ بما شرعه:

جاء الأمر من الله تبارك وتعالى باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والتأسي به في مواطن متعددة من كتابه العزيز.

1 -

قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران.

2 -

وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف].

3 -

وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

4 -

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب].

وهذه الآيات تضمنت توجيهات عظيمة يجب على المسلم تدبرها، ففي الآية الأولى جعل الله الاتباع سبيلًا إلى نيل حبه ووسيلة إلى تحقيق رضاه وحصول غفرانه، إذ باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يحصل حب الله تعالى ورضاه ومثوبته، فالخير كل الخير في اتباعه والشر كل الشر في مخالفته والابتعاد عن سنته.

فالاتباع هو دليل المحبة وبرهانها، وبتحققه تكون المحبة التي هي إحدى ثمراته كما قال تعالى:{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، كما أن من ثمراته غفران الذنوب كما جاء في هذه الآية نفسها:{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .

وهذه المنزلة والمكانة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم نابعة من كون هذا الاتباع إنما هو في الحقيقة اتباع الله، إذ الرسول إنما جاء بهذا الدين من عند الله عز وجل، فهو شرع الله ودينه الذي أوحاه لرسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغه للعباد،

ص: 184

فالرسول إنما هو مبلِّغ عن الله ولم يأت بشيء من عند نفسه، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الآية [الكهف: 110]، وقال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الآية [البقرة: 285].

وفي الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف]، جاء الأمر بالاتباع عقب الأمر بالإيمان تأكيدًا على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن الاتباع داخل في الإيمان، ولكن أفرد بالذكر هنا تنبيها على أهميته وعظم منزلته.

وأما قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فهذه الآية أوجبت الاتباع المطلق للنبي صلى الله عليه وسلم، فما أمر به من شيء فإن علينا فعله، وما نهى عن شيء فإن علينا تركه واجتنابه، فهو لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر.

وفي هذا الاتباع والانقياد حياتنا وفلاحنا، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال].

فهنا أمر من الله تعالى للمؤمنين جميعًا بأن يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه، ففي ذلك الحياة النافعة الطيبة، وهذه الحياة إنما تحصل بالاستجابة لما جاء به الرسول أمرًا ونهيًا، وأما من لم تحصل منه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، "إذ الحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة

ص: 185

بحسب ما استجاب للرسول"

(1)

.

ولقد أعقب هذا الأمر بالاستجابة تحذير من ترك الاستجابة له أو تثاقل وتباطؤ عنها، فقال تعالى:{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} [الأنفال: 24] والمعنى: "أنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم بعد وضوح الحق واستبانته"

(2)

.

وأما قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]، فقد جعل الله تبارك وتعالى من رسوله الأسوة والقدوة ليحتذي به الخلق في أقواله وأفعاله وجميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله

"

(3)

.

‌ج - الآيات التي جاء فيها وجوب التسليم لحكمه والانقياد له:

قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء].

وفي هذه الآية أقسم سبحانه بأجل مقسم به - وهو نفسه عز وجل على أنه لا يثبت لهم إيمان ولا يكونون من أهله، حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع وفي جميع أبواب الدين، فإن لفظة "ما" من صيغ العموم. ولم يقتصر الأمر على مجرد التحاكم بل ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا - وهو الضيق والحصر - من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتسليم

(1)

الفوائد لابن القيم (ص 88) بتصرف.

(2)

المصدر السابق (ص 95).

(3)

تفسير ابن كثير (3/ 474).

ص: 186

لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر.

ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: (ويسلموا تسليما) فذكر الفعل مؤكدًا بمصدره القائم ذكره مرتين، وهو التسليم والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعًا ورضًا، وتسليمًا لا قهرًا ومصابرة كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبر به منها وأقدر على تخليصها، كما قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].

فمتى علم العبد هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم واستسلم له، وسلم إليه انقادت له كل علة في قلبه ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد.

وتأمل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد:

أولها: تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله: {لا يؤمنون} [النساء: 65]، وهذا منهج معروف في كلام العرب، إذا أقسموا على شيء منفي صدروا جملة القسم بأداة نفي مثل هذه الآية.

وثانيها: تأكيده بنفس المقسم.

وثالثها: تأكيده بالمقسم به وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة.

ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم.

وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا التأكيد إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وإنه مما يعتنى به ويقرر في نفوس العباد بما هو

ص: 187

من أبلغ أنواع التقرير

(1)

وقال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال:{ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} النساء]؛ أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة

"

(2)

.

وهذه الآية ينبغي لكل مسلم أن يعرض نفسه عليها.

وفي هذا يقول ابن القيم: "ومتى أراد العبد أن يعلم هذا

(3)

، فلينظر في حاله ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها:{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة]

فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص بودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها؟ وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها؟ ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر"

(4)

.

وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور].

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ

(1)

الرسالة التبوكية لابن القيم (ص 25، 26)

(2)

تفسير ابن كثير (1/ 520)

(3)

أي: قبوله لحكم الرسول والتسليم له.

(4)

الرسالة التبوكية (ص 25).

ص: 188

يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} -[الأحزاب]، وكلا الآيتين توجبان التسليم الكامل والانقياد التام من أهل الإيمان لما حكم به الله تعالى وحكم به رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس في ذلك اختيار، بل السمع والطاعة والقبول والتسليم بما جاء عن الله ورسوله.

ومن الملاحظ في كلا الآيتين أن الخطاب فيهما لأهل الإيمان، ففي الآية الأولى:{إنما كان قول المؤمنين} [النور: 51]. وفي الثانية: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} وهذا التخصيص للمؤمنين فيه من الدلالة ما فيه، فاسم الإيمان يشعر بأن هذا المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نسبوا إليه، ولذلك فإنه يجب على كل من يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يضع هاتين الآيتين وأمثالهما من الآيات الموجبة للامتثال لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نصب عينيه فيسمع ويطيع، ويؤمن بأنه لا اختيار له في ذلك ولا رأي، بل التسليم المطلق الذي لا يصاحبه شك ولا ارتياب.

فهذه حقيقة الإيمان ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله التي تعني طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

ومثل هذه الآيات هي الفاصل بين دعوى الإيمان الحقيقية التي هي للمؤمنين الصادقين، وبين دعوى الإيمان الزائفة الباطلة التي هي المنافقين الكاذبين المظهرين خلاف ما يبطنون.

* * *

ص: 189

‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم

-

حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على طاعته وامتثال أمره واتباع ما جاء به والسير على سنتة والاقتداء به في كل ما جاء به عن ربه عز وجل.

وأحاديثه صلى الله عليه وسلم في هذا المجال أعطت للأمه توجيهات عظيمة متى ما ساروا عليها وامتثلوا ما فيها واستناروا بها فقد تحققت لهم سعادة الدارين وفازوا وأفلحوا بإذن الله تعالى.

وقد امتازت الأحاديث في هذا الشأن بكثرتها وتنوع عبارتها وتعدد أساليبها واشتمال بعضها على الأمثلة التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته في هذا الشأن، ومما لا شك فيه أن هذه المميزات زادت الأمر توكيدًا وتوضيحًا وبيانًا، بحيث إنها لم تدع مجالًا لمتأول يأولها أو محرف يغير معناها بهواه ورأيه الفاسد، وهذه الأحاديث على تنوع عبارتها وتعدد أساليبها اتحدت جميعها في مضمون واحد هو التأكيد على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء به والترغيب في ذلك، إضافة إلى التحذير من مخالفته، وتحريم معصيته وبيان الوعيد الشديد في ذلك.

والخطاب في تلك الأحاديث شامل لكل من كان في عصره صلى الله عليه وسلم ومن سيأتي بعده إلى يوم القيامة.

وسأشير ههنا إلى طرف من تلك الأحاديث مع بيان ما فيها من توجيهات وإرشادات تنير الطريق للسالكين الراغبين بالفوز برضى الله وجنات النعيم.

ص: 190

‌أ - كون طاعته واتباعه صلى الله عليه وسلم سببًا لدخول الجنة، ومخالفته ومعصيته سببا لدخول النار:

أولًا: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟، قال:"من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"

(1)

.

ثانيًا: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله

" الحديث

(2)

.

ثالثًا: وعن أبي سعيد الخدري

(3)

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبي وشرد على الله كشراد

(4)

البعير". قال: يا رسول الله ومن يأبى أن يدخل الجنة؟، قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر: فتح الباري (13/ 249)(ح 7285).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى:{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]، انظر: فتح الباري (13/ 111)(ح 7137)؛ وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (6/ 13).

(3)

سعد بن مالك بن سنان الأنصاري أبو سعيد الخدري: شهد الغزوات بعد أحد وكان من أفاضل الصحابة وحفظ حديثًا كثيرًا، توفي سنة (74 هـ) وقيل غير. الإصابة (2/ 32، 33).

(4)

يقال: شرد البعير، يشرد، شرودًا، وشرادًا: إذا نفر وذهب في الأرض. النهاية (2/ 457).

(5)

أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/ 153) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 80)، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وله شاهد من طريق أبي هريرة بنحوه، أخرجه الحاكم في مستدركه (4/ 247) وقال: صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي، وله شاهد آخر من طريق أبي أمامة بنحوه. أخرجه =

ص: 191

قال ابن حبان

(1)

: "طاعة الرسول هي الانقياد لسنته، مع رفض كل من قال شيئًا في دين الله عز وجل بخلاف سنته، دون الاحتيال في دفع السنن بالتأويلات المضمحلة والمخترعات الداحضة

"

(2)

.

وهذه الأحاديث الثلاثة تؤكد وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به، وذلك بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه.

وتؤكد كذلك على أن هذه الطاعة هي مفتاح الجنة وسبيل النجاة الوحيد التي متى ما سلكها الإنسان فاز برضى الله وجنته ونجى من سخطه وعذابه.

فعلى المسلم أن يسلك هذه الطريق - أي: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وألا يحيد عنها يمينًا أو شمالًا، فهذه الطاعة هي صراط الله المستقيم الذي أمر الله باتباعه لقوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"

(3)

= الحاكم في المستدرك (4/ 247) وقال: صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي

(1)

محمد بن حبان بن أحمد التميمي، أبو حاتم البستي: الإمام الحافظ الثبت الحجة، كان من أوعية العلم، ولد سنة (270 هـ)، وتوفي سنة (354 هـ). ميزان الاعتدال (3/ 506).

(2)

صحيح ابن حبان (1/ 153)

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (1/ 50، 51)

ص: 192

وهذه الأحاديث تبين صفة أتباع الأنبياء، فهم يطيعون أنبيائهم، ويأخذون بسنتهم، ويأتمرون بأمرهم، ولا يحيدون عن ذلك ولا يخالفونه إلى ما سواه. وأما المخالفون لهم فمنهم الذين ابتدعوا أمورًا في الدين لم تشرع لهم، وأخذوا يتعبدون الله بها وهم المشار إليهم بقوله:"ويفعلون ما لا يؤمرون"، وأمثال هؤلاء يتحدثون عن الطاعة والاتباع ولكن بالقول دون العمل، فهم يقولون ما لا يفعلون، وهذا الوصف ينطبق تمامًا على أهل البدع المخالفين لشرع نبي هذه الأمة.

فإن الناظر في أحوال هؤلاء يجدهم متمسِّكين أشد التمسك بأمور ليست من سنة المصطفى ولا من هديه، إذ ليس لهم عليها دليل من الكتاب أو السنة، بينما تجدهم أكثر الناس بعدًا عن هدي المصطفى وما جاء به عن ربه، ومع ذلك كله فهم كثيرًا ما يتحدثون عن اتباع الرسول والاقتداء به.

ولكن هذا الحديث عن السنة والاتباع لا يتجاوز ألسنتهم، فهم أبعد الناس عن ذلك، فصدق على هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم:"يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون".

فانظر أخي المسلم في أحوال الصوفية وعباد القبور والأضرحة وغيرهم من أهل البدع، فهل تجد أبلغ من وصفهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا:"يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون".

فالحذر كل الحذر من سبل أهل البدع والأهواء، وكن على بصيرة من أمر دينك، ولا تغرنك مظاهرهم وطراوة ألسنتهم، فكم من إنسان خدعوه بذلك فروجوا عليه بدعتهم، ولكن أمرهم لا يروج إلا على خفافيش الأبصار وكل جاهل بسنة نبيه، من لا يفرق بين ما هو من الدين وما ليس من الدين.

وأما العالم بدينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المتمسك بها، فهو على دراية

ص: 193

ويقين بحال هؤلاء، فلا تنطلي عليه أباطيلهم وأكاذيبهم وما يستندون إليه من المنامات التي جعلوها مصدرًا للتشريع والابتداع في دين الإسلام.

وصاحب السنة يعلم كذلك عاقبة بدعهم فيطبق عليهم بذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

(1)

.

فتلك هي النتيجة الحتمية لكل بدعة، فالله تعالى قد جعل للعمل المقبول شرطين: أحدهما: الإخلاص، وثانيهما: الاتباع، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} الكهف].

وقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} ؛ أي: ما كان موافقًا لشرع الله، {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، فلا بد أن يكون خالصًا لله صوابًا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

‌ب - ضربه صلى الله عليه وسلم الأمثال في الحث على طاعته:

أولًا: عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا

(3)

فانطلقوا على مهلهم فنجوا. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور. فتح الباري (5/ 301)(ح 2697)؛ وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة (5/ 132).

(2)

تفسير ابن كثير (3/ 108).

(3)

أي: ساروا بالليل، النهاية (2/ 129).

ص: 194

فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق"

(1)

.

ثانيًا: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "جاءت الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، قال: فاضربوا له مثلان، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيًا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصي الله، ومحمد فرَّق بين الناس"

(2)

.

ثالثًا: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يزعهن

(3)

ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحُجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/ 250)(ح 7283). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته. انظر:(7/ 63).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم انظر: فتح الباري (13/ 249)(ح 7281).

(3)

بفتح التحتانية والزاي وضم العين المهملة؛ أي: يدفعهن، فتح الباري (13/ 318).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي =

ص: 195

فهذه ثلاثة أحاديث اشتمل كل حديث منها على مثل معين، والأمثال كما هو معلوم توضع لتقريب المعنى وتوضيحه في ذهن السامع ليكون أسهل في فهم المعنى وأبلغ في ترسخه في ذهنه.

ففي المثل الذي جاء في الحديث الأول ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه مثلًا بالنذير الذي جاء لقومه يحذرهم من أن أعداءهم في طريقهم إليهم بعد أن رأى جيشهم على مقربة منهم وطلب منهم أن ينجوا بأنفسهم قبل أن يهلكهم عدوهم ويفنيهم.

وضرب لأمته مثلًا بقوم ذلك الرجل الذين انقسموا إلى قسمين فكان منهم من صدقه وأطاعه فساروا من الليل فنجوا بأنفسهم من فتك عدوهم، وكان منهم من لم يصدقه فبقوا في منازلهم فصبحهم عدوهم فقضى عليهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم هو النذير لهذه الأمة كما قال تعالى:{قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين} [الحج]، فقد أرسله الله تعالى: {ليكون للعالمين نذيرا] [الفرقان]، لينذرهم عذاب ربهم الذي توعد به المخالفين منهم، وبين لهم شرع ربهم وما أمرهم به من قواعد وأحكام.

فمن أطاعه واتبع النور الذي جاء به والتزم شريعته فقد نجا من عذاب الله. ومن عصاه وخالفه ولم يتبع ما جاء به فقد استحق بذلك عذاب الله فله جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا.

وهذا المثل يمثل جانب الإنذار والوعيد وهو جانب من جوانب الرسالة، وأما الجانب الثاني وهو جانب البشارة؛ إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر الله عنه بقوله تعالى:{وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} [سيا: 28]

وأما جانب ما تحدث عنه الحديث الثاني وهو حديث

= انظر: فتح الباري (11/ 316)(ح 6483)؛ وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته

(7/ 64).

ص: 196

جابر بن عبد الله عنهما، فالمثل يتحدث عن ثلاثة أمور: دار، ومأدبة، وداعي. وقد جاء تأويل هذا المثل في الحديث نفسه، فالداعي هو النبي صلى الله عليه وسلم، والدار هي الجنة، فمن أطاعه صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به فقد أجاب الدعوة واستحق دخول الجنة والتمتع في نعيمها. وأما من عصى النبي صلى الله عليه وسلم وخالفه ولم يستجب لما جاء به، فذلك الذي لم يستجب لدعوته فحرم من الدخول في الدار التي هي الجنة، وحرم من الأكل من المأدبة التي هي النعيم الدائم في الجنة.

وأما الحديث الثالث: فالمثل المضروب فيه يصور مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على حماية الأمة من الوقوع فيما يسخط الرب تبارك وتعالى ويوجب عقابه وأليم عذابه، فهو صلى الله عليه وسلم الموصوف بقوله تعالى:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة].

والشاهد من الحديث قوله: "أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها"، ومما لا شك فيه أن اقتحام الناس للنار ناتج عن مخالفتهم لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعهم فيما نهى وحذر منه، فبهذا يكون هلاكهم وعذابهم.

والمتأمل لهذه الأحاديث الثلاثة وما ضرب فيها من أمثال يدرك - إن كان له قلب وسمع سليمان - ما في هذه الأحاديث من الحث على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والأجر العظيم المترتب على ذلك، كما يدرك عظم العقوبة والخسارة المترتبة على عصيانه ومخالفته وعدم الانقياد له.

والسؤال الذي يفرض نفسه ههنا هو التالي:

هل أنت ممن أطاع البشير النذير صلى الله عليه وسلم؟

وهل أنت ممن أجاب الداعي؟

وهل أنت ممن استجاب لتحذيره صلى الله عليه وسلم فحمي نفسه من نار جهنم؟.

ص: 197

وقبل أن تعجل بالإجابة، انظر إلى أعمالك وأقوالك هل هي وفق شريعته وما جاء به صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فههنا يكمن الجواب.

فيا سعادة من أطاعه واتبعه، صلوات الله وسلامه عليه.

ويا خزي وندامة من خالفه وعصى أمره، والله تعالى يقول:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)} [الفرقان] وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)} [الأحزاب].

‌ج - حثه صلى الله عليه وسلم لأمته على التمسك بسنته وتحذيره من مخالفتها:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا.

وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.

وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني""

(1)

.

وحديث أنس هذا يعد قاعدة جليلة من قواعد التأسي والاتباع، وذلك لما حواه من توجيهات هامة جدًّا في هذا الشأن منها:

1 -

أن الابتداع في الدين أمر مردود وغير مقبول، بل يعد من

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح. انظر: فتح الباري (9/ 104)(ح 563) واللفظ له. ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه

انظر: (4/ 128).

ص: 198

الرغبة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والخروج عن شريعته، ومن أجل ذلك فليس لأحد كائنًا من كان سوى النبي صلى الله عليه وسلم حتى وإن كان أصحابه: أن يشرع في هذا الدين أو يدخل فيه أمرًا حتى وإن كان ذلك بدافع التقرب إلى الله، فأولئك النفر من الصحابة رضوان الله عليهم دفعهم حب التقرب إلى الله إلى أن قالوا ما قالوه من الأمور التي تعد من الرهبانية، ولما كان قولهم ذلك بعد مخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحنيفية السمحة، وجههم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصواب وحذرهم من أن يحيدوا عن شئته ويرغبوا عنها بقوله:"فمن رغب عن سنتي فليس مني" والمراد أن من ترك طريقتي وأخذ طريقة غيري فليس مني.

ومن هذا الحديث يعلم أن كل أمر ليس من سنته صلى الله عليه وسلم والشرع الذي جاء به فهو أمر مبتدع مردود على صاحبه، إضافة إلى اعتبار فاعله راغبًا عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

2 -

حثه صلى الله عليه وسلم على التمسك بما هو عليه وهي الحنيفية السمحة، فهذا ما دل عليه قوله:"لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء".

فالإسلام دين الفطرة، ونبينا صلى الله عليه وسلم حرص بقوله هذا على سد باب التشديد المتمثل في الرهبانية، فلا رهبانية في الإسلام، وفي هذا يقول:"إن الرهبانية لم تكتب علينا"

(1)

، فعلى هذا فهي أمر مخالف لسنته وهديه.

وعن العرباض بن سارية

(2)

رضي الله عنه قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون. فقلنا: يا رسول الله

(1)

أخرجه أحمد بن حنبل في المسند (6/ 226).

(2)

العرباض بن سارية السلمي أبو نجيح: صحابي مشهور من أهل الصفة، مات سنة خمس وسبعين للهجرة، وقيل قبل ذلك. الإصابة (2/ 466).

ص: 199

كأنها موعظة مودِّع فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"

(1)

.

فوصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولأمته من بعدهم هي أن يتمسكوا بما سنه من أحكام وتشريعات أشد التمسك، وأن يحذروا الابتداع في الدين، وحكم على تلك المحدثات بالضلال والانحراف عن الطريق الذي رسمه.

وقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ركيزتين أساسيتين في هذا الدين هما:

* الاتباع.

* ترك الابتداع.

ولقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذه الوصية النبوية وعملوا بها، فلم يحيدوا عن سنته صلى الله عليه وسلم، بل عملوا بها ونقلوها للامة المحمدية من بعدهم كما سمعوها منه صلى الله عليه وسلم، وكذلك فقد كانوا أشد الناس

(1)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 126، 127)؛ وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة (5/ 13، 15)(ح 4607)؛ وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب العلم، باب في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (5/ 44) (ح 2676) وقال: هذا حديث حسن صحيح؛ وابن ماجه في سننه، في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 16)؛ وابن حيان في صحيحه (1/ 139)؛ والحاكم في المستدرك (1/ 96) وصححه ووافقه الذهبي؛ والآجري في الشريعة (46، 47)، والدارمي في سننه، باب اتباع السنة (1/ 44، 45) وقال الألباني: سنده صحيح، وصححه جماعة منهم: الضياء المقدسي في اتباع السنن واجتناب البدع. انظر: مشكاة المصابيح (1/ 58)(ح 165).

ص: 200

تمسُّكًا بسنته، وأشدهم محاربة للابتداع في الدين، وقد كان في صلاحهم وفلاحهم ونجاتهم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها.

ومن المؤسف أن كثيرًا من المسلمين في وقتنا الحاضر قد اختلت عندهم كلا الركيزتين فتركوا الاتباع والاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبحت السنة عندهم أمرًا مستغربًا مستنكرًا لجهلهم بها وبعدهم عنها، واستبدلوا بذلك البدع التي لا أصل لها ولا دليل عليها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاتخذوها دينا يدينون به فانعكست بذلك الموازين لديهم فأصبحوا يرون الحق باطلًا والباطل حقًّا، والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وما ذلك إلا لكونهم لم يعرفوا من الإسلام إلا اسمه ولا من الدين إلا رسمه بسبب ما هم عليه قلة العلم وعدم معرفتهم بالسنة.

فأين هؤلاء من وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن يتبعوا ولا يبتدعوا؟

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"

(1)

.

والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم".

وهذا التوجيه النبوي الكريم مماثل لما سبق في الأحاديث السابقة من الحث على لزوم السنة والتأكيد على اتباعها والأخذ بها، إلا أنه يضيف أمرًا هامًا وهو أن الطاعة في جانب المأمورات تجب في حدود الاستطاعة والطاقة، وهذا من اليسر الذي امتازت به الرسالة المحمدية،

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن الرسول. انظر: فتح الباري (13/ 251)(7288)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (4/ 102).

ص: 201

قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

ففي جانب الأوامر علينا السمع والطاعة في حدود ما نطيق ونستطيع، أما في جانب النواهي فيجب التسليم المطلق دون قيد أو شرط.

فبهذه الإضافة يتحدد مَعْلَم من معالم الطاعة يجب على المسلم أن يدركه ويعي مضمونه.

‌د - بيانه لمواقف الناس من الأخذ بدعوته واتباع سنته صلى الله عليه وسلم

-:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله منها الناس، فشربوا منها، وسقوا، وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"

(1)

.

وفي هذا الحديث قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس - فيما يتصل بدعوته - إلى ثلاثة أقسام. وشبه صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث لأن كلا منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان، والعلم سبب حياة القلوب.

وشبه القلوب بالأودية كما في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17].

وكما أن الأراضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:

* إحداها: أرض زكية قابلة للشراب والنبات، فإذا أصابها الغيث ارتوت، ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج.

(1)

تقدم تخريجه (ص 47).

ص: 202

فذلك مثل القلب الزكي الذكي، فهو يقبل العلم بذكائه، فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه، فهو قابل للعلم، مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.

* والثانية: أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه، فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع.

وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه، فلا تصرف فيه، ولا استنبط، بل للحفظ المجرد، فهو يؤدي كما سمع، وهو من القسم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه غير فقيه"

(1)

.

فالأول: كمثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات فهو يكسب بماله ما شاء.

والثاني: مثل الغني الذي لا خبرة له بوجوه الربح والمكسب، ولكنه حافظ لما لا يحسن التصرف والتقلب فيه.

• والأرض الثالثة: أرض قاع، وهو المستوي الذي لا يقبل النبات، ولا يمسك ماء، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه بشيء.

فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية، وإنما هو بمنزلة الأرض البور التي لا تنبت ولا تحفظ، وهو مثل الفقير الذي لا مال له ولا يحسن يمسك مالًا.

(1)

أخرجه ابن ماجه في السنن (2/ 188)، كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر؛ وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 87)، وقال:"وفي الباب عن جماعة من الصحابة"، وقد جمع طرق هذا الحديث الشيخ عبد المحسن العباد في كتاب سماه "دراسة حديث: "نضر الله امرءًا سمع مقالتي

"رواية ودراية" وذكر أن الحديث صحيح وبلغ حد التواتر.

ص: 203

فالأول: عالم معلم، وداع إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرسل.

والثاني: حافظ مؤد لما سمعه، فهذا يحمل لغيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر.

والثالث: لا هذا ولا هذا، فهو الذي لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأسًا، فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم.

منها قسمان: قسم سعيد، وقسم شقي"

(1)

.

* * *

(1)

الرسالة التبوكية (ص 55، 56).

ص: 204

‌المطلب الثالث دليل الإجماع على وجوب طاعته

الإجماع من الأمة منعقد على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في جميع ما جاء به من ربه عز وجل، وذلك لثبوت الأمر بهذا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إن الأمر بوجوب طاعته صلى الله عليه وسلم يعد من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة التي لا يعذر إنسان بجهلها.

وقد حكى الشافعي رحمه الله تعالى إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، على أن من استبانت له سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.

ولم يسترب أحد من أئمة الإسلام في صحة ما قاله الشافعي، فإن الحجة الواجب اتباعها على الخلق كافة إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى

(1)

.

وقد تمثَّل إجماع الأمة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في اعتبار السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، وذلك بعد المصدر الأول الذي هو القرآن الكريم

(2)

.

والمقصود بالسنة هنا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته، فالصحابة والتابعون وتابعوهم ومن سار على نهجهم يؤمنون بهذا الأصل الذي هو سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويوجبون العمل والاحتجاج

(1)

الرسالة التبوكية لابن القيم (ص 37).

(2)

مجموع الفتاوي (11/ 339).

ص: 205

بها، ويعتبرونها مصدرًا مستقلًا في التشريع، فلا يجب عرض ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم على القرآن، بل يجب اتباعه وطاعته مطلقًا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن.

ولقد كان من مظاهر ذلك الإجماع الاعتناء بسنته وحفظها ونقلها، وتعليمها في كل عصر من العصور.

فلقد اعتني بالسنة فنقلها الخلف عن السلف، وحافظوا عليها، ووضعوا لها القواعد التي اعتنت بسلامتها سندًا ومتنًا.

والنقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم في وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء به وتعظيمهم لسنته والعمل بها كثيرة جدًّا، ومن تلك النقول ما يلي:

‌أ - الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين:

-‌

‌ أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فقال له عمر رضي الله عنه: كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". فقال أبو بكر الصديق: أليست الزكاة من حقها؟، والله لو منعوني عناقًا

(1)

كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر رضي الله عنه: فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق"

(2)

.

(1)

العناق: هي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة. النهاية (3/ 311).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، انظر: فتح الباري (3/ 262)(ح 1399). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/ 28).

ص: 206

فهذه الحادثة تمثل مدى تمسك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحرصه على تطبيق شرعه في وقت ارتد فيه أكثر العرب في جزيرة العرب، ولم يبق على الإسلام سوى أهل المدينة ومكة والطائف، ولقد تابع الصحابة أبا بكر في موقفه ذلك فقاتلوا أهل الردة بما فيهم مانعي الزكاة، فكان موقفهم ذلك أوضح دليل على تعظيم السنة ووجوب العمل بها.

وقد جاءت الجدة إلى الصديق رضي الله عنه تسأله عن ميراثها فقال لها: ليس لك في كتاب الله شيء، ولا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لك بشيء وسأسأل الناس. ثم سأل رضي الله عنه من الصحابة فشهد عنده بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس فقضى لها بذلك

(1)

.

وفي هذا دليل على: تمسك الصديق بسنة المصطفى والعمل بها، وقال رضي الله عنه:"لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ"

(2)

.

وعن ابن سيرين

(3)

قال: "لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي

(1)

أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة (ص 346) رقم (1087)؛ وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة (3/ 316، 317)(ح 2894)؛ وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة (4/ 419، 420)(ح 2100، 2101)؛ وأخرجه ابن ماجه في السنن، أبواب الفرائض، باب ميراث الجدة (2/ 120)(ح 2756).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فرض الخمس، باب فرض الخمس فتح الباري (6/ 197)(ح 3093)؛ وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نورث وما تركنا صدقة"(5/ 155).

(3)

محمد بن سيرين الأنصاري: مولاهم، مولى أنس بن مالك، تابعي جليل كان إمام وقته، مات سنة (110 هـ)، تهذيب التهذيب (9/ 214، 217).

ص: 207

بكر رضي الله عنه، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر رضي الله عنه وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلًا، ولا في السنة أثرًا فاجتهد برأيه، ثم قال: هذا رأيي فإن كان صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله"

(1)

.

-‌

‌ عمر بن الخطاب رضي الله عنه

-:

ورد عنه أنه كان يقول: "إن أصدق القيل قيل الله، ألا وإن أحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة

"

(2)

.

وكان عمر رضي الله عنه يوصي عماله أن يقضوا بين الناس بكتاب الله، فإن لم يجدوا القضية في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعن الشعبي

(3)

عن شريح

(4)

أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد من قبلك فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم، وإن شئت أن تتأخر

(1)

إعلام الموقعين (1/ 54).

(2)

السنة للالكائي (1/ 84)(ح 100)، والبدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 24).

(3)

عامر بن شراحيل الشعبي: أهله من حمير اليمن، قال فيه مكحول:"ما رأيت أحدًا أعلم بسنة ماضية من الشعبي"، وقد تولى القضاء في عهد عمر بن عبد العزيز على الكوفة، توفي سنة (105 هـ)، وقيل قبل ذلك، تهذيب التهذيب (5/ 65، 69).

(4)

شريح بن الحارث بن قيس الكندي: القاضي، مخضرم، ثقة، استقضاه عمر. مات قبل الثمانين أو بعدها، تهذيب التهذيب (4/ 326، 328).

ص: 208

فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك"

(1)

.

وروى البخاري بسنده عن أبي وائل

(2)

قال: "جلست إلى شيبة في هذا المسجد، قال: جلس إلي عمر في مجلسك هذا فقال: هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين. قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك، قال: هما المرءان يقتدى بهما"

(3)

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "قيل لعمر: ألا تستخلف؟، قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأثنوا عليه، فقال: راغب وراهب

(4)

وددت أني نجوت منها كفافًا لا لي ولا علي، لا أتحملها حيًا وميتا"

(5)

.

(1)

أخرجه الدارمي في السنن (1/ 60)، وأورده السيوطي في مفتاح الجنة (ص 46) وعزاه للبيهقي والدارمي.

(2)

شقيق بن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. قال ابن معين: "ثقة لا يسأل عن مثله، مات سنة (82 هـ). تهذيب التهذيب (4/ 361، 363).

(3)

أخرجه في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بستن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر: فتح الباري (13/ 249)(ح 1275).

(4)

قال ابن حجر: "قال ابن بطال: يحتمل أمرين: أحدهما: أن الذين أثنوا عليه إما راغب في حسن رأيي فيه وتقريري له، وإما: راهب من إظهار ما يضره من كراهته. أو المعنى: راغب فيما عندي وراهب مني. أو المراد: الناس راغب في الخلافة وراهب منها، فإن وليت الراغب فيها خشيت أن لا يعان عليها، وإن وليت الراهب منها خشيت أن لا يقوم بها.

وذكر القاضي عياض توجيهًا آخر: أنهما وصفان لعمر؛ أي: راغب فيما عند الله، وراهب من عقابه، فلا أعول على ثنائكم وذلك يشغلني عن العناية بالاستخلاف عليكم". فتح الباري (3/ 207).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف واللفظ له. انظر: فتح الباري (13/ 255، 256)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الاستخلاف وتركه (6/ 4، 5).

ص: 209

وجاء في رواية لمسلم قال عبد الله: "فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا وأنه غير مستخلف"

(1)

.

فعمر بن الخطاب رضي الله عنه، تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمها على سنة أبي بكر مع أن العمل بها جائز عنده.

ولما قبل رضي الله عنه الحجر الأسود قال: "أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك"

(2)

.

-‌

‌ عثمان بن عفان

(3)

رضي الله عنه

-:

عن زينب بنت كعب بن عجرة

(4)

أن الفريعة بنت مالك بن سنان

(5)

وهي أخت أبي سعيد الخدري، أخبرتها: "أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يترك لي مسكنا يملكه

(1)

أخرجه في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الاستخلاف وتركه (6/ 5).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب الرمل في الحج والعمرة، واللفظ له. انظر: فتح الباري (3/ 471)(ح 1605). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (4/ 67).

(3)

عثمان بن عفان: ولد بعد الفيل بست سنين، أسلم على يد الصديق، وقد تزوج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم: رقية وأم كلثوم، ولذلك سمي ذا النورين، وقد ولي الخلافة سنة (24 هـ)، وقعت في عهده الفتنة فقتل صلى الله عليه وسلم سنة (35 هـ)، تهذيب التهذيب (7/ 139، 142).

(4)

زينب بنت كعب بن عجرة: صحابية تزوجها أبو سعيد الخدري، الإصابة. (4/ 312)

(5)

الفريعة بنت مالك بن سنان الحدرية: صحابية جليلة، وقصتها مذكورة في الحديث الذي معنا. الإصابة (4/ 375).

ص: 210

ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة (أو في المسجد) ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر لي فنوديت له، فقال:"كيف قلت؟ "، قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، قال:"امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته وقضى به"

(1)

.

والشاهد من هذا الحديث أن عثمان لما أشكل عليه حكم اعتداد المرأة في بيتها بعد وفاة زوجها، أرسل إلى الفريعة بنت مالك يسألها فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعد وفاة زوجها أن تمكث في بيته حتى يبلغ الكتاب أجله. فقضى عثمان رضي الله عنه بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

-‌

‌ علي بن أبي طالب رضي الله عنه

-:

لما بلغه أن عثمان رضي الله عنه ينهى عن متعة الحج، أهلَّ علي رضي الله عنه بالعمرة والحج جميعًا وقال:"ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد"

(2)

. وعنه رضي الله عنه أنه قال: "ألا إني لست بنبي ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم ما استطعت"

(3)

.

(1)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ (2/ 591) في الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها، وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل (2/ 723، 724)(ح 2300)؛ وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها واللفظ له، وقال: هذا حديث حسن صحيح (3/ 508)(ح 1204)؛ وأخرجه النسائي، في السنن الصغرى، كتاب الطلاق باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل (6/ 199).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب التمتع والقرآن والإفراد بالحج

انظر: فتح الباري (3/ 421)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب جواز التمتع (4/ 46).

(3)

أورده القاضي عياض في الشفا (2/ 556).

ص: 211

-‌

‌ أبي بن كعب رضي الله عنه

(1)

:

روي عنه أنه قال: "عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه ففاضت عيناه من خشية ربه فيعذبه الله أبدًا، وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد ورقها فهي كذلك إذ أصابتها ريح شديدة، فتحات عنها ورقها، إلا حط الله خطاياه كما تحات من الشجرة ورقها، فإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة وموافقة بدعة، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادًا واقتصادًا أن يكون على منهج الأنبياء وسنتهم"

(2)

.

-‌

‌ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:

روي عنه أنه قال: "من أحدث رأيًا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل"

(3)

.

وعنه رضي الله عنه قال: "عليك بتقوى الله والاستقامة واتبع ولا تبتدع"

(4)

.

(1)

أبي بن كعب الأنصاري: كان من أصحاب العقبة الثانية وشهد بدرًا فما بعدها، سيد القراء وهو أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (22 هـ). الإصابة (1/ 31 - 32).

(2)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (2/ 21، 22)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 54)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 252، 253).

(3)

أخرجه الدارمي في سننه، باب الفتيا وما فيه من الشدة (1/ 57)؛ وأخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغيير البدع (ص 38)، وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 81).

(4)

أخرجه الدارمي في سننه، باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع (1/ 53).

ص: 212

-‌

‌ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

روي عنه رضي الله عنه أنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"

(1)

، وعنه أنه قال:"إنا نقتدي ولا نبتدئ، ونتبع ولا نبتدع، ولن نصل ما تمسكنا بالأثر"

(2)

. وعنه رضي الله عنه أنه قال: "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة"

(3)

.

-‌

‌ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:

فعن سالم بن عبد الله

(4)

أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها". فقال بلال بن عبد الله

(5)

والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًا سيئًا ما سمعته سبه مثله قط. وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن"

(6)

.

(1)

أخرجه الدارمي في سننه، باب في كراهة أخذ الرأي (1/ 69)؛ وأخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب ما يكون من بدعة (ص 10)؛ وأخرجه اللالكائي في السنة (1/ 86)(104)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 181): رجاله رجال الصحيح.

(2)

أخرجه اللالكائي في السنة (1/ 86)(ح 106).

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 103) وقال: على شرطهما وأقره الذهبي، واللالكائي في السنة (1/ 55)(ح 14)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 11)، وابن عبد البر في جامعه (2/ 230). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 188): رجاله ثقات.

(4)

سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: أحد فقهاء المدينة السبعة ومن أفاضل التابعين، مات سنة (106 هـ)، تهذيب التهذيب (3/ 437، 438).

(5)

بلال بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: ذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين، وعده يحيى القطان في فقهاء أهل المدينة. تهذيب التهذيب (1/ 554).

(6)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد (2/ 32).

ص: 213

-‌

‌ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه:

قال رضي الله عنه: "يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، فإن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا"

(1)

.

قال ابن حجر: "فقوله: "يا معشر القراء" المراد بالقرآن والسنة العباد، وقوله: "استقيموا"؛ أي: اسلكوا طريق الاستقامة وهي كناية عن التمسك بأمر الله فعلًا وتركًا. وقوله: "سبقتم" بفتح أوله كما جزم به ابن التين وحكى غيره ضمه والأول المعتمد، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام، فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير، لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسًا وحكمًا. وقوله: "فإن أخذتم يمينًا وشمالًا"؛ أي: خالفتم الأمر المذكور، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]

(2)

.

‌ب - من أقوال التابعين ومن بعدهم:

*‌

‌ عمر بن عبد العزيز

(3)

رحمه الله تعالى:

فمما نقل عنه أنه كتب عامل له يسأله عن الأهواء؟، فكتب إليه: "أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعده مما جرت به سنته وكفوا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء. انظر: فتح الباري (3/ 350)

(2)

فتح الباري (13/ 257) باختصار يسير.

(3)

عمر بن عبد العزيز: الخليفة الأموي الصالح، عده بعضهم خامس الخلفاء، ولي الخلافة عام (99 هـ)، وتوفي عام (101 هـ)، وله أخبار في العدل والزهد كثيرة. تذكرة الحفاظ (1/ 118).

ص: 214

مؤنته، فعليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة

"

(1)

وروي عنه أنه قال: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننًا، الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، من عمل بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"

(2)

*‌

‌ محمد بن مسلم الزهري

(3)

:

روي عنه أنه قال: "كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضًا سريعًا، فنعش العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله"

(4)

.

*‌

‌ مجاهد بن جبر

(5)

:

روي عنه أنه قال عند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية (النساء: 59]، قال:"الرد إلى الله: الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول: الرد إلى السنة"

(6)

.

(1)

الشريعة للآجري (ص 48)، وكتاب البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 30)، وكتاب الاعتصام للشاطبي (1/ 50)، وجامع بيان العلم وفضله (ص 21).

(2)

الشريعة للآجري (ص 48)، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 32)، والاعتصام للشاطبي (1/ 87).

(3)

تابعي من أهل المدينة، أول من دون الحديث وهو من كبار الحفاظ الفقهاء، لقي بعض الصحابة، قال مالك:"بقي ابن شهاب وما له في الدنيا نظير"، توفي عام (124 هـ). التذكرة (108)، والبداية (9/ 345).

(4)

أخرجه الدارمي في سننه (1/ 45)، باب اتباع السنة.

(5)

هو: مجاهد بن جبر المكي: تابعي إمام في التفسير، مات في السجود عام (104 هـ)، وقيل (103 هـ). التذكرة (92)، والتهذيب (10/ 42).

(6)

أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 505).

ص: 215

*‌

‌ أبو العالية

(1)

:

روي عنه أنه قال: "تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تعرفوا الصراط يمينًا أو شمالًا، وعليكم بسنة نبيكم، وما كان عليه أصحابه"

(2)

.

*‌

‌ أيوب السختياني

(3)

:

روي عنه أنه قال: "إذا حدث الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا وأنبئنا عن القرآن، فاعلم أنه ضال"

(4)

.

‌ج - الأئمة الأربعة:

•‌

‌ أبو حنيفة النعمان

(5)

:

روي عنه قوله رحمه الله: "إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نختار من قولهم، وإذا جاء عن

(1)

أبو العالية: رُفيع - بضم الراء مصغرًا - بن مهران الرياحي، مولى امرأة من بني رياح، قال أبو بكر بن أبي داود:"ليس أحد أعلم بالقرآن بعد الصحابة من أبي العالية"، توفي عام (93 هـ). التذكرة (61)، والطبقات (7/ 112)، واللباب. (2/ 46).

(2)

أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 32)، وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 85).

(3)

هو: أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني - بفتح السين - نسبة إلى عمل السختيان وبيعه - الجلود الضانية - قال ابن سعد: "كان أيوب ثقة ثبتًا في الحديث جامعًا عدلًا ورعًا كثير العلم حجة"، توفي سنة (131 هـ). انظر: الطبقات (7/ 246)، واللباب (2/ 108).

(4)

أورده السيوطي في مفتاح الجنة (ص 35) وعزاه للبيهقي.

(5)

أبو حنيفة: هو النعمان بن ثابت الشيمي مولاهم الكوفي، أحد الأئمة الأربعة وإليه ينتسب الأحناف، ولد سنة (80 هـ)، وتوفي سنة (150 هـ). البداية (10/ 107).

ص: 216

التابعين زاحمناهم"

(1)

.

وروي عنه قوله: "آخذ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم .... "

(2)

.

*‌

‌ مالك بن أنس (إمام دار الهجرة):

قال رحمه الله تعالى: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا"

(3)

.

وكان رحمه الله كثيرًا ما يقول:

وخير أمور الدين ما كان سنّة

وشر الأمور المحدثات البدائع

(4)

ومن قوله كذلك: "قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي"

(5)

.

وجاء رجل إلى مالك فسأله مسألة فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيت، فقال مالك:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور]

(6)

.

*‌

‌ محمد بن إدريس الشافعي:

ورد عنه أنه قال: "الحجة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة"

(7)

، وقال:"ليس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اتباعها"

(8)

.

(1)

المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص 111) بتحقيق محمد ضياء الرحمن الأعظمي.

(2)

المدخل إلى السنن (ص 204).

(3)

الاعتصام للشاطبي (1/ 49).

(4)

المصدر السابق (1/ 85).

(5)

المصدر السابق (1/ 105).

(6)

المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص 201).

(7)

رسالة التقليد لابن القيم (ص 83).

(8)

الشفا (2/ 558).

ص: 217

وروى رحمه الله يومًا حديثًا فقال له رجل: "أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟، فقال: متى ما رويت عن رسول الله حديثًا صحيحًا فلم أخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب"

(1)

.

وروي عنه أنه قال: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت"

(2)

.

وروي عنه أنه قال: "آمنت بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله"

(3)

.

*‌

‌ أحمد بن حنبل (إمام أهل السنة):

ورد عنه قوله: "أصول السُّنَّة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.

والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء إنما هي الاتباع وترك الهوى"

(4)

.

وقال أيضًا: "الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم هو بعد مع التابعين مخير"

(5)

.

(1)

المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص 205) رقم (250)، وأخرجه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه (ص 67)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 106)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 150)، وأورده السيوطي في مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة (ص 49، 50).

(2)

أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 150)، والمدخل إلى السنن (ص 205)، والحلية (9/ 107).

(3)

مجموع الفتاوى (4/ 2).

(4)

السنة للالكائي (1/ 156).

(5)

إيقاظ همم أولي الأبصار (ص 113).

ص: 218

وما أوردته من آثار وأقوال عن السلف ههنا إنما هو عبارة عن نماذج لما ورد عنهم في هذا الشأن

(1)

.

ويتضح من خلال تلك النصوص إجماع سلف الأمة وأئمتها على وجوب الأخذ بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتمسك بها في كل الجوانب واتباع ما جاء به صلى الله عليه وسلم اعتقادًا وقولًا وعملًا، والتحذير من مخالفة السنة والابتداع فيها وتقديم الهوى والرأي عليها.

* * *

(1)

من أراد الاستزادة من أقوال السلف في هذا الشأن فعليه بالكتب التالية:

أ - أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للحافظ اللالكائي.

ب - المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي.

ج - الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي.

د - مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي.

ص: 219

‌المبحث الثاني

منهج السلف في اتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم

-

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: منهجهم في الاتباع.

المطلب الثاني: محاربة السلف لما يناقض الاتباع.

ص: 221

‌المطلب الأول منهجهم في الاتباع

بعث الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة الجامعة الخاتمة ألا وهي رسالة الإسلام التي ارتضاها في لتكون دينا ومنهاجا، يسير عليه الجن والإنس في حياتهم الدنيا حتى يتم لهم صلاح معاشهم الذي هم فيه، ومعادهم الذي سيصيرون إليه.

ولقد شاء تبارك وتعالى أن يجعل لهذه الرسالة مصدرين للتلقي هما:

• القرآن الكريم.

• السنة النبوية.

فالقرآن الكريم هو المصدر التشريعي الأول في الإسلام، وهو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام.

والسنة المصدر الثاني لأنها مبينة لأحكامه، موضحة لإبهامه، هي ومخصصة لعمومه، ومقيدة لإطلاقه، وشارحة لأحكامه وأهدافه. قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل.

وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} (النحل).

فالرسول صلى الله عليه وسلم كما خص بالوحي المتلو وهو القرآن الكريم، كذلك خص بالوحي غير المتلو وهو السنة التي لا مندوحة عن اتباعها.

ص: 223

قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (النجم). وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"

(1)

، وبناء على ذلك فإن القرآن والسنة هما المنهلان العظيمان اللذان تستقي منهما الأمة المسلمة عقيدتها وشريعتها وكل ما فيه صلاح شؤونها في دنياها وآخرتها، وهما المنهاج والنبراس الذي سار عليه السلف من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، في طاعتهم واتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لاعتقادهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بهذين الأصلين وحيًا من عند الله عز وجل، كما أنه أمر باتباعهما والأخذ بما فيهما اعتقادًا وقولًا وعملًا.

قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فهم من هذا المنطلق التزموا وتمسكوا بالقرآن والسنة وتلقوهما بالقبول والتسليم والإيمان والتعظيم، فأحلوا حلالهما وحرموا حرامهما، واتخذوا منهما منهجًا لجميع شؤونهم وأحوالهم يرجعون إليه امتثالًا لنداء الله حيث قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء].

قال ابن القيم: "إن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته"

(2)

.

ومن هذين الأصلين - الكتاب والسنة - استقى السلف المسلك القويم والمنهج السليم الذي ساروا عليه في طاعتهم واتباعهم لرسولهم ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المنهج يمكن تلخيصه في النقاط الرئيسية التالية:

(1)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة (5/ 10)(ح 4604)؛ وأخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 243).

(2)

إعلام الموقعين (1/ 49، 55).

ص: 224

‌أولًا: اتباع القرآن الكريم:

فالقرآن الكريم هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وحيًا بواسطة جبريل عليه السلام، والذي تولى الله سبحانه وتعالى حفظه بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر].

كما جعله نظامًا ومنهجًا يهتدي به عباده المؤمنون كما قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة].

ولقد اعتنى السلف بكتاب الله عز وجل فحفظوه في صدورهم ومصاحفهم وصاروا يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، وينفذون أحكامه وشرائعه جيلًا بعد جيل في جميع جوانب حياتهم الفردية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها من الأمور الدنيوية والأخروية.

كما تفرغ عبر القرون ثلة من خيارهم لدراسته وتفسيره واستنباط أحكامه ومعرفة ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، والاعتبار بدعوته وقصصه، ووعظه وإرشاداته وأمثاله.

وهذا الموقف من السلف الصالح يمثل مظهرًا من مظاهر التأسي والاقتداء بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كما يعد تطبيقًا عمليًا لما أوصى به عليه الصلاة والسلام أمته حيث قال:"تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله"

(1)

.

‌ثانيًا: اتباع سُنَّته صلى الله عليه وسلم والعمل بها:

فلقد أوجب الله على العباد طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه وقد تقدم إيراد الأدلة على ذلك

(2)

.

ولقد عمل السلف بما أوجبه الله تعالى فأخذوا بسُنَّة نبيهم صلى الله عليه وسلم

(1)

تقدم تخريجه (ص 126).

(2)

انظر: المبحث الأول من هذا الفصل.

ص: 225

وعملوا بها أمرًا ونهيًا وخبرًا، فكانت أقواله وأفعاله وتقريراته هي المصدر الثاني بعد كتاب الله الله الذي تستقي منه الأمة أحكامها وتشريعاتها في شتى شؤون حياتها. ويعتقد السلف أن للسنة استقلاليتها في تشريع الأحكام وهي كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، فالأحكام التي سكت القرآن عن بيان حكمها وورد في السنة بيانها، فإن السلف يعملون بهذه الأحكام ويأخذون بها، ولا يرون أن هناك تعارضًا البتة بين الأصلين.

كما يعتقد السلف أن علاقة السنة بالمصدر الأول الذي هو القرآن تسير وفق الأوجه الثلاثة التالية:

1 -

أن تكون السنة موافقة للقرآن من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها، وذلك مثل الأحاديث التي تفيد وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم من غير تعرض لشرائطها وأركانها.

2 -

أن تكون بيانًا لما أريد بالقرآن وتفسيرًا له، وذلك مثل الأحاديث التي فصلت أحكام وهيئات الصلاة والصيام والحج والبيوع والمعاملات التي وردت مجملة في القرآن، وهذا القسم هو أغلب ما في السنة وأكثرها ورودًا.

3 -

أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن على إيجابه، أو محرِّمة لما سكت عن تحريمه؛ كالأحاديث التي أثبتت حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأحكام الشفعة وغير ذلك.

فالسنة الصحيحة لا تخرج عن هذه الضوابط، كما أنها لا تعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله التي أمر الله بها

ص: 226

على جهة الاستقلال، فقال تعالى:(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)(المائدة: 92)، وقال تعالى:(ومن يطع الرسول فقد أطاع الله)(النساء: 180)، فهذه الطاعة المأمورون بها هي طاعة مختصة به صلى الله عليه وسلم

(1)

، ويجب علينا العمل بها.

فالسلف يؤمنون "بأن الله سبحانه نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم منصب المبلغ المبين عنه، فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن الله أن هذا شرعه ودينه، ولا فرق بين ما يبلغه عنه من كلامه المتلو ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا.

فعلى سبيل المثال، فإن الله أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان، ثم جاء البيان عن رسوله صلى الله عليه وسلم بمقادير ذلك وصفاته وشروطه، فوجب على الأمة قبوله، إذ هو تفصيل لما أمر الله به، كما يجب علينا قبول الأصل المفصل، وهكذا أمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، فإذا أمر الرسول بأمر، كان تفصيلًا وبيانا للطاعة المأمور بها، وكان فرض قبوله كفرض قبول الأصل المفصل، ولا فرق بينهما، والبيان من النبي صلى الله عليه وسلم على أقسام:

أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيًا.

الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك، كما بين أن الظلم المذكور في قوله (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) (الأنعام: 82) هو الشرك، وأن الحساب اليسير هو العرض، وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض الليل وسواد النهار.

الثالث: بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله.

الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن فنزل

(1)

إعلام الموقعين (2/ 307، 308).

ص: 227

القرآن ببيانها، كما سئل عن قذف الزوجة فجاء القرآن باللعان ونظائره.

الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنًا، كما سئل عن رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالخلوق، فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة ويغسل أثر المخلوق.

السادس: بيانه للأحكام بالسنة ابتداء من غير سؤال، كما حرم عليهم لحوم الحمر، والمتعة، وصيد المدينة، ونكاح المرأة على عمتها وخالتها وأمثال ذلك.

السابع: بيانه للأمة جواز الشيء بفعله هو له، وعدم نهيهم عن التأسي به.

الثامن: بيان جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده، أو يعلمهم يفعلونه.

التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوًا بالسكوت عن تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقًا.

العاشر: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف، فيحيل الرب عز وجل على رسوله في بيانها كقوله تعالى:(وأحل لكم ما وراء ذلكم)[النساء: 24] فالحل موقوف على شروط النكاح وانتقاء موانعه وحضور وقته وأهلية المحل"

(1)

.

ومن هذا المفهوم والتصور الواضح لأهمية السنة ومكانتها ودورها في التشريع انطلقت أفعال السلف مترجمة لهذا التصور، فكان من تلك الأفعال أن اعتنى السلف بالسنة فتضافرت جهود العلماء من لدن الصحابة والتابعين على حفظ السنة والعناية بها وصيانتها، فحظيت منذ ذلك الحين

(1)

إعلام الموقعين (2/ 314، 315).

ص: 228

بسياج من الحماية منقطع النظير، وقد اتبع الصحابة في ذلك كل سبيلي حفظ للسنة نورها وصفاءها، وكان من ذلك التحري والتثبت في روايتها خشية الوقوع في الخطأ وخوفًا من أن يتسرب إليها التصحيف والتحريف، بل إن بعضهم فضل الإقلال من الرواية.

قال ابن قتيبة

(1)

: "كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية أو أتى بخبر الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا من الرواية يريد بذلك أن لا يتسمع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأبي بكر والزبير

(2)

وأبي عبيدة

(3)

والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل

(4)

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة"

(5)

.

ولقد تبعهم من بعدهم من التابعين ومن بعدهم على ذلك.

(1)

عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: صاحب التصانيف، صدوق قليل الرواية، توفي سنة (276 هـ). لسان الميزان (3/ 357 - 359).

(2)

الزبير بن العوام: من أول من أسلم بمكة، كان يسميه رسول الله صلى الله عليه وسلم "حواريه" لمحبته له، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، قتل سنة (36 هـ)، الإصابة (1/ 526 - 528).

(3)

أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجراح: أمين هذه الأمة، وأحد العشرة السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين وشهد بدرًا وما بعدها، توفي سنة (18 هـ) الإصابة (2/ 243 - 245).

(4)

سعيد بن زيد بن عمرو بن نقيل: أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، شهد أحدًا والمشاهد بعدها وكان من فضلاء الصحابة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، توفي بالمدينة سنة خمسين، وقيل بعد ذلك. الإصابة (2/ 44).

(5)

كتاب تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة الدينوري (ص 30).

ص: 229

وكما احتاط السلف في التحديث احتاطوا وتثبتوا كذلك في قبول الأخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الذهبي: "كان أبو بكر رضي الله عنه أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب

(1)

أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: لا أجد لك في كتاب الله شيئًا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئًا، ثم سأل الناس فقام المغيرة وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس. فقال: هل معك غيرك؟، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه".

واستشار عمر بن الخطاب له الناس في إملاص المرأة

(2)

، فقال المغيرة بن شعبة

(3)

شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة.

فقال عمر: ائتني بمن يشهد معك. قال: فشهد له محمد بن مسلمة

(4)

.

وحدث لعمر مثل هذه الحادثة مع كثير من الصحابة منهم هم أبي بن كعب وأبو موسى. وفي رواية: قال عمر لأبي موسى: "أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(5)

.

وعن علي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا

(1)

قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي: تابعي ثقة، ولد عام الفتح، وكان من فقهاء أهل المدينة وصالحيهم، مات سنة (86 هـ) وقبل غير ذلك، تهذيب التهذيب (8/ 346، 347).

(2)

هو أن تزلق الجنين قبل وقت الولادة، النهاية (4/ 356).

(3)

المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي: صحابي جليل، أسلم قبل عمرة الحديبية، وشهدها وبيعة الرضوان، وكان من دهاة العرب، مات سنة خمسين عند الأكثر. الإصابة (3/ 433، 434).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب دية الجنين (5/ 111، 112).

(5)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ (2/ 964).

ص: 230

نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته فإذا حلف لي صدقته

)

(1)

.

وهذا التثبت من الصحابة رضوان الله عليهم كان الحامل لهم عليه هو ألا يسترسل الناس في رواية الحديث ويتساهلوا فيه من غير تحر وتثبت كاف فيقعوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث شعروا أو لم يشعروا، ويدلك على ذلك قول عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري: "أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه الشواهد عن ثلاثة من الخلفاء الراشدين تترجم حرصهم وجهودهم في المحافظة على السنة بأن لا يشوبها ما ليس منها.

وقد تتابعت الجهود من الصحابة ومن جاء بعدهم على حفظ السنة وحمايتها إلى أن قعدت القواعد ووضعت الضوابط التي يعرف بها قوة الحديث أو وهنه، وكان من تلك الضوابط علم إسناد الحديث فقد اعتني بهذا الجانب منذ وقت مبكر، واهتم به العلماء حتى جعلوه من الدين، قال عبد الله بن المبارك

(2)

: "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"، وقال:"بيننا وبين القوم قوائم"؛ يعني: الإسناد

(3)

.

ولقد اشتغل علماء الحديث بنقد الرواة وبيان حالهم ومن تقبل روايته ومن لا تقبل من خلال دراسة الراوي سيرة وتاريخًا ومعتقدًا وسلوكًا، ولم تأخذهم في ذلك لومة لائم، وقد قيل ليحيى بن سعيد القطان

(4)

: "أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (1/ 2)، وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في أن الصلاة كفارة (1/ 446)(ح 1395).

(2)

عبد الله بن المبارك المروزي: الإمام الحافظ، شيخ الإسلام، كان ثقة، مأمونًا، حجة، كثير الحديث، مات سنة (181 هـ)، تهذيب التهذيب (5/ 382 - 389).

(3)

السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي (ص 92).

(4)

يحيى بن سعيد بن فروخ القطان: من حفاظ الحديث، ثقة حجة من أقران =

ص: 231

عند الله يوم القيامة؟، فقال: لأن يكون هؤلاء خصمي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذب من حديثي"

(1)

.

وهذه لمحة وإشارة لما بذله السلف من جهود في حفظ السنة والذب عنها لتبق منهلًا صافيًا تستقي منه الأمة أمور دينها ودنياها وآخرتها حتى يتحقق لها اتباع رسولها محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمر الله بالاقتداء به والسير على نهجه والطاعة له في كل ما جاء به صلى الله عليه وسلم.

‌ثالثًا: ثم يلي الكتاب والسُّنَّة:

فيما يجب التسليم له من أصول ما كان في معناهما بدليل جامع، والمراد بذلك الإجماع والقياس الجلي الذي لا يصادم النفس الشرعي. قال الشافعي:"الحجة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة".

وقال أيضًا: "والعلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة الثابتة، ثم الإجماع فيما ليس في كتاب ولا سُنَّة.

الثالثة: أن يقول الصحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة.

الرابعة: اختلاف الصحابة.

الخامسة: القياس"

(2)

.

* * *

= مالك وشعبة، مات سنة (198 هـ)، تهذيب التهذيب (11/ 216 - 5 22).

(1)

السُّنَّة ومكانتها (ص 93).

(2)

إعلام الموقعين (2/ 248).

ص: 232

‌المطلب الثاني محاربة السلف لما يناقض الاتباع

من الأمور التي سار عليها السلف في طاعتهم واتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعلوها منهجًا لهم في الاتباع محاربتهم لذلك الثالوث الخطير المتمثل في: البدعة، والتقليد، والرأي.

فالسلف يعدون ذلك الثالوث مرضًا خطيرًا متى استشرى وانتشر في الأمة فإنه يفتك بعقيدتها وما هي عليه من الاتباع والسنة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن"

(1)

.

وعن جابر بن زيد

(2)

أن ابن عمر لقيه في الطواف فقال: "يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تُفْتِ إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت"

(3)

.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يقلدن أحدكم دينه رجلًا إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر"

(4)

.

وهذه النصوص الثلاثة المنقولة عن ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 39).

(2)

جابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء البصري: تابعي، ثقة، كان من أعلم الناس بكتاب الله، مات سنة (93 هـ) وقيل بعدها. تهذيب التهذيب (2/ 38).

(3)

أخرجه الدارمي في السنن (1/ 59).

(4)

إعلام الموقعين (2/ 195).

ص: 233

تصور عظم خطر تلك الأمور على الأمة، كما تصور حرصهم على تحذير الأمة من خطرها وشرها الذي يهدد عقيدتهم وما هم عليه من الاتباع والسنة.

‌أ - محاربتهم للبدعة:

فأول تلك الأمور وأشدها خطرًا على الأمة "البدعة"، فالابتداع في الدين قد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".

وقال: "فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"

(1)

.

كما بين حكم البدعة بقوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"

(2)

.

ومع وقفة تأمل لما ورد في هذه الأحاديث نلمس الأمور التالية:

ففي الحديث الأول والثاني وصف صلى الله عليه وسلم البدعة بكونها سلالة وانحرافًا من الطريق والصراط المستقيم الذي رسمه صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة والذي أوجب الله علينا اتباعه فيه.

(1)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (3/ 11)؛ وأخرجه البخاري موقوفًا، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم انظر: فتح الباري (13/ 249)(ح 7277).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (5/ 132)، وفي رواية:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وهذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود. فتح الباري (5/ 301)(ح 2697).

ص: 234

فالبدعة في الدين طريق غواية وضلال يجب الحذر منه والبعد عنه، وهي إضافة إلى ذلك فإنها مخالفة لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومحاربة لما جاء به من الهدى والنور، إذ الوقوع في هذا المزلق الخطر الذي هو "البدعة" يترتب عليه أمور خطيرة منها الطعن في الدين؛ لأن لسان حال المبتدع يقول: إن الشريعة لم تتم وإنه بقي منها أشياء يجب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولم يستدرك عليها.

وإضافة إلى ذلك فإن المبتدع معاند للشرع ومشاق له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك، فالمبتدع بحاله تلك يزعم أن ثم طرفًا أخر وليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لا يعلم الشارع، وأحاط بما لم يحط به، وهذا هو بعينه الضلال المبين الذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم البدعة به حين قال:"وكل بدعة ضلالة"

(1)

.

ومع هذا وذاك فقد تجعل البدعة مع مرور الزمن ونتيجة لانتشارها بين الناس من الدين، فتصبح سنة يستون بها وبخاصة العوام منهم الذين اعتادوا على التقليد والأخذ بكل ما هو منتشر بين الناس. بينما في الوقت نفسه تصبح السنن لغرابتها والجهل بها بدعًا، وهذا هو الحال في كل زمان ومكان انتشرت وعشت فيه البدع، وقل فيه العلماء بأمور السنة.

وأما الحديث الثالث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، فهو حكم صريح على كل أمر محدث مبتدع في الدين وليس له أصل في الشرع بالرد وعدم القبول، ولا شك أن هذا الحكم بتر

(1)

الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ (ص 99) بتصرف.

ص: 235

لكل ما هو مبتدع في دين الله وشرعه، وإسقاط له، إضافة إلى كونه حماية لشرع الله من كل ما يخل به.

ولقد اتخذ السلف من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن قواعد ساروا عليها في سبيل محافظتهم على السنة وصيانتها من شوائب البدع وشرورها. وإن المتأمل للنصوص الواردة عنهم في هذا الخصوص يلمس مدى حرصهم وتطبيقهم للتوجيهات النبوية التي تلقوها عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"

(1)

.

وعنه أنه رأى أناسًا يسبِّحون بالحصا فقال: "على الله تحصون، لقد سبقتم أصحاب محمد علمًا أو لقد أحدثتم بدعة ظلمًا"

(2)

.

وعنه أنه قال: "الاقتصاد في السنة غير من الاجتهاد في البدعة".

وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: "أخوف ما أخاف على الناس اثنتان: أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون، وأن يضلوا وهم لا يشعرون".

قال سفيان: هو صاحب البدعة

(3)

.

وكان حذيفة رضي الله عنه يدخل المسجد فيقف على الخلق فيقول: "يا معشر القراء اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا".

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحدًا أحب إلى الشيطان هلاكًا مني، فقيل: كيف؟، فقال: والله إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب فيحملها الرجل إلي، فإذا

(1)

أخرجه محمد بن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 10).

(2)

المصدر السابق (ص 11).

(3)

الإبداع في مضار الابتداع (96).

ص: 236

انتهت إلي قمعتها بالسنة فترد عليه"

(1)

.

وعنه رضي الله عنه أنه قال: "عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والتبدع"

(2)

.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "أوشك قائل من الناس يقول: قد قرأت القرآن ولا أرى الناس يتبعوني، ما هم متبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإن كل ما ابتدع ضلالة"

(3)

.

وعنه أنه قال: "أيها الناس عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ألا وإن رفعه ذهاب أهله، وإياكم والبدع والتبدع والتنطع، وعليكم بأمركم العتيق"

(4)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة"

(5)

. وعن الحسن البصري

(6)

قال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادًا صيامًا وصلاة إلا ازداد من الله بعدا"

(7)

.

وعنه قال: "لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك"

(8)

.

وعن أيوب السختياني أنه كان يقول: "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا ازداد من الله بعدًا"

(9)

.

(1)

أخرجه اللالكائي في السنة (1/ 88)(ح 12).

(2)

أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 25).

(3)

المصدر السابق (ص 25).

(4)

المصدر السابق (ص 25).

(5)

أخرجه اللالكائي في السنة (1/ 92)(ح 226).

(6)

الحسن بن يسار البصري: ولد في عهد عمر، كان جامعًا، عالمًا، رفيعًا، ثقة، مأمونًا، عابدًا، ناسكًا، كبير العلم فصيحًا، توفي سنة (110 هـ)، الطبقات لابن سعد (7/ 156).

(7)

البدع والنهي عنها، لابن وضاح (ص 27).

(8)

المصدر السابق (ص 47).

(9)

المصدر السابق (ص 27).

ص: 237

وعن سفيان الثوري قال: "من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره. وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله في النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا وإني واثق بنفسي، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه"

(1)

.

وقال: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها"

(2)

.

وعن أبي قلابة

(3)

أنه قال: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون"

(4)

.

وبعد: فما نقلته ههنا يعد جزءًا يسيرًا جدًّا مما ورد عن السلف من نصوص في الحث على ترك الابتداع في الدين والتحذير من مخاطره ومغبة الإقدام عليه وموقفهم من أهله، فلقد اشتد نكير السلف على البدعة وأصحابها، والمجال هنا لا يتسع للاستفاضة في هذا الموضوع، وبما ذكر يحصل المقصود.

‌ب - محاربتهم للتقليد:

وأما الأمر الثاني من الأمور التي تشكل خطورة على الاتباع والسنة في رأي السلف فهو "التقليد". والفرق بينه وبين الاتباع أن التقليد: هو الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه.

وأما الاتباع: فهو ما ثبت عليه الحجة.

(1)

البدع والنهي عنها، لابن وضاح (ص 47).

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 472).

(3)

أبو قلابة: عبد الله بن زيد الجرمي: أحد الأعلام. قال أيوب السختياني: "كان والله من الفقهاء ذوي الألباب"، توفي سنة (104 هـ)، وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب (5/ 224، 226).

(4)

البدع والنهي عنها (ص 48).

ص: 238

فكل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قَبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، وكل من أوجب الدليل عليك اتباع قوله فأنت متبعه.

والاتباع في الدين مسوغ، والتقليد ممنوع

(1)

.

والتقليد الممنوع على ثلاثة أشكال:

أحدها: الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء أو المشايخ.

الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.

الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد.

ولقد حارب السلف هذا النوع من التقليد وذمّوه واعتبروه مزلقًا خطيرًا يحرِّف المسلم وينحيه عن المنبع الذي يستمد منه دينه، ويجعله عرضة لكل بدعة، ومنقادًا لكل شبهة، وتبعًا لكل ناعق، وإضافة إلى ذلك فإن التقليد له صلة وثيقة بالبدعة، فالبدعة تؤخذ في غالب الأمر تقليدًا لشيخ يعظم أو والد يحترم أو مجتمع تقدس فيه عاداته، ولذلك كان التقليد والابتداع سببين رئيسيين في ضلال الأمم وانحرافها عن منهج أنبيائهم.

وقد حكى الله في كتابه العزيز عن بني إسرائيل أنهم سألوا موسى أن يجعل لهم إلها من الأصنام مقلدين في ذلك من مروا عليهم من عباد الأصنام، قال تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)} [الأعراف]، كما ذكر سبحانه أن ما وقع فيه اليهود

(1)

إعلام الموقعين (2/ 197).

ص: 239

والنصارى من الكفر بقول اليهود: عُزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله إنما هو نتيجة التقليد لمن قبلهم من الوثنيين، قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة].

كما ذمَّ سبحانه صنيع اليهود والنصارى مع علمائهم حيث قلدوهم في جميع ما يقولون، فأحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله، قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].

كما ذم صلى الله عليه وسلم من امتنع عن قبول الحق تقليدًا للآباء فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجلًا فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملومًا على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضًا وإن اختلفت الآثام فيه"

(1)

.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أخاف على أمتي من بعدي إلا من أعمال ثلاثة"، قالوا: وما هي يا رسول الله؟، قال:"أخاف عليهم: زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع"

(2)

، ومن المعلوم أن الخوف من

(1)

إعلام الموقعين (2/ 191).

(2)

أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة باب (23).

ص: 240

زلة العالم تقليده فيها، إذ لولا التقليد لما يخف من زلة العالم على غيره.

قال ابن القيم: "والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل قوله منزلة قول المعصوم، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه، وذموا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وقتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه، فالخطأ واقع منه ولا بد"

(1)

.

قال الشعبي: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال منافق بالقرآن، والقرآن حق، وزلة عالم"

(2)

، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"ويل للأتباع من عثرات العالم"، قيل: وكيف ذاك يا أبا العباس؟، قال:"يقول العالم من قبل رأيه، ثم يسمع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدع ما كان عليه"، وفي لفظ:"فيلقى من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيخبره فيرجع ويقضي الأتباع بما حكم"

(3)

.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يقلدن أحدكم دينه رجلًا إن آمنأمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر"

(4)

.

قال ابن القيم: "والفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه وسلم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها: أن تجريد المتابعة أن لا تُقدم على ما جاء به قول أحد ولا رأيه كائنًا من كان. بل تنظر في صحة الحديث أولًا، فإذا

(1)

إعلام الموقعين (2/ 192).

(2)

المصدر السابق (2/ 193).

(3)

المصدر السابق.

(4)

المصدر السابق (2/ 195).

ص: 241

صح لك نظرت في معناه ثانيًا، فإذا تبين لك لم تعدل عنه ولو خالفك من بين المشرق والمغرب، ومعاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به ولو لم تعلمه، فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله ورسوله بل اذهب إلى النص ولا تضعف، واعلم أنه قد قال به قائل قطعًا ولكن لم يصل إليك. هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه، فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة، ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم بها منك، فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص أعلم به منك أيضًا فهلا وافقته إن كنت صادقًا؟.

فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها، وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم بل اقتدى بهم، فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقًّا من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم، لخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا بها ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم.

ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال وبين الاستعانة يفهمه والاستضاءة بنور علمه.

فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلد به، ولذلك سمي تقليدًا. بخلاف من استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى سنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل استغني بدلالته على الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى.

قال الشافعي: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة

ص: 242

الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد"

(1)

.

‌ج - محاربتهم للرأي الباطل:

وأما الأمر الثالث من الأمور التي يرى السلف أنها تناقض الاتباع وتضاده فهو "الرأي".

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعًا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون"

(2)

، والمقصود به هو الرأي الباطل الذي ليس من الدين؛ لأن الرأي ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 -

رأي باطل بلا ريب.

2 -

رأي صحيح.

3 -

رأي هو موضع الاشتباه.

والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به، وسوغوا القول به. وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله.

والقسم الثالث: سوَّغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد، ولم يلزموا أحدًا العمل به، ولم يحرموا مخالفته ولا جعلوا مخالفته مخالفًا للدين، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده، فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه

(3)

.

(1)

الروح لابن القيم (2/ 768، 769).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام، باب ما يذكر من ذم الرأي. فتح الباري (13/ 282)(ح 7307).

(3)

إعلام الموقعين (1/ 67). وقد تناول ابن القيم في هذا الكتاب القول بالتفصيل =

ص: 243

والحديث ههنا يتناول الرأي الباطل فقط، وهو على أنواع:

أحدها: الرأي المخالف لله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.

الثاني: هو الكلام في الدين بالخرص والفن، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها، فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم، بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين الحق أحدهما بالآخر أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار، فقد وقع في الرأي المدعوم الباطل.

النوع الثالث: الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية

(1)

ومن ضاهاهم، حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة، فردوا لأجلها الفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم، ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلًا، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل، فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده، وأنكروا مباينته للعالم، واستواءه على عرشه وعلوه على المخلوقات، وعموم قدرته على كل شيء، بل أخرجوا أفعال عبادة من الملائكة

= عن أنواع الرأي، فمن أراد التوسع والاستفادة فليرجع إليه.

(1)

سموا بذلك لقولهم في القدر، وهم يزعمون أن العبد هو الذي يخلق فعله استقلالًا، فأثبتوا خالقًا مع الله، الملل والنحل (1/ 54)، ومجموع الفتاوى (8/ 256).

ص: 244

والأنبياء والجن والإنس عن تعلق قدرته ومشيئته وتكوينه لها، ونفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وحرفوا لأجلها النصوص عن مواضعها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه زبالة الأذهان ونخالة الأفكار، وعفارة

(1)

الآراء ووساوس الصدور، فملؤوا به الأوراق سوادًا، والقلوب شكوكًا، والعالم فسادًا.

وكل من له مُسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد، فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق، وأثبت بها من باطل، وأميت بها من هدى وأحيي بها من ضلالة؟ وكم هدم بها من معقل للإيمان، وعمر بها من دين الشيطان؟ وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل بل هم شر من الحمر، وهم الذين يقولون يوم القيامة:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك].

النوع الرابع: الرأي الذي أحدثت به البدع، وغيرت به السنن وعم به البلاء، وتولى عليه الصغير، وهرم فيه الكبير.

فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه لإخراجه من الدين

(2)

.

ومما ورد عن السلف في ذم الرأي الذي من هذا القبيل ما يلي:

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "أيُّ أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم"

(3)

.

(1)

العفارة: الخبث والشيطنة. النهاية (3/ 262).

(2)

إعلام الموقعين (1/ 67 - 69).

(3)

المصدر السابق (1/ 54).

ص: 245

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "اتقوا الرأي في دينكم"

(1)

.

وروي عنه كذلك قوله: "أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم"

(2)

.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"

(3)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قال بعد ذلك برأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته"

(4)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لا يأتي عليكم عام إلا هو شر من الذي قبله، أما إني لا أقول أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم"

(5)

.

ومما ورد كذلك من الآثار عن التابعين ما يلي:

قول الشعبي: "ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوه، وما كان رأيهم فاطرحوه في الحش"

(6)

.

(1)

إعلام الموقعين (1/ 55).

(2)

المصدر السابق (1/ 55).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب كيف المسح (1/ 114، 115)(162)، وأورده ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 58).

(4)

إعلام الموقعين (1/ 58، 59).

(5)

أخرجه الدارمي في السنن، المقدمة، باب تغير الزمان وما يحدث فيه (1/ 65). وأورده ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 57).

(6)

إعلام الموقعين (1/ 73).

ص: 246

وعن ابن شهاب الزهري قال: "دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي"

(1)

.

وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس: "أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

فهذه الأقوال عن أولئك الأئمة من الصحابة والتابعين أجمعت على إخراج الرأي عن العلم وذمه والتحذير منه والنهي عن الفتيا به، فرضي الله عن أئمة الإسلام وجزاهم من نصيحتهم خيرًا، ولقد سلك سبيلهم أهل العلم والدين من أتباعهم.

* * *

(1)

إعلام الموقعين (1/ 74).

(2)

المصدر السابق (1/ 74).

ص: 247

‌المبحث الثالث التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه

وفيه تمهيد ومطلبان:

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه.

المطلب الثاني: الأدلة من السُّنَّة على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه.

ص: 249

‌تمهيد

" من المعلوم لكل من عنده مسكة من عقل أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الخلق عبثًا كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون] وكما قال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة]؛ أي: مهملًا هملًا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب.

والغاية التي خلق من أجلها الجن والإنس هي التي أخبر الحق تبارك وتعالى عنها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات]، فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهي في الدنيا، والثواب أو العقاب في الآخرة.

وإذا تمهد هذا فإنه يعلم مدى حاجتهم وضرورتهم إلى الشريعة وأحكامها، إذ بواسطتها يتعرف على مواقع رضى الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية.

والناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به والدعوة إليه والصبر عليه وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، إذ ليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة"

(1)

. ولذلك فرض الله على الإنس والجن طاعة من أرسل من الرسل

(1)

كتاب: "تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن"، تأليف الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني الأسعردي مطبوع ضمن الرسائل المنيرية (1/ 140، 141) بتصرف.

ص: 251

وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]؛ فالطاعة بذلك متحتمة على من شملتهم دعوة الرسل.

وقد بعث الله نبيه ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وبذلك عمَّت دعوته كل الأمم سواء كانوا في زمانه أو في الأزمان التالية من بعده وذلك على اختلاف تلك الأمم في ألوانها وأجناسها ولغاتها وشرائعها بما فيهم أهل الكتاب - اليهود والنصارى .. فترتب على عموم الرسالة أن نسخت الشرائع السابقة لشريعته صلى الله عليه وسلم فلم يبق من طريق يوصل إلى عبادة الله ورضوانه سوى طريق خاتم الأنبياء والمرسلين محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم فلا حجة لأحد دون حجته ولا يستقيم لعاقل سبيل سوى واضح محجته.

وقد جمعت سُنَّته صلى الله عليه وسلم تحت حكمتها كل معنى حكيم فلا يسمع بعد بيانها خلاف مخالف ولا قول مختلق، ومن تبع سنته فهو على نور من ربه، وبصيرة من أمره، والمائل عن شرعه، واقع في ظلمته، مرتبك في حيرته، ومرتكس في ضلاله وشقاوته.

ولذلك كان لزامًا على الجن والإنس أن يستجيبوا له صلى الله عليه وسلم ويتبعوا شريعته ظاهرًا وباطنًا.

وقد وعد الله المستجيب منهم أن يدخله جنته ويسبغ عليه رضاه ومحبته. وتوعد المخالف بأن يذيقه أليم عقابه ويلقيه في جهنم ليعلم بذلك كيف يكون مصيره وعاقبته.

وإن آيات القرآن ونصوص السُّنَّة في هذا الشأن كثيرة جدًّا، وقد تقدم إيراد الأدلة الواردة في وجوب طاعته واتباعه.

وفي هذا المبحث سأتناول بإذن الله الأدلة الواردة في حكم

ص: 252

مخالفته صلى الله عليه وسلم والبعد عن سُنَّته والعقوبات الدنيوية والأخروية المترتبة على تلك المخالفات على تنوع صورها وأشكالها سواء كانت إعراضًا وكفرًا، أو بدعة، أو معصية، أو غير ذلك.

وعسى أن يكون فيما سيعرض من آيات قرآنية وأحاديث نبوية تذكرة وعظة، وخاصة أننا نعيش في زمان نحتاج فيه إلى التمعن في هذه النصوص وتدبرها لكثرة ما يقع من الإعراض والمخالفة لشرع النبي صلى الله عليه وسلم ونهجه عند كثير من الناس.

* * *

ص: 253

‌المطلب الأول الأدلة من القرآن الكريم على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه

ورد التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في مواطن عدة من القرآن الكريم، وقد جاء التحذير مصحوبًا بالوعيد الشديد لذلك المخالف العاصي، ومن تلك المواطن: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور].

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء].

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب].

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} [الجن].

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء].

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)} [الأنفال].

وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)} [التوبة].

ص: 254

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)} [المجادلة].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)} [المجادلة].

وإن المتأمل في هذه الآيات يرى ما تضمنته من الوعيد الشديد والعقاب الأليم لمن خالف منهج الرسول وطريقته وشرعه وحاد عن كل ما جاء به، فقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور]، تحمل هذه الآية الوعيد الشديد لمن خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، ومعناها:"أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا"، {أن تصيبهم فتنة} ، أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أو يصيبهم عذاب أليم} في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك

(1)

.

هذا من جهة العقوبة الدنيوية كما فسر ابن كثير الآية بذلك.

أما على صعيد العقوبة الأخروية، فاقرأ الآية الأخرى وهي قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء]، وعلى هذا فإن المخالف متوعد بالعقوبتين الدنيوية والأخروية، إضافة إلى وصفه بالضلال البين الواضح بقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب]، وفي هذا الوصف والجزاء للمخالف حكم بخروجه عن دائرة الإيمان.

كما أن كل من أعرض عن حكم الرسول ولم ينقد له ولم يرض به إلا إذا كان موافقًا لهواه فهو محكوم عليه بالنفاق بنص القرآن الكريم.

(1)

تفسير ابن كثير (3/ 307).

ص: 255

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء].

وقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور].

وهذه الآيات بيَّنت موقف كلا الطرفين - الطرف الأول أهل الإيمان الحقيقي والطرف الثاني أهل النفاق المظهرون للإسلام المخفون للكفر - من التحاكم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن سمة المنافقين أنهم لا يتحاكمون لشرع الله إلا إذا كان الحق في صفهم وحكم الشرع لصالحهم، أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فلا ترى منهم سوى الإعراض عن شرع الله المتمثل في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

أما أهل الإيمان الذين ترسخ في قلوبهم الإيمان بشرع الله اعتقادًا بالقلب وقولًا باللسان وعملًا بالجوارح، فإن من صفاتهم وعلاماتهم تحاكمهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحوالهم وشؤونهم مع الرضا والتسليم لذلك الحكم، سواء كان لهم أم عليهم.

ولذلك فقد جاء وصف أهل الإيمان بالفلاح، فقال تعالى:{وأولئك هم المفلحون} ، بينما وصف أهل النفاق بالظلم حيث قال تعالى:{بل أولئك هم الظالمون} .

فيجب على المسلم أن يحذر من الوقوع في هذا العمل الخطير الذي من شأنه أن يوقع صاحبه في مثل هذه الصفات، ويعرضه لتلك العقوبات التي تحدثت بها آيات القرآن الواردة في هذا الشأن.

ص: 256

وقال ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء]: "قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} ؛ أي: ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح، وقوله {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفًا لهم وتعظيمًا لنبيهم، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك .....

ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ؛ أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجًا له كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)} [القلم]، وقال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الصف: 5]، وقوله:{وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام].

وجعل النار مصيره في الآخرة، لأن من خرج عن الهدى لم يكنله طريق إلا إلى النار يوم القيامة

(1)

.

ولقد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز عددًا من قضايا المخالفة وعلى رأسها التحاكم إلى غير ما أنزل الله، فهذا الداء من أعظم المخاطر وبخاصة في زماننا هذا الذي طرح فيه كثير ممن ينتمون إلى الإسلام كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، واعتاضوا عنهما بقوانين الكفار وآراء ابتدعوها تقوُّلًا على الشريعة حتى جعلوا لتلك القوانين

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 554، 555).

ص: 257

محاكم تحمى بقوة السلطان وأجبروا الناس على التحاكم إليها.

والحكم بغير ما أنزل الله هو من أعظم أسباب المقت والحرمان وأكبر موجبات العقوبة والخذلان، كيف لا وهو شرع دين لم يأذن به الله واتباع لغير سبيل المؤمنين ومشاقة ومحادة ومحاربة وخيانة الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتخاذ لدين الله هزوا ولهوا ولعبًا وتبديلًا لنعمة الله إلى غير ذلك من المفاسد والمحاذير التي لا تدخل تحت حساب. وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة].

وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة].

وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة].

وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 70]، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم].

وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} [النساء].

قال ابن القيم: "قال أهل التحقيق من أهل التفسير: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله.

ص: 258

فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم انحرف عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، ومن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم ولا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق والقصد معًا، ولو لم يكن في القرآن المجيد من الزجر عن اتباع القوانين البشرية غير هذه الآية الكريمة لكفت العاقل اللبيب، فكيف والقرآن الكريم كله يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله، وعدم تحكيم ما عداه

(1)

.

وبما تقدم من آيات يعلم المسلم خطورة مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والإعراض عن سنته ومنهجه والشرع الذي جاء به من عند ربه.

فالآيات السابقة وما كان على منوالها فيها خطاب لكل معرض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه وشرعه الذي جاء به، وهي بما تضمنته من الوعيد الشديد بمثابة الإنذار لكل من كان على هذه الحال لكي يكون على بينة من أمره فيعلم على أي ذنب قد أقدم ولأي جرم قد ارتكب {ليهلك من هلك عن بينة} [الأنفال: 12] وذلك قبل أن يكون من أولئك الذين يتحسرون ويعضون أيديهم ندمًا في يوم القيامة {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان].

ومعلوم أن كل من ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قائل لهذه المقالة لا محالة. فنعوذ بالله ممن هذه حاله ويوم القيامة تكون نار جهنم مآله وقراره.

* * *

(1)

تيسير العزيز الحميد (ص 493).

ص: 259

‌المطلب الثاني الأدلة من السنة على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه

جاءت السنة بمثل ما جاء به القرآن الكريم، فالأحاديث متوافرة، ومتعددة في هذا الشأن، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإعراض عن سُنَّته والبعد عنها أو الانتقاص من قدرها ومكانتها أو مخالفتها.

وهذا التحذير منه صلى الله عليه وسلم والوارد في عبارات متنوعة وأساليب متعددة - كما سيمر عليك - يصور مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على حماية أمته وصيانتهم من الوقوع في هذا المزلق الخطير، ولا غرابة في ذلك فهو الموصوف بقوله تعالى:{{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة].

ومما ورد في تصوير مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته وتحذيره لهم من الوقوع في مخالفته قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عنه أبو هريرة: مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها - قال - فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها".

وهذا الحديث إضافة إلى كونه يصور مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته فهو بين كذلك أن سبيل النجاة والفلاح إنما هو باتباع، سنة النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بها، وأن كل مخالف ومجانب لهذه السنة فهو ينفي بنفسه إلى التهلكة وذلك بسبب بعده ومخالفته لشرع المصطفى ونهجه الذي جاء به.

ص: 260

ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته سبيل النجاة والفلاح وحثهم على سلوكه والسير عليه، كما حذرهم من سبل الهلاك والضلال وبين لهم ماضيها من الخسران والتعاسة الدنيوية والأخروية، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام]، وهذه الوصية عامة لكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وقد ختم الله الآية بقوله} ولعلكم تتقون}، والتقوى حقيقتها:"العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فالمتقي يفعل ما أمره الله به إيمانًا بالأمر وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالنهي وخوفًا من وعيده".

وقال طلق بن حبيب

(1)

: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله". وطاعة الله تتحقق بطاعة رسوله والسير على نهجه وسلوك سبيله، قال تعالى:{ومن يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 180].

وفي الحديث: "فمن أطاع محمد صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصامحمد صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله".

ولذلك فإنه لم يبق للإنسان إلا أن يختار أي الطريقين يسلك، قال تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان]، وليتحمل بعد ذلك مسؤولية ما قدم من عمل كما قال تعالى:{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة]، وقال تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} [النجم].

وإن المسلم الواعي العارف لأمور دينه يعلم أن الخير كل الخير في

(1)

طلق بن حبيب العنزي البصري: تابعي ثقة كان أعبد أهل زمانه، قتله الحجاج مع سعيد بن جبير، تهذيب التهذيب (5/ 31 - 32).

ص: 261

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته والسير على هديه، وأن الشر كل الشر في البعد عن سنته ومخالفته. ولذا تراه حريصًا على سنة المصطفى متمسكًا بها في كل أحواله، وفي الوقت نفسه يحذر أشد الحذر من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والبعد عن سبيله ومنهجه، ومثل هذا الاعتقاد يجب على كل مسلم أن يعتقده ويطبقه في أقواله وأعماله ليسعد وينجو في دنياه وآخرته.

ومما يؤسف له أن كثيرًا من المسلمين لا يولي هذا الجانب اهتمامه وعنايته بل تراه على النقيض من ذلك حتى إن بعضهم ليس له من الإسلام إلا اسمه فقط، ذلك لأن أقواله وأفعاله مناقضة للشرع ولا تمت إليه بصلة، وتراه كذلك راغبًا عن سنة المصطفى متحاكمًا في أكثر شؤونه وأحواله إلى غير الكتاب والسنة. ومن كانت هذه صفاته فالإسلام منه براء وهو بريء من الإسلام، فقد قال:"من رغب عن سنتي فليس مني".

ولقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الناس وحذر منهم، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال:"كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟، قال: "نعم". قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟، قال: "نعم وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟، قال: "قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر

الحديث.

فالشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "قوم يهدون بغير هديي"، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذم من جعل للدين أصلًا خلاف الكتاب والسنة، أو جعلهما فرعًا لذلك الأصل الذي ابتدعه وأمثال هؤلاء كثيرون، فكم من شخص ينتمي للإسلام جعل من الفلاسفة حكمًا على كل شيء حتى على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكم من شخص نبذ شرع الله وراء ظهره وتحاكم إلى القوانين الوضعية المستوردة من بلاد الكفر والإلحاد. وكم من شخص

ص: 262

جعل الهوى وشهوات النفس دينًا يدين به، فإذا جاءه أمر الشارع أخذ منه ما وافق هواه ورأيه وأعرض عما عداه، وكم من فئة وطائفة في زماننا الحاضر ينطبق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، والذي ينبغي على كل أحد أن يعلمه هو أنه بمقدار اتباع المرء لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، يكون فلاحه ونجاته، فالأقوال والأعمال يتوقف قبولها أو ردها على حسب موافقتها لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فما وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم قبل، وما خالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائنًا من كان، وفي ذلك يقول:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".

وإن المعرض عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والمخالف لها معرض للعقوبة في الدنيا والآخرة، وذلك بحسب ما يقع منه من إعراض.

فعن سلمة بن الأكوع

(1)

رضي الله عنه أن رجلًا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال:"كل بيمينك"، قال: لا استطيع، قال:"لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه"

(2)

، فهذه عقوبة دنيوية لهذا الشخص الذي عصى أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "النجم" فسجد، فما بقي أحد إلا سجد، إلا رجل رأيته أخذ كفًا من حصى فرفعه فسجد عليه وقال: هذا يكفيني، فلقد رأيته بعد قتل كافرًا بالله"

(3)

، وهذا الرجل

(1)

سلمة بن عمرو بن الأكوع: صحابي جليل أول مشاهده الحديبية، وكان من الشجعان ويسبق الفرس عدوًا، مات بالمدينة سنة أربع وسبعين على الصحيح. الإصابة (2/ 65).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (6/ 109).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة. انظر: فتح الباري (7/ 165). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة (2/ 88).

ص: 263

هو أمية بن خلف

(1)

وقد قتل ببدر كافرًا.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم"

(2)

.

والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري"، وعنه رضي الله عنه قال:"أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم"

(3)

. فهذا بعض ما ورد في السنة في العقوبات الدنيوية.

أما على صعيد العقوبات الأخروية فالأمر أشد وأعظم، فالآخرة هي دار الجزاء والثواب والعقاب.

(1)

فتح الباري (8/ 614).

(2)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 50/ 92) وقد جود إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: اقتضاء الصراط المستقيم (ص 39)، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 23).

(3)

أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الفتن، باب العقوبات (2/ 1332، 1333)(ح 4019).

ص: 264

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا. فقالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟، قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم

(1)

على الحوض، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟، فقال: أرأيت لو أن رجلًا له خيل غر

(2)

محجلة

(3)

بين ظهري خيل دهم بهم

(4)

خيله؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غرًا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك فأقول: سحقًا سحقًا"

(5)

.

فتلك عقوبة من حاد عن شرع المصطفى صلى الله عليه وسلم ومال عنه واستبدل به غيره وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا

(6)

.

قال النووي: "أي: المتعمِّقون القالون المجاوزون الحدود في

(1)

فرطهم؛ أي: متقدمهم إليه. يقال: فرط يفرط، فهو فارط وفرط: إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء، ويهيئ لهم الدلاء والأرشية، النهاية (3/ 434).

(2)

الغر: جمع الأغر، من الغرة بياض الوجه، يريد بياض وجوههم بنور الوضوء يوم القيامة. النهاية (3/ 354).

(3)

الحجل في صفة الخيل: هو الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد، ويجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين. النهاية (1/ 346).

(4)

دُهُم؛ أي: سود. النهاية (2/ 145، 146)، بهم: جمع بهيم وهو الذي لا يخالط لونه لون سواء. النهاية (1/ 167).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء (1/ 150، 151).

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون (8/ 59).

ص: 265

أقوالهم وأفعالهم"

(1)

، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بهلاك كل من بالغ في التعمق في أمور الشرع وغلا فيها، وتكلف في أمور لم ترد عن الشارع الكريم ولم تكن من مقصودة.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ".

والشواهد من القرآن والسنة وكلام السلف الصالح في هذا الشأن كثيرة ولا تكاد تحصى.

والقصد هنا بيان أن التولي عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور الشرع من أكبر الذنوب، وهو سبب لانصباب المصائب وتتابع النوائب، فإن الجزاء من جنس العمل ومن تولى عن حكم الله وحكم رسوله تولى الله ورسوله عنه، ومن تولى الله ورسوله عنه فهيهات أن يفلح ويعز بل يتركه الله أذل وأحقر ما يكون، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)} [المجادلة].

وليحذر المسلم من مخالفة الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، فإن في المخالفة عين الهلاك والخسران كما قال تعالى في سورة طه:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)} .

* * *

(1)

شرح النووي لصحيح مسلم (16/ 220).

ص: 266