الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قناديل العلم
سلسلة قناديل الدراسات القرآنية
استنباطات الشيخ عبد الرحمن السعدي من القرآن الكريم عرض ودراسة
د. سيف بن منصر بن علي الحارثي
بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه في القرآن الكريم وعلومه
كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية - الرياض
قناديل العلم
جميع الحقوق محفوظة
دار قناديل العلم للنشر والتوزيع
info@qanadeelalem.com
الطبعة الأولى 1437 هـ - 2016 م
استنباطات الشيخ عبد الرحمن السعدي من القرآن الكريم عرض ودراسة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع أثره إلى يوم الدين.
أما بعد
فإن الله عز وجل أنزل القرآن العظيم المجيد نوراً مبيناً، وذكراً حكيماً، وهدى وبشرى للمسلمين، وذكرى ورحمة للمؤمنين، وهدى وموعظة للمتقين، وبرهاناً وشفاء لما في الصدور ومباركاً، أنزله الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
ولما كان القرآن بهذه المنزلة العالية الرفيعة، والمكانة المرموقة، اشتغل به علماء الإسلام قديماً وحديثاً تلاوة، وحفظاً، وفهماً، وتدبراً، وعملاً بما فيه، وأولوا تفسيره اهتماماً بالغاً، وهذا كله من حفظ الله لهذا الكتاب الذي تكفل الله بحفظه.
وكان من أبرز جوانب اهتمام العلماء بالقرآن الكريم محاولة استنباط الأحكام الشرعية، والهدايات القرآنية، والمعاني التربوية والسلوكية ونحو
ذلك مما يأتي بعد تفسير اللفظ القرآني ومعرفة حقيقة معناه؛ لأن ذلك يفتح باباً عظيماً من أبواب الانتفاع بالقرآن الكريم وتدبره ومعرفة عظمته؛ إذ يحتوي على كل ما تحتاجه البشرية في حياتها، وممن كان له القدح المعلى في ذلك العلامة عبدا لرحمن السعدي رحمه الله وبعد قراءة كتبه في التفسير وعلوم القرآن تبين لي تميزه في هذا الجانب؛ فعقدت العزم متوكلاً على الله بعد الاستشارة على اختيار موضوع:
((استنباطات الشيخ عبد الرحمن السعدي من القرآن الكريم عرض ودراسة)).
وكان لاختياري هذا الموضوع أسباباً منها:
أولاً: قيمة هذا الموضوع العلمية؛ إذ هو متعلق بفهم الآية القرآنية فهماً صحيحاً ثم استنباط ما يمكن استنباطه من الآية وهذا فيه مزيد عناية وتدبر لكلام الله عز وجل.
ثانياً: إعطاء الدارس لهذا الموضوع فرصة الإطلاع على طرق العلماء في الاستنباط من القرآن ودراستها مما يساهم في بناء شخصية الباحث في هذا الجانب المهم المتعلق بالقرآن.
ثالثاً: مكانة الشيخ السعدي التفسيرية وتميزه في جانب الاستنباط بل كثرة اعتنائه بالاستنباط من القرآن حيث قال عن ذلك في تفسيره: (. . . وأن لا يكون المتدبر مقتصراً على مجرد معنى اللفظ. . . فإذا فهمه فهماً صحيحاً على وجهه، نظر بعقله إلى ذلك الأمر والطرق الموصلة إليه وما لا يتم إلا به وما يتوقف عليه. . . . وقد كان في تفسيرنا هذا كثير من هذا منّ الله به علينا. . .) تفسير السعدي ص (733).
رابعاً: ثناء العلماء على جانب الاستنباط في تفسير الشيخ السعدي، قال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله: (ومنها دقة الاستنباط فيما تدل عليه الآيات من الفوائد والأحكام والحكم وهذا يظهر جلياً في بعض الآيات كآية الوضوء في سورة المائدة حيث استنبط منها خمسين حكماً وكما في
قصة داود وسليمان في سورة ص). تفسير السعدي (ص 11)، وقال الشيخ عبدالله بن عقيل:(وقد اهتم بترسيخ العقيدة السلفية، والتوجه إلى الله، واستنباط الأحكام الشرعية، والقواعد الأصولية، والفوائد الفقهية إلى غير ذلك من الفوائد الأخرى التي لا توجد في غير تفسيره) تفسير السعدي (ص 9)
خامساً: أن في هذه الاستنباطات القرآنية تأصيلاً قرآني لبعض القضايا سواء الفقهية أو العقدية أو التربوية والسلوكية والتي قد يخفى تأصيلها قرآنياً.
سادساً: أن في هذه الدراسة إضافة لبيان جهود الحنابلة رحمهم الله في جانب مهم ودقيق من جوانب التفسير وهو الاستنباط من القرآن ولكن وفق الطرق الصحيحة للاستنباط.
وأما حدود البحث:
فالاستنباطات المراد دراستها هنا هي التي لا يدل عليها النص مباشرة وإنما تؤخذ من إحدى دلالات النص كدلالة الالتزام أو التضمن أو المفهوم ونحو ذلك، وبهذا لا يدخل في هذا البحث ما دل عليه النص دلالة ظاهرة مما لا يحتاج إلى استنباط.
وقد قمت بتتبع استنباطات العلامة السعدي رحمه الله من القرآن الكريم فبلغت (450) أربعمائة وخمسين استنباطاً تقريباً مابين استنباطات عقدية وأخرى فقهية وغيرها لغوية وكذلك مناسبات بين الآيات أو مناسبات ألفاظ لآيات وكذلك استنباط قواعد أصولية وفقهية، واستنباطات تربوية وسلوكية وغيرها في السياسة الشرعية ونحو ذلك.
وكانت خُطة البحث كالتالي:
يتكون البحث من مقدمة، وقسمين، وخاتمة، وفهارس، وذلك على النحو التالي:
المقدمة: وفيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره، وحدود البحث، وخطة البحث، ومنهج الكتابة فيه.
تمهيد: - تعريف الاستنباط لغة واصطلاحاً.
- وكذلك بيان أهميته، وكيفية الوصول إليه.
القسم الأول: الشيخ عبد الرحمن السعدي، ومنهجه في الاستنباط، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: ترجمة موجزة للشيخ عبدا لرحمن السعدي، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حياته الشخصية، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: اسمه، ونسبه، وكنيته، وأسرته.
المطلب الثاني: مولده، ونشأته، ورحلاته العلمية.
المطلب الثالث: مذهبه العقدي.
المطلب الرابع: مذهبه الفقهي.
المبحث الثاني: حياته العلمية، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أشهر شيوخه وتلاميذه.
المطلب الثاني: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه.
المطلب الثالث: آثاره العلمية.
المطلب الرابع: وفاته.
الفصل الثاني: صيغ الاستنباط، وطريقة عرضها عند الشيخ السعدي، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: صيغ الاستنباط.
المبحث الثاني: طريقة عرض الاستنباط.
الفصل الثالث: موضوعات الاستنباط من القرآن عند الشيخ السعدي، وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: استنباطات في علوم القرآن.
المبحث الثاني: استنباطات عقدية.
المبحث الثالث: استنباطات فقهية.
المبحث الرابع: استنباطات أصولية.
المبحث الخامس: استنباطات لغوية.
المبحث السادس: استنباطات إعجازية.
المبحث السابع: استنباطات تربوية وسلوكية.
المبحث الثامن: استنباطات السياسة الشرعية.
الفصل الرابع: منهج الشيخ السعدي في طرق الاستنباط من القرآن، وفيه أحد عشر مبحثاً:
المبحث الأول: الاستنباط بدلالة الالتزام.
المبحث الثاني: الاستنباط بدلالة المفهوم (مفهوم المخالفة).
المبحث الثالث: الاستنباط بدلالة النص (مفهوم الموافقة).
المبحث الرابع: الاستنباط بدلالة الاقتران.
المبحث الخامس: الاستنباط بدلالة التضمن.
المبحث السادس: الاستنباط بالقياس.
المبحث السابع: الاستنباط بدلالة المطرد من أساليب القرآن.
المبحث الثامن: الاستنباط من نص ظاهر المعنى.
المبحث التاسع: الاستنباط من نص خفي المعنى.
المبحث العاشر: الاستنباط من نص واحد.
المبحث الحادي عشر: الاستنباط بالربط بين نصين أو أكثر.
الفصل الخامس: تأثر الشيخ السعدي باستنباطات المفسرين، وموقفه منها، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تأثره باستنباطات المفسرين.
المبحث الثاني: موقفه من استنباطات المفسرين.
المبحث الثالث: مميزات استنباطاته.
القسم الثاني: دراسة استنباطات الشيخ السعدي من القرآن الكريم من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس.
الخاتمة: وفيها بيان لأهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.
الفهارس الفنية للبحث، وهي:
1 -
فهرس الآيات القرآنية.
2 -
فهرس القراءات.
3 -
فهرس الأحاديث، والآثار.
4 -
فهرس الأعلام المترجم لهم.
5 -
فهرس الفرق والقبائل.
6 -
فهرس البلدان والأماكن.
7 -
فهرس المصادر والمراجع.
8 -
فهرس الموضوعات.
وأما بالنسبة لمنهجي في البحث، فقد سلكت المنهج الاستقرائي التحليلي، وذلك كالتالي:
1 -
قمت بجمع المادة العلمية في الاستنباطات من مؤلفات السعدي، ثم رتبتها على حسب ترتيب السور والآيات، وفيما يتعلق بالاستنباطات من القصص القرآني رتبته حسب الآيات دون النظر إلى ترتيب السعدي، وعندما يذكر الاستنباط بالأرقام فإني أحذف الأرقام مكتفياً بقوله"منها"أو"فيها".
2 -
كتبت من الآية ما يتعلق بالاستنباط فقط - قبل ذكر استنباط السعدي - مع عزوها إلى سورتها ورقم الآية.
3 -
التزمت بنص كلام السعدي في الاستنباط دون غيره من الاستطرادات مع التعليق علي ما يحتاج إلى إيضاح في الحاشية.
4 -
رقمت الاستنباطات برقم تسلسلي عام يبدأ من أول الرسالة حتى
نهايتها، وإذا تكرر الاستنباط فإني اكتفي بذكره عند الآية الأولى وأشير إلى مواضع الباقي فقط، وأما إذا ذكر في الآية أكثر من استنباط فدرست كل استنباط على حده وبرقم خاص.
5 -
بعد كتابة استنباط الشيخ السعدي تأتي دراسة الاستنباط مباشرة تحت عنوان ((الدراسة)).
6 -
وكانت دراستي لاستنباطات الشيخ السعدي من خلال:
أ - بيان وجه الاستنباط.
ب- تحليل الاستنباط ببيان حجية استنباطه ونوع دلالة الآية عليه.
ج- عندما يكون في الاستنباط خلاف فإني أذكر من وافق أو خالف في الاستنباط مع بيان البراهين ثم تحديد المختار مع دليله تحت ما يسمى بالنتيجة.
7 -
قمت بتوثيق القراءات، المتواتر منها والشاذ، وعزوها إلى مصادرها الأصلية.
8 -
قمت بتخريج الأحاديث وعزوها إلى مصادرها، وما أخرجه الشيخان أو أحدهما فإني أعزوه إليهما، أو إلى أحدهما وأكتفي بذلك، وما لم يخرجه الشيخان أو أحدهما فإني أنقل كلام أهل العلم عليه بالقبول أو الرد إن وُجِد.
9 -
قمت بتخريج الآثار وعزوها إلى مصادرها.
10 -
قمت بإحالة كلام أهل العلم إلى موضعه في كتبهم إن كانت موجودة أو إلى أوثق المصادر المعتمدة في ذلك.
11 -
شرحت الألفاظ الغريبة وبينت معانيها من مصادرها المعتمدة.
12 -
قمت بالتعريف بالأعلام غير المشهورين دون غيرهم، وكذلك التعريف بالفرق والأماكن والبلدان في أول موطن ترد فيه.
13 -
عزوت إلى المصادر، مع عدم ذكر اسم المؤلِّف إلا إذا كان اسم الكتاب مُشترَكاً بين أكثر من واحد.
14 -
أغفلت ذكر المعلومات التفصيلية عن المصادر أثناء البحث اكتفاء بذكرها في فهارس المصادر والمراجع.
15 -
رتبت المصادر أثناء البحث حسب وفاة مؤلفيها.
16 -
ذيلت البحث بفهارس عدة منها: فهرس الآيات القرآنية، وفهرس القراءات، وفهرس الأحاديث النبوية والآثار، وفهرس الأعلام المترجم لهم، وفهرس الفرق والقبائل، وفهرس البلدان والأماكن، وفهرس المصادر والمراجع، وفهرس الموضوعات.
وفي ختام هذه المقدمة أتوجه بالشكر إلى الله سبحانه وتعالى على ما منَّ به علينا من توفيق وسداد، وتيسير، ثم أتقدم بالشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ممثلة في كلية أصول الدين بالرياض "قسم القرآن وعلومه" على إتاحة هذه الفرصة المباركة.
كما أتقدم بالشكر والتقدير لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور /أحمد سعد محمد محمد الخطيب - وفقه الله - لما أسداه إليَّ من معروف باطلاعه على هذا البحث، ثم تتويج هذا الاطلاع برأي سديد، وتوجيه مفيد، فقد وجدت فيه المشرف المحقق، المدقق، الناصح، قراءة دقيقة، وأمانة عميقة، وخلق حسن، وجودة إقناع، وعناية فائقة بكل ما يثري البحث ويفيد الباحث، فله مني الشكر والدعاء، وله من الله الأجر والثواب.
كما أتقدم بالشكر إلى وزارة الشؤون الإسلامية ممثلة في معالي الوزير / صالح بن
عبد العزيز آل الشيخ، وفضيلة الشيخ / صالح بن إبراهيم الدسيماني، مدير عام فرع الوزارة بنجران، على ما أولوني من اهتمام بالموافقة على مواصلة الدراسات العليا وتسهيل كثير من الأمور في ذلك.
كما أتقدم بالشكر لمركز الشيخ ابن سعدي للدراسات والبحوث التابع للجمعية الخيرية الصالحية بعنيزة، على تعاونهم معي وتزويدي بموسوعة مؤلفات السعدي الإلكترونية.
كما أشكر كل من أعانني برأي أو نصح أو إعارة أو غير ذلك، وهم
كُثر ولولا خشية الإملال لسطرت أسماءهم وفاء لهم، ولكن لهم مني الدعاء بالتوفيق والسداد.
وأخيراً هذا جهد المُقِل، ولا أدعي أني أعطيت البحث حقه، ولكني بذلت ما بوسعي في حدود علمي وفهمي، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله وأتوب إليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الباحث
سيف بن منصر بن علي الحارثي
التمهيد
تمهيد:
-
تعريف الاستنباط لغة واصطلاحاً
.
الاستنباط لغة: من النبط، والنَّبَط الماء الذي يَنْبُطُ من قعر البئر إِذا حُفرت وقد نبَطَ ماؤها ينْبِطُ ويَنْبُطُ نَبْطاً ونُبوطاً، وأَنبطنا الماءَ أَي استنبطناه وانتهينا إِليه، وكل ما أُظهر فقد أُنْبِط واسْتَنْبَطه، واستنبط منه علماً وخبراً ومالاً استخرجه، والاسْتنْباطُ الاستخراج واستنبَطَ الفَقِيهُ إِذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمِه قال الله عز وجل:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. قال الزجّاج معنى يستنبطونه في اللغة يستخرجونه وأَصله من النبَط وهو الماء الذي يخرج من البئر أَوّل ما تحفر
(1)
.
اصطلاحاً: استخراج ما خفي المراد به، من اللفظ
(2)
.
وعليه فالاستنباط من القرآن هو: استخراج المعاني، والأحكام، والحكم، والمناسبات، الخفية، من القرآن الكريم، بطريق صحيح
(3)
.
ولم يتعرض السعدي لتعريف الاستنباط تعريفاً دقيقاً كفعل أهل التعريفات، ولكن من خلال كلام السعدي عن التدبر، وكيفية فهم معاني
(1)
انظر: لسان العرب/نبط (14/ 176).
(2)
هذا التعريف نسبه النووي إلى العلماء، انظر: تهذيب الأسماء واللغات (786).
(3)
انظر: الاستنباط من النص شروطه وضوابطه د. محمد ميغا (149)، ومنهج الاستنباط من القرآن للوهبي (45).
القرآن، وأن من هذه المعاني ما يكون بعد معنى اللفظ، ويظهر بطريقة اللازم، ظهر من ذلك إشارة من السعدي لمعنى الاستنباط، فقال السعدي في تقرير ذلك: (التنبيه اللطيف على كيفية تدبر كتابه، وأن لا يكون المتدبر مقتصرًا على مجرد معنى اللفظ بمفرده، بل ينبغي له أن يتدبر معنى اللفظ، فإذا فهمه فهمًا صحيحًا على وجهه، نظر بعقله إلى ذلك الأمر والطرق الموصلة إليه وما لا يتم إلا به وما يتوقف عليه، وجزم بأن الله أراده، كما يجزم أنه أراد المعنى الخاص، الدال عليه اللفظ، والذي يوجب له الجزم بأن الله أراده أمران:
أحدهما: معرفته وجزمه بأنه من توابع المعنى والمتوقف عليه.
والثاني: علمه بأن الله بكل شيء عليم، وأن الله أمر عباده بالتدبر والتفكر في كتابه.
وقد علم تعالى ما يلزم من تلك المعاني. وهو المخبر بأن كتابه هدى ونور وتبيان لكل شيء، وأنه أفصح الكلام وأجله إيضاحًا)
(1)
.
-
بيان أهمية الاستنباط، وكيفية الوصول إليه
.
إن أفضل درجات العلم للعباد طريق الاستنباط، ألا ترى أن من يكون مستنبطاً من الأمة فهو على درجة ممن يكون حافظاً غير مستنبط
(2)
، وقد مدح الله أهل الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم
(3)
، وتبرز أهمية الاستنباط وآكديته عندما نعلم أن بعض الأحكام الشرعية طريق معرفتها هو الاستنباط، قال النووي: (وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة، بأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة، فإذا أهمل الاستنباط، فات القضاء في
(1)
انظر: تفسير السعدي (732).
(2)
انظر: أصول السرخسي (2/ 94).
(3)
انظر: أعلام الموقعين (1/ 214).
معظم الأحكام النازلة أو في بعضها)
(1)
، وقال الجصاص:(فثبت بذلك أن من أحكام الله ما هو منصوص عليه، ومنها ما هو مودع في النص قد كُلفنا الوصول إلى علمه بالاستدلال عليه واستنباطه، فعلى العلماء استنباط أحكام الحوادث والتوصل إلى معرفتها بردها إلى نظائرها من المنصوص)
(2)
.
وقد أشار السعدي إلى أهمية الاستنباط، بأنه سبب لتحصيل العلم العظيم، فقال:(بل ينبغي له أن يتدبر معنى اللفظ، فإذا فهمه فهمًا صحيحًا على وجهه، نظر بعقله إلى ذلك الأمر والطرق الموصلة إليه وما لا يتم إلا به وما يتوقف عليه، وجزم بأن الله أراده، كما يجزم أنه أراد المعنى الخاص، الدال عليه اللفظ فبذلك يحصل للعبد من العلم العظيم والخير الكثير، بحسب ما وفقه الله له، وقد كان في تفسيرنا هذا، كثير من هذا منّ به الله علينا)
(3)
، وقال في موضع آخر:(وأكثر من هذا التفكير وداوم عليه، حتى تصير لك ملكة جيدة في الغوص على المعاني الدقيقة. فإن القرآن حق، ولازم الحق حق، وما يتوقف على الحق حق، وما يتفرع عن الحق حق، ذلك كله حق ولابد، فمن وفق لهذه الطريقة وأعطاه الله توفيقاً ونوراً، انفتحت له في القرآن، العلوم النافعة، والمعارف الجليلة، والأخلاق السامية، والآداب الكريمة العالية)
(4)
.
كيفية الوصول إلى الاستنباط:
للوصول إلى الاستنباط خطوات، وشروط في المستنبط، وشروط في المعنى المستنبط، لا بد من مراعاتها للوصول إلى الاستنباط.
فالخطوة الأولى المهمة، والتي تعتبر أساساً للاستنباط هي معرفة معنى اللفظ، وفهمه فهماً صحيحاً؛ لأن عدم فهم النص يترتب عليه
(1)
انظر: شرح النووي لصحيح مسلم (11/ 49).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص بتصرف (2/ 270).
(3)
انظر: تفسير السعدي (732).
(4)
انظر: القواعد الحسان للسعدي (19).
استنباطاً خاطئاً، قال السعدي في ذلك:(بل ينبغي له أن يتدبر معنى اللفظ، فإذا فهمه فهمًا صحيحًا على وجهه، نظر بعقله إلى ذلك الأمر والطرق الموصلة إليه وما لا يتم إلا به وما يتوقف عليه، وجزم بأن الله أراده، كما يجزم أنه أراد المعنى الخاص، الدال عليه اللفظ)
(1)
، وقال كذلك:(والطريق إلى سلوك هذا الأصل النافع: أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني فإذا فهمتها فهماً جيداً، ففكر في الأمور التي تتوقف عليها، ولا تحصل بدونها، وما يشترط لها، وكذلك فكر فيما يترتب عليها، وما يتفرع عنها، وينبني عليها، وأكثر من هذا التفكير وداوم عليه، حتى تصير لك ملكة جيدة في الغوص على المعاني الدقيقة، فإن القرآن حق، ولازم الحق حق، وما يتوقف على الحق حق، وما يتفرع عن الحق حق، ذلك كله حق ولابد، فمن وفق لهذه الطريقة وأعطاه الله توفيقاً ونوراً، انفتحت له في القرآن العلوم النافعة، والمعارف الجليلة، والأخلاق السامية، والآداب الكريمة العالية)
(2)
.
أما المستنبط فلا بد أن تتوفر فيه بعض الشروط؛ إذ الاستنباط علم دقيق، خفي، يحتاج إلى شخص تتوفر فيه شروط ليس كغيره من أهل العلم، وقد أشار السعدي إلى بعض الشروط إجمالاً فقال:(كما أن المفسر للقرآن يراعي ما دلت عليه ألفاظه مطابقة، وما دخل في ضمنها، فعليه أن يراعي لوازم تلك المعاني، وما تستدعيه من المعاني التي لم يعرج في اللفظ على ذكرها، وهذه القاعدة: من أجل قواعد التفسير وأنفعها، وتستدعي قوة فكر، وحسن تدبر، وصحة قصد، فإن الذي أنزله للهدى والرحمة هو العالم بكل شيء، الذي أحاط علمه بما تكن الصدور، وبما تضمنه القرآن من المعاني، وما يتبعها وما يتقدمها، وتتوقف هي عليه)
(3)
، وقال كذلك: (لم يبق عليه إلا الإقبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكر في
(1)
انظر: تفسير السعدي (732).
(2)
انظر: القواعد الحسان للسعدي (19).
(3)
انظر: القواعد الحسان للسعدي (19).
ألفاظه ومعانيه ولوازمها، وما تتضمنه، وما تدل عليه منطوقاً ومفهوماً، فإذا بذل وسعه في ذلك فالرب أكرم من عبده، فلا بد أن يفتح عليه من علومه أموراً لا تدخل تحت كسبه)
(1)
، ومن الشروط المطلوبة في المستنبط كذلك
(2)
:
1 -
صحة الاعتقاد، والعدالة، والبعد عن الأهواء والتعصب.
2 -
الملكة الفطرية والمكتسبة للحفظ والفهم، وهي أن يكون عنده صفاء ذهن ونفاذ بصيرة، وحدة ذكاء، وقدرة فطرية على النظر والاستدلال.
3 -
العلم من اللغة العربية ما يحسن به الفهم.
4 -
العلم بأصول الفقه، خصوصاً ما يتعلق بالعام والخاص، والمطلق والمقيد، وأنواع الدلالات.
5 -
العلم بأصول التفسير.
6 -
العلم بالفقه ومذاهب العلماء في الأحكام الشرعية.
7 -
العلم بأصول الحديث، والقدرة على التمييز بين الصحيح والضعيف.
8 -
العلم بالنظائر وطرق الإلحاق.
9 -
العلم بالاصطلاحات والحدود عند كل أهل فن مما يحتاج إليه في الاستنباط.
10 -
العلم بمقاصد الشريعة من حيث الجملة والتفصيل.
11 -
العلم بالقواعد الشرعية الكلية.
(1)
انظر: تفسير السعدي (30).
(2)
انظر: الاستنباط من النص شروطه وضوابطه د. محمد ميغا (152 - 155)، ومنهج الاستنباط من القرآن للوهبي (199 - 240).
12 -
معرفة الطرق الصحيحة للاستنباط؛ إذ الجهل بالطرق الصحيحة يؤدي إلى الخطأ في الاستنباط.
وأما بالنسبة للمعنى المستنبط فلا بد من مراعاة بعض الشروط حتى يكون الاستنباط صحيحاً، وعليه فيشترط في المعنى المستنبط الشروط التالية
(1)
:
1 -
سلامة المعنى المستنبط من معارض شرعي راجح.
2 -
أن يكون بين المعنى المستنبط وبين اللفظ ارتباطاً صحيحاً.
3 -
أن يكون المعنى المستنبط مما للرأي فيه مجال.
4 -
عدم مخالفته لمقصد من مقاصد الشريعة.
(1)
انظر: الاستنباط من النص شروطه وضوابطه د. محمد ميغا (157)، ومنهج الاستنباط من القرآن للوهبي (243 - 276).
القسم الأول: الشيخ عبد الرحمن السعدي ومنهجه في الاستنباط
، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: ترجمة موجزة للشيخ عبد الرحمن بن سعدي
الفصل الثاني: صيغ الاستنباط وطريقة عرضها عند الشيخ السعدي
الفصل الثالث: موضوعات الاستنباط من القرآن عند الشيخ السعدي
الفصل الرابع: منهج الشيخ السعدي في طرق الاستنباط من القرآن
الفصل الخامس: تأثر الشيخ السعدي باستنباطات المفسرين وموقفه منها
الفصل الأول
ترجمة موجزة للشيخ عبدالرحمن بن سعدي
الفصل الأول: ترجمة موجزة للشيخ عبدا لرحمن السعدي، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حياته الشخصية، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: اسمه، ونسبه، وكنيته، وأسرته
.
هو: العلامة أبو عبدالله، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي الناصري التميمي الحنبلي
(1)
.
وأسرة آل سعدي ينتهون في نسبهم إلى آل مفيد، وآل مفيد فخذ كبير يرجع أصلهم إلى بطن آل حماد، الذين هم من بني العنبر من بني عمرو أحد قبائل بني تميم الشهيرة
(2)
.
ومساكن بني عمرو بن تميم في بلدة قفار، إحدى القرى المجاورة
(1)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 218)، ومشاهير علماء نجد (256)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220)، وترجمة السعدي لأحد تلاميذه في مقدمة كتابه الرياض الناضرة (365).
(2)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 218)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220).
لمدينة حائل، وقد قدمت أسرة آل سعدي من بلدة المستجدة، أحد البلدان المجاورة لمدينة حائل، إلى عنيزة حوالي عام 1120 هـ
(1)
.
وأما نسبه من جهة أمه فأخواله آل عثيمين، وهم من آل مقبل من آل زاخر من الوهبة، نزح جدهم سليمان العثيمين - جد الشيخ السعدي - من أشيقر إلى عنيزة فطاب له سكناها
(2)
.
أسرته:
أبوه: ناصر بن عبدالله بن ناصر بن حمد آل سعدي، ولد سنة 1243 هـ في عنيزة، ونشأ صالحاً عابداً حافظاً للقرآن، كان قارئ الوعظ في الجامع الكبير في عنيزة، وفي آخر حياته تولى إمامة مسجد المسوكف في عنيزة حتى توفي آخر عام 1313 هـ
(3)
.
وأمه: من آل عثيمين، وهم من أهل أشيقر، ولكن نزحوا إلى عنيزة واستقر بهم المقام هناك
(4)
.
وإخوته: كان للشيخ السعدي أخوان هما:
حمد: وهو أكبر إخوانه، وهو الوصي على أخيه عبدالرحمن، وقام برعاية الشيخ عبدالرحمن خير قيام، وكان حمد رجلاً صالحاً، ومن حملة القرآن، وكان يعمل بالتجارة، توفي عام 1388 هـ.
سليمان: وهو أصغر إخوة الشيخ عبدالرحمن، اشتغل بالتجارة في
(1)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 218)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220).
(2)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 219)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220).
(3)
انظر: روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220).
(4)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 219)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220).
مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية، وتوفي عام 1375 هـ
(1)
.
أبناء الشيخ عبدالرحمن:
خلف الشيخ السعدي ثلاثة أبناء، هم: عبدالله، وهو أكبرهم سناً، وله يد في طلب العلم، وقد طبع بعض مؤلفات والده، توفى عام 1405 هـ، ومحمد، وأحمد، وهما يشتغلان بالتجارة بالرياض، والدمام
(2)
.
المطلب الثاني: مولده، ونشأته، ورحلاته العلمية
.
ولد الشيخ السعدي في الثاني عشر من محرم عام 1307 هـ في مدينة عنيزة بالقصيم
(3)
.
وتوفي والده وله من العمر سبع سنين، وتوفيت والدته وله من العمر أربع سنين، فأشفقت عليه زوجة والده أشد من شفقتها على أولادها، فصار عندها موضع العناية والرعاية
(4)
.
فلما شب صار في بيت أخيه الأكبر -حمد- فرعاه ورباه، فنشأ الشيخ السعدي نشأة صالحة كريمة، وعرف من حداثته بالصلاح والتقى،
(1)
انظر: روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220).
(2)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 251)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 261).
(3)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 219)، ومشاهير علماء نجد (256)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220).
(4)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 219)، ومشاهير علماء نجد (256)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220).
فكانت نشأته مثاراً للإعجاب وأنظار الناس، فأقبل على العلم بجد ونشاط وعزيمة، فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل أن يتجاوز الثانية عشرة من عمره في مدرسة المربي سليمان بن دامغ
(1)
.
واشتغل بالعلم على علماء بلده ومن يرد إليها من العلماء، وانقطع للعلم وجعل كل أوقاته مشغولة في تحصيله حفظاً وفهماً ودراسة ومراجعة واستذكاراً، حتى أدرك في صباه ما لا يدركه غيره في عمر طويل
(2)
.
ثم أقبل على كتب الشيخين ابن تيمية، وابن القيم، قراءة وفهماً، فكان لها أثراً في فتق ذهنه، وتوسعة مداركه، حتى خرج عن طور التقليد، إلى طور الاجتهاد، فصار يرجح من الأقوال ما يرجحه الدليل، ويصدقه التعليل
(3)
.
فنشأ السعدي يتيماً، واليتم يصنع في الرجال الطموح والتحدي، والقفز على الصعاب، وكان في بيت صالح من أب وأخ وأم وزوجة الأب، فكان لهؤلاء أثراً في نشأة السعدي، نشأة صالحة متوجهة إلى الخير ومعالي الأمور.
لم يذكر المترجمون للسعدي رحلات علميه له، وإنما كان أكثر مشايخه من علماء نجد، ومن أهل عنيزة تحديداً، وقد أشار إلى ذلك البسام بقوله:(ولو حصل له جولة في بلاد العالم، وجالس العلماء والمفكرين، واطلع على ما يقدمه العلم الحديث من صناعة واختراع واكتشاف لتفتحت أمامه آفاق واسعة)
(4)
، إلا أن السعدي رحمه حاول سد هذا الباب بالمكاتبة، فقال البسام في ذلك: (كاتب علماء الأمصار
(1)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 220)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 221).
(2)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 220).
(3)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 220)، وسيرة العلامة السعدي للفقي (10).
(4)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 220).
ومفكري الآفاق في جديد المسائل وعويصات الأمور، حتى صار لديه محاولة لتطبيق بعض النصوص الكريمة على بعض مخترعات ومكتشفات هذا العصر وحوادثه، مما يظهر أسرار الشريعة واتصالها بما يجدّ في العصر الحديث، وهذه بعض همته وعزيمته في اكتساب العلوم وتحصيلها)
(1)
.
ومما أفاد السعدي كذلك تتلمذه على بعض المشايخ الذين كانت لهم رحلات إلى خارج البلاد، فالشنقيطي جال البلاد، وعبدالله بن عائض درس بمكة ومصر، وعلي بن ناصر أبو وادي أخذ عن علماء الهند، وابن مانع درس بالعراق والشام وغيرها
(2)
.
المطلب الثالث: مذهبه العقدي
.
كان السعدي رحمه الله متمثلاً مذهب السلف في العقيدة، فكان محققاً لمذهب أهل السنة والجماعة في العقيدة، فدرس وألف كتباً في العقيدة منها المنظوم ومنها المنثور، ومنها ما هو شرح لبعض كتب العقيدة لبعض العلماء كابن تيمية أو محمد بن عبدالوهاب، ومن ضمن كتاباته في العقيدة ما هو رد على بعض المنحرفين في العقيدة كرده على القصيمي، فكانت تقريرات السعدي موافقة لمذهب الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة في كل المسائل المتعلقة بالعقيدة.
(1)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 221).
(2)
انظر: ندوة عن الشيخ السعدي/د. عبدالرحمن اللويحق (16).
المطلب الرابع: مذهبه الفقهي
.
كان في بداية حياته العلمية على المذهب الحنبلي، شأنه شأن أي عالم ينشأ في بيئة متمذهبة، فقد نشأ السعدي وتتلمذ على أيدي مشايخه، وكان جلهم حنابلة، فكانت هذه بدايته، فلما اشتد ساعده ونضج علمه، وكثر اطلاعه، أصبح يبحث عن الدليل، خالعاً من رقبته قيد التقليد، متأثراً باختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، فالسعدي:(ما أن تقدمت به الدراسة شوطاً حتى تفتحت أمامه آفاق العلم، فخرج عن المألوف في بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط، إلى الاطلاع على كتب التفسير والحديث والتوحيد، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم هي التي فتقت ذهنه ووسعت مداركه، فخرج من طور التقليد إلى طور الاجتهاد)
(1)
.
وعلى هذا يمكن القول بأن السعدي كان زمن الطلب متمذهباً بالمذهب الحنبلي، حيث لم تكن لديه القدرة العلمية ولا الجسارة النفسية لمخالفة مشايخه على ما اعتادوا عليه من التمسك بالمذهب، ولكن لما قوي علمه، ورسخ فهمه، أخذ يقول بقول ابن تيمية وابن القيم والتي كانت تخالف المذهب الحنبلي، وهذا لما تجاوز الشيخ سن الرابعة والأربعين أي عام 1352 هـ، حيث انتهى إليه التدريس والإفتاء
(2)
، ويوضح هذا ويؤيده مؤلفات الشيخ الفقهية التي كانت قبل هذا السن كانت على المذهب الحنبلي مثل منظومته في الفقه، أما المؤلفات التي بعد هذا السن فإنها مبنية على الدليل والترجيح مما قد يخالف المذهب الحنبلي، وذلك مثل: المختارات الجلية، والإرشاد إلى معرفة الأحكام، ومنهج السالكين
(3)
.
(1)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 220)، وسيرة العلامة السعدي للفقي (11).
(2)
انظر: وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 223).
(3)
انظر: الفكر التربوي عند السعدي، د. عبدالعزيز الرشودي (108).
المبحث الثاني: حياته العلمية، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أشهر شيوخه وتلاميذه
.
شيوخه:
تتلمذ السعدي على عدد من المشائخ في بلده في فنون مختلفه، كل حسب تخصصه، فمن مشائخه:
1 -
الشيخ محمد العبدالكريم الشبل.
2 -
الشيخ عبدالله بن عائض، وهما أول مشايخه.
3 -
الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر، في بريدة وعنيزة.
4 -
الشيخ صعب التويجري.
5 -
الشيخ علي بن محمد السناني.
6 -
الشيخ علي بن ناصر بن وادي.
7 -
الشيخ محمد الأمين محمود الشنقيطي، في عنيزة.
8 -
الشيخ صالح بن عثمان آل قاضي، وهو أكثر مشائخه نفعاً وملازمة حتى مات عام إحدى وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة.
9 -
الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع.
10 -
الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى.
(1)
قرأ في علم الحديث والمصطلح والأصول والفروع والتفسير على كل من: الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر قاضي عنيزة، ومحمد الشبل، وصعب التويجري، وصالح القاضي، وقرأ أصول الدين على كل من الشيخ علي السناني، وصالح القاضي، وإبراهيم بن عيسى، وقرأ علوم العربية على صالح القاضي، ومحمد الشنقيطي، ومحمد المانع، وعبدالله بن عائض، وأجازه في الحديث إبراهيم بن صالح، وعلي بن ناصر أبو وادي
(2)
.
تلاميذه:
منذ أن كان السعدي طالباً، كان حينها شيخاً، فلما رأى زملاؤه في الدراسة تفوقه عليهم ونبوغه تتلمذوا عليه، وصاروا يأخذون عنه العلم، وهو في سن البلوغ، فصار في هذا الشباب المبكر متعلماً ومعلماً
(3)
، فتتلمذ على يديه عدد كبير من الطلاب الذين أصبح منهم علماء، وقضاة، وطلبة علم عم نفعهم، فمن هؤلاء التلاميذ:
1 -
سليمان بن إبراهيم البسام، درس في المعهد العلمي، وعين قاضياً فرفض.
(1)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 222)، ومشاهير علماء نجد (256)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 221).
(2)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 223)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 221).
(3)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 220).
2 -
محمد بن عبدالعزيز المطوع، تولى القضاء في المجمعة ثم في عنيزة.
3 -
عبدالله بن عبدالرحمن البسام، عضو هيئة التمييز بالمنطقة الغربية.
4 -
محمد بن منصور الزامل، درس بمعهد عنيزة العلمي.
5 -
علي بن محمد الزامل، مدرس في معهد عنيزة، وهو أنحى أهل نجد في زمنه.
6 -
محمد بن صالح العثيمين، وهو العلامة المعروف، درس في المعهد العلمي، وكان عضو هيئة كبار العلماء، وخلف السعدي على إمامة الجامع بعنيزة.
7 -
عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل، عضو الإفتاء، ورئيس الهيئة العلمية المستقلة بعد وفاة سماحة رئيس القضاة، وهو ما زال حياً.
8 -
عبدالله بن حسن آل بريكان، مدرس بالمعهد العلمي بعنيزة
(1)
، وغيرهم كثير، فقد عد البسام من أسماء تلاميذ السعدي مائة وخمسين طالباً
(2)
، وكان لتعليم السعدي أثراً على طلابه، حيث لم يقتصروا على مجرد كونهم طلاب علم فقط، بل كان لهم أثر بارز في المجتمع ونفعه، اقتداء بشيخهم، وبتتبع مسيرة تلاميذ السعدي العملية، نجد أن (20%) منهم تولوا الإمامة والتدريس بالمساجد، وأن (25%) منهم تولوا منصب القضاء والإفتاء، وأن (40%) تولوا التدريس بالمدارس الحكومية النظامية، وأن (15%) منهم قاموا بالتأليف والجمع والتصنيف
(3)
.
(1)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 236)، ومشاهير علماء نجد (257)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 222).
(2)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 236 - 244).
(3)
انظر: الفكر التربوي عند الشيخ السعدي، د. عبدالعزيز الرشودي (167).
المطلب الثاني: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
.
لقد كان للشيخ السعدي مكانة علمية مرموقة عند من عرفه، أوقرأ موروثه المتنوع، ولذا فقد أثنى عليه العلماء، قال عبدالله آل بسام:(وأثنى عليه العلماء بأنه العلامة المفسر، المحدث، الفقيه، الأصولي، النحوي)
(1)
، وقال القاضي-في بداية ترجمة السعدي-:(هو العالم الجليل، والفقيه الأصولي، والمحدث الشهير، المحقق المدقق)
(2)
، وقال عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ- في بداية ترجمة السعدي-:(هو العلامة الورع الزاهد تذكرة السلف)
(3)
.
وقال الشيخ ابن باز في الثناء على السعدي: (وكان قليل الكلام، إلا فيما تترتب عليه فائدة، جالسته غير مرة في مكة والرياض، وكان كلامه قليلاً إلا في مسائل العلم، وكان متواضعاً، حسن الخلق، ومن قرأ كتبه عرف فضله وعلمه، وعنايته بالدليل)
(4)
وقال محمد حامد الفقي: (لقد عرفت الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي من أكثر من عشرين سنة، فعرفت فيه العالم السلفي المدقق المحقق الذي يبحث عن الدليل الصادق، وينقب عن البرهان الوثيق، فيمشي وراءه لا يلوي على شيء،. . . عرفت فيه العالم السلفي، الذي فهم الإسلام الفهم الصادق، وعرفت فيه دعوته القوية الصادقة إلى الأخذ بكل أسباب الحياة العزيزة القوية الكريمة النقية)
(5)
وقال الشيخ العثيمين: (. . إن الرجل قل أن يوجد مثله في عصره في
(1)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 222).
(2)
انظر: روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 220).
(3)
انظر: مشاهير علماء نجد (256).
(4)
انظر: صفحات من حياة علامة القصيم د. عبدالله الطيار (97).
(5)
انظر: سيرة العلامة السعدي للفقي (3).
عبادته وعلمه وأخلاقه. . وكان صبوراً على ما يلم به من أذى الناس)
(1)
المطلب الثالث: آثاره العلمية
.
اهتم السعدي بالتأليف اهتماماً موازياً لاهتمامه بنشر العلم عن طريق التعليم والتدريس، فجمع بين الطريقتين، والمتأمل لمؤلفات السعدي يجد أن فيها إبداعاً وتجديداً فليست مجرد كتب جامعة فقط، وإنما فيها إضافة ظهرت فيها شخصية السعدي العلمية، فالتفسير كتبه مهتماً فيه ببيان المعنى، مع الإشارة إلى مهمات الاستنباط من الآيات بل أحياناً إشارة إلى عويصات المسائل بطريقة سهلة مختصرة، حتى إنك لتعجب من تفسيره فهو مهوى أفئدة صغار طلاب العلم وكباره لما فيه من فوائد تلبي حاجة الطرفين، والفقه كتبه بطريقة جديدة ليست على طريقة المتون العويصة التي تحتاج إلى شروح وحل ألفاظ، وإنما كتبه بطريقة يستفيد منها القارئ دون حاجته إلى شروح أخرى، وكذا كتابته في الفقه على طريقة السؤال والجواب والحوار، وهي طريقة ممتعة ودقيقة كذلك.
كما أن كتابات السعدي متنوعة وليست خاصة بفن معين، وإنما فيها تعدد الفنون، فجاءت هذه المؤلفات متنوعة نافعة، وأكد السعدي في مؤلفاته الكلام عن القضايا المعاصرة المهمة فحيث يصلح التعليق عليها يوردها سواء في تفسيره للآيات أو شرحه للأحاديث، وقد يضطره الأمر لتأليف خاص ببعض القضايا لأهميتها، ومؤلفاته كالتالي
(2)
:
(1)
انظر: صفحات من حياة علامة القصيم د. عبدالله الطيار (98).
(2)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 225 - 227)، ومشاهير علماء نجد (258 - 260).
أولاً: مؤلفاته في التفسير، وعلوم القرآن:
1 -
تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان.
2 -
تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن.
3 -
القواعد الحسان لتفسير القرآن.
4 -
المواهب الربانية من الآيات القرآنية.
5 -
فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام.
6 -
فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبط من القرآن.
7 -
الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي.
ثانياً: مؤلفاته في الحديث:
1 -
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخبار في شرح جوامع الأخبار.
ثالثاً: مؤلفاته في العقيدة:
1 -
الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين.
2 -
انتصار الحق.
3 -
التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة.
4 -
تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه عليه القصيمي في أغلاله.
5 -
التوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية.
6 -
توضيح الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية.
7 -
التوضيح والبيان لشجرة الإيمان.
8 -
الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية.
9 -
الدرة الفاخرة في التعليق على منظومة السير إلى الله والدار الآخرة.
10 -
رسالة عن يأجوج ومأجوج.
11 -
سؤال وجواب في أهم المهمات، تعليم أصول الإيمان وبيان موانع الإيمان.
12 -
القول السديد شرح كتاب التوحيد.
13 -
طريق الوصول إلى علم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول.
رابعاً: مؤلفاته في الفقه، وأصوله، والقواعد الفقهية:
1 -
الإرشاد إلى معرفة الأحكام.
2 -
تحفة أهل الطلب بتجريد قواعد ابن رجب.
3 -
جهاد الأعداء ووجوب التعاون بين المسلمين.
4 -
حكم شرب الدخان.
5 -
رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة.
6 -
رسالة مختصرة في أحكام الحج والعمرة المهمة.
7 -
السياسة الشرعية.
8 -
القواعد الفقهية.
9 -
القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة.
10 -
المختارات الجلية من المسائل الفقهية.
11 -
المناظرات الفقهية.
12 -
منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين.
13 -
نور البصائر والألباب في أحكام العبادات والمعاملات والحقوق والآداب.
خامساً: مؤلفاته في الثقافة الإسلامية:
1 -
نصيحة مختصرة في الحث على التمسك بالدين والتحذير من المدارس الأجنبية.
2 -
الوسائل المفيدة للحياة السعيدة.
3 -
الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة.
4 -
الدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي.
5 -
الدين الصحيح يحل جميع المشاكل.
6 -
فوائد في آداب المعلمين والمتعلمين.
7 -
مجموع الفوائد واقتناص الأوابد.
سادساً: مؤلفاته في اللغة العربية:
1 -
التعليق وكشف النقاب على نظم قواعد الإعراب.
سابعاً: مؤلفاته في الفتاوى الخطب:
1 -
الخطب المنبرية على المناسبات العصرية.
2 -
الفواكه الشهية في الخطب المنبرية.
3 -
مجموع الخطب في المواضيع النافعة.
4 -
الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة.
5 -
الفتاوى السعدية.
المطلب الرابع: وفاته
.
أصيب بمرض ضغط الدم وتصلب الشرايين، فكان يعتريه المرة بعد الأخرى وهو صابر عليه مدة خمس سنوات، فزاد عليه وسافر إلى لبنان لعلاجه عام 1372 هـ، فنصحه الأطباء بالراحة وقلة التفكير والإجهاد، فعاد إلى بلاده ولم يصبر على ترك العلم فقام به تعليماً وتأليفاً وبحثاً، لأن هوايته العلمية تلح عليه في ذلك، فعاد إليه المرض أشد مما كان.
وفي ليلة الأربعاء بعد أن صلى الناس صلاة العشاء أصيب بإغماء لم يفق منه إلا فترة بسيطة، طمأن فيها الحاضرين من أهله، وهون عليهم أمر الدنيا، ثم عاد إلى إغمائه، فطلب له الأطباء من الرياض بالطائرة، ولرداءة الجو لم تتمكن من الهبوط في مطار عنيزة، وقرب طلوع الفجر من ليلة الخميس 23 جمادى الآخرة عام 1376 هـ انتقل إلى رحمة الله عن عمر يقارب (69) عاماً، قضاها في العلم تعلماً وتعليماً وإفتاء وتأليفاً، وصلي عليه بعد صلاة الظهر في الجامع الكبير بعنيزة، ودفن في مقرة الشهوانية شمالي عنيزة
(1)
.
(1)
انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 250)، ومشاهير علماء نجد (260)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 227).
الفصل الثاني
صيغ الاستنباط وطريقة عرضها عند الشيخ السعدي
الفصل الثاني: صيغ الاستنباط، وطريقة عرضها عند الشيخ السعدي، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: صيغ الاستنباط
.
استخدم السعدي رحمه الله بعض الصيغ التي من خلالها يعرف القارئ مواطن الاستنباط عند السعدي، وتختلف الصيغ من حيث الإكثار من استخدامها والإقلال من ذلك، ويمكن تقسيم الصيغ إلى قسمين:
القسم الأول: الصيغ التي استخدمها السعدي في الاستنباط من الآيات مباشرة، أي يكون الاستنباط واحداً فقط، فإليك الصيغ مرتبة حسب الأكثر استخداماً عند السعدي، وإذا كان الاستخدام متساوياً أشرت إلى التساوي في الملاحظات بذكر عدد الاستخدام، مع بيان بعض المواطن التي استخدمها فيها، وقد اكتفيت هنا ببيان بعض أرقام الاستنباطات فقط دون ذكرها لتبقى الصيغ أكثر بروزاً.
الصيغة
رقم الاستنباط
ملاحظات
دليل على، وفيها دلالة، فدل على، ويدل على، تدل على، دلت على.
9 - 10 - 57 - 63 - 100 - 212 - 222 - 226 - 325 - 397 - 429
دل مفهوم الآية، يدل مفهوم الآية، دل مفهومها.
21 - 79 - 112 - 164 - 369 - 448
الصيغة
رقم الاستنباط
ملاحظات
خصه، خصهما، وخص بالذكر، وخُص بالذكر، وخصها بالذكر.
6 - 20 - 42 - 218 - 335 - 371 - 441
استدللت بذلك على، ويستدل بقوله، استدل بهذه الآية.
148 - 239 - 291 - 298 - 373 - 412
ولما كان
36 - 104 - 205 - 332 - 418
وفيه، وفي هذا، ففيه.
15 - 18 - 111 - 176
كرر، كررها.
13 - 22 - 352 - 440
يستفاد من، واستفيد، وفي قوله فائدة.
43 - 51 - 203 - 329
ويؤخذ منها، ومأخوذ من الآية.
60 - 118 - 224 - 438
وتأمل.
109 - 201 - 339
لأن الله.
183 - 193 - 412
لازم ذلك، باللزوم، يستلزم.
40 - 153 - 430 -
إشارة إلى.
116 - 453
استخدمه أربع مرات.
ولعل الحكمة.
220 - 444
استخدمه أربع مرات.
تضمنت، وفي ضمن ذلك.
2 - 4 - 150
استخدمه ثلاث مرات.
فناسب، ومناسبة ذلك.
206 - 411
استخدمه ثلاث مرات.
إرشاد إلى.
108 - 255
ومقتضى ذلك.
420
استخدمه مرة واحدة.
تنيهات وإشارات دقيقة.
129
استخدمه مرة واحدة.
تنبيه على.
159
استخدمه مرة واحدة.
وفي هذا حجة.
235
استخدمه مرة واحدة.
هذا الاستنباط
434
استخدمه مرة واحدة.
القسم الثاني: الصيغ التي استخدمها السعدي في استنباطاته من الآيات الطويلة كآية الدين، أو استنباطاته من آيتين فأكثر، أو استنباطاته المتعلقة بالقصص القرآني، أو عندما يكون هناك في الآية أكثر من استنباط، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن هذه الصيغ استخدمها السعدي متوسعاً في الاستخدام، حيث إنها تدل على الاستنباطات الخفية، وأحياناً لا تدل على الاستنباطات الخفية بل يكون هناك من جملة الفوائد ما هو استنباط من ظاهر الآية، وهناك أحياناً ما ليس في عداد الاستنباط، كما أنه عند استخدامه لهذه الصيغ يستخدمها مرة واحدة في بداية سرده للاستنباطات، ثم يشير للباقي إما بقوله"ومنها"أو"وفيها" أو يكون قد استخدم الأرقام فيشير إليها مرقمة، وهذه الصيغ كالتالي:
الصيغة
رقم الاستنباط
ملاحظات
وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب.
68
وتضمنت هاتان الآيتان أموراً عظيمة.
76
فهذه الأحكام مما يستنبط من الآية الكريمة.
90
فيها فوائد كثيرة.
170
دلت هذه الآية على أمور.
173
هذه آية عظيمة اشتملت على أحكام كثيرة.
180
وفي هذه الآيات فوائد عديدة.
250
فلنذكر ما يستنبط من هذه القصة العظيمة من الفوائد.
265
وقد دلت هاتان الآيتان على عدة فوائد.
302
وفي هذه القصة العجيبة الجليلة من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير.
308
الصيغة
رقم الاستنباط
ملاحظات
وفي هاتين الآيتين فوائد.
342
ذكر الفوائد المستنبطة نصاً أو ظاهراً أو تعميماً أوتعليلاً.
354
وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة فوائد.
375
فصل في الفوائد المستنبطة من.
388
فصل في بعض ما تضمنته هذه القصة من الحكم والأحكام.
402
وفي هذه الآيات عدة أحكام.
421
وفي هذه الآيات فوائد عديدة.
431
المبحث الثاني: طريقة عرض الاستنباط
.
من خلال دراسة استنباطات السعدي يمكن توصيف طريقة عرضه للاستنباطات من خلال النقاط التالية:
أولاً: عندما يكون الاستنباط واحداً فقط، ومن الآية مباشرة، فإنه بعد تفسيره للآية، يذكر الاستنباط بعدها، وهذه الطريقة هي الأغلب في العرض.
ثانياً: عندما يكون في الآية عدة استنباطات، أو تكون الاستنباطات مستخرجة من عدة آيات، أومن القصص القرآني، فإنه يعمد إلى تفسير الآيات أولاً ثم بعد ذلك يعقد فصلاً، أويذكر الصيغة العامة لهذه الاستنباطات، ثم يعرضها بعد ذلك، وقد يستخدم الأرقام أحياناً والأغلب عدم استخدامها، وفي ذكره للاستنباطات من هذا النوع في الغالب ليست مرتبة أي حسب ما يكون في ذهنه ليست على ترتيب الآيات.
ثالثاً: إيراده الاستنباطات على طريقة السؤال والجواب
(1)
، واستخدامه لهذه الطريقة قليل.
رابعاً: يذكر صيغة الاستنباط صريحة وهو الأغلب، وأحياناً يذكر
(1)
انظر: الاستنباط رقم: 117 و 122 و 123 و 129 و 133.
الاستنباط مباشرة بدون صيغة وهذا قليل
(1)
.
خامساً: يبدأ بذكر الصيغة أولاً ثم الاستنباط بعد ذلك، وفي أحوال نادرة يذكر الصيغة بعد الاستنباطات
(2)
.
سادساً: يذكر في أحوال نادرة ما يؤيد الاستنباط من آيات أخرى أو أحاديث
(3)
.
سابعاً: في الغالب أنه لا يذكر نوع الدلالة التي استنبط بها، ولكنه يصرح بها أحياناً
(4)
، وقد يذكر أحياناً وجه الاستنباط من الآية
(5)
.
(1)
أمثلة لاستنباطات يذكرها مباشرة دون ذكر صيغة من الصيغ التي اعتاد ذكرها، انظر: الاستنباط رقم: 95 و 105 و 126 و 292 و 353.
(2)
انظر: الاستنباط رقم: 90.
(3)
انظر: الاستنباط رقم: 230 و 345 و 395 و 434.
(4)
انظر: الاستنباط رقم: 40 و 79 و 195 و 213 و 454.
(5)
انظر: الاستنباط رقم: 110 و 162 و 361 و 385 و 404 و 438.
الفصل الثالث
موضوعات الاستنباط من القرآن عند الشيخ السعدي
الفصل الثالث: موضوعات الاستنباط من القرآن عند الشيخ السعدي، وفيه ثمانية مباحث:
لقد كانت الاستنباطات عند السعدي متنوعة، وليست في فن واحد فقط، وقد أشار إلى ذلك السعدي في بعض الموطن فقال:(فوائد مستنبطة من هذه القصة أصولية وفروعية وأخلاق وآداب)
(1)
، وقال كذلك:(وفي هذه القصة العجيبة الجليلة من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير)
(2)
، وقال كذلك:(فصل فيما تضمنته هذه القصة من الحكم والأحكام)
(3)
، ولكنها مع هذا التنوع تختلف من حيث الإكثار منها، ومن خلال دراسة استنباطات السعدي، ظهر جلياً الموضوعات الأكثر استخداماً، فإليك هذه الموضوعات مرتبة حسب الأكثر استخداماً:
الاستنباطات الفقهية، ثم الاستنباطات في علوم القرآن، ثم الاستنباطات العقدية، ثم الاستنباطات التربوية والسلوكية، ثم الاستنباطات
(1)
انظر: تيسر اللطيف المنان للسعدي (178).
(2)
انظر: الاستنباط رقم (308).
(3)
انظر: الاستنباط رقم (402).
الإعجازية، ثم استنباطات السياسة الشرعية، ثم الاستنباطات الأصولية، ثم الاستنباطات اللغوية.
وهناك بعض الاستنباطات العامة التي لا تندرج تحت شيء من الأقسام الآنفة الذكر
(1)
، وهذا النوع كثير عند السعدي.
(1)
انظر: الاستنباط رقم: 25 و 83 و 103 و 150 و 224 و 248 و 253 و 321 و 390 و 401 و 430 و 453.
المبحث الأول: استنباطات في علوم القرآن
.
استنبط السعدي عدداً من الاستنباطات فيما يتعلق بعلوم القرآن، وكان الأبرز في هذه الاستنباطات والأكثر استنباط المناسبات، والأغلب فيها مناسبات الألفاظ، وذكر كذلك مناسبات بين الآيات ولكنها قليلة، ومن الأمثلة على ذلك:
وقول السعدي رحمه الله: (وكثيراً ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]. لأن خلقه للمخلوقات، أدل دليل على علمه، وحكمته، وقدرته.) ا. هـ
(1)
وقول السعدي-رحمه الله: (وهذه الإباحة والتوسعة، من رحمته تعالى بعباده، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} [البقرة: 182]) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. . . وخص بالذكر الحج لكثرة ما
(1)
انظر: تفسير السعدي (48)، الاستنباط رقم (11).
(2)
انظر: تفسير السعدي (82)، الاستنباط رقم (28).
يترتب عليه من الأوقات العامة والخاصة) ا. هـ
(1)
.
وقول السعدي رحمه الله: (ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا الاحتمال، أن بعض الجهال قد يدخله في بهيمة الأنعام، وأنه نوع من أنواع الغنم، كما قد يتوهمه جهلة النصارى وأشباههم، فينمونها كما ينمون المواشي، ويستحلونها، ولا يفرقون بينها وبين الأنعام، فهذا المحرم على هذه الأمة كله من باب التنزيه لهم والصيانة). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ولما كان قوله: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 12] قد يتوهم منه أيضاً، أن الكفار الداعين إلى كفرهم -ونحوهم ممن دعا إلى باطله- ليس عليهم إلا ذنبهم الذي ارتكبوه، دون الذنب الذي فعله غيرهم، ولو كانوا متسببين فيه، قال: مخبراً عن هذا الوهم {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} [العنكبوت: 13] أي: أثقال ذنوبهم التي عملوها {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وهي الذنوب التي بسببهم ومن جرائهم، فالذنب الذي فعله التابع لكل من التابع، والمتبوع حصته منه، هذا لأنه فعله وباشره، والمتبوع لأنه تسبب في فعله ودعا إليها). ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: ({الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]. أي: كل مخلوق خلقه الله، فإن الله أحسن خلقه، وخلقه خلقًا يليق به، ويوافقه، فهذا عام. ثم خص الآدمي لشرفه وفضله فقال: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 7]. وذلك بخلق آدم عليه السلام، أبي البشر). ا. هـ
(4)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية نكتة، وهي: أنه لما أخبر عن هؤلاء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كأنه قيل: هل
(1)
انظر: القواعد الحسان (108)، الاستنباط رقم (42).
(2)
انظر: تفسير السعدي (277)، الاستنباط رقم (220).
(3)
انظر: تفسير السعدي (627)، الاستنباط رقم (368).
(4)
انظر: تفسير السعدي (654)، الاستنباط رقم (371).
من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي الألباب، وحتى نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي الألباب؟
قيل: نعم، أحسنه ما نص الله عليه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] الآية) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ولما كان الاشتغال بالتجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله وطاعته أمر الله بالإكثار من ذكره، فقال {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10]). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [التغابن: 14] لأن الجزاء من جنس العمل). ا. هـ
(3)
ومما اعتنى به السعدي في استنباطاته في علوم القرآن استنباط معاني التكرار، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (ولما كان النسخ للتخيير بين الصيام والفداء خاصة، أعاد الرخصة للمريض والمسافر
(4)
، لئلا يتوهم أن الرخصة أيضاً منسوخة) ا. هـ
(5)
وقول السعدي رحمه الله (. . . كرر الإهباط، ليرتب عليه ما ذكر
(1)
انظر: تفسير السعدي (719)، الاستنباط رقم (392).
(2)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (87)، الاستنباط رقم (432).
(3)
انظر: تفسير السعدي (868)، الاستنباط رقم (436)، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 3 و 94 و 117 و 160 و 236 و 242 و 292 و 320 و 328 و 330 و 418 و 439 و 447.
(4)
أراد بذلك إعادة قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، في الآيتين 184 و 185 من سورة البقرة.
(5)
انظر: تفسير السعدي (86) الاستنباط رقم (36).
وهو قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَى} [البقرة: 38]) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)} (البقرة: 141) وكررها، لقطع التعلق بالمخلوقين، وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب المجرد للرجال)
(2)
.
ومن علوم القرآن التي اعتنى السعدي باستنباطها ما يتعلق بالنسخ، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (ثم أخبر عيسى عليه السلام أن شريعة الإنجيل شريعة فيها سهولة ويسرة فقال {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]. فدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها الإنجيل بل كان متمماً لها ومقرراً) ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز، فكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام الإنصاف في المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الأطعمة محللة لبني إسرائيل {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ} [آل عمران: 93]) ا. هـ
(4)
وقول السعدي رحمه الله: (أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور
(1)
انظر: تفسير السعدي (50) الاستنباط رقم (13).
(2)
انظر: تفسير السعدي (70) الاستنباط رقم (22)، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 95 و 201 و 414 و 452.
(3)
انظر: تفسير السعدي (132) الاستنباط رقم: 99.
(4)
انظر: تفسير السعدي (138) الاستنباط رقم: 105.
عنها، وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تفسير السعدي (170)، والمواهب الربانية (13 - 14) الاستنباط رقم:139.
(2)
انظر: تفسير السعدي (192) الاستنباط رقم: 154، وانظر كذلك الاستنباط رقم:140.
المبحث الثاني: استنباطات عقدية
.
استنبط السعدي عدداً من المسائل العقدية، ويمكن تقسيم استنباطاته لهذه المسائل إلى قسمين:
القسم الأول: استنباطات فيها تقرير مباشر لمسائل العقيدة، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (وتضمنت إثبات مذهب أهل السنة والجماعة في القدر، وأن جميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وأن العبد فاعل حقيقة، ليس مجبورا على أفعاله، وهذا يفهم من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فلولا أن مشيئة العبد مضطر فيها إلى إعانة ربه وتوفيقه لم يسأل الاستعانة). ا. هـ
(1)
.
وقول السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {أَخِيهِ} [البقرة: 178]. دليل على أن القاتل لا يكفر، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان، فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر، لا يكفر بها فاعلها، وإنما ينقص بذلك إيمانه) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تيسير اللطيف المنان لابن سعدي (12) الاستنباط رقم: 2.
(2)
انظر: تفسير السعدي (84) و (801) الاستنباط رقم: 34.
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أنه لا بأس بالاستعانة بالمخلوق في الأمور العادية التي يقدر عليها بفعله أو قوله وإخباره كما قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]). ا. هـ
(1)
القسم الثاني: استنباطات فيها تقرير لمسائل عقدية على مذهب أهل السنة والجماعة والرد على المخالفين لهم، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لأنه تعالى هو المتكلم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها، وبطلان مذهب المعتزلة ومن أخذ بقولهم: أن القرآن مخلوق). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: ({لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]. لعظمته، وجلاله وكماله، أي: لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم، فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم. فإنه إذا نفى الإدراك، الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة، فإنه لو أراد نفي الرؤية، لقال "لا تراه الأبصار" ونحو ذلك، فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (410)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (124)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (281) الاستنباط رقم: 275 وانظر كذلك الاستنباط رقم: 89 و 101 و 111 و 149 و 199 و 211 و 225 و 310 و 359 و 413 و 427.
(2)
انظر: تفسير السعدي (329) الاستنباط رقم: 235.
(3)
انظر: تفسير السعدي (266)، كما أن السعدي استنبط هذه المسألة من آية المطففين وهي قوله تعالى:(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)، فقال:(ودل مفهوم الآية، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة). انظر: تفسير السعدي (916) الاستنباط رقم: 213.
وقول السعدي رحمه الله: (كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 28 - 29]. فهذه الآية فيها رد على القدرية النفاة وعلى القدرية المجبرة: وإثبات للحق الذي عليه أهل السنة والجماعة. فقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} ، أثبت: أنه لهم مشيئة حقيقية، وفعلا حقيقيا - وهو الاستقامة - باختيارهم. فهذا رد على الجبرية. وقوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أخبر: أن مشيئتهم تابعة لمشيئة الله، وأنها لا توجد بدونها. فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ففيها رد على القدرية القائلين:" إن مشيئة العباد مستقلة، ليست تابعة لمشيئة الله ": بل عندهم، يشاء العباد ويفعلون ما لا يشاؤه الله، ولا يقدره ودلت الآية على الحق الواضح، وهو: أن العباد هم الذين يعملون الطاعات والمعاصي حقيقة، ليسوا مجبورين عليها: وأنها - مع ذلك - تابعة لمشيئة الله، كما تقدم كيفية وجه ذلك). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: الدرة البهية للسعدي (155)، وتفسير السعدي (914) الاستنباط رقم: 446، وانظر الاستنباط رقم:182.
المبحث الثالث: استنباطات فقهية
.
استنبط السعدي عدداً كبيراً من المسائل الفقهية، وكما مر في بداية هذا الفصل أن الاستنباطات الفقهية هي الأكثر على مستوى الاستنباطات الأخرى؛ إذ تشكل ما يقارب ثلث الاستنباطات، وهذا يعود لكون السعدي رحمه الله فقيهاً في الأصل، ومن خلال دراسة الاستنباطات الفقهية عند السعدي يمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: استنباطات فقهية كلية، وهي ما يعرف بالقواعد الفقهية، ومن أمثلة ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (وقوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. أي: خلق لكم، برا بكم ورحمة، جميع ما على الأرض، للانتفاع والاستمتاع والاعتبار، وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، لأنها سيقت في معرض الامتنان. . .) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية الكريمة، دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل
(1)
انظر: تفسير السعدي (48) الاستنباط رقم: 10.
المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)} [الفتح: 25] يستدل بها على أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (فدل هذا على القاعدة المشهورة، أنه: " لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة "). ا. هـ
(3)
القسم الثاني: استنباطات لمسائل فقهية فرعية متنوعة، وهذا هو الأغلب في استنباطات السعدي الفقهية، ومن أمثلة ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (وقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة: 43] أي: صلوا مع المصلين، ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها) ا. هـ
(4)
.
وقول السعدي رحمه الله: (وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أي: على وارث الطفل إذا عدم الأب، وكان الطفل ليس له مال، مثل ما على الأب من النفقة للمرضع والكسوة، فدل على وجوب نفقة الأقارب المعسرين، على القريب الوارث الموسر) ا. هـ
(5)
(1)
انظر: تفسير السعدي (269)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (88) الاستنباط رقم:214.
(2)
انظر: مجموع الفوائد للسعدي (107) الاستنباط رقم: 398.
(3)
انظر: تفسير السعدي (911) الاستنباط رقم: 445، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 18 و 44 و 110 و 158 و 246 و 250 و 324 و 347 و 437.
(4)
انظر: تفسير السعدي (51) الاستنباط رقم: 15.
(5)
انظر: تفسير السعدي (104) الاستنباط رقم: 61.
وقول السعدي رحمه الله: (ودل قوله: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية وهى: زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة أشقاء. للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوة للأم الثلث، ويسقط الأشقاء، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأم، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (اشتراط الترتيب في طهارة التيمم، كما يشترط ذلك في الوضوء، ولأن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: ({وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام: 152]. بأكل، أو معاوضة على وجه المحاباة لأنفسكم، أو أخذ من غير سبب. {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. أي: إلا بالحال التي تصلح بها أموالهم، وينتفعون بها. فدل هذا على أنه لا يجوز قربانها، والتصرف بها على وجه يضر اليتامى، أو على وجه لا مضرة فيه ولا مصلحة). ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أن العقود تنعقد بما يدل عليها من قول وفعل، لا فرق بين عقود التبرعات وعقود المعاوضات، لأن يوسف صلى الله عليه وسلم ملك إخوته بضاعتهم التي اشتروا بها ميرتهم من حيث لا يشعرون، ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم، الآية، وذلك من دون إيجاب وقبول قولي، لأن الفعل والرضى يدل على ذلك). ا. هـ
(4)
وقول السعدي رحمه الله: ({أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]. أي: الأطفال الذين دون التمييز، فإنه يجوز نظرهم
(1)
انظر: تفسير السعدي (168) الاستنباط رقم: 128.
(2)
انظر: تفسير السعدي (224) الاستنباط رقم: 193.
(3)
انظر: تفسير السعدي (280) الاستنباط رقم: 222.
(4)
انظر: فوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (139) الاستنباط رقم: 280.
للنساء الأجانب، وعلل تعالى ذلك، بأنهم لم يظهروا على عورات النساء، أي: ليس لهم علم بذلك، ولا وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا، أن المميز تستتر منه المرأة، لأنه يظهر على عورات النساء). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أن الفراق بالموت تعتد له الزوجة المعقود عليها ولو قبل الدخول، وكما يؤخذ من مفهوم هذه الآية فإنه يؤخذ من عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234]). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الأحكام التي تدل عليها الآية-: أنه لا يصح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها، لأنها لا تدخل في نسائه وقت الظهار). ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها - أي من الفوائد التي تدل عليها الآية -: تحريم الكلام والإمام يخطب، لأنه إذا كان الاشتغال بالبيع ونحوه - ولو كان المشتغل بعيداً عن سماع الخطبة - محرماً فمن كان حاضراً تعين عليه أن لا يشتغل بغير الاستماع، كما أيد هذا الاستنباط الأحاديث الكثيرة). ا. هـ
(4)
(1)
انظر: تفسير السعدي (567) الاستنباط رقم: 340.
(2)
انظر: تفسير السعدي (669)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (148) الاستنباط رقم:380.
(3)
انظر: تفسير السعدي (845) الاستنباط رقم: 422.
(4)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (89) الاستنباط رقم: 434، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 24 و 33 و 45 و 54 و 60 و 74 و 80 و 90 و 116 و 139 و 159 و 190 و 203 و 241 و 269 و 333 و 363 و 379 و 400 و 421 و 429 و 438.
المبحث الرابع: استنباطات أصولية
.
استنبط السعدي عدداً من المسائل الأصولية، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين: {رَاعِنَا} أي: راع أحوالنا، فيقصدون بها معنى صحيحا، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا، فانتهزوا الفرصة، فصاروا يخاطبون الرسول بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة، سدا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز، إذا كان وسيلة إلى محرم) ا. هـ
(1)
.
وقول السعدي رحمه الله: (وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة، حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ، لإطلاق قوله: {وَسَطًا} فلو قدر اتفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وسطا، إلا في بعض الأمور، ولقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك) ا. هـ
(2)
.
وقول السعدي رحمه الله: (وبهذه الآية ونحوها استدل الأصوليون، بأن الله لا يكلف أحدا ما لا يطيق، وعلى أن من اتقى الله فيما أمر،
(1)
انظر: تفسير السعدي (61) الاستنباط رقم: 18.
(2)
انظر تفسير السعدي (71) الاستنباط رقم: 23.
وفعل ما يمكنه من ذلك، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلا مادل الدليل الشرعي على الاختصاص به). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية، أن الله {يُنِيبُ} [الشورى: 13]. مع قوله: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]. مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم، وشدة إنابتهم، دليل على أن قولهم حجة، خصوصا الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (280) الاستنباط رقم: 223.
(2)
انظر: تفسير السعدي (643) و (927) الاستنباط رقم: 373.
(3)
انظر: تفسير السعدي (755) الاستنباط رقم: 395، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 10 و 65 و 165 و 260 و 271 و 306.
المبحث الخامس: استنباطات لغوية
.
كانت استنباطات السعدي اللغوية سواء ما يتعلق بالبلاغة، أوالمسائل اللغوية الأخرى قليلة، ومع ذلك فقد أشار إلى بعض الاستنباطات اللغوية، ومن أمثلة ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {عَلَى هُدَى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]. وأتى بـ "على "في هذا الموضع، الدالة على الاستعلاء، وفي الضلالة يأتي بـ "في "كما في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} [سبأ: 24]؛ لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى، مرتفع به، وصاحب الضلال منغمس فيه محتَقر) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] أبلغ من قوله: (ولا تكفروا به) لأنهم إذا كانوا أول كافر به، كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به، عكس ما ينبغي منهم، وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم) ا. هـ
(2)
.
وقول السعدي رحمه الله: (ومن فوائد إيقاع الظاهر موقع المضمرفي هذه الآية حيث قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
(1)
انظر: تفسير السعدي (41) الاستنباط رقم: 7.
(2)
انظر: تفسير السعدي (51) الاستنباط رقم: 14.
دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ولم يقل يرفعكم، ليدل ذلك على فضيلة الإيمان والعلم عموماً، وأن بهما تحصل الرفعة في الدنيا والآخرة، ويدل على أن من ثمرات العلم والإيمان سرعة الانقياد لأمر الله، وأن هذه الآداب ونحوها إنما تنفع صاحبها، ويحصل له بها الثواب إذا كانت صادرة عن العلم والإيمان، وهو أن تكون خالصة لوجه الله لا لغير ذلك من المقاصد). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ويستدل بها من قال: إن اللغة إلهام من الله، لا اصطلاح اصطلح عليه العقلاء.). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ويستدل بهذه الآية الكريمة على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلامه وكلام رسوله أمور مطلوبة محبوبة لله لأنه لا يتم معرفة ما أنزل على رسوله إلا بها إلا إذا كان الناس بحالة لا يحتاجون إليها، وذلك إذا تمرنوا على العربية، ونشأ عليها صغيرهم وصارت طبيعة لهم فحينئذ قد اكتفوا المؤنة، وصلحوا لأن يتلقوا عن الله وعن رسوله ابتداء كما تلقى عنهم الصحابة رضي الله عنهم. ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: ({أُولَئِكَ} الذين بهذه الحالة {شَرٌّ مَكَانًا} ممن آمن بالله وصدق رسله، {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)} [الفرقان: 34]. وهذا من باب استعمال أفضل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء فإن المؤمنين حسن مكانهم ومستقرهم، واهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم وفي الآخرة إلى الوصول إلى جنات النعيم). ا. هـ
(4)
(1)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (30) الاستنباط رقم: 426.
(2)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (21 - 22) الاستنباط رقم: 239.
(3)
انظر: تفسير السعدي (421) الاستنباط رقم: 291.
(4)
انظر: تفسير السعدي (583)، (628) الاستنباط رقم: 350، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 257 و 338 و 450.
المبحث السادس: استنباطات إعجازية
.
استنبط السعدي بعض الاستنباطات الإعجازية، والتي منها ما يتعلق بالإعجاز العلمي، ومنها ما يتعلق بالإعجاز التشريعي، ومنها ما يتعلق بإعجاز اللفظ القرآني، فمن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (ويؤخذ من هذا النص، ومن قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأنه يمكن وجود الولد بها)) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (فسمى هذه الأحكام آيات؛ لأنها تدل أكبر دلالة على عنايته ولطفه بعباده، وأنه شرع لهم من الأحكام، الأحكام الصالحة لكل زمان ومكان، ولا يصلح العباد غيرها) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: ({وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل: 8]، مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء، التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم، فإنه لم يذكرها بأعيانها، لأن الله تعالى لا يذكر في كتابه إلا ما يعرفه العباد، أو يعرفون نظيره،
(1)
انظر: تفسير السعدي (104) و (781)، وفتح الرحيم للسعدي (157) الاستنباط رقم:60.
(2)
انظر: تيسير اللطيف المنان لابن سعدي (150) الاستنباط رقم: 66.
وأما ما ليس له نظير في زمانهم فإنه لو ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه، فيذكر أصلا جامعا يدخل فيه ما يعلمون وما لا يعلمون، كما ذكر نعيم الجنة وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره، كالنخل والأعناب والرمان، وأجمل ما لا نعرف له نظيرا في قوله:{فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)} [الرحمن: 52]، فكذلك هنا ذكر ما نعرفه من المراكب كالخيل والبغال والحمير والإبل والسفن، وأجمل الباقي في قوله:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل: 8]). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك.
ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ، بإجماع العلماء، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم] ويخف عنهم بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين.
ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وقوله: {إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]، وإضافة الأجور إليهن دليل على أن المرأة تملك جميع مهرها، وليس لأحد منه شيء، إلا ما سمحت به لزوجها أو وليها أو غيرهما) ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا
(1)
انظر: تفسير السعدي (431) الاستنباط رقم: 293.
(2)
انظر: تفسير السعدي (193) الاستنباط رقم: 155.
(3)
انظر: تفسير السعدي (222) الاستنباط رقم: 179.
الاحتمال، أن بعض الجهال قد يدخله في بهيمة الأنعام، وأنه نوع من أنواع الغنم، كما قد يتوهمه جهلة النصارى وأشباههم، فينمونها كما ينمون المواشي، ويستحلونها، ولا يفرقون بينها وبين الأنعام، فهذا المحرم على هذه الأمة كله من باب التنزيه لهم والصيانة). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وأخبر تعالى أنه أنزل الحديد، فيه بأس شديد ومنافع للناس، فخص منافعه في أمور الحرب ثم عممها في سائر الأمور ; فالحديد أنزله الله لهذه المنافع الضرورية والكمالية، الخاصة والعامة، فجميع الأشياء إلا النادر منها تحتاج إلى الحديد ; وقد ساقها الله في سياق الامتنان على العباد بها، ومقتضى ذلك الأمر باستخراج هذه المنافع بكل وسيلة). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةُ} [النساء: 101]، ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان:
إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله:{مِنَ الصَّلَاةُ} ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
الثانية: أن {مِنَ} تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين) ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع أن السياق فيهم. بل قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 146]؛ لأن هذه
(1)
انظر: تفسير السعدي (277) الاستنباط رقم: 220.
(2)
انظر: الدلائل القرآنية للسعدي (280) الاستنباط رقم: 420.
(3)
انظر: تفسير السعدي (197) الاستنباط رقم: 160.
القاعدة الشريفة -لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابًا أو عقابا وكان ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في مقابلة الحكم العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها، ولئلا يتوهم اختصاص الحكم بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار القرآن البديعة، فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وقال في النار {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، وفي الجنة {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، بالواو، إشارة إلى أن أهل النار، بمجرد وصولهم إليها، فتحت لهم أبوابها من غير إنظار ولا إمهال، وليكون فتحها في وجوههم، وعلى وصولهم، أعظم لحرها، وأشد لعذابها.
وأما الجنة، فإنها الدار العالية الغالية، التي لا يوصل إليها ولا ينالها كل أحد، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها، ومع ذلك، فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه، فلم تفتح لهم بمجرد ما وصلوا إليها، بل يستشفعون إلى الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى يشفع، فيشفعه الله تعالى) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تفسير السعدي (212) الاستنباط رقم: 168.
(2)
انظر: تفسير السعدي (731) الاستنباط رقم: 393، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 117 و 151 و 164 و 247 و 255 و 320 و 338 و 367.
المبحث السابع: استنباطات تربوية وسلوكية
.
استنبط السعدي عدداً من الاستنباطات التربوية والسلوكية، وذلك نابع من اهتمامه بالسلوك والأخلاق، فمن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (. . . وفيه الأدب، واستعمال الألفاظ، التي لا تحتمل إلا الحسن، وعدم الفحش، وترك الألفاظ القبيحة، أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور) ا. هـ
(1)
.
وقول السعدي رحمه الله: (وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله، وإن شق ذلك عليها) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة وأسباب معصية، أن
(1)
انظر: تفسير السعدي (61) الاستنباط رقم: 19.
(2)
انظر: تفسير السعدي (194) الاستنباط رقم: 156.
يفر منه ويهرب غاية ما يمكنه، ليتمكن من التخلص من المعصية، لأن يوسف عليه السلام -لما راودته التي هو في بيتها- فر هاربا، يطلب الباب ليتخلص من شرها). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أن من مكارم الأخلاق، أن يُحَسِّن خلقه لأجيره، وخادمه، ولا يشق عليه بالعمل، لقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [القصص: 27]). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، حتى يفرغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهما يتمكن به من الكلام عليه). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (409)، وفوائد مستنبط من قصة يوسف للسعدي (122)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (278) الاستنباط رقم:270.
(2)
انظر: تفسير السعدي (619)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (229) الاستنباط رقم:365.
(3)
انظر: تفسير السعدي (899) الاستنباط رقم: 442، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 48 و 146 و 166 و 251 و 284 و 317 و 344 و 409 و 435.
المبحث الثامن: استنباطات السياسة الشرعية
.
استنبط السعدي عدداً من الاستنباطات المتعلقة بالسياسة الشرعية، فمن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (قال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124]، أي: لا ينال الإمامة في الدي، من ظلم نفسه وضرها، وحط قدرها، لمنافاة الظلم لهذا المقام، فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة، والشمائل السديدة، والمحبة التامة، والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟ ودل مفهوم الآية، أن غير الظالم، سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من العبر في القصة-: أن العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف، لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة
(1)
انظر: تفسير السعدي (65) الاستنباط رقم 21.
(2)
انظر: تفسير السعدي (109) الاستنباط رقم 70.
من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد الآية-: أن المستشار مؤتمن، يجب عليه -إذا استشير في أمر من الأمور- أن يشير بما يعلمه أصلح للمستشير ولو كان له حظ نفس، فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ويستثنى من هذا الأصل-وهو العفو عن الناس- العفو عن المجرم المفسد المتمرد الذي العفو عنه مما يزيده في عتوه وتمرده، فالواجب في مثل هذا الردع والزجر بكل ممكن، ولعل هذا يؤخذ من القيد الذي ذكره الله بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى: 40]، فشرط الله أن يكون العفو فيه صلاح، فأما العفو الذي لا صلاح فيه، بل فيه ضده، فهو منهي عنه والله أعلم). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (355) الاستنباط رقم 255.
(2)
انظر: تفسير السعدي (666) الاستنباط رقم 377.
(3)
انظر: تفسير السعدي (760)، ومجموع الفوائد للسعدي (56) الاستنباط رقم 396، وانظر كذلك: الاستنباط رقم: 57 و 68 و 279 و 356 و 357 و 388.
الفصل الرابع
منهج الشيخ السعدي في طرق الاستنباط من القرآن
الفصل الرابع: منهج الشيخ السعدي في طرق الاستنباط من القرآن، وفيه أحد عشر مبحثاً:
استخدم السعدي طرقاً علمية لاستخراجه هذه الاستنباطات من النصوص القرآنية، فقال في تقرير ذلك:(وتارة-أي الأحكام الشرعية- تؤخذ من المنطوق وهو ما دل على الحكم في محل النطق، وتارة تؤخذ من المفهوم وهو ما دل على الحكم بمفهوم موافقة إن كان مساويا للمنطوق أو أولى منه، أو بمفهوم مخالفة إذا خالف المنطوق في حكمه لكون المنطوق وصف بوصف أو شرط فيه شرط إذا تخلف ذلك الوصف أو الشرط تخلف الحكم، والدلالة من الكتاب والسنة ثلاثة أقسام: دلالة مطابقة إذا طبقنا اللفظ على جميع المعنى، ودلالة تضمن إذا استدللنا باللفظ على بعض معناه، ودلالة التزام إذا استدللنا بلفظ الكتاب والسنة ومعناهما على توابع ذلك ومتمماته وشروطه وما لا يتم ذلك المحكوم فيه أو المخبر عنه إلا به)
(1)
، وقال كذلك: (فمن وفق لذلك، لم يبق عليه إلا الإقبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكر في ألفاظه ومعانيه ولوازمها، وما تتضمنه، وما تدل عليه منطوقاً ومفهوماً، فإذا بذل وسعه في ذلك، فالرب
(1)
انظر: رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة للسعدي (9 - 10).
أكرم من عبده، فلا بد أن يفتح عليه من علومه أموراً لا تدخل تحت كسبه)
(1)
، وقال كذلك:(ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى رسوله أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما)
(2)
، وكان استخدام السعدي لطرق الاستنباط متفاوتاً، ومن خلال دراسة استنباطات السعدي، ظهر استخدامه لهذه الطرق كما يلي مرتبة حسب الأكثر استعمالاً:
الاستنباط بدلالة المفهوم (مفهوم المخالفة)، ثم الاستنباط بدلالة الالتزام، ثم الاستنباط بالقياس، ثم الاستنباط بدلالة المطرد من أساليب القرآن، ثم الاستنباط بدلالة النص (مفهوم الموافقة)، ثم الاستنباط بدلالة التضمن، ثم الاستنباط بدلالة الاقتران.
(1)
انظر: تفسير السعدي (30).
(2)
انظر: تفسير السعدي (184).
المبحث الأول: الاستنباط بدلالة الالتزام
.
تعريفها: دلالة اللفظ على معنى ليس مقصوداً باللفظ في الأصل، لكنه لازم للمقصود فكأنه مقصود بالتبع لا بالأصل
(1)
.
استخدم السعدي دلالة الالتزام، وكان يرى أنها مهمة للاستنباط من النصوص، فقال: (كما أن المفسر للقرآن يراعي ما دلت عليه ألفاظه مطابقة وما دخل في ضمنها فعليه أن يراعي لوازم تلك المعاني وما تستدعيه من المعاني التي لم يصرح اللفظ بذكرها، وهذه القاعدة من أجل قواعد التفسير وأنفعها وتستدعي قوة فكر وحسن تدبر وصحة قصد ; فإن الذي أنزله هو العالم بكل شيء الذي أحاط علمه بما تحتوي عليه القلوب وما تضمنه المعاني وما يتبعها ويتقدمها وتتوقف هي عليه ; ولهذا أجمع العلماء على الاستدلال باللازم في كلام الله لهذا السبب، والطريق إلى سلوك هذا الأصل النافع أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني فإذا فهمتها فهما جيدا ففكر في الأمور التي تتوقف عليها ولا تحصل بدونها وما يشترط لها وكذلك فكر فيما يترتب عليها وما يتفرع عنها وينبني عليها ولا تزال تفكر في هذه الأمور حتى يصير لك ملكة جيدة في الغوص على
(1)
انظر: روضة الناظر (1/ 95)، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي (235)، ورسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة للسعدي (9 - 10)، وتفسير النصوص د. محمد صالح (1/ 478).
المعاني الدقيقة ; فإن القرآن حق ولازم الحق حق وما يتوقف على الحق حق وما يتفرع على الحق حق)
(1)
، فمن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا شَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. . . وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق) ا. هـ
(2)
.
وقول السعدي رحمه الله: (وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم، لأن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار) ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (دلت هذه الآية على أمور منها: جواز اقتناء كلب الصيد، كما ورد في الحديث الصحيح، مع أن اقتناء الكلب محرم، لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه) ا. هـ
(4)
وقول السعدي رحمه الله: (ودلت هذه الآية ونحوها باللزوم على الأمر بالسعي بالأسباب التي تتم بها نصرة الحق، كالتعلم والتعليم للعلوم النافعة ونحوها). ا. هـ
(5)
(1)
انظر: القواعد الحسان للسعدي (19).
(2)
انظر: تفسير السعدي (87)، وفتح الرحيم العلام (131) الاستنباط رقم:40.
(3)
انظر: تفسير السعدي (163) الاستنباط رقم: 114.
(4)
انظر: تفسير السعدي (221) الاستنباط رقم: 173.
(5)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (77)، وتفسير السعدي (861) الاستنباط رقم: 430، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 9 و 15 و 48 و 60 و 113 و 134 و 149 و 204 و 212 و 331 و 451 و 454.
المبحث الثاني: الاستنباط بدلالة المفهوم (مفهوم المخالفة)
.
تعريفها: دلالة اللفظ على مخالفة حكم المسكوت عنه لحكم المنطوق، وذلك لانتفاء قيد من القيود المعتبرة في هذا الحكم
(1)
.
استخدم السعدي مفهوم المخالفة كثيراً، كما تبين في بداية هذا الفصل أن هذه الدلالة كانت الأكثر استعمالاً عند السعدي، وقد أشار السعدي إلى استخدام هذه الدلالة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، ومن الأمثلة على استخدامه لهذه الدلالة:
قول السعدي رحمه الله: (. . . وقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ شَهْرٌ لَهُ} [البقرة: 184]، ودل تقييد التطوع بالخير، أن من تطوع بالبدع، التي لم يشرعها الله ولا رسوله، أنه لا يحصل له إلا العناء، وليس بخير له، بل قد يكون شرا له إن كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل) ا. هـ
(2)
.
وقول السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
(1)
انظر: روضة الناظر (2/ 775)، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي (236)، ورسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة للسعدي (9 - 10)، وتفسير النصوص د. محمد صالح (1/ 665).
(2)
انظر: تفسير السعدي (77) الاستنباط رقم: 25.
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ويدل مفهوم الآية، على أن المفرد للحج، ليس عليه هدي) ا. هـ
(1)
.
وقول السعدي رحمه الله: ({كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته، رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد، وحماها عن غيره، أحبت أو كرهت.
فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها، وإن لم يرضها عضلها فلا يزوجها إلا من يختاره هو، وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها، وكان الرجل أيضا يعضل زوجته التي [يكون] يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها، فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين: إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الأول، كما هو مفهوم قوله:{كَرْهًا} وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها، عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ودل مفهوم الآية على أن توبة المحارب -بعد القدرة عليه- أنها لا تسقط عنه شيئا، والحكمة في ذلك ظاهرة) ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أن من لم يؤمن بالله، بل استعان بها على معاصيه، فإنها غير خالصة له ولا مباحة، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها، ويُسأل عن النعيم يوم القيامة). ا. هـ
(4)
وقول السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية الكريمة، أن العبد إذا لم يطلب الكتابة، لا يؤمر سيده أن يبتدئ بكتابته، وأنه إذا لم يعلم منه خيرا،
(1)
انظر: تفسير السعدي (91) الاستنباط رقم: 46.
(2)
انظر: تفسير السعدي (172) الاستنباط رقم: 142.
(3)
انظر: تفسير السعدي (230) الاستنباط رقم: 195.
(4)
انظر: تفسير السعدي (287) الاستنباط رقم: 224.
بأن علم منه عكسه، إما أنه يعلم أنه لا كسب له، فيكون بسبب ذلك كلا على الناس، ضائعا، وإما أن يخاف إذا أعتق، وصار في حرية نفسه، أن يتمكن من الفساد، فهذا لا يؤمر بكتابته، بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى، بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو ينقص من الخير، لم تكن الذكرى مأمورًا بها، بل منهيًا عنها). ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تفسير السعدي (568) الاستنباط رقم: 341.
(2)
انظر: تفسير السعدي (921)، والقواعد الحسان للسعدي (71)، وفتح الرحيم للسعدي (170) الاستنباط رقم:448.
المبحث الثالث: الاستنباط بدلالة النص (مفهوم الموافقة)
.
تعريفها: دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه، وموافقته له نفياً وإثباتاً
(1)
.
وقد استعمل السعدي هذه الدلالة للاستنباط، فمن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور، أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب، الذي قد جعل له موصلا فالآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، ينبغي أن ينظر في حالة المأمور، ويستعمل معه الرفق والسياسة، التي بها يحصل المقصود أو بعضه، والمتعلم والمعلم، ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله، يحصل به مقصوده، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه، فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: روضة الناظر (2/ 771)، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي (235)، ورسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة للسعدي (9 - 10)، ومصادر التشريع الإسلامي د. محمد صالح (485).
(2)
انظر: تفسير السعدي (88)، والرياض الناضرة للسعدي (430)، والقواعد الحسان للسعدي (4) الاستنباط رقم:43.
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-: أن من نسي شهادته ثم ذُكّرها فذكر فشهادته مقبولة لقوله {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وفيه أن أكمل حالات الرهن أن يكون مقبوضاً، وليس في الآية دليل على أنه لا يكون رهناً إلا إذا قبض، لأن الله إنما ذكر أعلى الحالات، بل مفهوم قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، أنها قد تكون غير مقبوضة، لكنها أقل توثقة من المقبوضة، كما أن الشيء القليل أو الذي في الذمة أقل توثقة من الكثير أو من العين) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وإذا نهى عن الإمساك بعصمتها فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (119) و (960)، وفتح الرحيم للسعدي (142)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (121) الاستنباط رقم:87.
(2)
انظر: فتح الرحيم للسعدي (145)، وقد أورد السعدي في التفسير خلاف ذلك فقال:(ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها التوثق) انظر: تفسير السعدي (119) الاستنباط رقم: 92.
(3)
انظر: تفسير السعدي (857) الاستنباط رقم: 428.
المبحث الرابع: الاستنباط بدلالة الاقتران
.
تعريفها: الاستدلال بالجمع بين شيئين أو أكثر في سياق واحد على اتحاد حكمهما
(1)
.
استخدام السعدي لدلالة الاقتران كان قليلاً، بل كانت أقل الدلالات استعمالاً عند السعدي، وقد يكون ذلك راجعاً لضعف دلالة الاقتران عنده
(2)
، حيث لم يشر إليها في المواضع النظرية بينما أنواع الدلالة الأخرى أشار إليها.
وبعد دراسة استنباطات السعدي تبين لي أنه لم يستعمل دلالة الاقتران إلا مرة واحدة فقط، حيث قال رحمه الله:(يستدل بقوله [تعالى]: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]، على. . . وجوب الحج والعمرة، وفرضيتهما) ا. هـ
(3)
(1)
انظر: منهج الاستنباط للوهبي (327).
(2)
انظر: شرح الزرقاني على موطأ مالك (2/ 362)، وهناك تفصيل حول دلالة الاقتران من حيث القوة والضعف ذكره ابن القيم، انظر: بدائع الفوائد (4/ 1627).
(3)
انظر: تفسير السعدي (90) الاستنباط رقم: 45.
المبحث الخامس: الاستنباط بدلالة التضمن
.
تعريفها: دلالة اللفظ على جزء معناه الموضوع له
(1)
.
ومن أنواع الدلالة التي استخدمها السعدي في الاستنباط، دلالة التضمن
(2)
، وقد أشار في بعض المواطن إلى هذه الدلالة كما سبق الإشارة إلى ذلك، ولكن استخدامه لها كان قليلاً كذلك، فمن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (وفيه تلاقي أرواح أهل الخير، وزيارة بعضهم بعضاً، وتبشير بعضهم بعضاً) ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر، ويكفي من هما عليه أن ينوي، ثم يعمم بدنه، لأن الله لم يذكر إلا التطهر، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء) ا. هـ
(4)
(1)
انظر: روضة الناظر (1/ 94)، ورسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة للسعدي (9 - 10).
(2)
مما ينبغي التنبه له أن السعدي يستخدم كلمة التضمن أو بعض مشتقاتها، ولكن ليس بمعناها الأصولي، انظر: الاستنباط رقم: 2 و 4 و 7 و 300.
(3)
انظر: تفسير السعدي (157) الاستنباط رقم: 111.
(4)
انظر: تفسير السعدي (223) الاستنباط رقم: 185.
المبحث السادس: الاستنباط بالقياس
.
القياس هو: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما
(1)
.
ومن الأدوات التي استخدمها السعدي في الاستنباط، القياس، وهو من حيث كثرة الاستخدام في المرتبة الثالثة كما مر الإشارة إلى ذلك، وقد قال السعدي في بيان استخدام القياس كأداة استنباط:(ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى رسوله أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما)
(2)
، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) يؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين، وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا
(1)
انظر: قواطع الأدلة (2/ 70)، ومذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (242).
(2)
انظر: تفسير السعدي (184).
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء، فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم {قَوْلًا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235]، يردوهم ردًّا جميلا بقول حسن غير فاحش ولا قبيح) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى.
والثاني: أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها) ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ودل تعليل الآية الكريمة أن كل ما أعان على فعل الخير، ونشط عليه، وسكن قلب صاحبه أنه مطلوب ومحبوب لله، وأنه ينبغي للعبد
(1)
انظر: تفسير السعدي (165) الاستنباط رقم: 118.
(2)
انظر: تفسير السعدي (190) الاستنباط رقم: 151.
(3)
انظر: تفسير السعدي (198) الاستنباط رقم: 162.
مراعاته وملاحظته في كل شأن من شؤونه، فإن من تفطن له فتح له أبوابا نافعة له ولغيره بلا تعب ولا مشقة، وأنه ينبغي إدخال السرور على المؤمنين). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد الآية-: أن ريق الصبي طاهر، ولو كان بعد نجاسة، كالقيء، لقوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور: 58]، مع قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الهرة: " إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات "). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها - أي من الفوائد التي تدل عليها الآية -: تحريم الكلام والإمام يخطب، لأنه إذا كان الاشتغال بالبيع ونحوه - ولو كان المشتغل بعيداً عن سماع الخطبة - محرماً فمن كان حاضراً تعين عليه أن لا يشتغل بغير الاستماع، كما أيد هذا الاستنباط الأحاديث الكثيرة). ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: ({وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} [الطلاق: 6]، بأن لم يتفقوا على إرضاعها لولدها، فلترضع له أخرى غيرها وهذا حيث كان الولد يقبل ثدي غير أمه، فإن لم يقبل إلا ثدي أمه، تعينت لإرضاعه، ووجب عليها، وأجبرت إن امتنعت، وكان لها أجرة المثل إن لم يتفقا على مسمى، وهذا مأخوذ من الآية الكريمة من حيث المعنى، فإن الولد لما كان في بطن أمه مدة الحمل، ليس له خروج منه، عين تعالى على وليه النفقة، فلما ولد، وكان يمكن أن يتقوت من أمه ومن غيرها، أباح تعالى الأمرين، فإذا كان بحالة لا يمكن أن يتقوت إلا من أمه كان بمنزلة الحمل، وتعينت أمه طريقًا لقوته). ا. هـ
(4)
(1)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (78)، وتفسير السعدي (351) الاستنباط رقم:249.
(2)
انظر: تفسير السعدي (574) الاستنباط رقم: 345.
(3)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (89) الاستنباط رقم: 434.
(4)
انظر: تفسير السعدي (871) الاستنباط رقم: 438، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 29 و 91 و 141 و 159 و 163 و 196 و 233 و 252 و 254 و 299.
المبحث السابع: الاستنباط بدلالة المطرد من أساليب القرآن
.
والمراد بالمطرد من أسلوب القرآن: هو ما جاء على نسق واحد تتابع عليه في القرآن الكريم بلا استثناء، ومما يلحق بذلك الاستنباط من أفعال الله تعالى المذكورة في كتابه
(1)
، قال السعدي في ذلك:(وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب الله تعالى: إذا كان السياق في قصة معينة أو على شيء معين، وأراد الله أن يحكم على ذلك المعين بحكم، لا يختص به ذكر الحكم، وعلقه على الوصف العام ليكون أعم، وتندرج فيه الصورة التي سيق الكلام لأجلها، وليندفع الإيهام باختصاص الحكم بذلك المعين)
(2)
.
ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدث ومعلم، وواعظ أن يقتدي بربه في تدبيره حال رسوله، كذلك العالم يدبر أمر الخلق فكلما حدث موجب أو حصل موسم، أتى بما يناسب ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواعظ الموافقة لذلك). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: منهج الاستنباط من القرآن (343).
(2)
انظر: تفسير السعدي (736).
(3)
انظر: تفسير السعدي (583) الاستنباط رقم: 349.
وقول السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم، ولم ينكر عليهم، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع أن السياق فيهم. بل قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 146]، لأن هذه القاعدة الشريفة -لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابًا أو عقابا وكان ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في مقابلة الحكم العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها، ولئلا يتوهم اختصاص الحكم بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار القرآن البديعة، فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (يخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف، اختلافا صادرا عن رجمهم بالغيب، وتقولهم بما لا يعلمون، وأنهم فيهم على ثلاثة أقوال:
منهم: من يقول: ثلاثة، رابعهم كلبهم، ومنهم من يقول: خمسة، سادسهم كلبهم. وهذان القولان، ذكر الله بعدهما، أن هذا رجم منهم بالغيب، فدل على بطلانهما.
ومنهم من يقول: سبعة، وثامنهم كلبهم، وهذا -والله أعلم- الصواب، لأن الله أبطل الأولين ولم يبطله، فدل على صحته، وهذا من الاختلاف الذي لا فائدة تحته، ولا يحصل بمعرفة عددهم مصلحة للناس، دينية ولا دنيوية). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (150) الاستنباط رقم: 107.
(2)
انظر: تفسير السعدي (212) الاستنباط رقم: 168.
(3)
انظر: تفسير السعدي (474) الاستنباط رقم: 304.
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: جواز ركوب البحر، في غير الحالة التي يخاف منها). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسير السعدي (484)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (258) الاستنباط رقم: 313، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 143 و 298 و 303 و 364 و 376.
المبحث الثامن: الاستنباط من نص ظاهر المعنى
.
النصوص ظاهرة المعنى: هي التي لا تحتاج إلى بيان، بل معناها ظاهر دون الحاجة إلى تفسير، وقد عمد السعدي إلى الاستنباط من هذه النصوص، فمن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (وتضمنت إثبات مذهب أهل السنة والجماعة في القدر، وأن جميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وأن العبد فاعل حقيقة، ليس مجبورا على أفعاله، وهذا يفهم من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فلولا أن مشيئة العبد مضطر فيها إلى إعانة ربه وتوفيقه لم يسأل الاستعانة). ا. هـ
(1)
.
وقول السعدي رحمه الله: (ثم قال: {وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [البقرة: 4]، و "الآخرة "اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم، لأن الإيمان باليوم الآخر، أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل. . .) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة:
(1)
انظر: تيسير اللطيف المنان لابن سعدي (12) الاستنباط رقم: 2.
(2)
انظر: تفسير السعدي (41) الاستنباط رقم: 6.
24]،. . . وفيها أيضا، أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار، لأنه قال:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة: 24] فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها، لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة.) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وقوله {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، أي: فاشكروه، فدل على أن من لم يشكر الله، لم يعبده وحده، كما أن من شكره، فقد عبده، وأتى بما أمر به) ا. هـ
(2)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (46) و (194) الاستنباط رقم: 8.
(2)
انظر: تفسير السعدي (81) الاستنباط رقم: 27، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 9 و 41 و 147 و 451 و 453 و 454.
المبحث التاسع: الاستنباط من نص خفي المعنى
.
النصوص خفية المعنى: هي التي تحتاج إلى تفسير وبيان المعنى المراد منها، وقد يكون في تفسيرها خلاف ينبني عليه بطلان الاستنباط فيما لو ترجح المعنى الآخر، وهذا النوع من النصوص قد استنبط السعدي منها استنباطات بناء على ترجيحه لأحد المعاني التي يحتملها النص المفسر، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (قال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124]، أي: لا ينال الإمامة في الدين
(1)
، من ظلم نفسه وضرها، وحط قدرها، لمنافاة الظلم لهذا المقام، فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة، والشمائل السديدة، والمحبة التامة، والخشية والإنابة،
(1)
وفي العهد هاهنا سبعة أقوال. أحدها: أنه الإمامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير. والثاني: أنه الطاعة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الرحمة، قاله عطاء وعكرمة. والرابع: الدين، قاله أبو العالية. والخامس: النبوة، قاله السدي عن أشياخه. والسادس: الأمان، قاله أبو عبيدة. والسابع: الميثاق، قاله ابن قتيبة. رجح السعدي أن المراد بالعهد هنا الإمامة وعليه بنى هذا الاستنباط واختار ذلك جمع من المفسرين منهم: أبي حيان، والشوكاني، وابن الجوزي، وابن جزي الكلبي، وغيرهم.
فأين الظلم وهذا المقام؟ ودل مفهوم الآية، أن غير الظالم، سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وقوله وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل، وأن الدية بدل عنه
(2)
،
فلهذا قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية، أو عفا بعض الأولياء، فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي) ا. هـ
(3)
.
وقول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57]، دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب لأعمالهم من الإكرام والإعزاز والنصر والحياة الطيبة
(4)
، وإنما توفية الأجور يوم القيامة، يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا، فيعطي منهم كل عامل أجر
(1)
انظر: تفسير السعدي (65) الاستنباط رقم: 21.
(2)
بناء على أن معنى الآية فمن عفي له عن القصاص منه فاتّباع بمعروف وهو أن يطلب الولي الدية بمعروف ويؤدي القاتلُ الدية بإحسان، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. وقيل في الآية معان أخرى:
منها: أن معنى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] بمعنى فمن فضل له فضل وهذا تأويل من زعم أن الآية نزلت في فريقين كانا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل من كلا الفريقين قتلى فتقاصّا ديات القتلى بعضهم من بعض، فمن بقيت له بقية فليتبعها بمعروف، وليرد من عليه الفاضل بإحسان، ويكون معنى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] أي فضل له قِبل أخيه القاتل شيء، وهذا قول السدي=
=ومنها: أن هذا محمول على تأويل عليّ رضي الله عنه في أول الآية؟ في القصاص بين الرجل والمرأة والحر والعبد وأداء ما بينهما من فاضل الدية. انظر: النكت والعيون (1/ 229 و 230).
(3)
انظر: تفسير السعدي (84) الاستنباط رقم: 33.
(4)
بناء على أن معنى التوفية هنا إكمال ما أعطاهم من الثواب الذي ابتدأه في الدنيا، وهذا المعنى الذي اختاره السعدي، بينما ذهب أكثر المفسرين إلى أن المعنى المراد للتوفية هنا هو: أن تكون كاملة موفرة، قال الطبري:("فيوفيهم أجورَهم" فيعطيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة كاملا لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه) انظر: جامع البيان (3/ 292).
عمله ويزيدهم من فضله وكرمه) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: ({وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29]، أي: القديم، أفضل المساجد على الإطلاق، المعتق: من تسلط الجبابرة عليه. وهذا أمر بالطواف، خصوصا بعد الأمر بالمناسك عموما، لفضله، وشرفه، ولكونه المقصود، وما قبله وسائل إليه.
ولعله -والله أعلم أيضا- لفائدة أخرى، وهو: أن الطواف مشروع كل وقت، وسواء كان تابعا لنسك، أم مستقلا بنفسه). ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تفسير السعدي (132) الاستنباط رقم: 100.
(2)
انظر: تفسيرالسعدي (537)، وفتح الرحيم للسعدي (134) الاستنباط رقم: 329، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 115 و 165 و 336 و 341.
المبحث العاشر: الاستنباط من نص واحد
.
ومعنى ذلك أن يعمد إلى الاستنباط من النص الواحد دون الرجوع إلى نصوص أخرى، والاستنباط من نص واحد هو الأغلب في استنباطات السعدي، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (ثم قال: {وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [البقرة: 4]، و"الآخرة "اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم، لأن الإيمان باليوم الآخر، أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل. . .) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وفيه دلالة. . . على أن للأم تسمية الولد إذا لم يكره الأب) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي. . . الآية} [الأنعام: 68]، وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق) ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (41) الاستنباط رقم: 6.
(2)
انظر: تفسير السعدي (129) الاستنباط رقم: 97.
(3)
انظر: تفسير السعدي (260) الاستنباط رقم: 208.
وقول السعدي رحمه الله: (وهذه الآية، تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر، وأنه مخلد في الدنيا، فهو قول، لا دليل عليه، ومناقض للأدلة الشرعية). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الأحكام التي تدل عليها الآية: أنه يجزئ في كفارة الرقبة، الصغير والكبير، والذكر والأنثى، لإطلاق الآية في ذلك). ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تفسير السعدي (523) الاستنباط رقم: 325.
(2)
انظر: تفسير السعدي (845) الاستنباط رقم: 424، وغير ذلك من الاستنباطات بل هو الغالب على استنباطات السعدي.
المبحث الحادي عشر: الاستنباط بالربط بين نصين أو أكثر
.
ومعنى ذلك أن يكون الاستنباط من مجموع النصين، ويدخل في ذلك أيضاً تأييد الاستنباط بأدلة أخرى سواء من القرآن أو السنة، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (ويؤخذ من هذا النص، ومن قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأنه يمكن وجود الولد بها)) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وهذه الآيات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة، على أن الأعمال تدخل في الإيمان، خلافا للمرجئة، ووجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية، التي في سورة الحديد، نظير هذه الآيات، وهي قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21] فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به وبرسله، وهنا قال: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]، ثم وصف المتقين بهذه الأعمال المالية والبدنية، فدل على أن
(1)
انظر: تفسير السعدي (104) و (781)، وفتح الرحيم للسعدي (157) الاستنباط رقم:60.
هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد، ومفهوم الآية: أن المتحرف للقتال، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، وأنكى لعدوه، فإنه لا بأس بذلك، لأنه لم يول دبره فارا، وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار، فإن ذلك جائز، فإن كانت الفئة في العسكر، فالأمر في هذا واضح، وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز، ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد عاقبة، وأبقى عليهم.
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم، فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها، لأنه - على هذا - لا يتصور الفرار المنهي عنه، وهذه الآية مطلقة، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أن الفراق بالموت تعتد له الزوجة المعقود عليها ولو قبل الدخول، وكما يؤخذ من مفهوم هذه الآية فإنه يؤخذ من عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234]). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (149) و (572) الاستنباط رقم: 106.
(2)
انظر: تفسير السعدي (317) الاستنباط رقم: 230.
(3)
انظر: تفسير السعدي (669)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (148) الاستنباط رقم:380.
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها - أي من الفوائد التي تدل عليها الآية -: تحريم الكلام والإمام يخطب، لأنه إذا كان الاشتغال بالبيع ونحوه - ولو كان المشتغل بعيداً عن سماع الخطبة - محرماً فمن كان حاضراً تعين عليه أن لا يشتغل بغير الاستماع، كما أيد هذا الاستنباط الأحاديث الكثيرة). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (89) الاستنباط رقم: 434، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 145 و 199 و 326 و 345 و 395.
الفصل الخامس
تأثر الشيخ السعدي باستنباطات المفسرين، وموقفه منها
الفصل الخامس: تأثر الشيخ السعدي باستنباطات المفسرين، وموقفه منها، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تأثره باستنباطات المفسرين
.
استنباطات السعدي كان فيها اختصار في اللفظ، كما أنه لم يصرح بمن يؤيده في الاستنباط إلا في أحوال يسيرة نادرة، مما جعل معرفة من تأثر بهم السعدي في الاستنباط فيه صعوبة، ولكن من خلال دراسة استنباطات السعدي، ومقارنتها باستنباطات المفسرين، ظهر أن السعدي تأثر في استنباطاته بثلاثة من المفسرين، وهم على الترتيب أي الأكثر تأثيراً في السعدي: ابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، كما أنه تأثر باستنباطات الصحابة والتابعين ولكن تأثره بهم يعد قليلاً، وهذه بعض الأمثلة التي توضح مدى تأثره بهؤلاء.
" أمثلة توضح تأثر السعدي ببعض استنباطات الصحابة والتابعين:
وهذه الأمثلة يتضح التأثير فيها من خلال الدراسة، فمن ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (ويؤخذ من هذا النص، ومن قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأنه يمكن وجود الولد بها)) ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسير السعدي (104) و (781)، وفتح الرحيم للسعدي (157) الاستنباط رقم:60.
وقول السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أن أرواح المؤمنين المنقادين لأمر الله المصدقين بآياته، تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى الله، وتصل إلى حيث أراد الله من العالم العلوي، وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة برضوانه). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ويستدل بهذه الآية، على أن الطلاق، لا يكون إلا بعد النكاح. فلو طلقها قبل أن ينكحها، أو علق طلاقها على نكاحها، لم يقع، لقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، فجعل الطلاق بعد النكاح، فدل على أنه قبل ذلك، لا محل له، وإذا كان الطلاق الذي هو فرقة تامة، وتحريم تام، لا يقع قبل النكاح، فالتحريم الناقص، لظهار، أو إيلاء ونحوه، من باب أولى وأحرى، أن لا يقع قبل النكاح، كما هو أصح قَوْلي العلماء). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وأما الإشارة الثانية، فهي الإشارة إلى أن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب ودنا، ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم الله به. وقد عهد أن الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار، كالصلاة والحج، وغير ذلك، فأمر الله لرسوله بالحمد والاستغفار في هذه الحال، إشارة إلى أن أجله قد انتهى، فليستعد ويتهيأ للقاء ربه، ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات الله وسلامه عليه). ا. هـ
(3)
" أمثلة توضح تأثر السعدي بابن القيم:
هذه الأمثلة منها ما هو واضح، ومنها ما لا يتضح إلا من خلال الدراسة، فمن هذه الأمثلة:
قول السعدي رحمه الله: (احتجاج الفقهاء على أنه لا يجب على
(1)
انظر: تفسير السعدي (288) الاستنباط رقم: 225.
(2)
انظر: تفسير السعدي (668) الاستنباط رقم: 378.
(3)
انظر: تفسير السعدي (936) الاستنباط رقم: 453.
الزوج أن يطأ زوجته إلا في كل ثلث سنة مرة بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]، فيه نظر، وإنما فيها الدلالة على أن للمولي خاصة هذه المدة لأجل إيلائه، وأما غير المولي فمفهومها يدل على خلاف ذلك، وأنه ليس له أربعة أشهر وإنما عليه ذلك بالمعروف) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي الإتيان بـ "كسب " في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى بـ "اكتسب "في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث، والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب، فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، إذا اتفقت أديانهم، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة.
قال ابن القيم في "جلاء الأفهام": (وتأمل هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة، كما في قوله تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب، فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار
(1)
انظر: المواهب الربانية للسعدي (17) الاستنباط رقم: 54.
(2)
انظر: تفسير السعدي (120) الاستنباط رقم: 94.
مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين)
(1)
) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وفيه دليل، على أن الروح جسم، يدخل ويخرج، ويخاطب، ويساكن الجسد، ويفارقه، فهذه حالهم في البرزخ). ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي هذا سر لطيف، حيث قرن {الْوَدُودُ} بالغفور، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا، غفر لهم ذنوبهم وأحبهم، فلا يقال: بل تغفر ذنوبهم، ولا يرجع إليهم الود، كما قاله بعض الغالطين). ا. هـ
(4)
" أمثلة توضح تأثر السعدي بشيخ الإسلام ابن تيمية:
هذه الأمثلة منها ما هو واضح، ومنها ما لا يتضح إلا من خلال الدراسة، فمن هذه الأمثلة:
قول السعدي رحمه الله: (وكثيراً ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان.) ا. هـ
(5)
وقول السعدي رحمه الله: (ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل
(1)
انظر: جلاء الأفهام لابن القيم (180).
(2)
انظر: تفسير السعدي (169) الاستنباط رقم: 130.
(3)
انظر: تفسير السعدي (265) و (726) الاستنباط رقم: 211.
(4)
انظر: تفسير السعدي (919)، وفتح الرحيم للسعدي (56) الاستنباط رقم: 447، وانظر كذلك: 89 و 133 و 226 و 406 و 429 و 442.
(5)
انظر: تفسير السعدي (41)، و (83) الاستنباط رقم:5.
والحبس، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: (ذوا عدل منكم أوءاخران من غيركم) أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه، أن شهادة الكفار -عند عدم غيرهم، حتى في غير هذه المسألة- مقبولة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-:: أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والسماح التام من يوسف ومن أبيهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد عن حقه، فالله خير الراحمين.
ولهذا - في أصح الأقوال - أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [النساء: 163] وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وذريتهم، ومما يدل على ذلك أن في رؤيا يوسف، أنه رآهم كواكب نيرة، والكواكب فيها النور والهداية الذي من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء هداة). ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (ودل قوله: {شَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: 2]، أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية، أن الله سماهم زائرين، ولم يسمهم مقيمين، فدل ذلك على البعث والجزاء بالأعمال في دار باقية غير فانية). ا. هـ
(4)
(1)
انظر: تفسير السعدي (171) الاستنباط رقم: 141.
(2)
انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 576) الاستنباط رقم: 203.
(3)
انظر: تفسير السعدي (408)، وفوائد مستنبط من قصة يوسف للسعدي (119)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (276) الاستنباط رقم:290.
(4)
انظر: تفسير السعدي (929) الاستنباط رقم: 451، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 185 و 279 و 345 و 417 و 427.
" أمثلة توضح تأثر السعدي بابن كثير:
تأثر السعدي ابن كثير في بعض استنباطاته، وإن لم يصرح بذلك إلا أنه يتضح من خلال الدراسة، ومن الأمثلة على ذلك:
قول السعدي رحمه الله: (وكثيراً ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان.) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله (. . . كرر الإهباط، ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَى} [البقرة: 38]) ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57]، دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب لأعمالهم من الإكرام والإعزاز والنصر والحياة الطيبة، وإنما توفية الأجور يوم القيامة، يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا، فيعطي منهم كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه) ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دلالة على عدم تحريم كثرة المهر، مع أن الأفضل واللائق الاقتداءُ بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر. ووجه الدلالة أن الله أخبر عن أمر يقع منهم، ولم ينكره عليهم، فدل على عدم تحريمه، لكن قد ينهي عن كثرة الصداق؛ إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة تقاوم) ا. هـ
(4)
(1)
انظر: تفسير السعدي (41)، و (83) الاستنباط رقم:5.
(2)
انظر: تفسير السعدي (50) الاستنباط رقم: 13.
(3)
انظر: تفسير السعدي (132) الاستنباط رقم: 100.
(4)
انظر: تفسير السعدي (173)، وفتح الرحيم للسعدي (151) الاستنباط رقم:143.
وقول السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد هذه الآية-: قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108]، إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره الله له من باب أولى وأحرى). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسير السعدي (352) الاستنباط رقم: 254، وانظر كذلك الاستنباط رقم: 64 و 96 و 121 و 177 و 202.
المبحث الثاني: موقفه من استنباطات المفسرين
.
كما هو معروف أن الاستنباط في أصله مادة قليلة، فالخلاف فيها لا يظهر كثيراً، فإذا أضيف إلى ذلك منهج السعدي في ذكره الاستنباطات مختصرة، وكونه كذلك لا يذكر الخلاف فيها، ولا من قالها غالباً، فمن هنا نستطيع القول بأن السعدي لم يكن له موقف ناقد لاستنباطات من سبقه إلا في بعض المواطن القليلة إذا ما قورنت بكثرة الاستنباط عند السعدي، ومع ذلك فإن له موقف ناقد من بعض الاستنباطات، وله موقف مستأنس باستنباطات غيره من المفسرين، وإليك بعض الأمثلة التي توضح ذلك، فمن المواقف الناقدة:
قول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة، وتقدم وجه ذلك.) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (احتجاج الفقهاء على أنه لا يجب على الزوج أن يطأ زوجته إلا في كل ثلث سنة مرة بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]، فيه نظر، وإنما فيها الدلالة على أن للمولي خاصة هذه المدة لأجل إيلائه، وأما غير المولي فمفهومها يدل
(1)
انظر: تفسير السعدي (84) الاستنباط رقم: 32.
على خلاف ذلك، وأنه ليس له أربعة أشهر وإنما عليه ذلك بالمعروف) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: ({لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، لعظمته، وجلاله وكماله، أي: لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم، فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم. فإنه إذا نفى الإدراك، الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة.
فإنه لو أراد نفي الرؤية، لقال "لا تراه الأبصار" ونحو ذلك، فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم). ا. هـ
(2)
وقول السعدي رحمه الله: (وذكر المفسرون، رحمهم الله تعالى، مناسبة لتخصيص كي جباههم وجنوبهم وظهورهم، وذلك لأنه إذا جاءهم الفقير السائل صعر أحدهم بوجهه فإذا أعاد عليه ولاه جنبه، فإذا ألح عليه ولاه ظهره فاختصت هذه الثلاث لذلك جزاء وفاقا، وظهر لي معنى أولى من هذا: وهو أن كي هذه المواضع الثلاثة هي أشد على الإنسان من غيرها، وهي متضمنة لجهاته الأربع: الأمام والخلف واليمين والشمال ; وهذه الوجوه التي يخرج منها الإنسان، فلما منعوا الواجب عليهم منعا تاما من جميع جهاتهم جوزوا بنقيض مقصودهم، فإن مقصودهم من المنع التمتع بتلك الأموال، وحصول النعيم بها وخوف وحرارة فقدها لو بذلوها فصار المنع هو عين العذاب فلو أنهم أخرجوها وقت الإمكان لسلموا من كيها وفازوا بأجرها). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: المواهب الربانية للسعدي (17) الاستنباط رقم: 54.
(2)
انظر: تفسير السعدي (266)، كما أن السعدي استنبط هذه المسألة من آية المطففين وهي قوله تعالى:(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)، فقال:(ودل مفهوم الآية، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة). انظر: تفسير السعدي (916) الاستنباط رقم: 213.
(3)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (21) الاستنباط رقم: 237.
وقول السعدي رحمه الله: (وهذه الآية، تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر، وأنه مخلد في الدنيا، فهو قول، لا دليل عليه، ومناقض للأدلة الشرعية). ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (وقد استدل بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] من يرى أن القُرَب لا يفيد إهداؤها للأحياء ولا للأموات قالوا لأن الله قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك، وفي هذا الاستدلال نظر، فإن الآية إنما تدل على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه، وهذا حق لا خلاف فيه، وليس فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره، إذا أهداه ذلك الغير له، كما أنه ليس للإنسان من المال إلا ما هو في ملكه وتحت يده، ولا يلزم من ذلك، أن لا يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه). ا. هـ
(2)
ومن المواقف التي استأنس السعدي فيها باستنباطات المفسرين:
قول السعدي رحمه الله: (وقد قال الجمهور: إن قوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] قيد خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان:
إحداهما: فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها.
والثانية: فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن. والله أعلم) ا. هـ
(3)
وقول السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
(1)
انظر: تفسير السعدي (523) الاستنباط رقم: 325.
(2)
انظر: تفسير السعدي (818) الاستنباط رقم: 412، وانظر كذلك: الاستنباط رقم: 449 - 92 - 98.
(3)
انظر: تفسير السعدي (174) الاستنباط رقم: 144.
وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم) ا. هـ
(1)
وقول السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: الآية عامة في جواز التيمم، لجميع الأحداث كلها، الحدث الأكبر والأصغر، بل ولنجاسة البدن، لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء، وأطلق في الآية فلم يقيد، وقد يقال أن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في الأحداث وهو قول جمهور العلماء) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تفسير السعدي (192) الاستنباط رقم: 154.
(2)
انظر: تفسير السعدي (224) الاستنباط رقم: 191.
المبحث الثالث: مميزات استنباطاته
.
لقد تميز السعدي في تفسيره للقرآن الكريم بالاهتمام بالاستنباط، والعناية به، فلا أدل على ذلك من تأليفه كتب يغلب عليها الاستنباط، ككتابه فوائد مستنبطة من قصة يوسف، والمواهب الربانية من الآيات القرآنية، وفتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن، وكذلك الحس الاستنباطي الذي وهبه الله للسعدي؛ إذ يتبين عند وقوفه للاستنباط في مواطن قد يغفل عنها الكثير، وكذلك سلوك السعدي للطرق الصحيحة للاستنباط جعل من استنباطاته مثلاً، ثم مع الدربة وطول الزمن أصبح السعدي في الاستنباط من القرآن ممن يشار إليهم بالبنان، ولو قلنا أن أميز ما في تفسير السعدي للقرآن استنباطاته لم يكن ذلك ببعيد، فتخصص السعدي في الاستنباط جعل لاستنباطاته مميزات.
ومن أهم المميزات التي تميزت بها استنباطات السعدي ما يلي:
أولاً: سلامة استنباطات السعدي من المخالفات العقدية، وهذه ميزة مهمة؛ إذ بعض المفسرين المهتمين بالاستنباط، قد وظف استنباطاته في خدمة معتقده الباطل، فجعل استنباطاته مطية لهواه ومركباً لتأويلاته الباطلة.
ثانياً: ظهور القوة الفقهية في استنباطات السعدي، وذلك من خلال
قوة مأخذ الاستنباطات، وشمولها الفقهي، فلم تتركز في باب واحد، وإنما في أغلب أبواب الفقه.
ثالثاً: الدقة في الاستنباط؛ إذ تأتي بعض استنباطات السعدي لتبين مدى الدقة المتناهية في أخذ هذا الاستنباط من هذه الآية، ولذا تراه في آيات الأحكام يستنبط أموراً تربوية، وفي القصص القرآني يستنبط قواعد فقهية، وفي آيات الأخلاق يستنبط أحكاماً فقهية.
رابعاً: سهولة العبارة وجزالتها، فلم يستعمل الغريب، ولم تكن العبارة عادية في مستواها، وإنما عبارة يفهما المبتدئ، ويعرف دقتها المنتهي.
خامساً: التنوع في الاستنباطات، فلم تكن استنباطات السعدي في فن واحد فقط، وإنما تعرض لعدة فنون فاستنبط لها من القرآن أدلة، بعيدة المنزع على غير قوي الاستنباط.
سادساً: التفرد ببعض الاستنباطات عن باقي المفسرين، فمن خلال دراسة استنباطات السعدي، تبين أنه هناك بعض الاستنباطات لم يقل بها غيره، وهذا يظهر جلياً في استنباطاته من القصص القرآني؛ إذ يأتي بفوائد مستنبطة لم يسبق إليها
(1)
.
سابعاً: اهتمامه بالأمور العصرية التي استحدثت في زمانه وتنزيلها في مكانها المناسب في الاستنباطات
(2)
.
تقييم استنباطات السعدي:
ومع هذا الثناء والمكانة العلمية المرموقة للشيخ السعدي والمميزات
(1)
انظر: الاستنباط رقم: 50 و 69 و 129 و 156 و 179 و 222 و 261 و 299 و 309 و 331 و 346 و 409 و 431 و 434.
(2)
وقد ألف في ذلك كتاباً سماه"الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخل في الدين الإسلامي".
التي امتاز بها إلا أن تفسيره، وبعض آرائه التفسيرية والاستنباطية لم تخل من النقد، فقد وجه بعض العلماء، والباحثين انتقادات للسعدي منها ما هو صحيح ومنها ما هو غير صحيح، ومنها ما هو محل اجتهاد لا يجزم أن السعدي غلط فيه، وهذا الانتقادات على النحو التالي:
أولاً: ما يتعلق باستنباط السعدي حول معنى يأجوج ومأجوج، وكونهم الأمم الموجودة الآن من الأمريكان، والصين، ونحوهم، فقد لاقى هذا الاستنباط معارضات، في عهد السعدي حيث أنكر عليه ذلك علماء نجد، بل استدعي من قبل الملك عبد العزيز بهذا الشأن
(1)
، وممن رد على السعدي وانتقده في ذلك الشيخ حمود التويجري في كتابه"الاحتجاج بالأثر"، وقد ذكرت ذلك في موطن دراسة هذا الاستنباط
(2)
، وممن انتقده ورد عليه كذلك الشيخ عبدالكريم الحميد في رسالته الموسومة بـ"ابطال دعوى الخروج ليأجوج ومأجوج".
ثانياً: وجه الباحث علي رضا المدني، بعض الانتقادات لبعض المواطن في تفسير السعدي، وذلك في كتابه الموسوم بـ "التعقبات الجياد على تفسير السعدي لبعض الآيات"، وقد بلغ عدد المواطن التي انتقدها ثمانية عشر موطناً.
وعند التأمل في الانتقادات التي أوردها المدني، نلحظ أنها بالنسبة للتفسير قليلة جداً بل نقطة في بحر حسنات السعدي، كذلك نلحظ أن منها ما هو صواب، ومنها ما هو موضع خلاف واجتهاد قد يختار السعدي فيه ما هو مرجوح، ومنها ما يكون الصواب فيه مع السعدي.
فمن الأمثلة التي اختار فيها السعدي ما هو مرجوح ما قاله في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرِ (23)} [سبأ: 23]، يحتمل أن الضمير في هذا الموضع، يعود إلى المشركين،
(1)
انظر: الاحتجاج بالأثر للتويجري (327).
(2)
انظر: الاستنباط رقم: 327.
لأنهم مذكورون في اللفظ، والقاعدة في الضمائر، أن تعود إلى أقرب مذكور
(1)
.
فقال الناقد: (والصحيح أن الضمير يعود إلى الملائكة)
(2)
، وهو اختيار الطبري، وقول الناقد هو الصحيح.
ومن الأمثلة التي أخطأ فيها الناقد، انتقاده السعدي في استنباطه عدم نبوة الخضر، حيث قال السعدي رحمه الله:(ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبياً، بل عبداً صالحاً، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبيا، لذكر ذلك كما ذكره غيره، وأما قوله في آخر القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون لغير الأنبياء، كما قال تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، {وَأَوْحَى رَبَّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل: 68]). ا. هـ
(3)
فقال الناقد: (والذي عليه السلف أنه نبي)
(4)
، والمسألة فيها خلاف، والصحيح ما قاله السعدي، لأن الخضر لوكان نبياً لجاء التنبيه عليه بأوضح من ذلك. والله أعلم.
ثالثاً: وممن وجه بعض الانتقادات لتفسير السعدي كذلك، الشيخ محمد زهري النجار، حيث إنه حقق نص تفسير السعدي، وكان عند التحقيق تعرض لبعض المواطن، وعلق عليها، منها ما هو صواب
(5)
، ومنها ما ظهر فيها من التخطئة التي لا داعي لها، حيث كانت مواطن اجتهاد، وفيها نوع تحامل على السعدي
(6)
، وقد جمع الشيخ محمد آل
(1)
انظر: تفسير السعدي (679).
(2)
انظر: التعقبات الجياد (7).
(3)
انظر: تفسير السعدي (484)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (256).
(4)
انظر: التعقبات الجياد (10).
(5)
انظر: تفسير السعدي بتحقيق النجار (1/ 447)، (1/ 460)، (2/ 247)، (2/ 378)، (4/ 68)، (4/ 294)، (5/ 379).
(6)
انظر: كشف الستار للبسام (9)، (12)، (35)، (37)، (47)، (51).
بسام المواطن الأخيرة التي فيها نوع تحامل- والتي بلغ عددها الأربعين تقريباً- ورد عليها في كتابه الموسوم بـ "كشف الستار على تلفيق وتعليق النجار على تفسير السعدي".
رابعاً: وممن وجه بعض الانتقادات لتفسير السعدي كذلك، الشيخ محمد جميل زينو، فقد جمع بعض الأمور التي يرى أن السعدي أخطأ فيها، والتي أوصلها إلى أحد عشر تنبيهاً، وذلك في كتاب له سماه" تنبيهات على تفسير العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي"، وهذه التنبيهات منها ما هو صحيح
(1)
، ومنها ما الحق فيه مع السعدي
(2)
، ومنها ما هو محل اختلاف لا يعد من اختار فيه قولاً مخطئاً؛ إذ الأمر محتمل
(3)
.
ومن خلال ما تقدم من إيراد النقد الموجه للسعدي تبين أن أكثر النقاد توجهوا إلى نقد السعدي في اختياراته التفسيرية دون أن يكون هناك توجه إلى نقد استنباطاته إلا في أحوال يسيرة نادرة كما مر في الاستنباط الخاص بيأجوج ومأجوج، ومن خلال دراستي لاستنباطات السعدي، والعيش مع هذه الاستنباطات زمناً، في جمعها من مؤلفاته، ودراستها مقارنة باستنباطات غيره من المفسرين، يمكن أن نقيم استنباطات السعدي من خلال الآتي:
أولاً: تميزت استنباطات السعدي بدقتها، وسلامتها من المخالفات العقدية، وظهور التمكن الفقهي في استنباطاته الفقهية، وتميزت كذلك بسهولة عبارتها، وتنوعها حيث لم تكن في فن واحد فقط.
ثانياً: ظهر في استنباطات السعدي اهتمامه بالأمور العصرية،
(1)
انظر: تنبيهات زينو على تفسير السعدي، التنبيه رقم:(1)، (2)، (3)، (7).
(2)
انظر: تنبيهات زينو على تفسير السعدي، التنبيه رقم:(6)، (10)، (11).
(3)
انظر: تنبيهات زينو على تفسير السعدي، التنبيه رقم:(4)، (8)، (9).
ووضعها في مكانها المناسب من الاستنباط، مما جعل السعدي يتفرد ببعض الاستنباطات عن سابقيه من المفسرين.
ثالثاً: أنه مع هذا التميز إلا أن هناك بعض استنباطات السعدي ظهر لي أنها لم تكن صحيحة، وقد بلغ عددها تسعة عشر
(1)
، والسبب في ذلك راجع إلى عدة أمور:
1 -
عدم التنبه لموانع اعتبار مفهوم المخالفة، حيث إن السعدي في بعض الاستنباطات التي أخذها لم يتنبه لموانع اعتبار مفهوم المخالفة كخروج اللفظ مخرج الغالب
(2)
، أو مجئ اللفظ للمثال
(3)
، أو كون اللفظ له فائدة أخرى تمنع اعتبار مفهومه
(4)
، مما جعل استنباطه لا يصح.
2 -
اعتباره دلالة الاقتران وهي دلالة ضعيفة مما جعل استنباطه الذي كان بدلالة الاقتران غير صحيح
(5)
.
3 -
عدم الاستناد أحياناً إلى دليل يستند إليه في الاستنباط، كما أخذ من تقييد مزدلفة بالمشعر الحرام أن عرفة حل، مع عدم لزوم ذلك، فلا يلزم من كون مزدلفة حراماً أن عرفة حلال
(6)
.
4 -
أخذ الاستنباط من الآية بدلالة عامة، كأخذه حجب الجد للأخوة، من باب تسمية الجد أباً، مع أن تسمية الجد أباً لا يلزم منها التساوي بين الأب والجد في كل مسألة
(7)
.
5 -
عدم وجود رابط قوي بين المعنى المستنبط وبين الآية المستنبط
(1)
انظر: الاستنباط رقم: 31 و 45 و 47 و 73 و 78 و 133 و 142 و 145 و 146 و 193 و 238 و 284 و 329 و 341 و 362 و 366 و 405 و 407 و 422.
(2)
انظر: الاستنباط رقم: 142 و 422.
(3)
انظر: الاستنباط رقم: 78.
(4)
انظر: الاستنباط رقم: 31 و 341.
(5)
انظر: الاستنباط رقم: 45.
(6)
انظر: الاستنباط رقم: 47 و 73.
(7)
انظر: الاستنباط رقم: 133 و 362 و 366 و 405.
منها، كما أخذ من ختم قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا شَهْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} (النساء: 25)، بالرحمة والمغفرة أن الحدود كفارات
(1)
.
6 -
عدم التنبه للنصوص الأخرى من الكتاب والسنة، كما استنبط من آية التيمم اشتراط الترتيب بين أعضاء التيمم، مع أن الحديث يدل على أن الترتيب ليس شرطاً
(2)
.
7 -
عدم الدقة أحياناً في تفسير الآية، مما يترتب عليه عدم صحة الاستنباط، وكما هو معروف أن التفسير الصحيح هو أساس الاستنباط
(3)
.
8 -
أن بعض الاستنباطات ربما كان متعلقاً بالعرف فلا يلزم من كونه كان في أمم سابقة أنه هو الأفضل، كما استنبط استحباب نقل الطعام إلى الضيف، بينما الأمر راجع إلى العرف فقد يكون الأفضل نقل الطعام إلى الضيف، وقد يكون الأفضل العكس
(4)
.
(1)
انظر: الاستنباط رقم: 145 و 146.
(2)
انظر: الاستنباط رقم: 193.
(3)
انظر: الاستنباط رقم: 284 و 329.
(4)
انظر: الاستنباط رقم: 407.
القسم الثاني:
دراسة استنباطات الشيخ السعدي من القرآن الكريم
من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس
سورة الفاتحة
تخصيص ملك الله ليوم الدين دون غيره بالذكر لظهور ملكه وانقطاع ملك الخلائق
.
قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} (الفاتحة: 4).
1 -
قال السعدي رحمه الله: (وأضاف الملك ليوم الدين
(1)
، وهو يوم القيامة، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم، خيرها وشرها، لأن في ذلك اليوم، يظهر للخلق تمام الظهور، كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق، حتى إنه يستوي في ذلك اليوم، الملوك والرعايا والعبيد
(1)
يوم الدين: هو يوم الجزاء والحساب، قال ابن عباس رضي الله عنهما:(يوم حساب الخلائق وهو يوم القيامة. . .) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (1/ 29)، وجامع البيان (1/ 98).
وتخصيص لفظ الدين من بين باقي ما يقع يوم القيامة لكونه أدخل في الترهيب والترغيب ولكونه أيضاً مشعراً بالعدل فيُجازى بما يعادل أعماله المجزي عنها.
وإضافته إلى الله وصف بالعدل الذي به تخلد الملوك وتُمدح قال ابن عاشور: (. . . فلذلك لم يقلْ ملك يوم الحساب فوَصفُه بأنه ملك يَوم العدل الصِّرف وصف له بأشرف معنى المُلك فإن الملوك تتخلد محَامدهم بمقدار تفاضلهم في إقامة العدل وقد عرف العرب المِدْحةَ بذلك) انظر: إرشاد العقل السليم (1/ 15)، والتحرير والتنوير (1/ 177).
والأحرار، كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته، منتظرون لمجازاته، راجون ثوابه، خائفون من عقابه، فلذلك خصه بالذكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من الآية المذكورة سبب تخصيص ذكر الله لملكه ليوم الدين مع أن ملكه أعظم وأشمل من ذلك إلا أن السبب في تخصيص ذلك بالذكر هو إظهار ملكه سبحانه وتعالى وانقطاع أملاك الآخرين.
قال البغوي: (. . . وإنما خص يوم الدين بالذكر مع كونه مالكا للأيام كلها لأن الأملاك يومئذ زائلة فلا ملك ولا أمر إلا له. . .)
(2)
.
وقال جلال الدين المحلي: ({مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} (الفاتحة: 4) أي الجزاء وهو يوم القيامة وخص بالذكر لأنه لا ملك ظاهراً فيه لأحد إلا لله تعالى بدليل {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} (غافر: 16))
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً: الزجاج، وابن جرير، والواحدي، وابن الجوزي، وابن كثير، والخازن
(4)
.
وقد أشار بعض المفسرين إلى أن قراءة من قرأ "ملك "
(5)
تؤيد هذا
(1)
انظر: تفسير السعدي (39).
(2)
انظر: معالم التنزيل (1/ 14).
(3)
انظر: تفسير الجلالين (10).
(4)
انظر: معاني القرآن للزجاج (1/ 47)، وجامع البيان (1/ 94)، والوسيط (1/ 67)، وزاد المسير (34)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 157)، ولباب التأويل (1/ 20).
(5)
قرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب "مالك "وقيل إنها أبلغ لأن كل ملك مالك ولاعكس، وقرأ بقية السبعة "ملك " وقيل إنها أبلغ لما فيها من زيادة البناء فتدل على كثرة الثواب. انظر: جامع البيان (1/ 94)، ومعالم التنزيل (1/ 14)، والمحرر الوجيز (42)، وحاشية الصاوي على الجلالين (4/ 670)، والحجة للقراء السبعة للفارسي (1/ 7).
المعنى، قال أبو السعود:({مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} (الفاتحة: 4) صفةٌ رابعة له تعالى، وتأخيرُها عن الصفات الأُوَل مما لا حاجة إلى بيان وجهِه، وقرأ أهلُ الحرمَيْن المحترمَيْن (ملِك) من المُلْك الذي هو عبارةٌ عن السلطان القاهر، والاستيلاءِ الباهر، والغلبةِ التامة، والقُدرةِ على التصرف الكليّ في أمور العامة، بالأمر والنهي، وهو الأنسبُ بمقام الإضافة إلى يوم الدين، كما في قوله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} (غافر: 16))
(1)
، كما أشار إلى هذا المعنى ابن جرير الطبري
(2)
، وقال بعض المفسرين أن تخصيص الملك بالذكر هنا لتعظيم شأن ذلك اليوم فهو عظيم في جمعه وحوادثه، قال ابن عطية:(ولكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً:
الجرجاني
(4)
، وأبوالسعود، والقاسمي.
(5)
وعند التأمل فيما ذكره المفسرون هنا نجد أنه يمكن الجمع بين الاستنباطين فيكون تخصيص ملك الله ليوم الدين بالذكر - مع أنه مالك له ولغيره - من باب إظهار ملكه في ذلك اليوم وانقطاع أملاك الآخرين كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} (غافر: 16)، وكذلك لعظم هذا اليوم وما يقع
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 14).
(2)
انظر: جامع البيان (1/ 95).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (42).
(4)
هو: عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني الأشعري الشافعي نحوي فقيه مفسر له مؤلفات منها: إعجاز القرآن والعوامل المائة وتفسير الفاتحة وغيرها، توفي عام 471 هـ. انظر: طبقات الشافعية (1/ 41)، ومعجم المؤلفين (5/ 310).
(5)
انظر: درج الدرر في تفسير الآي والسور (1/ 87)، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 15)، ومحاسن التأويل (1/ 248)،.
فيه من حوادث عظام، وعلى هذا فلا منافاة بين الاستنباطين. والله أعلم.
طلب العبد الإعانة من الله دليل على أن العبد فاعل للأشياء ليس مجبوراً عليها
.
قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (الفاتحة: 5).
2 -
قال السعدي رحمه الله: (وتضمنت إثبات مذهب أهل السنة والجماعة في القدر، وأن جميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وأن العبد فاعل حقيقة، ليس مجبوراً على أفعاله
(1)
، وهذا يفهم من قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} ، فلولا أن مشيئة العبد مضطر فيها إلى إعانة ربه وتوفيقه لم يسأل الاستعانة). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة عقدية وهي أن العبد فاعل للفعل حقيقة وليس مجبوراً على فعله ووجه استنباط ذلك من الآية أنه يطلب من الله الإعانة على العبادة ولا يكون ذلك إلا لمن يفعل العبادة باختياره، وهذه الآية تدل على هذا الاستنباط بدلالة اللزوم لأن من لازم طالب الإعانة على العبادة أن يكون فاعلاً للعبادة باختياره لا مجبوراً عليها وإلا لم يكن لطلبه معنى.
(1)
خلافاً للجبرية الذين غلواً في إثبات القدر حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل حقيقة بل هو في زعمهم لا حرية له، ولا اختيار، ويكفي في رد باطلهم هذا أن ما زعموه فيه اتهام باطل لله عز وجل بالظلم للعباد بتكليفهم مالا قدرة لهم عليه ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم، تعالى الله عن ذلك. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 118 و 393)، وبدائع الفوائد (4/ 1615)، والملل والنحل (1/ 85)، وشرح العقيدة الواسطية للهراس (187).
(2)
انظر: تيسير اللطيف المنان لابن سعدي (12).
قال ابن جزي الكلبي
(1)
: (. . . {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية، وأن الحق بين ذلك)
(2)
.
وهذا الاستنباط دقيق ودلالة الآية عليه في غاية الدقة، قال ابن القيم: فصل في تضمنها - أي سورة الفاتحة - الرد على الجبرية: (. . . . الوجه الثالث: إثبات العبادة والاستعانة لهم ونسبتها إليهم بقوله نبعد ونستعين وهي نسبة حقيقية لا مجازية، والله لا يصح وصفه بالعبادة والاستعانة التي هي من أفعال عبيده، بل العبد حقيقة هو العابد المستعين، والله المعبود المستعان به)
(3)
، وقال حقي
(4)
: (. . . ففيه تحقيق لمذهب أهل السنة والجماعة إذ فيه إثبات، الفعل من العبد والتوفيق من الله كالخلق ففيه رد الجبرية النافين للفعل بقوله إياك نعبد. . .)
(5)
، وممن قال به كذلك من المفسرين: السيوطي، وصديق حسن خان
(6)
.
(1)
هو: أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن جزي الكلبي عالم مشارك في الفقه واللغة والتفسير له تصانيف منها التسهيل لعلوم التنزيل، وشرح ألفية بن مالك وغير ذلك توفي 785 هـ. انظر: إنباء الغمر (1/ 105) ومعجم المؤلفين (2/ 72).
(2)
انظر: التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 46).
(3)
انظر: بدائع التفسير (1/ 168).
(4)
هو: إسماعيل حقي بن مصطفى الإسلامبولي الحنفي الخلوتي، المولى أبو الفداء: متصوف مفسر، تركي مستعرب، ولد في آيدوس وسكن القسطنطينية، وانتقل إلى بروسة، وكان من أتباع الطريقة (الخلوتية) فنفي إلى تكفور طاغ، وأوذي، وعاد إلى بروسة فمات فيها عام 1127 هـ، له كتب عربية وتركية. فمن العربية: روح البيان في تفسير القرآن يعرف بتفسير حقي، والرسالة الخليلية تصوف، والأربعون حديثاً. انظر: الأعلام للزركلي (1/ 313).
(5)
انظر: روح البيان (1/ 20).
(6)
انظر: الإكليل (1/ 291)، وفتح البيان (1/ 48).
ذِكْر الاستعانة بعد العبادة دليل على احتياج العبد لمعونة الله له على أداء العبادة
.
قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (الفاتحة: 5).
3 -
قال السعدي رحمه الله: (وذكر {الاستعانة} بعد {العبادة}
(1)
مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها والمناسبة في ذلك أن العبد محتاج إلى إعانة الله له على أداء العبادة وإلا لم يستطع أن يقوم بشيء من ذلك.
وقد أشار إلى هذا الاستنباط وأيده بعض المفسرين منهم: البقاعي حيث قال: (. . . {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} إشارة إلى أن عبادته لا
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً آخراً في هذا الموضع وهو سبب تقديم العبادة على الاستعانة وقد لخص الخازن ما ذكروه فقال: (فإن قلت: الاستعانة على العمل إنما تكون قبل الشروع فيه فلم أخر الاستعانة على العبادة وما الحكمة فيه؟ قلت ذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن هذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل ونحن بحمد الله نجعل التوفيق والاستطاعة مع الفعل فلا فرق بين التقديم والتأخير، الثاني: أن الاستعانة نوع تعبد فكأنه ذكر جملة العبادة أولاً ثم ذكر ما هو من تفاصيلها ثانياً، الثالث: كأن العبد يقول شرعت في العبادة فإني أستعين بك على إتمامها فلا يمنعني من إتمامها مانع، الرابع: إن العبد إذا قال إياك نعبد حصل له الفخر وذلك منزلة عظيمة فيحصل بسبب ذلك العجب فأردف ذلك بقوله وإياك نستعين ليزول ذلك العجب الحاصل بسبب تلك العبادة. . .) انظر: لباب التأويل (1/ 20)، وكذلك جامع البيان (1/ 100).
(2)
انظر: تفسير السعدي (39).
تتهيأ إلا بمعونته. . .)، وكذلك ابن بدران
(1)
(2)
.
ومما يؤيد هذا الاستنباط ويؤكده أن ذكر الخاص بعد العام مع دخوله فيه له فائدة ومعنى، وفائدته هنا احتياج العبد لمعونة الله له على أداء العبادة كما يريد الله، ولو لم يكن هذا المعنى مراداً لم يكن تخصيص الاستعانة بالذكر هنا فائدة.
وهذا الاستنباط له فائدة كبيرة وهي معرفة رافد من أعظم روافد الإعانة على أداء العبادة وهو الاستعانة بالله، وكذلك فيه تنشيط للعبد بأداء العبادة والإقبال عليها بنشاط وهمة لأنه يشعر بأن الله معه يعينه ويسدده
(3)
.
الدعاء بالاهتداء إلى الصراط المستقيم من دلالات النبوة
.
قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} (الفاتحة: 6).
4 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . وتضمنت إثبات النبوة في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة). ا. هـ
(4)
.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دلالة من دلالات النبوة، ووجه
(1)
انظر: نظم الدرر (1/ 33)، وجواهر الأفكار (40).
(2)
هو: عبدالقادر بن أحمد بن مصطفى الدومي ثم الدمشقي المعروف بابن بدران، فقيه أصولي مشارك في أنواع العلوم، له مؤلفات كثيرة منها: جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار، وشرح سنن النسائي، وغيرها، توفي عام 1346 هـ. انظر:، الأعلام للزركلي (4/ 162)، ومعجم المؤلفين (5/ 283).
(3)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (1/ 112).
(4)
انظر: تفسير السعدي (39).
استنباط ذلك من الآية أن الهداية إلى الصراط المستقيم لا تتحقق إلا بوجود من يدل عليها وهو هنا الرسول فالاستنباط هنا بدلالة الالتزام يلزم منها ثبوت النبوة لأنه لا بد من موضح لهذا الطريق ومبين وهم الرسل.
وقد بين هذا الاستنباط ابن القيم حيث قال: (. . . وتضمنت - أي سورة الفاتحة - إثبات النبوات من جهات عديدة:. . . الموضع السادس: قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام وهو بعد الدلالة والبيان ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل. . .)
(1)
.
وهذا معنى دقيق ولطيف أشار إليه السعدي في هذه الآية ودلالات النبوة كثيرة ولكن استخراجها من هذه الآية يدل على عمق فهم المؤلف وعظم تدبره.
(1)
انظر: بدائع التفسير (1/ 116)
سورة البقرة
الجمع بين الصلاة والزكاة في القرآن لأن الصلاة علامة الإخلاص والزكاة علامة الإحسان وبهما تتم سعادة العبد
.
قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} (البقرة: 3).
5 -
قال السعدي رحمه الله: (وكثيراً ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الجمع بين الصلاة والزكاة في كثير من الآيات القرآنية وأن المراد بذلك الجمع بين الإخلاص للمعبود والإحسان إلى العبيد.
(1)
انظر: تفسير السعدي (41)، و (83).
وقد ذكر ابن كثير هذا الاستنباط وأيده بقوله: (. . . قلت: كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكل عليه؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم. . .)
(1)
وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (. . . وأما قرانه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جداً فالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى دعاؤه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه وفي الزكاة بالإحسان إلى الخلق بالمال والنفع من نصر المظلوم وإغاثة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج. . .)
(2)
وأشار ابن الجوزي إلى وجه آخر لهذا الجمع وهو: أنه جمع بين فعل البدن وبين التكليف المتعلق بالمال
(3)
.
ولا تنافي بين هذه الأوجه من المناسبات في الجمع بين الصلاة والزكاة فهو يحتمل الكل فمنها ما ذكره السعدي وهو الإخلاص والإحسان، ومنها ما ذكره ابن الجوزي وهو الجمع بين أنواع العبادات المالية والبدنية.
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 186).
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (28/ 362).
(3)
انظر: زاد المسير (39)
تخصيص اليوم الآخر بالذكر بعد العموم لأنه باعث على الرغبة والرهبة والعمل
.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلَكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} (البقرة: 4).
6 -
قال السعدي رحمه الله: (ثم قال: {وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} و"الآخرة" اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم، لأن الإيمان باليوم الآخر، أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل. . .) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص اليوم الآخر بالذكر مع أنه داخل في عموم الإيمان بالغيب، وبيَّن المناسبة في ذلك وهي أن الإيمان باليوم الآخر والوصول إلى درجة اليقين باعث على العمل، وهذا من باب ذكر الخاص بعد العام، وذِكْر الخاص بعد العام إن لم يشتمل على فائدة فلا جدوى منه.
قال ابن عاشور مؤيداً هذا الاستنباط: (. . . وقوله: {وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} عطف صفة ثانية وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة ثانية بعد هذه الحياة، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه مِلاك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب. . .)
(2)
، وكذلك ممن ذكر
(1)
انظر: تفسير السعدي (41).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (1/ 239).
هذا الاستنباط وأيده العثيمين
(1)
.
وهذا الاستنباط من اللفتات الدقيقة التي لا يكاد أن يُنظر إليها فأهوال اليوم الآخر، ونعيم الآخرة ولذتها لا شك أن ذلك مرغب لفعل الطاعة ومانع لفعل المعصية مما يجعل لهذا التخصيص معنى عظيم ومؤثر.
ومن المفارقات العجيبة التي تدعو إلى الحيرة أن بعض من يؤمن باليوم الآخر حبسهم الكسل عن التقدم والعمل، بينما بعض من لا يؤمن باليوم الآخر لديهم من الأعمال التي نفعت البشرية شيء كثير، وهذه المفارقة تدعونا أن نتأمل هذا الاستنباط الذي فيه إشارة إلى عمل ما ينفع الإنسان في دينه ودنياه، وأن الإيمان باليوم الآخر ليس معناه أن ننتظر وننوح على أهوال يوم القيامة، وإنما نكون أكثر فاعلية وعملاً وإنتاجاً؛ لأن هذا هو ثمرة الإيمان باليوم الآخر.
استعمال حرف الاستعلاء ((على)) في الهداية لاستعلاء صاحبها، واستعمال حرف ((في)) في الضلالة لأن صاحبها منغمس فيها محتقر
.
قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدَى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} (البقرة: 5).
7 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {عَلَى هُدَى مِنْ رَبِّهِمْ} وأتى بـ "على " في هذا الموضع، الدالة على الاستعلاء، وفي الضلالة يأتي بـ "في " كما في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} (سبأ: 24)؛ لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى، مرتفع به،
(1)
انظر: تفسير القرآن الكريم سورة البقرة للعثيمين (1/ 31).
وصاحب الضلال منغمس فيه محتَقر). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً بلاغياً وهو مناسبة التعبير بـ "على" مع الهداية والتعبير بـ "في" مع الضلالة، وأن معنى الاستعلاء مناسب للهداية فصاحب الهداية مرتفع بها، وحرف الظرفية "في" مناسب للضلالة والانغماس فيها.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن عاشور مبيناً وجه البلاغة هنا: (وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تمثيلاً لحال المهتدي بحال متصرّف في فرسه يركضه حيث شاء فهو متمكّن من شيء يبلغ به مقصده، وهي حالة مُماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب، متَسعَ النظر، منشرحَ الصدر: ففيه تمثيلية مكنية وتبعية.
وجيء في جانب الضالّين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبس بالوصف تمثيلاً لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يُفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه)
(2)
وقال الرازي موافقاً السعدي في هذا الاستنباط: (وذكر في الهدى كلمة " على " وفي الضلال كلمة " في " لأن المهتدي كأنه مرتَفع مطَّلع فذكره بكلمة " التعالي " والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكره بكلمة " في ")
(3)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (41).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (22/ 193).
(3)
انظر: التفسير الكبير (25/ 222)
وقد ذكر هذا الاستنباط وأيده جمع من المفسرين أيضاً منهم: الزمخشري، وأبو حيان، والبيضاوي
(1)
.
وهذا تعبير بلاغي دقيق وهو المخالفة بين حرفي الجر في الاستعمال حيث دخل حرف الاستعلاء على الهداية لبيان علو مكانة المهتدين وشرف منزلتهم في الدنيا والأخرى وتحبيب الهداية إلى الناس لأن المكان العالي محبوب لديهم.
ودخول حرف الظرفية الدال على الانغماس على الضلالة لبيان مكانة الضلالة وأهلها وأنهم في سفول وحيرة وهذا فيه تنفير من الضلالة.
تخصيص إعداد النار للكفار دليل على أن الموحدين لا يخلدون فيها
.
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} (البقرة: 24)
8 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}. . . وفيها أيضاً، أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار، لأنه قال:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها، لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج
(2)
(1)
انظر: الكشاف (874)، والبحر المحيط (7/ 268)، وأنوار التنزيل (3/ 107).
(2)
هي: من أوائل الفرق التي ظهرت في تاريخ الإسلام إلا أنها انقسمت إلى ما يقارب العشرين فرقة، وكبار فرق الخوارج سبع وهي: المحكمة الأولى، والأزارقة، والنجدات، والثعالبة، والعجاردة، والأباضية، والصفرية، كان أول أصولهم تكفير صاحب الكبيرة وخلوده في النار ثم تأثروا بكلام الجهمية في القرآن، والرؤية، ومن أصولهم الأخذ بالقرآن وترك السنة التي يطنون أنها مخالفة للقرآن كالرجم ونصاب السرقة ونحو ذلك. انظر: الملل والنحل (1/ 106)، والموسوعة الميسرة (2/ 1053).
والمعتزلة
(1)
(2)
) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الموحدين لا يخلدون في النار، ووجه استنباط ذلك من الآية هنا بدلالة مفهوم المخالفة حيث أن الله ذكر في الآية أن النار معدة للكافرين ومفهوم
المخالفة أن غير الكافرين لا يخلدون فيها لأن النار ليست معدة لهم وإن دخلوها فهو دخول مؤقت.
قال العثيمين ذاكراً هذا الاستنباط: (ومن فوائد الآية: أن النار دار للكافرين؛ لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}؛ وأما من دخلها من عصاة المؤمنين فإنهم لا يخلدون فيها؛ فهم فيها كالزوار؛ لا بد أن يَخرجوا منها؛ فلا تسمى النار داراً لهم؛ بل هي دار للكافر فقط؛ أما المؤمن العاصي، إذا لم يعف الله عنه، فإنه يُعذَب فيها ما شاء الله، ثم يخرج منها إما
(1)
هي: فرقة نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، اعتمدت العقل في فهم العقيدة الإسلامية، اشتهرت بأصولها الخمسة وهي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أصولهم أن الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه، وأن صاحب الكبيرة مخلَّد في النار، ونفي الرؤية، وغير ذلك من البدع والضلالات. انظر: الفرق بين الفرق (112)، والملل والنحل (38)، والموسوعة الميسرة (1/ 64).
(2)
إشارة إلى مذهب الخوارج والمعتزلة في أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار .. انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (444)، والخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية د. غالب عواجي (336)، والخوارج وآراؤهم د. شوقي عبدالله (136)، وتأثير المعتزلة في الخوارج عبداللطيف الحفظي (20).
(3)
انظر: تفسير السعدي (46) و (194).
بشفاعة؛ أو بمنة من الله وفضل؛ أو بانتهاء العقوبة .. )
(1)
، وممن ذكر ذلك وأيده السمعاني
(2)
، والهرري
(3)
(4)
.
وما ذهب إليه السعدي في الاستنباط من هذه الآية ومن وافقه من المفسرين صحيح فالآية تدل على أن النار أُعدت أصالة للكفار مما يُفهم منه على أن غيرهم ليس بخالد فيها وإن دخلها. والله أعلم.
بيان سبب العذاب أنه الكفر دليل على أن العذاب مستحق بأسباب وهي الكفر والمعاصي
.
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} (البقرة: 24).
(1)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (1/ 88).
(2)
هو: الإمام العلامة، مفتي خراسان، شيخ الشافعية، أبو المظفر منصور ابن محمد بن عبد الجبار بن أحمد التميمي، السمعاني، المروزي، الحنفي كان، ثم الشافعي، ولد سنة ست وعشرين وأربع مئة، صنف كتاب (الاصطلام)، وكتاب (البرهان)، وله (الأمالي) في الحديث، وتفسيره ثلاث مجلدات (1)، وكتاب (القواطع) في أصول الفقه تعصب لأهل الحديث والسنة والجماعة، وكان شوكا في أعين المخالفين، وحجة لأهل السنة. وتوفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربع مئة عاش ثلاثا وستين سنة رحمه الله. انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 114)، وطبقات المفسرين للداودي (2/ 339).
(3)
هو: أبو ياسين، محمد أمين بن عبدالله بن يوسف بن حسن الأرمي، العلوي، الأثيوبي، الهرري، نزيل مكة، ولد في الحبشة سنة ألف وثلاثمائة وثمان وأربعين من الهجرة، له مؤلفات كثيرة من كل الفنون تربو على الأربعين، منها: الباكورة الجنية في إعراب متن الأجرومية، وسلم المعراج على خطبة المنهاج، وتفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، كان مدرساً بالحرم المكي ودار الحديث الخيرية بمكة، ثم هو الآن متفرغ للتأليف. انظر: مقدمة تفسيره (5) ..
(4)
انظر: تفسير أبي المظفر السمعاني (1/ 59)، وحدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن للهرري (1/ 239).
9 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه، وهو الكفر، وأنواع المعاصي على اختلافها). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن العذاب مستحق بأسبابه كالكفر وسائر المعاصي وهذا استنباط بإحدى أنواع دلالة الالتزام وهي دلالة الإيماء والتنبيه، ووجه ذلك تعليل الحكم بكفرهم أي أن الله أعد النار للكفار لكفرهم ولو لم يكن هذا الاقتران مقصوداً لكان سياقه هنا لا معنى له.
ومما يؤكد هذا الاستنباط ويؤيده أن عذاب الله وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه لا يكون ظلماً ولا تشفياً أو غلظة وقسوة بل لا يكون ذلك إلا بسبب، وهذا هو محض الحكمة والعدل 0
(2)
وقد أكد الله هذا المعنى في كتابه في أكثر من آية فقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (ص: 28). وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (الجاثية: 21).
وفي هاتين الآتين يتضح أن الفرق بين الفئتين إنما هو بسبب الأعمال التي يقومون بها.
(1)
انظر: تفسير السعدي (46).
(2)
انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/ 602 و 722).
امتنان الله على الناس بما خلقه لهم في الأرض دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة
.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (29)} (البقرة: 29).
10 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أي: خلق لكم، برا بكم ورحمة، جميع ما على الأرض، للانتفاع والاستمتاع والاعتبار، وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة
(1)
والطهارة، لأنها سيقت في معرض الامتنان). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة أصولية وهي أن الأصل في
(1)
وهذه المسألة وهي - هل الأصل في الأشياء الإباحة- حصل فيها خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال:
القوال الأول: أن الأصل في الأشياء الإباحة، ووجه قول القائلين بالإباحة أنه سبحانه وتعالى غني على الحقيقة جواد على الإطلاق والغني الجواد لا يمنع ماله عن عبيده إلا ما كان فيه ضرر فتكون الإباحة هي الأصل باعتبار غناه سبحانه وجوده والحرمة لعوارض فلم تثبت فبقى على الإباحة، وهذا مذهب الشافعية وكثير من أصحاب أبي حنيفة.
القول الثاني: أن الأصل في الأشياء الحظر، ووجه القول بالحظر إن الأشياء كلها مملوكة لله تعالى على الحقيقة، والتصرف في ملك الغير لا يثبت إلا بإباحة المالك فلما لم تثبت الإباحة بقي على الحظر لقيام سببه وهو ملك الغير، وهذا منسوب إلى أبي حنيفة.
القول الثالث: التوقف حتى يأتي دليل على الحظر أو الإباحة، ووجه القول بالتوقف إن الحرمة والإباحة لا تثبت إلا بالشرع فقبل وروده لا يتصور ثبوت واحدة منهما فلا يحكم فيها بحظر ولا إباحة، وهذا مذهب أكثر المالكية. انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 20)، والمحرر الوجيز (69)، وتفسير حقي (1/ 90).
(2)
انظر: تفسير السعدي (48).
الأشياء الإباحة والطهارة ودليله على ذلك هو أن الله امتن على الناس بما خلقه لهم في الأرض وكان السياق سياق امتنان فدل على الإباحة.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الكيا الهراسي:(يدل على إباحة الأشياء في الأصل إلا ما ورد فيه دليل الحظر)
(1)
، وقال القاسمي:(ومعنى لكم لأجلكم ولانتفاعكم، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل على النقل عن هذا الأصل)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن جزي الكلبي، والبقاعي، وابن بدران، والمراغي، والدوسري
(3)
(4)
.
المخالفون:
وممن خالف في هذا الاستنباط ابن العربي حيث يرى أن السياق سياق اعتبار فلا دلالة في الآية على هذه القاعدة، فقال مبيناً ذلك: (. . . وتحقيق ذلك أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم وجريانها في التقديم والتأخير بحكم الإرادة. . . . وليس في الإخبار بهذه العبارة عن هذه الجملة ما يقتضي حكم الإباحة ولا جواز التصرف؛
(1)
انظر: وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 8).
(2)
انظر: ومحاسن التأويل (1/ 311)
(3)
هو: عبدالرحمن بن محمد بن خلف آل نادر الدوسري، ولد في البحرين 1332 هـ نشأ في الكويت في بيئة صالحة، درس في المدرسة المباركية، وتأثر بعدد من المشائخ منهم: عبدالله الدحيان، وعبدالرحمن الدويش، وقاسم بن مهزع، وله مؤلفات منها: صفوة الآثار والمفاهيم تفسير، والأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة وغير ذلك. توفي عام 1389 هـ. انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (1/ 25)، وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 163).
(4)
انظر: التسهيل لعلوم التنزيل (61)، ونظم الدرر (1/ 221)، وجواهر الأفكار (149)، وتفسير المراغي (1/ 76)، وصفوة الآثار والمفاهيم (1/ 73).
فإنه لو أبيح جميعه جميعهم جملة منثورة النظام لأدى ذلك إلى قطع الوصائل والأرحام والتهارش في الحطام. . .)
(1)
.
النتيجة:
وسبب الخلاف هنا هو السياق فابن العربي يرى أن الآية جاءت في سياق الاعتبار فلا تدل على هذه القاعدة، وأما من رأى أن السياق سياق اعتبار وانتفاع فيرى أن في الآية دلالة
على هذه القاعدة حيث أن الله أخبر بأنه خلقه لنا على وجه المنة علينا، وأبلغ وجوه المنة إطلاق الانتفاع فثبتت الإباحة
(2)
.
وعند التأمل نجد أن السياق سياق اعتبار وانتفاع كما قرر ذلك بعض المفسرين قال ابن الجوزي: (. . . فبعضه للانتفاع وبعضه للاعتبار. . .)
(3)
، وذكر هذا أيضاً: البيضاوي والألوسي
(4)
، وأشار إليه السعدي عند ذكره لهذا الاستنباط، فلا تعارض بين الأمرين حتى يكون أحدهما مانعاً من استنباط هذه القاعدة من هذه الآية، وبناء على ذلك فالآية يستنبط منها هذه القاعدة الأصولية قال ابن بدران:(. . . والذي تقتضيه الآية: أن الله خلق لنا ما في الأرض جميعاً وإذا كان مخلوقاً لنا والله تعالى ذكره في معرض النعم التي عمت المكلفين بأسرهم فيكون مباحاً لنا إلا أن يأتي بيان من الشرع يمنع شيء منه فإننا نتركه عملاً بذلك البيان. . .)
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 20).
(2)
انظر: غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر للحموي (1/ 209).
(3)
انظر: تفسير السعدي (46).
(4)
انظر: زاد المسير (52)، وروح المعاني (1/ 215)، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 48).
(5)
انظر: جواهر الأفكار (149).
الجمع بين الخلق والعلم لأن الخلق دليل على علم الله وحكمته وقدرته سبحانه وتعالى
.
(البقرة: 29)
11 -
قال السعدي رحمه الله: (وكثيراً ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]، لأن خلقه للمخلوقات، أدل دليل على علمه، وحكمته، وقدرته) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الجمع بين الخلق والعلم في كثير من الآيات القرآنية وهذه المناسبة هي أن الخلق أدل دليل على العلم الكامل بهذه المخلوقات علم بجزئياتها وكلياتها، ودليل كذلك على حكمته في وضع كل شيء موضعه بإتقان، ودليل على قدرته العظيمة بخلق أشياء لن يقدر أحد على خلقها.
قال الرازي مؤيداً هذا الاستنباط: (. . . قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} يدل على أنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون خالقاً للأرض وما فيها وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالماً بها محيطاً بجزئياتها وكلياتها)
(2)
وقد ذكر هذا الاستنباط وأيده جمع من المفسرين منهم: القرطبي،
(1)
انظر: تفسير السعدي (48).
(2)
انظر: التفسير الكبير (1/ 146).
والبيضاوي، والبقاعي، وأبوالسعود، وابن عاشور
(1)
.
تخصيص سفك الدماء بالذكر يدل على عظم هذا الذنب وشدة مفسدته
.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبَّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ (30)} (البقرة: 30).
12 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وهذا تخصيص بعد تعميم؛ لبيان شدة مفسدة القتل). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية عِظم مفسدة القتل ووجه ذلك أنها ذكرت بعد العموم والخاص بعد العام يدل على معنى والمعنى هنا هو بيان شدة مفسدة القتل.
قال الألوسي موافقاً السعدي على هذا الاستنباط: (. . . والعطف من عطف الخاص على العام للإشارة إلى عظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية)
(3)
، وكذا قال ابن عاشور:(. . . وعُطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به)
(4)
.
يؤكد هذا الاستنباط ويؤيده أمور منها:
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 302)، وأنوار التنزيل وأسرا التأويل (1/ 48)، ونظم الدرر (1/ 225)، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 79)، والتحرير والتنوير (1/ 386).
(2)
انظر: تفسير السعدي (48).
(3)
انظر: روح المعاني (1/ 223).
(4)
انظر: التحرير والتنوير (1/ 402).
أولاً: التعبير بالسفك له دلالة على قبح هذا الفعل وشناعته
(1)
.
ثانياً: ما جاء من النصوص الشرعية التي تبين صراحة إثم هذا الذنب فمنها قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} (النساء: 93). وقوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: 3)
وكذلك ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يُصب دماً حراماً)
(2)
.
ففي هذه النصوص دلالة واضحة على جرم هذا الذنب وشناعته.
ثالثاً: أن هذا الإفراد من العموم - أي إفراد القتل بالذكر مع دخوله في عموم الإفساد في الأرض - فائدة عظمى وهي التنفير من هذه الجريمة التي ذُكرت لوحدها قسيمة للإفساد في الأرض من بين باقي أنواع الإفساد؛ بياناً لشدتها؛ وتحذيراً من الوقوع فيها. والله أعلم.
تكرار الأمر بالإهباط في الآيتين لاختلاف المتعلق فالأوّل علّق به العداوة، والثاني علّق به إتيان الهدى
.
قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} (البقرة: 36)
قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَى فَمَنْ تَبِعَ
(1)
انظر: تفسير حقي (1/ 94).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب قول الله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ، ح (6862).
هُدَايَ فَلَا خَيْرٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} (البقرة: 38).
13 -
قال السعدي رحمه الله (. . . كرر الإهباط، ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَى}) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين سر تكرار الأمر بالإهباط ورأى أن السبب في هذا التكرار هو اختلاف المتعلق بهما فالهبوط الأوّل علّق به العداوة، والثاني علّق به إتيان الهدى كما هو ظاهر عبارة السعدي وإن كانت مختصرة وهذا أحد التوجيهات التي نص عليها كثير من المفسرين في بيان سبب هذا التكرار
(2)
.
وقد وافقه على هذا ابن كثير فقال: (وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير، كما تقول: قم قم، وقال آخرون: بل
الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، والصحيح الأول)
(3)
.
الثاني من توجيهات سبب التكرار ما قاله الكرماني
(4)
أن سبب التكرار هو أن الأول من الجنة والثاني من السماء فقال في ذلك: (. . .
(1)
انظر: تفسير السعدي (50).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 368)، واللباب في علوم الكتاب (1/ 578)، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 55)، والمحرر الوجيز (79)، والبحر المحيط (1/ 320)، ومدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي (48)، وزاد المسير (56).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 247).
(4)
هو: أبو القاسم محمود بن حمزة بن نصر الكرماني المعروف بتاج القراء، أحد العلماء الفقهاء النبلاء، صاحب التصانيف والفضل، كان عجباً في دقة الفهم وحسن الاستنباط، لم يفارق وطنه ولا رحل، وكان في حدود الخمسمائة وتوفي بعدها. صنف لباب التفاسير، والبرهان في معاني متشابه القرآن، والإنجاز في النحو. انظر: معجم الأدباء لياقوت الحموي (19/ 125)، وغاية النهاية لابن الجزري (2/ 291).
كرر الأمر بالهبوط لأن الأول من الجنة والثاني من السماء)
(1)
.
وما ذكره الكرماني ضعيف من وجهين: أحدهما: أنه قال في الهبوط الأول: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36] فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكر قوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ} [البقرة: 36] عقيب الهبوط الثاني أولى. وثانيهما: أنه قال في الهبوط الثاني: {اهْبِطُوا مِنْهَا} والضمير في (منها) عائد إلى الجنة. وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة.
(2)
الثالث من التوجيهات أن سبب التكرار هو أنه للتأكيد وممن قال به البقاعي، والخازن قال الخازن:(والأصح أنه للتأكيد)
(3)
.
والقول بأن التكرار هنا لأجل اختلاف المتعلق وللتأكيد هو الأصح؛ لأن لفظ الآيتين يدل على اختلاف المتعلق، وإعادة اللفظ كاف في قصد التأكيد، قال ابن عاشور: (. . . . كررت جملة {قُلْنَا اهْبِطُوا} فاحتمل تكريرها أن يكون لأجل ربط النظم في الآية القرآنية من غير أن تكون دالة على تكرير معناها في الكلام الذي خوطب به آدم فيكون هذا التكرير لمجرد اتصال ما تعلق بمدلول {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} [البقرة: 36] وذلك قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَى} .
إذ قد فَصَل بين هذين المتعلقين ما اعترض بينهما من قوله: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37] فإنه لو عقب ذلك بقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَى} لم يرتبط كمال الارتباط ولتوهم السامع أنه خطاب للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن فلدفع ذلك أعيد قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا} فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام ولذلك لم يعطف {قُلْنَا} لأن بينهما شبه كمال الاتصال لتنزل قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} من قوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} منزلة التوكيد اللفظي ثم بنى
(1)
انظر: أسرار التكرار (26).
(2)
انظر: التقسير الكبير (2/ 25).
(3)
انظر: نطم الدرر (1/ 296)، ولباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 39).
عليه قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَى} الآية وهو مغاير لما بنى على قوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ليحصل شيء من تجدد فائدة في الكلام لكي لا يكون إعادة {اهْبِطُوا} مجرد توكيد ويسمى هذا الأسلوب في علم البديع بالترديد نحو قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188] وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ)
(1)
.
التعبير بقوله أول كافر أبلغ من التعبير بقوله ولا تكفروا
.
قال تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ (41)} (البقرة: 41).
14 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أبلغ من قوله: (ولا تكفروا به) لأنهم إذا كانوا أول كافر به، كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به، عكس ما ينبغي منهم، وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً بلاغياً وهو أن التعبير بالنهي عن الأولية في الكفر أبلغ من النهي عن مجرد الكفر فقط وعلل ذلك بأن فيه مبادرتهم إلى الكفر وهو عكس ما يراد منهم وهو المبادرة إلى الإيمان، بل سيكون عليهم إثم من تبعهم في ذلك.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (1/ 440).
(2)
انظر: تفسير السعدي (51).
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذه النكتة فقال أبو حيان: (وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش، لما فيها من الابتداء بها)
(1)
، وكذا قال القرطبي:(وخص الأول بالذكر لأن التقدم فيه أغلظ)
(2)
.
وممن أشار إلى ذلك من المفسرين: البغوي، والجصاص، وابن الجوزي، والرازي، والخازن،، وابن بدران، وابن عاشور.
(3)
ولاشك أن المتقدم إلى الكفر أعظم ممن يكفر بعد ذلك وإن كان الكفر مذموماً مطلقاً لكن المبادرة إليه تدل على عدم تأمل الحجة، وعلى إنشاء قدوة سيئة يقتدي بها من جاء بعدها، وكذلك يكون أعظم إثماً لأن عليه إثم من جاء بعده واقتدى به.
الأمر بالركوع مع الراكعين فيه دلالة على وجوب صلاة الجماعة
.
قال تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} (البقرة: 43).
15 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} أي: صلوا مع المصلين، ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها
(4)
)
(1)
انظر: البحر المحيط (1/ 332).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 374).
(3)
انظر: معالم التنزيل (1/ 36)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 37)، وزاد المسير (58)، والتفسير الكبير (1/ 39)، ولباب التأويل (1/ 41)، وجواهر الأفكار (189)، والتحرير والتنوير (1/ 461).
(4)
اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال: القول الأول: إن صلاة الجماعة فرض كفاية وهذا منسوب إلى الشافعي وأبي حنيفة، والقول الثاني: إن صلاة الجماعة سنة مؤكدة وهو مذهب الحنفية والمالكية، والقول الثالث: إن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة ووممن قال بذلك ابن تيمية في أحد قوليه وابن القيم، وهو قول الظاهرية، والقول الرابع: إن صلاة الجماعة فرض عين وليست بشرط لصحة الصلاة وهو مروي عن ابن مسعود، وأبي موسى، وقال به أبوثور، وهو مذهب الحنابلة. انظر: صلاة الجماعة حكمها وأحكامها للسدلان (61).
ا. هـ
(1)
.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية وجوب صلاة الجماعة ووجه ذلك أن الله أمر بالركوع مع الراكعين وذلك يقتضي أن تكون جماعة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أمر بالركوع مع الراكعين، وهذا يلزم منه وجود جماعة إذ لا يكون الفرد جماعة، فدلالة الآية على وجوب الجماعة دلالة لزوم.
قال الشوكاني: (وقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة والخروج إلى المساجد. . .)
(2)
.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين منهم: الجصاص، والواحدي، والرازي، والقرطبي، وأبوحيان، والبقاعي، والنسفي.
(3)
ومما يقوي هذا الاستنباط كلمة "مع" في الآية فهي تقتضي الجمعية والمعية، قال أبوحيان:(. . . ويكون في قوله "مع" دلالة على إيقاعها في جماعة، لأن الأمر بإقامة الصلاة أوّلاً لم يكن فيها إيقاعها في جماعة)
(4)
، كما أشار إلى ذلك ابن عطية، والقرطبي
(5)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (51).
(2)
انظر: وفتح القدير (1/ 91).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 38)، والوجيز (1/ 102)، والتفسير الكبير (1/ 42)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 388)، والبحر المحيط (1/ 336)، ونظم الدرر (1/ 335)، ومدارك التنزيل وحقائق التأويل (49).
(4)
انظر: البحر المحيط (1/ 336).
(5)
انظر: المحرر الوجيز (82)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 388).
التعبير عن الصلاة بالركوع دليل على ركنيته فيها
.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
(البقرة: 43)
16 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية ركنية الركوع ووجه ذلك أن الله عبر عن الصلاة بالركوع والتعبير عن الصلاة بالركوع الذي هو جزء منها يدل على أنه ركن فيها، ودلالة الآية عليه دلالة لزوم، حيث التعبير عن الصلاة بالركوع يلزم منه أنه ركن وإلا لم يعبر به، إذ لا يعبر عن الشيء إلا بما هو أصل فيه.
قال البغوي مؤيداً هذا الاستنباط: (قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} أي صلوا مع المصلين: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذكر بلفظ الركوع لأنه ركن من أركان الصلاة)
(2)
، قال الجصاص عند ذكره فوائد هذه الآية:(. . . أحدهما: إيجاب الركوع، لأنه لم يعبر عنها بالركوع إلا وهو من فرضها. . .)
(3)
وذهب بعض المفسرين إلى معنى آخر وهو أن الركوع إنما خُص بالذكر هنا لأن اليهود وهم المخاطبون في الآية لم يكن في صلاتهم ركوع فذكر الركوع هنا احترازاً عن صلاتهم، قال ابن عاشور:(وقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} تأكيد لمعنى الصلاة لأن لليهود صلاة لا ركوع فيها فلكي لا يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ
(1)
انظر: تفسير السعدي (51).
(2)
انظر: معالم التنزيل (1/ 37).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 38).
الرَّاكِعِينَ (43)})
(1)
وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: البغوي، والكيا الهراسي، والبيضاوي، والألوسي
(2)
.
ولا يمنع من اعتبار الأمرين معاً فالتعبير القرآني يسعهما جميعاً كما قرر ذلك البغوي فقال: (قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} أي صلوا مع المصلين: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذكر بلفظ الركوع لأنه ركن من أركان الصلاة، ولأن صلاة اليهود لم يكن فيها ركوع، فكأنه قال: صلوا صلاة ذات ركوع)
(3)
.
فائدة تقييد قتل النبيين بغير حق، زيادة الشناعة وإلا قتل الأنبياء لا يكون بحق
.
قال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (61)} (البقرة: 61).
17 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} زيادة شناعة، وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق، لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية علة تقييد قتل النبيين بكونه بغير حق مع أن قتلهم لا يكون إلا كذلك، وبين أن العلة هي زيادة الشناعة عليهم بأنهم يقتلون الأنبياء بغير وجه حق وهم يعلمون ذلك ولا يجهلونه، وهذه علة خفية دقيقة يتوجه بها القيد المذكور.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (1/ 473).
(2)
انظر: معالم التنزيل (1/ 38)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 9)، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 59)، وروح المعاني (1/ 247).
(3)
انظر: معالم التنزيل (1/ 37).
(4)
انظر: تفسير السعدي (53).
قال أبو حيان - مؤيداً السعدي على هذا الاستنباط: (. . . ولم يرد هذا على أن قتل النبيين ينقسم إلى قتل بحق وقتل بغير حق، بل ما وقع من قتلهم إنما وقع بغير حق، لأن النبي معصوم من أن يأتي أمراً يستحق عليه فيه القتل، وإنما جاء هذا القيد على سبيل التشنيع لقتلهم، والتقبيح لفعلهم مع أنبيائهم، أي بغير الحق عندهم، أي لم يدّعوا في قتلهم وجهاً يستحقون به القتل عندهم)
(1)
، وقد وافق السعدي أيضاً على هذا الاستنباط بعض المفسرين منهم: ابن عطية، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، وابن عاشور.
(2)
ولجأ بعض المفسرين إلى توجيه آخر وهو أن المراد من ذلك إنما هو وصف للقتل هنا لأن القتل يوصف أحياناً بالحق ويوصف أحياناً أخرى بغير الحق، قال البغوي:(. . . فإن قيل: فلم قال: بغير الحق وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق؟ قيل ذكره وصفاً للقتل، والقتل تارة يوصف بغير الحق وهو مثل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} (الأنبياء: 112)
ذكر الحق وصفاً للحكم لا أن حكمه ينقسم إلى الجور والحق. . .)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: أبوالمظفر السمعاني، الخازن
(4)
.
ولا منافاة بين التوجيهين لأن كليهما مقصود هنا فقتلهم الأنبياء موصوف بأنه بغير حق لزيادة الشناعة عليهم، قال القرطبي: (قوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه، فإن قيل: هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به قيل له: ليس كذلك وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق فكان هذا تعظيماً للشنعة عليهم ومعلوم أنه لا يقتل نبي
(1)
انظر: البحر المحيط (1/ 399).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (94)، وفتح القدير (1/ 109)، وروح المعاني (1/ 276)، ومحاسن التأويل (1/ 348)، والتحرير والتنوير (1/ 530).
(3)
انظر: معالم التنزيل (1/ 46).
(4)
انظر: تفسير السمعاني (1/ 87)، ولباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 50).
بحق ولكن يقتل على الحق فصرح قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} عن شنعة الذنب ووضوحه ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله. . .)
(1)
.
النهي عن قول كلمة راعنا مع جوازها فيه دليل على النهي عن الجائز إذا كان وسيلة إلى محرم
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} (البقرة: 104).
18 -
قال السعدي رحمه الله: (كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين: {رَاعِنَا} أي: راع أحوالنا، فيقصدون بها معنى صحيحاً، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسداً
(2)
، فانتهزوا الفرصة، فصاروا يخاطبون الرسول بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة، سداً لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز، إذا كان وسيلة إلى محرم
(3)
) ا. هـ
(4)
.
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/ 470).
(2)
"راعنا": كلمة كانت اليهود تقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الاستهزاء والسب، هذا قول ابن عباس وقتادة، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناها: اسمع لا سمعت. انظر: جامع البيان (1/ 518)، والنكت والعيون (1/ 169)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 56).
(3)
وهو ما يسمى عند الفقهاء بسد الذرائع، والذرائع: جمع ذريعة، والذريعة: الوسيلة إلى الشئ. ومعنى هذه القاعدة: أن الفعل السالم من المفسدة - في ظاهره - إذا كان وسيلة إليها مُنع منه سداً لباب الفساد، فهو عمل مباح في أصله لكنه يكون وسيلة إلى محظور فيُمنع منه حتى لا يقع المحظور. انظر: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (2/ 279)، وموسوعة القواعد الفقهية للبورنو (6/ 30).
(4)
انظر: تفسير السعدي (61).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة أصولية وهي قاعدة سد الذرائع، ووجه ذلك أن الله نهى المؤمنين عن قول كلمة "راعنا" مع جوازها في الأصل ولكن مُنع المؤمنون من هذه الكلمة لأن فيها تشابهاً مع المعنى الفاسد الذي يقصده اليهود.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن عاشور: (وقد دلت هذه الآية على مشروعية أصل من أصول الفقه وهو من أصول المذهب المالكي يلقب بسد الذرائع
وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور)
(1)
، وقال ابن القيم:(. . . الوجه الرابع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة - مع قصدهم بها الخير - لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم؛ فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب، ويقصدون فاعلا من الرعونة، فنهى المسلمون عن قولها؛ سداً لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون)
(2)
، وممن أشار إلى هذا الاستنباط من المفسرين أيضاً: ابن عطية، والقرطبي، وحقي
(3)
، كما قرر ذلك الشاطبي.
(4)
المخالفون:
خالف في استنباط هذه القاعدة من الآية ابن حزم، فقال: (وقد
(1)
انظر: التحرير والتنوير (1/ 652).
(2)
انظر: أعلام الموقعين (3/ 110).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (119)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 56)، وروح البيان (1/ 197).
(4)
انظر: الموافقات (3/ 76).
احتج بعضهم في هذا بقول الله تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} قالوا: فنهوا عن لفظة (راعنا) لتذرعهم بها إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الحديث الصحيح قد جاء بأنهم كانوا يقولون: راعنا من الرعونة، وليس هذا مسنداً، وإنما هو قول لصاحب ولم يقل الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم: إنكم إنما نهيتم عن قول راعنا لتذرعكم بذلك إلى قول راعنا، وإذا لم يأت بذلك نص عن الله تعالى، ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم في قول أحد دونه)
(1)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، فلا حجة في كلام ابن حزم يعتمد عليها،
وما قاله إنما هو بناء على إنكاره قاعدة سد الذرائع، وهي قاعدة لها أدلة وشواهد كثيرة في النصوص، وأما قوله إن ما ورد إنما هو قول صاحب، فهذا القول جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما
(2)
، وهو من أعلم الناس بالتأويل، ولم يعلم أن أحداً أنكر عليه هذا القول من الصحابة، فيكون قوله حجة. والله أعلم.
لزوم الأدب باستعمال الألفاظ الحسنة المحضة وترك غيرها
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} (البقرة: 104).
19 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . وفيه الأدب، واستعمال الألفاظ، التي لا تحتمل إلا الحسن، وعدم الفحش، وترك الألفاظ
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 185).
(2)
انظر: النكت والعيون (1/ 169).
القبيحة، أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال:{وَقُولُوا انْظُرْنَا} فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً سلوكياً وهو استعمال الألفاظ الحسنة المحضة الخارجة عن الاحتمال، وترك الألفاظ السيئة أو التي تحتمل معنى غير لائق، وذلك قياساً على النهي في هذه الآية فالعلة الجامعة هنا احتمال الأمر غير اللائق.
قال الشوكاني مؤيداً هذا الاستنباط: (. . . وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسبّ، والنقص، وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم؛ سداً للذريعة ودفعاً للوسيلة، وقطعاً لمادة المفسدة، والتطرق إليه، ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل النقص، ولا يصلح للتعريض، فقال: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أي: أقبل علينا، وانظر إلينا)
(2)
، كما أشار إلى ذلك أيضاً من المفسرين: الجصاص، والقرطبي، وحقي، والعثيمين
(3)
.
تخصيص المشرق والمغرب بالذكر لأنهما محل الآيات العظيمة وملكهما فيه دلالة على ملكية غيرهما من الجهات
.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِن اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} (البقرة: 115).
(1)
انظر: تفسير السعدي (61).
(2)
انظر: فتح القدير (1/ 156).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 70)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 56)، وروح البيان (1/ 197)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين سورة البقرة العثيمين (1/ 339).
20 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} خصهما بالذكر، لأنهما محل الآيات العظيمة، فهما مطالع الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكاً لها، كان مالكاً لكل الجهات). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص ملكيته للمشرق والمغرب مع أنه مالك لهما ولكل شيء؛ وبين وجه مناسبة ذلك وهو أنه إذا كان مالكاً لهاتين الجهتين العظيمتين كان مالكاً لغيرهما من الجهات الأخرى من باب أولى.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن جرير الطبري:(. . . والصواب من القول في ذلك: أن الله تعالى ذكره إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكاً، وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك - إعلاماً منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق، وأن على جميعهم - إذ كان له ملكهم - طاعته فيما أمرهم ونهاهم، وفيما فرض عليهم من الفرائض، والتوجهِ نحو الوجه الذي وجهوا إليه، إذْ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً الخازن
(3)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين فقالوا إن سبب التخصيص في ذلك إنما هو للتشريف، قال أبوحيان: (أو اقتصر على ذكرهما تشريفاً لهما، حيث
(1)
انظر: تفسير السعدي (63).
(2)
انظر: جامع البيان (1/ 551).
(3)
انظر: لباب التأويل (1/ 73).
أضيفا لله، وإن كانت الأشياء كلها لله، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى)
(1)
، كما أشار إلى ذلك ابن عادل الحنبلي، والقرطبي
(2)
.
وذهب آخرون إلى أن السبب في هذا التخصيص إنما هو سبب نزول هذه الآية
(3)
، قال ابن عطية: (و {الْمَشْرِقُ} موضع الشروق، {وَالْمَغْرِبُ}
(1)
انظر: البحر المحيط (1/ 530).
(2)
انظر: اللباب في علوم الكتاب (1/ 413)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 76).
(3)
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية على أقوال:
أحدها: أن سبب ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يستقبل بصلاته بيت المقدس بعد هجرته ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، حتى قالت اليهود: إن محمداً وأصحابه، ما دروا أين قبلتهم حتى هديناهم، فأمرهم الله تعالى باستقبال الكعبة، فتكلمت اليهود، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول ابن عباس.
والثاني: أن هذه الآية نزلت قبل أن يفرض استقبال القبلة، فأباح لهم أن يتوجهوا بصلاتهم حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، وهذا قول قتادة وابن زيد.
والثالث: أنها نزلت في صلاة التطوع للسائر حيث توجه، وللخائف حيث تمكن من مشرق أو مغرب، وهذا قول ابن عمر، روى سعيد بن جبير عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أن تصلي أينما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعاً، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعاً، يومئ برأسه نحو المدينة.
والرابع: أنها نزلت، فيمن خفيت عليهم القبلة، ولم يعرفوا جهتها، فَصَلُّوا إلى جهات مختلفة.
روى عاصم بن عبد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فنزلنا منزلاً، فجعل الرجل يأخذ الأحجار، فيعمل مسجداً يصلي فيه، فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه إلى غير القبلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية =
=والخامس: أنها نزلت في النجاشي، وروى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إِنَّ أَخَاكُم النَّجَاشِيّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ " قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم، قال فنزلت:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [سورة آل عمران الآية: 199] قالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} .
انظر: جامع البيان (1/ 549 - 551)، والنكت والعيون (1/ 175 - 177)، وأسباب النزول للواحد (39).
موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات، وخصهما بالذكر وإن كانت جملة المخلوقات كذلك لأن سبب الآية اقتضى ذلك)
(1)
كما أشار إلى ذلك أيضاً القرطبي
(2)
.
والذي يظهر من كلام هؤلاء هو تأثير سبب النزول على التخصيص أياً كان هذا السبب من الأسباب التي وردت.
النتيجة:
والذي يظهر - والله أعلم - أن سبب التخصيص هنا له تعلق بسياق الآية وأن المؤمنين لما أخرجوا من مكة ولما منعهم الكفار من دخولها عام الحديبية وقع في نفوسهم شيء من الحزن في بعدهم عن بيت الله الحرام فجاء هذا التخصيص لإزالة الحزن وبيان أن العبودية لله لا تختص بمكان معين بل المكان الذي هو أرضى لله هو الأفضل وإن لم يكن ذلك في البيت الحرام، قال ابن عاشور:(لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبين أن الأرض كلها لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى وتذكر نعمه وآياته العظيمة فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف رضى الله تعالى ومن كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغني عنه العياذ بالمواضع المقدسة بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها)
(3)
.
(1)
انظر: المحرر الوجيز (126).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 76).
(3)
انظر: التحريروالتنوير (1/ 682).
نفي نيل الإمامة في الدين للظالمين دل بمفهوم المخالفة على أن غير الظالمين ينالونها إذا باشروا أسبابها
.
قال تعالى: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} (البقرة: 124).
21 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} أي: لا ينال الإمامة في الدين
(1)
، من ظلم نفسه وضرها، وحط قدرها، لمنافاة الظلم لهذا المقام، فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة، والشمائل السديدة، والمحبة التامة، والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟ ودل مفهوم الآية، أن غير الظالم، سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن غير الظالم ينال الإمامة إذا بذل أسبابها، ووجه ذلك أن الله بين أن الظالم لا ينال الإمامة فدل بمفهوم المخالفة - مفهوم الصفة - أن غير الظالم ينال الإمامة، قال مجاهد في قوله:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} قال: أما من كان منهم صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى
(1)
وفي العهد هاهنا سبعة أقوال، أحدها: أنه الإمامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والثاني: أنه الطاعة، رواه الضحاك عن ابن عباس، والثالث: الرحمة، قاله عطاء وعكرمة، والرابع: الدين، قاله أبو العالية، والخامس: النبوة، قاله السدي عن أشياخه، والسادس: الأمان، قاله أبو عبيدة، والسابع: الميثاق، قاله ابن قتيبة. رجح السعدي أن المراد بالعهد هنا الإمامة وعليه بنى هذه الاستنباط واختار ذلك جمع من المفسرين منهم: أبي حيان، والشوكاني، وابن الجوزي، وابن جزي الكلبي، وغيرهم. انظر: زاد المسير (86)، والنكت والعيون (1/ 185).
(2)
انظر: تفسير السعدي (65).
به، وأما من كان ظالماً فلا ولا نُعْمَةَ
(1)
عَيْنٍ
(2)
.
قال أبو حيان موافقاً السعدي في هذا الاستنباط: (ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهده من ليس بظالم)
(3)
، وقال بذلك أيضاً من المفسرين: البيضاوي، وجلال الدين المحلي، والألوسي، وابن عاشور،، والهرري
(4)
.
المخالفون:
خالف في ذلك أبوالسعود ورأى أنه ليس بالضرورة أن من ليس ظالماً ينال الإمامة لاستحالة ذلك، فقال:({لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} ليس هذا رداً لدعوتِه عليه السلام بلْ إجابةً خفيةً لها وعِدَةً إجماليةً منه تعالى بتشريف بعضِ ذريتِه عليه السلام بنيل عهدِ الإمامةِ حسبما وقع في استدعائه عليه الصلاة والسلام من غير تعيين لهم بوصفٍ مميزٍ لهم عن جميع مَنْ عداهم فإن التنصيصَ على حرمانِ الظالمين منه بمعزلٍ من ذلك التمييزِ إذ ليس معناه أنه ينالُ كلَّ من ليس بظالم منهم ضرورةَ استحالةِ ذلك كما أشير إليه ولعل إيثارَ هذه الطريقةِ على تعيين الجامعين لمبادئ الإمامة من ذريته إجمالاً أو تفصيلاً وإرسالَ الباقين لئلا ينتظمَ المقتدون بالأئمةِ من الأمةِ في سلك المحرومين، وفي تفصيل كل فِرقةٍ من الإطناب ما لا يخفى مع ما في هذه الطريقة من تخييبِ الكفرةِ الذين كانوا يتمنَّوْن النبوة، وقطعِ أطماعهمَ الفارغةِ من نيلها)
(5)
.
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (1/ 223).
(2)
أي: ولا مسرة عين، قال الخليل:(وجارية ناعمةٌ مُنَعَّمةٌ، وأَنْعَمَ الله بك عيناً، ونَعِمَ بك عيناً، أي: أقرّ بك عَيْنَ من تحبّ وتقول: نُعْمَةُ عينٍ، ونعماء عين، ونُعام عَين. والنّعمة: المسرّة. انظر: العين للخليل باب العين والنون والميم معهما (2/ 162).
(3)
انظر: البحر المحيط (1/ 548).
(4)
انظر: أنوارالتنزيل وأسرار التأويل (1/ 86)، تفسيرالجلالين (28)، وروح المعاني (1/ 377)، والتحريروالتنوير (1/ 706)، وحدائق الروح والريحان (2/ 255).
(5)
انظر: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 156).
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح ومما يؤيده أن حكم أحد الضدين يثبت به الآخر، قال ابن عاشور:(وقوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) استجابة مطوية بإيجاز وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة إبراهيم والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما لأن حكم أحد الضدين يثبت نقيضه للآخر على طريقة الإيجاز، وإنما لم يُذكر الصنف الذي تحقق فيه الدعوة لأن المقصد ذكر الصنف الآخر. . . ولأن المربي يقصد التحذير من المفاسد قبل الحث على المصالح، فبيان الذين لا تتحقق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين)
(1)
. والله أعلم.
تكرار الآيتين لقطع التعلق بالمخلوقين وأن المعول عليه عمل الإنسان نفسه لا أسلافه
.
قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)} (البقرة: 141)
22 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . وكررها
(2)
، لقطع التعلق بالمخلوقين، وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب المجرد للرجال). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي مناسبة تكرار هاتين الآتين؛ وأن سبب التكرار قطع
(1)
انظر: التحرير والتنوير (1/ 706).
(2)
المقصود تكرار هذه الآية في سورة البقرة.
(3)
انظر: تفسير السعدي (70).
تعلق القلوب بالمخلوقين فلا ينفع الإنسان إلا كسبه لا نسبه.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الألوسي:(. . . تكرير لما تقدم للمبالغة في التحذير عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم كما يقال: اتق الله اتق الله. . .)
(1)
، وممن قال به أيضاً البيضاوي، وأبو السعود، وحقي، والشوكاني، وابن عاشور، والدوسري، والهرري
(2)
.
المخالفون:
وقال بعضهم أن سبب تكرار هاتين الآيتين؛ هو اختلاف المخاطب ففي الأولى المراد بالأمة الأنبياء، وفي الثانية المراد أسلاف اليهود.
(3)
النتيجة:
التكرار في هاتين الآيتين لأجل التخويف والتهديد من الاعتماد على عمل الأسلاف وأن الإنسان مسؤول عن نفسه، والتأكيد على هذا المعنى في نفوس الناس، قال ابن عاشور:(تكرير لنظيره الذي تقدم آنفاً لزيادة رسوخ مدلوله في نفوس السامعين اهتماماً بما تضمنه لكونه معنى لم يسبق سماعه للمخاطبين فلم يقتنع فيه بمرة واحدة)
(4)
.
وأما القول بأن سبب التكرار هو اختلاف المخاطب فهو وإن كان
(1)
انظر: روح المعاني (1/ 401).
(2)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 91)، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 170)، وروح البيان (1/ 245)، وفتح القدير (1/ 172)، والتحرير والتنوير (1/ 748).، وصفوة الآثار والمفاهيم (2/ 415)، وتفسيرحدائق الروح والريحان (2/ 343).
(3)
انظر: التفسير الكبير (4/ 82).
(4)
انظر: التحرير والتنوير (1/ 748).
تأسيساً، والتأسيس أولى من التأكيد إلا أنه قول فيه تعسف فلا دليل يؤيده ولا قرينة تساعده، قال الألوسي بعد ذكره لهذا القول:(ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الظاهر).
(1)
وصف العلماء بالعدل والخيار، وقبول شهادتهم؛ دليل على أن إجماعهم حجة
.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (143)} (البقرة: 143).
23 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي الآية دليل على أن إجماع
(2)
هذه الأمة، حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ، لإطلاق قوله:{وَسَطًا} فلو قدر اتفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وسطا، إلا في بعض الأمور، ولقوله:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دليلاً أصولياً على حجية الإجماع وهو أن من وصفوا بالعدل والخيار، وقبول الشهادة كذلك، يقتضي أن ما أجمعوا عليه فهو حجة يجب قبوله وإلا لم يكن لهذه الأوصاف قيمة.
(1)
انظر: روح المعاني (1/ 401).
(2)
الإجماع لغة الاتفاق، ويطلق أيضاً على العزم على الشيء، وشرعاً: اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أمر من أمور الدين. انظر: روضة الناظر (2/ 439)، وقواطع الأدلة للسمعاني (1/ 461).
(3)
انظر تفسير السعدي (71).
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الجصاص:(. . . وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجهين: أحدهما: وصفه إياها بالعدالة وأنها خيار، وذلك يقتضي تصديقها والحكم بصحة قولها وناف لإجماعها على الضلال، والوجه الآخر قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بمعنى الحجة عليهم، كما أن الرسول لما كان حجة عليهم وصفه بأنه شهيد عليهم، ولما جعلهم الله تعالى شهداء على غيرهم فقد حكم لهم بالعدالة وقبول القول؛ لأن شهداء الله تعالى لا يكونون كفارا ولا ضلالا، فاقتضت الآية أن يكونوا شهداء في الآخرة على من شاهدوا في كل عصر بأعمالهم دون من مات قبل زمنهم، كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهيداً على من كان في عصره)
(1)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: السمعاني، والقرطبي، والبيضاوي، والسيوطي، والقاسمي
(2)
.
المخالفون:
خالف في ذلك بعض المفسرين وقالوا إن الآية غاية ما تدل عليه فضيلة هذه الأمة جمعاء فلا دلالة فيها البتة على نفي أو إثبات الإجماع، قال الألوسي:(. . . على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم، وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها)
(3)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: الطوفي، وابن عاشور.
(4)
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 107).
(2)
انظر: وقواطع الأدلة للسمعاني (1/ 463)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 152)، وأنوار التنزيل (1/ 91)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (2/ 412)، والإكليل (1/ 324)، ومحاسن التأويل (1/ 461).
(3)
انظر: روح المعاني (2/ 4).
(4)
انظر: الإشارات الإلهية (1/ 295)، والتحرير والتنوير (2/ 19).
النتيجة:
أن الآية لا تدل صراحة على حجية الإجماع لأنها تتحدث عن عدالة جميع الأمة لاعن طبقة العلماء المختصين بالإجماع، ولكن يمكن أن يستأنس بها من ناحية أن المعنيين بالإجماع هم ممن وصفهم الله بالعدالة فإذا توافقوا كان توافقهم حجة، قال ابن عاشور: (. . . والحق عندي أن الآية صريحة في أن الوصف المذكور فيها مدحٌ للأمة كلها لا لخصوص علمائها فلا معنى للاحتجاج بها من هاته الجهة على حجية الإجماع الذي هو من أحوال بعض الأمة، لا من أحوال جميعها، فالوجه أن الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل للشريعة وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبي صلى الله عليه وسلم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن، وهذا من أحوال إثبات الشريعة، به فسرت المجملات وأسست الشريعة، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام واعتبر فيه غيره عدد التواتر، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها.
وأما كون الآية دليلاً على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلاَّ بأن يقال إن الآية يستأنس بها لذلك فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطاً وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمَلَ عقولَ هذه الأمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإِثبات أحكامها بالاستدلال استنباطاً بالنسبة للعلماء وفَهْماً بالنسبة للعامة، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قَيِّمة وهو معنى كونها وسطاً، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكلَّ فرد، ولما كان الوصف الذي ذكر أثبتَ لمجموع الأمة قلنا إن هذا المجموع لا يقع في
الضلال لا عمداً ولا خطأ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظراً، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساءوا تأويلها، ثم إن العامة تأخذ نصيباً من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال)
(1)
.
السعي بين الصفا والمروة لا يصلح أن يكون عبادة مستقلة
.
قال تعالى: {* إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} (البقرة: 158).
24 -
قال السعدي رحمه الله: ({فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة، أنه لا يتطوع بالسعي مفردا
(2)
إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت، فإنه يشرع مع العمرة والحج، وهو عبادة مفردة). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: التحرير والتنوير (2/ 19 - 20).
(2)
قال ابن قدامة: (لا يستحب التطوع بالسعي كسائر الانساك ولا نعلم فيه خلافاً) انظر: الشرح الكبير (3/ 467).
(3)
انظر: تفسير السعدي (76).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية عدم جواز التطوع بالسعي مفرداً؛ فالسعي ليس عبادة مستقلة بل لابد أن يكون في حج أو عمرة، ووجه ذلك أن الله نفى الجناح فيمن سعى في الحج أو العمرة فدل هذا التقييد على عدم جواز إفراد السعي.
قال الرازي: (واعلم أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضاً من أبعاض الحج، فلهذا السر بين الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا})
(1)
، وممن قال به أيضاً النيسابوري
(2)
، وأبو حيان، والهرري
(3)
.
التطوع المثمر لا يكون إلا بالخير
.
قال تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} (البقرة: 158).
25 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} ودل تقييد التطوع بالخير
(4)
، أن من تطوع بالبدع، التي لم يشرعها الله
(1)
انظر: التفسير الكبير (4/ 143).
(2)
هو: نظام الدين، الحسن بن محمد بن الحسين القمي النيسابوري، ويقال له الأعرج، أصله من بدلة (قم) ومنشأه وسكنه في نيسابور، مفسر، له اشتغال بالحكمة والرياضيات، له مؤلفات منها: غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ولب التأويل. توفي عام 850 هـ. انظر: الأعلام (2/ 216)، ومعجم المؤلفين (3/ 291).
(3)
انظر: غرائب القرآن ورغائب الفرقان (2/ 40)، والبحر المحيط (1/ 631)، وتفسيرحدائق الروح والريحان (3/ 62).
(4)
بناء على أن المراد بالتطوع هنا جميع الطاعات، وهو قول الحسن البصري واختاره الرازي فقال: وهذا أولى لأنه أوفق لعموم اللفظ، وهناك من يرى أن المراد تطوع بالسعي بين الصفا والمروة، ومنهم من يرى أن المراد من تطوع بالزيادة على الواجب. انظر: النكت والعيون (1/ 213)، والتفسير الكبير (4/ 146).
ولا رسوله، أنه لا يحصل له إلا العناء، وليس بخير له، بل قد يكون شراً له إن كان متعمداً عالماً بعدم مشروعية العمل) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن التطوع بالبدع غير مقبول لأن التقييد في الآية بالخير دال على أن ما ليس بخير فلا يكون مقبولاً، فدلالة الآية على ذلك بمفهوم المخالفة، حيث إن مفهوم القيد يدل على أن التطوع بغير الخير غير مقبول ولا مشروع.
وهذا الاستنباط مؤيد بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
(2)
وعند مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)
(3)
.
الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} (البقرة: 168).
26 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما
(1)
انظر: تفسير السعدي (77).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ح (2697)، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، ح (1718).
(3)
انظر: المصدرالسابق.
يقيم البنية واجب، يأثم تاركه لظاهر الأمر
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأكل بما يقيم البنية واجب، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الأمر في الآية للوجوب، والحد الأدنى من القيام بالأمر هو الأكل بقدر ما يقيم البنية.
وعند التأمل نجد استنباط هذا الحكم من هذه الآية فيه بُعد؛ والسبب في ذلك أن الأمر في الآية للإباحة وليس المقصود به الوجوب، قال أبوحيان:(كلوا: أمر إباحة وتسويغ)
(3)
، وكذا قال غيره من المفسرين: كالنسفي، والماوردي، وابن عرفة
(4)
(5)
.
لكن الحكم المستنبط وهو الأكل بقدر ما يقيم البنية ويحفظ حياة الإنسان واجب بعموم النصوص التي تحرم على الإنسان قتل نفسه، والإلقاء بها في التهلكة، والأمر بالحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي أوجب الشارع المحافظة عليها. والله أعلم.
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر وهو أن الآية فيها دليل على النهي عن الأكل الكثير؛ لأنه ليس طيباً، ولكن رده بعض المفسرين لما فيه من البعد. انظر: روح المعاني (2/ 38).
(2)
انظر: تفسير السعدي (80).
(3)
انظر: البحر المحيط (1/ 652).
(4)
هو: أبوعبدالله، محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي، ولد بتونس عام 716 هـ، له تصانيف منها المبسوط في المذهب، ومختصر الحوفي في الفرائض، والتفسير، توفي عام 803 هـ. انظر: ذيل طبقات الحفاظ (5/ 127)، وشذرات الذهب (9/ 61).
(5)
انظر: مدارك التنزيل وحقائق التأويل (91)، والنكت والعيون (1/ 220)، تفسير ابن عرفة (1/ 202).
عدم الشكر دليل على عدم عبادة الله وحده
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} (البقرة: 172).
27 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}
(1)
أي: فاشكروه، فدل على أن من لم يشكر الله، لم يعبده وحده، كما أن من شكره، فقد عبده، وأتى بما أمر به) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من لم يشكر الله لم يعبده، ووجه ذلك من مفهوم المخالفة - مفهوم الشرط- حيث إن المعنى إن كنتم تعبدون الله فاشكروه، ومفهومه انتفاء العبادة عند انتفاء الشكر.
الموافقون:
وافق السعدي بعض المفسرين على هذا الاستنباط، قال البيضاوي:({إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} إن صح أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرون أنه مولى النعم، فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإِتمامه، وهو عدم عند عدمه)
(3)
، وممن قال به أيضاً: ابن كثير، وأبو السعود
(4)
.
(1)
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية استنباطاً لغوياً وهو إن المعلق بلفظ: أن، لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء بهذه الآية، فإنه تعالى علق الأمر بالشكر بكلمة {إن} على فعل العبادة، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً) انظر: التفسير الكبير (5/ 10).
(2)
انظر: تفسير السعدي (81).
(3)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 100).
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 446)، وإرشاد العقل السليم (1/ 190).
المخالفون:
خالف بعض المفسرين، وقالوا إن المراد بالشرط هنا التثبيت وهز النفس، قال أبوحيان:(ولا يراد بالشرط هنا إلا التثبت والهز للنفوس، وكأن المعنى: العبادة له واجبة، فالشكر له واجب، وذلك كما تقول لمن هو متحقق العبودية إن كنت عبدي فأطعني، لا تريد بذلك التعليق المحض، بل تبرزه في صورة التعليق، ليكون أدعى للطاعة وأهز لها)
(1)
، وممن قال به أيضاً ابن عطية، والخازن، وحقي
(2)
.
النتيجة:
والصحيح هو الجمع بين الوجهين من هذا الاستنباط فإن مفهوم الشرط هنا معمول به، كذلك يراد به التثبيت وهز النفس، فلا منافاة بين الوجهين. والله أعلم.
ختم الله هذه الآية بهذين الاسمين المناسبين للإباحة والتوسعة على العباد
.
قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} (البقرة: 173).
28 -
قال السعدي-رحمه الله: (وهذه الإباحة والتوسعة، من رحمته تعالى بعباده، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين
(1)
انظر: البحر المحيط (1/ 660).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (153)، ولباب التأويل (1/ 102)، وروح البيان لحقي (1/ 276).
غاية المناسبة فقال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} ). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ختمها بالاسمين العظيمين لله تبارك وتعالى وهما الغفور والرحيم؛ وأن مناسبة ذلك أن الله لما أباح لهم في حال الاضطرار أشياء محرمة وكان في ذلك رحمة بهم ناسب ختمها بهذين الاسمين الدالين على ذلك.
الموافقون:
قال ابن عاشور) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} تذييل قصد به الامتنان، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب
(2)
. . .)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: البغوي، والشوكاني
(4)
.
المخالفون:
بينما ذهب بعض المفسرين إلى أن مناسبة ختم الآية بهذين الاسمين أنه لما ذكر أشياء محرمة اقتضى المنع منها، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم، لأن المخاطب بصدد أن يخالف، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات، فأخبر بأنه غفور للعصاة إذا تابوا، رحيم بهم، أو لأن
(1)
انظر: تفسير السعدي (82).
(2)
وبهذا يزول الإشكال الذي ذكره بعض المفسرين وهو أنه لما قال: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فكيف يليق أن يقول بعده: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم. انظر: التفسير الكبير (5/ 12).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (2/ 121).
(4)
انظر: معالم التنزيل (1/ 98)، وفتح القدير (1/ 197).
المخاطب، إذا اضطر فأكل ما يزيد على قدر الحاجة، فهو تعالى غفور له ذلك، رحيم بأن أباح له قدر الحاجة
(1)
.
وقال بعضهم: أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم، إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض، فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنه رحيم، يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك
(2)
.
وذكر بعض المفسرين أنه لا يصل إلى درجة أكل المحرم اضطرارا إلا بذنب فناسب ذكر المغفرة هنا لأنه لولا المغفرة لتممت عليه عقوبته وفي قوله: {رَحِيمٌ} إنباء بأن من اضطر فأصاب مما اضطر إليه شيئاً لم يبغ فيه ولم يعد تناله من الله رحمة توسعه من أن يضطر بعدها إلى مثله فيغفر له الذنب السابق الذي أوجب الضرورة ويناله بالرحمة الموسعة التي ينال بها من لم يقع منه ما وقع ممن اضطر إلى مثله
(3)
. وهذا الوجه فيه بعد وتكلف حيث أن المؤمن الصالح قد يقع في حال اضطرار إلى فعل ما يحرم عليه ابتلاء له، لا عقوبة بسبب ذنب.
النتيجة:
والأصح في ذلك أن ذكر هاذين الاسمين مناسبته بأن الله رحيم بهم من الهلكة فأباح لهم المحرم بقدر ما يحفظ حياتهم لأن الضرورة تقدر بقدرها، والله غفور لذنبهم متجاوز عنهم فيه
لأنهم لم يرتكبوه عمداً وإنما عن اضطرا، فربْط هذه المناسبة بالحكم الفقهي الذي ذكر قبلها هو الصحيح؛ لظهور المناسبة.
(1)
انظر: البحر المحيط (1/ 665).
(2)
انظر: التفسير الكبير (5/ 12).
(3)
انظر: نظم الدرر (2/ 348)، وجواهر الأفكار (462).
الضرورات تبيح المحظورات
.
قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} (البقرة: 173).
29 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة: "الضرورات تبيح المحظورات
(1)
"فكل محظور، اضطر إليه الإنسان، فقد أباحه له، الملك الرحمن). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية وهي أن الضرورات تبيح المحظورات، ووجه ذلك بالقياس فالمذكورات في الآية الأصل فيها أنها محرمة إلا أنها مع وجود الضرورة أبيحت فدل على أن كل محظور يباح عند الضرورة إليه.
قال الجصاص: (قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. . . فقد ذكر الله تعالى الضرورة. . .، وأطلق الإباحة. . . بوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها)
(3)
، كما قرر ذلك أيضاً بعض المفسرين منهم: العثيمين
(4)
.
(1)
ومعنى هذه القاعدة أن الممنوع شرعاً يباح عند الحاجة الشديدة - وهي الضرورة- لكن بشرط أن لا تقل الضرورة عن المحظور، فإباحة المحظور إنما هو لمعالجة حالة صعبة لا يمكن تحملها، ولا يباح من المحظور الشرعي إلا المقدار الذي تندفع به حالة الضرورة فقط دون توسع في استباحة المحظور. انظر: موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (6/ 263)، والدرر المرضية لجمعة صالح (56).
(2)
انظر: تفسير السعدي (82).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 154).
(4)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (2/ 256).
يجب على القاتل وعلى أوليائه مساعدة ولي المقتول في تنفيذ القصاص إن كانت هذه رغبته
.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. . . (178)} (البقرة: 178).
30 -
قال السعدي رحمه الله: (وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول، إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد، ويمنعوا الولي من الاقتصاص، كما عليه عادة الجاهلية، ومن أشبههم من إيواء المحدثين). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من توجيه الخطاب للمؤمنين أنه يجب عليهم التعاون مع ولي المقتول في تنفيذ القصاص وتمكينه من ذلك.
وأشار بعض المفسرين إلى هذا الاستنباط، قال البقاعي:(وكان الصبر على بذل الروح أعظم الصبر وفعله أعظم مصدق في الإيمان والاستسلام للقصاص أشد وفاء بالعهد أخبر المؤمنين بما أوجب عليهم من ذلك وما يتبعه فقال تعالى ملذذاً لهم بالإقبال عليهم بالخطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا})
(2)
، وقال الرازي:(يا أيها القاتلون كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص وذلك لأن القاتل ليس له أن يمتنع هاهنا وليس له أن ينكر)
(3)
، وممن أشار إليه كذلك: حقي، وابن الفرس
(4)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (84).
(2)
انظر: نظم الدرر (3/ 21).
(3)
انظر: التفسير الكبير (5/ 42).
(4)
انظر: روح البيان لحقي (1/ 284)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 153).
وهذا من الاستنباطات الدقيقة، والنافعة، حيث إن المتأمل للثأرات القبلية، يعلم أن ما يحدث فيها من فتن إنما هو بسبب حماية القاتل وعدم تسليمه للقصاص.
كما أن هذا الاستنباط فيه ضبط لما يستجد الآن من مطالبات لولي المقتول بالتنازل حتى إنه يصبح ملاماً لو لم يستجب، فإذا عُلم أنه يريد القصاص فلا ينبغي الإكثار عليه وإنما ينبغي مساعدته لإقامة القصاص وهذا كله مأخوذ من معنى هذا الاستنباط.
كما أنه فيه قضاء على الجاهلية المنتشرة خصوصاً في المجتمعات القبلية وهي استعياب تسليم الجاني ويعدون هذا من المعايب التي يلامون عليها، بينما هذا الاستنباط يقضي على ذلك ويربط القضية بالإيمان بالله.
كما أن في هذا الاستنباط إشارة إلى حكمة من حكم إقامة القصاص، وهي حفظ الأنفس البريئة التي تذهب في الثارات الجاهلية فإذا تعاون الجميع أولياء القاتل والمقتول على إقامة القصاص كان في ذلك إطفاء لنار الثأر في القلوب والتي عادة يذهب ضحيتها الأبرياء.
مفهوم الحر بالحر يدل على أن الحر لا يقتل بالعبد
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ. . . (178)} (البقرة: 178).
31 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} ودل
بمفهومها على أن الحر، لا يقتل بالعبد
(1)
، لكونه غير مساوٍ له) ا. هـ
(2)
.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الحر لا يقتل بالعبد، ووجه دلالة الآية عليه بمفهوم المخالفة حيث أن تخصيص القصاص بين الحر والحر دال بمفهومه على أن الحر لا يقتل بالعبد.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الخازن:(قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ومعناه أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم فيقتل كل صنف إذ قتل بمثله الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى وبالذكر ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد)
(3)
، وممن قال
(1)
اختلف العلماء في قتل الحر بالعبد فذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والحكم، وخالفهم الجمهور وقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى. وما ذهب إليه أبوحنيفة هو الراجح لأمور منها: قوله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم "أخرجه أبوداود، كتاب الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر، ح (2751)، وابن ماجة، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم، ح (2685/ 2659)، وغيرهما، ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما، والتفاضل في الأنفس غير معتبر بدليل أن الجماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به، ولقوله تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وشريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا، ولأن اعتبار الحرية هنا يؤدي إلى فوات حكمة الردع والزجر فوجب أن يسقط اعتباره. انظر: تفسير ابن كثير (1/ 454)، وروح المعاني (2/ 49)، والمغني لابن قدامة (11/ 473).
(2)
انظر: تفسير السعدي (84).
(3)
انظر: لباب التأويل (1/ 107).
به أيضاً: ابن العربي، والرازي، والطوفي
(1)
، وجلال الدين المحلي
(2)
.
المخالفون:
خالف السعدي في هذا المفهوم من الآية بعض المفسرين، قال أبو السعود:(وليس فيها دِلالةٌ على عدم قتل الحرِّ بالعبد عند الشافعي أيضاً لأن اعتبارَ المفهومِ حيث لم يظهر للتخصيص بالذكر وجهٌ سوى اختصاصِ الحُكم بالمنطوقِ. . .)
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً: ابن جرير الطبري، والجصاص، والبيضاوي، والألوسي، والهرري
(4)
.
النتيجة:
الآية لا تدل على أن الحر لا يقتل بالعبد؛ فلا اعتبار بعموم مفهوم القيد؛ لأن شرط اعتباره ألا يظهر لذكر القيد سبب إلاّ الاحتراز عن نقيضه، فإذا ظهر سبب غير الاحتراز بطل الاحتجاج بالمفهوم، وحينئذٍ فلا دلالة في الآية على ألا يقتل حر بعبد ولا أنثى بذكر ولا على عكس ذلك
(5)
، قال الألوسي: (فالآية كما تدل على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا لم يعلم نفيه بمفهوم الموافقة وقد علم من قتل العبد
بالعبد وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى كذلك لا تدل على أن لا يقتل الحر
(1)
هو: أبوالربيع، نجم الدين عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري البغدادي، الحنبلي، ولد سنة 657 هـ، له تصانيف كثيرة تربو على الأربعين، منها: إبطال الحيل، والآداب الشرعية، والإشارات الإلهية، توفي عام: 716 هـ انظر: مقدمة كتابه الإشارت الإلهية تحقيق حسن قطب (1/ 101 - 153).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 74)، والتفسير الكبير (5/ 44)، والإشارات الإلهية (1/ 313)، وتفسير الجلالين (36).
(3)
انظر: إرشاد العقل السليم (1/ 195).
(4)
انظر: جامع البيان (2/ 110)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 165)، وأنوار التنزيل (1/ 102)، وروح المعاني (2/ 49)، وتفسير حدائق الروح والريحان (3/ 130).
(5)
انظر: التحرير والتنوير (2/ 138).
بالعبد والذكر بالأنثى لأن مفهوم المخالفة كما هو مشروط بذلك الشرط مشروط بأن لا يكون للتخصيص فائدة أخرى، والحديث
(1)
بين الفائدة وهو المنع من التعدي وإثبات المساواة بين حر وحر وعبد وعبد)
(2)
.
وقال الشيخ زاده
(3)
: (وتقرير الجواب أن الآية إنما تدل على مشروعية القصاص عند تحقق الموافقة بين القاتل والمقتول ذكورة وحرية ولا تدل بمفهومها على انتفاء القصاص عند اختلافهما بحسب الذكورة أو الحرية؛ لأن المفهوم إنما هو على تقدير أن لا يظهر للتقييد فائدة سوى الدلالة على انتفاء الحكم عنه عند انتفاء القيد وقد مر أن له فائدة سواها وهي إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه)
(4)
.
مفهوم الأنثى بالأنثى ليس فيه دلالة على أن الرجل لا يقتل بالمرأة
قال تعالى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى (178)} (البقرة: 178).
32 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} أخذ
(1)
روي أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأمرهم أن يتباوؤا. انظر: الدرالمنثور (1/ 383)، وأسباب النزول للواحدي (52).
(2)
انظر: روح المعاني (2/ 49).
(3)
هو: محمد محيى الدين بن مصطفى مصلح الدين القوجوي الحنفي المعروف بشيخ زاده، المدرس الرومي، مفسر، من فقهاء الحنفية. توفي سنة 951 إحدى وخمسين وتسعمائة، له من الكتب الإخلاصية في تفسير سورة الإخلاص، وتعليقة على شرح الهداية لابن مكتوم، وحاشية على أنوار التنزيل للبيضاوي. انظر: الأعلام للزركلي (7/ 99)، وهداية العارفين (6/ 238).
(4)
انظر: حاشية زاده على البيضاوي (1/ 435).
بمفهومها بعض أهل العلم
(1)
فلم يجز قتل الرجل بالمرأة، وتقدم وجه ذلك.) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط بعض العلماء من هذه الآية أن الرجل لا يقتل بالمرأة أخذاً بمفهوم المخالفة من قوله تعالى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ، ورد السعدي هذا الاستنباط من وجهين:
أحدهما: دلالة السنة
(3)
على أن الرجل يقتل بالمرأة.
ثانياً: أن منطوق قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} - وهو عام في الذكر والأنثى- مقدم على مفهوم قوله تعالى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ، والمنطوق عندما يتعارض مع المفهوم يقدم المنطوق
(4)
. ومما يؤيد ما ذهب إليه السعدي الإجماع على أن الرجل يقتل بالأنثى، قال ابن عطية:(وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل)
(5)
.
وممن وافق السعدي على ذلك: الجصاص، والرازي، والبيضاوي، وجلال الدين المحلي، والألوسي، وابن عاشور، وصديق حسن خان، والعثيمين، والهرري
(6)
.
(1)
وممن قال به الحسن، وعطاء. انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 454).
(2)
انظر: تفسير السعدي (84).
(3)
المراد بذلك قَتْل النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي الذي قتل جارية رضَّ رأسها بين حجرين، فرضَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهود، ح (2413)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره. . .، ح (4361).
(4)
انظر: تفسير السعدي (84).
(5)
انظر: المحرر الوجيز (158).
(6)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 171)، والتفسير الكبير (5/ 44)، وأنوار التنزيل (1/ 102)، وتفسير الجلالين (36)، وروح المعاني (2/ 49)، والتحرير والتنوير (2/ 138)، وفتح البيان (1/ 354)، وتفسير القرآن للعثيمين (2/ 301) وتفسير حدائق الروح والريحان (3/ 131).
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، فالآية لا تدل على أن الذكر لا يقتل بالأنثى فالقصاص يكون بين الرجال والنساء، قال الطوفي:(الأنثى بالأنثى مفهومه لا يقتل ذكر بأنثى لكنه متروك؛ لضعفه ولزوم المفسدة العامة منه، وللإجماع فيقتل الذكر بالأنثى ولا شيء لورثته)
(1)
، وإنما خُصَّت الأنثى بالذكر مع أنها مشمولة لعموم الحر بالحر والعبد لئلا يتوهم أن صيغة التذكير في قوله:{الْحُرُّ} وقوله: {الْعَبْدُ} مراد بها خصوص الذكور
(2)
.
الأصل وجوب القود، والدية بدل عنه إذا رضي ولي المقتول
.
قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ (178)} (البقرة: 178).
33 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله: وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود
(3)
في القتل، وأن الدية بدل عنه
(4)
،
فلهذا قال:
(1)
انظر: الإشارات الإلهية (1/ 313).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (2/ 137)، وأنوار التنزيل (1/ 102).
(3)
القود هو: قتل القاتل بمن قتله. انظر: الروض المربع للبهوتي (442).
(4)
بناء على أن معنى الآية فمن عفي له عن القصاص منه فاتّباع بمعروف وهو أن يطلب الولي الدية بمعروف ويؤدي القاتلُ الدية بإحسان، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. وقيل في الآية معان أخرى:
منها: أن معنى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} بمعنى فمن فضل له فضل وهذا تأويل من زعم أن الآية نزلت في فريقين كانا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل من كلا الفريقين قتلى فتقاصّا ديات القتلى بعضهم من بعض، فمن بقيت له بقية فليتبعها بمعروف، وليرد من عليه الفاضل بإحسان، ويكون معنى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي فضل له قِبل أخيه القاتل شيء، وهذا قول السدي
ومنها: أن هذا محمول على تأويل عليّ رضي الله عنه في أول الآية؟ في القصاص بين الرجل والمرأة والحر والعبد وأداء ما بينهما من فاضل الدية. انظر: النكت والعيون (1/ 229 و 230).
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}
(1)
أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية، أو عفا بعض الأولياء، فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي) ا. هـ
(2)
.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأصل وجوب القود في القتل، وأن الدية بدل عنه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن العفو إنما هو على شيء وهو هنا الدية، وتقديم الكلام على العفو دليل على أن القود هو الأصل وإنما يأتي العفو تبعاً.
الموافقون:
قال السيوطي: (فيه مشروعية العفو على الدية. . .)
(3)
، كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين منهم: الطبري، والبغوي، وابن عطية، وأبو المظفر السمعاني، والرازي، والبيضاوي، والخازن، وابن عادل الحنبلي، وحقي، والشوكاني.
(4)
(1)
وذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر عند هذه الآية وهو: أن تنكير الشيء يفيد فائدة عظيمة، لأنه يجوز أن يتوهم أن العفو لا يؤثر في سقوط القود، إلا أن يكون عفواً عن جميعه، فبين تعالى أن العفو عن جزئه كالعفو عن كله في سقوط القود، وعفو بعض الأولياء عن حقه، كعفو جميعهم عن خلقهم، فلو عرف الشيء كان لا يفهم منه ذلك، فلما نكره صار هذا المعنى مفهوماً منه. انظر: التفسير الكبير (5/ 46).
(2)
انظر: تفسير السعدي (84).
(3)
انظر: الإكليل (1/ 339).
(4)
انظر: جامع البيان (2/ 114)، ومعالم التنزيل (1/ 102)، والمحرر الوجيز (159)، وتفسير القرآن لأبي المظفر السمعاني (1/ 173)، والتفسير الكبير (5/ 45)، وأنوار التنزيل (1/ 103)، ولباب التأويل (1/ 107)، واللباب في علوم الكتاب (3/ 222)، وروح البيان (1/ 285)، وفتح القدير (1/ 219).
المخالفون:
خالف الجصاص في ذلك حيث جعل قبول الدية راجعاً إلى القاتل؛ لأن الذي في كتاب الله هو القصاص فقط، فإذا أوجبنا الدية بغير رضاه أوجبنا عليه شيئاً من غير دليل قال الجصاص:(لما بينا من أن الذي أوجبه الله تعالى في الكتاب هو القصاص، وفي إثبات التخيير بينه وبين غيره زيادة في النص، ونفي لإيجاب القصاص، ومثله عندنا يوجب النسخ، فإذاً الواجب هو القود لا غيره، فلا جائز له أخذ المال إلا برضى القاتل؛ لأن كل من له قِبَل غيره حق يمكن استيفاءه منه لم يجز له نقله إلى بدل غيره إلا برضى من عليه الحق)
(1)
، كما أشار إلى ذلك الألوسي
(2)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، ومما يؤيده أن مقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلاً من القصاص
(3)
، وحينئذ فلا معنى لربط ذلك برضا القاتل؛ لأن القصاص حق لولي المقتول فإذا تنازل عنه إلى شيء آخر لزم القاتل قبوله وقد يربط ذلك أيضاً بوجوب المحافظة على النفس وهي من الضرورات التي أوجبتها الشريعة فما
حفظ النفس وجب قبوله والدية هنا فيه حفاظ على النفس، وبذل ما سوى النفس هين في استبقائها
(4)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 187).
(2)
انظر: روح المعاني (2/ 50).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (2/ 142).
(4)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان (3/ 132).
القتل لا يوجب الكفر على القاتل
.
قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ (178)} (البقرة: 178).
34 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {أَخِيهِ} دليل على أن القاتل لا يكفر
(1)
، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان، فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر، لا يكفر بها فاعلها، وإنما ينقص بذلك إيمانه) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة عقدية، وهي أن القاتل لا يكفر، ووجه ذلك أن الله سمى القاتل أخاً فدل ذلك على أنه لم يكفر لبقاء الأخوة الإيمانية.
وقد قال بذلك جمع من المفسرين، قال ابن الجوزي:(ودل قوله: {مِنْ أَخِيهِ} على أن القاتل لم يخرج عن الإسلام)
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً: ابن عطية، والرازي
(4)
، والخازن، والألوسي، وحقي، والعثيمين
(5)
.
(1)
خلافاً للخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة. وقد احتج ابن عباس بهذه الآية على الخوارج في أن المعصية لا تُزيل الإيمان، لأن الله سمى القاتل أخاً لولي الدم وتلك أخوة الإِسلام مع كون القَاتل عَاصياً. انظر: التحرير والتنوير (2/ 142)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (2/ 302)، والتفسير الكبير (5/ 47).
(2)
انظر: تفسير السعدي (84) و (801).
(3)
انظر: زاد المسير (103).
(4)
هو: أبوالعباس، أحمد بن المظفر بن المختار الرازي، الفقيه الحنفي، المفسر، عالم أديب، تولى القضاء والتدريس بالروم، له تصانيف عدة منها: لطائف القرآن، وحجج القرآن، وأذكار القرآن، توفي عام 631 هـ. انظر: طبقات المفسرين للداودي (1/ 86)، ومعجم المؤلفين (2/ 158).
(5)
انظر: المحررالوجيز (159)، وحجج القرآن للرازي (44)، ولباب التأويل (1/ 107)، وروح المعاني (2/ 50)، وروح البيان (1/ 285)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (2/ 302).
وقال بعض المفسرين أن ذكر الأخوة هنا من باب الاستعطاف لولي المقتول لأجل أن يعفو لأن الأخوة تردعه عن القود، قال البيضاوي:(وذكره بلفظ الإِخوة الثابتة بينهما من الجنسية والإِسلام ليرق له ويعطف عليه)
(1)
، وممن قال به أيضاً: أبو السعود، وابن عاشور.
(2)
ولا منافاة بين الوجهين بل سمى الله ولي الجناية أخاً استعطافاً له ولبيان أن القاتل لم يكفر بقتله، قال محيي الدين شيخ زاده:(وسماه - أي ولى الجناية - أخاً للقاتل استعطافا له عليه وتنبيهاً على أن أخوة الإسلام قائمة بينهما، وأن القاتل لم يخرج من الإيمان بقتله).
(3)
إطلاق لفظ العدة دون قيد دليل على أن المعتبر في القضاء هو مجرد العدد دون أي صفة أخرى
.
قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184).
35 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يدل على أن المعتبر مجرد العدة، لا مقدارها في الطول والقصر، والحر والبرد، ولا وجوب الفور وعدمه ولا ترتيب ولا تفريق). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المعتبر هو مجرد القضاء دون النظر
(1)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 103).
(2)
انظر: إرشاد العقل السليم (1/ 195)، والتحرير والتنوير (2/ 142).
(3)
انظر: حاشية زاده على تفسير البيضاوي (2/ 436).
(4)
انظر: تفسير السعدي (86)، والمواهب الربانية للسعدي (5).
إلى اعتبارات أخرى كطول اليوم وقصره، وبرودته وحره، وترتيبه وتفريقه، وكذلك قضاؤه على الفور أوالتراخي.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال ابن عرفة:(وذكر {أَيَّامٍ} إشارة إلى أنه يجزي فيها الصوم في النهار القصير قضاء عنه في النهّار الطويل وإنما المطلوب عدة أيام (كعدد) الأيام الأول لا كقدرها وصفتها).
(1)
وقال الألوسي: (واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعاً ومتفرقاً وأنه ليس على الفور خلافاً لداود، وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى أياماً معدودة فلو كان تاماً لم يجزه شهر
ناقص أو ناقصاً لم يلزمه شهر كامل خلافاً لمن خالف في الصورتين)
(2)
، وممن قال به أيضاً: الجصاص، وإلكيا الهراسي، وابن الفرس، والقرطبي، والزمخشري، والرازي، أبوحيان، والسيوطي، والشوكاني.
(3)
المخالفون:
ذهب الحسن بن صالح
(4)
إلى أنه يقضي شهراً بشهر من غير مراعاة
(1)
انظر: تفسير ابن عرفة (1/ 219).
(2)
انظر: روح المعاني (2/ 85).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 267)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 66)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 188)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 278)، والكشاف (112)، والتفسير الكبير (5/ 67)، والبحر المحيط (2/ 41)، والإكليل في استنباط التنزيل (1/ 344)، وفتح القدير (1/ 226).
(4)
هو: الحسن بن صالح ابن صالح بن حي، واسم حي: حيان بن شفي بن هني بن رافع، الإمام الكبير، أحد الأعلام، أبو عبد الله الهمداني الثوري الكوفي، الفقيه العابد، أخو الإمام علي بن صالح، قلت: هو من أئمة الاسلام، لولا تلبسه ببدعة، وهي التشيع، قال وكيع: ولد سنة مئة، وقال البخاري: قال أبو نعيم: مات الحسن بن صالح سنة تسع وستين ومئة. انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 361) و (7/ 371)، والكاشف (1/ 326).
عدد الأيام، لكن أجاب عنه إلكيا الهراسي فقال: وهذا بعيد لأنه قال {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يقل (فشهر من أيام أخر)، وقوله:"فعدة" يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه ولاشك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده بعدده، وكذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار العدد
(1)
.
وذهب داود الظاهري إلى وجوب التتابع حيث قال: يجب عليه القضاء ثاني شوّال، فلو لم يصمه ثم مات أثِمَ
(2)
. ولكن أجاب أبوحيان
(3)
عن ذلك فقال: وهو محجوج بظاهر الآية، وبما ثبت في الصحيح عن عائشة قالت: كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه، إلاَّ في شعبان لشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح ويؤيده لفظ الآية المطلق فمن قيده فقد أوجب صفة زائدة لا يدل عليها اللفظ، قال السيوطي: واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعاً ومتفرقاً،. . . وعلى أنه يجزئ صوم يوم قصير مكان يوم طويل
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 70).
(2)
البحر المحيط (2/ 41).
(3)
البحر المحيط (2/ 41).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب متى يقضى قضاء رمضان، ح (1950)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب جواز تأخير قضاء رمضان، ح (1146).
(5)
انظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 344 - 346).
أعاد الرخصة للمريض والمسافر لئلا يتوهم أن الرخصة منسوخة مع التخيير
.
قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (185)} (البقرة: 185).
36 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان النسخ
(1)
للتخيير بين الصيام والفداء خاصة، أعاد الرخصة للمريض والمسافر
(2)
، لئلا يتوهم أن الرخصة أيضاً منسوخة) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين مناسبة تكرار قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وأنه دفع توهم النسخ لأنه ذكرت الآية التي كان الصوم فيها على التخيير ثم نسخ التخيير فكان هذا موهماً لنسخ الرخصة للمريض والمسافر فأعاد ذكر الرخصة لدفع هذا التوهم.
(1)
وهذا بناء على أن الآية الثانية ناسخة للآية الأولى وهو الصحيح كما نص عليه جمع من المفسرين كما ذكرتهم في الدراسة، وعلى القول بعدم النسخ أورد ابن عاشور مناسبة التكرار فقال:(فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقاً بالسامعين، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرُ فَلْيَصُمْهُ} إذا كان شهد بمعنى تحقق وعَلِم، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرُ فَلْيَصُمْهُ}) انظر: التحرير والتنوير (2/ 174).
(2)
أراد بذلك إعادة قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، في الآيتين 184 و 185 من سورة البقرة.
(3)
انظر: تفسير السعدي (86).
الموافقون:
وافق السعدي على ذلك جمع من المفسرين، قال الخازن: ({وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إنما كرره لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم الصحيح ثم نسخ تخيير المقيم الصحيح بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرُ فَلْيَصُمْهُ}
فلو اقتصر على هذا لاحتمال أن يشمل النسخ الجميع، فأعاد بعد ذكر الناسخ الرخصة للمريض والمسافر ليعلم أن الحكم باق على ما كان عليه)
(1)
.
وقال البقاعي: (ولما نسخ بهذا ما مر من التخيير أعاد ما للمريض والمسافر لئلا يظن نسخه فقال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} أي سواء شهده أولا {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي سواء كان مريضاً أو صحيحاً وهو بين بأن المراد شهوده في بلد الإقامة {فَعِدَّةٌ})
(2)
.
وممن قال به أيضاً من المفسرين: البغوي، وأبو المظفر السمعاني، والماوردي، والواحدي، وابن الجوزي، وجلال الدين المحلي، وحقي، وصديق حسن خان، والعثيمين
(3)
.
المخالفون:
وقال بعض المفسرين: إن مناسبة التكرار هو التخصيص لئلا يفهم العموم في وجوب الصوم فالمريض والمسافر ممن يشهد الشهر فأعيد لفظ الرخصة لتخصيص العموم الوارد في لفظ الإيجاب
(4)
.
(1)
انظر: لباب التأويل (1/ 112).
(2)
انظر: نظم الدرر (3/ 60 - 61).
(3)
انظر: معالم التنزيل (1/ 108)، وتفسير القرآن للسمعاني (1/ 184)، والنكت والعيون (1/ 241)، والوجيز (1/ 151)، وزادالمسير (107)، وتفسير الجلالين (37)، وروح البيان (1/ 293)، وفتح البيان (1/ 369)، وتفسير القرآن للعثيمين (2/ 234).
(4)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 106)، وإرشاد العقل السليم (1/ 200)، وروح المعاني (2/ 62)، وجواهر الأفكار (504).
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه من المفسرين هو الأصح في وجه هذا الاستنباط لأن التخصيص يمكن أن يفهم من أدلة أخرى لو كان هو المراد. والله أعلم.
الأمر بتكميل عدة الصيام لدفع الوهم أن صيام بعض رمضان يحصل به المقصود
.
قال تعالى: {الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ (185)} (البقرة: 185).
37 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}
(1)
وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم، أن صيام رمضان، يحصل المقصود منه ببعضه، دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي مناسبة إيراد لفظ (لتكملوا العدة) مع أن قوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) يغني عنه في المعنى، وبين أن مناسبة في ذلك هو دفع توهم من قد يتوهم أن صيام رمضان يحصل المقصود منه بصيام بعضه.
(1)
ذكر الرازي هنا استنباطاً آخر وهو مناسبة إيراد لفظ العدة بدلاً من الشهر فقال: (. . . المسألة الثالثة: إنما قال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} ولم يقل: ولتكملوا الشهر، لأنه لما قال: ولتكملوا العدة دخل تحته عدة أيام الشهر وأيام القضاء لتقدم ذكرهما جميعاً ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المقضي، ولو قال تعالى: ولتكملوا الشهر لدل ذلك على حكم الأداء فقط ولم يدخل حكم القضاء. انظر: التفسير الكبير (5/ 78).
(2)
انظر: تفسير السعدي (87).
وما ذهب إليه السعدي هنا فيه بُعد؛ لأن هذا التوهم بعيد الوقوع خصوصاً بعد الأمر بالقضاء لمن فاته بعض الصوم بعذر فمن باب أولى أن يكمل الصوم من لا عذر عنده.
ولو قيل إن المراد بذلك التأكيد على القضاء لكان أوفق لمعنى الآية، قال ابن جرير الطبري:(عدة ما أفطرتم، من أيام أخر، أوجبت عليكم قضاء عدة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم، أوإقامتكم من سفركم)
(1)
، وقال القاسمي:(فهذه الآية علة الأمر بمراعاة العدة)
(2)
، كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين
(3)
.
من أكل شاكاً في طلوع الفجر فصيامه صحيح
.
قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا شَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (187)} (البقرة: 187).
38 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا شَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (187)} هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأكل ونحوه من المفطرات إذا
(1)
انظر: جامع البيان (2/ 163).
(2)
انظر: محاسن التأويل (2/ 64).
(3)
انظر: جواهر الأفكار (506)، وتفسير حدائق الروح والريحان (3/ 159).
(4)
انظر: تفسير السعدي (87).
أكلها الصائم شاكاً في طلوع الفجر فلا شئ عليه، ووجه استنباط ذلك بمفهوم المخالفة - مفهوم الغاية - وهو التبين فإذا أكل شاكاً فصيامه صحيح لأن الحرمة إنما هي بعد الغاية وهي طلوع الفجر بدلالة"حتى".
الموافقون:
قال العثيمين: (ومنها: جواز الأكل، والشرب، والجماع مع الشك في طلوع الفجر؛ لقوله تعالى: {شَتَّى يَتَبَيَّنَ}؛ فإن تبين أن أكله، وشربه، وجماعه، كان بعد طلوع الفجر فلا شيء عليه)
(1)
، وقال السيوطي:(واستدل به على جواز الأكل لمن شك في طلوع الفجر؛ لأنه تعالى أباح الأكل إلى التبين، ولا تبين مع الشك)
(2)
، كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين منهم: الجصاص، والكيا الهراسي، وأبوحيان، والألوسي.
(3)
المخالفون:
ذهب ابن العربي إلى أن المراد بالتبين هنا شدة المقاربة أي: قاربت الصباح، وأن الآية لا تدل على جواز الأكل حتى التبين بل إن المنع هو الأشبه بوضع الشريعة وحرمة العبادة
(4)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه من المفسرين هو الأصح في وجه هذا الاستنباط لدلالة مفهوم المخالفة عليه؛ ولأن القول بخلافه فيه إلغاء لهذا المفهوم بلا حجة، قال ابن بدران: (ويدل قوله تعالى: {شَتَّى يَتَبَيَّنَ} أن ابتداء الإمساك يكون من التبين، فمن شك فيه وفعل شيئاً من
(1)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (2/ 354).
(2)
انظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 359).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 280)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 73)، والبحر المحيط (2/ 58)، وروح المعاني (2/ 67).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 105).
المفطرات، ثم انكشف له أن الفجر كان طالعاً وصامه، أنه لا قضاء عليه؛ لأنه غياه بتبين الفجر للصائم لا بالطلوع. . .)
(1)
والله أعلم.
استحباب السحور وتأخيره
.
قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا شَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (187)} (البقرة: 187).
39 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيه: دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره أخذاً من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد) ا. هـ
(2)
.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استحباب السحور، واستحباب تأخيره، ووجه الاستنباط من معنى الرخصة، حيث إن تأخير السحور أرفق بالمكلف.
قال العثيمين: (أخذ بعض أهل العلم من هذا استحباب السُّحور، وتأخيره؛ وهذا الاستنباط له غور؛ لأنه يقول: إنما أبيح الأكل والشرب ليلة الصيام رفقاً بالمكلف؛ وكلما تأخر إلى قرب طلوع الفجر كان أرفق به؛ فما دام نسخ التحريم من أجل الرفق بالمكلف فإنه يقتضي أن يكون عند طلوع الفجر أفضل منه قبل ذلك؛ لأنه أرفق؛ وهذا استنباط جيد. . .)
(3)
(1)
انظر: جواهر الأفكار (520).
(2)
انظر: تفسير السعدي (87).
(3)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (2/ 353).
وقال ابن كثير: (وفي إباحته تعالى جوازَ الأكل إلى طلوع الفجر، دليل على استحباب السَّحُور؛ لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب. . .)
(1)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: الجصاص
(2)
.
ومما يؤيد هذا الاستنباط ويؤكده ما جاء في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَسَحَّرُوا فإن في السَّحور بركة"
(3)
فهذا مؤيد لاستحباب السحور.
وكذلك ما جاء في الصحيحين، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت، قال:(تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة. قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية)
(4)
، وهذا مؤيد لتأخير السحور.
جواز إدراك الفجر للجنب وهو صائم
.
قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا شَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (187)} (البقرة: 187).
40 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا شَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (187)}،. . . وفيه أيضاً دليل
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 475).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 282).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب، ح (1923)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، ح (1095).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، ح (1921)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، ح (1097).
على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه
(1)
، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز إدراك الفجر لمن كان جنباً قبل الاغتسال، ووجه الاستنباط هنا بدلالة الالتزام حيث أنه يلزم من إباحة الجماع إلى تبين الفجر إباحته إلى آخر أجزاء الليل فيلزم من ذلك طلوع الفجر وهو جنب.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال الشنقيطي:(لأن إباحة الجماع في الجزء الأخير من الليل الذي ليس بعده ما يتسع للاغتسال من الليل يلزم إصباحه جنباً).
(3)
وقال الألوسي: (واستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنباً)
(4)
، وقد عزاه ابن العربي
(1)
وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً، بل حكى ابن العربي الإجماع على ذلك، وهوالحق لدلالة الأحاديث الصحيحة عليه كما سيأتي في نص الدراسة، خالف في ذلك أبوهريرة رضي الله عنه، والحسن بن صالح فقالا إن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة أوردها ابن كثير في تفسيره. انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 478)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 108)، والتفسير الكبير (5/ 94)، وأورد ابن الفرس أن أبا هريرة رضي الله عنه قال بعدم القضاء في أشهر الأقوال عنه. انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 212).
(2)
انظر: تفسير السعدي (87)، وفتح الرحيم العلام (131).
(3)
انظر: المذكرة في أصول الفقه (235).
(4)
انظر: روح المعاني (2/ 67).
لا بن عباس رضي الله عنهما قال: (وبهذا احتج ابن عباس عليه، ومن ها هنا أخذه باستنباطه، وغوصه).
(1)
وممن قال به أيضاً من المفسرين: الجصاص، والكيا الهراسي، وابن العربي، والجرجاني، والزمخشري، والرازي، والقرطبي، وأبوحيان، وابن كثير، والبيضاوي، وابن عادل الحنبلي، والسيوطي، وأبو السعود، وابن بدران، وصديق حسن خان.
(2)
المخالفون:
وقد خالف في هذا الاستنباط بعض المفسرين: وحجتهم في ذلك أن الغاية متعلقة بالأكل والشرب دون المباشرة، قال السيوطي: (ومن منعه قال: إن الغاية متعلقة بـ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} دون {بَاشِرُوهُنَّ}
(3)
، كما أشار إليه أيضاً الألوسي
(4)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه عامة المفسرين ومنهم السعدي هو الصحيح في الاستنباط؛ لكثرة القائلين به وقوة حجتهم من الناحية الأصولية فكما أن دلالة الالتزام تدل على ذلك، فكذلك مفهوم المخالفة - مفهوم الغاية - يدل عليه أيضاً قال أبوحيان: (وفي هذه التغيئة أيضاً دلالة على جواز
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 108).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 281)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 74)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 107)، ودرج الدرر (1/ 352)، والكشاف (115)، والتفسير الكبير (5/ 94)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 322)، والبحر المحيط (2/ 58)، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 478)، وأنوار التنزيل (1/ 107)، واللباب في علوم الكتاب (3/ 314)، والإكليل (1/ 359)، وإرشاد العقل السليم (1/ 202)، وجواهر الأفكار (521)، وفتح البيان (1/ 376).
(3)
انظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 359).
(4)
انظر: روح المعاني (2/ 67).
المباشرة إلى التبين، فلا يجب عليه الاغتسال قبل الفجر لأنه إذا كانت المباشرة مأذوناً فيها إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الفجر)
(1)
.
ومما يقوي هذا الاستنباط ويؤيده كذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة وأم سلمة، رضي الله عنهما، أنهما قالتا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جُنُباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم)
(2)
.
لا يكون الاعتكاف إلا في مسجد
.
قال تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ (187)} (البقرة: 187).
41 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ (187)}
(3)
ودلت الآية. . . أن لا اعتكاف إلا في مسجد. . .) ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد، ووجه ذلك مفهوم المخالفة - مفهوم الصفة- والمراد به هنا ظرف المكان -
(1)
انظر: البحر المحيط (2/ 58).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب الصائم يصبح جنباً، ح (1925)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، ح (1109).
(3)
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن الاعتكاف عام في كل مسجد فلا اختصاص بمسجد دون الآخر، واستنبط بعضهم أيضاً جواز اعتكاف المرأة في بيتها لأن الخطاب في الآية موجه للرجال دون النساء. انظر: البحر المحيط (2/ 60)، والتفسير الكبير (5/ 97)، وروح المعاني (2/ 68).
(4)
انظر: تفسير السعدي (87).
ففهم من هذا أن الاعتكاف لا يصح في غير المسجد.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال الشنقيطي:(يفهم منه أنه لا اعتكاف في غير المسجد عند من يقول ذلك)
(1)
وقال الألوسي: (وفي تقييد الاعتكاف بالمساجد دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد إذ لو جاز شرعاً في غيره لجاز في البيت وهو باطل بالإجماع)
(2)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: البغوي، والبيضاوي، والنسفي، وأبو السعود، والخازن، وحقي، وابن عاشور.
(3)
المخالفون:
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية عكس الاستنباط السابق وهو جواز الاعتكاف في غير المساجد وذلك من مفهوم الآية حيث جعل المفهوم هو في المساجد فمن اعتكف في غير المساجد جاز له مباشرة زوجته، وأن اعتكافه في غير المسجد جائز
(4)
، قال أبوحيان: (وظاهر قوله عاكفون في المساجد أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطاً في وقوعها ونظير ذلك لا تضرب زيداً وأنت راكب فرساً ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلاَّ فرساً فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط
(1)
انظر: المذكرة في أصول الفقه (237).
(2)
انظر: روح المعاني (2/ 68).
(3)
انظر: معالم التنزيل (1/ 113)، وأنوار التنزيل (1/ 107)، ومدارك التنزيل (100)، وإرشاد العقل السليم (1/ 202)، ولباب التأويل (1/ 118)، وروح البيان (1/ 301)، والتحرير والتنوير (2/ 186).
(4)
انظر: الإكليل في استنباط التنزيل (1/ 364)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 216).
المسجد في الاعتكاف ضعيف؛ فذكر المساجد إنما هو لأن الاعتكاف غالباً لا يكون إلاَّ فيها لا أن ذلك شرط في الاعتكاف)، كما أشار إلى ذلك واستحسنه ابن بدران.
(1)
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في هذا الاستنباط هو الصحيح، لأنه هو المفهوم من هذه الآية، ويؤيد هذا المفهوم إجماع العلماء، قال القرطبي:(أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد)
(2)
، وقال ابن جزي الكلبي:(وفيه أيضاً دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد لا في غيرها خلافاً لمن أجازه في غيرها من مفهوم الآية).
(3)
ومما يؤيد هذا الاستنباط أن النبي صلى الله عليه وسلم بين كيفيته ومكانه، بل كان مكان اعتكاف نساءه المسجد ولو كان يصح في أي مكان لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم
كما بين مكان صلاة المرأة وأن بيتها أفضل، ولو كان مجرد اللبث اعتكاف لكان المعتكفون كثر كل في مكانه وهذا خلاف ما في القرآن والسنة
(4)
.
وأما ما قاله أبوحيان من أن ذكر المساجد هنا من باب الغالب، فلا يصح لأن ذكرها هنا من باب بيان خصوصية هذا الحبس فالاعتكاف لغة الحبس ولبيان خصوصيته وأنه مرتبط بالمسجد ذكرت معه المساجد
(5)
.
(1)
انظر: البحر المحيط (2/ 60)، وجواهر الإفكار (523).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 331).
(3)
انظر: التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 99).
(4)
انظر: فتح البيان (1/ 378).
(5)
انظر: نظم الدرر (2/ 90).
الحج تترتب عليه أوقات كثيرة فخصه الله بالذكر
.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (189)} (البقرة: 189).
42 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (189)}. . . وخص بالذكر الحج لكثرة ما يترتب عليه من الأوقات العامة والخاصة) ا. هـ
(1)
.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية معنى تخصيص الحج بالذكر مع أنه داخل في عموم المواقيت، وبين أن السبب كثرة ما يترتب عليه من الأوقات الخاصة والعامة يريد بذلك وقوعه في أوقات مخصوصة أدءاً أوقضاءاً، وكذلك مايترتب عليه من أوقات الديون المؤجلة، ومدة الإجارات ونحو ذلك.
وقد قال بنحو ذلك بعض المفسرين، قال حقي:(فإن قلت لما كانت الأهلة مواقيت يوقت بها الناس عامة مصالحهم علم منه كونها ميقاتا للحج لأنه من جملة المصالح المتوقفة على الوقت فلم خصه بالذكر قلت الخاص قد يذكر بعد العام للتنبيه على مزيته فالحج من حيث انه يراعى في أدائه وقضائه الوقت المعلوم بخلاف سائر العبادات التي لا يعتبر في قضائها وقت معين)
(2)
، وقال الشوكاني:(وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، ولا يجوز فيه النسيء، عن وقته، ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه، أو أخطأ وقتها، أو وقت بعضها)
(3)
وممن قال بذلك أيضاً: البيضاوي، وأبو السعود، والألوسي،
(1)
انظر: القواعد الحسان (108).
(2)
انظر: روح البيان (1/ 304).
(3)
انظر: فتح القدير (1/ 237).
والهرري
(1)
.
بينما ذهب بعض المفسرين إلى وجه آخر، وقالوا إن سبب التخصيص هو أن الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة قال أبوحيان:(ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة، أفرد بالذكر)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً ابن عادل الحنبلي
(3)
.
وذهب بعض المفسرين إلى وجه آخر وهو أن مناسبة التخصيص بيان أن الحج مقصور في أشهره المعروفة لا يجوز نقله عنها كما كانت العرب تفعل ذلك، قال القفال
(4)
: (إفراد الحج بالذكر لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرض الحج، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر لأشهر أخر، إنما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء)
(5)
، وممن قال بذلك أيضاً: الرازي، والخازن، وابن العربي
(6)
.
النتيجة:
أن فائدة تخصيص الحج بالذكر هو لما يترتب عليه من الأوقات في أداءه وقضاءه وكذلك ما يترتب عليه من معاملات الناس حسب اتفاقهم،
(1)
انظر: وأنوار التنزيل (1/ 108)، وإرشاد العقل السليم (1/ 203)، وروح المعاني (2/ 71)، وتفسير حدائق الروح والريحان (3/ 182).
(2)
انظر: البحر المحيط (2/ 70).
(3)
انظر: اللباب في علوم الكتاب (3/ 334).
(4)
هو: أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الإمام الشَّاشي الفقيه الشافعي المعروف بالقفال الكبير، كان إمام عصره، فقيهاً، محدثاً، مفسراً، أصولياً، لغوياً، شاعراً.، لم يكن للشافعية بما وراء النهر مثله في وقته.، صنف في التفسير والأصول والفقه، ومن تصانيفه: دلائل النبوة، ومحاسن الشريعة، مولده سنة إحدى وتسعين ومائتين ومات سنة خمس وستين وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 283)، وطبقات المفسرين (2/ 196).
(5)
انظر: البحر المحيط (2/ 70)، والتقسير الكبير (5/ 106).
(6)
انظر: التفسير الكبير (5/ 106)، ولباب التأويل (1/ 120)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 112).
وكذلك لبيان أن الحج مفروض في أشهر مخصوصة لا يجوز نقله عنها كما كانت العرب تفعل ذلك، قال القرطبي:(أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسئ فيه عن وقته، بخلاف مارأته العرب؛ فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور؛ فأبطل الله قولهم وفعلهم)
(1)
وأما القول بأن وجه ذلك أن مواقيت الحج لا تعرف إلا بالأهلة فهو وجه ضعيف؛ والسبب هو أن هناك من العبادات غيره لا تعرف إلا بالأهلة كذلك فلا يظهر حينئذ فائدة تخصيص الحج، قال الرازي:(واعلم أنا بينا أن الأهلة مواقيت لكثير من العبادات فإفراد الحج بالذكر لا بد فيه من فائدة ولا يمكن أن يقال تلك الفائدة هي أن مواقيت الحج لا تعرف إلا بالأهلة،. . . وذلك لأن وقت الصوم لا يعرف إلا بالأهلة)
(2)
يحصل المقصود بسلوك أقرب طريق وأسهله والمثابرة على ذلك
.
قال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ((189)} (البقرة: 189).
43 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ((189)} ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور، أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب، الذي قد جعل له موصلا فالآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، ينبغي أن ينظر في حالة المأمور، ويستعمل معه
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 341)، وجواهر الأفكار (528).
(2)
انظر: التفسير الكبير (5/ 106).
الرفق والسياسة، التي بها يحصل المقصود أو بعضه، والمتعلم والمعلم، ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله، يحصل به مقصوده، وهكذا كل من حاول أمراً من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه، فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة تربوية سلوكية، وهي أن الإنسان ينبغي أن يسلك أقرب الطرق وأسهلها الموصلة له إلى مبتغاه، ودلالة الآية على ذلك من باب مفهوم الموافقة حيث جاء الأمر بالدخول إلى البيوت من أبوبها لما فيه من السهولة، وهكذا كل أمر يعرض للإنسان في حياته يأتيه من أسهل الطرق وأقربها إليه فإذا ما فعل ذلك حصل له مقصوده.
قال العثيمين: (ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأتي الأمور من أبوابها؛ لقوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ؛ فإن هذه الآية كما تناولت البيوت الحسية كذلك أيضاً تناولت الأمور المعنوية؛ فإذا أردت أن تخاطب مثلاً شخصاً كبير المنزلة فلا تخاطبه بما تخاطب سائر الناس؛
ولكن ائت من الأبواب؛ لا تتجشم الأمر تجشماً؛ لأنك قد لا تحصل المقصود؛ بل تأتي من بابه بالحكمة، والموعظة الحسنة حتى تتم لك الأمور)
(2)
.
وقال الجصاص: (. . . ويكون مع ذلك مثلاً أرشدنا به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي أمر الله تعالى به وندب إليه)
(3)
، وقال الكيا الهراسي: (فذكر إتيان البيوت مثلاً يشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله إليه، وفيه وفيه أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير
(1)
انظر: تفسير السعدي (88)، والرياض الناضرة للسعدي (430)، والقواعد الحسان للسعدي (4).
(2)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (2/ 372).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 310).
قربة. . . كالرهبانية)
(1)
، كما أشار إليه بعض المفسرين
(2)
.
مشروعية ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما
.
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ شَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} (البقرة: 193).
44 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ شَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة، وهي: أنه يرتكب أخف المفسدتين، لدفع أعلاهما
(3)
) ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية وهي ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، ووجه ذلك أن القتال عند المسجد الحرام يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام، وأخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك والصد عن دينه أشد من مفسدة القتل وحينئذ فلا حرج على المسلمين في قتالهم لأنه أخف من المفسدة الأولى
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 78) بتصرف يسير.
(2)
انظر: المجاز لأبي عبيدة (1/ 68)، ومحاسن التأويل (2/ 96).
(3)
ومعنى هذه القاعدة أنه إذا تعارض أمام المكلف مفسدتان أو ضرران ولابد من ارتكاب أحدهما، وكانت إحدى المفسدتين أقل أو أدنى من الأخرى، فإن الشرع أباح ارتكاب الصغرى دفعاً للمفسدة الكبرى. انظر: موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (12/ 311).
(4)
انظر: تفسير السعدي (89) و (408).
(5)
انظر: تفسير السعدي (89).
قال الألوسي: ({وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] أي شركهم في الحرم أشد قبحاً فلا تبالوا بقتالهم فيه لأنه ارتكاب القبيح لدفع الأقبح فهو مرخص لكم ويكفر عنكم، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن المحبب للطباع السليمة أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها)
(1)
.
الأمر بإتمام الحج والعمرة دليل على وجوبهما
.
قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (196)} (البقرة: 196).
45 -
قال السعدي رحمه الله: (يستدل بقوله [تعالى]: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (196)} على. . . وجوب الحج والعمرة
(2)
، وفرضيتهما) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية وجوب العمرة، ووجه الاستنباط بدلالة
(1)
انظر: روح المعاني (2/ 75).
(2)
اتَّفقت الأُمَّة على وجوب الحج، على من استطاع إليه سبيلاً، وأما وجوب العمرة ففيه خلاف بين أهل العلم على قولين: أحدهما وجوب العمرة وهو مروي عن علي، وابن عباس، وابن عمر، ومسروق، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وابن سيرين، والشعبي، وابن جبير، وأبي بردة، وعبد الله بن شدّاد؛ ومن علماء الأمصار: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، وابن حميم، من المالكيين.
وذهب جماعة من الصحابة إلى أن العمرة سنة، منهم: ابن مسعود، وجابر، ومن التابعين: النخعي، ومن علماء الأمصار: مالك، وأبو حنيفة، إلاَّ أنه إذا شرع فيها عندهما وجب إتمامها. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة القولين. انظر: البحر المحيط (2/ 81)، واللباب في علوم الكتاب (3/ 359)، والمغني لابن قدامة (5/ 13).
(3)
انظر: تفسير السعدي (90).
الاقتران، حيث قرن الله العمرة بالحج، والحج واجب فتكون العمرة واجبة كذلك.
الموافقون:
وافق السعدي في استنباط حكم وجوب العمرة من هذه الآية بعض المفسرين قال القرطبي: (في هذه دليل على وجوب العمرة، لأن الله تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج. . .)
(1)
، وقال البيضاوي:(قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (196)} أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ:{وَأَقِيمُوا الحج والعمرة لِلَّهِ}
(2)
)
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً: أبوالمظفر السمعاني، وابن الفرس، والرازي، وابن عادل الحنبلي، كما أيد ذلك ابن قدامة
(4)
.
المخالفون:
وخالف بعض المفسرين فقالوا إن الآية لا حجة فيها على وجوب العمرة، قال ابن العربي:(وليس في هذه الآية حجة للوجوب؛ لأن الله إنما قرنها بالحج في وجوب الإتمام لا في الابتداء. . . وقد جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء)
(5)
، وممن قال بذلك أيضاً: الطبري،
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 366).
(2)
قراءة: ابن عباس، وابن مسعود، وعلقمة، والنخعي، انظر: جامع البيان (2/ 213)، ومعجم القراءات للخطيب (1/ 267). قال ابن حجر- بعد ذكره هذه القراءة ومن قرأ بها:(أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم) انظر: فتح الباري (3/ 443).
(3)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 109).
(4)
انظر: تفسير القرآن لأبي المظفر السمعاني (1/ 196)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 234)، والتفسير الكبير (5/ 119)، والمغني لابن قدامة (5/ 13).
(5)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 133).
والجصاص، والنسفي، وشهاب الدين الخفاجي
(1)
، والألوسي، وابن عاشور
(2)
.
النتيجة:
والقول بأن هذه الآية لا تدل على وجوب العمرة هو الأقوى؛ لأن غاية ما تدل عليه وجوب الإتمام عند الابتداء، أما دلالة الاقتران فهي دالة على وجوب الإتمام بعد الابتداء فقط، أما دلالتها على أصل الوجوب لاقترانها بالحج فضعيف، قال الزرقاني:(وتعقب الأول بأنه لا يلزم من الاقتران بالحج وجوب العمرة فهو استدلال ضعيف لضعف دلالة الاقتران)
(3)
.
وأما قراءة (وأقيموا الحج والعمرة) فلا دلالة فيها على الوجوب لأن لفظ الإقامة يدل على أن المراد إقامة أفعالهما على الوجه المطلوب فليس صريحاً في الوجوب قال أبو السعود: (بل الحق أن تلك القراءة أيضا محمولة على المشهورة ناطقة بوجوب إقامة أفعالهما كما ينبغي من غير تعرض لحالهما في أنفسهما فالمعنى أكملوا أركانهما وشرائطهما وسائر أفعالهما المعروفة شرعاً لوجه الله تعالى من غير إخلال منكم بشيء منها)
(4)
.
(1)
هو: شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر، الخفاجي المصري: قاضي القضاة. نسبته إلى قبيلة خفاجة، ولد ونشأ بمصر، ورحل إلى بلاد الروم، ولد عام 977 هـ، وتوفي عام 1069 هـ، من أشهر كتبه شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل، وخبايا الزوايا بما في الرجال من البقايا، وعناية القاضي وكفاية الراضي حاشية على تفسير البيضاوي. انظر: الأعلام للزركلي (1/ 238).
(2)
انظر: جامع البيان (2/ 217 - 219)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 320)، ومدارك التنزيل (103)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (1/ 484)، وروح المعاني (2/ 78)، والتحرير والتنوير (2/ 220).
(3)
انظر: شرح الزرقاني على موطأ مالك (2/ 362).
(4)
انظر: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 205).
وأشار بعض المفسرين إلى وجه آخر لرد دلالة هذه القراءة وقال إن هذه القراءة شاذة فلا يعتمد عليها في الحكم، قال ابن عاشور:(وقراءة: "وأقيموا" لشذوذها لا تكون داعياً للتأويل، ولا تتنزل منزلة خبر الآحاد، إذا لم يصح سندها إلى من نسبت إليه)
(1)
.
وما ذكره أبو السعود من الجواب عن هذه القراءة هو الأوجه، حيث إن القراءة ثابتة، وأسانيدها صحيحة، كما قال ذلك ابن حجر العسقلاني عند كلامه على هذه القراءة وتقدمت الإشارة إليه.
المفرد بالحج لا هدي عليه
.
قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (196)} (البقرة: 196).
46 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ويدل مفهوم الآية
(2)
، على أن المفرد
(3)
للحج، ليس عليه هدي). ا. هـ
(4)
(1)
انظر: التحرير والتنوير (2/ 220)، وكذلك التفسير الكبير (5/ 119).
(2)
بناء على أن معنى التمتع هنا من قَدِمَ الحرم معتمراً في أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتى أحرم منها بالحج في عامِهِ، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وعطاء، والشافعي وهو قول الأكثر من أهل العلم، وقيل معناه: إنه المُحْصَرُ بالحج، إذا حَلَّ منه بالإحصار، ثم عاد إلى بلده متمتعاً بعد إحلاله، فإذا قضى حجَّه في العام الثاني، صار متمتعاً بإحلالٍ بيْن الإحْرَامَين، وهذا قول الزبير، وقيل معناه: من نسخ حَجَّهُ بعمرة، فاستمتع بعمرة بعد فسخ حَجِّهِ، وهذا قول السدي. انظر: النكت والعيون (1/ 256)
(3)
الإفراد:. أن يحرم بالحج مفرداً، أي بدون عمرة. انظر: اللباب في علوم الكتاب (3/ 363)، والمغني لابن قدامة (5/ 82)، والشرح الممتع للعثيمين (7/ 87).
(4)
انظر: تفسير السعدي (91).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المفرد ليس عليه هدي، ووجه الاستنباط مفهوم المخالفة حيث إن الهدي وجب على المتمتع فدل مفهومه- مفهوم الصفة- على أن المفرد لا هدي عليه.
قال العثيمين: (أن الدم يجب على الممتمع دون المفرد. . .)
(1)
.
وهذا الاستنباط مؤيد بالإجماع على أن الإفراد لا يجب فيه دم لكماله
(2)
.
تقييد مزدلفة بالحرام دليل على أن عرفة في الحل
.
قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (198)} (البقرة: 198).
47 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} دلالة على. . . أن عرفة
(3)
(1)
انظر: الشرح الممتع للعثيمين (7/ 94).
(2)
انظر: مذاهب الأخيار في أحكام الحج والاعتمار لبيبا سيدي (83).
(3)
عرفات بالتحريك، وهو واحد في لفظ الجمع، وعرفة وعرفات واحد عند أكثر أهل العلم وليس كما قال بعضهم إن عرفة مولد، وهو مكان بمكة يقف فيه الحجاج، وحدها من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبال عرفة، وقيل في سبب التسمية أن جبريل عرف إبراهيم المناسك فقال أعرفتها قال نعم، وقيل لأن الناس يعترفون بذنوبهم، وقيل إن آدم وحواء تعارفا فيها. انظر: معجم البلدان (4/ 104)، والمعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية (2/ 803).
في الحل، كما هو مفهوم التقييد بـ "مزدلفة
(1)
") ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن عرفة من الحل، ووجه ذلك مفهوم المخالفة في تقييد مزدلفة الحرم فدل ذلك على أن عرفة ليست كذلك كما هو مفهوم القيد هنا.
وهذا الاستنباط فيه بُعْد فلا يلزم من هذا القيد هذا المفهوم، مع إن أهل العلم مجمعون على أن عرفة من الحل، لكن استنباط هذا الحكم من هذه الآية بعيد.
لابد من اختبار أحوال الناس وعدم الاعتماد على مجرد الأقوال
.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} (البقرة: 204).
48 -
قال السعدي رحمه الله: (ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص، ليست دليلا على صدق ولا كذب، ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها، المزكي لها وأنه ينبغي
(1)
بالضم ثم السكون، ودال مفتوحة مهملة، ولام مكسورة، وفاء، سميت بذلك من الازدلاف وهو الاجتماع، وقيل الاقتراب، وقيل غير ذلك، وهو مكان في مكة المكرمة بين بطن محسر والمأزمين، وهي فرسخ من منى، وتكون بها صلاة المغرب والعشاء إذا صدر الناس من عرفة. انظر: معجم البلدان (5/ 120)، والمعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية (2/ 1146).
(2)
انظر: تفسير السعدي (92).
اختبار أحوال الشهود، والمحق والمبطل من الناس، بسبر أعمالهم، والنظر لقرائن أحوالهم، وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم) ا. هـ
(1)
.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة سلوكية في التعامل مع الناس وهي عدم الاعتماد على الأقوال حتى تختبر أحوالهم وتعرف أعمالهم، ووجه ذلك أن الله أخبر في الآية أن من الناس من تغتر بقوله ولكن باطنه شر فدل ذلك بدلالة الالتزام على الحذر منهم واختبار أعمالهم وسبر أحوالهم فهذا الأمر حاصل منهم لكن الفائدة من هذا الإخبار هو اتخاذ الحذر والحيطة بسبر الأعمال، والنظر لقرائن الأحوال.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الجصاص:(قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} الآية، فيه تحذير من الاغترار بظاهر القول وما يبديه من حلاوة المنطق والاجتهاد في تأكيد ما يظهره، فأخبر الله تعالى أن من الناس من يظهر بلسانه ما يعجبك ظاهره. . . فأعلم الله تعالى نبيه ضمائرهم لئلا يغتر بظاهر أقوالهم، وجعله عبرة لنا في أمثالهم لئلا نتكل على ظاهر أمور الناس وما يبدونه من أنفسهم،
وفيه الأمر بالاحتياط فيما يتعلق بأمثالهم من أمور الدين، والدنيا، فلا نقتصر فيما أمرنا بائتمان الناس عليه من أمر الدين، والدنيا على ظاهر حال الإنسان دون البحث عنه.
وفيه دليل على أن عليه استبراء حال من يراد للقضاء والشهادة والإمامة، وما جرى مجرى ذلك، في أن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسأل ويبحث عنهم. . .)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً: ابن العربي، وإلكيا
(1)
انظر: تفسير السعدي (94).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 384 - 385).
الهراسي، والقرطبي، وأبوحيان، وابن عاشور، والعثيمين
(1)
.
الرجوع إلى الإسلام بعد الردة وقبل الموت لا يحبط العمل
.
قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} (البقرة: 217).
49 -
قال السعدي رحمه الله: (ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام، بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافراً، {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ} لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}، ودلت الآية بمفهومها، أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام
(2)
، أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته) ا. هـ
(3)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 160)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 122)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 19)، والبحر المحيط (2/ 123)، والتحرير والتنوير (2/ 266)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (2/ 444).
(2)
وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلاّ ما لو فعله في الكفر أخذ به. وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه. انظر: التحرير والتنوير (2/ 333)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 165).
(3)
انظر: تفسير السعدي (98).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام أنه يرجع إليه عمله الذي عمله قبل الردة، ووجه ذلك مفهوم المخالفة- مفهوم الشرط- حيث إنه قيّد حبوط العمل بالموت على الكفر فدل مفهوم المخالفة أن من عاد بعد ردته إلى الإسلام قبل الموت رجعت إليه أعماله.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الشوكاني:(والتقييد بقوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر)
(1)
.
وقال جلال الدين المحلي: (والتقييد بالموت عليها يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام لم يبطل عمله فيثاب عليه ولا يعيده كالحج مثلاً)
(2)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: ابن الفرس، والرازي، والبيضاوي، وأبوحيان، والخازن، والسيوطي، وحقي، وصديق حسن خان، والعثيمين
(3)
.
المخالفون:
ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية لا تدل على أن إحباط العمل مرتبط بالوفاة على الردة، بل مجرد الردة تحبط العمل وقالوا إن ذكر الموافاة هنا؛ لأن الله علق عليها الخلود في النار فمن مات كافراً خلده الله في النار، وأما العمل فيحبط بمجرد الردة وحينئذ فلا وجود لهذا المفهوم، قال ابن عاشور في توضيح حجة هؤلاء: (يريد أن بين الشرطين والجوابين
(1)
انظر: فتح القدير (1/ 273).
(2)
انظر: تفسير الجلالين (43).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 277)، والتفسير الكبير (6/ 32)، وأنوار التنزيل (1/ 118)، والبحر المحيط (2/ 159)، ولباب التأويل (1/ 147)، والإكليل (1/ 393)، وروح البيان (1/ 335)، وفتح البيان (1/ 437)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 61).
هنا توزيعاً فقوله: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ} جواب لقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} . وقوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} جواب لقوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، ولعل في إعادة {أُولَئِكَ} إيذاناً بأنه جواب ثان. . .)
(1)
، وممن قال بذلك ابن العربي، والنسفي، والألوسي
(2)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح في مفهوم هذا الشرط وهو أن إحباط العمل مشروط بالموت على الردة، وأما ما أجاب به المخالفون فلا حجة فيه لأنه تحكم لا حجة له قوية، قال أبوحيان:(وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها، ورتب عليه حبوط العمل في الدنيا والآخرة. . . وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر، لا على مجرد الارتداد)
(3)
ومما يؤيد هذا الاستنباط أنه لو جعلت مجرد الردة مؤثراً في الحبوط لم يبق للموت على الردة أثر في الحبوط أصلاً في شيء من الأوقات
(4)
كما أن في الأخذ بهذا ترغيباً في الرجوع إلى الإسلام بعد الارتداد، بينما في ضده عكس ذلك
(5)
.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (2/ 334).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 165)، ومدراك التنزيل (112)، وروح المعاني (2/ 110).
(3)
انظر: البحر المحيط (2/ 159).
(4)
انظر: التفسير الكبير (6/ 32).
(5)
انظر: إرشاد العقل السليم على مزايا الكتاب الكريم (1/ 217).
كل أمر مصالحه أكثر من مفاسده فإن الله لا يحرمه
.
قال تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (219)} (البقرة: 219).
50 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} مفهوم الآية أن ما كانت منافعه ومصالحه أكثر من مفاسده وإثمه؛ فإن الله لا يحرمه ولا يمنعه) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن ما كانت مصالحه ومنافعه أكبر من مفاسده فإن الله لا يحرمه، ووجه ذلك مفهوم المخالفة - مفهوم صفة- حيث حُرِّمت الخمر لأن مفاسدها أكبر من منافعها، فمفهوم المخالفة لذلك أن ما كانت مصالحه أكثر من مفاسده فهو حلال.
ولم أجد من أشار إليه من المفسرين حسب ما اطلعت عليه من المصادر. والله أعلم.
لا يجوز مخالطة المشركين وأهل البدع
.
قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ شَتَّى يُؤْمِنَّ آَيَةٌ مُؤْمِنَةٌ شَهْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ شَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ شَهْرٌ مِنْ
(1)
انظر: مختارات من الفتاوى للسعدي (292)، والفتاوى السعدية (139)، ومجموع الفوائد للسعدي (82).
مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} (البقرة: 221).
51 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ شَتَّى يُؤْمِنُوا} وهذا عام لا تخصيص فيه، ثم ذكر تعالى، الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة، لمن خالفهما في الدين فقال:{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي: في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم، فمخالطتهم على خطر منهم، والخطر ليس من الأخطار الدنيوية، إنما هو الشقاء الأبدي، ويستفاد من تعليل الآية
(1)
، النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع، لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى، وخصوصاً، الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم، كالخدمة ونحوها) ا. هـ
(2)
.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية النهي عن مخالطة أهل الشرك والبدعة، ووجه ذلك قياساً على النهي عن تزويجهم، حيث أنه لما نهى عن تزويجهم مع أن التزويج فيه مصالح فالنهي عن المخالطة المجردة من باب أولى، والعلة الجامعة هنا خشية الإفساد.
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا الاستنباط، وممن أشار إليه
(1)
قال أبو حيان: (وفي هذه الآية تنبيه على العلة المانعة من المناكحة في الكفار، لما هم عليه من الالتباس بالمحرّمات من: الخمر والخنزير، والانغماس في القاذورات، وتربية النسل وسرقة الطباع من طباعهم، وغير ذلك مما لا تعادل فيه شهوة النكاح في بعض ما هم عليه، وإذا نظر إلى هذه العلة فهي موجودة في كل كافر وكافرة فتقتضي المنع من المناكحة مطلقاً). انظر: البحر المحيط (2/- 175)، كما أشار إلى هذه العلة بعض المفسرين، انظر: نظم الدرر (3/ 272)، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 221).
(2)
انظر: تفسير السعدي (99)، والمواهب الربانية للسعدي (18).
الشوكاني فقال: (فكان في مصاهرتهم، ومعاشرتهم، ومصاحبتهم من الخطر العظيم ما لا يجوز للمؤمنين أن يتعرضوا له)
(1)
.
وقال البقاعي: (ولما كانت مخالطة أهل الشرك مظنة الفساد الذي ربما أدى إلى التهاون بالدين فربما دعا الزوج زوجه إلى الكفر فقاده الميل إلى إتباعه قال منبهاً على ذلك ومعللاً لهذا الحكم: {أُولَئِكَ} أي الذين هم أهل للبعد من كل خير {يَدْعُو إِلَى النَّارِ} أي الأفعال المؤدية إليها ولا بد فربما أدى الحب الزوج المسلم إلى الكفر ولا عبرة باحتمال ترك الكافر للكفر وإسلامه موافقة للزوج المسلم لأن درء المفاسد مقدم)
(2)
.
نهي الأولياء عن إنكاح المشركين دليل على الولاية في النكاح
.
قال تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ شَتَّى يُؤْمِنُوا (221)} (البقرة: 221).
52 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} دليل على اعتبار الولي في النكاح) ا. هـ
(3)
.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه لابد من ولي في النكاح، ووجه ذلك أن الله أسند نكاح النساء إلى الرجال
(4)
.
(1)
انظر: فتح القدير (1/ 281).
(2)
انظر: نظم الدرر (3/ 273).
(3)
انظر: تفسير السعدي (99).
(4)
انظر: التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 109).
الموافقون:
وقد السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن العربي: (قال محمد بن علي بن حسين
(1)
: النكاح بولي في كتاب الله تعالى؛ ثم قرأ: ولا تنكحوا المشركين بضم التاء
(2)
، وهي مسألة بديعة ودلالة صحيحة)، وممن أشار إلى ذلك أيضاً من المفسرين: الماوردي، وابن عطية، وابن الفرس، وأبوحيان، والقرطبي، والسيوطي.
(3)
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط الألوسي وضعف أخذ هذا المعنى من هذه الآية فقال في ذلك: ({وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ شَتَّى يُؤْمِنُوا} أي لا تزوّجوا الكفار من المؤمنات سواء كان الكافر كتابياً أو غيره وسواء كانت المؤمنة أمة أو حرّة، فـ {تَنْكِحُوا} بضم التاء لا غير، ولا يمكن الفتح وإلا لوجب ولا ينكحن المشركين، واستدل بها على اعتبار الولي في
النكاح مطلقاً وهو خلاف مذهبنا، وفي دلالة الآية على ذلك خفاء لأنّ المراد النهي عن إيقاع هذا الفعل والتمكين منه، وكل المسلمين أولياء في ذلك)
(4)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في هذا الاستنباط هو الصحيح،
(1)
هو: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر، روى عن أبويه، وابن عمر، وجابر، وعنه ابنه جعفر الصادق، والزهري، وابن جريج، وغيرهم، ولد عام 56 هـ، وتوفي عام 118 هـ. انظر: الكاشف (2/ 202)، وتقريب التهذيب (9/ 303).
(2)
رواه عنه ابن جرير الطبري في جامع البيان (2/ 391)، وانظر كذلك الدر المنثور (1/ 578).
(3)
انظر: النكت والعيون (1/ 282)، والمحرر الوجيز (195)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 288)، والبحر المحيط (2/ 175)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 68)، والإكليل (1/ 398).
(4)
انظر: روح المعاني (2/ 120).
أما ما ذهب إليه الألوسي فلا يصح؛ لأن النهي عن هذا الفعل وتوجيه الخطاب للرجال دون النساء فيه دلالة على أن الأمر بأيديهم، وإلا لم يكن لهذا الخطاب كبير معنى. والله أعلم.
عند تعارض المصالح يقدم أهمها
.
قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)} (البقرة: 224).
53 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}، ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة، أنه "إذا تزاحمت المصالح، قدم أهمها
(1)
"فهنا تتميم اليمين مصلحة، وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء، مصلحة أكبر من ذلك، فقدمت لذلك
(2)
) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دليلاً على القاعدة الفقهية المعروفة وهي تقديم الأعلى من المصالح عند تزاحم المصالح، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله نهى عن أن تكون اليمين مانعاً من صنع الخير، فهنا قدم
(1)
ومعنى هذه القاعدة عند تزاحم مصلحتين يُقدم العليا منهما بتفويت الدنيا. انظر: موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (4/ 361).
(2)
بناء على أن معنى العرضة هنا: أي لا تجعلوا الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير فيما بينكم وبينَ الله وبين الناس، وقيل معناها: أن تحلف بالله تعالى في كل حق وباطل، فتتبذل اسمه، وتجعله عُرضة. انظر: جامع البيان (2/ 415)، والنكت والعيون (1/ 285).
(3)
انظر: تفسير السعدي (100).
مصلحة التكفير عن اليمين على الاستمرار على اليمين المانعة من الخير، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تجعلن عرضة ليمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير
(1)
، فهنا اتضح أن البقاء على اليمين مصلحة، والتكفير عن اليمين لفعل خير أعظم مصلحة، فقدم التكفير عن اليمين على البقاء على اليمين لأجل المصلحة الأكبر، فتبين كونها دليلاً على هذه القاعدة.
مدة الإيلاء من الامتناع عن وطء الزوجة لا ينطبق على غير المولي
.
قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)} (البقرة: 226)
54 -
قال السعدي رحمه الله: (احتجاج الفقهاء
(2)
على أنه لا يجب على الزوج أن يطأ زوجته إلا في كل ثلث سنة مرة بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فيه نظر، وإنما فيها الدلالة على أن للمولي
(3)
خاصة هذه المدة لأجل إيلائه، وأما غير المولي فمفهومها
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 555).
(2)
وهذا مذهب الحنابلة، قال في الإنصاف:(قوله (وعليه وطؤها في كل أربعة أشهر مرة، إن لم يكن عذر) هذا المذهب، بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب)، وقال ابن مفلح:(وعليه الوطء في كل ثلث سنة مرة إن قدر)، وذهب أبو حنيفة، والشافعي؛ إلى أنه الوطء ليس له مدة، لأنه ليس بمول، فلم تضرب له مدة، كما لو لم يقصد الإضرار، ولأن تعليق الحكم بالإيلاء يدل على انتفائه عند عدمه، إذ لو ثبت هذا الحكم بدونه، لم يكن له أثر. انظر: الإنصاف للمرداوي (8/ 353)، والفروع لابن مفلح (8/ 388)، والمغني لابن قدامة (11/ 53).
(3)
المولي الذي يحلف بالله عز وجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر. انظر: المغني لابن قدامة (11/ 5).
يدل على خلاف ذلك، وأنه ليس له أربعة أشهر وإنما عليه ذلك بالمعروف) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط بعض الفقهاء من هذه الآية أن الرجل لا يجب عليه وطء زوجته إلا في الأربعة أشهر مرة، وذلك قياساً على مدة الإيلاء لأنها أقصى مدة يحلف الرجل فيها على عدم وطء زوجته ثم بعدها يجب عليه الوطء أو الطلاق، ولأنها المدة التي تتضرر بها المرأة فسواء كان الضرر بالحلف أو بدونه.
ولم يستحسن السعدي هذا الاستنباط بل بين أن مفهوم الآية يدل على خلافه ووجه ذلك أن تعليق الحكم بالإيلاء يدل على انتفائه عند عدمه.
وما ذهب إليه السعدي هو الصحيح لأن تقييده بهذه المدة قد يكون فيه إضرار بالمرأة وعليه فاتباع بالمعروف بين الزوجين هو الأحسن لنفي الضرر عن المرأة، وهو الأليق بمقام حسن العشرة والمعروف بينهما، قال ابن القيم:(وقالت طائفة أخرى بل يجب عليه أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها ويكسوها ويعاشرها بالمعروف بل هذا عمدة المعاشرة ومقصودها وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرها بالمعروف فالوطء داخل في هذه المعاشرة ولا بد قالوا وعليه أن يشبعها وطئا إذا أمكنه ذلك كما عليه أن يشبعها قوتا)
(2)
.
وأما تعليق المدة هنا بمدة الإيلاء فهو تعليق بحكم لم تتبين علته حتى يقاس عليه، قال ابن القيم: (وقالت طائفة ثالثة يجب عليه أن يطأها في كل أربعة أشهر مرة واحتجوا على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى أباح
(1)
انظر: المواهب الربانية للسعدي (17).
(2)
بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (1/ 406).
للمولي تربص أربعة أشهر وخير المرأة بعد ذلك إن شاءت أن تقيم عنده وإن شاءت أن تفارقه فلو كان لها حق في الوطء أكثر من ذلك لم يجعل للزوج تركه في تلك المدة وهذا القول وإن كان أقرب من القولين اللذين قبله فليس أيضاً بصحيح فإنه غير المعروف الذي لها وعليها وأما جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر فنظراً منه سبحانه للأزواج فإن الرجل قد يحتاج إلى ترك وطء امرأته مدة لعارض من سفر أو تأديب أو راحة نفس أو اشتغال بمهم فجعل الله سبحانه وتعالى له أجلاً أربعة أشهر ولا يلزم من ذلك أن يكون الوطء مؤقتاً في كل أربعة أشهر مرة)
(1)
. والله أعلم.
من لم يرد الإصلاح في إرجاع زوجته فلا حق له في الرجعة
.
قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَشَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا (228)} (البقرة: 228)
55 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَشَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة، أن يردوهن إلى نكاحهن {إنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} أي: رغبة وألفة ومودة، ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح، فليسوا بأحق بردهن، فلا يحل لهم أن يراجعوهن، لقصد المضارة لها، وتطويل العدة عليها. . .) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأزواج إن لم يريدوا الإصلاح في
(1)
انظر: المصدر السابق.
(2)
انظر: تفسير السعدي (102).
الرجعة فليس لهم حق رد أزواجهم، ووجه ذلك مفهوم المخالفة - مفهوم الشرط - حيث إنه شرط هنا إرادة الإصلاح فدل بمفهومه أنه إذا عدم هذا الشرط فلا حق له في الرجعة.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن عرفة:(قوله تعالى: {إنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} مفهومه: إن لم يريدوا إصلاحاً فلا حق لهم سواء أرادوا الإفساد أو لم يريدوا شيئا)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً: أبوحيان، والنسفي، والخازن
(2)
المخالفون:
خالف بعض المفسرين هذا المفهوم وقالوا إن المراد بهذا الشرط التحريض على الرجعة ومنع الضرر لا الشرطية في إرادة الإصلاح فالمراد به الحث على الإصلاح لا التقييد، قال البيضاوي:(وليس المراد منه شرطية قصد الإِصلاح للرجعة بل التحريض عليه والمنع من قصد الضرار)
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً: ابن الجوزي، والرازي، وجلال الدين المحلي، وأبو السعود، وحقي، والألوسي، والشوكاني، وصديق حسن خان، وابن عاشور
(4)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح؛ لأنه ظاهر مفهوم
(1)
انظر: تفسير ابن عرفة (1/ 275).
(2)
انظر: البحر المحيط (2/ 199)، ومدارك التنزيل (118)، ولباب التأويل (1/ 160).
(3)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 122).
(4)
انظر: زاد المسير (137)، والتفسير الكبير (6/ 81)، وتفسير الجلالين (45)، وروح البيان (1/ 354)، وإرشاد العقل السليم (1/ 225)، وروح المعاني (2/ 134)، وفتح القدير (1/ 296)، وفتح البيان (2/ 18)، والتحرير والتنوير (2/ 394).
الشرط في الآية فلا معنى لإلغاء هذا المفهوم ولا حجة كذلك تؤيد الإلغاء.
ومما يؤيد الأخذ بهذا المفهوم أنه يمنع الضرر الحاصل بالمرأة ويحميها من ظلم الرجل - كما كان يفعل أهل الجاهلية يطلق الرجل منهم زوجته فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ليطول العدة عليها فيضر بها
(1)
-، وهذا كله مشروط بالتحقق في وجود نية الإضرار، قال الشنقيطي:(فلو صرح للحاكم بأنه ارتجعها بقصد الضرر، لأبطل رجعته)
(2)
كما أشار إلى هذا المعنى ابن القيم
(3)
.
إذا ظن الزوجان عدم إقامة حدود الله فلا يتراجعا لأن ذلك مظنة إثم عليهما
.
قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ (230)} (البقرة: 230).
56 -
قال السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية الكريمة، أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله، بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية، والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا، لأن جميع الأمور، إن لم يقم فيها أمر الله، ويسلك بها طاعته، لم يحل الإقدام عليها.) ا. هـ
(4)
(1)
انظر: معالم التنزيل (1/ 151).
(2)
انظر: أضواء البيان (1/ 158).
(3)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (1/ 408).
(4)
انظر: تفسير السعدي (103).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الزوجين إذا لم يظنا أن يقيما حدود الله بينهما فالمراجعة بينهما فيها إثم عليهما، ووجه ذلك من مفهوم المخالفة - مفهوم الشرط - حيث شرط المراجعة بأن يظنا إقامة حدود الله بينهما ومفهومه إذا ظنا خلاف ذلك فلا يحل لهما هذه المراجعة وإلا أثما.
الموافقون:
وافق السعدي على الاستنباط بعض المفسرين، قال الشوكاني:(وأما إذا لم يحصل ظن ذلك بأن يعلما، أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله، أو ترددا، أو أحدهما، ولم يحصل لهما الظنّ، فلا يجوز الدخول في هذا النكاح؛ لأنه مظنة للمعصية لله، والوقوع فيما حرّمه على الزوجين)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً: الطوفي، وأبوحيان، وصديق حسن خان.
(2)
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا المفهوم، وقالوا المراد به الحث على إقامة حدود الله في النكاح الجديد لا أنه شرط في المراجعة، قال الرازي:(كلمة {إن} في اللغة للشرط والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فظاهر الآية يقتضي أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة، لكنه ليس الأمر كذلك، فإن جواز المراجعة ثابت سواء حصل هذا الظن أو لم يحصل إلا أنا نقول: ليس المراد أن هذا شرط لصحة المراجعة: بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى)
(3)
.
(1)
انظر: فتح القدير (1/ 300).
(2)
انظر: الإشارات الإلهية (1/ 339)، والبحر المحيط (2/ 212)، وفتح البيان (2/ 27).
(3)
انظر: التفسير الكبير (6/ 92).
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، لأن هذا هو ظاهر مفهوم الشرط في ظن إقامة حدود الله، ومما يؤيد هذا الاستنباط أن في مضمون هذا الشرط حث على إقامة حدود الله بين الزوجين، وتذكير لهما بذلك مما يجعل الرجعة تكون على أصل متين فتستمر الحياة الزوجية، أما إلغاء هذا الشرط ففيه فتح باب الإضرار بين الزوجين وتعريض لهما للإثم والعدوان فيما بينهم.
قال العثيمين: (ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز أن يتراجع الزوجان حتى يغلب على ظنهما أن يقيما حدود الله؛ أي أن يقوم كل منهما بمعاشرة الآخر بما يجب عليه؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وجه ذلك: أنهما إذا تراجعا بغير هذا الشرط صار هذا العقد عبئاً، وعناءً، وتعباً، وخسارة مالية؛ لأنهما لا يضمنان أن يرجعا إلى الحال الأولى)
(1)
.
لا يتولى الولايات الصغار والكبار إلا من رأى من نفسه قدرة على ذلك
.
قال تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ (230)} (البقرة: 230).
57 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للإنسان، إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور، خصوصاً الولايات، الصغار، والكبار، نظر في نفسه، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك، ووثق بها، أقدم، وإلا أحجم) ا. هـ
(2)
(3)
.
(1)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 119).
(2)
انظر: تفسير السعدي (103).
(3)
كما ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية منها: أولاً: جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث؛ لأنه علق الإباحة بالظن، ثانياً: الاكتفاء بالظن في الأمور المستقبلية، لأن طلب اليقين في المستقبل من باب التكليف بما لا يطاق. انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 480)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 119).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن تولي الإنسان للولايات الصغرى والكبرى ينبغي أن يكون مبني على نظر الإنسان لنفسه فإن رأى منها قوة على القيام بالحقوق أقدم فإن لم فلا ينبغي له الدخول فيها، ووجه هذا الاستنباط من الآية بمفهوم الموافقة المساوي، حيث إنه علق الرجعة بين الزوجين على ظن إقامة حدود الله بينهما، وكذلك تولي الولايات ينبغي أن يكون معلقاً بالقدرة على القيام بحقوق الولاية - فإن القيام بها من إقامة حدود الله - فإن رأى من نفسه عدم قدرة على ذلك كان تركها أولى.
وبعد قراءة لكثير من كتب التفسير لم أجد من تعرض لهذا الاستنباط من هذه الآية.
وهذا المعنى المستنبط مفيد لعموم الناس إذا ما أخذوا به في حياتهم؛ لأن الناس قد تخطئ تقديراتهم، وقد يسوقهم حسن الظن بالشخص لدفعه لمكان معين، فإذا ما عرف من نفسه عدم القدرة على القيام بالمسؤولية اعتذر منها وتركها لغيره ممن هو أقدر على القيام بها.
وهذا المعنى إضافة هامة لباب السياسة الشرعية وهو اعتراف الإنسان بعدم القدرة على مسؤولية ما؛ لأن الشخص يبقى أعرف بنفسه من غيره، وهذا قل من يتعرض له وينبه عليه، بل يستدل له.
تحريم العضل دليل على أنه لا نكاح إلا بولي
.
قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ (232)} (سورة البقرة: 232).
58 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . وفي هذه الآية، دليل على أنه لا بد من الولي في النكاح، لأنه نهى الأولياء عن العضل
(1)
، ولا ينهاهم إلا عن أمر، هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه لا نكاح إلا بولي، ووجه ذلك من دلالة الالتزام حيث إن النهي عن العضل يلزم منه أن الناهي له حق في هذا الأمر وإلا لم يكن لنهيه عن ذلك فائدة.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال ابن جرير الطبري:(وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال: "لا نكاح إلا بولي من العصبة"؛ وذلك أن الله تعالى ذكره منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك. فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها -لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها. وذلك أنها إن كانت متى أردات النكاح جاز لها إنكاح نفسها، أو إنكاح من توكله إنكاحها فلا عضل هنالك لها من أحد فينهى عاضلها عن عضلها)
(3)
، وممن قال به أيضاً: ابن الفرس، وابن العربي، والقرطبي، وابن كثير، والسيوطي.
(4)
(1)
العضل لغة: المنع، وشرعاً: هو منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحد منهما في صاحبه. انظر لسان العرب مادة عضل (11/ 451)، وتهذيب اللغة، عضل (1/ 474)، والمغني لابن قدامة (9/ 383).
(2)
انظر: تفسير السعدي (103).
(3)
انظر: جامع البيان (2/ 501).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 335)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 221)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 151)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 581)، والإكليل (1/ 425).
المخالفون:
خالف في ذلك الحنفية وقالوا أن الآية تدل من وجوه على عكس ذلك وهو جواز النكاح إذا عقدت المرأة على نفسها من غير ولي؛ أحدها: إضافة العقد إليها من غير شرط إذن الولي، والثاني: نهيه عن العضل إذا تراضى الزوجان
(1)
.
ورد الحنفية حجة من قال أن النهي عن العضل يدل على أنه لا نكاح إلا بولي فقالوا: فإن قيل: لولا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه كما لا ينهى الأجنبي الذي لا ولاية له عنه. قيل هذا غلط؛ لأن النهي يمنع أن يكون له حق فيما نهي عنه فكيف يستدل به على إثبات الحق؟
(2)
أجاب الجمهور عن ذلك فقالوا: لا يقال نهي عن استعمال ما ليس بحق له لأنه لو كان كذلك لكان النهي عن البغي والعدوان كافياً، ولجئ بصيغة: ما يكون لكم ونحوها
(3)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح لوجوه منها:
أولاً: دلالة الآية عليه بدلالة الالتزام، وهي واضحة الدلالة على ذلك كما سبق.
ثانياً: أن هناك نصوصاً أخرى تدل على هذا المعنى بدلالة واضحة، ومن أصرحها في الدلالة على هذه المسألة حديث أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا نكاح إلا بولي)
(4)
، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 484)، ودرج الدرر (1/ 399).
(2)
انظر: المصدر السابق.
(3)
انظر: التحرير والتنوير (1/ 428).
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (32/ 522) ح (19746)، وأبوداوود، كتاب النكاح، باب في الولي، ح (2085)، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، ح (1101)، وصححه الحاكم في مستدركه (2/ 188)، وصححه الألباني في الإرواء (6/ 235).
ثالثاً: أن الأخذ بهذا القول فيه سد لباب الفتنة الحاصلة اليوم في بعض المجتمعات - خصوصاً المجتمعات المختلطة - من تزويج الفتاة نفسها لزميلها وما يترتب على ذلك من وجود أطفال بلا أنساب، وغير ذلك من الآثار السيئة.
مناسبة ذكر كاملين بعد حولين مع أن في ذكر حولين غنية
.
قال تعالى: {* وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233).
59 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان الحول، يطلق على الكامل، وعلى معظم الحول قال:{كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فإذا تم للرضيع حولان، فقد تم رضاعه وصار اللبن بعد ذلك، بمنزلة سائر الأغذية، فلهذا كان الرضاع بعد الحولين، غير معتبر
(1)
، لا
(1)
اختلف العلماء في وقت الرضاع الذي يتعلق به التحريم على أقوال، القول الأول: إن الرضاع المعتبر هو ما كان في الحولين فقط، وهذا مروي عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وغيرهم، وهو قول الشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة، القول الثاني: إن الرضاع المعتبر هو ما كان في الصغر دون تقديره بزمان، وهو مروي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خلا عائشة، والقول الثالث: إن الرضاع يحرم ولو كان للكبير وهذا مروي عن عائشة، وعلي، وعطاء، ونصره ابن حزم، القول الرابع: إن الرضاع لا يكون محرماً إلا في الصغر إلا إذا دعت الحاجة إلى إرضاع الكبير، وعليه يحمل إرضاع سالم مولى أبي حذيفة، وكل من كان في مثل حاله، وممن قال بذلك ونصره ابن تيمية، وابن القيم. انظر: المغني (11/ 319)، وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام للبسام (5/ 111).
يحرم) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ذكر كاملين بعد حولين، مع أن في ذكر حولين غنية عن ذلك، وبين أن مناسبة ذلك هو التأكيد على أن المراد هنا تمام الحولين لا معظمهما؛ لأن الحول يطلق على الحول كاملاً، وعلى معظمه كذلك.
وافق السعدي على استنباط هذه المناسبة جمهور المفسرين، قال ابن جرير الطبري: (فإن قال لنا قائل: وما معنى ذكر"كاملين" في قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ، بعد قوله:"يرضعن حولين"، وفي ذكر"الحولين" مستغنى عن ذكر"الكاملين"، إذ كان غير
مشكل على سامع سمع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} ما يراد به؟ فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟
قيل: إن العرب قد تقول: "أقام فلان بمكان كذا حولين، أو يومين، أو شهرين"، وإنما أقام به يوماً وبعض آخر، أو شهراً وبعض آخر، أو حولاً وبعض آخر، فقيل:"حولين كاملين" ليعرف سامعو ذلك أن الذي أريد به حولان تامان، لا حول وبعض آخر)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: البغوي، وابن عطية، وأبوحيان، والبيضاوي، وأبو السعود، وجلال الدين المحلي، والخازن، والبقاعي، والألوسي، وابن عاشور، والشوكاني
(3)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (104).
(2)
انظر: جامع البيان (2/ 503).
(3)
انظر: معالم التنزيل (1/ 157)، والمحرر الوجيز (206)، والبحر المحيط (2/ 222)، وأنوار التنزيل (1/ 125)، وإرشاد العقل السليم (1/ 230)، وتفسير الجلالين (46)، ولباب التأويل (1/ 166)، ونظم الدرر (3/ 331)، وروح المعاني (2/ 146)، والتحرير والتنوير (2/ 431)، وفتح القدير (1/ 306).
أقل مدة الحمل ستة أشهر
.
قال تعالى: {* وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233).
60 -
قال السعدي رحمه الله: (ويؤخذ من هذا النص، ومن قوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}
(1)
(الأحقاف: 15)، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأنه يمكن وجود الولد بها). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، ووجه ذلك أن مدة الرضاع سنتان إذا سقطت من الثلاثين شهراً بقي ستة أشهر مدة للحمل وذلك بدلالة الإشارة، قال الشنقيطي: (ودلالة هذه الآيات على أن ستة أشهر أمد للحمل هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة
(3)
)
(4)
.
(1)
استنبط بعض المفسرين وعلى رأسهم ابن عباس رضي الله عنهما-من هاتين الآيتين-كذلك أن مدة الرضاع حولين فقط، فكلما وضعته مبكراً استحق من ذلك بقدر بكوره، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها إذا وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين، وإن وضعته لسبعة أشهر فإنها ترضعه ثلاثة وعشرين شهرا، وإن وضعت لتسعة اشهر فإنها ترضعه أحدا وعشرين شهرا، ثم تلا قوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (الأحقاف: 15). انظر: جامع البيان (2/ 504)، والدر المنثور (1/ 652).
(2)
انظر: تفسير السعدي (104) و (781)، وفتح الرحيم للسعدي (157).
(3)
دلالة الإشارة: دلالة اللفظ على معنى ليس مقصوداً باللفظ في الأصل، ولكنه لازم للمقصود، فكأنه مقصود بالتبع لا بالأصل. ودلالة الإشارة من دلالة الالتزام. انظر: مذكرة أصول الفقه (235).
(4)
انظر: أضواء البيان (7/ 386).
وقد قال بهذا الاستنباط ابن عباس رضي الله عنهما، وعلي رضي الله عنه، فقد رُوي أن عثمان رضي الله عنه أتي بامرأة ولدت في ستة أشهر، فأمر برجمها فقال ابن عباس: أدنوني منه فلما أدنوه منه، قال: إنها إن تخاصمك بكتاب الله، تخصمك، يقول الله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ويقول الله في آية أخرى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فقد حملته ستة أشهر، فهي ترضعه لكم حولين كاملين، قال: فدعا بها عثمان فخلى سبيلها
(1)
.
ورُوي أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه، رفعت إليه امرأة ولدت لستة أشهر، فهم برجمها، فبلغ ذلك علياً-رضي الله عنه فقال: ليس عليها رجم، قال الله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وستة أشهر فذلك ثلاثون شهرا
(2)
قال ابن كثير - بعد ذكره لهذا الاستنباط-: (وهو استنباط قوي صحيح)
(3)
، وقال ابن العربي- بعد ذكره لهذا الاستنباط-:(وهذا من بديع الاستنباط)
(4)
.
وقال بذلك جمع من المفسرين منهم: البغوي، وابن عطية، والرازي، وأبوحيان، والبيضاوي، وأبو السعود، وجلال الدين السيوطي، والألوسي، والشوكاني، وابن عاشور، والشنقيطي
(5)
.
وهذا المعنى أكده الطب الحديث والقديم ولا يمكن أن يعارضه لأن هذا كلام الخالق سبحانه وتعالى، قال ابن القيم: (وأما أقل مدة الحمل
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (2/ 428).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (2/ 428).
(3)
انظر: تفسير ابن كثير (7/ 3189).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 222).
(5)
انظر: معالم التنزيل (4/ 151)، والمحرر الوجيز (1710)، والتفسير الكبير (28/ 14)، والبحر المحيط (8/ 61)، وأنوار التنزيل (2/ 394)، وإرشاد العقل السليم (8/ 83)، وتفسير الجلالين (515)، وروح المعاني (26/ 18)، وفتح القدير (5/ 26)، والتحرير والتنوير (26/ 30)، وأضواء البيان (7/ 386).
فقد تظاهرت الشريعة والطبيعة على أنها ستة
أشهر قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، وقال جالينوس: كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة واحدة ولدت في مائة وأربع وثمانين ليلة).
(1)
وقد أكد الطب الحديث ما ذهب إليه الفقهاء من أن أقل مدة الحمل ستة أشهر إلا أن المولود لها نادراً ما يعيش في الأحوال العادية. ومع تقدم مجالات الطب أصبح بالإمكان إيجاد فرصة أكبر لمثل هؤلاء المواليد في الحياة بعد وضعه في حضانة طبية مناسبة وقد قرر الأطباء إذا ما ولد الطفل ما بين (24 - 36 أسبوعاً) يسمى الطفل خديجاً ويكون في الغالب قابلاً للحياة، ولكنه يحتاج لعناية طبية خاصة
(2)
.
يقول الطبيب أحمد كنعان: " ويتفق أهل الطب والفقهاء حول أقل مدة الحمل، إذ تؤكد الشواهد الطبية أن الجنين الذي يولد قبل تمام الشهر السادس لا يكون قابلاً للحياة، وإلى هذا يذهب أهل القانون أيضاً).
(3)
وهذا من الاستنباطات الإعجازية، لأن هذا المعنى الإعجازي لا يمكن لبشر لم يطلع على الوسائل الطبية الحديثة أن يعلمه من تلقاء نفسه؛ فدل على أن هذا الكتاب من لدن عليم خبير.
يجب على الغني أن ينفق على أقاربه الفقراء
.
قال تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ (233)} (البقرة: 233).
(1)
انظر: التبيان في أقسام القرآن (292).
(2)
انظر: كتاب أقل وأكثر مدة الحمل دراسة فقهية طبية/د. عبدالرشيد قاسم (2).
(3)
انظر: الموسوعة الفقهية الطبية/د. أحمد كنعان (375)، وانظر: الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية/د. أحمد متولي (282).
61 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أي: على وارث الطفل إذا عدم الأب، وكان الطفل ليس له مال، مثل ما على الأب من النفقة للمرضع والكسوة
(1)
، فدل على وجوب نفقة الأقارب المعسرين، على القريب الوارث الموسر) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية وجوب نفقة الأقارب المعسرين على القريب الموسر، ووجه ذلك قياساً، حيث إنه أوجب نفقة الطفل معدوم الأب على وارث الطفل، ومثله المعسر، والعلة الجامعة هنا قرابة الإرث أي قريب وارث.
قال ابن كثير: (وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وجمهور السلف)
(3)
وهذا الاستنباط من الاستنباطات النافعة، حيث إنه يكفل حق الأقارب على بعضهم البعض ويقوي أواصر الترابط الأسري الذي تسعى الشريعة لبنائه والمحافظة عليه، وهذا مما يتميز به ديننا العظيم في زمن يعتبر التفكك الأسري من أبرز مظاهره.
(1)
بناء على أن معنى الآية أن على الوارث مثل ما كان على والده من أجرة رضاعته ونفقته، وهو قول الحسن، وقتادة، وإبراهيم، وقيل معنى الآية: أن على الوارث مثل ذلك في ألاَّ تضار والدة بولدها، وهذا قول الضحاك، والزهري. انظر: النكت والعيون (1/ 301).
(2)
انظر: تفسير السعدي (104).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 585)، وانظر: المغني لابن قدامة (11/ 374).
لا يجوز فطام الطفل إذا لم يرض أحد والديه أولم تكن له مصلحة في الفطام
.
قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا (233)} (البقرة: 233).
62 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله: {فَإِنْ أَرَادَا} أي: الأبوان {فِصَالًا} أي: فطام الصبي قبل الحولين، {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} بأن يكونا راضيين {وَتَشَاوُرٍ}
(1)
فيما بينهما، هل هو مصلحة للصبي أم لا؟ فإن كان مصلحة ورضيا {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} في فطامه قبل الحولين، فدلت الآية بمفهومها، على أنه إن رضي أحدهما دون الآخر، أو لم يكن مصلحة للطفل، أنه لا يجوز فطامه) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الطفل لا يفطم إذا كان الفطام برضا أحد الأبوين دون الآخر، أولم يكن في مصلحة الطفل، ووجه ذلك من مفهوم المخالفة - مفهوم الشرط - حيث إنه شرط للفطام شرطين وهما التراضي، والتشاور للمصلحة، ومفهومه إذا عدم أحد الشرطين دل على بطلان الفطام حينئذ.
قال الجصاص: (. . . وفيه أيضاً دلالة على أن الفطام في مدة الرضاع موقوف على تراضيهما، وأن ليس لأحدهما أن يفطمه دون الآخر،
(1)
استنبط بعض المفسرين أيضاً من هذه الآية جواز الاجتهاد في أحكام الشريعة؛ لأن الله جعل للوالدين التشاور والتراضي في الفطام فيعملان على موجب اجتهادهما فيه. انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 225)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 500).
(2)
انظر: تفسير السعدي (104).
فأجاز ذلك بتراضيهما وتشاورهما)
(1)
، وقد أشار إلى ذلك مجاهد
(2)
.
وقال ابن كثير: (فيؤْخَذُ منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر)
(3)
، وقد أشار إليه بعض المفسرين منهم: الرازي، وأبو حيان، والبيضاوي، وأبو السعود، وابن عادل الحنبلي، الألوسي، وابن عاشور
(4)
.
وهذا الاستنباط فيه حفظ حق الطفل من الضياع بين الأبوين لهوى بينهما أو للهروب من المسؤولية فالأم تمل والأب يبخل
(5)
، وفيه كذلك سد لباب النزاع بين الأبوين لوضوح الشروط في تعجيل الفطام.
لولي المرأة حق في إجبارها على ما فيه منفعة لها، ومنعها مما فيه مضرة عليها
.
قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)} (البقرة: 234).
63 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي خطابه للأولياء بقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}
(6)
دليل على أن الولي ينظر على
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 500).
(2)
انظر: الدر المنثور (1/ 655).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 585).
(4)
انظر: التفسير الكبير (6/ 106)، والبحر المحيط (2/ 227)، وأنوار التنزيل (1/ 125)، وإرشاد العقل السليم (1/ 231)،، واللباب في علوم الكتاب (4/ 184)، وروح المعاني (1/ 148)، والتحرير والتنوير (2/ 438).
(5)
انظر: روح المعاني (1/ 148) 0
(6)
استنبط بعض المفسرين أن الآية فيها جواز النكاح بغير ولي، قال الرازي: (تمسك =
المرأة، ويمنعها مما لا يجوز فعله ويجبرها على ما يجب، وأنه مخاطب بذلك، واجب عليه.) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه يجب على ولي المرأة أن ينظر عليها فيمنعها مما لا يجوز لها فعله، ويجبرها على ما يجب، ووجه ذلك توجيه الخطاب إليه في هذه الآية، ورفع الجناح عنه إن كنّ فعلن المعروف، وتأثيمه إن فعلن عكس ذلك كما هو مفهوم المخالفة في الآية
(2)
.
قال العثيمين: (ومنها: أن الأولياء مسؤولون عن مولياتهم؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} إشارة إلى أن الرجال لهم ولاية على النساء؛ فيكونون مسؤولين عنهن)
(3)
، كما أشار إلى ذلك القرطبي، والقاسمي
(4)
.
وبما أن الخطاب في الآية للأولياء كما هو قول جمع من المفسرين، فإنه يؤيد ما ذهب إليه السعدي من وجوب وقوف الولي علي أمر المرأة، ولو لم يكن ذلك لم يكن لهذا الخطاب معنى.
= أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في جواز النكاح بغير ولي، قالوا: إنها إذا زوجت نفسها وجب أن يكون ذلك جائزاً لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} وإضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة، لأن هذا هو الحقيقة في اللفظة، وتمسك أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه في أن هذا النكاح لا يصح إلا من الولي لأن قوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} خطاب مع الأولياء ولولا أن هذا العقد لا يصح إلا من الولي وإلا لما صار مخاطباً بقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ). انظر: التفسير الكبير (6/ 110).
(1)
انظر: تفسير السعدي (105).
(2)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان للهرري (3/ 349).
(3)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 158).
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 177)، ومحاسن التأويل (2/ 197).
وهذا الاستنباط له فائدة كبرى خصوصاً في هذا الزمن الذي كثر فيه دعاة الشر إلى أن تكون المرأة لها حرية مطلقة فيما شاءت، ويرفع عنها تحكم الولي، مما أضر بالمرأة وجعلها سلعة رخيصة في أيدي العابثين، فهذا المعنى المستنبط يجعل الولي يقوم بدوره تجاه من هو ولي عليها وإلا كان آثماً، مما يصون المرأة ويحفظها من الانحراف.
تحريم العقد على المعتدة
.
قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ (235)} (البقرة: 235).
64 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}
(1)
، وفي هذه الآية تحريم العقد على المعتدة؛ لأنه إذا حرمت خطبتها، فمن باب أولى نفس العقد فهو حرام غير منعقد). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية تحريم العقد على المعتدة، ووجه ذلك من مفهوم الموافقة - مفهوم أولوي- حيث إنه إذا حرم خطبتها في العدة فتحريم العقد عليها من باب أولى
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية منها: نفي الحد بالتعريض في القذف لأنه جعل حكمه مخالفاً لحكم التصريح، ومنها: جواز نكاح الحامل من الزنى إذ لا عدة لها. انظر: الإكليل (1/ 430)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 197).
(2)
انظر: فتح الرحيم للسعدي (156).
قال السيوطي: (. . . فيه تحريم العقد في العدة)
(1)
وقال العثيمين: (ومنها: تحريم عقد النكاح في أثناء العدة إلا من زوجها)
(2)
، كما أشار إليه ابن كثير، وابن القيم
(3)
.
الوسيلة إلى محرم محرمة
.
قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ (235)} (البقرة: 235).
65 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما التعريض، فقد أسقط تعالى فيه الجناح، والفرق بينهما: أن التصريح، لا يحتمل غير النكاح، فلهذا حرم، خوفا من استعجالها، وكذبها في انقضاء عدتها، رغبة في النكاح، ففيه دلالة على منع وسائل المحرم
(4)
) ا. هـ
(5)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية منع كل وسيلة تؤدي إلى محرم، ووجه ذلك هو النهي عن التصريح في طلب نكاح المعتدة لأنه وسيلة إلى الوقوع في محرمات منها كذبها في انقضاء العدة استعجالاً للزواج الجديد.
(1)
انظر: الإكليل (1/ 430).
(2)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 163).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 590)، وبدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (1/ 409).
(4)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر وهو جواز التوصل إلى الأشياء من الوجوه المباحة، حيث أباح لهم هنا التوصل إلى المراد بالتعريض المباح دون التصريح المحرم. انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 198).
(5)
انظر: تفسير السعدي (105) و (567).
وما أشار إليه السعدي في هذا الاستنباط مؤيد بالقاعدة الفقهية: الوسائل تتبع المقاصد في أحكامها، فإذا كان المقصد حراماً كانت وسيلة الوصول إليه محرمة.
وهذا الاستنباط غاية في الأهمية في حياة الإنسان لأن هناك من الأمور ما ليس محرماً في ذاته لكنه محرم بسبب ما يجر إليه من فعل المحرمات ولهذا يمنع منه العلماء لأجل أنه وسيلة إلى غيره.
تسمية الأحكام بالآيات فيه دلالة على صلاحيتها لكل زمان ومكان
.
قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)} (البقرة: 242).
66 -
قال السعدي رحمه الله: (فسمى هذه الأحكام آيات؛ لأنها تدل أكبر دلالة على عنايته ولطفه بعباده، وأنه شرع لهم من الأحكام، الأحكام الصالحة لكل زمان ومكان، ولا يصلح العباد غيرها) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دلالتها على وجه من وجوه الإعجاز التشريعي وهو صلاحية هذه الأحكام لكل زمان ومكان، ووجه ذلك أن الله سماها آيات لما تحتوي عليه من عناية ولطف من الله بعباده، ولأن فيها ما يصلحهم ويحفظ حقوقهم مما لا يمكن أن يجدوه في أي تشريع آخر.
قال ابن جرير: (في هذه الآيات، فكذلك أبين لكم سائر الأحكام
(1)
انظر: تيسير اللطيف المنان لابن سعدي (150).
في آياتي التي أنزلتها على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب، لتعقلوا- أيها المؤمنون بي وبرسولي- حدودي، فتفهموا اللازم لكم من فرائضي، وتعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، وعاجلكم وآجلكم)
(1)
.
وهذا الاستنباط نافع في الرد على من يرى أن الشريعة الإسلامية قد ولى زمنها وأن الحضارة اليوم تقتضي الأخذ بالنظم العالمية ولو كانت مخالفة للإسلام، ولكن الحوادث تثبت يوماً بعد يوم أن التشريع الإسلامي هو الأصلح للعالم كله، وما حدث من نداءات لتطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في الأزمة الاقتصادية الأخيرة ما هو إلا أحد الأدلة على ذلك، وقد سبقه المناداة بتطبيق نظام الأسرة في الإسلام، وغير ذلك مما يؤكد أن هذا التشريع صالح لكل زمان ومكان.
توهم المنفق بالافتقار مدفوع بأن القابض والباسط للأرزاق هو الذي من أجله الإنفاق
.
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} (البقرة: 245).
67 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أي: يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملاً موفراً مضاعفاً) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: جامع البيان (2/ 600).
(2)
انظر: تفسير السعدي (107).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة إيراد القبض والبسط بعد أمره تعالى لعباده بالإنفاق في سبيل الله، وبين أن وجه المناسبة هنا هو دفع توهم الافتقار إذا ما أنفق في سبيل الله.
وقد ذكر الرازي ما يقارب هذا المعنى الذي ذكره السعدي هنا فقال في بيان وجه المناسبة: (أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا، وبقي اعتماده على الله، فحينئذٍ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل مرضاة الله تعالى)
(1)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر لهذا الاستنباط، قال حقي:(فكأن الله تعالى يقول إذا علمتم أن الله هو القابض والباسط وان ما عندكم إنما هو من بسطه وإعطائه فلا تبخلوا عليه فاقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم وأعطاكم ولا تعكسوا بان تبخلوا لئلا يعاملكم مثل معاملتكم فى التعكيس بأن يقبض بعد ما بسط)
(2)
وممن أشار إلى ذلك البيضاوي، وأبو السعود
(3)
.
وكلا الوجهين حسن، والمناسبة هنا تحتملهما معاً. والله أعلم.
تشاور أهل الحل والعقد أكبر سبب لحصول مقصودهم
.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
(1)
انظر: التفسير الكبير (6/ 143).
(2)
انظر: روح البيان (1/ 380).
(3)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 130)، وإرشاد العقل السليم (1/ 238).
وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة: 246).
68 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب، فمنها: أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، ثم العمل به، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم، وتحصل له الطاعة منهم) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن اجتماع أهل الحل والعقد وبحثهم في أمورهم يحقق لهم غايتهم التي يسعون إليها، ويكون سبباً لارتقائهم والحصول على ما يريدونه، ووجه ذلك أن هؤلاء اجتمعوا وتشاوروا في تعيين ملك لهم، فاتفق رأيهم على ذلك وحصل لهم ما طلبوه.
وهذا المعنى المستنبط الذي ذكره السعدي قل من المفسرين من أخذه من هذه الآية، وهو معنى مهم لتسيير أمور الناس خصوصاً في الأمور المصيرية التي يحتاجون فيها إلى أخذ الرأي السديد فيها.
وهذا الاستنباط هو تأصيل لما يحدث اليوم من مؤتمرات، وندوات حوار حول بعض القضايا الهامة في المجتمع وكيفية معالجتها ونحو ذلك.
بل إن في هذا الاستنباط تنبيهاً مهماً للمجتمع في التفكير والمطالبة بما يحقق مصالحه، وهذا يظهر في كون هؤلاء طلبوا من هذا النبي أن يختار لهم ملكاً، وله عليهم الطاعة، فتحقق لهم ما يريدونه؛ بسبب مبادرتهم إلى ذلك.
(1)
انظر: تفسير السعدي (109).
كما أن فيه تأصيل لما يسمى اليوم بعلم المبادرة وأن الإنسان كلما بادر إلى فعل ما يريده كلما حقق الله له مراده.
معارضة الحق بالشبه لا تقضي عليه، وإنما تزيده وضوحاً
.
69 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من العبر في القصة-: أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحاً وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الحق كلما عورض ازداد وضوحاً، وزادت قناعة الناس به، وسقطت هذه الشبه التي مقصدها تشويهه وصرف الناس عنه، ووجه ذلك في هذه القصة أن الملأ عارضوا تعيين طالوت ملكاً، وأوردوا على ذلك شبهتين وهما: دنو النسب، وقلة المال، ولكن كان في طرحهم لهاتين الشبهتين بياناً لفضل طالوت وما يتميز به من أمور تؤهله لهذا المكان، وهي العلم والقوة، فكان بذلك دفع الشبهة وحصول اليقين بكفاءة طالوت كملك.
(1)
انظر: تفسير السعدي (109).
وهذا الاستنباط من الاستنباطات المهمة والنافعة، خصوصاً في هذا الزمن الذي تكالب فيه أهل الباطل على أهل الحق، وكثر فيه تشويه الإسلام والمسلمين عبر بعض وسائل
الإعلام المختلفة، ولكن بهذا المعنى العظيم يزداد أهل الإيمان يقيناً بأن هذه الشبه والتشويهات ستكون سبباً في نصرة هذا الدين وانتشاره في العالم، ولكن لابد لأهل الحق أن يتنبهوا لذلك وأن يشمروا عن ساعد الجد في دحض هذه الشبه، وكشفها، وبيان حقيقة هذا الدين وما فيه من خير وتحقيق لمصالح الناس، ثم النتيجة اقتناع كثير من الباحثين عن الحقيقة بهذا الدين وكثرة الداخلين فيه بإذن الله.
كمال الولاية في العلم والرأي مع قوة منفذة
.
قال تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} (البقرة: 247).
70 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من العبر في القصة-: أن العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أصلاً من أصول السياسة الشرعية، وهو اجتماع العلم وقوة الرأي مع قوة التنفيذ في الوالي، وأن فقدهما أو أحدهما يحصل به نقص وضرر، ووجه ذلك في الآية أن من حجج هذا النبي في دفاعه عن طالوت وبيان كفاءته اجتماع هاتين الصفتين فيه.
(1)
انظر: تفسير السعدي (109).
وقد أشار بعض المفسرين إلى ذلك، قال ابن كثير:(ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه)
(1)
.
وقال الألوسي: (فلأن العمدة وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطراً في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب)
(2)
.
وهذا كله مبني على اختيار الأصلح لهؤلاء وهذا أصل أصيل في السياسة الشرعية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(وأهم ما في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود؛ فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر)
(3)
وهذا الاستنباط فيه تأصيل لما يسمى اليوم بالسلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، إذ لا غنى لأحدى السلطتين عن الأخرى فالأولى فيها العلم والرأي، والثانية فيها قوة التنفيذ.
التوكل على النفس سبب الفشل، والصبر والالتجاء إلى الله سبب النصر
.
قال تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)} (البقرة: 246).
وقال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 613).
(2)
انظر: روح المعاني (1/ 558).
(3)
انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية (28).
عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 250 - 251).
71 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها -أي من العبر في القصة-: أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر، فالأول كما في قولهم لنبيهم {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246] فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا، والثاني في قوله: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ}) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أهم أسباب النصر وأهم أسباب الفشل والخذلان، فأما النصر أما النصر فمن أهم أسبابه الالتجاء إلى الله وطلب الصبر، والثبات، والنصر من الله سبحانه وتعالى، فكانت النتيجة هي أن نصرهم الله وهزم أعداءهم.
وأما الفشل فكان عند طلبهم القتال في سبيل الله فكانت مقالتهم خالية من الإشارة التجاءهم إلى الله سبحانه، وإنما كان فيها مؤشر الاعتماد على النفس، فكانت النتيجة الخذلان والهروب من القتال لما كتب عليهم.
وهذا المعنى المستنبط عظة وعبرة لكل أمة تريد الخروج من مأزقها وفشلها، بأن عليها أن تكثر من الالتجاء إلى الله فإنه الناصر سبحانه وتعالى.
(1)
انظر: تفسير السعدي (109).
من حكمة الله التمييز بين الأمور حتى لا تختلط المتضادات
.
72 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من العبر في القصة-: أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية سنة من سنن الله إلا وهي التمييز بين الناس، وكشف كل على حقيقته، حتى لا تختلط الأمور ويتساوى المصلح مع المفسد، ووجه ذلك من الآية أن الله امتحن هؤلاء القوم ببعض الأمور التي كانت بمثابة مميزات تميز الصفوف عن بعضها، فالأول منها كان الابتلاء بالنهر، فتميزت عنده الفرقة الأولى ضعيفة الصبر والتي لو وجدت في الصف لأضعفته وخذلته.
أما المميز الثاني فكان بكثرة العدو وقوته، وهنا تميزت الفرقة ضعيفة اليقين بنصر الله حتى قيض لها الفرقة المؤمنة التي ثبتتها وقوت يقينها بالله، وحينئذ تميز الصف وأصبح نقياً لتلقي نصر الله تعالى.
وفائدة هذا المعنى أن النصر لا يكون بالصف المختلط المتناقض في رؤيته، وعلاقته بالله، بل لابد أن يكون الصف نقياً لتنزل نصر الله عليه.
(1)
انظر: تفسير السعدي (109).
بل في هذا المعنى أن النصر قريب بعد تمييز الصفوف، فربما كان وجود الفئة قليلة الصبر، أو عديمة اليقين بالله سبباً للهزيمة.
الجزية تقبل حتى من غير أهل الكتاب
.
قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} (البقرة: 256).
73 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية
(1)
من غير أهل الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء
(2)
) ا. هـ
(3)
(1)
الجزية: هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالا وصغارا والمعنى حتى يعطوا الخراج عن رقابهم.
واختلف في اشتقاقها فقال القاضي في الأحكام السلطانية اسمها مشتق من الجزاء إما جزاءا على كفرهم لأخذها منهم صغارا أو جزاءا على أماننا لهم لأخذها منهم رفقا، وقال صاحب المغني هي مشتقة من جزاه بمعنى قضاه، فتكون الجزية مثل الفدية. قال شيخنا والأول أصح وهذا يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة. انظر: أحكام أهل الذمة (1/ 22).
(2)
اختلف العلماء في غير أهل الكتاب هل تقبل منهم الجزية أم لا؟ فذهب أحمد إلى أنها لا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها ولا يقبل منهم إلا الإسلام فان لم يسلموا قتلوا هذا ظاهر مذهب أحمد، وروى عنه الحسن بن ثواب أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب. وذهب الشافعي: إلى أنها لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس.
وذهب أبو حنيفة: إلى أنها تقبل من جميع الكفار إلا العرب، وذهب مالك إلى أنها تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش، أما المجوس فنقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على قبول الجزية منهم .. انظر: المغني لابن قدامة (13/ 208)، ومختصر المزني (370)، والجامع لأحكام القرآن (8/ 102).
(3)
انظر: تفسير السعدي (111)، والمختارات الجلية من المسائل الفقهية للسعدي (141).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية، جواز قبول الجزية من غير أهل الكتاب، ولم يبين كيفية أخذه لهذا الحكم من هذه الآية.
والاستدلال بهذه الآية على هذا الحكم فيه بعد، حتى إن أكثر المفسرين لم يتعرضوا للاستدلال بها على ذلك.
وغاية ما يمكن الاستناد إليه في هذه الآية هو عموم نفي الإكراه والذي يكون بدل الإكراه هو دفع الجزية عند رفض الدخول في الإسلام، ولكن جمع هذه الآية مع النصوص الأخرى يدل على بُعد الاعتماد على العموم في هذه الآية، فقوله تعالى:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ شَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} (التوبة: 29).
تقييدها بأهل الكتاب دليل على أنهم هم المعنيون بالحكم دون سواهم، فمفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب
(1)
، وإثبات ذلك الحكم في غيرهم يقتضي إلغاء هذا القيد المنصوص عليه
(2)
، وعليه فلا دلالة في الآية على قبول الجزية من غير أهل الكتاب. والله أعلم.
صدقة لا يتبعها أذى خير من قول المعروف والمغفرة
.
قال تعالى: {* قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ شَهْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيمٌ (263)} (البقرة: 263).
74 -
قال السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة) ا. هـ
(3)
(1)
انظر: أنوارالتنزيل (2/ 48).
(2)
انظر: التفسيرالكبير (16/ 26).
(3)
انظر: تفسير السعدي (113).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى خير من قول المعروف، وخير من ستر الخلة، ووجه ذلك من مفهوم المخالفة - مفهوم الصفة - فإنه بين أن القول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، ومفهوم المخالفة هنا أن الصدقة التي لا يتبعها أذى خير من القول المعروف والمغفرة.
الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى (264)} (البقرة: 264).
75 -
قال السعدي رحمه الله: (يَا أَيُّهَا {الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}
(1)
ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمنّ والأذى ففيه أن المنّ والأذى يبطل الصدقة، ويستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة، كما قال تعالى:{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} (الحجرات: 2) فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأعمال السيئة تبطل الحسنات،
(1)
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن المانع الطارئ كالمقارن؛ لأنه جعل طريان المن والأذى بعد الصدقة كمقارنة الرياء لها في الابتداء. انظر: الإكليل (1/ 442).
(2)
انظر: تفسير السعدي (113).
ووجه ذلك أنه نهى عن إبطال الصدقة بالتلبس بالمن والأذى، فأخذ من ذلك أنه يمكن قياس الأعمال الأخرى عليه، فالأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة كما أبطل المن والأذى الصدقة.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن القيم: (قد دل القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات كما الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} وقال تعالى:
(1)
، وممن قال به أيضاً: الدوسري
(2)
.
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط ابن عطية فقال: وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} الآية، والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات)
(3)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح؛ لأن الآية واضحة الدلالة على بطلان الصدقة بالمن والأذى، وهذا يدل على أن البطلان ممكن، ومما يؤيد هذا الاستنباط أن القرآن غالباً لا يُذكر فيه الترغيب في أمر إلا وذكر في مقابله الترهيب من عكسه، فقد رغب الله في فعل الحسنات بأنهن يذهبن السيئات، وفي هذه الآية ترهيب من فعل السيئات لأن ذلك قد يؤدي إلى ذهاب الحسنات.
(1)
انظر: الصلاة وحكم تاركها لابن القيم (64).
(2)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (3/ 487).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (242).
وأما إشارة ابن عطية هنا فكأنه أراد أن هذا مذهب المعتزلة، ولكن الحق أحق أن يتبع وموافقة المعتزلة هنا لا يعني موافقتهم في باطلهم، قال ابن القيم:(والقرآن والسنة قد دلا على الموازنة وإحباط الحسنات بالسيئات فلا يضرب كتاب الله بعضه ببعض ولا يرد القرآن بمجرد كون المعتزلة قالوه، فعل أهل الهوى، والتعصب، بل نقبل الحق ممن قاله ويرد الباطل على من قاله)
(1)
كما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الخلاف هنا بين أهل السنة أنفسهم، وليس بين أهل السنة والمعتزلة فقال:(فإذا كانت السيئات لا تحبط جميع الحسنات فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر فيه قولان للمنتسبين إلى السنة، منهم من ينكره، ومنهم من يثبته، كما دلت عليه النصوص مثل قوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} الآية دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة)
(2)
والله أعلم.
الزكاة على صاحب الزرع لا على صاحب الأرض
.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ (267)} (البقرة: 267).
76 -
قال السعدي رحمه الله: (فقد تضمنت هاتان الآيتان أموراً عظيمة. . . ومنها: أن الزكاة على من له الزرع والثمر لا على صاحب الأرض، لقوله {أَخْرِجْنَا لَكُمْ}
(3)
فمن أخرجت له
(1)
انظر: مدارج السالكين (1/ 303).
(2)
انظر: كتاب الزهد والورع والعبادة لابن تيمية (71).
(3)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية منها: وجوب زكاة قليل ما تخرجه الأرض وكثيره، ومنها: وجوب الزكاة في المعادن، والركاز، وعروض التجارة، ومنها: وجوب الزكاة على كل ما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار وغيرها حتى البقل. انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 194)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 255)، والإكليل (1/ 444).
وجبت عليه) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الزكاة على الزرع في الأرض المستأجرة، على صاحب الزرع لا على صاحب الأرض، ووجه ذلك أن قوله تعالى:{أَخْرِجْنَا لَكُمْ} يقتضي ذلك فالزكاة على من أُخرج له الزرع.
قال ابن الفرس- موافقاً السعدي على هذا الاستنباط-: (. . . ومن اكترى أرضاً فزرعها فعلى المكتري زكاة ما تخرجه الأرض. . .، ودليلنا قوله تعالى: {أَخْرِجْنَا لَكُمْ} فكان على الزارع)
(2)
.
كل شيء ليس معداً لعروض التجارة فلا زكاة عليه
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرِجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ (267)} (البقرة: 267).
77 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . ومنها -أي من فوائد الآية-: أن الأموال المعدة للاقتناء من العقارات والأواني ونحوها ليس فيها زكاة، وكذلك الديون والغصوب ونحوهما إذا كانت مجهولة، أو عند من لا يقدر ربها على استخراجها منه، ليس فيها زكاة، لأن الله أوجب النفقة من الأموال التي يحصل فيها النماء الخارج من الأرض، وأموال التجارة
(1)
انظر: تفسير السعدي (115).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (1/ 391).
مواساة من نمائها، وأما الأموال التي غير معدة لذلك ولا مقدوراً عليها فليس فيها هذا المعنى) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن كل مال ليس معداً لعروض التجارة، ليس عليه زكاة، وكذلك الديون المجهولة والتي لا يرجوها صاحبها، ووجه ذلك من الآية أن الله سبحانه وتعالى بين أن الزكاة في المال المعد للكسب، وكذلك المال الذي فيه نماء، ومفهوم هذا القيد أن ما عدا ذلك من الأموال لا زكاة فيه لعدم وجود معنى النماء فيها.
وهذا الاستنباط مؤيد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)
(2)
، قال النووي:(هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف)
(3)
الضابط القرآني للإعلان أو الإسرار بالصدقة
.
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ شَهْرٌ لَكُمْ (271)} (البقرة: 271).
78 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا
(1)
انظر: تفسير السعدي (115).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في فرسه صدقة، ح (1463 و 1464)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، ح (982).
(3)
انظر: شرح النووي على مسلم (7/ 48).
الْفُقَرَاءَ فَهُوَ شَهْرٌ لَكُمْ} فائدة لطيفة، وهو أن إخفاءها خير من إظهارها، إذا أعطيت للفقير.
فأما إذا صرفت في مشروع خيري، لم يكن في الآية، ما يدل على فضيلة إخفائها، بل هنا قواعد الشرع، تدل على مراعاة المصلحة، فربما كان الإظهار خيراً، لحصول الأسوة والاقتداء، وتنشيط النفوس على أعمال الخير) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الصدقة إذا لم تكن على الفقير فالسر فيها ليس خيراً من العلانية، وإنما مرجع ذلك إلى المصلحة؛ فإن كان في إعلانها إظهار للشعائر، وحصول القدوة الحسنة فالإعلان هنا أفضل من الإسرار، ووجه ذلك من مفهوم المخالفة حيث قيد صدقة الفقير بالإخفاء، فدل مفهومه أن غير الفقير ليس كذلك.
وما ذهب إليه السعدي في مفهوم هذا القيد فيه بعد ظاهر؛ لأن ذكر الفقير هنا ليس مقصوداً لذاته، فإخفاء الصدقة ليس مختصاً بالفقير، وإنما إخفاء الصدقة عموماً أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية
(2)
.
وأما تخصيص الفقير هنا فقيل: خصص الفقراء بالذكر اهتماماً بشأنهم
(3)
، وقيل إن المراد إنما هو بعث المتصدق على أن يتحرى موضع الصدقة، فيصير عالماً بالفقراء، فيميزهم عن غيرهم، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة
(4)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (958).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 644).
(3)
انظر: روح المعاني (2/ 43).
(4)
انظر: التفسير الكبير (7/ 66).
فذكر الفقراء في الآية على سبيل المثال
(1)
، وعليه فيتضح بُعد المفهوم الذي ذهب إليه السعدي، فيكون الإخفاء هنا عاماً ليس مخصصاً بالفقير؛ لما في الإخفاء من مظنة الإخلاص. والله أعلم.
وعلى هذه فالإسرار والعلانية في الصدقة راجع إلى المصلحة ويستوي في ذلك مصارف الصدقة سواء كانوا فقراء أم كانت مشاريع خيرية، فالإخفاء هو الأفضل إلا أن يكون في العلانية خير بتشجيع الناس على الصدقة أو الأخبار بحال فقير لا يعلمه أهل الصدقة. والله أعلم.
من تاب من الربا عفا الله عنه فيما سبق التوبة، ومن لم يتب عاقبه الله على الحالين
.
قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} (البقرة: 275).
79 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ}
(2)
أي: وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ، وإقامة للحجة عليه {فَانْتَهَى} عن فعله وانزجر عن تعاطيه {فَلَهُ مَا سَلَفَ}
(3)
أي: ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة،
(1)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 357).
(2)
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن الله لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه، وكذلك أن العقود الواقعة في دار الحرب لا تتبع بعد الإسلام بالنقض. انظر: أضواء البيان (1/ 229)، والإكليل (1/ 447).
(3)
يُستنبط من هذه الآية تأصيلاً لما يسمى في علم الإدارة بالتحفيز، ووجه ذلك أن الله رغبهم في ترك الربا بعدم المؤاخذة على ما سلف منهم، فجعل عدم المؤاخذة تحفيزاً على الاستمرار على ترك الربا. والله أعلم.
دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من لم يتب من الربا فإنه يعاقب على ارتكابه هذا الذنب قبل علمه بالتحريم وبعده، ووجه ذلك أن الآية دلت على أن من انزجر عن فعله الأول فلا يؤاخذ بما تقدم جزاء لامتثاله، ودل مفهوم ذلك أن من لم ينته عن الربا فإن الله يؤاخذه على الأول والآخر.
وهذا الاستنباط فيه ترغيب وترهيب، فمن أراد التوبة وصدق مع الله عفا الله عنه فيما سلف وهذا ترغيب له، ومن استمر على الباطل عاقبه الله على الأول والآخر وهذا فيه ترهيب من هذا الذنب.
لابد أن يكون كاتب الدين عارفاً بكتابة الوثائق
.
قال تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ (282)} (البقرة: 282).
80 -
قال السعدي رحمه الله: (هذه آية الدين، وهي أطول آيات القرآن، وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار،. . . منها: أن يكون الكاتب عارفاً بكتابة الوثائق وما يلزم فيها كل واحد منهما، وما يحصل به التوثق، لأنه لا سبيل إلى العدل إلا بذلك، وهذا مأخوذ من قوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تفسير السعدي (117).
(2)
انظر: تفسير السعدي (118) و (960)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (120).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن كاتب الدين لابد أن يكون عارفاً بكتابة الوثائق وما يلزم فيها، ووجه ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى العدل إلا بذلك، فالآية تدل على ذلك بدلالة اللازم حيث إن العدل يلزم منه أن يكون عارفاً بكتابة الوثائق.
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال الألوسي:(فالكلام كما قال الطيبي مسوق لمعنى، ومدمج فيه آخر بإشارة النص وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة إلا من كان فقيهاً ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون، ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا يحسب المفسدين)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً الرازي، وأبوحيان، والبيضاوي، وأبوالسعود، والسيوطي، وحقي، والقاسمي
(2)
، وفي هذا الاستنباط تأييد لما ذهب إليه القضاء في وقتنا المعاصر من تخصيص كتاب عدل لكتابة الوثائق؛ لأن في ذلك حفظ لحقوق الناس بكتابتها من قبل متخصصين في هذا الشأن متفرغين ذهنياً له.
من عليه حق فالقول قوله في كل ما يتعلق بالحق من بيان مقداره وصفته ونحو ذلك
.
قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا (282)} (البقرة: 282).
(1)
انظر: روح المعاني (2/ 54).
(2)
انظر: التفسير الكبير (7/ 97)، والبحر المحيط (2/ 360)، وأنوار التنزيل (1/ 234)، وإرشاد العقل السليم (1/ 320)، والإكليل (1/ 450)، وروح البيان (1/ 446)، ومحاسن التاويل (2/ 278).
81 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-: أن من عليه حقاً من الحقوق التي البينة على مقدارها وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل وتأجيل، أن قوله هو المقبول دون قول من له الحق، لأنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه، إلا أن قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من عليه الحق فالقول قوله في بيان المقدار والصفة ونحو ذلك، ووجه ذلك أن الله نهاه عن البخس ولو لم يكن قوله هو المعتبر لم يكن لنهيه هنا فائدة.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال السيوطي:(فيه أن كل من عليه حق فالقول قوله فيه، لأنه تعالى لما وعظه في ترك البخس دل على أنه إذا بخس كان قوله مقبولاً. . .)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً: الجصاص، وابن العربي، وابن الفرس، وإلكيا الهراسي، والعثيمين
(3)
.
ومما يؤيد هذا الاستنباط هو أن الأصل براءة الذمة، فلا تشغل الذمة إلا ببينة، فإذا عدمت هنا كان القول قول صاحب الذمة لأنه لا يحق لأحد شغل ذمته بلا دليل فكان قوله هو المعتبر دون غيره، ولو لم يكن قوله هو المعتبر لادعى أناس بحقوق ليست لهم، وغرمت ذمم بريئة.
(1)
انظر: تفسير السعدي (118).
(2)
انظر: الإكليل (1/ 450).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 589)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 269)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 419)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 208)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 414).
إقرار السفيه والصغير والمجنون وتصرفهم غير صحيح
.
قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ (282)} (البقرة: 282).
82 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-: أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه ونحوهم وتصرفهم غير صحيح، لأن الله جعل الإملاء لوليهم، ولم يجعل لهم منه شيئاً لطفًا بهم ورحمة، خوفاً من تلاف أموالهم) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون وتصرفهم غير صحيح، ووجه ذلك أن الله جعل الإملاء لوليهم، ودلالة الآية على ذلك بمفهوم المخالفة حيث إن إملال الولي عن مثل هؤلاء يدل مفهوم المخالفة له أن إقرارهم غير صحيح وإلا كان الإملال منهم.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الخازن:(وعليه فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم)
(2)
، وممن قال به أيضاً: ابن العربي، والقرطبي، والسيوطي، وصديق حسن خان، والهرري
(3)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (118)، وفتح الرحيم للسعدي (143).
(2)
انظر: لباب التأويل (1/ 215).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 271)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 370)، والإكليل (1/ 450)، وفتح البيان (1/ 408)، وتفسير حدائق الروح والريحان (4/ 125).
المخالفون:
خالف السعدي بعض المفسرين، وقالوا إن الآية تدل على عكس ذلك أي أنها تدل على جواز تصرف المذكورين، قال الجصاص في بيان حجة هؤلاء من الآية:(واحتج مبطلو الحجر بما في مضمون الآية من جواز مداينة السفيه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلَ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} فأجاز مداينة السفيه وحكم بصحة إقراره في مداينته؛ وإنما خالف بينه وبين غيره في إملاء الكتاب لقصور فهمه عن استيفاء ما له وعليه مما يقتضيه شرط الوثيقة)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك: إلكيا الهراسي، وابن الفرس، وأبو حيان
(2)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، لدلالة الآية عليه بمفهوم المخالفة كما تقدم؛ ولأن هذا هو الأصلح لحفظ أموال هؤلاء من الضياع. والله أعلم.
مشروعية تعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلَ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ (282)} (البقرة: 282)
83 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-:
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 591).
(2)
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 210)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 419)، والبحر المحيط (2/ 361).
مشروعية كون الإنسان يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون كل واحد من صاحبه، لأن المقصود من ذلك التوثق والعدل، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مشروعية تعلم كيفية التوثيق، ووجه ذلك أن مقصود هذا التعلم هو التوثيق والعدل، واستدل على ذلك بالقاعدة الفقهية أن ما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع.
وهذا الاستنباط له فائدة كبيرة خصوصاً أن الوثائق ومصطلحاتها تختلف من زمان إلى آخر، وكذلك تختلف من مكان إلى آخر فللعرف هنا اعتبار، فكان لزاماً على كاتبها أن يتعلم ما يحصل به التوثيق، ولأن في ذلك سد باب النزاع إذا ما كتبت الوثائق من عارف لها.
كما أن في هذا الاستنباط إشارة إلى أن التوثيق أمر يحتاج إلى تعلم متخصص لدقته وخطورته، وليس الأمر مباح لكل أحد، ومن اطلع على الوثائق وكيفية كتابتها ودقة الألفاظ فيها عرف أهمية هذا الاستنباط وفائدته.
شهادة الصبي غير مقبولة
.
قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ (282)} (البقرة: 282).
84 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-: أن شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تفسير السعدي (118)، وفتح الرحيم للسعدي (144)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (122).
(2)
انظر: تفسير السعدي (119).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن شهادة الصبيان غير مقبولة، ووجه ذلك من مفهوم لفظ الرجل، حيث دل مفهوم المخالفة هنا أن الصبي لا تقبل شهادته.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال الجصاص: ومما يدل على بطلان شهادة الصبيان. . . قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وليس الصبيان من رجالنا. . .)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الواحدي، وابن العربي، والقرطبي، وأبوحيان، والخازن، وجلال الدين المحلي، والسيوطي، والألوسي، وابن عاشور، والهرري
(2)
.
وهذا الاستنباط مؤيد كذلك بعدم قدرة الصبي على إدراك الشهادة وما يتعلق بها، قال ابن عاشور:(وأما الصبيّ فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم).
(3)
شهادة العبد البالغ مقبولة
.
قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ (282)} (البقرة: 282).
85 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-: أن
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 603).
(2)
انظر: الوجيز (1/ 195)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 272)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 370)، والبحر المحيط (2/ 362)، ولباب التأويل (1/ 215)، وتفسير الجلالين (57)، والإكليل (1/ 451)، وروح المعاني (2/ 56)، والتحرير والتنوير (3/ 106)، وتفسير حدائق الروح والريحان (4/ 125).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (3/ 106).
شهادة العبد
(1)
البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} والعبد البالغ من رجالنا) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قبول شهادة العبد، ووجه ذلك عموم الآية فلفظ الرجال عام يدخل فيه الحر والعبد.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال أبوحيان:(وظاهر الآية أنه: يجوز شهادة العبد)
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً: الرازي، والشوكاني، كما أشار إليه السيوطي
(4)
.
المخالفون:
خالف السعدي في هذا الاستنباط بعض المفسرين، وقالوا لا دلالة في الآية على قبول شهادة العبد، قال ابن العربي:(وليس للآية أثر في شهادة العبد يرد)
(5)
، وقال القرطبي في بيان وجه
دلالة الآية على عدم قبول شهادة العبد: (والصحيح قول الجمهور لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} وساق الخطاب إلى قوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن
(1)
اختلف العلماء في شهادة العبيد فقال شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً وغلبوا لفظ الآية، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد وغلبوا نقص الرق وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير. انظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 370).
(2)
انظر: تفسير السعدي (119).
(3)
انظر: البحر المحيط (2/ 362).
(4)
انظر: التفسير الكبير (7/ 98)، وفتح القدير (1/ 378)، والإكليل (1/ 451).
(5)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 272).
السادة فإن قالوا: إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخره قيل لهم: هذا يخصه قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} )
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: مجاهد، وابن جرير الطبري، والبغوي، والجصاص، وإلكيا الهراسي، والجرجاني، وأبو السعود، والألوسي، وابن عاشور
(2)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح لدلالة عموم الآية عليه، ولا مخصص لهذا العموم، ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط أن متطلبات قبول الشهادة لا علاقة لها البتة بالرق والحرية فقد تُقبل شهادة العبد وقد تُرد شهادة الحر، قال الرازي:(والمعنى المستفاد من النص أيضاً دال عليه، وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب، فإذا شهد عند اجتماع هذه الشرائط تأكد به قول المدعي، فصار ذلك سبباً في إحياء حقه، والعقل والدين والعدالة لا تختلف بسبب الحرية والرق، فوجب أن تكون شهادة العبيد مقبولة).
(3)
شهادة الكفار غير مقبولة
.
قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ (282)} (البقرة: 282).
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 371).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (2/ 560)، وجامع البيان (3/ 132)، ومعالم التنزيل (1/ 203)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 599)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 212)، ودرج الدرر (1/ 450)، وإرشاد العقل السليم (1/ 320)، وروح المعاني (2/ 56)، والتحرير والتنوير (3/ 108).
(3)
انظر: والتفسير الكبير (7/ 98).
86 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-: أن شهادة الكفار
(1)
ذكوراً كانوا أو نساء غير مقبولة، لأنهم ليسوا منا، ولأن مبنى الشهادة على العدالة وهو غير عدل) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن شهادة الكفار غير مقبولة، ووجه استنباط ذلك من الآية ذكر الرجال مضافاً إلى ضمير المخاطبين، وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يأيها الذين آمنوا
(3)
.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط عامة المفسرين، قال ابن العربي:(وعين بالإضافة في قوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} المسلم، ولأن الكافر لا قول له. . .)
(4)
، وممن قال بذلك أيضاً: البغوي، والجصاص،
(1)
شهادة الكفار غير مقبولة اتفاقاً، ولم يحصل الخلاف إلا في إشهادهم على الوصية في السفر، وكذلك قبول شهادتهم على بعضهم البعض عند قاض مسلم، قال ابن عاشور جامعاً شتات المسألتين:(ولأجل هذا اتّفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر، وقضى به أبو موسى الأشعري مدّة قضائه في الكُوفة، وهو قول أحمدَ وسفيانَ الثوري وجماعة من العلماء، وقال الجمهور: لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أنّ ما في آية الوصية منسوخ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظراً في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين، وخالَفه الجمهور، والوجه أنّه يتعذّر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفاً) انظر: التحرير والتنوير (3/ 107).
(2)
انظر: تفسير السعدي (119).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (3/ 106).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 272).
وابن الفرس، والرازي، والقرطبي، والسيوطي، والبيضاوي، وأبوالسعود، والألوسي، والهرري
(1)
.
ومما يؤيد هذا الاستنباط ويؤكده أن الكافر غير مستأمن على حقوق المسلمين، ولأن العدالة في الكافر مفقودة وهي أهم شرط في الشهود، قال ابن عاشور:(وأما الكافر فلأنّ اختلاف الدِّين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة، ولأنّه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي)
(2)
.
من نسي شهادته ثم ذكرها فشهادته صحيحة مقبولة
.
قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى (282)} (البقرة: 282).
87 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-: أن من نسي شهادته ثم ذُكّرها فذكر فشهادته مقبولة لقوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
(1)
انظر: معالم التنزيل (1/ 203)، وأحكام القرآن للجصاص (1/ 599)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 421)، والتفسير الكبير (7/ 98)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 370)، وأنوار التنزيل (1/ 235)، وإرشاد العقل السليم (1/ 320)، والإكليل (1/ 451)، وروح المعاني (2/ 56)، وتفسيرحدائق الروح والريحان (4/ 125).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (3/ 106).
الْأُخْرَى}
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من نسي شهادته ثم ذُكّرها فشهادته صحيحة مقبولة، ووجه ذلك أن في الآية قبول تذكير إحدى النساء للأخرى في الشهادة، وتكون دلالة الآية على ذلك بمفهوم الموافقة.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال السيوطي:(. . . وأن الشاهد إذا قال لا أذكر، ثم ذُكّر يُقبل قوله)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، وابن الفرس، والعثيمين
(4)
.
من خاف نسيان شهادته وجب عليه كتابتها
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلَ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (282)} (البقرة: 282).
88 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-: أنه يؤخذ من المعنى أن الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في الحقوق الواجبة
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر من هذه الآية وهو: أنه لا تجوز الشهادة لمن رأى خطه وعرفه، حتى يذكر الشهادة. انظر: الإكليل (1/ 453)، والبحر المحيط (2/ 366).
(2)
انظر: تفسير السعدي (119) و (960)، وفتح الرحيم للسعدي (142)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (121).
(3)
انظر: الإكليل (1/ 453).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 621)، وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 433)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 416).
وجب عليه كتابتها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن كتابة الشهادة لمن خاف نسيانها واجبة، وذلك أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، حيث إن الشهادة واجبة الأداء ولا تقوم بعض الحقوق إلا بها، فإذا خاف الشاهد نسيانها وجب عليه كتابتها؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكتابة الشهادة في الغالب أنها ضمن كتابة الدين كما هو الحاصل الآن، إذ يكتب الدين ثم يلحق في آخره بتوقيع الشهود، فأصبحت الوثائق متضمنة لكتابة الدين وكتابة الشهادة.
قد تجتمع في الإنسان مادة فسق وغيرها
.
قال تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} (البقرة: 282).
89 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد الآية-: أن الأوصاف كالفسق والإيمان والنفاق والعداوة والولاية ونحو ذلك تتجزأ في الإنسان، فتكون فيه مادة فسق وغيرها، وكذلك مادة إيمان وكفر لقوله:{فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}
(2)
ولم يقل فأنتم فاسقون أو فُسّاق) ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (119) 0
(2)
ومن هنا قيل إن الفاسق الملي يجوز أن يقال هو مؤمن باعتبار ويجوز أن يقال ليس مؤمناً باعتبار، ويقولون هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 152).
(3)
انظر: تفسير السعدي (119) و (960).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة عقدية، وهي أن أوصاف الفسق، والنفاق ونحو ذلك تتجزأ، بمعنى أنه يمكن أن يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق، وإيمان وفسق ونحو ذلك، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله سبحانه وتعالى لم يحكم على هؤلاء بالفسق الكامل وإنما بين لهم أن فعلهم هذا فسوق بهم، فعدم الحكم عليهم بالفسق الكلي مفهومه أن عندهم إيمان، وبهذا يتبين أن الإنسان يمكن أن يجتمع فيه فسق وإيمان.
وقد أشار ابن القيم إلى هذا المعنى فقال: (أما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام فكقوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}).
(1)
وهذا الاستنباط فيه توضيح لمسألة مهمة تعتبر من أهم مسائل العقيدة، بل أشار بعض العلماء إلى أنها أول مسألة فرقت الأمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(فكان من أول البدع والتفرق الذي وقع في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنب فإنهم تكلموا في الفاسق الملي فزعمت الخوارج والمعتزلة أن الذنوب الكبيرة ومنهم من قال والصغيرة لا تجامع الإيمان أبداً بل تنافيه وتفسده كما يفسد الأكل والشرب الصيام؛ قالوا لأن الإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور فمتى بطل بعضه بطل كله كسائر المركبات)
(2)
.
والحق كما في هذه الآية أن الإيمان قد يجتمع معه فسق، فيكون الإنسان مؤمن بإيمانه فاسق بخطيئته، فلا تسلب المعصية مطلق الإيمان، ولا يكون المسلم كافراً بارتكابه المعصية، ولا مخلداً في النار، قال البخاري في صحيحه، باب كفران العشير وكفر دون كفر
(3)
، قال ابن بطال
(4)
: (غرض البخاري الرد على من يكفر بالذنوب كالخوارج، ويقول:
(1)
انظر: مدارج السالكين (1/ 390).
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (12/ 470).
(3)
انظر: صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب كفران العشير وكفر دون كفر، ص (8).
(4)
هو: العلامة أبوالحسن، علي بن خلف بن عبدالملك بن بطال، البكري، القرطبي، البلنسي، المالكي، المعروف بابن اللجام، له مؤلفات منها: شرح صحيح البخاري، والاعتصام في الحديث، وكتاب الزهد والرقائق، وكتاب الأحكام، والثلاثة الأخيرة كلها مفقودة، توفي عام 449 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 47)، وشجرة النور الزكية (115)، والأعلام (4/ 285).
إن من مات على ذلك يخلد في النار)
(1)
، واستدل البخاري أيضاً على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر بأن الله تعالى أبقى عليه اسم المؤمن فقال {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] ثم قال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، واستدل أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا التقى المسلمان بسيفيهما)
(2)
فسماهما مسلمين مع التوعد بالنار
(3)
.
شهادة المجهول غير مقبولة حتى يُزكَى
.
قال تعالى: {مِمَّنِ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ (282)} (البقرة: 282).
90 -
قال السعدي رحمه الله: (يؤخذ منها
(4)
-أي من فوائد الآية-: عدم قبول شهادة المجهول حتى يُزكّى، فهذه الأحكام مما يستنبط من هذه الآية الكريمة على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر، ولله في كلامه حكم وأسرار يخص بها من يشاء من عباده) ا. هـ
(5)
(1)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 86).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)، ح (31)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، ح (2888).
(3)
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/ 107).
(4)
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أيضاً: جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات على ما خفي من المعاني والأحكام. انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 616)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 274).
(5)
انظر: تفسير السعدي (119)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (121).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن شهادة المجهول غير مقبولة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله جل وعلا شرع اتخاذ الشهداء ولكن ممن يكون مرضي الشهادة، فدل بمفهوم المخالفة أن هناك من لا ترضى شهادته كالمجهول.
وقد وافق السعدي على استنباط هذا المعنى من هذه الآية بعض المفسرين، قال السيوطي:(وفيه أنه لا يقبل المجهول حاله. . .)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: ابن عطية، وابن العربي، والقرطبي، ابن كثير
(2)
.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ويؤكده أن في هذه الشهادة إثبات حقوق لأناس ونفيها عن آخرين، فلا بد أن يكون مؤدي الشهادة معروف الحال لما يترتب على شهادته من حقوق.
من تمام شكر النعم بذلها لمن يحتاج إليها
.
قال تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ (282)} (البقرة: 282).
91 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد الآية-: أن من خصه الله بنعمة من النعم، يحتاج الناس إليها، فمن تمام شكر هذه النعمة، أن يعود بها على عباد الله، وأن يقضي بها حاجتهم، لتعليل الله النهي عن الامتناع عن الكتابة، بتذكير الكاتب بقوله: {كَمَا عَلَّمَهُ
(1)
انظر: الإكليل (1/ 453).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (270)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 274)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 375)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 665).
اللَّهُ}
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من خصه الله بنعمة يحتاج الناس إليها فمن تمام شكر الله عليها أن يبذلها للناس، ووجه هذا الاستنباط من الآية هو بطريق القياس، فلما علل الله بذل الكتابة بالمنة على الكاتب وتذكيره بفضل الله عليه، قيس عليه كل نعمة فيها حاجة للناس ينبغي لصاحبها أن يعود بها على الناس اعترافاً بنعمة الله عليه وشكراً له على هذه النعمة.
وقد أشار إلى ذلك الخازن فقال: (وذلك لأن الله تعالى لما علمه الكتابة وشرّفه بها استحب له أن يكتب ليقضي حاجة أخيه المسلم ويشكر تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه)
(3)
.
وهذا المعنى المستنبط فيه فائدة عظيمة وهي دفع الناس لبذل ما منّ الله به عليهم من النعم لينتفع الناس بها، وليكون ذلك سبباً في الترابط والتكافل الاجتماعي، وقيام كل واحد من أفراد الأمة بالدور الذي يجيده.
القبض ليس شرطاً في صحة الرهن
.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ (283)} (البقرة: 283).
(1)
هذا بناء على أن المعنى: فكما علمه الله ما لم يكن يعلم، فَلْيتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب، والمعنى الثاني: مثل ما علمه الله من كتابة الوثائق، لا يبدّل ولا يغير وعلى هذا المعنى لا يستقيم هذا الاستنباط. انظر: تفسير ابن كثير (2/ 464)، والبحر المحيط (2/ 360).
(2)
انظر: تفسير السعدي (960) وفتح الرحيم للسعدي (145).
(3)
انظر: لباب التأويل (1/ 214).
92 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيه أن أكمل حالات الرهن أن يكون مقبوضاً، وليس في الآية دليل على أنه لا يكون رهناً إلا إذا قبض، لأن الله إنما ذكر أعلى الحالات، بل مفهوم قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أنها قد تكون غير مقبوضة، لكنها أقل توثقة من المقبوضة، كما أن الشيء القليل أو الذي في الذمة أقل توثقة من الكثير أو من العين) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية عدم اشتراط قبض الرهن أثناء توثقة الدين بالرهن، ووجه هذا الاستنباط من الآية مفهوم الموافقة في قوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} حيث إنها دالة على أن هناك حالات أخرى جائزة لكن هذه الحالة هي الأكمل، ولكنها لا تنفي ما دونها من حالات هي أقل توثقة منها ومن ذلك عدم قبض الرهن.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال العثيمين: (. . . والقول الثالث: أن القبض - أعني قبض الرهن - ليس بشرط لا للصحة، ولا للزوم؛ وإنما ذكر الله القبض في هذه الحال؛ لأن التوثق التام لا يحصل إلا به لكون المتعاقدين في سفر؛ وليس ثمة كاتب، فلا يحصل تمام التوثقة بالرهن إلا بقبضه؛ وهذا القول هو الراجح؛ وعليه فالرهن لازم صحيح
بمجرد عقده - وإن لم يقبض؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء: 34]؛ وعلى هذا القول عمل الناس: فترى الرجل يكون راهناً بيته وهو ساكن فيه، أو راهناً سيارته وهو
(1)
انظر: فتح الرحيم للسعدي (145)، وقد أورد السعدي في التفسير خلاف ذلك فقال:(ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها التوثق) انظر: تفسير السعدي (119).
يستعملها؛ ولا تستقيم حال الناس إلا بذلك)
(1)
، وممن قال به أيضاً: ابن الفرس، وابن عاشور
(2)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين، فقالوا إن الآية تدل على أن القبض شرط في صحة الرهن لأن مفهوم المخالفة - مفهوم الصفة - في الآية يدل على ذلك، حيث إن تخصيص الرهن بوصف القبض يدل بمفهوم الصفة على انتفاء صحته من غير قبض، قال السيوطي:(وفيه اشتراط القبض فيه - أي في الرهن-)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الجصاص وإلكيا الهراسي، وابن العربي، وابن الجوزي، وأبو حيان، والخازن
(4)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه عامة المفسرين من دلالة الآية على اشتراط قبض الرهن هو الأصح لدلالة مفهوم المخالفة عليه، ولأن عدم اشتراط القبض يسقط فائدة الرهن ويصبح المال المرهون من جملة أموال الراهن ولا يستفيد المرتهن من التوثيق المقصود في الرهن، قال الجصاص:(ويدل على أنه لا يصح إلا مقبوضاً أنه معلوم أنه وثيقة للمرتهن بدينه، ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيها؛ وإنما جعل وثيقة له ليكون محبوساً في يده بدينه، فيكون عند الموت والإفلاس أحق به من سائر الغرماء، ومتى لم يكن في يده كان لغواً لا معنى فيه وهو وسائر الغرماء فيه سواء).
(5)
(1)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 428).
(2)
انظر: وأحكام القرآن لابن الفرس (1/ 438)، التحرير والتنوير (3/ 121).
(3)
انظر: الإكليل (1/ 456).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 634)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (1/ 232)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 282)، وزاد المسير (173)، والبحر المحيط (2/ 371)، ولباب التأويل (1/ 217).
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 635).
الرهن جائز حضراً وسفراً، وإنما خص السفر بالذكر لأن الحاجة إلى الرهن فيه أغلب
.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ (283)} (البقرة: 283).
93 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضراً وسفراً، وإنما نص الله على السفر؛ لأنه في مظنة الحاجة إليه لعدم الكاتب فيه) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الرهن جائز في الحضر وفي السفر، ولم يعتبر النص على السفر قيداً، حيث يكون الرهن خاصاً به فقط؛ بل بين حجة إلغاء هذا القيد وهو أن ذكره هنا لأن السفر مظنة فقدان الكاتب غالباً وما خرج مخرج الغالب كان مانعاً من موانع اعتبار مفهوم المخالفة.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط عامة المفسرين، قال الجصاص:(وإنما ذكر حال السفر لأن الأغلب فيها عدم الكتاب والشهود. . . ولاخلاف بين فقهاء الأمصار وعامة السلف في جوازه في الحضر)
(2)
، وممن قال به من المفسرين: البغوي، والماوردي، وابن العربي، وابن الجوزي، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والبيضاوي، وأبو السعود، وابن عرفة، والألوسي.
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (119).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 634).
(3)
انظر: معالم التنزيل (1/ 205)، والنكت والعيون (1/ 359)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 280)، وزاد المسير (173)، والتفسير الكبير (7/ 105)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 387)، والبحر المحيط (2/ 371)، وأنوار التنزيل (1/ 236)، وإرشاد العقل السليم (1/ 322)، وتفسير ابن عرفة (1/ 335)، وروح المعاني (2/ 60).
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط مجاهد، والضحاك، والظاهرية، فتمسكوا بظاهر النص فقالوا الرهن معلق على السفر؛ فتعليقه ذلك دليل على عدم جوازه في الحضر؛ لأن المعلق على شرط عدم عند عدم الشرط
(1)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي وعامة أهل التفسير من دلالة الآية على جواز الرهن سفراً وحضراً هو الصحيح، وتخريج ذكر السفر هنا هو أنه خرج مخرج الغالب، ومن موانع اعتبار مفهوم المخالفة أن يكون الكلام خرج مخرج الغالب، ومما يؤيده كذلك ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل ورهنه درعاً له من حديد
(2)
وهذا واضح الدلالة على الرهن في الحضر، وأن الشرط في الآية لا يراد مفهومه، قال الشنقيطي:(فدل الحديث الصحيح على أن قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه جرى على الأمر الغالب، إذ الغالب أن الكاتب لا يتعذر في الحضر وإنما يتعذر غالباً في السفر، والجري على الغالب من موانع اعتبار مفهوم المخالفة).
(3)
(1)
انظر: المحلى لابن حزم (6/ 362)، والبحر المحيط (2/ 371)، والتحرير والتنوير (3/ 121).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب في الرهن في الحضر، باب من رهن درعه، ح (2509)، وكتاب البيوع، باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، ح (2068)، ومسلم في صحيحه، كتاب البيوع، باب الرهن وجوازه في الحضر كالسفر، ح (1603).
(3)
انظر: أضواء البيان (1/ 261).
فعل الخير يكتب للإنسان بأدنى كسب، بينما فعل الشر لا يكتب على الإنسان إلا بالافتعال والتحصيل
.
قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286)} (البقرة: 286).
94 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي الإتيان بـ "كسب "
(1)
في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى بـ "اكتسب "في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة التعبير عن عمل الخير بـ (كسب)، والتعبير عن عمل الشر بـ (اكتسب)، وأن مناسبة ذلك أن الخير يكون بأدنى سعي ولو بالنية فقط، وأما الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله.
وافق السعدي بعض المفسرين على استنباط هذه المناسبة، قال البقاعي: (وذكر الفعل مجرداً في الخير إيماء إلى أنه يكفي في الاعتداد به مجرد وقوعه ولو مع الكسل بل ومجرد نيته،. . .، {مَا كَسَبَتْ} فشرط في الشر صيغة الافتعال الدالة على الاعتمال إشارة إلى أن من طبع النفس الميل إلى الهوى بكليتها وإلى أن الإثم لا يكتب إلاّ مع التصميم والعزم
(1)
قال ابن عطية: (وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يريد من الحسنات، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} يريد من السيئات، قاله السدي وجماعة من المفسرين، لا خلاف في ذلك). انظر: المحرر الوجيز (269).
(2)
انظر: تفسير السعدي (120).
القوي الذي إن كان عنه عمل ظاهر كان بجد ونشاط ورغبة وانبساط، فلذلك من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري
وابن عطية في أحد قوليه، وابن القيم، والبيضاوي
(2)
.
وذهب بعض المفسرين إلى أن مناسبة مخالفة اللفظين هنا إنما هي حسن تصريف الكلام وإلا فهما بمعنى واحد، قال ابن عطية:(وكرر فعل الكسب، فخالف بين التصريف حسناً لنمط الكلام، كما قال: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 17] هذا وجه)
(3)
، وممن قال به أيضاً ابن عاشور
(4)
.
والوجه الأول هو الأولى، لأن فيه بيان كرم الله على عبيده بأن كتب لهم من أفعال الخير أدنى ما يفعلونه منها، ولم يكتب عليهم من أفعال الشر إلا ما حصلوه على وجه المبالغة في البحث عنه واعتماله.
وكذلك مما يؤيده أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فالاكتساب في مبناه زيادة فدلت على معنى زائد وهو السعي العمل والسعي في التحصيل.
(1)
انظر: نظم الدرر (1/ 557).
(2)
انظر: الكشاف (159)، والمحرر الوجيز (269)، وبدائع الفوائد (2/ 505)، وأنوار التنزيل (1/ 239).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (269).
(4)
انظر: التحرير والتنوير (3/ 137).
سورة آل عمران
إعادة التحذير من نفسه لأجل الجمع بين الترغيب والترهيب
.
قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} (آل عمران: 30).
95 -
قال السعدي رحمه الله: (ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا، وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب، فقال {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام، حتى لا نفعل ما يسخطه ويغضبه) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تكرار قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ
(1)
انظر: تفسير السعدي (128).
اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ} مناسبة ذلك رحمته بالخلق، وللجمع كذلك بين الترغيب الموجب للعمل، والترهيب الموجب لترك الذنوب.
قال أبو السعود: ({وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} تكرير لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} من أن تحذيرَه تعالى من رأفته بهم ورحمتِه الواسعةِ)
(1)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر وهو أن التكرار هنا للتأكيد، قال الشوكاني:(وكرر قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} للتأكيد، وللاستحضار؛ ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم)
(2)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: ابن كثير، وأبوحيان، والبيضاوي، والخازن، وجلال الدين المحلي
(3)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر أيضاً، وهو أن التكرار لاختلاف المناسبة ففي الأولى للتحذير من موالاة الكفار وفي الثانية تحذيراً من أن يجد يوم القيامة سوء عمله محضراً.
قال ابن عاشور: (ويجوز أن يكون الأول تحذيراً من موالاة الكافرين، والثاني تحذيراً من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضراً)
(4)
، وممن قال به أيضاً العثيمين
(5)
.
قال صديق حسن خان: (والأحسن ماقاله التفتازاني أن ذكره أولاً: للمنع من موالاة الكافرين، وثانياً: للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر)
(6)
.
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم (1/ 355)، وانظر كذلك: أسرار التكرار (47).
(2)
انظر: فتح القدير (1/ 418).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم (2/ 699)، والبحر المحيط (2/ 448)، وأنوار التنزيل (1/ 255)، ولباب التأويل (1/ 238)، وتفسير الجلالين (63).
(4)
انظر: التحرير والتنوير (3/ 224).
(5)
انظر: تفسير القرآن الكريم (تفسير سورة آل عمران) للعثيمين (1/ 185).
(6)
انظر: فتح البيان (1/ 453).
مشروعية التسمية وقت الولادة
.
قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} (آل عمران: 36).
96 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} فيه دلالة على التسمية وقت الولادة
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مشروعية التسمية وقت الولادة، ووجه ذلك من الآية أن السياق يدل على أن التسمية كانت بعد الولادة مباشرة.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن كثير:(فيه دلالة على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن عطية، وابن الفرس، وأبوحيان، والعثيمين
(4)
.
(1)
وقد اختلف العلماء في وقت التسمية، قال ابن الفرس:(وهي مسألة قد اختلف فيها فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يسمى المولود إلا يوم سابعة،. . . وذهب قوم إلى أنه يسمى يوم ولادته)، وذهب البخاري إلى أنه إن كان للمولود عقيقة تؤخر تسميته إلى يوم السابع، وإن لم تكن له عقيقة فيسمى يوم ولادته، قال ابن حجر: وهو جمع لطيف لم أره لغير البخاري، وقال العثيمين: إن تهيأ الاسم سماه يوم ولادته، وإن لم يتهيأ أخر تسميته إلى اليوم السابع، وبهذا تجتمع الأدلة. انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 9)، وفتح الباري (9/ 501)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (سورة آل عمران)(1/ 229).
(2)
انظر: تفسير السعدي (129).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 701).
(4)
انظر: المحرر الوجيز (293)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 8)، والبحرا لمحيط (2/ 458)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (سورة آل عمران)(1/ 229).
جواز تسمية الأم للمولود
.
قال تعالى: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} (آل عمران: 36).
97 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيه دلالة. . . على أن للأم تسمية الولد إذا لم يكره الأب
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز تسمية الأم لولدها إذا لم يكره الأب ذلك، ووجه استنباط ذلك من الآية نسبة تسمية مريم إلى أمها.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الجصاص:(ويدل أيضاً على أن للأم تسمية ولدها وتكون تسمية صحيحة وإن لم يسمه الأب)
(3)
، وقال السيوطي:(. . . وأن الأم قد تسمي ولا يختصر ذلك بالأب)
(4)
.
وأشار بعض المفسرين إلى أن تسمية حنة لمريم لأن أباها قد مات، قال الرازي:(أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم، فلذلك تولت الأم تسميتها، لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء)
(5)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: محيي
(1)
الأصل أن التسمية للأب، قال ابن القيم:(هذا مما لا نزاع فيه بين الناس وأن الأبوين إذا تنازعا في تسمية الولد فهي للأب والأحاديث المتقدمة كلها تدل على هذا. . . والولد يتبع أمه في الحرية والرق ويتبع أباه في النسب والتسمية تعريف النسب والمنسوب ويتبع في الدين خير أبويه دينا فالتعريف كالتعليم والعقيقة وذلك إلى الأب لا إلى الأم وقد قال النبي ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم) انظر: تحفة المولود (135).
(2)
انظر: تفسير السعدي (129).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 14).
(4)
انظر: الإكليل (2/ 466).
(5)
انظر: التفسير الكبير (8/ 24).
الدين شيخ زاده، وحقي، والألوسي.
(1)
للأولياء كرامات خارقة للعادة
.
98 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك، خلافاً لمن نفى ذلك
(2)
، فلما رأى زكريا عليه السلام ما منّ الله به على مريم، وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها ولا كسب، طمعت نفسه بالولد) ا. هـ
(3)
(1)
انظر: حاشية زاده على البيضاوي (3/ 52)، وروح البيان (2/ 28)، وروح المعاني (2/ 131).
(2)
المراد بذلك المعتزلة فقد أنكروا وقوع الكرامات للأولياء واحتجوا على امتناع ذلك بأن الكرامات دلالات صدق الأنبياء ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي. انظر: حاشية زاده على البيضاوي (3/ 55).
وقد أجاب الرازي عن ذلك جواباً شافياً، فقال:(والجواب من وجوه الأول: وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي، فإن ادعى صاحبه النبوّة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبياً، وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه ولياً والثاني: قال بعضهم: الأنبياء مأمورون بإظهارها، والأولياء مأمورون بإخفائها والثالث: وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به، والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع: أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة) انظر: التفسير الكبير (8/ 28).
(3)
انظر: تفسير السعدي (129).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة عقدية وهي إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة، ووجه ذلك ما كان يأتي مريم من الرزق، فلما ثبت ذلك لمريم فلا يمنع وقوعه لغيرها من الأولياء.
الموافقون:
وقد وافق جمع من المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال ابن كثير:(وفيه دلالة على كرامات الأولياء)، وممن قال به أيضاً من المفسرين: الطوفي، والرازي، وأبو حيان، والبيضاوي، وأبو السعود، وحقي، والألوسي، والقاسمي
(1)
.
المخالفون:
وخالف في هذا الاستنباط المعتزلة، فقال بعضهم عن الآية بأن ذلك كان إرهاصاً وتأسيساً لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأجاب آخرون بأنه كان معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام.
(2)
النتيجة:
والحق في هذا ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في دلالة الآية على وقوع الكرامات للأولياء، وأما جعلُه معجزةً لزكريا عليه الصلاة والسلام فيأباه اشتباهُ الأمر عليه، عليه الصلاة السلام
(3)
، كذلك لو كان ذلك معجزاً لزكريا عليه السلام كان مأذوناً له من عند الله تعالى في طلب ذلك، ومتى كان مأذوناً في ذلك الطلب كان عالماً قطعاً بأن يحصل، وإذا علم
(1)
انظر: الإشارات الإلهية (1/ 395)، والتفسير الكبير (8/ 28)، والبحر المحيط (2/ 462)، وأنوار التنزيل (1/ 258)، وإرشاد العقل السليم (1/ 362)، وروح البيان (2/ 31)، وروح المعاني (2/ 135)، ومحاسن التأويل (2/ 359).
(2)
انظر: روح المعاني (2/ 135).
(3)
انظر: إرشاد العقل السليم (1/ 362).
ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال، ولم يبق أيضاً لقوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فائدة
(1)
، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى، فهو كان لم يخلق بعد
(2)
.
أكثر أحكام التوراة لم ينسخها الإنجيل
.
قال تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)} (آل عمران: 50).
99 -
قال السعدي رحمه الله: (ثم أخبر عيسى عليه السلام أن شريعة الإنجيل شريعة فيها سهولة ويسرة فقال {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} فدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها الإنجيل بل كان متمماً لها ومقرراً
(3)
) ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن أكثر الأحكام في التوراة لم ينسخها الإنجيل، بل كان متمماً لها ومقرراً، ووجه ذلك من الآية أن الله سبحانة وتعالى ذكر في الآية البعض مما يدل على أن الأكثر سالم من النسخ.
(1)
انظر: التفسير الكبير (8/ 28).
(2)
انظر: البحر المحيط (2/ 462).
(3)
ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئًا، وإنما أحَلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطئوا، فكشف لهم عن المغطى في ذلك، كما قال في الآية الأخرى:{وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63]. قاله ابن كثير. انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 710).
(4)
انظر: تفسير السعدي (132).
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال ابن كثير:(فيه دلالة على أن عيسى، عليه السلام، نسَخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: البيضاوي، وأبوالسعود، والألوسي
(2)
.
ما يحصل للمؤمن من أجر على العمل الصالح إنما هو توفية لما حصل له من الأجر في الدنيا
.
قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)} (آل عمران: 57).
100 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب لأعمالهم من الإكرام والإعزاز والنصر والحياة الطيبة
(3)
، وإنما توفية الأجور يوم القيامة، يجدون ما قدموه من الخيرات محضراً موفراً، فيعطي منهم كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه) ا. هـ
(4)
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 710).
(2)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 263)، وإرشاد العقل السليم (1/ 372)، وروح المعاني (2/ 164).
(3)
بناء على أن معنى التوفية هنا إكمال ما أعطاهم من الثواب الذي ابتدأه في الدنيا، وهذا المعنى الذي اختاره السعدي، بينما ذهب أكثر المفسرين إلى أن المعنى المراد للتوفية هنا هو: أن تكون كاملة موفرة، قال الطبري:({فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} فيعطيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة كاملا لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه) انظر: جامع البيان (3/ 292).
(4)
انظر: تفسير السعدي (132).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المؤمنين يحصل لهم ثواب في الدنيا قبل الأخرى، ففي الدنيا يكون العز والنصر والإكرام جزاء على أعمالهم الصالحة، وفي الآخرة يوفي الله ذلك الأجر بما أعده لهم في الآخرة من النعيم، ووجه ذلك من الآية دلالة التوفية على أن بعض الجزاء قد قدم وإنما في الآخرة يأخذ المؤمن توفيته.
قال ابن كثير - موافقاً السعدي على هذا الاستنباط -: ({وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات)
(1)
.
ما قامت الأدلة على أنه حق جزم به العبد ولا يلزم العبد حل الشبه الواردة عليه بل يكفيه الجزم بأن كل ما خالف الحق فهو باطل
.
قال تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} (آل عمران: 60).
101 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} أي: الشاكين في شيء مما أخبرك به ربك، وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها، فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة، سواء قدر العبد على حلها أم لا فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه، لأن ما خالف الحق فهو باطل، قال تعالى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 712).
32]، وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه، وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة عقدية، وهي أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد؛ فإنه يجزم بأن ما عارض هذا الحق فهو باطل، وعليه فلا يلزمه تفنيد هذا المعارض والرد عليه، ووجه الاستنباط من الآية أن الله أمر نبيه بالتزام الحق وعدم الالتفات إلى إيرادات النصارى الزاعمين بعيسى ما ليس بحق، فأخذ من عموم هذا المعنى هذه القاعدة.
وهذه القاعدة مفيدة جداً لمن لا يعرف الرد على الشبه، خصوصاً في هذا الوقت الذي كثر فيه إيراد الشبه على مسائل كثيرة من الدين فكون عامة الناس يعرفون الحق يكفيهم في الرد على الباطل.
ولم أجد من المفسرين من نبه على هذه القاعدة في هذا الموطن. والله أعلم.
علم التاريخ طريق لرد الأقوال الباطلة
.
قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)} (آل عمران: 65).
102 -
قال السعدي رحمه الله: (. . . وفيها أيضاً حث على علم
(1)
انظر: تفسير السعدي (133).
التاريخ، وأنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما عُلم من التاريخ) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية الحث على علم التاريخ، وأنه سبب لكشف الأقوال الباطلة، ووجه ذلك أن اليهود والنصارى جادلوا في إبراهيم، وادعت كل طائفة أنه كان على دينها، فقيل لهم: أديانكم وكتبكم - التوراة والإنجيل - إنما ظهرت بعد إبراهيم بدهر طويل فكيف يكون عليها مع أنه كان قبلها
(2)
، فبمعرفة تاريخ التوراة والإنجيل ظهر افتراء هاتين الطائفتين، ومن عموم هذا المعنى استنبط السعدي أهمية علم التاريخ في كشف بعض الحقائق.
وقد أشار الطوفي إلى هذا المعنى فقال- بعد إيراده لهذه الآية -: (هذا أصل في استدلال أصحاب الحديث على كذب الكذابين فيه بالتاريخ بأن يروي أحدهم عمن قبل ولادته، أو يؤرخ سماعه منه بوقت قد مات قبله)
(3)
.
طلب الهدى من غير الكتاب والسنة ضلال
.
قال تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (73)} (آل عمران: 73).
103 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}
(1)
انظر: تفسير السعدي (133).
(2)
انظر: الإشارات الإلهية (1/ 408)، وجامع البيان (3/ 303).
(3)
انظر: الإشارات الإلهية (1/ 408).
ونحوها من الآيات، تدل على أن من طلب الهدى والرشد من غير الكتاب والسنة ضل، لأن الهدى محصور في هدى الله الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن طلب الهدى من غير الكتاب والسنة ضلال، ووجه ذلك من الآية أن الله سبحانه وتعالى قّيد الهدى بهدى الله فدل مفهوم القيد على أن طلب الهدى من غير الله ضلال.
وقد أشار ابن عاشور إلى هذا المعنى فقال: (وقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} كلام معترض، أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوله لهم، كنايةً عن استبعاد حصول اهتدائهم، وأنّ الله لم يهدهم، لأنّ هدى غيره أي محاولته هدى الناس لا يحصل منه المطلوب، إذا لم يقدّره الله، فالقصر حقيقي: لأنّ ما لم يقدّره الله فهو صورة الهدى وليس بهُدى)
(2)
، وممن أشار إليه كذلك من المفسرين: العثيمين
(3)
.
وفي هذا المعنى المستنبط فائدة عظمى وهي تعظيم شرع الله عز وجل وأن الهداية المنشودة إنما هي فيه حصراً ففيه قطع الطريق على مستحسني الأنظمة والتعاليم غير الإسلامية.
(1)
انظر: فتح الرحيم للسعدي (171).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (3/ 280).
(3)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (سورة آل عمران)(1/ 412).
يؤجر المنفق على إنفاقه قليلاً كان أم كثيراً محبوباً للنفس أم لا
.
قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ شَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} (آل عمران: 92).
104 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره، وأنه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك، ولما كان الإنفاق على أي: وجه كان مثاباً عليه العبد، سواء كان قليلاً أو كثيراً، محبوباً للنفس أم لا وكان قوله {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ شَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ختم الآية بقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} ، وهي أن أول الآية يوهم بأن الإنفاق الذي يؤجر عليه الإنسان إنما هو الإنفاق مما يحب، بينما الإنسان يؤجر على عموم الإنفاق قليلاً كان أم كثيراً فناسب ذكر هذه الآية التي تؤيد هذا المعنى من عمومها.
قال ابن عاشور: (وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)} تَذْييل قُصد به تعميم أنواع الإنفاق)
(2)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر لهذه المناسبة وهو أن مناسبة الآية الترغيب في الإنفاق من المحبوب والترهيب من إنفاق الردئ، قال أبو
(1)
انظر: تفسير السعدي (138).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (4/ 107).
السعود: (وفيه من الترغيب في إنفاق الجيدِ والتحذيرِ عن إنفاق الرديء ما لا يخفى)
(1)
.
وما ذهب إليه السعدي هو الأقرب في المناسبة؛ لأن الأجر على الإنفاق ليس مختصاً بإنفاق المحبوب فقط بل يؤجر الإنسان على عموم إنفاقه لكن أجره على إنفاق المحبوب أعظم، كما أن في تأييد هذه المناسبة توسيع دائرة الإنفاق وتشجيع الناس عليه، بينما لوحصر الأجر على إنفاق المحبوب أصبح أهل الإنفاق قلة. والله أعلم.
بطلان قول اليهود بأن النسخ غير جائز
.
قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)} [آل عمران: 93].
105 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ
(2)
غير جائز
(3)
، فكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام الإنصاف في المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من أن
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم (1/ 390).
(2)
النسخ لغة: الرفع والإزالة، وشرعاً: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم، بخطاب متراخ عنه. انظر: روضة الناظر: (1/ 283)، والمذكرة في أصول الفقه (64).
(3)
انقسم اليهود بشأن النسخ إلى ثلاث فرق: الفرقة الأولى الشمعونية وهؤلاء ذهبوا إلى امتناع النسخ عقلاً وسمعاً، الفرقة الثانية: العنانية وهؤلاء ذهبوا إلى جوازه عقلاً وعدم جوازه سمعاً، الفرقة الثالثة: العيسوية وهؤلاء ذهبوا إلى جوازه عقلاً ووقوعه سمعاً وهم المعترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. انظر: قواطع الأدلة (1/ 419)، والإحكام في أصول الأحكام (1/ 482)، وروضة الناظر (1/ 292).
جميع أنواع الأطعمة محللة لبني إسرائيل {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ}
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية الرد على اليهود في إبطالهم النسخ، ووجه ذلك من الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالاً لبني إسرائيل، قبل نزول التوراة، سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه، ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة إسرائيل وملته، وأن الذي كان لهم حلالاً إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين
نزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، التي كانت حلالاً لبني إسرائيل، وهذا محض النسخ.
(3)
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال أبوحيان:(وفي الآية دليل على جواز النسخ في الشرائع، وهم ينكرون ذلك_أي اليهود-)
(4)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: الجصاص، وإلكيا الهراسي، والرازي، وابن كثير، والبيضاوي، وأبوالسعود، والنسفي، والألوسي.
(5)
.
(1)
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أنه جائز أن يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الأحكام كما جاز لغيره، والنبي أولى في ذلك لفضل رأيه، وعلمه بوجوه المقاييس واجتهاد الرأي. انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 25).
(2)
انظر: تفسير السعدي (138).
(3)
انظر: بدائع الفوائد الجامع لتفسير ابن القيم (1/ 232).
(4)
انظر: البحر المحيط (3/ 5).
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 24)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 22)، والتفسير الكبير (8/ 120)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 735)، وأنوار التنزيل (1/ 278)، وإرشاد العقل السليم (2/ 4)، ومدارك التنزيل (173)، وروح المعاني (2/ 220).
الأعمال تدخل في مسمى الإيمان
.
قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) الآيات} (آل عمران: 133 - 135).
106 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذه الآيات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة، على أن الأعمال تدخل في الإيمان، خلافا للمرجئة
(1)
، ووجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية، التي في سورة الحديد، نظير هذه الآيات، وهي قوله تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (الحديد: 21) فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به وبرسله، وهنا قال:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} ثم وصف المتقين بهذه الأعمال المالية والبدنية، فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة عقدية وهي دخول الإعمال في مسمى الإيمان، ووجه دلالة الآية على ذلك أن الله ذكر الجنة جزاء
(1)
المرجئة: هي إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلى الإسلام، ذات المفاهيم والآراء العقدية الخاطئة في مفهوم الإيمان التي لم يعد لها كيان واحد، حيث انتشرت مقالتهم في كثير من الفرق، فمنهم من يقول إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب فقط وهم مرجئة الفقهاء وهؤلاء أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، وبعضهم يقصره على قول اللسان وهم الكرامية، والبعض الآخر يكتفي في تعريفه بأته التصديق وهم الماتريدية ومن وافقهم من الأشاعرة، وغالى بعضهم فقالوا إنه المعرفة وهو قو الجهم بن صفوان. انظر: الملل والنحل (1/ 161)، والموسوعة الميسرة (2/ 1153).
(2)
انظر: تفسير السعدي (149) و (572).
لأصحاب هذه الأعمال المالية منها والبدنية، ثم ذكر في سورة الحديد أنها جزاء للمؤمنين بالله ورسله، وهذا فيه دلالة على أن هؤلاء المؤمنين هم العاملون بهذه الأعمال لأن الجزاء واحد، فدل ذلك على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان.
لا يكره تمني الشهادة
.
قال تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} (آل عمران: 143).
107 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم، ولم ينكر عليهم، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية عدم كراهية تمني الشهادة في سبيل الله، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله سبحانه وتعالى عاتب الذين تمنوا الشهادة على عدم ثباتهم، ولم يعاتبهم على تمني الشهادة، فدل ذلك على جواز تمني الشهادة.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الألوسي: (فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك تمني غلبة الكفار لأن قصد المتمني
(1)
انظر: تفسير السعدي (150).
الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: أبوحيان، وأبوالسعود، وحقي، وابن عاشور، والعثيمين
(2)
.
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط البيضاوي، حيث يرى أن التوبيخ في الآية إنما هو على تمني الشهادة؛ لأن في تمنيها تمني غلبة الكفار، فقال مقرراً ذلك:(وهو توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها، أو على تمني الشهادة فإن في تمنيها تمني غلبة الكفار)
(3)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح الذي تدل عليه الآية، قال العثيمين:(لكن يؤخذ منه أنه يجوز أن يتمنى الإنسان الشهادة، بل لو قيل بمشروعية هذا لم يكن بعيداً)
(4)
، وأما القول بأن في ذلك تمني غلبة الكفار ففيه بعد لأن غلبة الكفار ليست مقصودة في هذا التمني، قال أبوحيان:(ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم، إنما يجيء ذلك في الضمن لا أنه مقصود، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة لما فيه من الكرامة عند الله)
(5)
.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (. . . والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو
(1)
انظر: روح المعاني (2/ 285).
(2)
انظر: البحر المحيط (3/ 73)، وإرشاد العقل السليم (2/ 41)، وروح البيان (2/ 106)، والتحرير والتنوير (4/ 109)،، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (سورة آل عمران)(2/ 238).
(3)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 301).
(4)
انظر: تفسير القرأن الكريم (سورة آل عمران)(2/ 238).
(5)
انظر: البحر المحيط (3/ 73).
في سبيل الله، فأقتل، ثم أغزو، فأقتل، ثم أغزو، فأقتل)
(1)
، قال النووي:(وفيه: تمني الشهادة والخير)
(2)
، كما أن ظاهر ترجمة البخاري تدل على أن هذا اختياره حيث قال: باب تمني الشهادة
(3)
.
لا يُترك الحق بسبب فقد رئيس ولو عَظُم
.
قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} (آل عمران: 144).
108 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه، فقدُ رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم) ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن فقد الرئيس ينبغي أن لا يكون
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة، ح (2797) بلفظ (والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أُحيا. . .)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، ح (1876).
(2)
انظر: شرح النووي على مسلم (13/ 21).
(3)
انظر: صحيح البخاري ص (463).
(4)
انظر: تفسير السعدي (151).
له أثر على الأتباع حتى ولو كان هذا الرئيس عظيماً، بل ينبغي أن تتعلق النفوس بنصرة الحق والجهاد عنه ولا يكون لهم قصد في أشخاص الناس، وهذه المعنى أخذه بالقياس فإذا كان فقد النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن لا يكون له أثر على العبد بالنكوص والردة فمن باب أولى غيره من الرؤساء لا يكون لفقدهم أثر في إتباع الحق والثبات عليه.
قال الهرري موافقاً السعدي على هذا الاستنباط: (وفي هذه الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها، ذا صلة بوجود القائد، بحيث إذا قتل انهزم الجيش، أو استسلم للأعداء بل يجب أن تكون المصالح العامة جارية على نظام ثابت، لا يزلزله فقد الرؤساء،. . . ومن توابع هذا النظام أن تعد الأمة لكل أمر عدته، فتوجد لكل عمل رجالاً كثيرين حتى إذا فقدت معلماً أو مرشداً أو قائداً أو حكيماً أو رئيساً أو زعيماً وجدت الكثير ممن يقوم مقامه ويؤدي لها من الخدمة ما كان يؤديه. . .)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الدوسري
(2)
.
كما أن في هذا الاستنباط إرشاد إلى أمر يقي من الوقوع في الهزيمة بفقدان الرئيس وهو الاستعداد لهذا الأمر بالكفاءات؛ ولهذا لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم لم تزدد الأمة إلا قوة إلى قوتها، واتسعت رقعتها، وكثرت فتوحاتها؛ لأن الذي تولى بعد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أكفاء.
(1)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان (5/ 163).
(2)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (4/ 331).
مناسبة ذكر التوفية هنا بلفظ العموم، للاحتراز من أن غير الغال لا يُوفَّى
.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)} (آل عمران: 161).
109 -
قال السعدي رحمه الله: (وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة، لما ذكر عقوبة الغال، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تعميم التوفية، وبين أن مناسبة ذلك هو دفع توهم اقتصار التوفية على الغال، فأتى بلفظ جامع لبيان أن العاملين جميعهم يوفون أعمالهم.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر لهذه المناسبة وهو أن العموم الدال على أن الجزاء لكل عامل ولكل عمل ولو كان صغيراً، فدلالته على الغلول من باب أولى وهذا فيه بيان جرم الغال والمبالغة في بيان شأنه، قال الألوسي:(وفي تعليق التوفية بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند إتيانه بما غل يوم القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال ما لا يخفى فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله لا ينقص منه شيء وإن كان جرمه في غاية القلة والحقارة، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى وهذا سبب العدول عما يقتضيه الظاهر من نحو ثم يوفى ما كسب لأنه اللائق بما قبله)
(2)
، وممن قال بذلك من
(1)
انظر: تفسير السعدي (155).
(2)
انظر: روح المعاني (2/ 322).
المفسرين أيضاً: الرازي، وأبوحيان، والبيضاوي، وأبوالسعود، وحقي
(1)
.
وليس هناك ما يمنع من اجتماع المناسبتين، فدفع التوهم، والمبالغة في إثبات عقوبته كل ذلك محتمل في مناسبة الإتيان بهذا اللفظ. والله أعلم.
ارتكاب أخف المفسدتين، وفعل أدنى المصلحتين للعجز عن أعلاهما
.
110 -
قال السعدي رحمه الله: (ويستدل بهذه الآية على قاعدة "ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما، وفعل أدنى المصلحتين، للعجز عن أعلاهما"؛ لأن المنافقين أُمروا أن يقاتلوا للدين، فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال والأوطان) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دليلاً على قاعدة فقهية وهي: ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما، وفعل أدنى المصلحتين للعجز عن أعلاهما، ووجه ذلك من الآية أن الله أمر المنافقين بالقتال مع المؤمنين
(1)
انظر: التفسير الكبير (9/ 60)، والبحر المحيط (3/ 107)، وأنوار التنزيل (1/ 308)، وإرشاد العقل السليم (2/ 57)، وروح البيان (2/ 123).
(2)
انظر: تفسير السعدي (156).
وهو بالنسبة للمنافقين مفسدة، ولكنه يدور بين القتال لأجل الدين وهو مفسدة كبرى عند المنافقين، وبين القتال للمدافعة عن محارمهم وبلدهم وهو مفسدة أقل من الأولى، فلما لم يستجيبوا للقتال عن الدين دعوا للقتال عن المحارم والبلد وهي أدنى المفسدتين بالنسبة لهم.
كما أن فعل المنافقين فيه دلالة على الشق الآخر من القاعدة وهو فعل أدنى المصلحتين عند العجز عن فعل أعلاهما، ووجه ذلك أن القتال من أجل الدين مصلحة عليا، ولكن لعجز المنافقين عن ذلك لما في قلوبهم من بغض للدين، كانت المصلحة الأدنى في حقهم القتال عن محارمهم وبلدانهم.
أرواح أهل الخير تتلاقى، ويزور بعضهم بعضاً
.
قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَيْرٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} (آل عمران: 169 - 170).
111 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيه تلاقي أرواح أهل الخير
(1)
، وزيارة بعضهم بعضاً، وتبشير بعضهم بعضاً) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة متعلقة بأحوال أهل الخير في
(1)
وممن أشار إلى جواز ذلك وإمكانيته واستدل له: القرطبي في كتابه التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 97)، وقد خصها بعضهم بالشهداء. انظر: التحرير والتنوير (4/ 166).
(2)
انظر: تفسير السعدي (157).
البرزخ وأن أرواحهم تتلاقى، ويزور بعضهم بعضاً، ووجه ذلك من الآية بدلالة التضمن، حيث أن الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم يتضمن الزيارة واللقاء.
يقول ابن القيم موافقاً السعدي على هذا الاستنباط: (وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وإنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل وهذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم عند ربهم يرزقون وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون، الثاني: أنهم إنما استبشروا بإخوانهم لقدومهم ولقائهم لهم، الثالث: أن لفظ يستبشرون يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضاً مثل يتباشرون).
(1)
من أحب المدح والثناء على ما فعله من الخير ولم يكن قصده الرياء والسمعة فليس بمذموم
.
قال تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)} (آل عمران: 188).
112 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير وإتباع الحق، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة، أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة، التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال، وأنه جازى بها خواص خلقه، وسألوها منه، كما قال إبراهيم عليه السلام:
(1)
انظر: كتاب الروح لابن القيم (81).
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84)} [الشعراء: 84]، وقال:{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)} [الصافات: 79، 80] وقد قال عباد الرحمن: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74]، وهي من نعم الباري على عبده، ومننه التي تحتاج إلى الشكر) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن حب الحمد والثناء على الفعل إذا لم يكن قصده الرياء والسمعة فإنه غير مذموم، ووجه ذلك من الآية بمفهوم المخالفة، حيث إن الذم الذي ورد في الآية إنما هو لمن أحب الحمد والثناء على ما لم يفعل، فدل مفهوم المخالفة أن من أحب الحمد والثناء على فعله الخير وتمسكه بالحق وهو لا يقصد الرياء ولا السمعة فإنه غير مذموم على ذلك.
قال محمد رشيد رضا- موافقاً السعدي على هذا الاستنباط-: (لولا أن حب المحمدة بالحق على العمل النافع من غرائز الفطرة التي يستعان بها على التربية العالية لما قيد الله الوعيد على حب الحمد بقوله: {بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} هذا القيد يدل على أن حب الثناء على العمل النافع غير مذموم ولا متوعد عليه وهذا هو الذي يليق بدين الفطرة. .)
(2)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: العثيمين
(3)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (161).
(2)
انظر: تفسير المنار (4/ 249).
(3)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (تفسير سورة آل عمران)(2/ 530).
سورة النساء
مشروعية الولاية على اليتيم
.
قال تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ (2)} (النساء: 2).
113 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيه الولاية
(1)
على اليتيم، لأن مِنْ لازم إيتاء اليتيم ماله، ثبوت ولاية المؤتي على ماله) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية ثبوت الولاية على اليتيم، ويؤخذ هذا الاستنباط من الآية بدلالة الالتزام، حيث إن إيتاء اليتيم ماله يلزم منه أن الذي يؤتي هذا المال له ولاية عليه حيث نسب إيتاء المال إليه.
(1)
الولي هو الذي يتولى مال غيره بغير إذن منه، بل بإذن من الشرع بأن يوليه القاضي ونحو ذلك. انظر: تفسير سورة النساء/ د. اللاحم (1/ 63).
(2)
انظر: تفسير السعدي (163).
يجب على ولي اليتيم القيام بما يحفظ مال اليتيم
.
قال تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ (2)} (النساء: 2).
114 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم، لأن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن ولي اليتيم يجب عليه المحافظة على مال اليتيم، ووجه استنباط ذلك من الآية بدلالة اللزوم-الإشارة- حيث إن الأمر بالإيتاء يلزم منه القيام بالإصلاح لأنه لا يمكن أن يتم بدونه.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الدوسري:(فإن قوله سبحانه: {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} هو من باب (إشارة النص) على ما قرره الأصوليون، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويراد به معنى آخر، فالأمر من الله للأوصياء والأولياء للأيتام بإعطائهم أموالهم هو مناشدة لوجدانهم بالاحتفاظ بأموالهم حتى يؤدوها إليهم دون طمع بها أو مماطلة بدفعها، وأن يحسنوا المعاملة في أموالهم. . .)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: الزمخشري، وابن عرفة، والألوسي، وابن عاشور، والقاسمي
(3)
.
وأما ما يتعلق بالتنمية فأخذها من هذه الآية فيه نظر، إذ المحافظة
(1)
انظر: تفسير السعدي (163).
(2)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (5/ 45).
(3)
انظر: الكشاف (216)، وتفسير ابن عرفة (2/ 4)، وروح المعاني (2/ 397)، والتحرير والتنوير (4/ 220)، ومحاسن التأويل (3/ 11).
على المال لا يدخل فيها تنميته، فالمحافظة على رأس المال شيء وتنميته شيء آخر، ولكن التنمية تؤخذ من قوله تعالى:(وارزقوهم فيها)، قال الزمخشري:(واجعلوها مكاناً لرزقهم، بأن تتجروا فيها وتتربحوا)
(1)
، وهذا ظاهر في التنمية.
لا يجوز نكاح المرأة الخبيثة
.
قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ (3)} (النساء: 3).
115 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
(2)
دليل على أن نكاح الخبيثة غير مأمور به، بل منهي عنه كالمشركة، وكالفاجرة، كما قال تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ شَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقال: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن نكاح المرأة الخبيثة منهي عنه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله سبحانه وتعالى أمر بنكاح ذوات الصفات الطيبة من النساء
(4)
، فدل مفهوم المخالفة - مفهوم الصفة- أن غير الطيبة منهي عن نكاحها، بناء على أن معنى ما طاب أي الطيبة من
(1)
انظر: الكشاف (219).
(2)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية وهي: الإشارة إلى النظر قبل النكاح لأن الطيب لا يكون إلا به، وكذلك استحباب نكاح الجميلة لأنه يحصل به العفاف، ومنع نكاح الجنيات. انظر: الإكليل (2/ 502).
(3)
انظر: تفسير السعدي (164).
(4)
انظر: تفسير آيات الأحكام في سورة النساء (1/ 78).
النساء.
ومما يؤيد ما ذهب إليه السعدي أن ما هنا تدل على أن المراد الصفة، أي النوع الطيب من النساء
(1)
، قال ابن عاشور:({مَا طَابَ} النساء فكان الشأن أن يؤتى ب (مَن) الموصولة لكن جيء ب (ما) الغالبة في غير العقلاء، لأنّها نُحِي بها مَنْحى الصفة وهو الطيّب بِلا تعيين ذات)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الدوسري، واللاحم
(3)
.
إضافة الأموال إلى الأولياء إشارة للأولياء إلى حفظ أموال السفهاء كما يحفظوا أموالهم
.
قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ (5)} (النساء: 5).
116 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي إضافته تعالى الأموال إلى الأولياء، إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء ما يفعلونه في أموالهم، من الحفظ والتصرف وعدم التعريض للأخطار) ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأولياء يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء ما يفعلونه في أموالهم، من الحفظ وعدم التعريض للأخطار، ووجه استنباط ذلك من الآية إضافة الأموال إليهم مع أن
(1)
انظر: الدر المصون في علم الكتاب المكنون (3/ 561).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (4/ 224).
(3)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (5/ 51)، وتفسير آيات الأحكام في سورة النساء (1/ 94).
(4)
انظر: تفسير السعدي (164).
الأموال هي أموال السفهاء، فمن هذه الإضافة يفهم ذلك.
قال الدوسري: (وإيتاء الله بكاف الخطاب يشعر بحفظ الأموال عن عموم السفهاء كما أوضحناه، ويشعر أيضاً بالاعتناء بأموال اليتامى والمحافظة عليها. . .)
(1)
، وقال الألوسي:(وإنما أضيفت إلى ضمير الأولياء المخاطبين تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بهم فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي مبالغة في حملهم على المحافظة عليها)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: أبوالسعود، وحقي، والقاسمي.
(3)
وذكر ابن عاشور وجهاً آخر لهذا الاستنباط ولكنه أعم من الأول فقال: (والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله:{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكية المختصّين به في ظاهر الأمر، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة
جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة، فمن تلك الأموال يُنفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف، ومتى قلَّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم، وامتلاك بلادهم، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة
(1)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (5/ 88).
(2)
انظر: روح المعاني (2/ 411).
(3)
انظر: إرشاد العقل السليم (2/ 99)، وروح البيان (2/ 170)، ومحاسن التأويل (3/ 28).
العامة، وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها).
(1)
الإرث مقدر شرعاً، وللوارث نصيبه منه سواء كان الموروث قليلاً أم كثيراً
.
قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} (النساء: 7).
117 -
قال السعدي رحمه الله: (فكأنه قيل: هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة، وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئاً مقدراً؟ فقال تعالى: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)}
(2)
: أي: قد قدره العليم الحكيم. وسيأتي -إن شاء الله- تقدير ذلك.
وأيضاً فهاهنا توهم آخر، لعل أحداً يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير، فأزال ذلك بقوله:{مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} فتبارك الله أحسن الحاكمين) ا. هـ
(3)
(1)
انظر: التحرير والتنوير (4/ 234).
(2)
ذكر بعض المفسرين هنا استنباطاً آخر وهو دلالة الآية على أن الوراث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه بالإعراض، كما ذكر بعض المفسرين أن إفراده سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال، ولم يقل للرجال والنساء نصيب، للإيذان بأصالتهنّ في هذا الحكم، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء، انظر: أنوار التنزيل (1/ 334)، وفتح القدير (1/ 539).
(3)
انظر: تفسير السعدي (165).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ذكر النصيب بأنه مفروض، حيث قال إن مناسبة ذلك هو بيان أن تحديد مقدار هذا النصيب هو الشرع لا العرف ولا العادة، كما بين مناسبة التعبير بالأقل والأكثر من الإرث وهي أن الوارث يرث من المال قليلاً كان أم كثيراً فلا يتوهم أحد أن النساء والولدان يرثون من المال الكثير فحسب.
قال أبوالسعود: (وتحقيقُ أن لكلَ من الفريقين حقاً من كل ما جلّ ودقّ)
(1)
، وقال ابن عاشور:(ومعنى كونه مفروضاً أنّه معيّن المقدار لكلّ صنف من الرجال والنساء، وهذا أوضح دليل على أنّ المقصود بهذه الآية تشريع المواريث)
(2)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر، وهو أن مناسبة ذلك دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة، قال الألوسي:(وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال)
(3)
.
وهذا المعنى المستنبط مما يدل على عظم هذه الشريعة وعدلها، فهي تحفظ حقوق الضعفاء الذين قد تذهب حقوقهم ويسيطر عليها الأقوياء، كما أن فيه بيان اهتمام الإسلام بحقوق المرأة وحمايتها من الظلم، فإذا كانت الجاهلية قد تخصص بعض الأموال ببعض الورثة، وبعض الجاهليات قد تحرم المرأة من الحق الكامل في المال الكثير فتعطي المرأة اليسير من حقها وتستولي على الباقي، فإن الإسلام كفل للمرأة حقها كاملاً في أي نوع من الإرث وسواء قل أم كثر.، ففي هذه الآية تقويض ما كان عليه أهل الجاهلية من عدم توريث النساء، كما أن فيها بيان علة الإرث وهو القرابة وهذا متحقق في الكبير والصغير، والذكر والأنثى، مما شأنه القضاء على
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم (2/ 102).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (4/ 250).
(3)
انظر: روح المعاني (2/ 421).
أي سبب قد يكون سبباً في حرمان أحد من الضعفاء من الإرث.
وفي هذه الآية كذلك توطئة لاستقبال الأحكام التفصيلية في الإرث التي أتت بعدها، وفيها اعتراف بالذمة المالية للمرأة؛ إذ توريثها يستلزم ذلك.
كل من له تطلع وتشوف إذا حضر بين يدي الإنسان ينبغي له أن يعطيه ما تيسر
.
قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)} (النساء: 8).
118 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى}
(1)
يؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى
(1)
اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أم محكمة؟ كذلك اختلفوا هل الأمر هنا للوجوب أم للاستحباب؟
قال القرطبي: (قيل إنها: محكمة، قاله ابن عباس، وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) قال: هي محكمة وليست بمنسوخة، وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الاشعري.
وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين)، وقال سعيد بن المسيب: نسخها آية الميراث والوصية، وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك.
والأول أصح، فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم.
أما بالنسبة للوجوب والاستحباب:
قال النحاس: فهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير، والشكر لله عز وجل،
وقالت طائفة: هذا الرضخ واجب على جهة الفرض، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق وما خف، =
ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين"
(1)
أو كما قال وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء، فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم {قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)} يردوهم ردًّا جميلا بقول حسن غير فاحش ولا قبيح) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من حضر بين يدي شخص، وله تطلع وتشوف للعطاء أن يعطيه ما تيسر، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل حث أصحاب القسمة على إعطاء من حضر القسمة، لأن حضوره هنا تطلعاً وتشوفاً للعطاء، فقاس على ذلك الحالات الشبيهة فمتى حضر من له تشوف فإنه يستحب إعطاءه.
= حكى هذا القول ابن عطية، والقشيري.
والصحيح أن هذا على الندب، لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول، وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 48 - 49) باختصار، وتصرف يسير، وانظر كذلك: جامع البيان (3/ 608)، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 90 - 94)، وأحكام القرآن للهراسي (2/ 75)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 350)، وفتح القدير (1/ 540).
(1)
نص الحديث كما في صحيح البخاري: (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولى علاجه). أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأطعمه، باب الأكل مع الخادم، ح (5460)، وأخرجه مسلم في صحيحه بنحوه، كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولايكلفه ما يغلبه، ح (1663).
(2)
انظر: تفسير السعدي (165).
وهذا الاستنباط من الاستنباطات الدقيقة التي لم أجد من المفسرين من أشار إليها حسب ما وقفت عليه من التفاسير.
وقد أيد استنباطه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم ذكره، وكيف حث النبي صلى الله عليه وسلم السيد على إعطاء خادمه شيئاً من الطعام الذي أتى به، حيث إنه تشوف إليه، وتعلقت به نفسه، قال النووي في شرحه لهذا الحديث:(وفي هذا الحديث: الحث على مكارم الأخلاق، والمواساة في الطعام، لا سيما في حق من صنعه أو حمله؛ لأنه ولي حره ودخانه، وتعلقت به نفسه، وشم رائحته)
(1)
.
وهناك معنى آخر يمكن إضافته لهذا الاستنباط حتى يكمل، وهو إذا كان هناك من تتعلق نفسه وتتطلع، ولكنه لم يحضر فإنه هنا يستحب إعطائه لوجود العلة وهي التشوف، خصوصاً إذا علمنا أن القسمة غالباً تتم في غياب كثير ممن تتشوف أنفسهم للعطاء، وقال ابن عطية
في أصل هذه المسألة: (ومعنى " حضر ": شهد، إلا أن الصفة بالضعف واليتم والمسكنة تقضي أن ذلك هو علة الرزق، فحيث وجدت رزقوا وإن لم يحضروا القسمة)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك ابن عرفة
(3)
. والله أعلم.
التقييد بالظلم في أكل مال اليتيم لبيان الحالات الجائزة
.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} (النساء: 10).
119 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
(1)
انظر: شرح النووي على مسلم (11/ 112).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (404).
(3)
انظر: تفسير ابن عرفة (2/ 8).
الْيَتَامَى ظُلْمًا}
(1)
أي: بغير حق، وهذا القيد يخرج به ما تقدم، من جواز الأكل للفقير بالمعروف، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية فائدة تقييد تحريم أكل أموال اليتامى بالظلم، لبيان جواز حالات الأكل، فمفهوم المخالفة للظلم يدل على جواز الأكل من مال اليتيم في حالات معينة، ومن الحالات المنصوص عليها أكل الفقير بالمعروف، والأكل من مال اليتيم عند المخالطة.
وقد وافق السعدي على استنباط فائدة هذا القيد بعض المفسرين، قال الرازي:(دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم، وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف)
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: الألوسي، وابن عاشور
(4)
.
أكل مال اليتيم من أكبر الكبائر
.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} (النساء: 10).
(1)
ذكر ابوحيان استنباطاً لغوياً من هذه الآية، فقال:(وانتصاب ظلماً على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله، وخبران هي الجملة من قوله: إنما يأكلون، وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبراً، لأن وفي ذلك خلاف). انظر: البحر المحيط (3/ 187).
(2)
انظر: تفسير السعدي (166).
(3)
انظر: التفسير الكبير (9/ 162).
(4)
انظر: روح المعاني (2/ 424)، والتحرير والتنوير (4/ 254).
120 -
قال السعدي رحمه الله: (فمَنْ أكلها ظلمًا فـ {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أي: فإن الذي أكلوه نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم. {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} أي: نارًا محرقة متوقدة. وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها، وأنها موجبة لدخول النار، فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن أكل مال اليتيم من أكبر الكبائر، ووجه استنباط ذلك من الآية توعد الله لهم بأعظم عذاب ورد في الذنوب، فدل ذلك على أنه من أكبر الكبائر.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على ذلك، قال القرطبي-في تفسيره لهذه الآية-:(فدل الكتاب والسنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر)
(3)
.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع
(1)
اختلف العلماء في ضابط الكبيرة، فمنهم من قال هي: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وممن قال بذلك ابن عباس، والحسن البصري، ومنهم من قال هي: ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدا في الدنيا، وممن قال بذلك أحمد والماوردي من الشافعية، وقال ابن عبد السلام: لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها، وقال القرطبي: الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة. انظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 424)، وشرح النووي على مسلم (2/ 73 - 75).
(2)
انظر: تفسير السعدي (166).
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 53).
الموبقات، وذكر منهن"وأكل مال اليتيم"
(1)
توصية الله للوالدين بأولادهم تدل على أن الله أرحم بعباده من الوالدين
.
قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (النساء: 11).
121 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم، عليهم) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دلالتها على رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أوصى الوالدين بأولادهم مع رحمة الوالدين بالأولاد، فدل ذلك على أن الله أرحم بالخلق من والديهم.
قال ابن كثير: (وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعُلم أنه أرحم بهم منهم)
(3)
، وقال السهيلي
(4)
: (ثم أضاف الأولاد إليهم بقوله أولادكم ومعلوم أن الولد
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى:(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً. . . الآية)، ح (2766)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الكبائ وأكبرها، ح (89).
(2)
انظر: تفسير السعدي (166).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 859).
(4)
هو: أبو القاسم، عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد الخثعمي، السهيلي، حافظ، عالم باللغة، والسير، ضرير، له مؤلفات منها: الروض الأنف، ونتائج الفكر، وشرح آية الوصية، وغيرها، ولد عام 508 هـ، وتوفي عام 583 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 157)، ونفح الطيب (3/ 400)، وشذرات الذهب (6/ 445).
فلذة الكبد وذلك موجب للرحمة الشديدة فمع أنه أضاف الأولاد إليهم جعل الوصية لنفسه دونهم ليدل على أنه أرأف وأرحم بالأولاد من آبائهم. . . فلما قال الله تبارك وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} عُلِم أن رب الأولاد أرحم بالأولاد من الوالدين لهم حيث أوصى بهم وفيهم)
(1)
، وممن قال به أيضاً: الدوسري، كما أشار إليه القاسمي،. . . . . . واللاحم.
(2)
وفي هذه الآية إعجاز غيبي؛ ووجه ذلك أن بعض الآباء يصنع في حياته ما يمنع أو يقلل حض بعض ورثته، فكان في هذه الآية إرشاد إلى تقدير الميراث، وأن تقديره من عند الله فلا يجوز التصرف بتقليل ميراث شخص أو تكثير ميراث آخر، وهذا يحدث في زماننا أحياناً فيقوم بعض التجار بكتابة بعض أملاكه لمن يحب من ورثته لحرمان الآخرين أوتقليل حصتهم، فكأن في هذه الآية بيان أن هذا سيحدث، لذا جاءت الموعظة موجهة إلى المورث مع أنه لا صلة له بالمال بعد موته، ولكن لما قد يحدثه في حياته ووقت قدرته. والله أعلم.
نصيب البنتين الثلثان
.
قال تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ (11)} (النساء: 11).
122 -
قال السعدي رحمه الله: ({فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} أي: بنتا أو بنت ابن {فَلَهَا النِّصْفُ} وهذا إجماع، بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟
(1)
انظر: الفرائض وشرح آيات الوصية (30).
(2)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (5/ 120)، ومحاسن التأويل (3/ 40)، وتفسير آيات الأحكام في سورة النساء للاحم (1/ 212).
فالجواب أنه يستفاد من قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة، انتقل الفرض عن النصف، ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان. وأيضاً فقوله:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إذا خلَّف ابنًا وبنتًا، فإن الابن له الثلثان، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين. . .) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن البنتين لهما الثلثان، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله بين أن البنت الواحدة لها النصف ومفهوم ذلك أنها إن زادت على الواحدة انتقلت عن هذا الفرض وليس بعده إلا الثلثان.
كذلك إذا أخذ الذكر الثلثين والأنثى الثلث علم قطعاً أن حظ الأنثيين الثلثان لأنه إذا كان للواحدة مع الذكر الثلث لا الربع فلأن يكون لها الثلث مع الأنثى أولى مما يدل على أن نصيب البنتين الثلثان
(2)
.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين: قال الجصاص: (وقوله عز وجل: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فنص على نصيب ما فوق الابنتين وعلى الواحدة ولم ينص على فرض الابنتين؛ لأن في فحوى الآية دلالة على بيان فرضهما، وذلك لأنه قد أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث، وإذا كان لها مع الذكر الثلث كانت بأخذ الثلث مع الأنثى أولى، وقد احتجنا إلى بيان حكم ما فوقهما؛ فلذلك نص على حكمه.
وأيضاً لما قال الله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فلو ترك ابنا وبنتا كان للابن سهمان ثلثا المال وهو حظ الأنثيين، فدل ذلك على أن
(1)
انظر: تفسير السعدي (166).
(2)
انظر: التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية (80).
نصيب الابنتين الثلثان؛ لأن الله تعالى جعل نصيب الابن مثل نصيب البنتين وهو الثلثان).
(1)
وقال الشوكاني: (ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة)
(2)
، وممن قال بذلك وأشار إليه من المفسرين: القصاب الكرجي
(3)
، وإلكيا الهراسي، وابن الفرس، وابن العربي، والقرطبي، والرازي، وابن كثير، وأبوحيان، وأبوالسعود، وابن عرفة، والألوسي، والشنقيطي، والهرري.
(4)
المخالفون:
خالف ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك وقال إن الآية تدل على أن البنتين لهما النصف، واحتج بمفهوم الصفة في قوله تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وكلمة "إن" في اللغة للاشتراط، وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثاً فصاعداً، وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 101).
(2)
انظر: فتح القدير (1/ 544).
(3)
هو: الإمام المشهور، العالم، الحافظ، أبو أحمد، محمد بن علي بن محمد الفقيه، الكرجي، المعروف بالقصاب، له مؤلفات كثيرة منها: تأديب الأئمة، وثواب الأعمال، ونكت القرآن، وغيرها، توفي عام 360 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 213)، ومعجم المؤلفين (11/ 58).
(4)
انظر: نكت القرآن (1/ 245)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 84)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 78)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 357)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 62)، والتفسير الكبير (9/ 167)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 859)، والبحر المحيط (3/ 191)، وإرشاد العقل السليم (2/ 104)، وتفسير ابن عرفة (2/ 10)، وروح المعاني (2/ 431)، وأضواء البيان (1/ 309)، وتفسير حدائق الروح والريحان (5/ 435).
(5)
انظر: التفسير الكبير (9/ 166).
النتيجة:
وما ذهب إليه جمهور أهل العلم من دلالة الآية على أن ميراث البنتين الثلثان هو الصحيح لقوة أوجه الدلالة المتقدمة على ذلك، وأما ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما في فهمه للآية فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن هذا الكلام لازم على ابن عباس، لأنه تعالى قال:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فجعل حصول النصف مشروطاً بكونها واحدة، وذلك ينفي حصول النصف نصيباً للبنتين، فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله
(1)
وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها، ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف؛، وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} أقوى من
مفهوم الظرف في قوله {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}
(2)
، كما أن مفهوم قوله تعالى هو المقدم كذلك لأن حديث ابنتي سعد - الذي سيأتي ذكره - يعضده
(3)
.
الثاني: أنا لا نسلم أن كلمة "إن" تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف؛ ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين، لأن الإجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف، وإما الثلثان، وبتقدير أن يكون كلمة "إن" للاشتراط وجب القول بفسادهما، فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلاً
(4)
.
الثالث: أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك
(5)
.
وأما بالنسبة لأصل المسألة وهو أن للبنين الثلثين ففيه حديث جابر رضي الله عنه قال:. . . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال أعط ابنتي سعد
(1)
انظر: التفسير الكبير (9/ 166).
(2)
انظر: أضواء البيان (1/ 310).
(3)
انظر: تفسير ابن عرفة (2/ 10).
(4)
انظر: التفسير الكبير (9/ 166).
(5)
انظر: روح المعاني (2/ 432)
الثلثين. . .)
(1)
وهو نص في محل النزاع، كما أن هذا الحكم مجمع عليه بين أهل العلم، قال ابن قدامة:(أجمع أهل العلم على أن فرض الابنتين الثلثان).
(2)
إذا زاد عدد البنات على الاثنتين فلا يزيد الفرض على الثلثين
.
قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ (11)} (النساء: 11).
123 -
قال السعدي رحمه الله: (بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}؟، قيل: الفائدة في ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية فائدة قوله تعالى: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ، حيث علمنا أن نصيب الاثنتين الثلثان، فما هو فائدة التنصيص على أكثر من اثنتين، وبين أن لذلك فائدة وهي العلم بأن الفرض لا يزيد بزيادة
(1)
أخرجه الترمذي في جامعه، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات، ح (2092)، وأبوداود في سننه، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب، ح (2892)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وحسنه كذلك الألباني في الإرواء (6/ 122).
(2)
انظر: المغني لابن قدامة (9/ 11)
(3)
انظر: تفسير السعدي (166).
العدد على الاثنتين.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الشنقيطي:(إن قيل فما الفائدة في لفظة فوق اثنتين إذا كانت الاثنتان كذلك؟ فالجواب: أن لفظة {فَوْقَ ب} ذكرت لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: الرازي، والبيضاوي، وأبوالسعود، والألوسي
(2)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر لذلك وهو أن: "فوق"زائدة، وهذا مردود لأن القرآن منزه عن مثل ذلك، قال ابن عطية:(وليست {فَوْقَ ب} زائدة بل هي محكمة المعنى)
(3)
، وممن رد القول بأنها زائدة: إلكيا الهراسي، وابن كثير، والشنقيطي
(4)
.
ومما يدل على فساد القول بأنها زائدة، أنه لو أراد ذلك لقال: فلهما ثلثا ما ترك، ولم يقل، فلهن ثلثا ما ترك
(5)
.
بنات الابن أو بنت الابن مع بنت الصلب لهما السدس
.
قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ (11)} (النساء: 11).
(1)
انظر: أضواء البيان (1/ 312).
(2)
انظر: التفسير الكبير (9/ 171)، وأنوار التنزيل (1/ 336)، وإرشاد العقل السليم (2/ 104)، وروح المعاني (2/ 432).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (406).
(4)
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 86)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 859)، وأضواء البيان (1/ 312).
(5)
انظر: فتح القدير (1/ 544).
124 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة، وبنت ابن أو بنات ابن، فإن لبنت الصلب النصف، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس، فيعطى بنت الابن، أو بنات الابن، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين
(1)
، ومثل ذلك بنت الابن، مع بنات الابن اللاتي أنزل منها) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية نصيب بنت الابن مع البنت، ووجه هذا الاستنباط من الآية أن نصيب البنتان الثلثين، فلا زيادة في النصيب بزيادة البنات فإذا استغرقت البنت النصف فلا يبقى من الثلثين إلا سدس وهو ما يسمى بالسدس تكملة الثلثين فيكون نصيب بنت الابن.
قال ابن قدامة: (فإن كانت ابنة واحدة، وبنات ابن، فلابنة الصلب النصف، ولبنات الابن واحدة كانت أو أكثر من ذلك السدس، تكملة الثلثين، وهذا أيضا مجمع عليه بين العلماء.
والأصل فيه قول الله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ففرض للبنات كلهن الثلثين، وبنات
(1)
وهذا الحكم مجمع عليه عند أهل العلم، وجاء فيه نص فقد روى هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن ابنة، وابنة ابن، وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى، فقال:{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)} [الأنعام: 56]، ولكن أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني عن شيء ما دام الحبر فيكم}. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفرائض، باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، ح (6736).
(2)
انظر: تفسير السعدي (166).
الصلب، وبنات الابن كلهن نساء من الأولاد، فكان لهن الثلثان بفرض الكتاب، لا يزدن عليه.
واختصت بنت الصلب بالنصف؛ لأنه مفروض لها، والاسم متناول لها حقيقة، فيبقى للبقية تمام الثلثين، ولهذا قال الفقهاء: لهن السدس تكملة الثلثين)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
يسقطن بنات الابن عند استغراق البنات الثلثين
.
قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ (11)} (النساء: 11).
125 -
قال السعدي رحمه الله: (وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين، أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات الابن
(3)
لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين، وقد تم فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد من الثلثين، وهو خلاف النص) ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه متى استغرقت البنات أو بنات الابن الثلثين فإن من دونهن يسقط، ووجه هذا الاستنباط من الآية أن الله
(1)
انظر: المغني لابن قدامة (9/ 14).
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (31/ 354).
(3)
قال ابن قدامة: (وأجمع أهل العلم على أن بنات الصلب متى استكملن الثلثين، سقط بنات الابن) انظر: المغني لابن قدامة (9/ 12).
(4)
انظر: تفسير السعدي (166).
فرض لهن الثلثين فمتى تم استغراقه لم يقسم لهن أزيد من ذلك لأنه لو فرض لهن أكثر من ذلك للزم منه مخالفة النص، فدلالة الآية عليها دلالة لزوم.
قال الجصاص: (فكذلك حكم بنات الابن إذا استوفى بنات الصلب الثلثين لم يبق لهن فرض)
(1)
، وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن عطية
(2)
.
الدين مقدم على الوصية، ولكنها قُدمت عليه في الآية اهتماما بشأنها
.
قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَمِيمٌ (12)} (النساء: 12).
126 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} : وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين
(3)
للاهتمام بشأنها، لكون إخراجها شاقاً على الورثة، وإلا فالديون مقدمة عليها، وتكون من رأس المال) ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية الحكمة في تقديم الوصية على الدين
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 108).
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (31/ 355)، والمحررالوجيز (406).
(3)
أجمع العلماء سلفًا وخلفًا: أن الدَّيْن مقدم على الوصية. انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 861).
(4)
انظر: تفسير السعدي (166).
في الآية مع أن الدين مقدم عليها في الإخراج من التركة، وبين أن ذلك راجع إلى الاهتمام بشأن الوصية لأن إخراجها يكون شاقاً على الورثة حيث هي من قبيل التطوع، بينما الديون أقل مشقة إذ هي لازمة.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال أبوحيان:(وقدم الوصية على الدين، وإن كان أداء الدين هو المقدم على الوصية بإجماع، اهتماماً بها وبعثاً على إخراجها، إذ كانت مأخوذة من غير عوض شاقاً على الورثة إخراجها مظنة للتفريط فيها، بخلاف الدين، فإنّ نفس الوارث موطنة على أدائه)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: ابن عطية والرازي، والبيضاوي، وأبوالسعود، والألوسي
(2)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر وهو أن الوصية والدين كلاهما متساويان في إخراجهما من التركة قبل القسمة ولذا لا أثر لتقديم أحدهما على الآخر، قال ابن جرير الطبري:(وإنما قيل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، فقدم ذكر الوصية على ذكر الدين، لأن معنى الكلام: إن الذي فرضتُ لمن فرضتُ له منكم في هذه الآيات، إنما هو له من بعد إخراج أيِّ هذين كان في مال الميت منكم، من وصية أو دين، فلذلك كان سواءً تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين، وتقديم ذكر الدين قبل ذكر الوصية، لأنه لم يرد من معنى ذلك إخراج الشيئين: "الدين والوصية" من ماله، فيكون ذكر الدين أولى أن يُبدأ به من ذكر الوصية)
(3)
.
وذكر بعض المفسرين حكماً أخرى لتقديم الوصية على الدين لم شتاتها ابن العربي فقال: (فإن قيل: فما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين، والدين مقدم عليها؟ قلنا؛ في ذلك خمسة أوجه:
الأول: أن " أو " لا توجب ترتيباً، إنما توجب تفصيلاً، فكأنه قال:
(1)
انظر: البحر المحيط (3/ 194).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (408)، والتفسيرالكبير (9/ 167)، وأنوار التنزيل (1/ 337)، وإرشاد العقل السليم (2/ 106)، وروح المعاني (2/ 436).
(3)
انظر: جامع البيان (3/ 625).
من بعد أحدهما أو من بعدهما، ولو ذكرهما بحرف الواو لأوهم الجمع والتشريك؛ فكان ذكرهما بحرف " أو " المقتضي التفصيل أولى.
الثاني: أنه قدم الوصية؛ لأن تسببها من قبل نفسه، والدين ثابت مؤدى ذكره أم لم يذكره.
الثالث: أن وجود الوصية أكثر من وجود الدين؛ فقدم في الذكر ما يقع غالبا في الوجود.
الرابع: أنه ذكر الوصية، لأنه أمر مشكل، هل يقصد ذلك ويلزم امتثاله أم لا؟ لأن الدين كان ابتداء تاما مشهورا أنه لا بد منه، فقدم المشكل؛ لأنه أهم في البيان.
الخامس: أن الوصية كانت مشروعة ثم نسخت في بعض الصور، فلما ضعفها النسخ قويت بتقديم الذكر؛ وذكرهما معا كان يقتضي أن تتعلق الوصية بجميع المال تعلق الدين)
(1)
الأصول الذكور والفروع يُسقِطون أولاد الأم
.
127 -
قال السعدي رحمه الله: (ودل لفظ {كَلَالَةً}
(2)
على أن
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 364).
(2)
الكلالة: مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، شرعاً: من ولا ولد له ولا والد. وهو قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهكذا قال علي بن أبي طالب وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وبه يقول الشعبي والنخعي، والحسن البصري، وقتادة، وجابر بن زيد، والحكم، وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد. انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 862)، والتحرير والتنوير (4/ 264).
الفروع
(1)
وإن نزلوا، والأصولَ
(2)
الذكور وإن علوا، يُسقطون أولاد الأم، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة، فلو لم يكن يورث كلالة، لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأصول والفروع يسقطون أولاد الأم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله لم يورثهم إلا في الكلالة، ومفهوم ذلك أنهم لا يرثون في غير هذه الصورة بناء على أنهم مع وجود الأصول الذكور أو الفروع ليسوا بكلالة فيسقطون
(4)
.
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال السيوطي:(ويفهم منه أن الأصول والفروع يحجبون ولد الأم)
(5)
، وممن قال بذلك أيضاً: إلكيا الهراسي، وابن قدامة، والدوسري.
(6)
(1)
الفروع هنا المراد بهم: الأولاد، وأولاد البنين، وإن نزلوا. انظر: حاشية الرحبية عبدالرحمن قاسم (14)، والتحقيقات المرضية (37).
(2)
الأصول هنا المراد بهم: الأبوة، والجدودة، وإن علوا. انظر: حاشية الرحبية عبدالرحمن قاسم (14)، والتحقيقات المرضية (37).
(3)
انظر: تفسير السعدي (168).
(4)
انظر: حاشية زاده على البيضاوي (3/ 278).
(5)
انظر: الإكليل (2/ 519).
(6)
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 100)، والمغني (9/ 7)، وصفوة الآثار والمفاهيم (5/ 139).
الإخوة الأشقاء يسقطون في المسألة الحمارية
.
قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (النساء: 12).
128 -
قال السعدي رحمه الله: (ودل قوله: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية
(1)
وهى: زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة أشقاء، للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوة للأم الثلث، ويسقط الأشقاء
(2)
، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأم، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الإخوة الأشقاء يسقطون مع وجود الإخوة لأم في المسألة الحمارية، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أضاف الثلث للإخوة لأم مما يدل على أن غيرهم ساقط فلو أشرك
(1)
سميت بالحمارية، وتسمى باليمية؛ لأن بعض الورثة قالوا لعمر رضي الله عنه هب أن أبانا كان حجراً ملقى في اليم وفي رواية: كان حماراً، وسميت كذلك بالمشرّكة لتشريك الإخوة الأشقاء فيها مع الإخوة لأم. انظر: الرحبية شرح سبط المارديني (96)، والعذب الفائض شرح عمدة الفرائض (1/ 101).
(2)
اختلف العلماء في هذه المسألة فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى عدم التشريك وأن الثلث الباقي كله للأخوة للأم، وممن قال بذلك من الصحابة علي، وابن عباس، وابن مسعود، وأحد القولين عن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وذهب الشافعي ومالك إلى أن الإخوة الأشقاء يشتركون مع الإخوة لأم فيقسمونه بينهم بالسوية، وممن قال به من الصحابة عثمان، وزيد بن ثابت، وأحد القولين عن عمر رضي الله عنهم. انظر: المغني (9/ 24)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 863).
(3)
انظر: تفسير السعدي (168).
الإخوة الأشقاء لكان هذا فيه مخالفة ظاهرة لكتاب الله.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الشوكاني:(ودلت الآية على أن الإخوة لأم إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين، أو لأب، وذلك في المسألة المسماة بالحمارية)
(1)
، وممن قال به أيضاً: الجصاص، وصديق حسن خان.
(2)
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط أن الإخوة لأم أصحاب فروض، والإخوة الأشقاء يرثون تعصيباً، وأصحاب الفروض يقدمون على أصحاب التعصيب؛ لما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر)
(3)
، ومن شرك لم يلحق الفرائض بأهلها، وأما إذا تم التشريك تم المال فوجب سقوط الإخوة الأشقاء
(4)
.
القاتل لا يرث
.
قال تعالى: {آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)} (النساء: 11).
129 -
قال السعدي رحمه الله: (فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل، والرقيق، والمخالف في الدين، والمبعض، والخنثى،
(1)
انظر: فتح القدير (1/ 548).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 116)، وفتح البيان (2/ 129).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفرائض، باب ميراث البنات، ح (6735)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر ح (1615).
(4)
انظر: المغني (9/ 25).
والجد مع الإخوة لغير أم، والعول، والرد، وذوي الأرحام، وبقية العصبة، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن من القرآن أم لا؟
قيل: نعم، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل
(1)
والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي.
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} وقد عُلم أن القاتل قد سعى لمورثه بأعظم الضرر، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث. فعُلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه") ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن القاتل لا يرث، ووجه هذا الاستنباط من الآية أن الله سبحانه وتعالى أشار في الآية إلى النفع المتبادل بين الوارث والمورث سواء كان نفعاً دنيوباً أو
أخروياً، وأن القاتل قد سعى إلى نقيض ذلك وهو القتل الذي هو ضد النفع مما يدل على أن القاتل لا يرث لأنه سعى في نقيض النفع وهو الضرر فاستحق عقوبة الحرمان من الإرث.
وبعد طول بحث في كتب التفسير، وكتب الفرائض كذلك، لم أجد
(1)
قال ابن قدامة: (أجمع أهل العلم على قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئاً، إلا ما حكي عن سعيد بن المسيب وابن جبير، أنهما ورثاه) انظر: المغني (9/ 150)، كما حكى الإجماع أيضاً ابن المنذر. انظر: الإجماع (96).
(2)
انظر: تفسير السعدي (168).
من استنبط هذا المعنى من هذه الآية. والله أعلم.
وهذا الاستنباط يعد من دقائق الاستنباطات لأن الإرث فيه نفع للمورث وكون الوارث يقابل هذا النفع بالضرر فعقوبته بالحرمان هو اللائق بعدل الشريعة الإسلامية، فلا يليق أن يقتل القاتل ثم يرث مع ذلك، ولكنها حكمة الله سبحانه وتعالى حيث ختم الآية باسمين عظيمين دالان على تمام علمه، وتمام حكمته.
اختلاف الدين مانع من موانع الإرث
.
130 -
قال السعدي رحمه الله: (وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له
(1)
، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث، والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب، فلم يعمل الموجب لقيام المانع، يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به، فيكون قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] إذا اتفقت أديانهم، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة.
(1)
أجمع أهل العلم على أن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر، والحديث الشريف نص في المسألة، فقد روى أسامة بن زيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:(لا يرث الكافر المسلم، ولايرث المسلم الكافر). أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفرائض، باب لايرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم، وإذا اسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له، ح (6764)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفرائض، باب لايرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم، ح (1614).
قال ابن القيم في "جلاء الأفهام": (وتأمل هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة، كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] إيذاناً بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب، فلا يقع بينهما التوارث، وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين)
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي أن المخالفة في الدين مانع من موانع الإرث، ووجه هذا الاستنباط أن الله سبحانه وتعالى جعل حقوق المسلمين بينهم أولى من حقوق الأقارب الكفار فإذا مات
المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به من غيره وهو هنا المسلم دون القريب الكافر مما يدل على أن اختلاف الدين مانع من موانع الإرث.
ولم يتضح في كلام السعدي هنا الآية التي استنبط منها هذا المعنى، وإنما أخذه من عموم معنى قرب المؤمنين من بعضهم البعض فجعل هذا القرب دليلاً على أنهم الأولى في الإرث من غيرهم من أهل الملل الأخرى وإن كانوا هم الأقرب نسباً، حيث جعل اختلاف الدين مانعاً يقوى على سبب الإرث هنا وهو النسب.
وأشار السهيلي إلى وجه آخر في الآية فقال: (وإذا منع الرق من الميراث فأحرى أن يمنع الكفر لأن الرق أثر الكفر والسباء الذي أوجبه الكفر فخرج من هذا أن لا يرث الكافر المسلم).
(3)
(1)
انظر: جلاء الأفهام لابن القيم (180).
(2)
انظر: تفسير السعدي (169).
(3)
انظر: الفرائض وشرح آيات الوصية (39).
الرقيق لا يرث ولا يورث
.
قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (11)} وقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ (12)} وقوله تعالى: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (12)} (سورة النساء: 11 - 12).
131 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما (الرقيق)
(1)
فإنه لا يرث ولا يورث، أما كونه لا يورث فواضح، لأنه ليس له مال يورث عنه، بل كل ما معه فهو لسيده، وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك، فإنه لو ملك لكان لسيده، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} ونحوها لمن يتأتى منه التملك، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك، فعلم أنه لا ميراث له.
وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه، فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في المواريث، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك، وما فيه من الرق فليس بقابل لذلك، فإذا يكون المبعض، يرث ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية
(2)
) ا. هـ
(3)
(1)
الرق لغة: العبودية، شرعاً: عجز حكمي يقوم بالانسان بسبب الكفر انظر: شرح الشنشوري على الرحبية مع حاشية الباجوري (55)، والعذب الفائض (1/ 23).
(2)
هذا أحد الأقوال في هذه المسألة وهو مذهب الحنابلة وبه قال ابن مسعود وعلي، وذهب مالك وأبوحنيفة إلى أنه لايرث ولايورث ولا يحجب وهو قول زيد، وذهب أبويوسف وزفر وهو قول ابن عباس والحسن وغيرهم إلى أنه كالحر يرث ويورث ويحجب، وذهب الشافعي إلى أنه أنه لايرث ولايحجب لكنه يورث عنه جميع ما ملكه ببعضه الحر وبه قال طاوس وعمرو بن دينار وأبوثور، والقول الثاني عند الشافعية أن ما ملكه يكون بينه وبين ورثته ومالك بعضه على نسبة الحرية والرق. انظر: المغني (9/ 127)، والعذب الفائض (1/ 23 - 24)، وشرح الشنشوري وحاشيته (55).
(3)
انظر: تفسير السعدي (169).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآيات أن الرقيق لا يرث، حيث إن هذه الآيات إنما هي فيمن يملك، أما العبد فإنه لا يملك حتى يورث كما أنه بمنزلة الأجنبي عن أولاده فلا يرثونه، ولا يرثهم كذلك.
قال السهيلي - موافقاً السعدي في هذا الاستنباط-: (استنباط حكم العبد والكافر من الآية وقوله: {فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ} تضمن أن لا يرث الولد العبد الأب الحر لقوله في أولادكم بإضافة التعريف ولم يقل يوصيكم الله فيما ولدتم وعرف الأولاد بالإضافة إلى والديهم والعبد لا يعرف بالإضافة إلى والده إنما يقال فيه عبد فلان ومملوك فلان فيعرف بالإضافة إلى سيده ويقال في ولد الحر ولد فلان وابن فلان فدل ذلك على انقطاع الميراث بينهما، وتضمن هذا الفقه أيضا قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} بلام التمليك لأن لام الإضافة هاهنا إنما هي لإضافة الملك والعبد لا يملك ملكا مطلقا لأن السيد له أن ينتزع ماله منه وأكثر العلماء يقولون لا يملك بحال من الأحوال فعلى كلا الوجهين لا يصح أن يدخل العبد في عموم هذا اللفظ أعني قوله للذكر ولا في قوله ولأبويه لكل واحد منهما السدس).
(1)
يرث الخنثى المشكل بأخذه نصف ميراث الذكر ونصف ميراث الأنثى
.
132 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما (الخنثى)
(2)
فلا يخلو إما أن
(1)
انظر: الفرائض وشرح آيات الوصية (38 - 39).
(2)
الخنثى: لغة: مأخوذ من الانخناث وهو التثني والتكسر، أومن قولهم: خنث الطعام إذا اشتبه أمره فلم يخلص طعمه، وفي اصطلاح الفرضيين: هو آدمي له ذكر الرجل، وفرج المرأة، أوله ثقبة يخرج منها البول لا تشبه آلة الرجل ولا فرج المرأة. انظر: إرشاد الفارض إلى كشف الغوامض (247)، والتهذيب في الفرائض للكلوذاني (347)، والعذب الفائض (2/ 53).
يكون واضحاً ذكوريته أو أنوثيته، أو مشكلا. فإن كان واضحاً فالأمر فيه واضح.
إن كان ذكراً فله حكم الذكور، ويشمله النص الوارد فيهم، وإن كان أنثى فله حكم الإناث، ويشملها النص الوارد فيهن.
وإن كان مشكلاً فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح
(1)
، وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك، لم نعطه أكثر التقديرين
(2)
، لاحتمال ظلم من معه من الورثة، ولم نعطه الأقل
(3)
، لاحتمال ظلمنا له، فوجب التوسط بين الأمرين، وسلوكُ أعدل الطريقين، قال تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]) ا. هـ
(4)
(1)
أي أنه يأخذ نصيبه كاملاً بلا خلاف؛ لأنه لا يختلف نصيبه بذكورته وأنوثته، كأبوين وبنت وولد ابن خنثى، فللأب السدس، وللأم السدس، وللبنت النصف، وللخنثى واحد من ستة، فإن كان ذكراً أخذه بالتعصيب، وإن كان أنثى أخذه بالفرض تكملة الثلثين. انظر: العذب الفائض (2/ 55).
(2)
وهذا هو مذهب الشافعية أن الخنثى يعامل هو وغيره من الورثة الذين يرثون معه بالأضر في حقهم من تقديري ذكورته وأنوثته. انظر: إرشاد الفارض (249)، والتهذيب في الفرائض للكلوذاني (350).
(3)
وهذا هو مذهب الحنفية أن الخنثى يعامل هو وغيره من الورثة بأضر حالتيه من الأنوثة والذكورة. انظر: إرشاد الفارض (250)، والتهذيب في الفرائض للكلوذاني (350).
(4)
انظر: تفسير السعدي (169).
الدراسة:
استنبط السعدي من عموم الأمر بالعدل، والأمر بالتقوى حسب المستطاع، أن الخنثى المشكل يورث بأن يعطى نصف ميراث الذكر ونصف ميراث الأنثى؛ لأن هذا هو أقرب طريق مستطاع في العدل.
الجد يحجب الإخوة
.
133 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما (ميراث الجد) مع الإخوة الأشقاء أو لأب، وهل يرثون معه أم لا
(1)
؟ فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن الجد يحجب الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم، كما يحجبهم الأب.
وبيان ذلك: أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} الآية [البقرة: 133]. وقال يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] فسمى الله الجد وجد الأب أبا، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب، يرث ما يرثه الأب، ويحجب من يحجبه.
(1)
اختلف العلماء في توريث الجد مع الإخوة الإشقاء أو لأب على قولين: القول الأول: أن الجد يحجب الإخوة من جميع الجهات كما يحجبهم الأب، وقال بذلك جمع من الصحابة منهم: أبوبكر الصديق، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وممن قال به من أصحاب المذاهب أبوحنيفة، ورواية عن أحمد، وقال به بعض الشافعية،
القول الثاني: أن الجد لايحجب الإخوة بل يرثون معه على تفاصيل في ذلك، وممن قال به من الصحابة عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وممن قال به من أصحاب المذاهب أحمد في أصح الروايتين عنه، ومالك، والشافعي. انظر: التهذيب في الفرائض للكلوذاني (95)، وإرشاد الفارض (99)، والعذب الفائض (1/ 105)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 66).
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم، وسائر أحكام المواريث، فينبغي أيضا أن يكون حكمُه حكمَه في حجب الإخوة لغير أم.
وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع مَنْ يورِّث الإخوةَ مع الجد، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا قياس صحيح) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي أن الجد يحجب الإخوة، ووجه الاستنباط من القرآن أن الله سمى الجد أباً مما يدل على أن الجد بمنزلة الأب، والأب يحجب الإخوة.
وقد أشار إلى هذا الاستنباط بعض العلماء منهم: القرطبي، وابن قدامة، وابن القيم
(2)
.
ولكن يمكن أن يجاب عنه بأن الجد وإن كان يسمى أباً إلا أنه لا يلزم من ذلك أن يكون مشتركاً معه في جميع الأحكام
(3)
، وعليه فدلالة الآيات المذكورة على أن الجد يحجب الإخوة دلالة فيها ضعف. والله أعلم.
وأما بالنسبة لأصل المعنى المستنبط وهو حجب الجد للأخوة ففيه خلاف بين أهل العلم كما سبقت الإشارة إليه في الحاشية، ولا يكون ضعف دلالة الآية على ذلك هو إضعاف للقول بأن الجد يحجب الإخوة
(1)
انظر: تفسير السعدي (169).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 67)، والمغني (9/ 67)، وإعلام الموقعين (1/ 350).
(3)
انظر: العذب الفائض (1/ 107).
لوجود أدلة أخرى تقوي القول بأن الجد يحجب الإخوة
(1)
.
إعطاء كل واحد من الورثة نصيبه فيه دلالة على العول
.
134 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما مسائل (العول)
(2)
فإنه يستفاد حكمها من القرآن، وذلك أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء، وهم بين حالتين:
إما أن يحجب بعضهم بعضًا أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا، فالمحجوب ساقط لا يزاحِم ولا يستحق شيئا، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو، إما أن لا تستغرق الفروض التركة، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص، أو تزيد الفروض على التركة، ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين:
إما أن ننقص بعضَ الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له، ونكمل للباقين منهم فروضهم، وهذا ترجيح بغير مرجح، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر، فتعينت الحال الثانية، وهي: أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول، فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه الله في كتابه) ا. هـ
(3)
(1)
انظر: التحقيقات المرضية (138).
(2)
العول لغة: الزيادة والارتفاع. شرعاً: زيادة في سهام أصل المسألة، ونقصان من أنصباء الورثة. وهو مجمع عليه بين الصحابة رضي الله عنهم قبل إظهار ابن عباس رضي الله عنهما خلافاً في ذلك. انظر: إرشاد الفارض (93)، والعذب الفائض (1/ 160 - 164).
(3)
انظر: تفسير السعدي (169).
الدراسة:
استنبط السعدي من عموم الآيات التي بين الله فيها مقادير الفروض حكم العول ومشروعيته، ووجه ذلك أن الله قدر الفروض بينهم والنقصان لابد أن يكون لاحقاً بكل واحد منهم لأن في إلحاقه بالبعض دون الآخر تحكماً لا دليل عليه فلا يبقى إلا المحاصصة بينهم في هذا النقص ولا طريق إلى ذلك إلا بالعول، فدلالة هذه الآيات على العول دلالة التزام.
قال صاحب العذب الفائض - موافقاً السعدي على هذا الاستنباط-: (أما الكتاب فإطلاق آيات المواريث يقتضي عدم التفرقة بين حال اجتماعهم وانفرادهم وتقديم بعضهم على بعض وتخصيصه بالنقص من غير حاجب شرعي ترجيح بلا مرجح وهو محال)
(1)
، كما أشار إلى ذلك السيوطي
(2)
.
مشروعية الرد
.
135 -
قال السعدي رحمه الله: (وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم (الرد)
(3)
فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم التركةَ وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ولا بعيد، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح، وإعطاؤه غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل، ومعارضة لقوله:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:
(1)
انظر: العذب الفائض لإبراهيم بن عبدالله (1/ 163).
(2)
انظر: الإكليل (2/ 521).
(3)
الرد: هو لغة الصرف والرجع. قي اصطلاح الفرضيين ضد العول؛ لأنه زيادة في مقادير السهام ونقص من عددها. فهو إرجاع الباقي بعد أصحاب الفروض إلى ذوي الفروض النسبية بقدر فروضهم عند عدم العصبة. انظر: العذب الفائض (2/ 3)، والتهذيب في الفرائض للكلوذاني (174)، والتحقيقات المرضية (248).
75] فتعين أن يُرَدَّ على أهل الفروض بقدر فروضهم
(1)
.
ولما كان الزوجان ليسا من القرابة، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [هذا عند من لا يورِّث الزوجين بالرد، وهم جمهور القائلين بالرد
(2)
، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريباً، وعلى القول الآخر، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَدُّ عليهما
(3)
؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما، فالعلة على هذا كونه وارثاً صاحب فرض، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة، والقياس الصحيح، والله أعلم]) ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من عموم الآيات التي بين الله فيها مقادير الفروض حكم الرد ومشروعيته، ووجه هذا الاستنباط أن الزيادة إما أن تعطى لواحد دون الآخر، وإما أن تعطى لغير الورثة، وفي كلا الحالين ظلم وحيف بدون مرجح شرعي، فلا يبقى إلا حالة واحدة وهي أن يقسم ما تبقى على الورثة حسب نسبة مواريثهم السابقة، فتكون دلالة هذه الآيات على الرد دلالة التزام.
(1)
وهذا القول وهو القول بالرد قال به جماعة من الصحابة منهم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، وأحد الوجهين عند الشافعية، القول الثاني: أن الفاضل عن ذوي الفروض لبيت المال، ولا يرد لأحد فوق فرضه، وممن قال به من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد. انظر: المغني (9/ 48 - 49)، والتهذيب في الفرائض للكلوذاني (174)، والتحقيقات المرضية (249).
(2)
قال ابن قدامة: (فأما الزوجان فلا يرد عليهما باتفاق من أهل العلم). انظر: المغني (9/ 48)، والعذب الفائض (2/ 4).
(3)
كما روي ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو ظاهر اختيار السعدي. انظر: المغني (9/ 49).
(4)
انظر: تفسير السعدي (170).
كما أشار إلى علة الرد وهو كونه وارثاً صاحب فرض، ومن هنا استنبط من الآية قياساً جواز الرد على الزوجين لوجود العلة.
توريث ذوي الأرحام
.
136 -
قال السعدي رحمه الله: (وبهذا يعلم أيضاً ميراث (ذوي الأرحام)
(1)
فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصباً، وبقي الأمر دائراً بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الأجانب
(2)
، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم
(3)
، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره، فتعين توريث ذوي الأرحام.
وإذا تعين توريثهم، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله، وأن بينهم وبين الميت وسائط، صاروا بسببها من الأقارب، فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم) ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي ميراث ذوي الأرحام، ووجه هذا الاستنباط أن الله
(1)
الرحم لغة هو: القرابة. وفي عرف الفرضيين: كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة. انظر: التهذيب في الفرائض (263)، والتحقيقات المرضية (260).
(2)
وممن قال بذلك من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو مذهب المالكية، والشافعية. انظر: المغني (9/ 82)، والعذب الفائض (2/ 17).
(3)
وهو مروي عن جماعة من الصحابة منهم: عمر، وعلي، ومعاذ، وأبوالدرداء رضي الله عنهم أجمعين، وهو مذهب الحنابلة، والحنفية، والوجه الثاني عند الشافعية. انظر: المغني (9/ 82)، والعذب الفائض (2/ 17).
(4)
انظر: تفسير السعدي (170).
عز وجل بين لنا أن ذوي الأرحام أولى ببعضهم البعض على وجه العموم، وصرف المال المتبقي لغير ذوي الأرحام ترك لمن هو أولى فيتعين حينئذ صرفه لذوي الأرحام.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط عموم القائلين بتوريث ذوي الأرحام، وممن أشار إليه من المفسرين: الواحدي، والبيضاوي، وأبوالسعود
(1)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين وقالوا إن عموم هذه الآية لا ينهض دليلاً على توريث ذوي الأرحام
(2)
، قال الرازي:(أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بهذه الآية، في توريث ذوي الأرحام، وأجاب أصحابنا عنه بأن قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية، فلما قال: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه، فصارت هذه الأولوية مقيدة بالأحكام التي بينها الله في كتابه، وتلك الأحكام ليست إلا ميراث العصبات، فوجب أن يكون المراد من هذا المجمل هو ذلك فقط فلا يتعدى إلى توريث ذوي الأرحام)
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: ابن كثير، والألوسي، والشنقيطي.
(4)
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في دلالة الآية على توريث ذوي
(1)
انظر: الوجيز (1/ 451)، وأنوار التنزيل (2/ 34)، وإرشاد العقل السليم (3/ 116).
(2)
انظر: أضواء البيان (2/ 224).
(3)
انظر: التفسير الكبير (15/ 170).
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1617)، وروح المعاني (5/ 234)، وأضواء البيان (2/ 224).
الأرحام هو الصحيح الذي يدل عليه الآية عموم، ومن ادعى التخصيص فعليه الدليل
(1)
.
ميراث العصبة
.
137 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما (ميراث بقية العصبة)
(2)
كالبنوة والأخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر"
(3)
وقال تعالى: {وَلِكُلِّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء، لم يستحق العاصب شيئًا، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة، وبحسب جهاتهم ودرجاتهم.
فإن جهات العصوبة خمس: البنوة، ثم الأبوة، ثم الأخوة وبنوهم، ثم العمومة وبنوهم، ثم الولاء، فيقدم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى، وهو الشقيق، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا. والله أعلم) ا. هـ
(4)
(1)
انظر: التحقيقات المرضية (264).
(2)
العصبة: جمع عاصب، وعصبة الرجل بنوه وقرابته لأبيه، وإنما سموا عصية لأنهم عصبوا به: أي أحاطوا به وكل شئ استدار حول شئ فقد عصب به، ومنه العصائب وهي العمائم، أما في اصطلاح الفرضيين: فالعصبة: من يرث بلا تقدير، ومنهم من عرفها بأنها: من إذا انفرد أخذ جميع المال، وإذا كان معه صاحب فرض أخذ ما بقي بعد الفرض. انظر: العذب الفائض (1/ 74)، والرحبية شرح سبط المارديني (77 و 78).
(3)
تقدم تخريجه ص (342) رقم الاستنباط 128.
(4)
انظر: تفسير السعدي (170).
الدراسة:
أشار السعدي في أول إيراده هذه المسائل إلى أنه سيبين أدلة بعض المسائل الفرضية من القرآن من خلال إشارات دقيقة، وعند ذكره لهذه المسألة وهو الإرث بالتعصيب، لم يتعرض لبيانها من القرآن من خلال إشارة دقيقة كما ذكر في بداية كلامه، وغاية ما ذكر هنا هو حديث أسامة بن زيد وقد تقدم وهو أصل في المسألة كما قال النووي:(وهذا الحديث في توريث العصبات وقد أجمع المسلمون على أن ما بقى بعد الفروض فهو للعصبات يقدم الأقرب فالأقرب فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب)
(1)
، كما أشار إلى ذلك السهيلي، وابن كثير
(2)
.
الأخت مع البنت عصبة
.
138 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما كون الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات، يأخذن ما فضل عن فروضهن، فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات، فإذا كان الأمر كذلك، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن، فإنه يعطى للأخوات
(3)
ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن، كابن الأخ والعم، ومن هو أبعد منهم. والله أعلم.) ا. هـ
(4)
(1)
انظر: شرح النووي على مسلم (11/ 45).
(2)
انظر: الفرائض وشرح آيات الوصية (84 و 89)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 912).
(3)
وهو قول عامة أهل العلم، وممن قال من الصحابة: عمر، وعلي، وزيد، وغيرهم رضي الله عنهم، خالف في ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فأسقط الأخوات بالبنات. انظر: إرشاد الفارض (74)، والتهذيب في الفرائض للكلوذاني (67)، والمغني (9/ 9).
(4)
انظر: تفسير السعدي (170).
الدراسة:
استنبط السعدي أن الأخوات مع البنات عصبات يأخذن ما بقي من الفروض، ووجه هذا الاستنباط عدم وجود دليل في القرآن يدل على سقوط الأخوات؛ فجعل هذا العدم دليلاً على إرثهن بالتعصيب في هذه الحالة؛ ولأن للأخوات قوة بولادة الأب لهن مما يجعل سقوطهن غير ممكن
(1)
.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما جاء في حديث هزيل بن شرحبيل
(2)
قال سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال للابنة النصف وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبى موسى فقال لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، أقضى فيها بما قضى النبى صلى الله عليه وسلم (للابنة النصف، ولابنة ابن السدس تكملة
الثلثين، وما بقى فللأخت)، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم)
(3)
.
الوصية للوارث منسوخة
.
قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
(1)
انظر: العذب الفائض (1/ 92).
(2)
هزيل بالتصغير بن شرحبيل الأودي الكوفي الأعمى ثقة مخضرم من الثانية، ذكره أبو موسى في الذيل وقال يقال انه أدرك الجاهلية، وذكره بن سعد في الطبقة الأولى من التابعين ووثقه قلت وله رواية عن أبي ذر وابن مسعود وعثمان وعلي وطلحة وسعد بن أبي وقاص وقيس بن عسد بن عبادة وغيرهم من كبار الصحابة روى عنه الشعبي وأبو إسحاق وطلحة بن مصرف وعمرو بن مرة وآخرون ووثقه الدارقطني وقال العجلي يعد من أصحاب عبد الله بن مسعود مات بعد الجماجم. انظر: تهذيب التهذيب (11/ 30)، والكاشف (2/ 335).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفرائض، باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، ح (6736).
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} (النساء: 13).
139 -
قال السعدي رحمه الله: (أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور عنها، وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة
(1)
بتقديره تعالى أنصباء الوارثين) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الوصية للوارث منسوخة، ووجه الاستنباط أن الله سبحانه وتعالى بين أنصباء الوارثين، وذكر بعدها أن هذه حدود الله التي يجب الوقوف عندها، مما يدل على أن ما عدا ذلك فيه تعد على هذه الحدود، ومن ذلك الوصية للوارث مما يدل على أنها منسوخة.
الحبس في البيوت لمن تأتي الفاحشة من النساء ليس منسوخاً
.
(1)
نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن الوصية للوارث منسوخة. انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 124)، والناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (232)، وأحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 110)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 77).
(2)
انظر: تفسير السعدي (170)، والمواهب الربانية (13 - 14).
140 -
قال السعدي رحمه الله: ({فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}، وهذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان الأمر في أول الإسلام كذلك حتى جعل الله لهن سبيلا وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن حبس النساء اللاتي يأتين الفاحشة ليس منسوخاً، ووجه استنباطه من الآية أن الله جعل الحبس غاية إلى أن يجعل لهن سبيل، ووجود السبيل لا يعني إلغاء العقوبة الأولى، بل هي باقية في حق من لا تكفيه العقوبة الثانية.
الموافقون:
وقد وافق السعدي بعض المفسرين على هذا الاستنباط، قال الزمخشري:(ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذلك الحدّ لكونه معلوماً بالكتاب والسنة، ويوصي بإمساكهن في البيوت، بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: ابن العربي، والخطابي، والبيضاوي
(3)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين فقالوا إن الآية منسوخة بمعنى أن الحبس في البيوت كان في أول الإسلام فلما شرع الحد نسخ الحبس، قال ابن
(1)
انظر: تفسير السعدي (171).
(2)
انظر: الكشاف (226).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 374)، والتفسير الكبير (9/ 188)، وأنوار التنزيل (1/ 339).
كثير: (كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت؛ ولهذا قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} يعني: الزنا {مِنْ نِسَائِهِمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ شَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك، قال ابن عباس: كان الحكم كذلك، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد، أو الرجم، وكذا رُوي عن عكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطاء الخراساني، وأبي صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك: أنها منسوخة، وهو أمر متفق عليه)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، وابن عطية، والقرطبي، والطوفي، وأبوحيان، وابن عاشور
(2)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح من كون الآية ليست منسوخة، وإنما ذكر الحد فيها لبيان الإجمال في معنى السبيل، ومما يؤيد هذا الاستنباط أنه لا تعارض بين الحد والحبس، بينما النسخ يقع غالباً بين المتضادات، والقول ببقاء الحبس وعدم نسخه له فوائد، تؤيد عدم نسخه منها:
أولاً: أن الحبس يكون للخراجة الولاجة لأجل حمايتها من الوقوع في الفتنة.
ثانياً: أن الحبس يستخدم كعلاج نافع لمن لا يجدي معها الجلد كحد، لأن عقوبة الجلد مؤقتة، بينما عقوبة الحبس مستمرة.
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 865).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 132)، والمحرر الوجيز (411)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 82)، والإشارات الإلهية (2/ 9)، والبحر المحيط (3/ 204)، والتحرير والتنوير (4/ 269).
ثالثاً: أن الحبس نافع في البلاد التي لا تقام فيها الحدود، فيستطيع الولي أن يستخدم ما بوسعه وهو هنا الحبس.
مشروعية الأذية تعزيراً لجنس المعصية ليحصل به الزجر
.
141 -
قال السعدي رحمه الله: (ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين أن الأذية بالقول والفعل والحبس مشروعة تعزيراً لأجل الردع والزجر عن المعصية، ووجه هذا الاستنباط القياس على ما ورد في هذه الآيات من أذية أصحاب الزنا.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال السيوطي:(وفيها أن التعزير يكون بالحبس، وسائر أنواع الأذى من الضرب، والتعيير، والتوبيخ والإهانة)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك أيضاً من
(1)
انظر: تفسير السعدي (171).
(2)
انظر: الإكليل (5/ 167).
المفسرين: شيخ الإسلام ابن تيمية، والدوسري
(1)
.
جواز وراثة النساء في حال الطوع
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ (19)} (النساء: 19).
142 -
قال السعدي رحمه الله: ({كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته، رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد، وحماها عن غيره، أحبت أو كرهت.
فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها، وإن لم يرضها عضلها فلا يزوجها إلا من يختاره هو، وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها، وكان الرجل أيضا يعضل زوجته التي [يكون] يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها، فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين: إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الأول، كما هو مفهوم قوله:{كَرْهًا} وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها، عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز إرث النساء في حال رضاهن
(1)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (15/ 301)، وصفوة الآثار والمفاهيم (2/ 523).
(2)
انظر: تفسير السعدي (172).
واختيارهن، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله حرم ذلك في حالة الإكراه، فدل مفهوم المخالفة-مفهوم الصفة- أنه في حالة الرضا جائز.
وقد خالف بعض المفسرين في ذلك، فقالوا إن الآية لا مفهوم لها لأن القيد خرج مخرج الغالب، قال أبوحيان:(والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة، لا جوازها في حال الطوع استدلالاً بالآية، فخرج هذا الكره مخرج الغالب، لأن غالب أحوالهن أن يكنّ مجبورات على ذلك إذ كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: الدوسري، ومحمد رشيد رضا
(2)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه أبو حيان ومن وافقه هو الصحيح، إذ المرأة لا تورث مطلقاً من جملة الأموال ويستوي في ذلك حال الطوع والكراهية، لأن اللفظ خرج مخرج الغالب وقد تقرر في أصول الفقه أن ما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، ولأنه على فرض رضاها لا يجوز للمؤمنين أن يرثوها بعد زوجها؛ لأن هذه سنة جاهلية أبطلها الإسلام، وما أبطله الإسلام فلا يحل ولو تراضى عليه الطرفان، فلا بد للمرأة من الرجوع إلى أوليائها الشرعيين، ولا تدخل في عصمة زوج جديد إلا بعد انقضاء العدة، ورضا وليها
(3)
.
وهذا الاستنباط فيه بيان احترام حقوق المرأة في الإسلام، وتكريمه لها، فبعد أن كانت ذاتاً تورث، أصبحت وارثة لها نصيب في المال، وأصبحت حرة بعد أن كانت سليبة القرار مقهورة، مغلوب على أمرها.
(1)
انظر: البحر المحيط (3/ 211).
(2)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (5/ 182)، وتفسير المنار (4/ 389).
(3)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (5/ 182).
المهر الكثير ليس محرماً
.
قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)} (النساء: 20).
143 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دلالة على عدم تحريم كثرة المهر، مع أن الأفضل واللائق الاقتداءُ بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر، ووجه الدلالة أن الله أخبر عن أمر يقع منهم، ولم ينكره عليهم، فدل على عدم تحريمه، لكن قد ينهي عن كثرة الصداق؛ إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة تقاوم) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المهر الكثير ليس محرماً، ووجه الاستنباط من الآية أن الله أخبر عن وقوع الإصداق بالقنطار وهو المال الكثير ولم ينكره عليهم، مما يدل على أنه ليس محرماً.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن كثير:(وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل)
(2)
، وقال الخازن:(وفي الآية دليل على جواز المغالاة في المهور)
(3)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: ابن عطية، وابن العربي، والقرطبي، والسيوطي،
(1)
انظر: تفسير السعدي (173)، وفتح الرحيم للسعدي (151).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 873).
(3)
انظر: لباب التأويل (1/ 357).
وابن عاشور
(1)
.
المخالفون:
خالف السعدي في هذا الاستنباط بعض المفسرين، وقالوا إن التمثيل هنا على جهة المبالغة في الكثرة، وقال بعضهم إنه لا يلزم من جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع، قال الرازي:(وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لا يدل على حصول الآلهة، والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع)
(2)
، وقال أبوحيان:(وقال قوم: لا تدل على المغالاة، لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة كأنه: قيل وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد)
(3)
، وممن قال به ابن جزي الكلبي
(4)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه معنى صحيح في ذاته، ودلالة الآية عليه صحيحة، ومما يؤيده أن كل حكاية وقعت في القرآن، فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها وهو الأكثر رد لها، أولا، فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها رد؛ فذلك دليل صحة المحكي وصدقه، فلا يمكن أن يحكى في القرآن ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه
(5)
قال ابن عاشور: (وهذه المبالغة تدلّ على أنّ إيتاء القنطار مباح
(1)
انظر: المحرر الوجيز (417)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 385)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 95)، والإكليل (2/ 530)، والتحرير والتنوير (4/ 288).
(2)
انظر: التفسير الكبير (10/ 12).
(3)
انظر: البحر المحيط (3/ 214)، وانظر كذلك أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 114).
(4)
انظر: التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 181).
(5)
انظر: الموافقات (4/ 158 - 160).
شرعاً لأنّ الله لا يمثّل بما لا يَرضى شرعه)
(1)
، ولو كان في ذلك حرمة لجاء التنبيه عليه. والله أعلم.
الربيبة تحرم على زوج الأم ولو لم تكن في حجره
.
قال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ (23)} (النساء: 23).
144 -
قال السعدي رحمه الله: (وقد قال الجمهور: إن قوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} قيد خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، فإن الربيبة
(2)
تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان:
إحداهما: فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها.
والثانية: فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن. والله أعلم) ا. هـ
(3)
الدراسة:
وافق السعدي في هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أن القيد الذي ذكره الله في هذه الآية وهو كون الربيبة في الحجر لا مفهوم له؛ والمانع من اعتبار هذا المفهوم كونه خرج مخرج الغالب، وما خرج
(1)
انظر: التحرير والتنوير (4/ 288).
(2)
الربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره، قيل لها"ربيبة" لتربيته إياها. انظر: جامع البيان (3/ 463)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/ 34).
(3)
انظر: تفسير السعدي (174).
مخرج الغالب فلا مفهوم له، قال ابن كثير:(وأما قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فجمهور الأئمة على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الجصاص، والطوفي، وأبوالمظفرالسمعاني، والقرطبي، وابن جزي، وجلال الدين المحلي، والهرري
(2)
.
المخالفون:
خالف الظاهرية في ذلك وجعلوا القيد شرطاً فالتحريم عندهم مشروط بكون الربيبة في الحجر فإن لم تكن في الحجر لم تحرم، وهذا القول مروي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه
(3)
، وحجتهم في ذلك أن التحريم مشروط بكونها في حجره فإن لم تكن في حجره فقد فات الشرط وحينئذ لا تثبت الحرمة، قال الرازي مستحسناً هذا الاستدلال:(ونقل أنه رضوان الله عليه -أي علي- احتج على ذلك بأنه تعالى قال: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} شرط في كونها ربيبة له، كونها في حجره، فإذا لم تكن في تربيته ولا في حجره فقد فات الشرط، فوجب أن لا تثبت الحرمة، وهذا استدلال حسن)
(4)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من أن القيد المذكور في الربيبة لا
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 880).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 162)، والإشارات الإلهية (2/ 12)، وتفسير القرآن لأبي المظفر السمعاني (1/ 413)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 108)، والتسهيل لعلوم التزيل (1/ 183)، وتفسير الجلالين (90)،، وتفسير حدائق الروح والريحان (5/ 507).
(3)
انظر: المحررالوجيز (419)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 880)، وروح المعاني (2/ 466)، والتحرير والتنوير (4/ 299).
(4)
انظر: التفسير الكبير (10/ 28).
مفهوم له وإنما خرج مخرج الغالب هو الصحيح؛ فلوكان التقييد بالحجر معتبراً وله تأثير في التحريم لصرح به كما صرح بالدخول ولقال: "فإن لم تكونوا دخلتم بهن ولسن في حجوركم فلا جناح عليكم "فلما لم يذكر التقييد بالحجر، دل على عدم اعتباره، وقد تقرر كذلك في أصول الفقه أن ما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له
(1)
.
وأما ما جاء عن علي رضي الله عنه فلا يثبت، قال الشوكاني:(قال ابن المنذر والطحاوي: لم يثبت ذلك عن عليّ؛ لأن راويه إبراهيم بن عبيد، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عليّ، وإبراهيم هذا لا يعرف)
(2)
، وقال ابن العربي:(فإن قيل: فقد روى مالك بن أوس عن علي: أنها لا تحرم حتى تكون في حجره، قلنا: هذا باطل)
(3)
.
ثم ذكر السعدي بعد ذلك وجهاً آخر لفائدة التقييد بهذا القيد، وهو أن الربيبة بمنزلة البنت في تحريم الزواج بها، وفي جواز الخلوة بها، وقد أشار إلى ذلك بعض المفسرين، قال أبوالسعود:(وفائدةُ وصفِهن بذلك تقويةُ عِلةِ الحُرمةِ وتكميلُها كما أنها هي النُّكتةُ في إيرادهن باسم الربائبِ دون بناتِ النساءِ فإن كونَهن بصدد احتضانِهم لهن وفي شرف التقلّبِ في حجورهم وتحت حمايتِهم وتربيتِهم مما يقوِّي الملابسةَ والشبَهَ بينهن وبين أولادِهم ويستدعي إجراءَهن مُجرى بناتِهم)
(4)
، وممن أشار إلى ذلك كذلك: الزمخشري، والبيضاوي، ومحمد رشيد رضا
(5)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر لفائدة هذا القيد وهو تخصيص أعلى
(1)
انظر: المذكرة في أصول الفقه (240)، وأثر القواعد الأصولية اللغوية في استنباط الأحكام من القرآن (328)، وتفسير آيات الأحكام في سورة النساء للاحم (1/ 410)، وتفسير المنار (4/ 412).
(2)
انظر: فتح القدير (1/ 561).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 398).
(4)
انظر: إرشاد العقل السليم (2/ 118).
(5)
انظر: الكشاف (230)، وأنوار التنزيل (1/ 344)، وتفسير المنار (4/ 411).
صور المنهي عنه بالنهي
(1)
.
وقيل كذلك أن في ذكر هذا القيد فائدة شريفة، وهي جواز جعلها في حجره، وأنه لا يجب عليه إبعادها عنه، وتجنب مؤاكلتها، والسفر، والخلوة بها، فأفاد هذا الوصف عدم الامتناع من ذلك
(2)
.
الحدود كفارات
.
145 -
قال السعدي رحمه الله: (وختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين "الغفور والرحيم" لكون هذه الأحكام رحمةً بالعباد وكرمًا وإحسانًا إليهم فلم يضيق عليهم، بل وسع غاية السعة.
ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات
(3)
،
(1)
انظر: محاسن التأويل (3/ 71).
(2)
انظر: زاد المعاد (5/ 111).
(3)
وقد اختلف العلماء: هل إقامة الحد بمجرده كفارة للذنب من غير توبة أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده كفارة، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، وعن مجاهد، وزيد بن أسلم، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد، واختيار ابن جرير وغيره من المفسرين.
والثاني: أنه ليس بكفارة بمجرده، فلابد من توبة، وهو مروي عن صفوان بن سليم وغيره، ورجحه ابن حزم وطائفة من متأخري المفسرين كالبغوي. انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب (1/ 73).
يغفر الله بها ذنوب عباده كما ورد بذلك الحديث
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي مناسبة ختم الآية بهذين الاسمين العظيمين لله سبحانه وتعالى وهما"الغفور والرحيم" وهي كون هذه الأحكام فيها توسعة ورحمة على العباد فناسب ختم الآية بهما
قال الرازي: (ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} وهذا كالمؤكد لما ذكره من أن الأولى ترك هذا النكاح، يعني أنه وإن حصل ما يقتضي المنع من هذا الكلام إلا أنه تعالى أباحه لكم لاحتياجكم إليه، فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة)
(3)
، وقال بنحو ذلك: أبوحيان، والبقاعي، والخازن، وابن عاشور
(4)
.
ثم ذكر السعدي استنباطاً آخر وهو أن ذكر المغفرة بعد ذكر الحد فيه إشارة إلى أن الحدود كفارات، ووجه ذلك كونه ذكر الرحمة والمغفرة بعد الحدود ففهم من الإشارة أنها كفارة للذنوب.
(1)
أراد بذلك حديث: عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فى مجلس فقال: (بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ هذه الآية كلها " فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به، فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئاً، فستره الله عليه، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه). أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب الحدود كفارة، ح (6784)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، ح (1709).
(2)
انظر: تفسير السعدي (175).
(3)
انظر: التفسير الكبير (10/ 53).
(4)
انظر: البحر المحيط (3/ 234)، ولباب التأويل (1/ 365)، ونظم الدرر (2/ 237)، والتحرير والتنوير (5/ 18).
وهذا الاستنباط من حيث أخذه من الآية فيه بعد لا يخفى على المتأمل فليس هناك إشارة واضحة تربط بين المعنيين.
وأما بالنسبة لمعنى الاستنباط في ذاته فهو معنى صحيح يدل عليه حديث عبادة بن الصامت التي سبقت الإشارة إليه، قال النووي-على شرحه لهذا الحديث-:(قال القاضي عياض: قال أكثر العلماء: الحدود كفارة استدلالاً بهذا الحديث)
(1)
.
ينبغي لمن عاد إلى الحق أن لا يُذكّر بالأمور السالفة
.
146 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية ونحوها فائدة نافعة، وهي أنه ينبغي لمن عاد إلى الحق أن لا يُذكّر الأمور السالفة، فإن ذلك أحرى للثبات على المطلوب، فإن تذكير الأمور الماضية ربما أثار الشر، فانتكس المرض، وعادت الحال إلى أشد من الأولى) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة تربوية سلوكية، وهي عدم تذكير العائد إلى الحق ما سلف منه في الباطل؛ لأن ذلك قد يكون سبباً في
(1)
انظر: شرح النووي على مسلم (11/ 186).
(2)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (139).
نكوصه عن الحق ورجوعه إلى الباطل الذي كان عليه، ولم يذكر السعدي وجه استنباط ذلك من الآية، وربما أن يكون ذلك من عدم التفتيش عن توبة المرأة هنا والاكتفاء بالظاهر، وأن التفتيش ربما دعاها أن تعود إلى ما كانت عليه سلفاً، ومن هنا استنبط قاعدة عامة لمن كانت حاله شبيهة بحالها.
واستنباط هذه القاعدة من هذه الآية فيه تكلف ظاهر بل ربط المعنى فيه بعد فليس هناك ما يؤيد حصول هذا المعنى حتى يقاس عليه ويستنبط منه قاعدة، وغاية ما تدل عليه الآية هو عدم التعرض للتائبة بالأذى، والتعامل معها كمن لا ذنب له.
وأما بالنسبة لمعنى القاعدة فهو معنى صحيح يؤيده واقع الحياة فإن كثير اً من الذين يرجعون إلى ما كانوا عليه من الفسق يكون بسبب تذكيرهم ما هم عليه سلفاً مما يجعل فيهم جرأة على المعصية، ويسهل عليهم سقوط حاجز الحياء الذي ربما كان مانعاً، كما أن التذكير فيه تشويق لمعاودة لذة المعصية. والله أعلم.
منع دخول المصلي في الصلاة أثناء النعاس المفرط
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى شَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ (43)} (النساء: 43).
147 -
قال السعدي رحمه الله: (ويؤخذ من المعنى منع الدخول في الصلاة في حال النعاس المفرط، الذي لا يشعر صاحبه بما يقول ويفعل) ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسير السعدي (179).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية منع دخول المصلي في الصلاة في حال النعاس المفرط، ووجه الاستنباط أن الله نهى عن دخول المصلي في الصلاة وهو سكران، وهناك إيماء إلى علة النهي وهي عدم إدراك ما يقول
(1)
، ومن هنا قاس عليه حالة النعاس المفرط التي يكون فيها المصلي في حالة لا يدري ما يقوله.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال السيوطي-عند هذه الآية-:(ففيه كراهة الصلاة حال النعاس)
(2)
، وممن قال بنحو ذلك: ابن العربي، ومحمد رشيد رضا
(3)
.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه)
(4)
، كما أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
يجب حفظ الأمانات وعدم إضاعتها والتفريط والتعدي فيها
.
قال تعالى: {* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلُهَا وَإِذَا
(1)
انظر: التحرير والتنوير (5/ 61).
(2)
انظر: الإكليل (2/ 560).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 455)، وتفسير المنار (5/ 100)، وانظر كذلك: تفسير آيات الأحكام في سورة النساء للاحم (2/ 663).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، ومن لم ير النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءا، ح (212)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب أمر من نعس في صلاته، أواستعجم عليه القرآن أوالذكر بأن يرقد أويقعد، حتى يذهب عنه ذلك، ح (786).
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} (النساء: 58).
148 -
قال السعدي رحمه الله: (فإذا فهمت أن الله أمر بأداء الأمانات إلى أهلها: استدللت بذلك على وجوب حفظ الأمانات، وعدم إضاعتها والتفريط والتعدي فيها، وأنه لا يتم الأداء لأهلها إلا بذلك) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية وجوب حفظ الأمانات وعدم إضاعتها والتفريط والتعدي فيها، ووجه الاستنباط أن الله أمر بأدائها وهذا يلزم منه حفظها وعدم إضاعتها، والتفريط والتعدي فيها، فالاستنباط هنا بدلالة الالتزام.
وهذا الاستنباط فيه التنبيه على أمر مهم في الأمانة وهو حفظها وعدم إضاعتها أوالتفريط والتعدي فيها؛ لأن هذا هو الذي يقع فيه اختلال في الغالب، بينما لو كانت الأمانة موجودة فإن تأديتها تكون ممكنة.
الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله
.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} (النساء: 64).
149 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذا إثبات عصمة الرسل
(1)
انظر: القواعد الحسان للسعدي (20).
فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقاً، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقاً) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الرسل معصومون فيما يبلغون عن الله، ووجه الاستنباط من الآية أن الله عز وجل أمر بطاعتهم مطلقاً مما يدل على أنهم معصومون وإلا لم يأمر بطاعتهم مطلقاً، فلزم من ذلك عصمتهم.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الرازي:(الآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن المعاصي والذنوب لأنها دلت على وجوب طاعتهم مطلقاً، فلو أتوا بمعصية لوجب علينا الاقتداء بهم في تلك المعصية فتصير تلك المعصية واجبة علينا، وكونها معصية يوجب كونها محرمة علينا، فيلزم توارد الإيجاب والتحريم على الشيء الواحد وإنه محال)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً: الهرري
(3)
.
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط محمد رشيد رضا قائلاً: (وفي هذا الاستدلال نظر؛ فإن الآية تدل على وجوب طاعتهم فيما يأمرون أو يحكمون به الممتنع أن يحكموا أو يأمروا بخلاف ما أنزله الله تعالى عليهم.
(1)
انظر: تفسير السعدي (184).
(2)
انظر: التفسير الكبير (10/ 129).
(3)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان (6/ 178).
وأما أفعالهم التي لم يأمروا ولم يحكموا بها فلا تدل الآية على وجوب اتباعهم فيها وإن كانت من أكبر الطاعات في نفسها. . . ولم يقولوا بعصمة الأنبياء من الخطأ في الاجتهاد وإنما قالوا إن الله لا يقرهم على الخطأ فيه بل يبين لهم الحق فيه. . . ولكن الخطأ في الاجتهاد ليس من المعصية في شيء فهو لا ينافي العصمة)
(1)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه محمد رشيد رضا هو الذي تدل عليه الآية، فإن الأمر بطاعتهم مطلقاً لا يلزم منه عصمتهم في كل شيء بل ربما يقع منهم ما هو خلاف ذلك ثم يأتي التنبيه عليه، بل ربما يقع العتاب عليه من الله سبحانه وتعالى. والله أعلم.
الحث على فهم النصوص، وعلى الأسباب المعينة على ذلك
.
150 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله، والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك، من الإقبال على كلامهما وتدبره، وسلوك الطرق الموصلة إليه، فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره، لا يخرج منها شيء عن ذلك) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: تفسير المنار (5/ 203).
(2)
انظر: تفسير السعدي (189).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مدح من يفهم عن الله ورسوله، ووجه الاستنباط من الآية أن الله ذم من لا يفهمون عن الله ورسوله فدل بمفهوم المخالفة على مدح الذين يفهمون.
قال الهرري: (وفي الآية إيماء إلى أن حصيف الرأي يجب أن يطلب فقه القول دون الأخذ بالجمل والظواهر، إذ من قنع بذلك بقي في عماية، ويظل طول دهره غراً جاهلاً بما يحيط به من نظم هذا العالم)
(1)
.
وهذا الاستنباط فيه فائدة عظيمة وهي الحث على وسائل الفهم، وتدبر النصوص لأخذ الفوائد واستنباط مالا يمكن فهمه من النص مباشرة.
تولية صاحب الأهلية في الأمور المتعلقه بتخصصه
.
قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (83)} (النساء: 83).
151 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
(2)
أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم،
(1)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان (6/ 212).
(2)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر من هذه الآية وهو دلالة الآية على أن القياس حجة في الشرع. انظر: التفسير الكبير (10/ 159)، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 270).
فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة سلوكية أدبية، وهي تقديم صاحب الأهلية عند إرادة بحث أمر ما وهو متخصص فيه، ووجه هذا الاستنباط من الآية أن الله بين لهم أنهم لوردوه إلى أهل العلم بالاستنباط لعلموه لوجود الأهلية لديهم، فأخذ قياساً على المعنى العام قاعدة عامة في ذلك وأن الأمر ينبغي أن يرجع فيه إلى أهل التخصص فإن ذلك سيكون أقرب في إصابة الحق والبعد من الوقوع في الخطأ.
وقد أشار بعض المفسرين إلى نحو ما قاله السعدي، ومنهم: محمد رشيد رضا، والدوسري، والهرري
(2)
.
وهذا الاستنباط فيه لفتة مهمة إلى أهمية التخصص، وإيكال القضايا إلى أصحاب التخصصات لأنهم أعرف بدقائق تخصصاتهم، وأقرب لإصابة الحق، ومثل هذا الأمر قد يكون قناعة في الأذهان، وقد تفرضه ضرورة الاحتياج، ولكن كونه يؤصل من القرآن الكريم يكون أكثر تأثيراً وإقناعاً كما استنبطه السعدي هنا.
الحث على ابتداء السلام، والنهي عن عدم رد السلام بالكلية، أو الرد بالدون
.
قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)} (النساء: 86).
(1)
انظر: تفسير السعدي (190).
(2)
انظر: تفسير المنار (5/ 258)، وصفوة الآثار والمفاهيم (6/ 105)، وتفسير حدائق الروح والريحان (6/ 238).
152 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)}، ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها.
ويؤخذ من الآية الكريمة الحث على ابتداء السلام
(1)
والتحية من وجهين:
أحدهما: أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا.
الثاني: ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو "أحسن" الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن، كما هو الأصل في ذلك) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية النهي عن عدم رد التحية بالكلية، أورد التحية بدونها، ووجه هذا الاستنباط من الآية أن الله أمر برد التحية، أوردها بأفضل منها، ومفهومه أن الرد بأقل أو عدم الرد منهي عنه، وهذا مأخوذ من مفهوم المخالفة في الآية.
وذكر بعض المفسرين أنه يمكن الرد بأقل وتُحمل الآية على الأكمل
(3)
، ولكن ما ذهب إليه السعدي هو الصحيح الذي يدل عليه مفهوم المخالفة في الآية، وأما كونه يحمل على الأكمل مع جواز الرد بأقل فهذا يحتاج إلى دليل، كما أنه ينافي مقصود السلام من التآلف والمحبة فالرد بأقل يترك أثراً سيئاً في نفس المبتدئ بالسلام.
(1)
قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، وردّه فريضة. انظر: المحرر الوجيز (462)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 284)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 978).
(2)
انظر: تفسير السعدي (191).
(3)
انظر: فتح البيان (2/ 122)، وحاشية الجمل على تفسير الجلالين (2/ 93).
ثم أشار السعدي إلى استنباط آخر من الآية وهو الحث على ابتداء السلام، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أمر بالرد مما يدل على مشروعية الابتداء والحث عليه، وكذلك أفعل التفضيل الدال على المشاركة بين من يبتدئ السلام وبين من يرده فالحث على الرد بأفضل يكون معه الحث كذلك على الابتداء.
خالف بعض المفسرين في ذلك وقالوا ليس في الآية ما يدل على حكم الابتداء، قال ابن عاشور: (ولا دلالة في الآية على حكم الابتداء بالسلام، فذلك ثابت بالسنّة
(1)
للترغيب فيه)
(2)
، كما أشار إليه أبوحيان
(3)
.
وما ذهب إليه السعدي له وجه صحيح يمكن استنباطه من الآية كما ذكر ذلك، فيكون إضافة لما في السنة من الترغيب في ذلك، وهو وجه دقيق لا يخفى على المتأمل، ولا يوجد فيه ما يمكن أن يرد به، فتكون الإضافة هنا إضافة استدلال، أما المعنى المستنبط فالسنة واضحة في الحث على السلام كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المشار إليه آنفاً. والله أعلم.
عدم اتخاذ المنافقين أولياء يستلزم عدم محبتهم، وبغضهم
.
قال تعالى: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ (89)} (النساء: 89).
(1)
أراد بذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لايدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها، ح (54).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (5/ 147).
(3)
انظر: البحر المحيط (3/ 323).
153 -
قال السعدي رحمه الله: ({فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة، ويستلزم أيضاً بغضهم وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية عدم جواز محبة الكفار، والمنافقين، بل يجب بغضهم وعداوتهم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله نهى عن اتخاذهم أولياء وهذا يستلزم عدم محبتهم، ونهى عن موالاتهم والنهي عن الشيء أمر بضده، فيؤخذ من النهي عن موالاتهم الأمر ببغضهم وعداوتهم.
والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين، لأن ذلك هو الأمر الذي به يتقرب إلى الله تعالى، ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه
(2)
.
وجوب قتال الكفار في أي وقت
.
قال تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (89)} (النساء: 89).
154 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في
(1)
انظر: تفسير السعدي (192).
(2)
انظر: التفسير الكبير (10/ 176).
الأشهر الحرم
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دلالتها على نسخ القتال في الأشهر الحرم، ووجه استنباط ذلك من الآية العموم، فعموم الآية دال على القتال في أي وقت حتى في الأشهر الحرم.
قال أبو عبيد: (والناس اليوم بالثغور جميعاً على هذا القول يرون الغزو مباحاً في الشهور كلها حلالها وحرامها، لا فرق بين ذلك عندهم، ثم لم أر أحداً من علماء الشام ولا العراق ينكره عليهم، وكذلك أحسب قول أهل الحجاز، والحجة في إباحته عند علماء الثغور قول الله تبارك وتعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] قال أبو عبيد: (فهذه الآية هي الناسخة عندهم لتحريم القتال في الشهر الحرام، فهذا ناسخ القتال ومنسوخه)
(3)
.
قال ابن جرير الطبري: (والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة: من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرم منسوخ)
(4)
.
دية قتل الخطأ للردع عن القتل، وكونها على العاقلة لعدم ذنبه هو فناسب معاونته، والدية لأهل المصاب جبراً لهم
.
قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} (النساء: 92).
(1)
انظر: جامع البيان (2/ 365)، والدر المنثور (1/ 566)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 43)، والنسخ في القرآن د. مصطفى زيد (2/ 179 - 184).
(2)
انظر: تفسير السعدي (192).
(3)
انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد (208).
(4)
انظر: جامع البيان (2/ 366).
155 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك.
ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ، بإجماع العلماء، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد، ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم، ويخف عنهم بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين.
ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دلالة ختمها باسم الله الحكيم، وأن لهذا الاسم في هذه الأحكام دلائل، منها أن قاتل الخطأ عليه دية مع عدم تعمده القتل ولكن لأجل ردعه عن القتل وبياناً لعظم هذا الفعل ولو كان خطأ، وكذلك كون دية قاتل الخطأ على عاقلته لأنه لم يقصد القتل فكانت معاونته واجبة من أقاربه، وكذلك جبر أولياء القتيل بالدية، كل ذلك شرع لهذه الحكم فناسب ختم هذه الأحكام بهذا الاسم.
قال الألوسي: ({حَكِيمًا} في كل ما شرع وقضى من الأحكام التي من جملتها ما شرع وقضى في شأنه)
(2)
.
وقال أبو حيان: ({وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بمن
(1)
انظر: تفسير السعدي (193).
(2)
انظر: روح المعاني (3/ 110).
قتل خطأ، حكيماً حيث رتب ما رتب على هذه الجناية على ما اقتضته حكمته تعالى).
(1)
النظر إلى المغانم الأخروية عند الله تعالى من أسباب علاج هوى النفوس
.
156 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك ترغيباً للنفس في امتثال أمر الله، وإن شق ذلك عليها) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة تربوية سلوكية، وهي أن الإنسان إذا رأى من نفسه ميلاً إلى حالة مضرة له، فإن عليه أن يذكر نفسه بما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها، فإن في ذلك تشويقاً للنفس بترك الهوى وابتغاء ما عند الله، ووجه هذا الاستنباط من الآية أن قوله تعالى:{فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تعليلٌ للنهي عن ابتغاء مالِه بما فيه من الوعد الضِّمني كأنه قيل: لا تبتغوا مالَه فعند الله مغانمُ كثيرةٌ يُغنِمُكموها فيغنيكم عن
(1)
انظر: البحر المحيط (3/ 383).
(2)
انظر: تفسير السعدي (194).
ارتكاب ما ارتكبتموه
(1)
، فأخذ من ذلك قاعدة عامة وهي أن العلاج النافع في كبح هوى النفس هو تذكيرها بما عند الله من المغانم الكثيرة التي تسقط أمامها جميع أطماع النفوس.
وهذه فائدة عظيمة قل من المفسرين من نبه عليها في هذا الموطن، وهي علاج نافع لهوى النفس الذي قد يورد صاحبه المهالك.
وجوب الهجرة
.
قال تعالى: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا (97)} (النساء: 97).
157 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات
(2)
وتركها من المحرمات، بل من
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم (2/ 181).
(2)
وقد كتب ابن عاشور في حكم الهجرة كتابة لم أر من المفسرين من كتب مثلها، ولأنها تلامس واقعنا المعاصر مع النظر في أحكام الهجرة من كتب الأوائل رأيت إدراجها هنا لتكتمل الفائدة، فقال-رحمه الله: (وهذه أحكام يجمعها ستّة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يُفتن فيه في إيمانه فيُرغَم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمَه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصرّ، فخرجوا على وجوههم في كلّ واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانِهم، وهلك فريق منهم في الطريق.
الحالة الثانية: أن يكون ببلدِ الكفر غيرَ مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضرّ وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمَّى الإقامةِ ببلد الحرب المفسّرة بأرض العدوّ.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلاّ أنّهم لم يفتِنوا الناسَ في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنّه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أنّ المقام في مثل ذلك مكسروه كراهة شديدة من أجل أنّه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر المدوّنة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعتبية، كذلك تأوّل قولَ مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحقّ، وتأوّله سحنون وابن حبيب على الحرمة وكذلك عبد الحميد الصائغ والمازري، وزاد سحنون فقال: إنّ مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحجّ وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويّاً على النصارى جاز السفر، وإلاّ لم يجز، لأنّهم يهينون المسلمين الحالة الرابعة: أن يتغلّب الكفّار على بلدٍ أهلُه مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنّهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإنّ أهلها أقاموا بها مدّة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يَعِب المهاجر على القاطن، ولا القاطنُ على المهاجر.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرّفهم في قومهم، وولاية حُكَّامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكنّ تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمّى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدّة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدّة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرانسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيّام الانتدَاب وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلِط عملاً صالحاً وآخرَ سَيّئاً ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلاّ بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلاً وهذه رُوي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أنّ ذلك قد حدث في القيروان أيّام بني عبيد فلم يُحفظ أنّ أحداً من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدّة الفاطميين أيضاً فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين. ودون هذه الأحوال الستّة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنّها مراتب، وإنّ لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية) انظر: التحرير والتتوير (5/ 187 - 180)، وانظر في المسألة: نيل الأوطار للشوكاني (8/ 176 - 179).
الكبائر) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية وجوب الهجرة، ووجه استنباط ذلك من الآية هو أن الله توعد الذين لم يهاجروا بالنار، وعاتبهم على ترك الهجرة، واستثنى من ذلك الضعفاء وغير القادرين على الهجرة، وهذا كله لا يكون إلا على ترك واجب.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الشوكاني:(وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك، أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهاراً، إذا كان قادراً على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين، لما في هذه الآية الكريمة من العموم، وإن كان السبب خاصاً، كما تقدّم، وظاهرها عدم الفرق بين مكان، ومكان وزمان وزمان)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، وأبو السعود، والسيوطي، والألوسي، ومحمد رشيد رضا، والدوسري
(3)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في ذلك، وقالوا إن حكم الهجرة كان واجباً
(1)
انظر: تفسير السعدي (196).
(2)
انظر: فتح القدير (1/ 639).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 313)، وإرشاد العقل السليم (2/ 187)، والإكليل (2/ 584)، وروح المعاني (3/ 122)، وتفسير المنار (5/ 306)، وصفوة الآثار والمفاهيم (6/ 147).
في أول الإسلام ثم نُسخ، وممن قال بذلك من المفسرين: إلكيا الهراسي، حيث قال:(وكل ذلك حال كانت الهجرة فرضاً. . .، ثم نُسخ فرض الهجرة)
(1)
، وممن قال به أيضاً: ابن عاشور
(2)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح في وجوب الهجرة في حق من وجبت عليه وهو قادر، وأما القول بالنسخ فلا يصح؛ لإجماع العلماء على وجوب الهجرة في حق القادر
(3)
.
ومما يؤيد ذلك أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وكان سبب هجرة من نزلت في حقهم الآية استضعاف وتسلط المشركين عليهم، فمتى وجدت هذه العلة وجد الحكم.
كما أن القول بالهجرة فيه فتح للمسلمين وتقوية لهم وإعزاز فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت هجرته سبباً في تمكنه وإقامة دولة الإسلام الأولى.
وكل هذا يضعف القول بالنسخ، حتى إن بعض من يقول بذلك ذهب إلى إثبات حكم الهجرة بالقياس، مع إن إثبات الأحكام بالنصوص أقوى من إثباتها بالقياس. والله أعلم.
من بذل جهده لتحقيق مأمور ثم عجز عنه فإنه معذور
.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ
(1)
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 253).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (5/ 178).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 999).
جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} (النساء: 97 - 98).
158 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره فإنه معذور،. . . ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دليلاً لقاعدة فقهية، وهي أن من عجز عن المأمور فإنه معذور، ولكن بشرط أن يبذل جهده في سبيل فعل هذا المأمور فإن عجز عن ذلك فلا شيء عليه، ووجه هذا الاستنباط من الآية أن الله سبحانه وتعالى عذر المستضعفين في عدم الهجرة مع أنها واجبة، ولكن لعدم قدرتهم عليها عذرهم.
قال اللاحم في معرض ذكره للفوائد والأحكام من هذه الآية: (وفيها: أن من عجز عن فعل مأمور فإنه معذور لقوله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ))
(2)
.
الدليل في الحج والعمرة من شروط الاستطاعة
.
قال تعالى: {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} (النساء: 98).
159 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي الآية تنبيه على أن الدليل
(1)
انظر: تفسير السعدي (196).
(2)
انظر: تفسير آيات الأحكام في سورة النساء للاحم (2/ 909).
في الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الاستطاعة) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الدليل-أي الذي يدلهم الطريق- في الحج والعمرة من شروط الاستطاعة، ووجه الاستنباط من الآية أن الله سبحانه وتعالى عذر الذين لا يهتدون السبيل لا بأنفسهم ولا بغيرهم فكانوا من جملة الذين سقط عنهم وجوب الهجرة لعدم وجود من يدلهم الطريق، وقاس السعدي على ذلك الحاج والمعتمر الذي لا يجد دليلاً فإنه يسقط عنه الوجوب.
قال اللاحم في معرض ذكره للفوائد والأحكام من هذه الآية: (ومنها: أن وجود الدليل شرط لوجوب الحج والعمرة، لقوله تعالى: {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)}
(2)
.
مناسبة التعبير بـ "من" في {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةُ}
.
قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةُ (101)} (النساء: 101).
160 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةُ} ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان:
إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة
(1)
انظر: تفسير السعدي (196).
(2)
انظر: تفسير آيات الأحكام في سورة النساء للاحم (2/ 910).
لأجزأ، فإتيانه بقوله:{مِنَ الصَّلَاةُ} ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
الثانية: أن {مِنَ} تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة التعبيربـ"من"في قوله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةُ} وبين أن مناسبة ذلك هو ضبط القصر، والإشارة إلى أن القصر خاص ببعض الصلوات دون البعض الآخر.
قال البقاعي: (ولما كان القصر خاصاً ببعض الصلوات، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه في الكم لا في الكيف فقال: {مِنَ الصَّلَاةُ} أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات، وكم يقصر منها من ركعة، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية)
(2)
، وممن قال بنحو ذلك من المفسرين: الرازي، والألوسي.
(3)
تقييد القصر بخوف الفتنة لا مفهوم له، فيجوز القصر ولو مع الأمن
.
قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةُ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (101)} (النساء: 101).
(1)
انظر: تفسير السعدي (197).
(2)
انظر: نظم الدرر (2/ 306).
(3)
انظر: التفسير الكبير (11/ 15)، وروح المعاني (3/ 127).
161 -
قال السعدي رحمه الله: (فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف.
ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا} قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول.
وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ أي: والله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"
(1)
أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظراً لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد.
وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي ما استنبطه جمهور المفسرين من أن الصلاة تقصر في السفر مطلقاً، سواء كان فيه خوف أم لا، وجعلوا القيد خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وزاد السعدي أن للقيد فائدة أخرى وهي بيان أعلى
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، ح (686).
(2)
انظر: تفسير السعدي (197).
الصور من اجتماع الخوف مع السفر ولكن هذا لا يمنع من الجمع في وجود أحدهما دون الآخر.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال البيضاوي:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت، ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضاً في حال الأمن)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: القصاب، والجرجاني، والرازي، وابن كثير، وأبو السعود، والخازن، والألوسي، والشوكاني
(3)
.
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط داود الظاهري، ونُسب كذلك إلى سعد بن أبي وقاص
(4)
فقالوا إن مفهوم الشرط هنا معتبر وأن القصر إنما هو حال الخوف أم مع الأمن فلا يجوز القصر؛ لأن جوازه هنا معلق بشرط فإذا انتفى الشرط فلا يجوز فعل ما رتب عليه، قال الخازن: (ذهب داود الظاهري إلى أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف واستدل على صحة
مذهبه بقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولأن عدم الشرط يقتضي عدم المشروط فعلى هذا لا يجوز القصر عند الأمن ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر الآحاد لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر واحد)
(5)
.
(2)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 386).
(3)
انظر: نكت القرآن (1/ 262)، ودرج الدرر (2/ 628)، والتفسير الكبير (11/ 18)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1002)، وإرشاد العقل السليم (2/ 190)، ولباب التأويل (1/ 418)، وروح المعاني (3/ 128)، وفتح القدير (1/ 641).
(4)
انظر: النكت والعيون (1/ 523).
(5)
انظر: لباب التأويل (1/ 418).
النتيجة:
ما ذهب إليه جمهور المفسرين هو الصحيح في عدم اعتبار مفهوم هذا القيد، ومما يؤيد عدم الأخذ به أنه خرج مخرج الغالب، وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، كذلك كلمة "إن" تفيد حصول الشرط ولا يلزم عند عدم الشرط عدم المشروط
(1)
، وكذلك صريح السنة صريح في عدم اعتبار مفهوم هذا القيد، قال أبوحيان: (والحديث الصحيح يدلّ على أنّ هذا الشرط لا مفهوم له، فلا فرق بين الخوف والأمن، وحديث يعلى
(2)
في ذلك مشهور صحيح)
(3)
. والله أعلم.
صلاة الخوف جماعة دليل على أن صلاة الجماعة فرض عين
.
قال تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ. . . (102)} (النساء: 102).
162 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين
(4)
من وجهين:
(1)
انظر: التفسير الكبير (11/ 18).
(2)
أراد به حديث عمر رضي الله عنه المتقدم ذكره في صلب هذا الاستنباط.
(3)
انظر: البحر المحيط (3/ 353).
(4)
اختلف العلماء في فرضية صلاة الجماعة، فذهب الحنابلة إلى أنها فرض عين، وممن قال بذلك ابن مسعود، وأبي موسى، وعطاء، وغيرهم، وذهب الشافعي وكثير من الحنفية والمالكية إلى أنها فرض كفاية، وذهب الثوري، ومالك، وأبو حنيفة إلى أنها سنة مؤكدة. انظر: المغني (3/ 5)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 389)، ونكت القرآن للكرجي (1/ 263).
أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى.
والثاني: أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيراً من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الصلاة جماعة فرض عين، ووجه الاستنباط من الآية أن الله عز وجل أمر بالجماعة حال الخوف، فوجوبها في حال الأمن أولى بناء على قياس
الأولى، كذلك ترك بعض أفعال الصلاة التي يمكن أن يفعلها لوكان لوحده مما يدل على فرضية صلاة الجماعة فلم تترك هذه الأفعال إلا في مقابل ما هو أولى منها.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الكرجي القصاب:(وقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} حجة لمن يزعم أن صلاة الجماعة فرض، إذ لا تجوز أفعال الضرورة-من التقدم والتأخر والانتظار- في صلاة يستطيع المنفرد أن لا يفعلها ولو فعلها لفسدت عليه، إلا وإقامتها في الجماعة فرض)
(2)
وقال الشنقيطي: (آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة؛ لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم، إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف؛ لأنه
(1)
انظر: تفسير السعدي (198).
(2)
انظر: نكت القرآن (1/ 263).
عذر ظاهر)
(1)
، وقد أشار إلى ذلك من المفسرين: ابن كثير، والسيوطي
(2)
.
من فعل عبادة على وجه القصور فعليه تدارك النقص بذكر الله
.
قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} (النساء: 103).
163 -
قال السعدي رحمه الله: ((ذكر الله تعالى) مرقع للخلل، متمم لما فيه نقص، ودليله قوله تعالى - بعدما ذكر صلاة الخوف وما فيها من عدم الطمأنينة ونحوها
(3)
- قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] أي لينجبر نقصكم وتتم فضائلكم. ويشبه هذا أن الكمال هو الاستثناء في قول العبد: إني فاعل ذلك غدا، فيقول: إن شاء الله ; فإذا نسي فقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] وهذا أعم من كونه يستثني بل يذكر الله تعالى تكميلاً لما فاته من الكمال ; والله أعلم، فعلى هذا المعنى ينبغي لمن فعل
(1)
انظر: أضواء البيان (1/ 357).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 1007)، والإكليل (2/ 587)، وانظر كذلك: تفسير آيات الأحكام في سورة النساء للاحم (2/ 972).
(3)
قال ابن كثير: (يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك، مما ليس يوجد في غيرها) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1010).
عبادة على وجه فيه قصور، أو أخل بما أمر به على وجه النسيان أن يتدارك ذلك بذكر الله تعالى ليزول قصوره ويرتفع خلله) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من فعل عبادة على وجه القصور فعليه أن يتدارك هذا النقص بذكر الله، ووجه هذا الاستنباط من الآية أن الله عز وجل أمر بالذكر بعد صلاة الخوف لما فيها من نقص وخلل بالنسبة لصلاة الآمنين، فأخذ من هذا المعنى أن كل عبادة فيها قصور تجبر بالذكر قياساً على هذا المعنى.
وهذا الاستنباط نافع المعنى مهم التطبيق، حيث إن الإنسان لا يخلو من التقصير في أداءه للعمل وهو بحاجة لمعرفة المسددات والمكملات لهذا النقص.
جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لا يعرف عنه ظلم
.
قال تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} (النساء: 105).
164 -
قال السعدي رحمه الله: (قال: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن
(1)
انظر: المواهب الربانبة (15).
(2)
انظر: تفسير السعدي (200).
لم يعرف عنه ظلم، ووجه الاستنباط من الآية أن الله نهى عن النيابة عن المبطل في الخصومة، ومفهوم المخالفة - مفهوم الصفة-أن صاحب الحق تجوز النيابة عنه.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي في هذا الاستنباط، قال إلكيا الهراسي:(وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين: ابن الفرس، والقرطبي، والسيوطي
(2)
.
وهذا الاستنباط عظيم الفائدة في عدم النيابة عن أصحاب الظلم، وهو يعالج إشكالاً قائماً عند المحامين اليوم، حيث أصبحت المحاماة تجارة دون أن يراعي بعضهم الالتفات إلى كون موكله ظالماً أو مظلوماً، فيأتي هذا الاستنباط ليعلم الداخلين في هذا الباب أن المحاماة لها ضوابط، ومن أهمها عدم الدخول في المحاماة عن أصحاب الظلم.
توعد المخالف لسبيل المؤمنين دليل على أن الإجماع حجة
.
قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (النساء: 115).
165 -
قال السعدي رحمه الله: (وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أن إجماع هذه الأمة حجة وأنها معصومة من الخطأ.
ووجه ذلك: أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار،
(1)
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (2/ 287).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 278)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 359)، والإكليل (2/ 589).
و {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه، أو تحريمه أو كراهته، أو إباحته - فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الإجماع حجة، ووجه الاستنباط من الآية أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين، فإذا اتفقوا على أمر ما فهذا سبيلهم، فمن خالفهم فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، فدل ذلك على أن ما اتفقوا عليه حجة لا يجوز مخالفتها.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال الجصاص:(وقرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ذكر له من الوعيد، فدل على صحة إجماع الأمة لإلحاقه الوعيد بمن اتبع غير سبيلهم)
(2)
، وقال ابن كثير في هذا الاستنباط:
(وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك واستبعد
الدلالة منها-أي الآية- على ذلك)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين: إلكيا الهراسي، وأبو المظفر السمعاني، وابن الفرس، والزمخشري، والرازي، والقرطبي، والطوفي، والبيضاوي، وأبو السعود، والسيوطي، والشنقيطي.
(4)
(1)
انظر: تفسير السعدي (203).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 353).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 1018).
(4)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (2/ 288)، وقواطع الأدلة (1/ 466)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 279)، الكشاف (260)، والتفسير الكبير (11/ 35)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 367)، والإشارات الإلهية (2/ 49)، وأنوار التنزيل (1/ 391)، وإرشاد العقل السليم (2/ 197)، والإكليل (2/ 589)، والمذكرة في أصول الفقه (148).
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط بعض المفسرين،، قال الشوكاني:(وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ولا حجة في ذلك عندي؛ لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا: هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره، كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب، فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام، فأدّاه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين، وهو الدين القويم والملة الحنيفية، ولم يتبع غير سبيلهم)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: أبوحيان، والراغب، وابن جزي الكلبي، ومحمد رشيد رضا
(2)
.
ومن حجج هؤلاء كذلك في الرد على الاستدلال بالآية ما ذكره الراغب الأصفهاني بأن سبيل المؤمنين الإيمان كما إذا قيل: اسلك سبيل الصائمين والمصلين أي في الصوم والصلاة، فلا دلالة في الآية على حجية الإجماع، ووجوب اتباع المؤمنين في غير الإيمان
(3)
.
وكذلك ما ذكره أبو حيان حيث قال: (وما ذكره ليس بظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما، فالوعيد إنما ترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين)
(4)
.
(1)
انظر: فتح القدير (1/ 651).
(2)
انظر: البحر المحيط (3/ 366)، وروح المعاني (3/ 141)، وتفسير ابن عرفة (2/ 57)، والتسهيل لعلوم التنزيل (1/ 210)، وتفسير المنار (5/ 359)، وفي الآية مناقشات كثيرة بين الفريقين وحجج يطول ذكرها، ويمكن الرجوع في ذلك إلى: قواطع الأدلة (1/ 264 - 266)، والإشارات الإلهية (2/ 249 - 254).
(3)
انظر: روح المعاني (3/ 141).
(4)
انظر: البحر المحيط (3/ 366).
النتيجة:
ما ذهب إليه جمهور المفسرين من دلالة الآية على حجية الإجماع هو الصحيح، وذلك للعموم فسبيل المؤمنين عامة يدخل فيها الإجماع، كذلك دلالة الاقتران فكون مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم مقترنة بمخالفة سبيل المؤمنين والوعيد عليها واحد ففيه دلالة على أن طريق المؤمنين واجبة الاتباع ومنها الإجماع، كما أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة.
وأما ما قاله الشوكاني من أن علماء الأمة المجتهدين قد تحدث منهم مخالفة لمجتهدي عصرهم، فيكون في ذلك مخالفة لسبيل المؤمنين، فهذا غير وراد هنا لأن الكلام على الإجماع أما باب الاجتهاد فوارد الاختلاف فيه، ولايعد الاختلاف فيه مجانبة لسبيل المؤمنين.
وأما ما قاله الراغب من تخصيص سبيل المؤمنين هنا فهو تخصيص بلا مخصص، فسبيل المؤمنين هنا عامة.
وأما ما قاله أبوحيان من أن الوعيد مرتب على اجتماع الأمرين مشاقة الرسول ومتابعة غير سبيل المؤمنين، فالجواب عليه أن الجمع بين أمرين في الوعيد عليهما دال على أن كل واحد منهما يستحق ذلك الوعيد بمفرده، وليس هناك ما يدل على أن الوعيد مرتب على
اجتماعهما إذ هو معلوم أن كل واحد من الأمرين معصية لوحدها، فاجتماعهما في هذه الآية بوعيد واحد لا يعني أن الوعيد مرتب على اجتماعهما.
ومن هنا يتبين دلالة الآية على حجية الإجماع، وليس هناك مع من خالف حجة يمكن أن ترد هذا الاستدلال. والله أعلم.
يجب على العبد أن يثق بأن الله إذا أغلق عليه باباً سيفتح له باباً
.
قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)} (النساء: 130).
166 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)} في هذه الآية فائدة عظيمة، وهي أن العبد عليه أن يعتمد على الله، ويرجو فضله وإحسانه، ويعمل ما أبيح له من الأسباب ; وأنه إذا انغلق عليه باب وسبب من الأسباب التي قدرها الله لرزقه فلا يتشوش لذلك ولا ييأس من فضل الله، ويعلم أن جميع الأسباب مستندة إلى مسببها، فيرجو الذي أغلق عليه هذا الباب أن يفتح له بابا من أبواب الرزق أوسع وأحسن من الباب الأول، وهذه العبودية من أفضل عبوديات القلب، وبها يحصل التوكل والكفاية والراحة والطمأنينة. فهذه المرأة المتصلة بزوج ينفق عليها ويقوم بمؤنتها فإذا حصل لها فرقة منه وتوهمت انقطاع النفقة والكفاية فلتلجأ إلى فضل الله ووعده بأنه سيغنيها وقال:{يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} ولم يقل " يغنيها " مع أن السياق يدل عليه لئلا يتوهم اختصاصها بهذا الوعد، وإنما الوعد لها وله، فالله أوسع وأكثر، ولكن هباته وعطاياه تبع لحكمته، ومن الحكمة أن من انقطع رجاؤه من المخلوقين، ومن كل سبب، واتصل أمله بربه ووثق بوعده ورجا بره فإن الله يغنيه ويقنيه ; والله الموفق لمن صلح باطنه وحسنت نيته فيما عند ربه) ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تيسير اللطيف (144)، والمواهب الربانبة (32)، وفتح الرحيم (62) جميعها للسعدي.
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية فائدة تربوية سلوكية، وهي أن العبد إذا انغلقت عليه الأبواب فعليه أن يكون واثقاً بالله سبحانه وتعالى بأن يفتح له أبواباً أخرى، ووجه الاستنباط من الآية أن الله وعد المتفارقين بأن يغني كلاً منهما مع أن التفرق مظنة انقطاع المصالح، إلا أن الله وعدهما بالغنى، فقاس على هذا المعنى قاعدة عامة فكل إنسان فارق أمراً محبوباً عنده فعليه أن يثق بأن الله سبحانه وتعالى سيفتح له أبواباً من الفرج لا تخطر له على بال.
قال الدوسري موافقاً السعدي على هذا الاستنباط: (وكما قلنا بعموم سعة الله وحكمته وشمولها لكل شيء، وعدم اختصاصهما بالزوجين، فينبغي أن ينطبع بهما المسلم المؤمن انطباعاً تاماً حتى لا يتأثر ولا يتحسر على ما ناله من حرمان شباب، أوقوة، أوثروة، أوولد، أوصحة ونحو ذلك من متاع الدنيا، ويستيقن أن الله سيعوضه من واسع فضله حسب حكمته).
(1)
وهذا العطاء إنما يكون بعد بذل الأسباب التي بوسع الإنسان بذلها، فإذا استنفذ طاقته وأدى ما بوسعه، فرج الله عنه، ويسر له أموره، وأبدله خيراً مما أخذ منه، وبهذا ينسد الباب على الكسالى، أو الذين يفرطون في فقدان الأشياء وينتظرون البديل، فلا بد من التنبه لهذا الأمر.
تخصيص الاعتصام والإخلاص بالذكر لشدة الحاجة إليهما
.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
(1)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (6/ 562).
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} (النساء: 145 - 146).
167 -
قال السعدي رحمه الله: (وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر، مع دخولهما في قوله: {وَأَصْلَحُوا} لأن الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما خصوصا في هذا المقام الحرج الذي يمكن من القلوب النفاق، فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله، ودوام اللجأ والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما وتوقفِ الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص الاعتصام والإخلاص بالذكر مع دخولهما في قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} فهما من جملة الإصلاح المطلوب، وبين أن مناسبة هذا التخصيص لشدة الحاجة إليهما في هذا المقام وهو مقام التخلص من النفاق، الذي لا يستطيع الإنسان أن يفعله إلا إذا كان معتصماً بالله، مخلصاً له، فالاعتصام بالله والإخلاص لله تقضي على النفاق وتزيله، فلا يبقى للنفاق محل في قلب معتصم بالله مخلص له، ولهذا كانت التخصيص بالذكر في غاية المناسبة، إذ تبين أن الإخلاص والاعتصام بالله علاج رباني نافع لإزالة النفاق من القلوب.
وقد أشار أبو حيان إلى وجه آخر لا يبعد عن ما ذكره السعدي، فقال: (. . . ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لموالاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي، ثم الإخلاص لدين الله وهو المقابل للرياء
(1)
انظر: تفسير السعدي (212).
الذي كان لهم في الماضي).
(1)
فكان فيه تخصيص أكثر لمناسبة الذكر فالاعتصام يعالج ما كان في القلب من موالاة الكفار والاعتماد عليهم، والإخلاص يعالج ما كان في القلب من الرياء.
مناسبة التعبير بـ (ويؤت الله المؤمنين) دون (يؤتيهم)
.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} (النساء: 145 - 146).
168 -
قال السعدي رحمه الله: (وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجراً عظيماً، مع أن السياق فيهم، بل قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} لأن هذه القاعدة الشريفة -لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابًا أو عقاباً وكان ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في مقابلة الحكم العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها، ولئلا يتوهم اختصاص الحكم بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار القرآن البديعة، فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم) ا. هـ
(2)
(1)
انظر: البحر المحيط (3/ 396).
(2)
انظر: تفسير السعدي (212).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة التعبير باللفظ العام في قوله تعالى: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} ، دون أن يقول (وسوف يؤتيهم)، وأن مناسبة ذلك دفع توهم تخصيص هذا الأجر بهذه الفئة المحدودة والتي يشاركها الثواب عموم المؤمنين، فكان التعبير باللفظ العام يدفع هذا التوهم، ووجه استنباط المناسبة من الآية بأسلوب مطرد في القرآن الكريم وهو إذا كان الثواب والعقاب مشتركاً، وكان السياق في بعض الجزئيات
فإنه يأتي بالثواب أو العقاب عاماً تندرج فيه هذه الجزئية وغيرها مما يشترك معها في الثواب أو العقاب لدفع توهم التخصيص بالجزئية.
سورة المائدة
من قصد البيت ليفسد فيه منع منه
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرُ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا (2)} (المائدة: 2).
169 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}
(1)
والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه، يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية صد من قصد البيت الحرام ليفسد فيه، ووجه الاستنباط من الآية أن الله سبحانه وتعالى نهى عن التعرض لمن أراد
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر من هذه الآية وهو دلالتها على جواز دخول الحرم بغير إحرام. انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 314)، والإكليل (2/ 608).
(2)
انظر: تفسير السعدي (219).
البيت يبتغي فضل الله ورضوانه، فدل مفهوم المخالفة أن من قصد البيت ليفسد فيه فإنه يمنع من ذلك.
وهذا الاستنباط فيه بيان تعظيم البيت الحرام، ومنع أهل الإفساد من دخوله فضلاً عن المكث فيه.
تعليم الله العباد العلوم التي تنفعهم في دينهم ودنياهم من نعم الله على العباد
.
قال تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ((4)} (المائدة: 4).
170 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية فيها فوائد كثيرة: - منها: أن تعليم الله لعباده العلوم التي يدركون بها المعاش ويتوسلون بها إلى المنافع الدنيوية من نعمه العظيمة، فإنه امتن على العباد بما يعلمون الجوارح الأسباب التي تحصل لهم بها الصيد حتى يكون ما تدركه الجوارح بمنزلة ما يباشروه من الأعمال، لأنها من أعمالهم، فكل علم علمه الله الإنسان يدرك به منافعه الدينية والدنيوية، فإنه من نعمه) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من نعم الله التي امتن بها على عباده، تعليمهم العلوم التي يحصلون بها معاشهم، وينالون بسببها منافعهم الدنيوية، ووجه الاستنباط من الآية أن الله امتن على العباد بما علمهم من الأمور التي ينالون بها الصيد، وحثهم على تعليم هذه العلوم لكلاب
(1)
انظر: مجموع الفوائد واقتناص الأوابد للسعدي (73).
الصيد، مذكراً هؤلاء على وجه الامتنان أن هذه العلوم في أصلها مما علمه الله لهم، وأخذ السعدي من هذا المعنى فجعله معنى عاماً.
وهذا الاستنباط فيه تنبيه لما قد يظنه بعض الناس من صميم اكتشافات البشر وقد يغفل عن أن أصل هذا العلوم منّة من الله جل شأنه تفضل بها على العباد.
فما نراه اليوم من تعدد هذه الاكتشافات العلمية التي نفعت الناس في دينهم ودنياهم، إنما هي من الله عز وجل مما يجعل الإنسان يستشعر هذه النعمة ومن ثَم يشكر الله عليها.
تعليم الكلاب للصيد يكون حسب العرف
.
171 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيها-أي الآية-: أن تعليمها يكون بحسب العرف والعادة
(1)
، لأن الله أطلق التعليم ولم يقيده إلا
(1)
قال الشافعي رحمه الله: والكلب لا يصير معلماً إلاّ عند أمور، وهي إذا أرسل استرسل، وإذا أخذ حبس ولا يأكل، وإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر رحمه الله فيه حداً معيناً، بل قال: أنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به قال لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من النص أو الإجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أظهر الروايات، وقال الحسن البصري رحمه الله: يصير معلماً بمرة واحدة، وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى أنه يصير معلماً بتكرير ذلك مرتين، وهو قول أحمد رحمه الله، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه يصير معلماً بثلاث مرات. انظر: التفسير الكبير (11/ 113)، والبحر المحيط (2/ 445)، والتحرير والتنوير (6/ 116).
بقيدين: أحدهما: أن تتعلم هذه الجوارح تعلما تمسك على صاحبها وتتميز عن الجوارح التي تمسك لنفسها وعلى نفسها، ويعرف ذلك بالقرائن المعروفة، ثانيهما: ذكر اسم الله عند إرسالها، فإرسالها بمنزلة تحريك يده للذبح) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية طريقة تعليم الكلاب للصيد، وأن المرجع في ذلك إلى العرف، ووجه الاستنباط من الآية الإطلاق وعدم التقييد.
قال ابن عاشور موافقاً السعدي على هذا الاستنباط: (وصفاتُ التعليم راجعة إلى عرف أهل الصيد)
(2)
.
ومما يؤيد هذا الاستنباط أن كل أمر لم يأت في الشريعة تقديره، فإن تقديره يرجع إلى العرف، فطريقة تعليم الكلاب الصيد لم يرد فيها هنا شيء محدد فكان مرجع ذلك إلى العرف.
الاشتغال بالعلوم التي تتسهل بها الأسباب الدنيوية محبوبة لله
.
172 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي الفوائد-: أن
(1)
انظر: تفسير السعدي (221)، ومجموع الفوائد واقتناص الأوابد للسعدي (73).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (6/ 116).
الاشتغال بالعلوم التي تتسهل بها الأسباب الدنيوية محبوبة لله، وهو مما امتن الله به على عباده ; فكل طريق يوصل إلى المنافع الدنيوية أو يسهلها، فإنه من هذا الباب) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الاشتغال بالعلوم التي تتسهل بها الأسباب الدنيوية محبوبة لله، ووجه الاستنباط من الآية أن الله سبحانه وتعالى أباح لمحبي الصيد الاشتغال بتعلم الصيد وتعليمه، مع أنه أمر كمالي، ولكن لما كان فيه نفع دنيوي لهؤلاء أباحه لهم وأنزل فيه أحكاماً، اهتماماً بشأنهم، وتلبية لأغراضهم النفسية، وتطلعاتهم الدنيوية.
فأخذ السعدي من ذلك أن كل علم يوصل إلى منفعة دنيوية أو يسهلها فإنه محبوب لله عز وجل، وهذه النكتة قل من يذكرها فضلاً عن أن يستنبطها من هذه الآية، وهذا يدل على قوة فقه السعدي وما من الله به عليه في جانب الاستنباط والتدبر.
وإذا رأيت اليوم العلوم وكثرتها، فإذا ربطتها بهذا الاستنباط وأنها محبوبة لله عز وجل لتحقيقها منافع الناس الدنيوية، فإن هذا يفتح للمتخصصين فيها باباً ربانياً من الاحتساب ورجاء الثواب، لأن بعض الناس قد يربط الأجر بتعلم وتعليم العلوم الشرعية فقط، فيأتي هذا الاستنباط ليوسع هذا المفهوم.
جواز اقتناء كلب الصيد
.
قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ (4)} (المائدة: 4).
(1)
انظر: مجموع الفوائد واقتناص الأوابد للسعدي (74).
173 -
قال السعدي رحمه الله: (دلت هذه الآية على أمور منها: جواز اقتناء كلب الصيد، كما ورد في الحديث الصحيح
(1)
، مع أن اقتناء الكلب محرم، لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز اقتناء كلب الصيد، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أباح تعليمه، وصيده، وهذا يلزم منه اقتناءه، فدلالة الآية على ذلك بدلالة اللزوم، حيث إن الآية نصت على تعليمه وإباحة صيده وهذا يلزم منه إباحة اقتناءه.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال القرطبي:(ودلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد)
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً: ابن الفرس، والسيوطي، والدوسري
(4)
.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط الحديث الصحيح الذي أشار إليه السعدي، قال ابن عبد البر- بعد ذكره لهذا الحديث-:(في هذا الحديث إباحة اتخاذ الكلاب للصيد والماشية)
(5)
، كذلك العلة المقتضية لجواز الاتخاذ المصلحة، والمصلحة هنا ظاهرة وهي الصيد والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً
(6)
.
(1)
أراد بذلك حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتنى كلباً، إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره، كل يوم قيراطان) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الذبائح والصيد، باب من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد أو ماشية، ح (5481)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه، وبيان تحريم اقتنائها، إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك، ح (1574).
(2)
انظر: تفسير السعدي (221).
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 72).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 335)، والإكليل (2/ 614)، وصفوة الآثار والمفاهيم (8/ 126).
(5)
انظر: التمهيد لابن عبدالبر (14/ 218).
(6)
انظر: الأغراب في أحكام الكلاب لابن المبرد (106).
طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد
.
قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ (4)} (المائدة: 4).
174 -
قال السعدي رحمه الله: (طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد
(1)
، لأن الله أباحه ولم يذكر له غسلاً فدل على طهارته) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن ما أصابه فم كلب الصيد طاهر، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أباح أكل الصيد الذي يأتي به كلب الصيد، ولم يذكر أنه يغسل مما يدل على طهارته.
وما ذهب إليه السعدي صحيح، يؤيده أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلو كان ما أصابه فم كلب الصيد فيه نجاسة لأمر الله بغسله، ومما يؤيده كذلك أن المشقة تجلب التيسير فلو كان يغسل محل فم كلب الصيد لكان في ذلك مشقة، والمشقة تجلب التيسير.
الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير ليس مذموماً
.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ
(1)
قال ابن قدامة: (وهل يجب غسل أثر فم الكلب من الصيد؟ فيه وجهان أحدهما: لا يجب لأن الله تعالى ورسوله أمرا بأكله ولم يأمرا بغسله، والثاني: يجب لأنه قد ثبتت نجاسته فيجب غسل ما أصابه كبوله) انظر: المغني (13/ 266)، والأغراب في أحكام الكلاب (299 - 300).
(2)
انظر: تفسير السعدي (221).
الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)} (المائدة: 4).
175 -
قال السعدي رحمه الله: (أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما، ليس مذموماً، وليس من العبث والباطل، بل هو أمر مقصود؛ لأنه وسيلة لحل صيده والانتفاع به) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير ليس مذموماً، وليس من العبث، ووجه ذلك من الآية أن الله أباح الصيد بالكلب، ولا يكون ذلك إلا بالاشتغال بتعليمه، فكان تعليمه وسيلة إلى مباح.
ومما يؤيد ما ذهب إليه السعدي أن الوسيلة إلى مباح مباحة، فالصيد بالكلب مباح ولا يكون ذلك إلا بالاشتغال بتعليم الكلب، وما كان وسيلة إلى مباح فهو مباح والاشتغال بالمباح ليس مذموماً في أصله إلا إذا تضمن ضياعاً لواجب، أو ارتكاباً لمحرم.
جواز بيع كلب الصيد
.
قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ (4)} (المائدة: 4).
176 -
قال السعدي رحمه الله: (فيه حجة لمن أباح بيع كلب
(1)
انظر: تفسير السعدي (221).
الصيد
(1)
، قال: لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز بيع كلب الصيد، ووجه الاستنباط من الآية أن الله أباح الصيد بكلب الصيد، ولا يحصل على كلب الصيد إلا بالبيع مما يدل على جواز بيع كلب الصيد.
قال الجصاص: (وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع بها، فدل على جواز بيع الكلب)
(3)
، وقد أشار إلى ذلك بعض المفسرين منهم: ابن الفرس، والقرطبي.
(4)
وما ذهب إليه السعدي صحيح؛ لأن الآية تدل عليه باللزوم، فلازم الإباحة جواز بيعه وشرائه، وإلا كانت الإباحة ناقصة. والله أعلم.
ذبائح الكفار من غير أهل الكتاب لا تحل
.
قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ (5)} (المائدة: 5).
177 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
(1)
اختلف الفقهاء في حكم جواز بيع الكلب، فذهب الحنابلة والشافعية إلى تحريم بيع الكلاب أياً كانت معلمة أوغير معلمة، وذهب أبوحنيفة إلى جواز بيع الكلاب كلها وعنه رواية باستثناء الكلب العقور، واختلف أصحاب مالك فمنهم من قال: لا يجوز ومنهم من قال: الكلب المأذون في إمساكه يجوز بيعه ويكره، ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر بن عبد الله وعطاء والنخعي. انظر: المغني (6/ 352)، وبداية المجتهد (2/ 151)، والمبسوط (11/ 220).
(2)
انظر: تفسير السعدي (221).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 394).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 337)، والجامع لأحكام القرآن (6/ 73).
لَكُمْ} أي: ذبائح اليهود والنصارى
(1)
حلال لكم -يا معشر المسلمين- دون باقي الكفار
(2)
، فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين، وذلك لأن أهل الكتاب ينتسبون إلى الأنبياء والكتب، وقد اتفق الرسل كلهم على تحريم الذبح لغير الله، لأنه شرك، فاليهود والنصارى يتدينون بتحريم الذبح لغير الله، فلذلك أبيحت ذبائحهم دون غيرهم) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن ذبائح الكفار من غير أهل الكتاب لا تجوز، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أحل من ذبائح الكفار ذبائح أهل الكتاب، فدل مفهوم المخالفة أن غير أهل الكتاب لا تحل ذبائحهم.
وافق السعدي على هذا الاستنباط جماعة من المفسرين، قال ابن
(1)
الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل حتى يثبت ما يخرجها عن ذلك إلى التحريم، ولهذا لا يكفي في إخراجها مجرد الإشاعات عن كونها لم تذبح بالطريقة الصحيحة، وعليه فاللحوم الواردة من بلاد أهلها من أهل الكتاب الأصل فيها الحل حتى يثبت خلاف ذلك، وكونهم حرفوا كتبهم أوعبدوا غير الله لا يخرجهم عن كونهم أهل كتاب اليوم، كما لم يخرجهم عن ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل، ولكن إذا تيقن المسلم أن الذبائح مقتولة بالوقذ أوبالصرع والصعق الكهربائي المشبه للوقذ، أوبالخنق أو بالإهلاك بالمياه الحارة،، فلا يؤكل إذا كان على خلاف الذبح الإسلامي، كما لا يجوز شراؤه ولا إطعامه فقراء المسلمين؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (8/ 135)، وفتاوى اللجنة الدائمة (22/ 400 - 405).
(2)
خالف في ذلك أبوثور-من فقهاء الشافعية- فقال يلحق المجوس بأهل الكتاب فيجوز نكاح نسائهم، وأكل ذبائحهم،، وأنكر عليه العلماء طرده القياس في هذه المسألة ومنهم الإمام أحمد، قال النحاس:(فأما المجوس فالعلماء مجمعون إلا من شذ منهم على أن ذبائحهم لا تؤكل ولا يتزوج منهم؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب) انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (2/ 245)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1113)، وفتح القدير (2/ 18).
(3)
انظر: تفسير السعدي (221).
كثير: (فدل بمفهومه -مفهوم المخالفة - على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل)
(1)
، وقال السيوطي:(ومفهوم الآية تحريم ذبائح غير أهل الكتاب)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، وأبو حيان، والبيضاوي، والشوكاني، والهرري
(3)
.
ومما يؤيد هذا الاستنباط أن إجماع أكثر العلماء على أن ذبائح غير أهل الكتاب غير جائزة
(4)
، قال ابن القيم:(والمسألة عنده- عند الإمام أحمد- مما لا يسوغ فيها الاجتهاد لظهور إجماع الصحابة على تحريم مناكحتهم وهذا مما يدل على فقه الصحابة وأنهم أفقه الأمة على الإطلاق ونسبة فقه من بعدهم إلى فقههم كنسبة فضلهم إلى فضلهم فإنهم أخذوا في دمائهم بالعصمة وفي ذبائحهم ومناكحتهم بالحرمة فردوا الدماء إلى أصولها والفروج والذبائح إلى أصولها)
(5)
.
لا يباح نكاح الإماء من أهل الكتاب
.
قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ (5)} (المائدة: 5).
178 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَ} أحل لكم {الْمُحْصَنَاتُ}
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1113).
(2)
انظر: الإكليل (2/ 617).
(3)
انظر: التفسير الكبير (12/ 115)، والبحر المحيط (3/ 474)، وأنوار التنزيل (1/ 420)، وفتح القدير (2/ 18)، وتفسير حدائق الروح والريحان (7/ 134).
(4)
انظر: حاشية الشهاب على البيضاوي (3/ 427).
(5)
انظر: أحكام أهل الذمة (2/ 436).
أي: الحرائر العفيفات {مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} والحرائر العفيفات
(1)
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: من اليهود والنصارى.
وهذا مخصص لقوله تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ شَتَّى يُؤْمِنَّ}
(2)
[البقرة: 221] ومفهوم الآية، أن الأرقاء من المؤمنات لا يباح نكاحهن للأحرار، وهو كذلك وأما الكتابيات فعلى كل حال لا يبحن، ولا يجوز نكاحهن للأحرار مطلقاً
(3)
، لقوله تعالى:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:
(1)
أثار بعض أهل العصر ممن يدعي حقوق الإنسان جواز نكاح الكتابي للمؤمنة قياساً على جواز نكاح المؤمن للكتابية، وقالوا إن المنع من ذلك فيه هضم لحقوق المرأة المسلمة؛ إذ لا فرق بين المرأتين فكيف يحل للأولى ويحرم على الثانية، والجواب عن ذلك كالآتي:
أولاً: أن المسلم يحترم الأنبياء ويؤمن بهم موسى وعيسى، ولهذا لا تجد اليهودية عند زوجها المسلم، وكذلك لا تجد النصرانية عند زوجها المسلم ما يخدش كرامة نبيها، فينغرس في قلبها النفرة منه، ويسبب الخصام المفضي إلى الفرقة وشقاء الأسرة، بينما المسلمة لو تزوجت يهودي أونصراني لوجدت عنده بغض وعداوة لدينها ولنبيها والطعن فيه، فلا تنسجم معه إلا بإغوائها وفتنتها، أو تكون النهاية تفرق الأسرة وتشرذمها.
ثانياً: أنه جرت العادة أن اليهودي والنصراني يجبران زوجاتهم على دخول الكنيسة وأداء بعض طقوس دينهم، بينما زوجة المسلم النصرانية أواليهودية لا يجبرها على أن تتخلى عن دينها إلا برغبتها فلا إكراه في الدين. فلهذا وبغيره من الحكم حرم تزويج المسلمة لغير المسلم. انظر: صفوة الآثار والمفاهيم بتصرف (8/ 142 - 143).
(2)
والصحيح من أقوال أهل العلم عدم دخول أهل الكتاب في عموم هذه الآية وحينها فلا تعارض، يستدعي التخصيص، قال ابن كثير:(وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا، أخذا بهذه الآية الكريمة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فجعلوا، هذه مخصصة للآية التي {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ شَتَّى يُؤْمِنَّ} البقرة، إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد يُفْصَل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1114).
(3)
اختلف العلماء في تزوج الأمة الكتابية، فجوزه أبو حنيفة وأصحابه، وحرمه مالك، والشافعي، والليث، والأوزاعي، وعن أحمد روايتان، أشهرهما كالثاني. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (32/ 182)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 134).
25] وأما المسلمات إذا كن رقيقات فإنه لا يجوز للأحرار نكاحهن إلا بشرطين، عدم الطول وخوف العنت.
وأما الفاجرات غير العفيفات عن الزنا فلا يباح نكاحهن، سواء كن مسلمات أو كتابيات، حتى يتبن لقوله تعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية [النور: 3]) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية عدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقاً، وعدم جواز نكاح الأمة المؤمنة إلا بشرطين عدم الطول وخوف العنت، وأما الفاجرات فلا يجوز نكاحهن سواء كن مسلمات أوكتابيات، ووجه استنباط ذلك من الآية أن معنى المحصنات عنده الحرائر العفيفات، فدل مفهوم المخالفة في الحرائر أن الأمة لا يجوز نكاحها، ودل كذلك مفهوم المخالفة في العفيفات أن الزانية غير العفيفة لا يجوز نكاحها، كما أن مفهوم الحرة المؤمنة يدل على أن الأمة المؤمنة لا يجوز نكاحها؛ لكنه استثنى في كلامه وبين جوازها بالشرطين المذكورين في آية النساء، ففي هذا الأخير حدث في كلام السعدي نوع من التناقض لكنه استدركه في آخر كلامه.
الموافقون:
وافق السعدي في هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال الطوفي:(والأصح امتناع نكاح إمائهم -أي أهل الكتاب- للتخصيص بالمحصنات، وهن الحرائر، إذ لا إحصان لأمة)
(2)
، وممن
قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، والقرطبي، والسيوطي، والدوسري، والهرري.
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (221 و 222).
(2)
انظر: الإشارات الإلهية (2/ 91).
(3)
انظر: التفسير الكبير (11/ 116)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 132)، الإكليل (2/ 617)، وصفوة الآثار والمفاهيم (8/ 142)، وتفسير حدائق الروح والريحان (7/ 135).
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا فقالوا بجواز نكاح الأمة الكتابية، وهذا بناء على أن معنى الإحصان هنا العفة، وممن قال بذلك: مجاهد، والشعبي، وأبو ميسرة، وسفيان
(1)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، فيكون المحرم هنا الإماء الكتابيات مطلقاً، لدلالة مفهوم الحرائر على ذلك، ولقوله تعالى:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فإنما أباح الإماء المؤمنات، مما يدل على أن الكتابيات لا يجوز نكاحهن.
وأما الفاجرات غير العفيفات فلا يجوز نكاحهن مطلقاً سواء من أهل الكتاب أو من غيرهم حتى يتوبا، لمفهوم المخالفة في العفيفات؛ ولعموم قوله تعالى:{وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} [النور: 3]، فهي دالة على حرمة إنكاح الزناة، ونكاح الزواني، كما أن العفة شرط في النكاح لقوله تعالى:{وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}
(2)
[النساء: 25]، وفي ظاهر قوله:{إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، دلالة على أنّ إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ} ، إذ الإماء لا يعطون أجورهن، وإنما يعطي السيد
(3)
، كما أن اختيار موطن النطفة ومن يصلح انتساب الأبناء إليه معتبر شرعاً فاختيار الأم العفيفة من حق الأبناء على أبيهم.
(1)
انظر: البحر المحيط (3/ 448).
(2)
انظر: انشراح الصدور في تفسير سورة النور للاحم (29).
(3)
انظر: البحر المحيط (3/ 448).
إضافة الأجور إلى النساء دليل على ملك المرأة لمهرها، إلا لمن أذنت له بالأخذ
.
قال تعالى: {إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (5)} (المائدة: 5).
179 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله: {إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
(1)
وإضافة الأجور إليهن دليل على أن المرأة تملك جميع مهرها، وليس لأحد منه شيء، إلا ما سمحت به لزوجها أو وليها أو غيرهما) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية امتلاك المرأة لمهرها، وعدم جواز الاعتداء عليه من قبل الزوج أو الولي أو غير ذلك، إلا إذا سمحت بذلك، ووجه الاستنباط من الآية أن الله أضاف إليها المهر مما يدل على أنها مالكة له فلا يجوز لأحد التصرف فيه إلا بإذنها.
وهذا الاستنباط فيه حفظ لحقوق المرأة المالية، حيث بعض الأولياء يستولي على أموال النساء ويأخذها سواء كانت مهراً، أو كان مرتب وظيفة ونحو ذلك.
كما أن في هذا الاستنباط رد على الزاعمين هضم حقوق المرأة في الإسلام، فها هو الإسلام يحافظ على حقوقها حتى في مهرها حفظ لها حق التملك.
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية، منها: أن أقل الصداق لا يتقدر، إذ سماه أجراً، والأجر في الإجارات لا يتقدر، وكذلك عدم جواز دخول الرجل على المرأة حتى يبذل لها المهر الذي استحلها به، ومنها عدم إباحة الإماء الكتابيات. انظر: البحر المحيط (3/ 448)، وتفسير ابن عرفة (2/ 91)، وصفوة الآثار والمفاهيم (8/ 137).
(2)
انظر: تفسير السعدي (222).
الطهارة لا تجب بدخول الوقت وإنما عند إرادة الصلاة
.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا (6)} (المائدة: 6).
180 -
قال السعدي رحمه الله: (هذه آية عظيمة اشتملت على أحكام كثيرة منها: أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت، وإنما تجب عند إرادة الصلاة) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت، وإنما تجب بإرادة الصلاة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، مما يدل على أن المراد الوضوء عند القيام إلى الصلاة، لا إذا دخل الوقت.
ومما يؤيد ما ذهب إليه السعدي أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، ولم يأت ما يقيد هذا الشرط بوقت معين، وإنما المراد حصول الطهارة عند إرادة الصلاة، فلا علاقة بين دخول الوقت وحصول الطهارة. والله أعلم.
يُمسح الرأس بأي آلة سواء باليد أو بخرقة أو بخشبة ونحو ذلك
.
قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ (6)} (المائدة: 6).
(1)
انظر: تفسير السعدي (222).
181 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أنه يكفي المسح كيفما كان، بيديه أو إحداهما، أو خرقة أو خشبة أو نحوهما، لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة، فدل ذلك على إطلاقه) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن مسح الرأس يكفي فيه أي آلة فأي آلة وقع المسح بها، سواء كانت باليد أو بخرقة أو بخشبة أو بأي شيء آخر أجزأ، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله سبحانه وتعالى أطلق المسح ولم يقيده بآلة معينة مما يدل على جواز وقوعه بأي شيء.
وقد أشار بعض المفسرين إلى ما قاله السعدي، قال الألوسي:(ولا يشترط إصابته باليد لأن الآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل فحيث وصل استغنى عن استعمالها)
(2)
، وقال ابن قدامة:(وإن مسح رأسه بخرقة مبلولة أو خشبة أجزأه في أحد الوجهين، لأن الله أمر بالمسح، وقد فعله فأجزأه، كما لو مسح بيده أوبيد غيره؛ ولأن مسحه بيده غير مشترط)
(3)
، كما أشار إلى ذلك ابن عطية
(4)
.
الرد على الرافضة بقولهم وجوب مسح الرجلين في الوضوء
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةُ فَاغْسِلُوا
(1)
انظر: تفسير السعدي (222).
(2)
انظر: روح المعاني (3/ 245).
(3)
انظر: المغني (1/ 182).
(4)
انظر: المحرر الوجيز (520).
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (6)} (المائدة: 6).
182 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أن فيها الرد على الرافضة
(1)
، على قراءة الجمهور بالنصب
(2)
، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية عدم جواز مسح الرجلين مادامتا مكشوفتين عند الوضوء، وأن في الآية الرد على الرافضة القائلين بوجوب مسح الرجلين عند الوضوء، ووجه استنباط الرد على القائلين بوجوب المسح أن قراءة النصب تثبت الغسل.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال القرطبي: (فمن قرأ بالنصب جعل العامل "اغسلوا"وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا هو مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم واللازم من قوله
في غير ما
(1)
الرافضة هي: طائفة من الشيعة، وسبب تسميتهم بذلك رفضهم إمامة الشيخين وأكثر الصحابة، فأطلق عليهم هذا اللفب بعد رفضهم إمامة زيد بن علي، وتفرقهم عنه لعدم موافقته على أفكارهم، وقد أطلق هذا اللقب لتمييزهم عن الشيعة الأوائل الذين لم يكن عندهم سوى تفضيل علي رضي الله عنه، وأكثر العلماء الذين كتبوا عن الفرق يطلقون هذا اللقب على الشيعة بوجه عام، ومن معتقداتهم: إن الإمامة ركن من أركان الدين، وعصمة الأئمة، والقول بالبداء والرجعة، والتقية، وغير ذلك. انظر: الملل والنحل (10/ 219)، والموسوعة الميسرة (2/ 1069).
(2)
المراد قوله تعالى: (وأرجلكم) وهي: قراءة متواترة، وممن قرأ بهذه القراءة: نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص، ويعقوب. انظر: جامع البيان (4/ 466)، والحجة لابن خالويه (129)، ومعالم التنزيل (2/ 12)، وأضواء البيان (2/ 7)، ومعجم القراءات لعبد اللطيف الخطيب (2/ 232).
(3)
انظر: تفسير السعدي (222).
حديث)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك أيضاً من المفسرين: ابن العربي، وإلكيا الهراسي، والطوفي، وابن كثير، والسيوطي.
(2)
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط الرافضة، وقالوا بوجوب مسح الرجلين إذا كانتا مكشوفتين، واحتجوا لذلك بقراءة الجر"وأرجلِكم"
(3)
، قال ابن كثير:(وأما القراءة الأخرى، وهي قراءة من قرأ: {وَأَرْجُلِكُمْ} بالخفض، فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين؛ لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس)
(4)
وقد نُقل هذا القول عن بعض السلف، وممن قال بذلك: ابن عباس رضي الله عنهما، وأنس، والشعبي، اختاره ابن جرير الطبري
(5)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في دلالة قر اءة النصب على وجوب غسل الرجلين عند الوضوء هو الصحيح، لأمور منها:
أولاً: أن القراءتين كالآيتين في إحداهما الغسل وفي الأخرى المسح لاحتمالهما للمعنيين، فلو وردت آيتان إحداهما توجب الغسل والأخرى المسح لما جاز ترك الغسل إلى المسح؛ لأن في
الغسل زيادة فعل، وقد
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 90).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 90)، وأحكام القرآن للهراسي (3/ 48)، والإشارات الإلهية (2/ 98)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1121)، والإكليل (2/ 620).
(3)
وهي: قراءة متواترة: وممن قرأ بهذه القراءة: ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو جعفر، وخلف، وغيرهم، انظر: جامع البيان (4/ 470)، والحجة لابن خالويه (129)، ومعالم التنزيل (2/ 12)، وأضواء البيان (2/ 7)، ومعجم القراءات لعبد اللطيف الخطيب (2/ 231).
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1122).
(5)
انظر: جامع البيان (4/ 466 - 477)، والدر المنثور (3/ 29 - 30).
اقتضاه الأمر بالغسل، فكان يكون حينئذ يجب استعمالهما على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وهو الغسل لأنه يأتي على المسح والمسح لا ينتظم الغسل، وأيضاً لما حدد الرجلين بقوله تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} كما قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} دل على استيعاب الجميع، كما دل ذكر الأيدي إلى المرافق على استيعابهما بالغسل، أما المسح فلا يستوعب ذلك
(1)
.
ثانياً: أن المسح والغسل محتمل على كلا القراءتين، فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثة: إما أن يقال: إن المراد هما جميعا مجموعان، فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما، أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضئ أيهما شاء، ويكون ما يفعله هو المفروض، أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير.
وغير جائز أن يكونا هما جميعاً على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه؛ ولا جائز أيضاً أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير؛ إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع، فبطل التخيير بما وصفنا.
وإذا انتفى التخيير والجمع لم يبق إلا أن يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير، فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما؛ فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه وأتى بالمراد وأنه غير ملوم على ترك المسح، فثبت أن المراد الغسل
(2)
.
ثالثاً: مع احتمال المعنيين تكون هذه الآية من قبيل المُجمَل الذي يحتاج إلى بيان، وقد ورد البيان عن النبي- صلى الله عليه وسلم بالغسل قولاً وفعلاً،
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 435).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 434).
فأما وروده من جهة الفعل فقد ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في الوضوء، وأما من جهة القول فحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفيه: .. فجعلنا نتوضأ
ونمسح على أرجلنا فنادى النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثاً"
(1)
وهذا يوجب استيعابهما بالغسل؛ لأن الوضوء اسم للغسل يقتضي إجراء الماء على الموضع، والمسح لا يقتضي ذلك
(2)
.
وأما ما استدل به القائلون بوجوب المسح، فإنه يجاب عنه بالآتي:
أولاً: قراءة الخفض، يجاب عنها، إما أن الخفض للجوار لا على موافقة الحكم وهذا سائر في لغة العرب، وإما أن يكون مسح الأرجل هنا المراد به الغسل الخفيف كما هو وارد أيضاً في لغة العرب، وإما أن يكون المراد على هذه القراءة الغسل مع الدلك لأن الرجل أقرب الأعضاء إلى ملابسة الأقذار لمباشرتها الأرض، وقيل إن هذه القراءة محمولة على المسح على الخفين
(3)
، وعليه فالقراءتان متفقتان في إفادة وجوب غسل الرجلين.
ثانياً: أما ما ورد عن بعض السلف في ذلك فجوابه ما قاله ابن كثير بعد ذكره للآثار التي وردت في ذلك حيث قال: " .. فهذه آثار غريبة جداً، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف، لما سنذكره من السنة الثابتة في وجوب غسل الرجلين .. " ا. هـ
(4)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين، ح (163)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، ح (241).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 435)، وانظر كذلك: مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 128 - 134).
(3)
انظر: جامع البيان (4/ 471)، ومعالم التنزيل (2/ 12)، والجامع لأحكام القرآن (6/ 91)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1123)، وأضواء البيان (2/ 7 - 14).
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1123).
الترتيب بين أعضاء الوضوء واجب
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (6)} (المائدة: 6).
183 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: الأمر بالترتيب في الوضوء
(1)
، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة، ولأنه أدخل ممسوحا -وهو الرأس- بين مغسولين، ولا يعلم لذلك فائدة غير الترتيب) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الترتيب بين أعضاء الوضوء واجب، ووجه الاستنباط من الآية أن الله ذكرها مرتبة، وكذلك أدخل ممسوحاً-وهو الرأس- بين مغسولين وهما اليدين والرجلين، مما يدل على أن الترتيب مقصود.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال السيوطي: (واستدل بالآية من قال بوجوب الترتيب. . . ويؤيد إرادته أمران: الفصل بالممسوح بين المغسولين، وذكر الأعضاء لا
على الترتيب الطبيعي)
(3)
،
(1)
اختلف العلماء في وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء، فذهب إلى وجوبه الشافعي، وأحمد، ومالك في رواية عنه، وذهب مالك في أشهر الروايات عنه، وأبوحنيفة، والثوري، وداود، والليث بن سعد إلى عدم وجوب الترتيب. انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 97)، والمغني (1/ 190)، والإشارات الإلهية (2/ 96).
(2)
انظر: تفسير السعدي (223).
(3)
انظر: الإكليل (2/ 620).
وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: البغوي، وابن العربي، والرازي، والقرطبي، وابن كثير، والبيضاوي، وأبو السعود، وابن عاشور.
(1)
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط وقالوا لا دلالة في الآية على وجوب الترتيب، قال الألوسي:(وزعم بعضهم أن إفادة النظم للترتيب لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول، ولأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وفيه نظر لأن قصارى ما يدل عليه النظم أولوية الترتيب ونحن لا ننكر ذلك)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: الجصاص، وإلكيا الهراسي، والطوفي.
(3)
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في استنباط وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء من هذه الآية هو الصحيح؛ لأنه أدخل ممسوحاً بين مغسولين وقطع النظير عن نظيره ولو أريد الجمع المطلق لكان المناسب أن يذكر المغسولات متسقة في النظم والممسوح بعدها فلما عدل إلى ذلك دل على وجوب ترتيبها على الوجه الذي ذكره الله؛ لأن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله عنه، وتنزيهه هنا بأن الترتيب بين أعضاء الوضوء مقصود فلأجله أهمل الترتيب في الكلام، كما أن الترتيب المعتبر في الحس أن يبدأ من الرأس نازلاً إلى القدم، أو من القدم صاعداً
(1)
انظر: معالم التنزيل (2/ 13)، وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 45)، والتفسير الكبير (11/ 122)، والجامع لأحكام القرآن (6/ 98)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1122)، وأنوار التنزيل (1/ 422)، وإرشاد العقل السليم (2/ 242)، والتحرير والتنوير (6/ 130).
(2)
انظر: روح المعاني (3/ 252).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 451 - 455)، وأحكام القرآن للهراسي (3/ 51)، والإشارات الإلهية (2/ 96).
إلى الرأس، والترتيب المذكور في الآية ليس كذلك، مما يدل أيضاً على وجوب الترتيب
(1)
.
وجوب تعميم الغسل للبدن
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا (6)} (المائدة: 6).
184 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أنه يجب تعميم الغسل للبدن، لأن الله أضاف التطهر للبدن، ولم يخصصه بشيء دون شيء) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية وجوب تعميم الغسل للبدن، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أضاف التطهر للبدن، ولم يخصصه مما يدل على أن المراد هنا العموم.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الرازي: (قوله {فَاطَّهَّرُوا} أمر على الإطلاق بحيث لم يكن مخصوصاً بعضو معين دون عضو، فكان ذلك أمراً بتحصيل الطهارة في كل البدن على الإطلاق، ولأن الطهارة لما كانت مخصوصة ببعض الأعضاء لا جرم ذكر الله تعالى تلك الأعضاء على التعيين، فهاهنا لما لم يذكر شيئاً من الأعضاء على
(1)
انظر: التفسير الكبير (11/ 122)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 131)، وبدائع الفوائد (1/ 121).
(2)
انظر: تفسير السعدي (223).
التعيين علم أن هذا الأمر أمر بطهارة كل البدن)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، والألوسي، وابن عاشور، والدوسري
(2)
.
يدخل الحدث الأصغر تحت الحدث الأكبر في التطهر
.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا (6)} (المائدة: 6).
185 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر، ويكفي من هما عليه أن ينوي، ثم يعمم بدنه، لأن الله لم يذكر إلا التطهر، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن التطهر من الحدث الأكبر يكفي عن التطهر من الحدث الأصغر بل يندرج تحت الأكبر، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل لم يذكر إلا التطهر، ولم يذكر إعادة الوضوء، مما يدل على أن التطهر من الحدث الأصغر يكفي، ودلالة الآية على ذلك دلالة تضمن، فالحدث الأصغر جزء من الحدث الأكبر فرفع الأكبر هو رفع للأصغر معه.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والقرآن يدل على أنه لا يجب على الجنب إلا
(1)
انظر: التفسير الكبير (11/ 130).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 459)، وروح المعاني (3/ 253)، والتحرير والتنوير (5/ 65)، وصفوة الآثار والمفاهيم (8/ 167).
(3)
انظر: تفسير السعدي (223).
الاغتسال وأنه إذا اغتسل جاز له أن يقرب الصلاة والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر. . . . . . والقرآن يقتضي أن الاغتسال كاف وأنه ليس عليه بعد الغسل من الجنابة حدث آخر بل صار الأصغر جزءا من الأكبر كما أن الواجب في الأصغر جزء من الواجب في الأكبر فإن الأكبر يتضمن غسل الأعضاء الأربعة. . .، فقد دل الكتاب والسنة على أن الجنب والحائض لا يغسلان أعضاء الوضوء ولا ينويان وضوءا بل يتطهران ويغتسلان كما أمر الله تعالى)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً: الجصاص
(2)
.
استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به
.
قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (المائدة: 6).
186 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به؛ لقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استحباب الكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله كنى بالغائط وهو المكان المطمئن من الأرض، كنى بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر
(4)
، مما يدل على استحباب التكنية في مثل هذا الموضع.
(1)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 396).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 458).
(3)
انظر: تفسير السعدي (223).
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 931).
قال الشاطبي: (أتى فيه بالكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها، كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة، وعن قضاء الحاجة بالمجئ من الغائط،. . . فاستقر ذلك أدباً لنا استنبطناه من هذه المواضع)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: أبوالسعود، وابن عاشور، ومحمد رشيد رضا، والدوسري
(2)
.
الماء المتغير بالطاهرات مقدم على التيمم
.
قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (6)} (المائدة: 6).
187 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أن الماء المتغير بالطاهرات، مقدم على التيمم، أي: يكون طهوراً، لأن الماء المتغير ماء، فيدخل في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الماء المتغير بالطاهرات مقدم على التيمم، حيث إذا لم يوجد إلا هو وجب الوضوء به وتقديمه على التيمم، ووجه استنباط ذلك من الآية عموم دخوله في الماء، والتيمم لا يجوز إلا عند عدم الماء، والذي عنده ماء متغير بالطاهرات واجد للماء.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الجصاص:
(1)
انظر: الموافقات (2/ 165).
(2)
انظر: إرشاد العقل السليم (2/ 140)، والتحرير والتنوير (5/ 66)، وتفسير المنار (6/ 222)، وصفوة الآثار والمفاهيم (8/ 170).
(3)
انظر: تفسير السعدي (223).
(ويستدل به أيضاً على جواز الطهارة بالماء الذي خالطه شيء من الطاهرات)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: ابن الفرس، والدوسري
(2)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين هذا الاستنباط، فقالوا إن الماء الذي خالطه شيء من الطاهرات لا يجوز استخدامه في الطهارة، ومن وجده فقط فعليه التيمم؛ لأن الواجد لمثل هذا النوع من الماء لا يعتبر واجداً للماء الذي يرفع الحدث، وعليه فيجوز له التيمم ولو مع وجود مثل هذا النوع من الماء، قال الرازي: (قال الشافعي رحمه الله: الماء المتغير بالزعفران تغيراً فاحشاً لا يجوز الوضوء به،. . . حجة الشافعي أن مثل هذا الماء لا يسمى ماء على الإطلاق فواجده غير واجد
الماء، فوجب أن يجب عليه التيمم)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين: إلكيا الهراسي، والقرطبي
(4)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه من دلالة الآية على أن الماء المتغير بالطاهرات مقدم على التيمم، هو الصحيح، ويدل عليه أن النكرة في سياق النفي تعم، فالماء المتغير بالطاهرات داخل في عموم الماء، فمن وجده فهو واجد للماء، وهذا فيما إذا لم يغلب عليه التغير فيخرج عن مسمى الماء فحينئذ لا يصح التطهر به لخروجه عن مسمى الماء كالشاي، والمرق ونحو ذلك
(5)
. والله أعلم.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 495).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 384)، وصفوة الآثار والمفاهيم (8/ 171).
(3)
انظر: التفسير الكبير (11/ 134).
(4)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (3/ 63)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 222).
(5)
انظر: تفسير آيات الأحكام في سورة المائدة للاحم (186).
التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره
.
قال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ (6)} (المائدة: 6).
188 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أنه يكفي التيمم
(1)
بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره، فيكون على هذا، قوله:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} إما من باب التغليب، وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين، وإما أن يكون إرشاداً للأفضل، وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فهو أولى) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الصعيد المأمور به هنا هو كل ما تصاعد على وجه الأرض، وهو قد يحتوي على تراب وقد لا يكون، وعليه فالتعبير بقوله تعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} من باب التغليب، والغالب لا مفهوم له فيجوز بغير التراب الذي يعلق بموضع التيمم، أو أن ذلك من باب الإرشاد إلى الأولى فقط.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الجصاص: (لما قال الله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وكان الصعيد اسماً
(1)
التيمم في اللغة: القصد، تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، والتيمم في الشرع: القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه، واليدين منه بنية استباحة الصلاة عند عدم الماء، أو العجز عن استعماله. انظر: أضواء البيان (2/ 40).
(2)
انظر: تفسير السعدي (223).
للأرض، اقتضى ذلك جواز التيمم بكل ما كان من الأرض)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين: ابن العربي، والقرطبي، والألوسي.
(2)
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط من هذه الآية، فقالوا إن الآية تدل على أن التيمم لابد أن يكون بتراب له غبار، قال السيوطي:(وأنه-أي التيمم- خاص بالتراب الطهور الذي له غبار، فلا يجوز بسائر المعادن، ولا بالحجر والخشب بدليل قوله: "منه" فإن الإتيان بمن الدالة على التبعيض يقتضي أن يمسح بشيء يحصل على الوجه واليدين بعضه)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الزمخشري، والرازي، والبيضاوي.
(4)
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح في إجزاء التيمم بكل ما هو على وجه الأرض لكونه يسمى صعيداً؛ لدلالة الآية عليه، وأما ما احتج به الآخرون من أن "من" للتبعيض، فالجواب عنه: أن "من" هنا لابتداء الغاية، ومما يدل على ذلك أن في هذه الآية الكريمة إشارة إلى هذا القول - وهو جواز التيمم بكل ما على وجه الأرض ولا يتعين ماله غبار-، وذلك في قوله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} فقوله:
{مِنْ حَرَجٍ} نكرة في سياق النفي زيدت قبلها {مِنْ} والنكرة إذا كانت كذلك، فهي نص في العموم، فالآية تدل على عموم النفي في كل أنواع الحرج، والمناسب لذلك كون {مِنْ} لابتداء الغاية، لأن كثيراً من البلاد ليس فيه إلا الرمال أو الجبال، فالتكليف بخصوص ما فيه غبار يعلق
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 487).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 67)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 229)، وروح المعاني (3/ 42).
(3)
انظر: الإكليل (2/ 623).
(4)
انظر: الكشاف (238)، والتفسير الكبير (11/ 136)، وأنوار التنزيل (1/ 360).
باليد، لا يخلو من حرج في الجملة ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ من قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصلِّ)
(1)
.
فهذا نص صحيح صريح في أن من أدركته الصلاة في محل ليس فيه إلا الجبال أو الرمال أن ذلك الصعيد الطيب الذي هو الحجارة، أو الرمل طهور له ومسجد، وبه تعلم أن ما ذكره الزمخشري من تعين كون {مِنْ} للتبعيض غير صحيح
(2)
.
لا يصح التيمم بالتراب النجس
.
قال تعالى: {مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (6)} (المائدة: 6).
189 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس
(3)
، لأنه لا يكون طيبا بل خبيثاً) ا. هـ
(4)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التيمم، ح (335)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، ح (521).
(2)
انظر: أضواء البيان (2/ 36).
(3)
واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب، فقالت طائفة:" الطيب "، هو الطاهر، فيجوز التيمم بوجه الأرض كله، تراباً كان أو رملاً، أو حجارة، أو معدناً، أو سبخة، إذا كان ذلك طاهراً. وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم، وقالت طائفة: الطيب: الحلال، فلا يجوز التيمم بتراب مغصوب، ومع وجود الاختلاف في معنى الطيب هنا إلا أن المفهوم متفق عليه وهو كونه ليس بنجس. وقال الشافعي، وأبو يوسف: الصعيد الطيب التراب المنبت. انظر: المحرر الوجيز (441)، وأضواء البيان (2/ 39).
(4)
انظر: تفسير السعدي (223).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن التراب النجس لا يصح التيمم به، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله سبحانه وتعالى وصف في الآية أن التراب لابد أن يكون طيباً، ومفهوم المخالفة - مفهوم الصفة- يدل على أنه لا يصح بالنجس.
قال الجصاص- موافقاً السعدي على هذا الاستنباط-: (بطلان التيمم بالتراب النجس لقوله تعالى: {طَيِّبًا} والنجس ليس بطيب)، وممن قال بذلك أيضاً: الرازي.
(1)
عدم تقييد اليد بالذراع يدل على أن المراد بمسح اليدين هنا إلى الكوعين
.
قال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ (6)} (المائدة: 6).
190 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أن اليدين تُمسحان إلى الكوعين فقط
(2)
، لأن اليدين عند الإطلاق كذلك، فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده الله بذلك، كما قيده في
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 494)، والتفسير الكبير (11/ 137).
(2)
اختلف العلماء في قدر الممسوح على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق، وبهذا قال سعيد بن المسيّب، وعطاء ابن أبي رباح، وعكرمة، والأوزاعي، ومكحول، ومالك، وأحمد، وإِسحاق، وداود، والثاني: أنه إِلى المرفقين، وبهذا قال ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، وأبو حنيفة، والشافعي، وعن الشعبي كالقولين، والثالث: أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إِلى الآباط، وهذا قول الزهري. انظر: زاد المسير (287)، والنكت والعيون (1/ 492).
الوضوء) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن اليدين تمسحان في التيمم إلى الكوعين فقط، ووجه استنباط ذلك من الآية أن اليدين عند الإطلاق يراد بها الكوعين فقط؛ ولأنه لو أراد إلى الذراعين لقيده كما قيده في الوضوء.
الموافقون:
وافق السعدي بعض المفسرين على هذا الاستنباط، قال السيوطي:(وقد يستدل بالآية على أنه لا يجب استيعاب اليدين إلى المرفقين؛ لأنه تعالى لم يذكر ذلك كما ذكره في الوضوء)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: أبوحيان، وصديق حسن خان، والشنقيطي
(3)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، فقالوا إن الآية تدل على المسح إلى المرفقين، قال البيضاوي:(واليد اسم للعضو إلى المنكب، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ})
(4)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الجصاص، وأبو السعود، وجلال الدين المحلي، والألوسي
(5)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (223).
(2)
انظر: الإكليل (2/ 624).
(3)
انظر: البحر المحيط (3/ 270)، وفتح البيان (2/ 86)، وأضواء البيان (2/ 44).
(4)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 360).
(5)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 494)، وإرشاد العقل السليم (2/ 140)، وتفسير الجلالين (94)، وروح المعاني (3/ 43).
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في استنباط مسح اليدين إلى الكوعين من الآية هو الصحيح، ومما يؤيد هذا الاستنباط ما جاء في الصحيحين من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما، أنه قال: أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد وصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:(إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النَّبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه، وكفَّيه)
(1)
فهذا الحديث الصحيح مبين ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته
(2)
، ومما يقوي الاقتصار على الوجه والكفين في المسح، كون عمار كان يفتي بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد
(3)
.
وأما ما استدل به أصحاب القول بأن المسح إلى المرفقين، قياساً على الوضوء، فالجواب عنه: أن هذا قياس باطل، حيث أنه قياس في مقابل النص.
وأما إطلاق اليد هنا فليس بحجة؛ لأن السنة بينت المراد من هذا الإطلاق، ولا بيان فوق بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
التيمم يكون للحدث الأكبر والأصغر
.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ (6)} (المائدة: 6).
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التيمم، باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟، ح (338)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب التيمم، ح (368).
(2)
انظر: البحر المحيط (3/ 270).
(3)
انظر: أضواء البيان (2/ 44).
191 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: الآية عامة في جواز التيمم، لجميع الأحداث كلها، الحدث الأكبر والأصغر
(1)
، بل ولنجاسة البدن، لأن الله جعلها بدلاً عن طهارة الماء، وأطلق في الآية فلم يقيد، وقد يقال إن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في الأحداث وهو قول جمهور العلماء
(2)
) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن التيمم يكون للحدث الأصغر والأكبر، ووجه استنباط ذلك من الآية الإطلاق وعدم التقييد، حيث جعل التيمم بدلاً عن الماء، والبدل يحل محل المبدل عنه والماء طهارة للحدثين الأكبر والأصغر، والتيمم بدل عنه فحل محله في طهارة الحدثين.
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمهور المفسرين، قال السيوطي:(وفي الآية أنه - أي التيمم - يكون عن الحدث الأصغر والأكبر)
(4)
، وقال الشنقيطي: (أنه تعالى في سورة المائدة، صرح بالجنابة غير معبر
(1)
لم يخالف أحد من جميع المسلمين في التيمم، عن الحدث الأصغر، وكذلك عن الحدث الأكبر، إلا ما روي عن عمر، وابن مسعود، وإبراهيم النخعي من التابعين أنهم منعوه، عن الحدث الأكبر، ونقل النووي في (شرح المهذب) عن ابن الصباغ وغيره القول برجوع عمر، وعبد الله بن مسعود عن ذلك. انظر: أضواء البيان (2/ 41)، والتفسير الكبير (11/ 137).
(2)
إذا كان في بدنه نجاسة، ولم يجد الماء، هل يتيمم لطهارة تلك النجاسة الكائنة في بدنه - فيكون التيمم بدلاً عن طهارة الخبث عند فقد الماء. كطهارة الحدث - أم يتيمم لها؟ ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يتيمم عن الخبث، وإنما يتيمم عن الحدث فقط، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجوز عن النجاسة إلحاقاً لها بالحدث، واختلف أصحابه في وجوب إعادة تلك الصلاة، وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو ثور إلى أنه يمسح موضع النجاسة بتراب ويصلي، نقله النووي عن ابن المنذر. انظر: المغني (1/ 351)، وأضواء البيان (2/ 56).
(3)
انظر: تفسير السعدي (224).
(4)
انظر: الإكليل (2/ 623).
عنها بالملامسة، ثم ذكر بعدها التيمم، فدل على أن يكون عنها أيضاً حيث قال:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فهو عائد إلى المحدث، والجنب جميعاً، كما هو ظاهر)
(1)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: الطبري، والجصاص، وإلكيا الهراسي، وابن العربي، والرازي، والبيضاوي، وأبو السعود، وجلال الدين المحلي، والألوسي
(2)
.
ثم ذكر السعدي استنباطاً آخر وهو دلالة الآية على رفع نجاسة البدن، ولكنه تردد في ذلك فبعد إلحاقها بالإطلاق في الآية، تراجع عن ذلك بسبب السياق وأنه في رفع الحدث لا في إزالة النجاسة، وما ذهب إليه الجمهور من كون الآية لا دلالة فيها على دخول نجاسة البدن في التيمم هو الصحيح، لأن الآية في التيمم للحدث، وغسل النجاسة ليس في معناه؛ ولأن الغسل إزالة النجاسة، ولا يحصل ذلك بالتيمم
(3)
.
يجوز المسح في التيمم بأي شيء باليد أو بغيرها
.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ (6)} (المائدة: 6).
(1)
انظر: أضواء البيان (2/ 42).
(2)
انظر: جامع البيان (4/ 116)، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 493)، وأحكام القرآن للهراسي (2/ 233)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 464)، والتفسير الكبير (10/ 91)، وأنوار التنزيل (1/ 359)، وإرشاد العقل السليم (2/ 140)، وتفسير الجلالين (94)، وروح المعاني (3/ 41).
(3)
انظر: المغني (1/ 352).
192 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: أنه يكفي المسح بأي شيء كان، بيده أو غيرها، لأن الله قال {فَامْسَحُوا} ولم يذكر الممسوح به، فدل على جوازه بكل شيء) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز استخدام غير اليد في المسح على أعضاء التيمم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل ذكر المسح ولم يذكر الآلة التي يُمسح بها مما يدل على جواز استخدام أي آلة.
قال ابن قدامة: (فإن أوصل التراب إلى محل الفرض بخرقة أو خشبة فقال القاضي: يجزئه لأن الله تعالى أمر بالمسح ولم يعين آلته فلا يتعين، وقال ابن عقيل: فيه وجهان بناء على مسح الرأس بخرقة رطبة)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين: ابن العربي، والقرطبي.
(3)
الترتيب بين أعضاء التيمم شرط
.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ (6)} (المائدة: 6).
193 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن الأحكام: اشتراط الترتيب في طهارة التيمم
(4)
، كما يشترط ذلك في الوضوء، ولأن الله بدأ بمسح
(1)
انظر: تفسير السعدي (224).
(2)
انظر: المغني (1/ 333)، والإنصاف (1/ 286).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 468)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 230).
(4)
هذا هو مذهب الشافعية، وعند مالك أن الترتيب سنة، واختلفت الروايات عند الحنابلة ما بين السنية، والوجوب وهو أصح الروايات عندهم. انظر: الإنصاف (1/ 274)، وأضواء البيان (2/ 48).
الوجه قبل مسح اليدين) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية اشتراط الترتيب بين أعضاء التيمم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله بدأ بذكر مسح الوجه قبل اليد، مع أن اليد قبل الوجه في الترتيب الطبيعي، وهي قبله في الوضوء، فتقديم الوجه في آيتي التيمم يدل على أن الترتيب مقصود، خصوصاً إذا علمنا أن ترك الترتيب لابد أن يكون لمعنى.
وقد وافق السعدي في هذا الاستنباط بعض المفسرين منهم الشافعي
(2)
، مستدلين بتقديم الوجه على اليدين في آيتي التيمم.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، وقالوا إن الآية فيها دلالة على عدم وجوب الترتيب، قال الجصاص:(دلالة قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} على نفي إيجاب الترتيب). . . دلالة قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} على أن المقصد حصول الطهارة على أي وجه حصلت من ترتيب أوغيره)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين: محمد رشيد رضا
(4)
(1)
انظر: تفسير السعدي (224).
(2)
انظر: مختصر المزني (10).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 495).
(4)
انظر: تفسير المنار (5/ 109).
النتيجة:
الصحيح أن الآية لا دلالة فيها على اشتراط الترتيب، وغاية ما يمكن استنباطه من الآية هو دلالتها على الأفضلية فقط دون الوجوب أوالشرطية، ومما يؤيد ذلك ما جاء في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفَّيه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفِّه، ثمَّ مسح بها وجهه)
(1)
، فيكون هذا الحديث مبيناً لحكم الترتيب بين أعضاء التيمم، مما يوهي استنباط وجوب الترتيب من الآية، وأكثر العلماء على تقديم الوجه مع الاختلاف في وجوب ذلك، وسنيته
(2)
. والله أعلم.
حكمة التيه مدة أربعين سنة ليظهر جيل متربي على قهر الأعداء وعدم الاستعباد
.
قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)} (المائدة: 26).
194 -
قال السعدي رحمه الله: ({فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}، ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة) ا. هـ
(3)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التيمم، باب التيمم ضربة، ح (347).
(2)
انظر: أضواء البيان (2/ 48 - 49)، والمحرر الوجيز (441).
(3)
انظر: تفسير السعدي (228).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية حكمة التيه مدة أربعين سنة، وأن ذلك لأجل أن يموت الجيل الأول، وينشأ جيل آخر تربى على قهر الأعداء والاستعلاء على العقبات، وقد حصل ذلك فعلاً، فإن القوم قد ماتوا في أرض التيه، وقام بالواجب أبناؤهم على يد يوشع بن نون فهو الذي افتتحها
(1)
.
قال ابن خلدون: (ويظهر من مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة، فنشأت
لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب، ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: محمد رشيد رضا، والدوسري، والهرري
(3)
.
توبة المحارب بعد القدرة عليه لا تسقط عنه الحد
.
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} (المائدة: 34).
195 -
قال السعدي رحمه الله: (ودل مفهوم الآية على أن توبة
(1)
انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (8/ 371).
(2)
انظر: مقدمة ابن خلدون الفصل التاسع عشر (134).
(3)
انظر: تفسير المنار (6/ 293)، وصفوة الآثار والمفاهيم (8/ 370)، وتفسير حدائق الروح والريحان (7/ 211).
المحارب -بعد القدرة عليه- أنها لا تسقط عنه شيئاً، والحكمة في ذلك ظاهرة) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن توبة المحارب بعد القدرة عليه لا تسقط عنه شيئاً، ووجه استنباط ذلك من الآية بمفهوم المخالفة، حيث إنه قيد قبول توبة المحارب قبل القدرة عليه، ومفهومه عدم قبول توبته بعد القدرة عليه.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال السيوطي:(ومفهومه أنه لا تنفع توبته بعد القدرة عليه)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: البيضاوي، وجلال الدين المحلي، ومحيي الدين شيخ زاده، والشوكاني، والشنقيطي
(3)
.
وهذا الاستنباط فيه حث المحاربين على التوبة، حيث إنه يسقط عنهم الحد، وهذا فيه تأصيل لما يسمى اليوم بالتحفيز المناسب، حيث إن التحفيز أنواع وتتوقف جدواه على معرفة ما يحتاجه المُحفَز، وهنا تظهر حاجته إلى العفو عن الحد أكثر من أي شيء آخر.
التوبة قبل القدرة تمنع من حد الحرابة، فغيرها من الحدود أولى
.
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} (المائدة: 34).
(1)
انظر: تفسير السعدي (230).
(2)
انظر: الإكليل (2/ 632).
(3)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 434)، وتفسير الجلالين (122)، وحاشية زاده على البيضاوي (3/ 519)، وفتح القدير (2/ 46)، وأضواء البيان (2/ 93).
196 -
قال السعدي رحمه الله: (وإذا كانت التوبة قبل القدرة عليه، تمنع من إقامة الحد في الحرابة، فغيرها من الحدود
(1)
-إذا تاب من فعلها، قبل القدرة عليه- من باب أولى) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من تاب قبل القدرة عليه من العصاة، من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر فإن توبته تسقط عنه الحد، ووجه استنباط ذلك من الآية قياس الأولى، فإذا كانت توبة المحاربين تسقط عنهم الحد فمن دونهم من العصاة من باب أولى
(3)
.
الموافقون:
وافق السعدي بعض المفسرين على هذا الاستنباط، قال الشوكاني:(استثنى الله سبحانه التائبين قبل القدرة عليهم من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال، وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه عمل الصحابة)
(4)
، وممن قال بذلك من المفسرين: القرطبي
(5)
.
(1)
من تاب وعليه حد من غير المحاربين فهل تقبل توبته كتوبة المحارب؟ في مذهب الحنابلة روايتان إحداهما يسقط عنه، والأخرى عدم السقوط عنه، وذهب مالك، وأبو حنيفة، وأحد قولي الشافعي إلى عدم السقوط عنه. انظر: المغني (12/ 484)، ومعالم التنزيل (2/ 27).
(2)
انظر: تفسير السعدي (230).
(3)
انظر: تفسير آيات الأحكام في سورة المائدة للاحم (234).
(4)
انظر: فتح القدير (2/ 46).
(5)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 151).
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، وقالوا إن الآية في حد المحاربة فقط فلا تشمل غيرهم من أهل الحدود، قال السيوطي:(فيها أن توبة المحارب قبل القدرة عليه تسقط العقوبة عنه بخلاف توبة غيره من العصاة)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الجمل
(2)
(3)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه من استنباط سقوط الحدود التي هي حق لله تعالى عن من تاب قبل القدرة عليه هو الصحيح، وقياس الأولى يدل عليها، ومما يؤيد هذا الاستنباط أن في ذلك تشجيعاً للعصاة على التوبة وحثاً لهم عليها، قال الشافعي رحمه الله تعالى: ويحتمل أن يسقط كل حد لله بالتوبة، لأن ماعزاً لما رجم أظهر توبته، فلما تمموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه)
(4)
، وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى
(5)
.
(1)
انظر: الإكليل (2/ 632).
(2)
هو: أبو داود، سليمان بن عمر بن منصور العجيلي، المصري، الأزهري، الشافعي، المعروف بالجمل. مفسر، فقيه، مشارك في بعض العلوم، له مصنفات منها: الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين بالدقائق الخفية، وفتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب للرملي في فروع الفقه الحنفي، والمواهب المحمدية بشرح الشمائل الترمذية، توفي عام 1204 هـ. انظر: الأعلام (3/ 131)، ومعجم المؤلفين (4/ 271).
(3)
انظر: الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين (2/ 218).
(4)
أخرجه أبوداود في سننه، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك، ح (4419)، وصححه الألباني كما في إرواء الغليل (7/ 354).
(5)
انظر: التفسير الكبير (11/ 172).
شرع من قبلنا شرع لنا
.
197 -
قال السعدي رحمه الله: (وليعلم أن شرع من قبلنا شرع لنا
(1)
،
ما لم يرد شرعنا بخلافه) ا. هـ
(2)
(1)
هل شرع من قبلنا شرع لنا؟ أم لا؟ قال الشنقيطي: (وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرعاً لنا، إلا بدليل على النسخ هو مذهب الجمهور، منهم مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أشهر الروايتين، وخالف الإمام الشافعي رحمه الله في أصح الروايات عنه، فقال: إن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعاً لنا إلا بنص من شرعنا على أنه مشروع لنا، وحاصل تحرير المقام في مسألة " شرع من قبلنا " أن لها واسطة وطرفين، طرف يكون فيه شرعاً لنا إجماعاً، وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، ثم بين لنا في شرعنا أنه شرع لنا، كالقصاص، وطرف يكون فيه غير شرعٍ لنا إجماعاً وهو أمران:
أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلاً أنه كان شرعاً لمن قبلنا، كالمتلقي من الإسرائيليات، والثاني: ما ثبتَ في شرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا كالآصار.
والواسطة هي محل الخلاف بين العلماء، وهي ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعاً لمن قبلنا، ولمن يبيِّن لنا في شرعنا أنه مشروع لنا، ولا غير مشروع لنا، وهو الذي قدمنا أن التحقيق كونه شرعاً لنا، وهو مذهب الجمهور) انظر: أضواء البيان بتصرف يسير (2/ 64 - 68)، وانظر في هذه المسألة كذلك: الإشارات الإلهية (2/ 117)، وأحكام القرآن للهراسي (3/ 94)، والإكليل (2/ 644).
(2)
انظر: تفسير السعدي (233)، كما أن السعدي أورد هذا الاستنباط عند قوله تعالى:(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)(الأنعام: 90) فقال: (دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه، لأن هداهم ما هم عليه من العقائد والأخلاق والأعمال) انظر: فتح الرحيم للسعدي (165)، والقواعد الحسان للسعدي (10).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن شرع من قبلنا شرع لنا، مالم يرد شرعنا بخلافه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل بين لنا في هذه الآية أن هذه الأحكام هي لبني إسرائيل، ولكنها مشروعة لنا، فكونها تحكى أنها لبني إسرائيل، ونحن ملزمون بها، ففي هذا دلالة على أن شرع من قبلنا شرع لنا.
وقد وافق السعدي بعض المفسرين على هذا الاستنباط، قال ابن كثير:(وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا حكي مقررًا ولم ينسخ، كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة)
(1)
، وقد أشار بعض المفسرين إلى ذلك منهم: الرازي، والخازن، والسيوطي والشوكاني.
(2)
مناسبة تكرير النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها
.
قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ (48)} - {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ (49)} (المائدة: 48 - 49).
198 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} كرر النهي
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1180).
(2)
انظر: التفسير الكبير (12/ 7)، ولباب التأويل (2/ 49)، والإكليل (2/ 644)، وفتح القدير (2/ 57).
عن إتباع أهوائهم لشدة التحذير منها؛ ولأن ذلك في مقام الحكم والفتوى، وهو أوسع، وهذا في مقام الحكم وحده، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم المخالفة للحق فصار إتباع أهوائهم سبباً موصلاً إلى ترك الحق الواجب) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين مناسبة تكرار النهي عن اتباع الهوى، وأن مناسبة ذلك شدة التحذير، وأن النهي عن اتباع الهوى كما يكون في مقام الحكم، يكون كذلك في مقام الحكم والفتوى.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية لا تكرار فيها؛ لاختلاف المتعلق، قال صديق حسن خان:(ليس في هذه الآية تكرار لما تقدم، وإنما أنزلت فى حكمين مختلفين، أما الآية الأولى: فنزلت فى شأن رجم المحصن وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده، وهذه الآية نزلت فى شأن الدماء والديات حين تحاكموا إليه في أمر قتيل كان بينهم)
(2)
، كما أشار إلى ذلك الخازن.
(3)
وما ذهب إليه السعدي هو الأقرب حيث إن اختلاف المتعلق لا يعارض مناسبة التكرار، بل يقال إن اختلاف المتعلق قد يناسب التكرار حيث لا يظن أن النهي خاص في أحدهما دون الآخر، كما أن التكرار له مناسبة أخرى وهي شدة التحذير.
وقد يقال إن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلامهم، حينما وعدوه قد يجعله يميل إليهم استعطافاً لهم، فجاء التحذير من اتباع أهواءهم مكرراً، وأنّ مصلحةَ احترام الشّريعة بين أهلها أرجحُ من مصلحة دخول فريق في
(1)
انظر: تفسير السعدي (234).
(2)
انظر: فتح البيان (2/ 278).
(3)
انظر: لباب التأويل (2/ 52).
الإسلام، لأنّ الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفاً لمريديه
(1)
.
وفي تكريره النهي عن اتباع الهوى للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيه لمن عداه من اتباع الهوى بطريق الأولى؛ لأن الهوى من أكبر المفسدات التي تقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً، وتصد عن سبيل الله، فناسبها التكرار.
ليس من النساء نبية حتى مريم
.
قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمَّهُ صِدِّيقَةٌ (75)} (المائدة: 75).
199 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً، وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} (الأنبياء: 7)) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن النساء لم يكن منهن نبية، لامريم ولا غيرها، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله وصفها بأعلى وصف لها وهو الصديقية، ولوكان هناك وصف أعلى من ذلك لوصفها به إذ النبوة أعلى من الصديقية، مما يدل على أنها ليست بنبية، كما أن تقييد الرسل بالرجال بأسلوب الحصر يدل مفهومه على أنه ليس في النساء نبية.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (6/ 222)، وصفوة الآثار والمفاهيم (8/ 528).
(2)
انظر: تفسير السعدي (240) و (519).
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن كثير:(وقوله: {وَأُمَّهُ صِدِّيقَةٌ} أي: مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها؛ فدل على أنها ليست بنبية، كما زعمه ابن حزم وغيره، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًا إلا من الرجال، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمه الله، الإجماع على ذلك)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين: ابن عطية، والألوسي، وابن جزي الكلبي، وابن عاشور.
(2)
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط القرطبي، وقال إن الآية لا دلالة فيها على أن مريم ليست نبية، لأن كونها صديقة لا يمنع أن تكون نبية، فقال مقرراً ذلك: (وقد استدل من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى: {وَأُمَّهُ صِدِّيقَةٌ} ، قلت: وفيه نظر، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام.
(3)
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في دلالة الآية على عدم نبوة مريم هو الصحيح، فلو كان لها عليها السلام مرتبة النبوة لذكرها
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1211).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (566)، والتسهيل لعلوم التنزيل (1/ 246)، وروح المعاني (3/ 373)، والتحرير والتنوير (17/ 18).
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 235)، وقد صرح القرطبي باختياره في هذه المسألة قائلاً:(والصحيح أن مريم نبية؛ لأن الله أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين). انظر: الجامع لأحكام القرآن (4/ 84).
سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك
(1)
، ولأن القصد من وصفها بأنّها صدّيقة نفيُ أن يكون لها وصف أعلى من ذلك
(2)
، حيث إن السياق في نفي إلوهية مريم وابنها عيسى، والمقام يقتضي بيان أعلى رتبة يمكن أن يصلوا إليها فبين مقام عيسى بالنبوة، ومقام مريم بالصديقية.
تحريم الإنسان الحلال على نفسه، لا يكون به الحلال حراماً
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (المائدة: 87).
200 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت الآية الكريمة على أنه إذا حرم حلالاً عليه من طعام وشراب، وسرية وأمة، ونحو ذلك، فإنه لا يكون حراماً بتحريمه، لكن لو فعله فعليه كفارة يمين
(3)
، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية [التحريم: 1]، ويدخل في هذه الآية أنه لا ينبغي للإنسان أن يتجنب الطيبات ويحرمها على نفسه، بل يتناولها مستعيناً بها على طاعة ربه) ا. هـ
(4)
(1)
انظر: روح المعاني (3/ 373).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (6/ 285).
(3)
وهذا هو مذهب الحنابلة والحنفية، أن من حرم على نفسه حلالاً فإنه لا يحرم عليه، ولكن عليه كفارة يمين، وذهب الشافعي، ومالك إلى أن من حرم على نفسه حلالاً فإنه لا يحرم عليه ولا كفارة عليه. انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1221)، وأحكام القرآن لابن الفرس (2/ 451)، وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 122)، وأحكام القرآن للهراسي (3/ 120).
(4)
انظر: تفسير السعدي (244).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من حرم حلالاً على نفسه، فإنه لا يكون حراماً عليه بتحريمه، كما أنه لا ينبغي أن يتجنب الطيبات بل يأكلها مستعيناً بها على طاعة الله، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله نهي عن تحريم ما أحل، مما يدل على أن التحريم لا أثر له، فيبقى الحلال حلالاً لا يؤثر عليه تحريم الإنسان له.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال إلكيا الهراسي:(فيه دليل على أن العبد لا يمكنه أن يحرم على نفسه ما أحله تعالى له بعقده وقصده)
(1)
، وقال الجصاص:(وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهداً، لأن الله قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها، ويدل على أن لا فضيلة في الامتناع من أكلها)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: ابن العربي، والخازن، والرازي، وابن عاشور
(3)
.
وفي هذا الاستنباط حكمة عظيمة وهو بقاء الحلال والحرام في إطار الحفظ من الأهواء، ومن التنطعات كذلك، فربما شُوه الإسلام بتنطع مُحرم، وربما هُون الأمر بارتكاب محرم وتحليله، فلم تكن الشريعة في متناول الأهواء حتى لو فرضها الإنسان على نفسه فإن ذلك لا يغير من الحق شيئاً، بل يبقى الحلال حلالاً، ويبقى الحرام حراماً.
كما أن هنا النهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس، أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحِرمان عند عدم الوجدان، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس.
(1)
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي (3/ 120).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 565).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 122)، ولباب التأويل (2/ 71)، والتفسير الكبير (12/ 59)، والتحرير والتنوير (7/ 16).
وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصّة من أصحابه، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس، فالتطلّع إليها تعسير، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع
(1)
.
فائدة تكرار التقوى في هذه الآية ثلاث مرات
.
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} (المائدة: 93).
201 -
قال السعدي رحمه الله: (تأملت في فائدة تكرار التقوى في هذه الآية ثلاث مرات فوقع لي أحد وجهين: أحدهما، أن الأول للماضي، والثاني للحال، والثالث في المستقبل، وبيان ذلك، أن قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} أن جناح نكرة في سياق النفي فتعم الماضي والمستقبل والحال، لأنه نفي الجناح عن المؤمنين مطلقاً وهذا النفي العام لا ينطبق إلا على الأحوال الثلاثة، ويكون هذا التكرار من محترزات القرآن، التي يحترز الباري فيها عن كل حال تقدر وتمكن لأنهم لو اتقوا في الماضي أو في الحال أو فيهما دون المستقبل لم يصدق عليهم نفي الجناح، ولا بد في كل حالة من الأحوال التي تقام فيها التقوى من الإيمان والعمل الصالح ومن الإيمان والإحسان يؤيد هذا الاحتمال قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ
(1)
انظر: التحرير والتنوير (7/ 15).
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 203] فإن قوله {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} نظير قوله جناح ولما كانت هذه الآية لا يتصور فيها الماضي كما هو بين لأنه شرط وجزاء للمستقبل ويصلح للحال قال: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} يعني في الحال لمن اتقى الله فيها ثم ذكر ما يصلح للمستقبل فقال {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فإذا قرنت هذه بتلك بانت لك فائدة التكرار، وأن ذلك لأجل عموم الأزمنة.
الوجه الثاني: أن الأول في مقام الإسلام والثاني في مقام الإيمان والثالث في مقام الإحسان: والمؤمن لا تكمل تقواه حتى يترك ما حرم الله ولا يتم دينه إلا بهذه المقامات الثلاثة لأن مقام الإسلام يقتضي وجود الأعمال الظاهرة مع الإيمان والتقوى، فقال فيها:{إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ومقام الإيمان لا بد فيه من القيام بأركان الإيمان مع التقوى، فقال فيه:{ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا} ومقام الإحسان لا بد فيه من المقام بالإحسان مع التقوى، فقال فيه:{ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} فنفي الجناح العام لا يكون إلا لمن قام بمقامات الدين كلها ; وعلى هذين الوجهين ففي الآية الكريمة من بيان جلالة القرآن وعظمته وإحكام معانيه ورصانتها وعدم اختلالها واختلافها، ما يشهد به العبد أنه كلام الله حقا وصدقا وعدلا وأنه محتو على أعلى رتب البلاغة التي لا يقاربه فيها أي كلام كان، وقد يقال إن كلا الوجهين مراد، لأن اللفظ لا يأباه والمعنى مفتقر إليه ; وطريقة القرآن أن يحمل على أعم الوجوه المناسبة لأنه تنزيل من حكيم حميد، عليم بكل شيء، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية فائدة تكرار التقوى ثلاث مرات في هذه الآية، واستحسن في ذلك وجهين: أحدهما: لشمولية عموم الأزمنة،
(1)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (100).
وهي الماضي، والحاضر، والمستقبل، حتى يتم معنى نفي الجناح، إذ هو نكرة في سياق النفي فيعم كل الأزمنة.
الثاني: أن الأول في مقام الإسلام، والثاني في مقام الإيمان، والثالث في مقام الإحسان.
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذه الأوجه التي ذكرها السعدي ومنهم: ابن عطية، والرازي، وأبوحيان، والبيضاوي، والألوسي، والشوكاني.
(1)
وذهب الطبري إلى أن الفائدة في ذلك هي: أن الاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقِّي أمر الله بالقَبُول والتصديق، والدينونة به والعمَل، والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير، والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرُّب بنوافل الأعمال
(2)
.
وهناك أوجه أخرى ذكرها بعض المفسرين، منها: إن الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع، والثاني في الكبائر، والثالث في الصغائر، وقيل: إنه باعتبار المراتب الثلاث للتقوى المبدأ والوسط والمنتهى، وقيل: باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب والشبهات توقياً من الوقوع في الحرام، وبعض المباحات حفظاً للنفس عن الخسة وتهذيباً لها عن دنس الطبيعة، وقيل: إن التكرير لمجرد التأكيد، وقيل: إن التكرير باعتبار التقوى الأولى عبارة عن الاتقاء من القدح في صحة النسخ وذلك لأن اليهود يقولون النسخ يدل على البداء فأوجب على المؤمنين عند سماع تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة أن يتقوا عن هذه الشبهة الفاسدة والتقوى الثانية الإتيان بالعمل المطابق لهذه الآية وهي الاحتراز عن شرب الخمر والتقوى الثالثة عبارة عن المداومة على التقوى المذكورة في
(1)
انظر: المحرر الوجيز (576)، والتفسير الكبير (12/ 70)، والبحر المحيط (4/ 19)، وأنوار التنزيل (1/ 461)، وروح المعاني (4/ 20)، وفتح القدير (2/ 93).
(2)
انظر: جامع البيان (5/ 37).
الأولى والثانية ثم يضم إلى هذه التقوى الإحسان إلى الخلق
(1)
، وأحسن ما يمكن أن يقال في فائدة تكرير التقوى في هذه الآية هو التأكيد، حيث إن المعاني المذكورة جيدة في معانيها لكن لا مستند قوي في الآية يسندها، قال ابن عاشور:(وقد ذهب المفسّرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية)
(2)
لا يتم الهدى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} (المائدة: 105).
202 -
قال السعدي رحمه الله: (ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما، فإنه لا يتم هداه، إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم، إذا كان عاجزاً عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه، فإنه لا يضره ضلال غيره) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا دلالة في الآية على أن من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا يضره كما قد يفهم من ظاهر الآية، ووجه استنباط ذلك من الآية أن لازم الهداية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(1)
انظر: المحرر الوجيز (576)، والتفسير الكبير (12/ 70)، والبحر المحيط (4/ 19)، وفتح القدير (2/ 93).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (7/ 36).
(3)
انظر: تفسير السعدي (246).
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط جمهور المفسرين، قال ابن كثير:(وليس في الآية مسْتَدلٌّ على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكنًا)
(1)
، وقال الشنقيطي:(قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد).
(2)
وممن قال بذلك من المفسرين: الجصاص، وإلكيا الهراسي، الرازي، والقرطبي، والطوفي، والبيضاوي، وأبو السعود، والألوسي، وابن عاشور، والشوكاني.
(3)
وأجاب الألوسي عن توهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استناداً لهذه الآية مبيناً الأوجه التي تحمل عليها، فقال: (وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجيب عن ذلك بوجوه: الأول: أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال.، والثاني: أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي.، والثالث: أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفاً على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال.،
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1260).
(2)
انظر: أضواء البيان (2/ 169).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 609)، وأحكام القرآن للهراسي (3/ 169)، والتفسير الكبير (12/ 93)، والجامع لأحكام القرآن (6/ 317)، والإشارات الإلهية (2/ 139)، وأنوار التنزيل (1/ 468)، وإرشاد العقل السليم (2/ 329)، وروح المعاني (4/ 44)، والتحرير والتنوير (7/ 78)، وفتح القدير (2/ 105).
والرابع: أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة، والخامس: أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه)
(1)
.
شهادة الكفار عند عدم غيرهم مقبولة
.
203 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}
(2)
أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه، أن شهادة
(1)
انظر: روح المعاني (4/ 44 - 45).
(2)
هذه الآية من أشكل آيات القرآن، كما قال مكي بن طالب: هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً، ولأجل هذا أوردت هنا بعض الإشكالات فيها، سواء فيما يتعلق بالمحكم والمنسوخ، أوفيما يتعلق بالمعنى، وأوردت هنا ما له أثر على الاستنباط بمعنى أن صحته تؤيد الاستنباط، وعدمه يلغي الاستنباط، فمن ذلك: قوله تعالى: (منكم) فيها: قولان: أحدهما: من أهل دينكم وملتكم، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وشريح، وابن سيرين، والشعبي.
والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله الحسن، وعكرمة، والزهري، والسدي.
وقوله تعالى: {أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم. وفي قوله: "من غيركم" قولان:
أحدهما: من غير ملتكم ودينكم، قاله أرباب القول الأول، والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله أرباب القول الثاني.
فالقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة، أو من غير القبيلة لا يشك في إِحْكَامِ هذه الآية.
فأما القائل بأن المراد بقوله: {أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أهل الكتاب إِذا شهدوا على الوصيّة في السفر، فلهم فيها قولان:
أحدهما: أنها محكمة، والعمل على هذا باق، وهو قول ابن عباس، وابن المسيب، وابن جبير. وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والثوري، وأحمد في آخرين. والثاني: أنها منسوخة بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وهو قول زيد بن أسلم، وإِليه يميل أبوحنيفة، ومالك، والشافعي، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول، والأول أصح، لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال. انظر: زاد المسير (415 - 416)، والتفسير الكبير (12/ 95)، والمحرر الوجيز (589)، والجامع لأحكام القرآن (6/ 324).
الكفار -عند عدم غيرهم، حتى في غير هذه المسألة- مقبولة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قبول شهادة الكفار مطلقاً عند عدم غيرهم من المسلمين، ووجه استنباط ذلك من الآية القياس على قبول شهادتهم في الوصية للضرورة في السفر والضرورة فقدان المسلمين وهي العلة الجامعة، ومن هنا جوز استشهاد الكفار في مثل هذه الحالة، وهي حالة فقدان المسلمين والاحتياج للشهادة.
وقد وافق السعدي شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الاستنباط، فقال:(وقول أحمد أقبل شهادة أهل الذمة إذا كانوا في سفر ليس فيه غيرهم هذه ضرورة يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضراً وسفراً وصية وغيرها)
(3)
.
وهذا الاستنباط صحيح ويؤيده الضرورة هنا، لأنه بفوات الشهادة قد
(1)
انظر: تفسير السعدي (247).
(2)
انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 576).
(3)
انظر: المصدر السابق.
تفوت حقوق على الإنسان أوله، فشهادة كافر مؤتمن أخف هنا من ضياع هذا الحق.
جواز سفر المسلم مع الكافر
.
204 -
قال السعدي رحمه الله: (جواز سفر المسلم مع الكافر إذا لم يكن محذور) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز السفر مع الكافر، ووجه استنباطه من الآية أن الله عز وجل ذكر في الآية جواز استشهاد المسلم الكافر في الوصية إذا كانا في السفر ولم يوجد مسلمين، وهذا يلزم منه أنهما كانا جميعاً في سفر، فدلالة الآية على ذلك باللزوم فحيث جاز استشهاده لزم من ذلك أنهما كانا مسافرين معاً.
ومما يؤيد استنباط هذا المعنى من هذه الآية أن عدم التنبيه عليه فيه دلالة على الجواز، إ ذ لم يذكر في القرآن شيء يحتاج إلى تنبيه إلا وسبقه تنبيه أو لحقه، فعدم التنبيه هنا على سفر المسلم مع الكافر دليل على الجواز، وأما كونه لا يكون فيه محذور فمأخوذ من أدلة عامة من الشريعة.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما روته عائشة رضي الله عنها فقالت: (واستأجر النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل ثم من بني عبد بن
(1)
انظر: تفسير السعدي (247).
عدى هادياً خريتاً - الخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما، صبيحة ليال ثلاث، فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة، والدليل الديلى فأخذ بهم أسفل مكة وهو طريق الساحل)
(1)
، قال ابن حجر بعد شرحه لهذا الحديث:(وفي الحديث استئجار المسلم الكافر على هداية الطريق إذا أمن إليه، واستئجار الاثنين واحداً على عمل واحد)
(2)
.
ففي هذا الحديث دلالة على جواز السفر مع الكافر، حيث إنه ارتحل معهم الرجل الدليل وهو مشرك، حيث لم يوجد أحد من أهل الإسلام
(3)
.
مناسبة وعظ الحواريين بالتقوى
.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبَّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)} (المائدة: 112).
205 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافياً للانقياد للحق، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك، وعظهم عيسى عليه السلام فقال: {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)} فإن المؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى، وأن
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام، ح (2263).
(2)
انظر: فتح الباري (4/ 518).
(3)
انظر: عمدة القارئ شرح صحيح البخاري (12/ 122).
ينقاد لأمر الله، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئاً) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة وعظ عيسى عليه السلام الحواريين وتذكيرهم التقوى، وهو أن هذا السؤال لا يصدر إلا عن من لا ينقاد للحق، فناسب وعظهم بالتقوى التي تحمل على الانقياد لأوامر الله سبحانه وتعالى.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر لهذه المناسبة وهو تذكيرهم التقوى التي تكون سبباً في الحصول على المطلوب.
قال الرازي: (ثم قال تعالى: {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)} وفيه وجهان: الأول: قال عيسى اتقوا الله في تعيين المعجزة، فإنه جار مجرى التعنت والتحكم، وهذا من العبد في حضرة الرب جرم عظيم، ولأنه أيضاً اقتراح معجزة بعد تقدم معجزات كثيرة، وهو جرم عظيم، الثاني: أنه أمرهم بالتقوى لتصير التقوى سبباً لحصول هذا المطلوب)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين: أبوحيان، والبقاعي، والألوسي، والشوكاني
(3)
.
وأشار بعض المفسرين إلى أن مناسبة الوعظ هنا ليس لأنهم شاكين، ولكن لبشاعة اللفظ
(4)
والذي يظهر أن مناسبة التذكير بالتقوى في هذه الآية هو تذكيرهم
(1)
انظر: تفسير السعدي (248).
(2)
انظر: التفسير الكبير (12/ 108).
(3)
انظر: البحر المحيط (4/ 57)، ونظم الدرر (2/ 570)، وروح المعاني (4/ 57)، وفتح القدير (2/ 116).
(4)
انظر: المحرر الوجيز (596).
بالتقوى لأنها سبب حصولهم على المطلوب، وهذا مؤيد بقراءة "هل تستطيع" بالتاء
(1)
، أي أن تدعو ربك وتسأل ربك، فناسب هنا تذكيرهم بما يعين على إجابة هذه الدعوة.
وكذلك تكون مناسبة التذكير بالتقوى هنا لبشاعة اللفظ، لا أنهم شاكين في القدرة، وهذا مؤيد بقراءة "هل يستطيع" بالياء
(2)
.
أما ما ذهب إلي السعدي من كون المناسبة هنا عدم الانقياد لأوامر الله، فهو مستبعد لكون الحواريين مؤمنين، قال ابن عطية:(لا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين)
(3)
، وعدم الانقياد بعيد عن مثلهم. والله أعلم.
مناسبة ختم الآية بـ {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
.
قال تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} (المائدة: 118).
206 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما قول عيسى عليه السلام {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} ولم يقل: أنت الغفور الرحيم، لأن المقام ليس مقام استعطاف واسترحام، إنما هو مقام غضب وانتقام ممن اتخذه وأمه إلهين من دون الله، فناسب ذكر العزة والحكمة، وصار أولى من ذكر الرحمة والمغفرة) ا. هـ
(4)
(1)
قرأ الكسائي "هل تستطيع" بالتاء "ربك" بنصب الباء وهو قراءة علي وعائشة وابن عباس ومجاهد. انظر: معالم التنزيل (2/ 63)، والمحرر الوجيز (596).
(2)
وقرأ السبعة عدا الكسائي "هل يستطيع" بالياء و "ربك" برفع الباء. انظر: معالم التنزيل (2/ 63)، والمحرر الوجيز (596).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (597).
(4)
انظر: القواعد الحسان للسعدي (41).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ختم الآية بالاسمين العظمين لله وهما: "العزيز الحكيم"وأن مناسبة ختم الآية بهما أن المقام مقام غضب وانتقام ممن أتخذ عيسى وأمه إلهين من دون الله، فناسب ذكر العزة والحكمة.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر لهذه المناسبة وهي: إن ذكرهما من باب الاحتراس لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة، أو لإهمال ينافي الحكمة فدفع توهم ذلك بذكرهما، أي بذكر هاذين الاسمين فناسب الختم بهما، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين: ابن عطية، وأبوالسعود، والبقاعي، والألوسي، وابن عاشور
(1)
.
والقول بأن المناسبة هنا هي أن المغفرة تكون بعزة لا عجز فيها، وحكمة لا إهمال فيها، هو الأحسن من المناسبات؛ إذ مقام التعظيم يقتضي ذلك، والمقام هنا مقام تعظيم لله من عيسى عليه الصلاة والسلام، بالاعتراف بأن الله هو الإله دون غيره من الخلق، وأما أصحاب مقالة
تأليه عيسى وأمه من دون الله، فهؤلاء أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم مغفرة العزيز الحكيم.
(1)
انظر: المحرر الوجيز (599)، وإرشاد العقل السليم (2/ 345)، ونظم الدرر (2/ 576)، وروح المعاني (4/ 66)، والتحرير والتنوير (7/ 117).
سورة الأنعام
مناسبة جمع الظلمات، وإفراد النور
.
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} (الأنعام: 1).
207 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}
(1)
وذكر الله الظلمات بالجمع، لكثرة موادها وتنوع طرقها، ووحد النور لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة لا تعدد فيها، وهي: الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به) ا. هـ
(2)
(1)
ما ذهب إليه السعدي من مناسبة إفراد النور، وجمع الظلمة في هذه الآية بناء على أن معنى الظلمة والنور هنا معنى عام يشمل المعنى الحسي ظلمة الليل، ونور النهار، والمعنى المعنوي فيراد بالظلمة الكفر والجهل، وبالنور الإيمان والعلم، والذي عليه جمهور المفسرين أن المراد بالظلمة والنور في هذه الآية ظلمة الليل، ونور النهار، قال ابن عطية:(وقال السدي وقتادة والجمهور من المفسرين: {الظُّلُمَاتِ} الليل و {النُّورِ} النهار، وقالت فرقة: {الظُّلُمَاتِ} الكفر و {النُّورِ} الإيمان، قال القاضي أبو محمد: وهذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق اللغز الذي برئ القرآن منه) انظر: المحرر الوجيز (601)، ومعالم التنزيل (2/ 68)، وفتح القدير (2/ 124).
(2)
انظر: تفسير السعدي (250).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة جمع الظلمات، وإفراد النور في هذه الآية، وأن مناسبة ذلك أن الظلمات كثيرة الموارد متعددة الطرق بمعنى طرق الضلال كثيرة فناسب جمعها، بينما طريق الحق واحدة فناسب إفرادها.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين منهم: جلال الدين المحلي، والبقاعي، والشوكاني.
(1)
بينما ذهب ابن كثير إلى أن مناسبة ذلك هو كون النور أشرف
(2)
، وأشار الألوسي إلى أن المناسبة هنا هي حسن التقابل مع قوله تعالى:(خلق السماوات والأرض)
(3)
، وذهب الزمخشري، وابن عطية إلى أن المناسبة هنا إرادة الجنس فإفراده بمثابة جمعه.
(4)
وذهب ابن عاشور إلى أن المناسبة هنا اتباعاً للاستعمال، خلافاً لما ذهب إليه الزمخشري، فقال:(وإنّما جُمع {الظُّلُمَاتِ} وأفرد {النُّورِ} اتّباعاً للاستعمال، لأنّ لفظ {الظُّلُمَاتِ} بالجمع أخفّ، ولفظ {النُّورِ} بالإفراد أخفّ، ولذلك لم يرد لفظ {الظُّلُمَاتِ} في القرآن إلاّ جمعاً ولم يرد لفظ {النُّورِ} إلاّ مفرداً، وهما معاً دالاّن على الجنس، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع فلم يبق للاختلاف سبب لاتّباع الاستعمال، خلافاً لما في "الكشاف")
(5)
.
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو أحسن وأقرب المناسبات؛ إذ جمع الظلمات هو المناسب لها سواء كانت الظلمة الحسية لتعددها،
(1)
انظر: فتح القدير (2/ 124)، ونظم الدرر (2/ 579)، وتفسير الجلالين (137).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1283).
(3)
انظر: روح المعاني (4/ 79).
(4)
انظر: الكشاف (318)، والمحرر الوجيز (601).
(5)
انظر: التحرير والتنوير (7/ 127).
وسواء كانت الظلمة المعنوية فطرق الظلال كثيرة، وكذلك إفراد النور لمناسبة كونه شيء واحد سواء كان حسياً فالنور واحد ليس بمتعدد، وكذلك إن كان معنوياً فالحق والهدى واحد وليس بمتعدد.
ذم الخوض بالباطل فيه دلالة على مدح البحث والمناظرة بالحق
.
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ شَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (68)} (الأنعام: 68)
208 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي. . .} الآية
(1)
، وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية الحث على البحث والنظر، والمناظرة بالحق، ووجه استنباط ذلك من الآية بمفهوم المخالفة، حيث إن النهي عن مجالسة أهل الباطل الذين يخوضون في آيات الله حتى يخوضوا في حديث غيره دال بمفهوم المخالفة - مفهوم الغاية- إنه متى كان الخوض في حديث ليس بباطل فلا بأس في ذلك، بل شدة النهي عن مجالسة أهل الباطل تدل على الحث الشديد على مجالسة أهل الحق.
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً أن {إِذَا} تفيد التكرار لحرمة القعود مع الخائض كلما خاض، ونظر فيه بأن التكرار ليس من إذا بل من ترتب الحكم على مأخذ الاشتقاق. انظر: روح المعاني (4/ 172).
(2)
انظر: تفسير السعدي (260).
وفي هذا الاستنباط حث على المحاورة ومعرفة ما عند الآخرين، كي يتعلم الإنسان ويستفيد من تجارب غيره، ويتقي الأخطاء التي وقع فيها الآخرون.
كما أن في هذا الاستنباط إشارة إلى ما أطلق عليه اليوم فن الاستماع للآخرين، ومحاولة فهمهم، لأن هذا لا يتحقق بدون المناظرة بحق.
إذا كان الوعظ يزيد الموعوظ شراً إلى شره، فترك الوعظ أولى
.
قال تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)} (الأنعام: 69).
209 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكِّرُ من الكلام، ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى، وفيه دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ، مما يزيد الموعوظ شراً إلى شره، إلى أن تركه هو الواجب؛ لأنه إذا ناقض المقصود، كان تركه مقصوداً) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الوعظ إذا كان يزيد الموعوظ شراً فإن تركه واجب، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله بين لنا في هذه الآية غاية الوعظ وهو حصول التقوى، فدل مفهومه أنه إذا كان سيترتب عليه ضد المقصود فتركه واجب، حيث إن الوعظ مع حصول المقصود
(1)
انظر: تفسير السعدي (261).
واجب، وتركه مع حصول ضد المقصود واجب.
ومما يؤيد ما ذهب إليه السعدي أن الشريعة مبنية على تحصيل المصالح ودرء المفاسد، كما أنها قائمة على تحقيق المقاصد الشرعية التي تهدف وراءها من النصح والإرشاد، فإذا كان الأمر سيأتي بمفاسد ولن يحقق المقاصد الشرعية فتركه حينئذ هو الواجب.
النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم
.
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} (الأنعام: 90).
210 -
قال السعدي رحمه الله: ({أُولَئِكَ} المذكورون {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} أي: امش -أيها الرسول الكريم- خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار، واتبع ملتهم وقد امتثل صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدي الرسل قبله، وجمع كل كمال فيهم. فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد المرسلين، وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وبهذا الملحظ، استدل بهذه من استدل من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل الرسل كلهم
(1)
). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالرسل
(1)
بعد البحث في كتب التفسير بالمأثور لم أعثر على من قال بذلك من الصحابة. والله أعلم.
(2)
انظر: تفسير السعدي (264).
جميعاً فامتثل وجمع كل كمال فيهم فاجتمعت فيه فضائل جعلته أفضل الرسل.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الألوسي: (ويكون في الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل منهم قطعاً لتضمنها أن الله تعالى هدى أولئك الأنبياء عليهم السلام إلى فضائل الأخلاق وصفات الكمال وحيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم جميعاً امتنع للعصمة أن يقال: إنه لم يمتثل فلا بد أن يقال:
إنه عليه الصلاة والسلام قد امتثل وأتى بجميع ذلك وحصل تلك الأخلاق الفاضلة التي في جميعهم فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقاً فيهم وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعاً كما أنه أفضل من كل واحد منهم وهو استنباط حسن)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الرازي، والطوفي، والخازن، وحقي، وابن عاشور، ومحمد رشيد رضا، والهرري.
(2)
الروح جسم يدخل ويخرج، ويُخَاطَب، ويُسَاكِن الجسد ويفارقه
.
قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ (93)} (الأنعام: 93).
211 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيه دليل، على أن الروح جسم
(3)
، يدخل ويخرج، ويخاطب، ويساكن الجسد، ويفارقه، فهذه
(1)
انظر: روح المعاني (4/ 205).
(2)
انظر: التفسير الكبير (13/ 58)، والإشارات الإلهية (2/ 182)، ولباب التأويل (2/ 133)، وروح البيان (3/ 66)، والتحرير والتنوير (7/ 356)، وتفسير المنار (7/ 517)، وتفسير حدائق الروح والريحان (8/ 461).
(3)
واختلف في الروح: ما هي؟ قيل: هي جسم، وقيل: عرض، وقيل: لا ندري ما =
حالهم في البرزخ). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الروح جسم، ووجه استنباط ذلك من الآية وصفها بالخروج والإخراج، وهذا يلزم منه أن يكون الخارج جسماً فلو كان عرضاً لما صح وصفه بذلك.
وقد وافق السعدي بعض المفسرين في هذا الاستنباط، قال ابن القيم-في معرض ذكره أدلة الفرق بين الروح والجسد- فعند ذكره لهذه الآية بين وجوه الاستدلال منها فقال: (وفيها
أربعة أدلة: أحدها بسط الملائكة أيديهم لتناولها، والثاني وصفها بالإخراج والخروج، والثالث الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم،
= الروح، أجوهر أم عرض؟ وقيل: ليس الروح شيئاً أكثر من اعتدال الطبائع الأربع، وقيل: هي الدم الصافي الخالص من الكدرة والعفونات، وقيل: هي الحرارة الغريزية، وهي الحياة، وقيل: هو جوهر بسيط منبعث في العالم كله من الحيوان، على جهة الإعمال له والتدبير، وهي على ما وصفت من الانبساط في العالم غير منقسمة الذات والبنية، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير، وقيل: النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس، وقيل غير ذلك، والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل: أن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي، خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم اللطيف ساريا في هذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار، من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه، بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح. انظر: الروح لابن القيم (422)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (564 - 565)، وانظر كذلك مجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 216 - 231).
(1)
انظر: تفسير السعدي (265) و (726).
والرابع الإخبار عن مجيئها إلى ربها فهذه سبعة أدلة)
(1)
، وممن أشار إلي ذلك من المفسرين: الرازي
(2)
.
مشروعية تعلم علم التسيير
.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرُ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)} (الأنعام: 97).
212 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت هذه الآية ونحوها، على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحالّها الذي يسمى علم التسيير
(3)
، فإنه لا تتم الهداية ولا تمكن إلا بذلك). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مشروعية تعلم علم التسيير، ووجه استنباطه من الآية أن الله عز وجل ذكر النجوم على وجه الامتنان، وبين أن فيها منفعة وهي الاهتداء، والاهتداء بالنجوم لا يمكن أن يكون إلا بالتعلم، فدلت دلالة الالتزام أن تعلم التسيير مشروع إذ لازم الاهتداء التعلم.
قال ابن رجب: (وأما علم التسيير، فتعلم ما يحتاج إليه للاهتداء،
(1)
انظر: كتاب الروح لابن القيم (422).
(2)
انظر: التفسير الكبير (13/ 70).
(3)
علم التسيير: هو الاستدلال بالشمس والقمر والكواكب على القبلة والأوقات والجهات، فهذا النوع لا بأس به، بل كثير منه نافع قد حث عليه الشارع، إذا كان وسيلة إلى معرفة أوقات العبادات، أو إلى الاهتداء به في الجهات). انظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد (32).
(4)
انظر: تفسير السعدي (266).
ومعرفة القبلة، والطرق جائز عند الجمهور)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الألوسي
(2)
.
إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة
.
قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} (الأنعام: 103).
213 -
قال السعدي رحمه الله: ({لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لعظمته، وجلاله وكماله، أي: لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم، فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم، فإنه إذا نفى الإدراك، الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة.
فإنه لو أراد نفي الرؤية، لقال "لا تراه الأبصار" ونحو ذلك، فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة
(3)
، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة عقدية وهي إثبات رؤية الله في
(1)
انظر: فضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب (34).
(2)
انظر: روح المعاني (4/ 221).
(3)
وهم المعتزلة الذين ينفون الرؤية، وسيأتي في صلب الدراسة أوجه الاستدلال التي استدلوا بها من هذه الآية، وكيفية الرد عليها، بإذن الله.
(4)
انظر: تفسير السعدي (266)، كما أن السعدي استنبط هذه المسألة من آية المطففين وهي قوله تعالى:(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)، فقال:(ودل مفهوم الآية، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة). انظر: تفسير السعدي (916).
الآخرة، والرد على نفاة الرؤية، ووجه استنباط ذلك من الآية أن نفي الإدراك الذي هو أخص أوصاف الرؤية يدل مفهومه أن الرؤية ممكنة، فلما كان النفي متعلقاً بالإدراك، دل مفهومه أن الرؤية ممكنة.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمهور المفسرين، قال البغوي:(وأما قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} علم أن الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو: الوقوف على كُنهِ الشيء والإحاطة به، والرؤية: المعاينة، وقد تكون الرؤية بلا إدراك، فالله عز وجل يجوز أن يُرى من غير إدراك)
(1)
، وقال ابن كثير:(وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: ابن عطية، والرازي، وأبوحيان، والبيضاوي، وأبوالسعود، والألوسي، والشنقيطي.
(3)
المخالفون:
خالف المعتزلة فقالوا إن الآية تدل على نفي الرؤية، ووجه استنباط ذلك من الآية عندهم:
أولاً: أن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين أدركته ببصري ورأيته إلا في اللفظ أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه، فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام
(1)
انظر: معالم التنزيل (2/ 99).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1340).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (651)، والتفسير الكبير (13/ 102)، والبحر المحيط (4/ 198)، وأنوار التنزيل (1/ 509)، وإرشاد العقل السليم (2/ 424)، وروح المعاني (4/ 231)، وأضواء البيان (2/ 206).
المبالغة في جميع الأوقات
(1)
.
ثانياً: ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى حيث ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحاً كان وجوده نقصاً يجب تنزيه الله تعالى عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته سبحانه
(2)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه من جمهور المفسرين هو الصحيح، لقوة دلالة الآية عليه، فمفهوم المخالفة يدل على إثيات الرؤية، كما أن نفي الإدراك لا يعني نفي الرؤية؛ لأن نفي الأخص لا يلزم منه نفي الأعم، وكذلك السياق سياق مدح، فإثبات الرؤية هو المناسب لهذا السياق، إذ نفي الرؤية مطلقاً ليس من المدح لاشتراكه مع المعدومات، والنفي في صفات الله يتضمن مدحاً، فوجب أن يكون هنا هو إثبات الرؤية.
وأما ما استدل به المعتزلة فالجواب عليه كالآتي:
الأول: أن الإدراك ليس هو الرؤية المطلقة، وإنما هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بها في أحد تفسيريه، وإليه ذهب الكثير من أئمة اللغة وغيرهم. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقاً من الرؤية المطلقة ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فظهر صحة أن يقال: رأيته وما أدركه بصري أي ما أحاط به من جوانبه وإن لم يصح عكسه
(3)
.
ثانياً: لوكان المراد بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} إنه لا يرى بحال، لم يكن في ذلك مدح ولا كمال، لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن
(1)
انظر: التفسير الكبير (13/ 103)، وروح المعاني (4/ 231).
(2)
انظر: التفسير الكبير (13/ 104)، وروح المعاني (4/ 231).
(3)
انظر: روح المعاني (4/ 231).
العدم الصرف لا يرى، ولا تدركه الأبصار، والرب جل جلاله يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض.
(1)
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يمتنع أن يفيد المدح والثناء إلا إذا دل على معنى موجود يفيد المدح والثناء، وهو عدم الإدراك والإحاطة لا نفي الرؤية، وبهذا التقرير فإن الكلام ينقلب عليهم حجة فسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية من كل الوجوه
(2)
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط وهو إثبات الرؤية في الآخرة، قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى وإلا لم يكن بينهما فرق
(3)
.
وكذلك حديث جرير بن عبد الله البجلي، قال:(كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: "إنكم سترون ربكم عياناً، كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته)
(4)
، وهذا الحديث صريح الدلالة على إثبات الرؤية.
الوسائل لها أحكام المقاصد
.
قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا
(1)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (1/ 361)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (214).
(2)
انظر: التفسير الكبير (13/ 106).
(3)
انظر: لمعة الاعتقاد لابن قدامة (86).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، ح (554)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، ح (633).
بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} (الأنعام: 108).
214 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية الكريمة
(1)
، دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية، وهي أن الوسائل لها أحكام المقاصد، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الوسائل التي تؤدي المحرم محرمة ولو كانت في ذاتها جائزة، فسب آلهة المشركين جائز في ذاته، ولكنه ممنوع هنا لأنه يؤدي إلى محرم آخر وهو سب المشركين لله سبحانه وتعالى.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الألوسي:(واستدل بالآية على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر)
(3)
، وقال ابن العربي:(فمنع الله تعالى في كتابه أحداً أن يفعل فعلاً جائزاً يؤدي إلى محظور)
(4)
، وقال ابن القيم: (وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز؛ لئلا يكون سبباً في فعل مالا
يجوز)
(5)
،
(1)
ذكر السيوطي استنباطاً آخر في هذه الآية فقال: (وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى، وكذا كل فعل مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه). انظر: الإكليل (2/ 709).
(2)
انظر: تفسير السعدي (269)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (88).
(3)
انظر: روح المعاني (4/ 237).
(4)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 226).
(5)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (1/ 362).
وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، والطوفي، والبيضاوي، وأبوالسعود، وابن عاشور، والشوكاني.
(1)
وهذا الاستنباط يبين عظم هذا الدين وسعيه لتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، وأن الآمر والناهي، ومن يتعرض لمناقشة الناس لابد أن يكون على فقه ودراية بما يحقق المصلحة، وتجنب ما يمكن أن يؤدي إلى مفسدة ولوكان ذلك جائزاً.
كما أن فيه إشارة إلى استخدام ما يقرب المدعو إلى الإسلام والحق، والبعد عن الأمور التي يكون في إثارتها تنفير وإبعاد عن الحق.
لا يستدل على الحق بكثرة أهله
.
قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} (الأنعام: 116).
215 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت هذه الآية، على أنه لا يستدل على الحق، بكثرة أهله، ولا يدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق، بل الواقع بخلاف ذلك، فإن أهل الحق هم الأقلون عدداً، الأعظمون -عند الله- قدراً وأجراً، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه). ا. هـ
(2)
(1)
انظر: التفسير الكبير (13/ 115)، والإشارات الإلهية (2/ 191)، وأنوار التنزيل (1/ 511)، وإرشاد العقل السليم (2/ 426)، والتحرير والتتوير (7/ 431)، والشوكاني (2/ 190).
(2)
انظر: تفسير السعدي (270).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الحق لا يقاس بكثرة أهله، كما أن قلة السالكين لأمر من الأمور لا يعني أنه باطل، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل بين في الآية أنه لو اتبع أكثر من في الأرض لكان سبباً في ضلاله إذ الآية تقتضي أنّ أكثر أهل الأرض ضالّون بطريق الالتزام لأنّ المهتدي لا يُضِلّ مُتبعه
(1)
، فمفهوم المخالفة للفظ أكثر يدل على أن الأقل هم أهل الهداية.
وقد بين الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في مسائل الجاهلية أن الاستدلال بالكثرة على الحق، والاستدلال بالقلة على الباطل من المسائل التي خالف فيها النبي صلى الله عليه وسلم ما كان عليه أهل الجاهلية فقال:(أن من أكبر قواعدهم الاغترار بالأكثر، ويحتجون به على صحة الشئ، ويستدلون على بطلان الشئ بغربته وقلة أهله، فأتتهم الآيات بضد ذلك، وأوضحه في غير موضع من القرآن)
(2)
.
وهذا الاستنباط مؤيد بالواقع فإن أهل الحق في كل زمن هم الأقل، ولكنهم هم الأكثر تأثيراً، بل المتأمل للتأريخ يجد أن أكثر صناع الحق هم الأقل أما الكثرة فتابعة فقط.
وفي هذا الاستنباط تأنيس لأهل الحق خصوصاً في زمن الفتن والتفات عامة الناس عن الحق والزهد فيه.
كما أن فيه تثبيتاً لأهل الحق في زمن هم قلة فيه، والكثرة والغلبة لغيرهم.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (8/ 25).
(2)
انظر: مسائل الجاهلية لمحمد بن عبدالوهاب (67).
الأصل في الأطعمة الإباحة
.
216 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت الآية الكريمة
(1)
، على أن الأصل في الأشياء والأطعمة الإباحة
(2)
، وأنه إذا لم يرد الشرع بتحريم شيء منها، فإنه باق على الإباحة، فما سكت الله عنه فهو حلال، لأن الحرام قد فصله الله، فما لم يفصله الله فليس بحرام). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية، وهي أن الأصل في الأطعمة الإباحة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أنكر على من لم يأكل مما ذكر اسم الله عليه، وبين أن المحرم قد فصله وبينه، مما يدل على أن غير المحرم حلال، فالأصل الحل أما المحرم فقد تم بيانه وتفصيله.
وقد وافق السعدي بعض المفسرين على هذا الاستنباط، قال الألوسي: ({وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، بقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية فبقي ما عدا ذلك
(1)
ذكر الرازي استنباطاً آخر من هذه الآية فقال: (دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام). انظر: التفسير الكبير (13/ 136).
(2)
الأصل في الأطعمة الإباحة ما لم يرد التحريم. انظر: موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (2/ 119).
(3)
انظر: تفسير السعدي (271) و (367).
على الحل)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين: أبوالسعود، وجلال الدين المحلي
(2)
.
إلهامات الصوفية لاتدل بمجردها على أنها حق أوباطل حتى تعرض على الكتاب والسنة
.
قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ (121)} (الأنعام: 121).
217 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت هذه الآية الكريمة على أن ما يقع في القلوب من الإلهامات والكشوف
(3)
، التي يكثر وقوعها عند الصوفية
(4)
ونحوهم، لا تدل -بمجردها على أنها حق، ولا تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله.
(1)
انظر: روح المعاني (4/ 259).
(2)
انظر: إرشاد العقل السليم (2/ 437)، وتفسير الجلالين (152).
(3)
يعتمد الصوفية الكشف مصدراً وثيقاً للعلوم والمعارف، ويدخل تحت الكشف عندهم جملة من الأمور منها: النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون به الأخذ عنه يقضة ومناماً، والفراسة والتي تختص بمعرفة خواطر النفوس وأحاديثها، والهواتف من سماع الخطاب من الله أو من الملائكة أو أحد الأولياء، والرؤى والمنامات التي يزعمون فيها التلقي عن الله تعالى أوعن رسوله لأخذ حكم شرعي، فالمقصود أنهم يستخدمون طريقة الكشف فلا يعتبر ما أخذوه صحيحاً حتى يعرض على كتاب الله وسنة رسوله؛ لأن بعض الكشوف غير صحيح. انظر: الموسوعة الميسرة (1/ 265).
(4)
الصوفية هي: حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم ازداد الأمر حتى وصل إلى حد الانحراف حيث انتقل الزهد إلى مستوى الكلام النظري، والتأمل التجريدي، فظهرت مصطلحات الوحدة، والفناء، والاتحاد، والحلول، والكشف، ونحو ذلك، وشاع عندهم التفرقة بين الشريعة والحقيقة فسموا أنفسهم أرباب الحقائق وأهل الباطن، ومن سواهم أهل الظاهر والرسوم، ويمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية للطرق الصوفية. انظر: الموسوعة الميسرة (1/ 253).
فإن شهدا لها بالقبول قبلت، وإن ناقضتهما ردت، وإن لم يعلم شيء من ذلك، توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب، لأن الوحي والإلهام، يكون من الرحمن ويكون من الشيطان، فلا بد من التمييز بينهما والفرقان، وبعدم التفريق بين الأمرين، حصل من الغلط والضلال، ما لا يحصيه إلا الله). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الإلهامات والكشوف التي تكون عند الصوفية، لا تدل على أنها حق بمجرد ادعاء وقوعها؛ لأن الوحي منه ما هو من الرحمن ومنه ما هو من الشيطان، والميزان المميز لذلك هو الكتاب والسنة فهما الميزان لما هو من عند الرحمن ولما هو من وحي الشيطان، فدل ذلك على أن كشوفات وإلهامات الصوفية لا بد فيها من التبين، فلا يعني إدعاء الوحي أنها صحيحة مطلقاً؛ إذ قد تكون من وحي الشيطان.
وهذا الاستنباط نافع لمن اغتر ببعض الكشوفات والإلهامات الباطلة، فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة حتى يميز بين الحق والباطل.
وهذا فيه بيان عظمة هذا الدين، وجانب من حمايته، فلا يكون لعبة في أيدي المغرضين الذين يلعبون بعقول بعض البسطاء من العامة.
كما أن في بيان هذا الميزان رد على من يطعن في هذا الدين بسبب بعض التصرفات الغير شرعية من مثل أصحاب الكشوف، ففي تقييد قبول ذلك بموافقة الكتاب والسنة حماية من هذا الطعن، وتسفيه لأصحاب هذا الفعل من أهل الإسلام قبل غيرهم.
(1)
انظر: تفسير السعدي (271).
مناسبة تخصيص النخل والزرع بالذكر
.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ (141)} (الأنعام: 141).
218 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَ} أنشأ تعالى {النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} أي: كله في محل واحد، ويشرب من ماء واحد، ويفضل الله بعضه على بعض في الأكل، وخص تعالى النخل والزرع على اختلاف أنواعه لكثرة منافعها، ولكونها هي القوت لأكثر الخلق). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي مناسبة تخصيص النخل والزرع بالذكر مع دخولهما في عموم الجنات، وقال إن مناسبة هذا التخصيص هو كونها كثيرة المنافع، ولأنها قوت أكثر الخلق.
وقد أشار بعض المفسرين إلى نحو ذلك، فقال أبوحيان:(والظاهر دخول {وَالنَّخْلَ} وما بعده في قوله: {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} فاندرج في {جَنَّاتٍ} وخص بالذكر وجرد تعظيماً لمنفعته والامتنان به)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك أيضاً: البقاعي، ومحمد رشيد رضا
(3)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر وهو أن مناسبة التخصيص لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات، قال محيي الدين شيخ زاده:(وأفرد النخل والزرع بالذكر وهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنان)
(4)
، وممن قال بذلك أيضاً:
(1)
انظر: تفسير السعدي (276).
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 238).
(3)
انظر: نظم الدرر (2/ 727)، وتفسير المنار (8/ 120).
(4)
انظر: حاشية زاده على البيضاوي (4/ 157).
القرطبي، والشوكاني
(1)
.
وكلا المناسبتين واردة هنا فالتخصيص بالذكر لكونه الأنفع فيعظم الامتنان به، ولفضله على سائر النباتات التي في الجنات. والله أعلم.
الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح حلال
.
قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا (145)} (الأنعام: 145).
219 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} وهو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذكاتها، فإنه الدم الذي يضر احتباسه في البدن، فإذا خرج من البدن زال الضرر بأكل اللحم، ومفهوم هذا اللفظ، أن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح، أنه حلال طاهر). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الدم الذي يبقى في العروق واللحم ليس بمحرم، ووجه استنباط ذلك من الآية من قوله مسفوحاً، فدل مفهوم المخالفة - مفهوم الصفة - أن ما ليس بمسفوح فليس بمحرم.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط كثير من المفسرين، قال الطبري: (وفي اشتراطه جل ثناؤه في الدم عند إعلامه عبادَه تحريمه إياه، المسفوحَ منه دون غيره، الدليلُ الواضح أنَّ ما لم يكن منه مسفوحًا،
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (7/ 86)، وفتح القدير (2/ 213).
(2)
انظر: تفسير السعدي (277).
فحلال غير نجس)
(1)
، وقال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبَّع المسلمون من العروق ما تتبعتِ اليهود
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: البغوي، والجصاص، وابن العربي، وابن عطية، والزمخشري، والقرطبي، وأبو حيان، والسيوطي، والألوسي، وابن عاشور
(3)
.
وهذا الاستنباط فيه بيان وجه حسن من أوجه التيسير ورفع المشقة عن هذه الأمة.
مناسبة ذكر الخنزير لدفع توهم كونه حلالاً من ضمن بهيمة الأنعام
.
قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ (145)} (الأنعام: 145).
220 -
قال السعدي رحمه الله: (ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا الاحتمال
(4)
، أن بعض الجهال قد يدخله في بهيمة الأنعام، وأنه
(1)
انظر: جامع البيان (5/ 379).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (5/ 1407)، وتفسير عبدالرزاق (1/ 212).
(3)
انظر: معالم التنزيل (2/ 114)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 28)، وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 248)، والمحرر الوجيز (671)، والكشاف (350)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 111)، والبحر المحيط (4/ 242)، والإكليل (2/ 725)، وروح المعاني (4/ 287)، والتحرير والتنوير (8/ 138).
(4)
المراد بالاحتمال هنا: أن السياق في نقض أقوال المشركين المتقدمة، في تحريمهم لما أحله الله وخوضهم بذلك، بحسب ما سولت لهم أنفسهم، وذلك في بهيمة الأنعام خاصة، وليس منها محرم إلا ما ذكر في الآية: الميتة منها، وما أهل لغير الله به، وما سوى ذلك فحلال، وعلى هذا الاحتمال يكون ذكر الخنزير هنا مشكلاً وهو ما استنبط السعدي مناسبة ذكره هنا. انظر: تفسير السعدي (278)، والنكت والعيون (2/ 182)، ولباب التأويل (2/ 167).
نوع من أنواع الغنم، كما قد يتوهمه جهلة النصارى وأشباههم، فينمونها كما ينمون المواشي، ويستحلونها، ولا يفرقون بينها وبين الأنعام، فهذا المحرم على هذه الأمة كله من باب التنزيه لهم والصيانة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ذكر الخنزير ضمن المحرمات، وأن مناسبة ذلك دفع توهم كونه حلالاً، فيُنمى ويُستحل.
وقد قال بنحو ذلك أبوحيان، حيث قال:(وذكر {الخنزير} وإن لم يكن من ثمانية الأزواج لأن من الناس من كان يأكله إذ ذاك ولأنه أشبه شيء بثمانية الأزواج في كونه ليس سبعاً مفترساً يأكل اللحوم ويتغذى بها، وإنما هو من نمط الثمانية في كونه يعيش بالنبات ويرعى كما ترعى الثمانية)
(2)
، وبنحو ذلك قال البقاعي
(3)
.
وقد ظهر في زماننا حكمة أخرى من حكم تحريم أكل لحم الخنزير؛ إذ ظهرت انفلونزا الخنازير والتي أصبحت مصنفة في العالم أنها وباء، بل تسببت في وفيات في العالم، وكلفت الدول والمنشئات الصحية أموالاً طائلة، وكانت الإصابة في البلدان التي تعتني بتربية الخنازير أكثر وخسارتها المالية أكثر بسبب ما أتلفوه منها، فلله الحكمة البالغة في تحريم المحرمات إذ أن ظهور الحكمة أو بعض الحكمة لا يكون إلا بعد زمان طويل، لا تدركه بعض الأجيال، ولكنه في علم الله فسبحان العليم.
(1)
انظر: تفسير السعدي (277).
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 243).
(3)
انظر: نظم الدرر (2/ 732).
حسب عقل العبد يكون قيامه بأمر الله
.
قال تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} (الأنعام: 151).
221 -
قال السعدي رحمه الله: ({ذَلِكُمْ} المذكور {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} عن الله وصيته، ثم تحفظونها، ثم تراعونها وتقومون بها. ودلت الآية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله به). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله به، فكلما كان العقل أكبر وأنضج وأكثر فهماً كان قبوله لأمر الله، وكلما نقص عقل العبد كلما كثر تركه وتكاسله عن القيام بما أمر الله به، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل بعد بيانه لهذه المحرمات بين أن العقل يدل على النفور منها وأن في استخدام العقل كفاية في بيان حرمتها وعدم الوقوع فيها لتمييز العقل بين الضار والنافع، فأخذ السعدي من عموم المعنى أن الممتثل لأمر الله صاحب عقل، وعلى قدر امتثاله يكون عقله.
فبالعقل يعرف العبد فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا
(2)
، فمن استخدم عقله امتثل، ومن لم يستخدم عقله في معرفة هذه الفوائد قل امتثاله، ولأنّ ملابسة بعض هذه المحرّمات ينبئ عن خساسة عقل، بحيث ينزّل ملابسوها منزلة من لا يعقل
(3)
.
وهذا المعنى المستنبط صحيح، ولكنه لوقيد كذلك بالتوفيق من الله لكان أكثر دقة، إذ نرى أصحاب عقول لكن أصحابها أهل معصية لله؛
(1)
انظر: تفسير السعدي (280).
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 252)، والتفسير الكبير (13/ 191).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (8/ 162).
لعدم توفيق الله لهم، فالعقل سبب لا يكفي لوحده للقيام بأمر الله ما لم يقارنه التوفيق من الله والهداية منه سبحانه وتعالى.
لا يجوز قربان مال اليتيم على وجه فيه مضرة، أولا مضرة فيه ولا منفعة
.
قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ شَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ (152)} (الأنعام: 152).
222 -
قال السعدي رحمه الله: ({{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} بأكل، أو معاوضة على وجه المحاباة لأنفسكم، أو أخذ من غير سبب {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: إلا بالحال التي تصلح بها أموالهم، وينتفعون بها، فدل هذا على أنه لا يجوز قربانها، والتصرف بها على وجه يضر اليتامى، أو على وجه لا مضرة فيه ولا مصلحة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه لا يجوز قربان مال اليتيم على وجه فيه مضرة، أوعلى وجه لا مضرة فيه ولا مصلحة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله نهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، فدل مفهوم المخالفة أن ما ليس بأحسن منهي عنه، كأن يكون فيه مضرة، أو لا مضرة فيه ولا مصلحة.
وهذا الاستنباط فيه المبالغة في المحافظة على مال اليتيم، وعدم المخاطرة به في الأمور التي يمكن أن تكون سبباً في إنزال الضرر به وإتلافه، وكذلك عدم التصرف فيه بما لا ضرر فيه ولا مصلحة ولعله يشير
(1)
انظر: تفسير السعدي (280).
هنا إلى اقتراضه، أو إقراضه للآخرين، وهذا ربما عرض مال اليتيم للضياع والتلف، فلا بد أن تكون طريقة استثمار مال اليتيم بالطريقة الحسنة، وهي النّافعة التي لا ضرّ فيها لليتيم ولا لماله، بل فيها ما يصلح المال ويوفره
(1)
.
لا تكليف فوق الطاقة
.
قال تعالى: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (152)} (الأنعام: 152).
223 -
قال السعدي رحمه الله: (وبهذه الآية ونحوها استدل الأصوليون، بأن الله لا يكلف أحدا ما لا يطيق
(2)
، وعلى أن من اتقى الله فيما أمر، وفعل ما يمكنه من ذلك، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 34)، والتحرير والتتوير (8/ 163).
(2)
اختلف العلماء في جواز تكليف مالا يطاق عقلاً على مذاهب:
المذهب الأول: أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز عقلاً مطلقاً وهو مذهب المعتزلة، واختاره الغزالي، وابن قدامة.
المذهب الثاني: أنه يجوز عقلاً إذا كان المحال محالاً لغيره، أما إذا كان المحال محالاً لذاته فلا يجوز وهو مذهب معتزلة بغداد والآمدي.
المذهب الثالث: أنه يجوز عقلاً مطلقاً وهو مذهب الجمهور، واختلف هؤلاء في وقوع تكليف ما لايطاق شرعاً على أقوال:
القول الأول: أنه غير واقع وهو مذهب جمهورهم، وحكى أبو اسحاق الاسفراييني، والقرطبي الإجماع على ذلك.
القول الثاني: أنه واقع وهو مذهب كثير من المتكلمين. انظر: روضة الناظر، بتحقيق النملة (1/ 239)، وانظر كذلك: الإشارات الإلهية (1/ 370)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 409)، وحجج القرآن للرازي (91 - 92)، والمحرر الوجيز (269).
(3)
انظر: تفسير السعدي (280).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة أصولية وهي عدم وقوع تكليف ما لا يطاق، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل بعد أمره لكافل اليتيم بالمحافظة على مال اليتيم والأمر كذلك بالوفاء في الميزان ولا شك أن هذه من الأمور الشاقة على النفس والتحرز منها قد يكون فيه مشقة بع ذلك كله بين لهم أن التكليف إنما هو في حدود الاستطاعة، فأخذ السعدي من ذلك دليلاً على عدم جواز تكليف ما لا يطاق.
قال السيوطي: (استدل به على منع تكليف مالا يطاق)
(1)
، وقد أشار إلى ذلك بعض المفسرين منهم: الجصاص، وابن عطية، والقرطبي، والألوسي، والشوكاني ومحمد رشيد رضا، والهرري
(2)
.
وعدم تكليف مالا يطاق هو اللائق بالشريعة الإسلامية التي جاءت لرفع الحرج والمشقة، بل فيها سقوط الواجب عن الذي لا يستطيع القيام به، وفيها القيام بما يقدر عليه من الواجب، بل جاء فيها جواز فعل المحظور عند الضرورة فكل هذا يؤيد القول بعدم تكليف مالا يطاق، قال ابن عاشور:(وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم قوله تعالى: {نَفْسًا} في سياق النفي، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلاّ للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات، هذا حكم عام في الشرائع كلّها، وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة "المشقّةُ تجلب التيسير"، وكانت المشقة مظنّة الرخصة، وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر، في أوقات الضرورة)
(3)
(1)
انظر: الإكليل (1/ 457).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 651 - 652)، والمحرر الوجيز (269)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 410)، وروح المعاني (4/ 299)، وفتح القدير (2/ 225) وتفسير المنار (3/ 127)، وتفسير حدائق الروح والريحان (4/ 149).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (3/ 135).
سورة الأعراف
من استعان بالنعم على المعاصي فإنه يعاقب عليها
.
قال تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةُ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (32)} (الأعراف: 32).
224 -
قال السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أن من لم يؤمن بالله، بل استعان بها على معاصيه، فإنها غير خالصة له ولا مباحة، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها، ويُسأل عن النعيم يوم القيامة
(1)
). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن غير المؤمن إذا استمتع بالنعم، واستعان بها على المعاصي، فإن الله يعاقبه عليها، ووجه استنباط ذلك من
(1)
وهذا المفهوم الذي ذكره السعدي إنما يصح على التفسير الذي ذكره بن جبير، قال ابن عطية:(والآية تتأول على معنيين أحدهما أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة للمؤمنين في الدنيا، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون، فقوله {فِي الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} متعلق بـ {آَمَنُوا}. وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير، فإنه قال {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} ينتفعون بها في الدنيا ولا يتبعهم إثمها) انظر: المحرر الوجيز (698).
(2)
انظر: تفسير السعدي (287).
الآية أن الله أباح هذه النعم للمؤمنين في الدنيا وبين أنها خالصة لهم بمعنى أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون، فدل مفهوم المخالفة - مفهوم الصفة-أن غير المؤمنين لا تكون هذه النعم خالصة لهم ولا مباحة بل يعاقبون عليها ويسألون عنها.
وهذا الاستنباط فيه تنبيه لشرف المؤمن عند الله فيتمتع بالنعم في الدنيا، ولا يسأل ولا يعاقب عليها في الآخرة، بخلاف غير المؤمن فإنه يسأل عنها يوم القيامة ويحاسب عليها جزاء كفره.
أرواح المؤمنين تفتح لها أبواب السماء
.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ (40)} (الأعراف: 40).
225 -
قال السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أن أرواح المؤمنين المنقادين لأمر الله المصدقين بآياته، تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى الله، وتصل إلى حيث أراد الله من العالم العلوي، وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة برضوانه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن أرواح المؤمنين تُفتح لها أبواب السماء، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل ذكر في الآية أن أبواب السماء لا تفتح للمكذبين والمستكبرين عن آيات الله، فدل مفهوم المخالفة على أن المؤمنين تفتح لهم أبواب السماء.
(1)
انظر: تفسير السعدي (288).
قال ابن عباس رضي الله عنه: لا تفتح لأرواحهم، وتفتح لأرواح المؤمنين
(1)
.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين منهم: ابن عطية، والرازي، والطوفي، وابن القيم، والألوسي.
(2)
ومما يؤيد هذا الاستنباط ما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، في ذكر قبض روح المؤمن وفيه:(فيصعدون بها فلا يمرون -يعني-بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له)
(3)
، والحديث واضح الدلالة على أن أرواح المؤمنين تفتح لها أبواب السماء كما هو مفهوم الآية.
من أنكر كلام الله فقد أنكر خصائص إلهية الله
.
قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ (148)} (الأعراف: 148).
226 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيها دليل على أن من أنكر كلام الله
(4)
، فقد أنكر خصائص إلهية الله تعالى، لأن الله ذكر أن عدم
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (5/ 1476).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (703)، والتفسير الكبير (14/ 63)، والإشارات الإلهية (2/ 219)، بدائع التفسير (1/ 391)، وروح المعاني (4/ 358).
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (30/ 499)، ح (18534)، والنسائي في الصغرى، كتاب الجنائز، باب ما يلقى به المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه، ح (1834).
(4)
وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال:
أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.، وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه، وهذا قول المعتزلة، والجهمية، وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبريه كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه، كالأشعري وغيره، ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث، وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما، وهذا قول الكرامية وغيرهم، وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية، وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي، وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهذا قول أبي المعالي ومن تبعه.
وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة، وهو الحق. انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز (173)، وانظر كذلك: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (12/ 162).
الكلام دليل على عدم صلاحية الذي لا يتكلم للإلهية). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة عقدية، وهي الرد على منكري صفة الكلام لله عز وجل، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أنكر على قوم موسى اتخاذهم العجل، وبين لهم أن
من الأمور التي لا يستحق العجل الألوهية بسببها كونه لا يتكلم، فدل ذلك أن صفة الكلام من خصائص الألوهية ففيه الرد على من أنكر صفة الكلام لله سبحانه وتعالى.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال ابن القيم:(نبه بهذا الدليل على أن من لا يُكلِم ولا يَهدي لا يصلح أن يكون إلهاً)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: ابن عطية، الرازي، والقرطبي، وأبوالسعود، وابن عاشور، ومحمد رشيد رضا، والهرري
(3)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (303).
(2)
انظر: بدائع التفسير (1/ 416).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (744)، التفسير الكبير (15/ 7)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 252)، وإرشاد العقل السليم (3/ 32)، والتحرير والتنوير (9/ 110)، وتفسير المنار (9/ 176)، وتفسير حدائق الروح والريحان (10/ 137).
ومما يؤكد ذلك أن الوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، والله عز وجل له الكمال المطلق
(1)
.
نداء هارون لموسى بقوله ابن أم ترقيقاً له، وإلا فهو شقيقه
.
قال تعالى: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي (150)} (الأعراف: 150).
227 -
قال السعدي رحمه الله: (و {قَالَ} هنا {ابْنَ أُمَّ} هذا ترقيق لأخيه، بذكر الأم وحدها، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تذكير هارون موسى نسب الأم دون الأب مع أنهما شقيقان، وأن مناسبة ذلك هو الترقيق؛ إذ الأم أحق بالمراعاة.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط كثير من المفسرين، قال البغوي:(وإنما قال ابن أم وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ليرققه ويستعطفه)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الطبري، وابن عطية، وابن
(1)
انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز (175).
(2)
انظر: تفسير السعدي (304) و (512).
(3)
انظر: معالم التنزيل (2/ 169).
كثير، وأبو حيان، والبيضاوي، وأبوالسعود، والألوسي، والشوكاني.
(1)
وقيل: إن هارون عليه السلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة، وكان مورده ومصدره ذلك، ولذا كان يلهج بذكر ما يدل على الرحمة، ومن هنا ذكر الأم ونسب إليها لأن الرحمة فيها أتم
(2)
.
والأول هو الأقرب، لكونه قول الأكثر؛ ولأن عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأمّ
(3)
.
مناسبة التعميم هنا دفع توهم خصوصية الدعوة بأهل الكتاب
.
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (158)} (الأعراف: 158).
228 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما دعا أهل التوراة من بني إسرائيل، إلى اتباعه، وكان ربما توهم متوهم، أن الحكم مقصور عليهم، أتى بما يدل على العموم فقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أي: عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب منكم، وغيرهم). ا. هـ
(4)
(1)
انظر: جامع البيان (6/ 69)، والمحرر الوجيز (446)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1479)، والبحر المحيط (4/ 394)، وأنوار التنزيل (1/ 573)، وإرشاد العقل السليم (3/ 33)، وروح المعاني (5/ 64)، وفتح القدير (2/ 317).
(2)
انظر: روح المعاني (5/ 64).
(3)
انظر: البحر المحيط (4/ 394).
(4)
انظر: تفسير السعدي (305).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الإتيان بلفظ عام في دعوة الناس، وأن مناسبة ذلك دفع توهم قصر الدعوة على أهل الكتاب، فأتى بلفظ عام يدفع هذا التوهم.
قال البقاعي: (ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حثاً على الإيمان به وإيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدم زمانه أو تأخر؛ أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه، ويصرّح بما أخذ ميثاق الرسل عليه تحقيقاً لعموم رسالته وشمول دعوته)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك الخازن
(2)
.
وذهب بعض المفسرين إلى أن مناسبة هذه الآية الرد على اليهود الزاعمين أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب فقط، وممن قال بذلك من المفسرين: الرازي، والألوسي، والشوكاني، وابن عاشور
(3)
.
ولا تنافي بين المناسبتين فالمقصود بيان عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى عموم الخلق، وعدم اختصاصها لا بأهل الكتاب، ولا بغيرهم.
مناسبة ذكر المهتدين من قوم موسى حتى لا يتوهم متوهم أن المعايب تعمهم
.
قال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} (الأعراف: 159).
(1)
انظر: نظم الدرر (3/ 134).
(2)
انظر: لباب التأويل (2/ 259).
(3)
انظر: التفسير الكبير (15/ 23)، وروح المعاني (5/ 78)، وفتح القدير (2/ 324)، والتحرير والتنوير (9/ 139).
229 -
قال السعدي رحمه الله: (وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما تقدم، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل، المنافية للكمال المناقضة للهداية، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم، فذكر تعالى أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي مناسبة الإتيان بهذه التي فيها ذكر قوم مهتدين من قوم موسى، بعد أن ذكر معايب لقوم موسى، وأن مناسبة ذلك دفع التوهم بأن المعايب تعمهم بل هناك منهم من هو مؤمن، ومتبع للحق.
قال ابن عاشور: (قصد به الاحتراس لئلا يتوهم أن ذلك قد عمله قوم موسى كلُّهُم)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: أبوحيان، والألوسي
(3)
.
وقال بعض المفسرين إن مناسبة ذلك هي: أن الله لما ذكر كتابته للرحمة لمن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم من قوم موسى، ووصفهم بأنهم هم المفلحون، ذكر هنا حال خواص أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا متبعين له حق الاتباع وأن الرحمة ليست خاصة بمتبعي محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي كذلك لمتبعي موسى عليه السلام، وممن قال بذلك: الهرري
(4)
.
وأشار البيضاوي إلى وجه آخر لهذه المناسبة فقال: (أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيهاً على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر)
(5)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (306).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (9/ 142).
(3)
انظر: البحر المحيط (4/ 404)، وروح المعاني (5/ 79).
(4)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان (10/ 160).
(5)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 577).
والكل محتمل قال أبو السعود جامعاً بينها: ({وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى} كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لدفع ما عسى يُوهِمه تخصيصُ كَتْبِ الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتّبعي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من حِرمانِ أسلافِ قومِ موسى عليه السلام من كل خير وبيانِ أن كلَّهم ليسوا كما حُكيت أحوالُهم بل منهم {أُمَّةٌ يَهْدُونَ} أي الناسَ {بِالْحَقِّ} أي ملتبسين به أو يهدونهم بكلمة الحق {وَبِهِ} أي بالحق {يَعْدِلُونَ} أي في الأحكام الجاريةِ فيما بينهم، وصيغةُ المضارعِ في الفعلين لحكاية الحالِ الماضيةِ).
(1)
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم (3/ 40).
سورة الأنفال
الفرار من الزحف لغير عذر من الكبائر
.
230 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة
(1)
وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد، ومفهوم الآية
(2)
: أن المتحرف للقتال، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، وأنكى لعدوه، فإنه لا بأس بذلك، لأنه لم يول دبره فارا، وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار، فإن ذلك جائز، فإن كانت الفئة في
(1)
أراد به حديث أبي هريرة في الموبقات وستأتي الإشارة إليه في ثنايا الدراسة بإذن الله.
(2)
ما أشار إليه السعدي على أنه مفهوماً فليس كذلك؛ لأن الاستثناء لا يسمى استنباطاً، فهو معنى ظاهر، ولعله أراد هنا بالمفهوم المرادف للفهم، لا المفهوم بالمعنى المصطلح عليه عند أهل الأصول.
العسكر، فالأمر في هذا واضح، وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز، ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد عاقبة، وأبقى عليهم، أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم، فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها، لأنه - على هذا - لا يتصور الفرار المنهي عنه، وهذه الآية مطلقة، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن التولي من الزحف من أكبر الكبائر، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله توعد المتولين عن الزحف بالغضب، والنار، مما يدل على أن فعل ذلك من الكبائر.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن كثير:(فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين: ابن العربي، وشهاب الدين الخفاجي، والألوسي، ومحمد رشيد رضا.
(3)
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، فقالوا إن ذلك في يوم بدر خاصة، وأما ما عدا ذلك من الأيام فالفرار منه غير محرم وليس من
(1)
انظر: تفسير السعدي (317).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1558).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 328)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (4/ 449)، روح المعاني (5/ 170)، وتفسير المنار (9/ 527).
الكبائر، فجعلوا الإشارة في قوله"يومئذ"راجعة إلى يوم بدر، كما قالوا إن الآية منسوخة بآية الضعف، وممن قال بذلك الحسن وقتادة والضحاك
(1)
.
النتيجة:
الصحيح ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه من أن التولي يوم الزحف من كبائر الذنوب، قال ابن الفرس:(وذهب الجمهور إلى أن ذلك المعنى من الآية محكم باق إلى يوم القيامة، وأن الفرار من الزحف من الكبائر، ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات-وفيه- التولي يوم الزحف)
(2)
، قال ابن العربي:(وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف، ويبين الحكم).
(3)
وأما ما ذكروه من رجوع الإشارة إلى يوم بدر، والنسخ، فالجواب عنه: أن الإشارة راجعة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق، وأما النسخ فدعوى غير صحيحة فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف، بل هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضعف
(4)
، وأما الفرار مما زاد عن الضعف فغير كبيرة باتفاق.
(5)
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 79).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى:(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. . .)، ح (2766)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، ح (89).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 328).
(4)
انظر: فتح القدير (2/ 375).
(5)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 79).
الكافر إذا أعطي عهداً لا يجوز خيانته
.
قال تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)} (الأنفال: 57).
231 -
قال السعدي رحمه الله: (ودل تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر - ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر - أنه إذا أُعْطِيَ عهداً لا يجوز خيانته وعقوبته). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية عدم جواز خيانة وعقوبة الكافر إذا أُعطي عهداً، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل قيد النكاية بهم في الحرب وعدم وجود العهد، فدل مفهوم القيد أنهم إذا أعطوا عهداً فلا تجوز خيانتهم، ولا غدرهم وعقوبتهم.
وهذا المعنى المستنبط فيه بيان وجه مشرق في تعامل أهل الإسلام مع غيرهم ولو كانوا أعداء لهم إذا أعطوهم عهداً، وأن هذا الدين يربي الناس على الوفاء بالعهود وعدم الغدر ولو بالأعداء.
لا يجوز نبذ العهد إلى الأعداء ما لم يخف منهم خيانة
.
قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)} (الأنفال: 58).
232 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم، لأنه لم يخف
(1)
انظر: تفسير السعدي (324).
منهم، بل علم ذلك، ولعدم الفائدة ولقوله:{عَلَى سَوَاءٍ} وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم.
ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه إذا وجدت الخيانة المحققة من المعاهدين، فلا حاجة إلى نبذ العهد إليهم وإخبارهم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل أباح نبذ العهد عند خوف الغدر والخيانة، فدل مفهوم الموافقة هنا أنه مع تحقق العلم بالغدر والخيانة يكون إباحة النبذ من باب أولى، حتى أنه لا يخبرهم بل ينتقض العهد مباشرة.
واستنبط كذلك أنه مع عدم وجود الخوف لا يجوز نبذ العهد إليهم بل يجب الوفاء به، ووجه استنباط ذلك من الآية بمفهوم المخالفة، حيث إن الإباحة هنا عند وجود الخوف من الخيانة فدل مفهوم ذلك أنه مع عدم وجود خوف الخيانة لا يجوز بل يحرم نبذ العهد.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط أكثر المفسرين، قال الألوسي: (ولزوم الإعلام عند أكثر العلماء الأعلام إذا لم تنقض مدة العهد أو لم يستفض نقضهم له ويظهر ظهوراً مقطوعاً به أما إذا انقضت المدة أو استفاض النقض وعلمه الناس فلا حاجة إلى ما ذكر ولهذا غزا النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة من غير نبذ ولم يعلمهم بأنهم كانوا نقضوا العهد علانية
(1)
انظر: تفسير السعدي (324).
بمعاونتهم بني كتانه على قتل خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، وإلكيا الهراسي، وابن الفرس، والرازي، والخازن، والقاسمي
(2)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، فقالوا معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت العهد والموادعة، فيكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم، وممن قال بذلك: الأزهري، والنحاس
(3)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه من كون الاستفاضة في علم الخيانة كاف في عدم وجوب الإعلام بالنبذ هو الصحيح الذي تدل عليه الآية كما سبق.
وأما ما قاله الأزهري والنحاس فالجواب عنه ما قاله القرطبي، حيث قال: (ما ذكره الأزهري والنحاس من إنباذ العهد مع العلم بنقضه يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فإنهم لما نقضوا لم يوجه إليهم بل غزاهم.
وهو أيضاً معنى الآية، لأن في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم)
(4)
.
(1)
انظر: روح المعاني (5/ 219).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 88)، وأحكام القرآن للهراسي (3/ 223)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 103)، والتفسير الكبير (15/ 146)، ولباب التأويل (2/ 321)، ومحاسن التأويل (5/ 324).
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (8/ 33).
(4)
انظر: المصدر السابق.
فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم، أو الخوف من ذلك فلا يحل ولا يجوز نبذ العهد كما يدل عليه مفهوم الآية
(1)
.
وجوب الاستعداد بكل قوة فيها إرهاب للعدو
.
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (60)} (الأنفال: 60).
233 -
قال السعدي رحمه الله: (أي {وَأَعِدُّوا} لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم. {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي: والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير.
؛
ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته،
فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها، كالسيارات البرية والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورا بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد
(1)
انظر: المصدر السابق.
إلا بتعلُّم الصناعة، وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن القوة التي يجب الاستعداد بها للعدو، داخل فيها الاستعداد بكل أنواع الأسلحة المعاصرة في هذا الزمن، ووجه استنباط ذلك من الآية أن القوة هنا
معناها الرمي لعلة إرهاب العدو، ولكن الحكم يدور مع علته فكلما جاء زمن فيه قوة أكثر إرهاباً كان يجب اتخاذ هذه القوة لأنها هي المأمور باتخاذها، كما أن عموم اتخاذ القوة هنا
يقتضي ذلك فاللفظ عام يشمل كل قوة في أي زمان وفي أي مكان، ثم ذكر استنباطاً آخر متعلق بهذا الاستنباط وهو وجوب تعلم هذه الصناعات لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإرهاب العدو لا يكون هنا إلا بهذه الأسلحة فكان تعلمها واجباً.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الجصاص:(عموم اللفظ شامل لجميع ما يستعان به على العدو من سائر أنواع السلاح وآلات الحرب)
(2)
، وقال المراغي: (إعداد المستطاع من القوة؛ ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمبن في هذا العصر صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات والرصاص، وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى
(1)
انظر: تفسير السعدي (325)، ووجوب التعاون بين المسلمين (192)، والرياض الناظرة (461 - 463)، والخطب المنبرية في المناسبات (53 - 54)، وتنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلالة:(435) جميعها للسعدي.
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 89).
الحرب)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، والألوسي، والقاسمي، وابن عاشور، ومحمد رشيد رضا
(2)
.
فائدة التقييد بالصبر، وكون الأمر بصيغة الخبر
.
قال تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلَّمَ أَن فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)} (الأنفال: 66).
234 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذه الآيات صورتها صورة الإخبار عن المؤمنين، بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين يغلبون ذلك المقدار المعين في مقابلته من الكفار، وأن الله يمتن عليهم بما جعل فيهم من الشجاعة الإيمانية.
ولكن معناها وحقيقتها الأمر وأن الله أمر المؤمنين - في أول الأمر - أن الواحد لا يجوز له أن يفر من العشرة، والعشرة من المائة، والمائة من الألف.
ثم إن الله خفف ذلك، فصار لا يجوز فرار المسلمين من مثليهم من الكفار، فإن زادوا على مثليهم جاز لهم الفرار، ولكن يرد على هذا أمران:.
أحدهما: أنها بصورة الخبر، والأصل في الخبر أن يكون على
(1)
انظر: تفسير المراغي (10/ 24).
(2)
انظر: التفسير الكبير (15/ 148)، وروح المعاني (5/ 220)، ومحاسن التأويل (5/ 326)، والتحرير والتنوير (10/ 55)، وتفسير المنار (10/ 53).
بابه، وأن المقصود بذلك الامتنان والإخبار بالواقع.
والثاني: تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر.
ومفهوم هذا أنهم إذا لم يكونوا صابرين، فإنه يجوز لهم الفرار، ولو أقل من مثليهم إذا غلب على ظنهم الضرر كما تقتضيه الحكمة الإلهية.
ويجاب عن الأول بأن قوله: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} إلى آخرها، دليل على أن هذا أمر لازم وأمر محتم، ثم إن الله خففه إلى ذلك العدد،. فهذا ظاهر في أنه أمر، وإن كان في صيغة الخبر.
وقد يقال: إن في إتيانه بلفظ الخبر، نكتة بديعة لا توجد فيه إذا كان بلفظ الأمر، وهي تقوية قلوب المؤمنين، والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين ويجاب عن الثاني: أن المقصود بتقييد ذلك بالصابرين، أنه حث على الصبر، وأنه ينبغي منكم أن تفعلوا الأسباب الموجبة لذلك، فإذا فعلوها صارت الأسباب الإيمانية والأسباب المادية مبشرة بحصول ما أخبر الله به من النصر لهذا العدد القليل). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة مجيء الأمر بصيغة الخبر، وهي تقوية قلوب المؤمنين وبشارتهم بالنصر، بصورة لم تكن لو جاء الأمر بصيغة الأمر، كما أن قيد الصبر هنا لا مفهوم له؛ وإنما فائدته الحث على الصبر فلا مفهوم له حينئذ.
قال محمد رشيد رضا: (ونكتة إيراد هذا الحكم بلفظ الخبر الإشارة إلى جعله بشارة بأن المؤمنين الصابرين الفقهاء يكونون كذلك فعلاً)
(2)
،
(1)
انظر: تفسير السعدي (326).
(2)
انظر: تفسير المنار (10/ 67).
وممن أشار إلى ذلك أيضاً: الجصاص، وشهاب الدين الخفاجي
(1)
.
وأما بالنسبة لمفهوم وصف المؤمنين بالصبر؛ فالمراد منه تبشير المؤمنين بالنصر وحثهم على الصبر كما ختم الله هذه الآية ببيان عاقبة الصابرين معية الله لهم.
وأما أن يكون المفهوم أن لهم حق الفرار مع عدم الصبر، فليس مراداً هنا، ومما يدل على ذلك أن القيد إذا كان مسوقاً لفائدة معينة فإنه لا مفهوم له، والمراد هنا الحث على الصبر فلا مفهوم له إذاً.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 92)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (4/ 502).
سورة التوبة
القرآن كلام الله غير مخلوق
.
قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ شَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ (6)} (التوبة: 6).
235 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لأنه تعالى هو المتكلم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها، وبطلان مذهب المعتزلة ومن أخذ بقولهم: أن القرآن مخلوق
(1)
). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة عقدية وهي أن القرآن كلام الله
(1)
هم يقولون: إنما سمع صوت القارئ وصوته مخلوق وهو كلام الله فكلام الله مخلوق، والجواب عنهم: أنهم لم يميزوا بين أن يسمع الكلام من المتكلم به كما سمعه موسى من الله بلا واسطة وبين أن يسمع من المبلغ عنه، ومعلوم أنه لو سمع كلام الأنبياء وغيرهم من المبلغين لم يكن صوت المبلغ هو صوت المبلغ عنه وإن كان الكلام كلام المبلغ عنه لا كلام المبلغ، فكلام الله إذا سمع من المبلغين عنه أولى أن يكون هو كلام الله. انظر: الجواب الصحيح (4/ 335 - 340).
(2)
انظر: تفسير السعدي (329).
ليس بمخلوق، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أضاف الكلام إليه، وإضافته الكلام إليه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فدل ذلك على أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فهو صفة من صفاته وتعالى الله أن يكون شيئاً من صفاته مخلوقاً.
قال أبوحيان: (وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق)
(1)
، وقال الدارمي
(2)
: (والحجة على هذه العصابة أيضا جميع ما احتججنا به من كتاب الله في تحقيق كلام الله وما روينا فيه من آثار رسول الله فمن بعده أن القرآن نفس كلام الله وأنه غير مخلوق فهي كلها داخلة عليهم كما تدخل على الجهمية لأن كل من آمن بالله وصدقه في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ شَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وفي قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]، فأيقن بأنه كلامه حقا كما سماه أصدق القائلين لزمه الإيمان بأنه غير مخلوق لأن الله تبارك وتعالى لم يجعل كلاما مخلوقا لنفسه صفة وكلاما ولم يضف إلى نفسه كلام غيره لأنه أصدق القائلين ولا يقاس كلام الله ب بيت الله وعبد الله وخلق الله وروح الله لأن الخلق ليس من الله ولا من صفاته وكلامه صفته ومنه خرج فلا يضاف إلى الله من الكلام إلا ما تكلم به ولو جاز أن ينسب كلام مخلوق إلى الله فيكون لله كلاما وصفة كما يضاف إليه بيت الله وعبد الله لجاز أن تقول كل ما يتكلم به آناء الليل والنهار من حق أو باطل أو شعر أو غناء أو نوح كلام الله فما فضل القرآن في هذا القياس على الرد، سائر كلام المخلوقين إن كان كله ينسب إلى الله ويقام لله صفة وكلاما في دعواكم فهذا ضلال بين)
(3)
(1)
انظر: البحر المحيط (5/ 13).
(2)
هو: أبوسعيد، عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد الدارمي، التميمي، السجستاني، الإمام، العلامة، الحافظ، الناقد، صنف كتباً منها: المسند الكبير، والرد على بشر المريسي، والرد على الجهمية. ولد قبل المئتين بيسير، وتوفي في ذي الحجة 280 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 319).
(3)
انظر: الرد على الجهمية للدارمي (195).
وقال ابن القيم- بعد ذكره لأقوال من قال بخلق القرآن-: (وكل هذه الأقوال محدثة مبتدعة لم يقل شيئاً منها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا إمام من أئمة المسلمين كمالك والثوري، والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن عيينة وغيرهم، بل هؤلاء كلهم متفقون على أن القرآن منزل غير مخلوق وأن الله أرسل به جبريل فنزل به جبريل على نبيه محمد فبلغه محمد إلى الناس فقرأه الناس بحركاتهم وأصواتهم وليس شيء من أفعال العباد وأصواتهم قديما ولا غير مخلوق ولكن كلام الله غير مخلوق ولم يكن السلف يقولون القرآن قديم، ولما أحدث الجهمية وموافقوهم من المعتزلة وغيرهم أنه مخلوق بائن من الله قال السلف والأئمة إنه كلام الله غير مخلوق).
(1)
لما كان الأمر محل تقصير وخلل ناسب ختم الآية بالتوبة الجابرة لهذا النقص
.
قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} (النور: 31).
236 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة، ووصى بالوصايا المستحسنة، وكان لا بد من وقوع تقصير من المؤمن بذلك، أمر الله تعالى بالتوبة، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح، فقال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي
(1)
انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 337)، وانظر في المسألة: مجموع فتاوى ابن تيمية (12/ 258 - 323)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (178 - 206)، وحجج القرآن (75 - 78).
الرجوع مما يكرهه الله، ظاهراً وباطناً، إلى: ما يحبه ظاهراً وباطناً، ودل هذا، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة، لأن الله خاطب المؤمنين جميعاً). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ختمها بالتذكير بالتوبة، وبين أن مناسبة ذلك هو أن الآية فيها جملة من الأوامر، وكان لا بد من وقوع تقصير في القيام بهذه الأوامر فناسب التذكير بما يمحو هذا التقصير ويجبره وهو التوبة.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الزمخشري:(أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها، وإن ضبط نفسه واجتهد، ولا يخلو من تقصير يقع منه، فلذلك وصّى المؤمنين جميعاً بالتوبة والاستغفار، وبتأميل الفلاح، إذا تابوا واستغفروا)
(2)
، وقال الشنقيطي: (أمر الله تعالى بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدمة، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علّم خلقه ما يتداركوه به، ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر، واجتناب النهي، وبين لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة، وهي
الرجوع عن الذنب والإنابة إلى الله تعالى بالاستغفار منه)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، وأبوحيان، والخازن، والبقاعي، والألوسي، وابن عاشور
(4)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (567).
(2)
انظر: الكشاف (727).
(3)
انظر: أضواء البيان (6/ 203).
(4)
انظر: التفسير الكبير (23/ 183)، والبحر المحيط (6/ 414)، ولباب التأويل (3/ 293)، ونظم الدرر (5/ 260)، وروح المعاني (9/ 341)، والتحرير والتنوير (18/ 142).
مناسبة تخصيص الجباه، والجنوب، والظهور بالكي
.
قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ (35)} (التوبة: 35).
237 -
قال السعدي رحمه الله: (وذكر المفسرون، رحمهم الله تعالى، مناسبة لتخصيص كي جباههم وجنوبهم وظهورهم، وذلك لأنه إذا جاءهم الفقير السائل صعر أحدهم بوجهه فإذا أعاد عليه ولاه جنبه، فإذا ألح عليه ولاه ظهره فاختصت هذه الثلاث لذلك جزاء وفاقا
(1)
، وظهر لي معنى أولى من هذا: وهو أن كي هذه المواضع الثلاثة هي أشد على الإنسان من غيرها، وهي متضمنة لجهاته الأربع: الأمام والخلف واليمين والشمال ; وهذه الوجوه التي يخرج منها الإنسان، فلما منعوا الواجب عليهم منعا تاما من جميع جهاتهم جوزوا بنقيض مقصودهم، فإن مقصودهم من المنع التمتع بتلك الأموال، وحصول النعيم بها وخوف وحرارة فقدها لو بذلوها فصار المنع هو عين العذاب فلو أنهم أخرجوها وقت الإمكان لسلموا من كيها وفازوا بأجرها). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص كي جباه وجنوب وظهور، مانعي الزكاة؛ وأن مناسبة ذلك هي أن هذه الجهات أشد على الإنسان من غيرها سواء في التعذيب أوفي إذهاب القوة والجمال، كما أن هذه الأعضاء تمثل الجهات الأربع فكما أن المنع كان تاماً من كل وجه ناسب أن يكون العذاب تاماً من كل جهة.
(1)
انظر: أنوار التنزيل (2/ 51)، وإرشاد العقل السليم (3/ 144)، وروح المعاني (5/ 280).
(2)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (21).
وقد قال بعض المفسرين بنحو ما قال السعدي، قال ابن عاشور:(والمعنى: تعميم جهات الأجساد بالكَي فإنّ تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألَم الكي، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصنافٍ من الآلام)
(1)
، وقال الشوكاني:(وخص الجباه، والجنوب والظهور؛ لكون التألم بكيها أشدّ لما في داخلها من الأعضاء الشريفة، وقيل: ليكون الكيّ في الجهات الأربع: من قدّام، وخلف، وعن يمين، وعن يسار)
(2)
.
وذكر بعض المفسرين أوجهاً أخرى في هذه المناسبة منها: {فَتُكْوَى بِهَا} أي بهذه الأموال {جِبَاهُهُمْ} التي هي أشرف أعضائهم لأنها مجمع الوجوه والرؤوس وموضع الجاه الذي يجمع المال لأجله لتعبيسهم بها في وجوه الفقراء {وَجُنُوبُهُمْ} التي يحوونه لملئها بالمآكل المشتهاة والمشارب المستلذة ولازورارهم بها عن الفقراء {وَظُهُورُهُمْ} التي يحوونه لتقويتها وتحميلها بالملابس وتجليتها ولتوليتهم إياها إذا اجتمعوا مع الفقراء في مكان
(3)
.
ومنها: أنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغ والقلب والكبد
(4)
.
ومنها: أنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر، بخلاف اليد والرجل
(5)
.
ومنها: أن كمال حال بدن الإنسان في جماله وقوته أما الجمال
(1)
انظر: التحرير والتنوير (10/ 179).
(2)
انظر: فتح القدير (2/ 456).
(3)
انظر: أنوار التنزيل (2/ 51)، وإرشاد العقل السليم (3/ 144)، ونظم الدرر (3/ 306)، وروح المعاني (5/ 280).
(4)
انظر: أنوار التنزيل (2/ 51)، وإرشاد العقل السليم (3/ 144)، وروح المعاني (5/ 280).
(5)
انظر: البحر المحيط (5/ 39).
فمحله الوجه، وأعز الأعضاء في الوجه الجبهة، فإذا وقع الكي في الجبهة، فقد زال الجمال بالكلية، وأما القوة فمحلها الظهر والجنبان، فإذا حصل الكي عليها فقد زالت القوة عن البدن، فالحاصل: أن حصول الكي في هذه الأعضاء الثلاثة يوجب زوال الجمال وزوال القوة، والإنسان إنما طلب المال لحصول الجمال ولحصول القوة
(1)
.
وهذه المناسبات لا تنافي بينها، بل يزيد بعضها بعضاً وضوحاً وتقريباً للمعنى المراد، فالمعنى هو الترهيب من ترك زكاة الأموال، فلما تكون مناسبة كي هذه الأعضاء لكونها أشرف الأعضاء، وأكثر إيلاماً من غيرها، ولأنها محل الجمال والقوة، ولأنها محل التنعم بم حُرم منه الفقير، ولأنها تماثل الامتناع من كل وجه، ولأنها كذلك تماثل انصراف الغني عن الفقير إلى جهات أخرى، كل ذلك لا يوجد ما يمنع من كونه مقصوداً في هذه المناسبة، وإنما ظهر لبعض المفسرين استنباطاً لم يظهر للبعض الآخر وكلها معنية. والله أعلم.
الشهور المعروفة قد ألهم الله العباد لها وفطرهم عليها
.
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (36)} (التوبة: 36).
238 -
قال السعدي رحمه الله: (دليل على أن هذه الشهور المعروفة قد ألهم الله العباد لها وفطرهم عليها، وأن ذلك موافق لقدره وشرعه). ا. هـ
(2)
(1)
انظر: التفسير الكبير (16/ 40).
(2)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (21 - 22).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الشهور المعروفة بأسمائها وترتيبها قد فطر الله الناس عليها، وألهمهم لها، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله بين في هذه الآية أن هذا الأمر مكتوب يوم خلق الله السماوات والأرض، بينما الناس تعرف ذلك وتتعامل به قبل نزول الوحي، فهذا التوافق يدل على أن هؤلاء كانوا مفطورين على معرفة هذه الشهور وتسمياتها ومعرفة الحرم منها ونحو ذلك.
ولكن هذا الاستدلال لا يُسلّم؛ إذ يمكن القول بأن ذلك جاء إلى العرب من طريق بعض الأنبياء السابقين، فيكون الاستدلال بها على هذا احتمالي لا يمكن الجزم به إذ احتمالية كونه من الأمم الأخرى قوي. والله أعلم.
اللغة إلهام من الله لا اصطلاح
.
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (36)} (التوبة: 36).
239 -
قال السعدي رحمه الله: (ويستدل بها من قال: إن اللغة إلهام من الله، لا اصطلاح اصطلح عليه العقلاء
(1)
).
(1)
اختلف في مبدأ اللغات فذهب قوم إلى أنها توقيفية لأن الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ولا يكون ذلك إلا عن لفظ معلوم قبل الاجتماع للاصطلاح، وهو قول أبي الحسن الأشعري، وأبي يعلى الحنبلي، وابن فورك، وابن الحاجب، والظاهرية، وقال آخرون هي اصطلاحية إذ لا يفهم التوقيف ما لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق، وهو قول هاشم المعتزلي، وقال آخرون يجوز أن تكون توقيفية ويجوز أن تكون اصطلاحية ويجوز أن يكون بعضها توقيفية وبعضها اصطلاحية وأن يكون بعضها ثبت قياسا فإن جميع ذلك =
ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن اللغة إلهام لا اصطلاح، ولم يبين السعدي هنا وجه استنباط ذلك من الآية، ولعل وجه ذلك هو التوافق على أسماء الشهور عند العرب ثم نزول القرآن مؤيداً لذلك، مما يدل على أن اللغة بشكل عام إلهام قياساً على الإلهام في أسماء الشهور.
قال السيوطي: (فيستدل به لمن قال: إن اللغات توقيفية)
(2)
، وهذا الاستنباط يعد من الاستنباطات الخفية، ومما يؤيده موافقة العدد للواقع، مما يعني الموافقة على أسمائها، وهذا يدل على كونها توقيفاً؛ إذ لو كانت اصطلاحاً لكان فرق في الأسماء. والله أعلم.
الحزن قد يعرض لخواص العباد
.
قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا (40)} (التوبة: 40).
240 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله {لَا تَحْزَنْ إِن
= متصور في العقل، وهو قول القاضي الباقلاني، وأبوبكر عبدالعزيز من الحنابلة، وقال آخرون بالتوقف في ذلك، وهو قول الرازي، وابن برهان، وإمام الحرمين. انظر: روضة الناظر (2/ 543)، وقواطع الأدلة (1/ 281)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (7/ 91) و (12/ 446 - 453)، والخصائص لابن جني (1/ 40)، والمزهر للسيوطي (1/ 20).
(1)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (21 - 22).
(2)
انظر: الإكليل (2/ 807).
اللَّهَ مَعَنَا}
(1)
وفيها: أن الحزن
(2)
قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه، فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الحزن قد يعرض لخواص العباد الصديقين، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل ذكر نهي النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر عن الحزن، مما يدل على وقوعه منه، ولكن وقوع الحزن لا يعني الاستسلام له بل يجب السعي لإذهابه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بتذكيره معية الله، التي بتذكرها يذهب كل حزن.
والحزن أمر طبيعي نفسي قد يعرض للعبد الصالح، ولا يكون ذلك مثلبة في صدقه ودينه، ولا في خلقه وشجاعته، وقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم لموت ابنه إبراهيم، ولموت خديجة، وعمه أبي طالب، وإنما يكون الحزن مذموماً عندما يكون له أثر على العزيمة، وإضعاف إيمان العبد بالقضاء والقدر.
(1)
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية فضيلة أبي بكر رضي الله عنه، حتى أوصلها بعضهم إلى اثني عشر وجهاً، وذكر بعضهم كذلك استنباطاً آخر وهو: أن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه، وعمله، فإن الله معه ولولم يصحبه ببدنه. انظر: التفسير الكبير (16/ 51 - 54)، وبدائع التفسير (2/ 10)، والإشارات الإلهية (2/ 275).
(2)
وقد طعن الشيعة في أبي بكر رضي الله عنه وقالوا إن هذا الحزن يدل على أنه ضعف وخور منه، وشك في الخبر، فأجاب أهل السنة بأن حزن أبي بكر رضي الله عنه لم يكن خوراً ولا ضعفاً، ولا شكاً، وإنما كان إشفاقًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بدر منه مواقف كثيرة دالة على شجاعته، وصدقه، وتصديقه. انظر: معالم التنزيل (2/ 247)، والإشارات الإلهية (2/ 276).
(3)
انظر: تفسير السعدي (338).
جواز دفع الزكاة، لفك الأسير، وإعتاق الرقاب المستقلة
.
قال تعالى: {* إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ (60)} (التوبة: 60).
241 -
قال السعدي رحمه الله: (الرقاب: وهم المكاتبون
(1)
الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم، فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم، فيعانون على ذلك من الزكاة، وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخل في هذا، بل أولى، ويدخل في هذا أنه يجوز أن يعتق منها الرقاب استقلالاً
(2)
لدخوله في قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} ). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن فك الرقاب المسلمة التي في الأسر داخل في معنى الرقاب في هذه الآية، ووجه استنباط ذلك من الآية قياس الأولى، فإذا كان فك المسلم عن رق المسلم جائز ففك المسلم من رق الكافر من باب أولى، كما أن عموم الرقاب يستنبط منه دخول عتق الرقاب استقلالاً لعدم وجود ما يمنع من ذلك.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال القرطبي: (واختلفوا في فك الأسارى منها، فقال أصبغ: لا يجوز، وهو قول ابن قاسم، وقال ابن حبيب: يجوز، لأنها رقبة ملكت بملك الرق
(1)
وهذا القول مروي عن الحسن البصري، ومقاتل بن حيان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جُبَير، والنَّخعي، والزهري، وابن زيد، وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه، وهو قول الشافعي والليث. انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1671)، والتفسير الكبير (16/ 89)، وفتح القدير (2/ 477).
(2)
وهذا القول مروي عن ابن عباس، والحسن، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومالك، وإسحاق. انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1671)، والتفسير الكبير (16/ 89)، وفتح القدير (2/ 477).
(3)
انظر: تفسير السعدي (341).
فهي تخرج من رق إلى عتق، وكان ذلك أحق وأولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا، لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزاً من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله)
(1)
، كما أن إطلاق الرقاب يقتضي رقبة كاملة، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن العربي، والشوكاني، وابن عاشور
(2)
المخالفون:
خالف بعض المفسرين فقالوا مفهوم عموم إطلاق الآية يدل على أن الأسرى لا يدخلون في الرقاب هنا، وأنه إنما أراد بذلك من لو اشتراه الإنسان لما عتق عليه، والأسير لا يمكن تملكه فليس برقبة
(3)
.
كما خالف بعض المفسرين فقالوا إن العتق المستقل للرقاب غير داخل في الآية، قال الجصاص:(الرقبة لا يسمى صدقة، وما أعطي في ثمن الرقبة فليس بصدقة لأن بائعها أخذه ثمنا لعبده فلم تحصل بعتق الرقبة صدقة، وليس في ذلك قربة، وإنما القربة في أن يعطى العبد نفسه حتى يفك به رقبته، وذلك لا يكون إلا بعد الكتابة، وأيضاً فإن الصدقة تقتضي تمليكا والعبد لم يملك شيئا بالعتق، وإنما سقط عن رقبته، وهو ملك للمولى، ولم يحصل ذلك الرق للعبد لأنه لو حصل له لوجب أن يقوم فيه مقام المولى فيتصرف في رقبته كما يتصرف المولى، فثبت أن الذي حصل للعبد إنما هو سقوط ملك المولى، وأنه لم يملك بذلك شيئا، فلا يجوز أن يكون ذلك مجزيا من الصدقة إذ شرط الصدقة وقوع الملك للمتصدق عليه)
(4)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الطبري
(5)
.
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (8/ 168).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 452)، وفتح القدير (2/ 477)، والتحرير والتنوير (10/ 236).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 175).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 161).
(5)
انظر: جامع البيان (6/ 401).
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، من أن الآية شاملة لعتق الأسارى من المسلمين بدلالة الأولى، قال ابن العربي:(وإذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزاً من الصدقة فأولى وأحرى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله)
(1)
، وكذلك عتق الرقاب المستقلة ودلالة الآية عليه من حيث إنه لوأراد عتق المكاتب فقط لنص عليه، فلما عدل إلى الرقاب دل على أن المقصود هو العتق سواء مكاتب أوغيره
(2)
.
وأما التقييدات التي ذكرها أصحاب الأقوال المخالفة لهذين الاستنباطين حيث منعوا فك الأسير، وإعتاق الرقبة استقلالاً فهو تحكم في الآية يحتاج إلى دليل آخر غير الآية حتى يثبت.
(3)
والله أعلم.
ذكر أوصاف المنافقين دون أسماءهم للستر، ولدخول من شابههم ممن يأتي بعدهم
.
قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ (64)} (التوبة: 64).
242 -
قال السعدي رحمه الله: (فما زال الله يقول: ومنهم ومنهم، ويذكر أوصافهم، إلا أنه لم يعين أشخاصهم
(4)
لفائدتين:
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 452).
(2)
انظر: المصدر السابق.
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 174).
(4)
قال البغوي: قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة للمؤمنين، لئلا يعير بعضهم بعضاً، لأن أولادهم كانوا مؤمنين. انظر: معالم التنزيل (2/ 259).
إحداهما: أن الله سِتِّيرٌ يحب الستر على عباده.
والثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين، الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم إلى يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب، حتى خافوا غاية الخوف). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ذكر المنافقين بأوصافهم دون التصريح بأشخاصهم، وأن مناسبة ذلك هو إرادة الستر عليهم، والذم لمن اتصف بمثل هذه الصفات ممن يأتي بعدهم.
وقال البقاعي: (وعبر بالوصف الدال على الرسوخ تحذيراً لهم من أدنى النفاق فإنه يجر إلى أعلاه)
(2)
.
وما ذهب إليه السعدي في غاية المناسبة، فهو متوافق مع عدل الشريعة، وحسن تعاملها حتى مع المخالف، وإعطاء الفرصة للمخطئ أن يقلع عن خطأه، فعدم التصريح بأسماء المنافقين يحمل هذه المعاني السامية كلها.
كما أن في عدم التصريح بأسمائهم مراعاة لمشاعر من يخرج من أصلابهم من المؤمنين، وهذا فيه التنبه لعدم جرح مشاعر المؤمنين الذين حصل من آبائهم تقصير.
(1)
انظر: تفسير السعدي (342).
(2)
انظر: نظم الدرر (3/ 342).
من أسر سريرة فيها مكر بالدين واستهزاء فإن الله يظهرها ويفضح صاحبها
.
قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ (64)} (التوبة: 64).
243 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة خصوصاً السريرة التي يمكر فيها بدينه ويستهزئ به وبآياته ورسوله فإن الله تعالى يظهرها ويفضح صاحبها ويعاقبه أشد العقوبة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من أسر سريرة فيها مكر واستهزاء بهذا الدين وأهله فإن الله يفضحه، ويظهر ما يضمره، ويعاقبه عليها أشد العقوبة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن المنافقين كانوا يخفون في أنفسهم الكيد والمكر والاستهزاء بهذا الدين، وكان ذلك سريرة في قلوبهم حتى فضحهم الله في هذه السورة وبين ما تحتويه هذه القلوب الفاسدة، فأخذ السعدي من هذا المعنى الخاص بالمنافقين معنى عام لكل من وافقهم على ذلك، بأن الله سيفضحه ويكشف أمره.
وهذا الاستنباط فيه ترهيب لمن كان في قلبه مرض على الإسلام وأهله، ووعيد له بأن الله سيفضحه ولو بعد حين، وربما أن يكون في ذلك فائدة التحذير عن مثل هذه الأمور التي هذا وعيدها.
والواقع يشهد بصحة هذا الاستنباط فعلى مر الزمن لا يزال الكشف عن كل صاحب دسيسة على الإسلام وأهله.
(1)
انظر: تفسير السعدي (343).
الاستغفار سبعين مرة للمبالغة، وإلا فلا مفهوم له
.
قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَقْدِرَ اللَّهُ لَهُمْ (80)} (التوبة: 80).
244 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} على وجه المبالغة، وإلا فلا مفهوم لها). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن العدد الوارد في الاستغفار في هذه الآية لا مفهوم له وإنما المراد منه المبالغة والتأكيد.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال البغوي:(وذكر عدد السبعين للمبالغة في اليأس على طمع المغفرة)
(2)
، وقد قال به جمع من المفسرين منهم: الجصاص، وإلكيا الهراسي، والرازي، وأبوحيان، والبيضاوي، وأبوالسعود، وجلال الدين المحلي، والخازن، والشوكاني
(3)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين، فقالوا إن العدد سبعين في هذه الآية له
(1)
انظر: تفسير السعدي (346).
(2)
انظر: معالم التنزيل (2/ 266).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 185)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 57)، والتفسير الكبير (16/ 117)، البحر المحيط (5/ 79)، وأنوار التنزيل (2/ 69)، وإرشاد العقل السليم (3/ 173)، وتفسير الجلالين (209)، ولباب التأويل (2/ 389)، وفتح القدير (2/ 494).
مفهوم، حيث إن الزيادة على ذلك نافعة، مستدلين على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:(سأزيده على السبعين)
(1)
، وهذا فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن العدد هنا له مفهوم
(2)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح؛ لأن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة أن يأتي الكلام على وجه المبالغة والتأكيد، فما جاء لأجل التوكيد فلا مفهوم له، قال الطوفي:(أما هذا الموضع بعينه فلم يرد به المفهوم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أعلم أني إن زدت على السبعين عفر لهم لزدت)
(3)
، وإنما خرج مخرج المبالغة والتكثير؛ لأن العرب لهجت بالسبعين كثيراً حتى تداولوها في معرض التكثير)
(4)
.
وأما ما استدل به أصحاب القول بالمفهوم، فأجاب عنه ابن عاشور بقوله: (وأمّا ما رواه البخاري من حديث أنس بن عياض وأبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وسأزيد على السبعين " فهو توهم من الراوي لمنافاته روايةَ عمرَ بن الخطاب، وروايةُ عمَر أرجح لأنّه صاحب القصّة، ولأنّ تلك الزيادة لم تُرو من
حديث يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجة والنسائي)
(5)
، وقال الجصاص:(وهذا خطأ من راويه)
(6)
.
(1)
انظر: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:(استفعر لهم أولا تستغفر لهم. . .)، ح (4670)، ومسلم في صحيحه، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صفات المنافقين وأحكامهم، ح (2774).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 1688).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:(استفعر لهم أولا تستغفر لهم. . .)، ح (4671)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، ح (2400).
(4)
انظر: الإشارات الإلهية (2/ 282).
(5)
انظر: التحرير والتنوير (10/ 278).
(6)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 185).
مشروعية الصلاة على المؤمنين والوقوف على قبورهم للدعاء لهم
.
قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ (84)} (التوبة: 84).
245 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على مشروعية الصلاة على المؤمنين، والوقوف عند قبورهم للدعاء لهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، يفعل ذلك في المؤمنين
(1)
، فإن تقييد النهي بالمنافقين يدل على أنه قد كان متقرراً في المؤمنين). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مشروعية الصلاة على المؤمنين والوقوف عند قبورهم، ووجه استنباط ذلك من الآية من مفهوم المخالفة - مفهوم الصفة- فلما نهى عن الصلاة على المنافقين دل مفهوم ذلك على مشروعية الصلاة على المؤمنين.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال السيوطي: (ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه، ومشروعية الوقوف
(1)
كما جاء في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد الجنازة حتى يصلّي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان". قيل: وما القيراطان؟ قال: "أصغرهما مثل أحد") أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من انتظر حتى تدفن، ح (1325)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، ح (945).
(2)
انظر: تفسير السعدي (347).
على قبره، والدعاء له والاستغفار)
(1)
، وممن قال به من المفسرين أيضاً: شيخ الإسلام ابن تيمية، والجصاص، وابن عرفة
(2)
.
المخالفون:
خالف ابن العربي في ذلك، فقال:(قوله تعالى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية: نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين، وقد وهم بعض أصحابنا فقال: إن الصلاة على الجنازة فرض على الكفاية، بدليل قوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} فنهى الله عن الصلاة على الكفار، فدل على وجوبها على المؤمنين، وهذه غفلة عظيمة؛ فإن الأمر بالشيء نهي عن أضداده كلها عند بعض العلماء لفظاً، وباتفاقهم معنى، فأما النهي عن الشيء فقد اتفقوا في الوجهين على أنه أمر بأحد أضداده لفظاً أو معنى، وليست الصلاة على المؤمنين ضداً مخصوصاً للصلاة على الكافرين؛ بل كل طاعة ضد لها، فلا يلزم من ذلك تخصيص الصلاة على المؤمنين دون سائر الأضداد).
(3)
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في دلالة الآية على الصلاة على المؤمنين هو الصحيح، الذي يدل عليه لفظ الآية بمفهوم مخالفتها، وتعليلها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فنهى نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهى الكفر دل ذلك على انتفاء هذا النهى عند انتفاء هذه العلة، ودل تخصيصهم بالنهى على أن غيرهم يصلى عليه ويقام على قبره إذ لو كان هذا غير مشروع فى حق أحد لم يخصوا
(1)
انظر: الإكليل (2/ 825).
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (1/ 165)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 185)، وتفسير ابن عرفة (2/ 322).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 476).
بالنهى ولم يعلل ذلك بكفرهم ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة).
(1)
المحسن ليس بضامن التلف، بينما المسيء كالمفرط يضمن
.
قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (91)} (التوبة: 91).
246 -
قال السعدي رحمه الله: (ويستدل بهذه الآية على قاعدة
(2)
وهي: أن من أحسن على غيره، في نفسه أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن
(3)
، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط، أن عليه الضمان
(4)
). ا. هـ
(5)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية وهي: أن المحسن لا يضمن ما ترتب على إحسانه من تلف أونقص؛ بسبب إحسانه، وعكسه المسيء فإنه يضمن لأنه كالمفرط.
(1)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (1/ 165).
(2)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر من هذه الآية وهو إسقاط الضمان على قاتل البهيمة الصائلة. انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 190)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 58).
(3)
وذلك كما لو أراد شخص أن يحمل متاع شخص آخر فانكسر من يده فلا يضمن هنا لأنه محسن إليه.
(4)
كما لو خطف إناءه من يده ثم سقط وانكسر فإنه يضمن لأنه مسيء في هذه الحالة فهو كالمفرط.
(5)
انظر: تفسير السعدي (348).
قال الجصاص: (قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَلِيمٍ} عموم في أن كل من كان محسناً في شيء فلا سبيل عليه فيه ويحتج به في مسائل مما قد اختلف فيه، نحو من استعار ثوباً ليصلي فيه، أو دابة ليحج عليها فتهلك، فلا سبيل عليه في تضمينه؛ لأنه محسن، وقد نفى الله تعالى السبيل عليه نفياً عاماً)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك أيضاً من المفسرين: ابن العربي، والقرطبي
(2)
.
ومما يؤيد هذه القاعدة أن المحسن في مقام الأمين فلا يضمن، بينما المسئ في مقام المفرط فعليه الضمان.
مناسبة التعبير بقوله (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) دون (فإن الله لا يرضى عنهم)
.
قال تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} (التوبة: 96).
247 -
قال السعدي رحمه الله: (وتأمل كيف قال: {فَإِن اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} ولم يقل: "فإن الله لا يرضى عنهم" ليدل ذلك على أن باب التوبة مفتوح، وأنهم مهما تابوا هم أو غيرهم، فإن الله يتوب عليهم، ويرضى عنهم، وأما ما داموا فاسقين، فإن الله لا يرضى عليهم، لوجود المانع من رضاه، وهو خروجهم عن ما رضيه الله لهم من
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 186).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 479)، والجامع لأحكام القرآن (8/ 208).
الإيمان والطاعة، إلى ما يغضبه من الشرك، والنفاق، والمعاصي). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة التصريح باسم الفاسقين دون أن يذكرهم بالضمير، وأن مناسبة ذلك فتح باب التوبة لهم، حيث إن سبب عدم الرضا عنهم بسبب الفسق لا لأجل ذواتهم.
وقد أشار إلى نحو هذه المناسبة بعض المفسرين، قال البقاعي:({فَإِن اللَّهَ} أي الذي له الغنى المطلق {لَا يَرْضَى} عنهم، هكذا كان الأصل ولكنه قال: {عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} إشارة إلى تعليق الحكم بالوصف وتعميماً لكل من اتصف بذلك)
(2)
، وقال ابن عاشور:(والعدول عن الإتيان بضمير (هم) إلى التعبير بصفتهم للدلالة على ذمهم وتعليل عدم الرضى عنهم، فالكلام مشتمل على خبر وعلى دليله فأفاد مفاد كلامين لأنه ينحلّ إلى: فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عنهم لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)
(3)
، وممن قال بنحو ذلك: أبوحيان، وأبوالسعود، والألوسي
(4)
.
الأعراب كأهل الحاضرة منهم الممدوح، ومنهم المذموم
.
قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)} (التوبة: 97).
(1)
انظر: تفسير السعدي (348).
(2)
انظر: نظم الدرر (3/ 377).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (10/ 11).
(4)
انظر: البحر المحيط (5/ 94)، وإرشاد العقل السليم (3/ 182)، وروح المعاني (6/ 6).
248 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على أن الأعراب
(1)
كأهل الحاضرة، منهم الممدوح ومنهم المذموم، فلم يذمهم الله على مجرد تعربهم وباديتهم، إنما ذمهم على ترك أوامر الله، وأنهم في مظنة ذلك). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأعراب كأهل الحاضرة منهم المذموم ومنهم الممدوح، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله ذمهم على ترك أوامر الله، فدل تعليق الذم على ذلك أنهم ليسوا مذمومين لأجل أنهم أعراب، وإنما لكونهم تاركين أوامر الله، وفي مكان هم مظنة الجهل الذي سبباً في الترك.
وهذا الاستنباط مؤيد بأن الله في هذه الآيات مدحهم وبين أن منهم مؤمنين، فقال تعالى:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخَرُ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)} . [التوبة: 99].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والتحقيق أن سكان البوادي لهم حكم الأعراب سواء دخلوا في لفظ الأعراب أم لم يدخلوا فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة مثلا)
(3)
.
وهذا الاستنباط فيه عدل وإنصاف لمن كان مؤمناً من الإعراب، كما أن فيه تحذيراً لأهل الحاضرة ألا يظنوا أن مجرد انتسابهم إلى الحاضرة
(1)
لفظ الأعراب هو في الأصل اسم لبادية العرب فإن كل أمة لها حاضرة وبادية فبادية العرب الأعراب ويقال إن بادية الروم الأرمن ونحوهم وبادية الفرس الأكراد ونحوهم وبادية الترك التتار ونحوهم. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 418).
(2)
انظر: تفسير السعدي (349).
(3)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 419).
مزك لهم بل العبرة بالإيمان والامتثال، فقد يكون أعرابياً أفضل بامتثاله، وقد يكون صاحب حاضرة أقل لعصيانه.
كل معين على فعل الخير مطلوب، كما أن إدخال السرور على المؤمنين مطلوب
.
قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةٍ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} (التوبة: 103).
249 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}
(1)
ودل تعليل الآية الكريمة أن كل ما أعان على فعل الخير، ونشط عليه، وسكن قلب صاحبه أنه مطلوب ومحبوب لله، وأنه ينبغي للعبد مراعاته وملاحظته في كل شأن من شؤونه، فإن من تفطن له فتح له أبواباً نافعة له ولغيره بلا تعب ولا مشقة، وأنه ينبغي إدخال السرور على المؤمنين). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن كل أمر فيه إعانة على فعل الخير والتنشيط له فإنه محبوب ومطلوب، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله سبحانه وتعالى بين أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمتصدقين تسكن به قلوبهم وتطيب به نفوسهم، فيسارعون في أداء الصدقات رغبة في الثواب وفيما ينالونه من
(1)
ذكر بعض العلماء استنباطات أخرى من هذه الآية منها: جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً، ومنها: عدم جواز دفع الزكاة كما احتج به مانعوا الزكاة في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا إن الزكاة لا تؤدى إلا لمن صلواته سكن لنا، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. انظر: التفسير الكبير (16/ 143)، والإكليل (2/ 827).
(2)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (78)، وتفسير السعدي (351).
بركة دعاء النبي لهم؛ فأخذ من هذا التعليل قياس غيره من المنشطات عليه.
كما أن هذا الدعاء كان فيه إدخال السرور على نفوس المتصدقين فأخذ منه أيضاً أنه ينبغي إدخال السرور على النفوس بأي شيء تسعد به هذه النفوس وتطمئن.
وتكلم أهل الإدارة في عصرنا كثيراً عن ما يسمى بالثناء، وأهميته في زيادة الإنتاج، وهذا الاستنباط هو تأصيل لهذا المعنى من القرآن الكريم.
النية تغير العمل وإن كان فاضلاً
.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا (108)} (التوبة: 107 - 108).
250 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآيات فوائد عدة: منها: أن العمل وإن كان فاضلاً تغيره النية، فينقلب منهياً عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن العمل الفاضل قد تغيره النية فيصبح عكس ذلك، ووجه استنباط ذلك من الآية أن عمل هؤلاء المنافقين في أصله فاضلاً وهو بناء المسجد، ولكن نيتهم الخبيثة غيرت هذا العمل حتى
(1)
انظر: تفسير السعدي (352).
أصبح عملاً غير صالح، بل حرمت الصلاة فيه.
قال إلكيا الهراسي: (يدل على أن الأفعال تختلف بالقصود والإرادات)
(1)
، وهذا الاستنباط مؤيد بالقاعدة الفقهية الشهيرة وهي: أن الأمور بمقاصدها.
وهذا الاستنباط فيه بيان أن فضيلة العمل ذاته لا تكفي في قبوله وأفضليته، بل هناك ما يؤثر على هذا العمل وربما قلبه إلى الضد، فلا بد من اعتباره والتنبه له وهو النية.
كل ما كان سبباً في تفريق المؤمنين فهو منهي عنه
.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ (107)} (التوبة: 107).
251 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد هذه الآية-: كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها، كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها، لأن الله علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة لله ورسوله). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن كل ما يفرق المؤمنين فهو منهي
(1)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (3/ 58).
(2)
انظر: تفسير السعدي (352).
عنه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله علل النهي عن اتخاذ مسجد الضرار بعلل منها أنها سبب في التفريق بين المؤمنين، فأخذ من هذا المعنى أن كل ما كان سبباً في التفريق فهو محرم، وأخذ من مفهوم المخالفة لذلك أن كل ما فيه جمع لكلمة المؤمنين فهو مطلوب شرعاً.
قال إلكيا الهراسي: (. . . وأن الذي اتخذ لقصد التفريق بين المؤمنين لا تحل به حرمة، ولذلك قال: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهدمه)
(1)
.
عدم جواز الصلاة في أماكن المعصية
.
قال تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا (108)} (التوبة: 108).
252 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد هذه الآية-: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، والبعد عنها، وعن قربها). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله نهى عن الصلاة في مسجد الضرار وهو مكان معصية، فقاس السعدي على ذلك سائر أماكن المعصية.
قال الجصاص: (وهذا يدل على أن بعض الأماكن قد يكون أولى بفعل الصلاة فيه من بعض، وأن الصلاة قد تكون منهية عنها في بعضها)
(3)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (3/ 58).
(2)
انظر: تفسير السعدي (352).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 201).
أعمال المعصية الحسية لا تزال مبعدة لصاحبها عن الله حتى يزيلها
.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (107)} (التوبة: 107).
253 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد هذه الآية-: الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأماكن الحسية للمعصية لا تزال مبعدة لمن أنشأها عن الله حتى يزيلها، ووجود هذه الأماكن هو بمنزلة الإصرار على المعصية، ووجه استنباط ذلك من الآية أن مسجد الضرار مكان حسي للمعصية فكان بمثابة من يقترف المعصية ويقوم بها.
وهذا الاستنباط فيه ردع لمن يشجع المعاصي ويقوم بنشرها ويبني لها أبنية، وينشئ لها قنوات نشر من إعلام مسموع ومقروء، وأن ذلك معصية يحاسب عليها من فعلها حتى يزيلها، وبقاءها بمثابة الإصرار على المعصية.
فضيلة المسجد النبوي
.
قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ (108)} (التوبة: 108).
(1)
انظر: تفسير السعدي (352).
254 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد هذه الآية-: قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ وَيَوْمَ
(1)
إذا كان مسجد قباء
(2)
مسجداً أسس على التقوى، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره الله له من باب أولى وأحرى). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه فضيلة المسجد النبوي، وأنه مؤسس على التقوى، ووجه استنباط ذلك بقياس الأولى، حيث إن مسجد قباء مؤسس على التقوى، فالمسجد النبوي من باب أولى لأنه الأفضل بلا خلاف.
قال ابن كثير: (إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى)
(4)
.
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية: منها: أولاً: صحة ما اتفق عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين مع عمر رضي الله تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعز الله فيه الإسلام والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وبنيت المساجد وعبد الله تعالى كما يجب فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل. انظر: الروض الأنف للسهيلي (4/ 255).
ثانياً: وفي ذلك دليل للكوفيين في أن"من" تكون للابتداء مطلقاً ولا تتقيد بالمكان، وخالف في ذلك البصريون ومنعوا دخولها على الزمان وخصوه بمذ ومنذ وتأولوا الآية بأنها على حذف مضاف أي من تأسيس أول يوم. انظر: روح المعاني (6/ 19).
(2)
بناء على أن المراد بالمسجد هنا هو مسجد قباء، وممن قال بذلك: ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل، وذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بالمسجد هنا هو المسجد النبوي، وممن قال بذلك: ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب. انظر: جامع البيان (6/ 473)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1708)، وزاد المسير (606).
(3)
انظر: تفسير السعدي (352).
(4)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1708).
ينبغي للمسلمين إعداد المتخصصين لكل مصلحة من مصالحهم
.
قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ (122)} (التوبة: 122).
255 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية
(1)
أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف، لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أهمية إعداد المتخصصين لكل مصلحة من مصالح المسلمين، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أمر في هذه الآية أن تتفقه طائفة في الدين، فأخذ السعدي من ذلك أن هذه الطائفة ليست في العلوم الشرعية فقط بل تكون في التخصصات الأخرى التي تنفع الناس وهم بحاجة إليها.
وهذا الاستنباط فيه تأصيل قرآني لأهمية التخصص، ففيه بيان اهتمام الشريعة الإسلامية بما يحقق مصالح الناس في دينهم ودنياهم.
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية، منها: قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة نفر يسير، ومنها: جواز التقليد في الفقه للعامي. انظر: الإكليل (2/ 838)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 201)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 207).
(2)
انظر: تفسير السعدي (355).
سورة يونس
التأمين على الدعاء دعاء
.
قال تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا (89)} (يونس: 89).
256 -
قال السعدي رحمه الله: (قال الله تعالى {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} هذا دليل على أن موسى، كان يدعو، وهارون يؤمن على دعائه، وأن الذي يؤمن، يكون شريكاً للداعي في ذلك الدعاء). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الذي يؤمن على الدعاء بمنزلة من يدعو، ووجه استنباط ذلك من الآية أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يدعو وهارون عليه الصلاة والسلام يؤمن على هذا الدعاء، فأخبر الله عن إجابة دعوتهما مع أن الذي كان يدعو إنما هو موسى فقط، فدل ذلك على أن المؤمن على الدعاء بمنزلة من يدعو.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال السيوطي:(واستدل به على أن التأمين دعاء)
(2)
، وممن قال بذلك من
(1)
انظر: تفسير السعدي (372).
(2)
انظر: الإكليل (2/ 850).
المفسرين أيضاً: الجصاص، والبيضاوي، والخازن، والألوسي
(1)
.
وذكر بعض العلماء تخريجاً آخر لإضافة الدعوة إليهما، وهو أن الأصل أن الدعاء كان منهما جميعاً، وإنما أضيف إلى موسى لأصالته في الرسالة، قال الشوكاني:(ويجوز أن يكونا جميعاً داعيين، ولكن أضاف الدعاء إلى موسى في أوّل الكلام لأصالته في الرسالة)
(2)
، كما أشار إليه الرازي كذلك
(3)
.
والتوجيه الأول هو الأقرب؛ لأن الثاني فيه تكلف معنى لا يؤيده لفظ الآية ومعناها الظاهر. والله أعلم.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 210)، وأنوار التنزيل (2/ 114)، ولباب التأويل (2/ 459)، وروح المعاني (6/ 163).
(2)
انظر: فتح القدير (2/ 597).
(3)
انظر: التفسير الكبير (17/ 122).
سورة هود
ينبغي أن يكون رد السلام أبلغ من الابتداء
.
قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)} (هود: 69).
257 -
قال السعدي رحمه الله: (وأنه ينبغي أن يكون الرد-أي رد السلام-، أبلغ من الابتداء، لأن سلامهم بالجملة الفعلية، الدالة على التجدد، ورده بالجملة الاسمية، الدالة على الثبوت والاستمرار، وبينهما فرق كبير كما هو معلوم في علم العربية). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن رد السلام ينبغي أن يكون أبلغ من الابتداء، ووجه استنباط ذلك من الآية أن إبراهيم كان رده بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والاستمرار، بينما كان ابتداء الملائكة السلام كان بالجملة الفعلية الدالة على التجدد، والجملة الاسمية أبلغ من الجملة الفعلية.
(1)
انظر: تفسير السعدي (385).
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال شهاب الدين الخفاجي:(ووجه كون الجواب أحسن أنه جملة اسمية دالة على الدوام والثبات، فهي أبلغ)
(1)
، وقال ابن عاشور:(ورفع المصدر أبلغ من نصبه، لأنّ الرّفع فيه تناسي معنى الفعل فهو أدلّ على الدّوام والثّبات، ولذلك خالف بينهما للدّلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام ردّ السّلام بعبارة أحسن من عبارة الرسل زيادة في الإكرام)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: ابن القيم، والبيضاوي، وأبو السعود، والألوسي.
(3)
الحث على السعي في الأعوان على الخير ولوكانوا من أهل الشر
.
قال تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيد (80)} (هود: 80).
258 -
قال السعدي رحمه الله: (الحث على السعي في الأعوان على أمور الخير ودفع الشر، ولو كان المعاون على ذلك من أهل الشر، فإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم عند الله، ولهذا قال لوط: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيد (80)}، وأكثر الأنبياء يبعثهم الله في أشراف قومهم، ويحصل بذلك من تأييد الحق وقمع الباطل، والتمكن من الدعوة ما لا يحصل لو لم يكن كذلك). ا. هـ
(4)
(1)
انظر: حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (5/ 192).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (12/ 116).
(3)
انظر: بدائع الفوائد (2/ 638)، وأنوار التنزيل (2/ 139)، وإرشاد العقل السليم (3/ 332)، وروح المعاني (6/ 291).
(4)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (217).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن السعي في إيجاد الأعوان على الخير أمر مطلوب، ولو كان المعاون من أهل الشر، ووجه استنباط ذلك من الآية أن لوطاً تمنى أن لوكان له قوة من البشر تعينه على قومه، وتدفع عنه شرهم، مما يدل على أن السعي في إيجاد المعاون على الحق أمر متعين؛ لأن به يحصل التمكين للحق وأهله.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه، ثم أمر بلالاً فنادى بالناس:(إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)
(1)
وهذا الاستنباط فيه تنبيه لمريدي نصرة الحق، أنهم في بعض الأحيان
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر، ح (3062)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، ح (111).
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: (وقال المهلب وغيره: لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم " لا نستعين بمشرك " لأنه إما خاص بذلك الوقت، وإما أن يكون المراد به الفاجر غير المشرك. قلت: الحديث أخرجه مسلم، وأجاب عنه الشافعي بالأول، وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنينا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك وقصته مشهورة في المغازي، وأجاب غيره في الجمع بينهما بأوجه غير هذه: منها أنه صلى الله عليه وسلم تفرس في الذي قال له " لا أستعين بمشرك " الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم فصدق ظنه؛ ومنها أن الأمر فيه إلى رأي= =الإمام، وفي كل منهما نظر من جهة أنها نكرة في سياق النفي فيحتاج مدعي التخصيص إلى دليل. وقال الطحاوي: قصة صفوان لا تعارض قوله " لا أستعين بمشرك " لأن صفوان خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم باختياره لا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، قلت: وهي تفرقة لا دليل عليها ولا أثر لها؛ وبيان ذلك أن المخالف لا يقول به مع الإكراه، وأما الأمر فالتقرير يقوم مقامه. قال ابن المنير: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل في الإمام إذا حمى حوزة الإسلام وكان غير عادل أنه يطرح النفع في الدين لفجوره فيجوز الخروج عليه، فأراد أن هذا التخيل مندفع بهذا النص، وأن الله قد يؤيد دينه بالفاجر، وفجوره على نفسه) انظر: فتح الباري (6/ 208).
قد يحتاجون إلى معاون فيه سوء، ولكن معاونته فيها رفع للحق، فلا حرج عليهم في السعي في تحقيق نصرة الحق.
وفيه كذلك أن نصرة الدين من عند الله، فإذا لم يقم أهل الحق بنصرة الحق هيأ الله أسباب نصرة الحق على يد غيرهم، ولو من أهل الباطل، فلا يغتر المصلحون، وليعلموا أن سيرهم في نصرة الحق لأنفسهم قبل أن تكون للحق ذاته.
إسناد التوفيق إلى الله في الإصلاح لدفع توهم التزكية في القيام بالإصلاح
.
قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (هود: 88).
259 -
قال السعدي رحمه الله: ({إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي: ليس لي من المقاصد إلا أن تصلح أحوالكم، وتستقيم منافعكم، وليس لي من المقاصد الخاصة لي وحدي، شيء بحسب استطاعتي.
ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس، دفع هذا بقوله:{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} أي: وما يحصل لي من التوفيق لفعل الخير، والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى، لا بحولي ولا بقوتي). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة إسناد التوفيق في الإصلاح
(1)
انظر: تفسير السعدي (387).
إلى الله، وأن مناسبة ذلك دفع توهم تزكية النفس في قيامها بالإصلاح، وأن ذلك إنما هو توفيق من الله لا من المصلح ذاته.
وهذا الاستنباط فيه عبرة للقائمين بالإصلاح أن ما يحصل لهم من توفيق وتأثير إنما هو توفيق من الله، فلا يدخل في نفوسهم شيء من الغرور والعجب، ونحو ذلك مما يفسد العمل.
الكفار مخاطبون بأصل الشريعة، وكذلك بفروعها
.
260 -
قال السعدي رحمه الله: (أن الكفار، كما يعاقبون، ويخاطبون، بأصل الإسلام، فكذلك بشرائعه وفروعه
(1)
، لأن شعيباً دعا قومه إلى التوحيد، وإلى إيفاء المكيال والميزان، وجعل الوعيد، مرتبا على مجموع ذلك). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الكفار مخاطبون بأصل الشريعة
(1)
اختلف أهل العلم هل الكفار مخاطبون بفروع الإسلام؟ فروى بأنهم لا يخاطبون منها بغير النواهي إذ لا معنى لوجوبها مع استحالة فعلها في الكفر وانتفاء قضائها في الإسلام فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله، وهذا قول أكثر الحنفية،
وروي أنهم مخاطبون بها؛ لأنه جائز عقلا وقد قام دليله شرعاً، وهو قول الشافعي، ومالك، وأصح الروايتين عن أحمد، وقال به من الحنفية الكرخي، والرازي. انظر: روضة الناظر بتحقيق النملة: (1/ 229)
(2)
انظر: تفسير السعدي (387).
وفروعها، ووجه استنباط ذلك من الآية أن شعيباً عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد وهو أصل، ودعاهم كذلك إلى إيفاء الكيل والميزان وهو فرع، وجعل الوعيد عليهما مما يؤيد أنهم مخاطبون بالأصل والفرع وإلا لفرق بينهما في العقوبة، والخطاب كذلك.
المال أمانة فلا يجوز للإنسان أن يفعل به ما شاء
.
قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} (هود: 85).
261 -
قال السعدي رحمه الله: (أن المال الذي يرزقه الله الإنسان - وإن كان الله قد خوله إياه - فليس له أن يصنع فيه ما يشاء، فإنه أمانة عنده، عليه أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق، والامتناع من المكاسب التي حرمها الله ورسوله، لا كما يزعمه الكفار، ومن أشبههم، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاءون ويختارون، سواء وافق حكم الله، أو خالفه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المال أمانة عند من رزقه الله المال، فلا يجوز له أن يفعل به ما شاء بل يجب أن يقيم أمر الله فيه بأداء الحقوق، والامتناع عن الكسب المحرم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن شعيباً أمر قومه بالوفاء بالمكيال والميزان، ونهاهم عن بخس أموال الآخرين، مما يدل على أن الأموال أمانة وليست مجرد أمر يستطيع الإنسان أن يفعل فيه ما يريد.
(1)
انظر: تفسير السعدي (387).
وهذا الاستنباط فيه تنبيه لأصحاب الأموال أن يراقبوا الله في صرف أموالهم، وأنهم محاسبون على ذهاب الأموال فيما حرم الله، فالملكية للأموال لا تعني صرفها في كل شيء.
كما أن فيه تأصيل لما يسمى اليوم ترشيد الاستهلاك، فلا يعني امتلاك الشيء أن يفعل الإنسان فيه ما يريد بل يجب أن يكون ذلك وفق الحاجة والمباح، فإذا خرج عن الحاجة وقع في الإسراف وهو محرم، وإذا خرج عن المباح وقع في الحرام.
الإصلاح يكون بقدر المستطاع
.
قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (هود: 88).
262 -
قال السعدي رحمه الله: (أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح لم يكن ملوماً ولا مذموماً في عدم فعله ما لا يقدر عليه فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الإصلاح يكون بقدر المستطاع، فمن قام بما يقدر عليه من الإصلاح لم يكن مذموماً في ترك ما لا يقدر عليه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن شعيباً ربط إصلاحه باستطاعته، مما يدل على أن الإصلاح مربوط بالاستطاعة والقدرة، فمن فعل ما يقدر عليه فقد وفى.
وهذا الاستنباط قاعدة دعوية مهمة، فإذا فقه الداعية ذلك خف عليه ما لم يستطع إصلاحه، وكف عن جلد ذاته في أمور ليس في استطاعته
(1)
انظر: تفسير السعدي (387).
إصلاحها لعدم القدرة على ذلك، خصوصاً في هذا الزمن الذي توسع فيه الخرق على الراقع.
كما أن في هذا الاستنباط كف اللوم عن الدعاة والمصلحين فيما لم يقدروا على القيام به وإصلاحه، وأنه يجب رفع اللائمة عنهم؛ لأنهم قاموا بما يستطيعون، فحينئذ لا لوم عليهم فيما لم يستطيعوه.
السعي في الأمور التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين متعين
.
قال تعالى: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ (91)} (هود: 91).
263 -
قال السعدي رحمه الله: (أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئاً منها وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم، نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسير السعدي (389).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الله يدافع عن المؤمنين بأمور كثيرة، وأن السعي فيها متعين، ووجه استنباط ذلك من الآية أن قوم شعيب كانوا يريدون رجمه لولا أن الله دفع عنه ذلك بسبب قومه، فأخذ السعدي من ذلك أن السعي في وسائل الدفع مطلوب.
وهذا الاستنباط فيه فائدة كبيرة وهي أن البحث عن السنن التي سنها الله في الكون والتي يحصل بها الدفع أمر يجب الأخذ به والبحث عنه والسعي في تحقيقه حفاظاً على الحق وأهله.
سورة يوسف
قصة يوسف فيها دلالة من دلالات النبوة
.
قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} (يوسف: 3).
264 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها: ما فيها من الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قصَّ على قومه هذه القصة الطويلة، وهو لم يقرأ كتب الأولين ولا دارس أحداً، يراه قومه بين أظهرهم صباحا ومساء، وهو أمِّيٌّ لا يخط ولا يقرأ، وهي موافقة، لما في الكتب السابقة، وما كان لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من عموم قصة يوسف عليه السلام دلالتها على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً، ولم يكن له اطلاع على كتب السابقين، ولم يكن كذلك مجالسة لهم أو مدارسة معهم، ومع ذلك جاءت قصة يوسف كاملة، مما يدل على أن ذلك وحي من الله، مما يدل
(1)
انظر: تفسير السعدي (408)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (124)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (274).
على صحة وتقرير نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأقوى برهان عقلي، وأعظم دليل نقلي
(1)
.
تعبير الرؤى مبني على المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة
.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرُ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)} (يوسف: 4).
265 -
قال السعدي رحمه الله: (فلنذكر ما يستنبط من هذه القصة العظيمة من الفوائد، منها: أن فيها أصلاً لتعبير الرؤيا، وأن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها الله من يشاء من عباده، وإن أغلب ما تبنى عليه المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة، فإن رؤيا يوسف التي رأى أن الشمس والقمر، وأحد عشر كوكباً له ساجدين، وجه المناسبة فيها: أن هذه الأنوار هي زينة السماء وجمالها، وبها منافعها، فكذلك الأنبياء والعلماء، زينة للأرض وجمال، وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بهذه الأنوار، ولأن الأصل أبوه وأمه، وإخوته هم الفرع، فمن المناسب أن يكون الأصل أعظم نورا وجرما، لما هو فرع عنه. فلذلك كانت الشمس أمه، والقمر أباه، والكواكب إخوته.
ومن المناسبة أن الشمس لفظ مؤنث، فلذلك كانت أمه، والقمر والكواكب مذكرات، فكانت لأبيه وإخوته،. ومن المناسبة أن الساجد معظم محترم للمسجود له، والمسجود له معظم محترم، فلذلك دل ذلك على أن
(1)
انظر: إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف (1/ 39).
يوسف يكون معظما محترما عند أبويه وإخوته). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أصلاً من أصول تعبير الرؤيا، وهو بناء تعبير الرؤيا على المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة.
قال السيوطي: (هي أصل في تعبير الرؤيا)
(2)
.
وهذا الاستنباط فيه أن تعبير الرؤيا لابد أن يكون مبنياً على أصول وشواهد في الرؤيا، فالتعبير ليس مجرد تخرص وإنما هو مبني على رموز في الرؤيا يجب اعتبارها في تفسير الرؤيا.
مما ينبغي فعله البعد عن أسباب الشر، وكتم ما يخشى ضرره
.
قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} (يوسف: 5).
266 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر، وكتمان ما تخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (407)، وفوائد مستنبط من قصة يوسف للسعدي (107) وتيسير اللطيف المنان للسعدي (271 - 272).
(2)
انظر: الإكليل (2/ 867).
(3)
انظر: تفسير السعدي (408)، وفوائد مستنبط من قصة يوسف للسعدي (117)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (274).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية البعد عن أسباب الشر، وكتمان ما تخشى مضرته، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يعقوب عليه السلام قال لابنه يوسف بعد أن قص عليه الرؤيا وعرف منها يعقوب الخير الذي سيناله يوسف، وأنه سيحسد من إخوته فدله على كتمان ذلك، فأخذ السعدي من ذلك أن ما تخشى مضرته فإنه يكتم.
قال الجصاص: (وهو أصل في جواز ترك إظهار النعمة وكتمانه عند من يخشى حسده وكيده)
(1)
، وممن قال به كذلك من المفسرين: إلكيا الهراسي، والقرطبي، وابن كثير
(2)
.
جواز ذكر الإنسان بما يكره، نصحاً لغيره
.
قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} (يوسف: 5).
267 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 216).
(2)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 74)، والجامع لأحكام القرآن (9/ 110)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1827)، وانظر كذلك: إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف (1/ 66).
(3)
انظر: تفسير السعدي (408)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (274).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز ذكر الإنسان بما يكره؛ إذا كان ذلك نصحاً للغير، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يعقوب عليه السلام حذر يوسف من كيد إخوته، مما يدل على أن فعل مثل ذلك ليس داخلاً في الغيبة.
قال القرطبي- موافقاً السعدي على هذا الاستنباط-: (وفي هذه الآية دليل على أن مباحاً أن يحذر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه ولا يكون داخلاً في معنى الغيبة لأن يعقوب عليه السلام قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على أخوته فيكيدوا له كيدا)
(1)
.
وهذا الاستنباط ينبغي أخذه بالتوسط والاعتدال، وبضوابطه الشرعية، لأن فتح الباب في الغيبة بحجة التحذير قد يدخل فيه هوى النفوس فلا بد من ضبط المسألة بضوابط الشرع.
كما أن مثل هذا الفعل ليس مدعاة لتكثير الظنون والاتهامات حول من ارتكبه، فهنا قال يعقوب إنه من كيد الشيطان وعداوته، ولم يتوسع في بيان عداوتهم ليوسف بل كأنه اعتذر لهم بأن هذا من سيطرة الشيطان عليهم.
وجوب العدل في المحبة بين الأولاد، وعدم التمييز بينهم ظاهراً
.
قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)} (يوسف: 8).
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (9/ 110).
268 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن فوائد هذه القصة أنه يتعين على الإنسان أن يعدل بين أولاده، وينبغي له إذا كان يحب أحدهم أكثر من غيره أن يخفي ذلك ما أمكنه، وأن لا يفضله بما يقتضيه الحب من إيثار بشيء من الأشياء، فإنه أقرب إلى صلاح الأولاد وبرهم به واتفاقهم فيما بينهم ; ولهذا لما ظهر لإخوة يوسف من محبة يعقوب الشديدة ليوسف وعدم صبره عنه وانشغاله به عنهم سعوا في أمر وخيم، وهو التفريق بينه وبين أبيه، فقالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)} [يوسف: 8، 9] وهذا صريح جداً أن السبب الذي حملهم على ما فعلوا بيوسف من التفريق بينه وبين أبيه هو تميزه بالمحبة. . . والمقصود: أن الذي حمل إخوة يوسف على ما فعلوا هو تمييز يعقوب ليوسف). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً تربوياً، وهو وجوب العدل بين الأولاد، وإخفاء التمييز في المحبة بينهم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الفتنة التي حصلت بين يوسف وإخوته كانت بسبب تمييز يعقوب في محبته ليوسف، فدل ذلك على أن العدل بين الأولاد في المحبة مما يقوي أواصر المحبة بينهم.
وهذا الاستنباط فيه الاهتمام بالعدل بين الأولاد حتى لا يؤثر ذلك على مستقبل ودهم مع بعضهم؛ إذ في التفضيل بينهم زرع الإحن بينهم وتفريق صفهم.
(1)
انظر: فوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (116)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (275).
الشيء المتداول ولو على غير الشرع يصير من جملة الأموال ولا إثم على من باعه واشتراه مع عدم علمه بذلك
.
قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)} (يوسف: 20).
269 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أن الشيء إذا تداولته الأيدي وصار من جملة الأموال، ولم يعلم أنه كان على غير وجه الشرع، أنه لا إثم على من باشره ببيع أو شراء، أو خدمة أو انتفاع، أو استعمال
(1)
، فإن يوسف عليه السلام باعه إخوته بيعاً حراماً لا يجوز، ثم ذهبت به السيارة إلى مصر فباعوه بها، وبقي عند سيده غلاماً رقيقاً، وسماه الله شراء، وكان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الشيء المتداول بالبيع والشراء والذي أصله ليس على وجه الشرع، يصير من جملة الأموال فلا إثم على من باعه أو اشتراه أو استعمله أو انتفع به ونحو ذلك إذا لم يعلم بحقيقة أصله، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله ذكر عن يوسف ذلك وكيف حصل فيه البيع والشراء مع أن أصله حر لا يجوز بيعه ولا شراؤه، ولكن
(1)
ومما يؤيد ذلك أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم كانوا يسألون عن أصول أموال من كانوا يتعاملون معهم، مع أنهم كانوا يتعاملون مع من هم مظنة السرقة، أوالنهب، أوالغصب، أوالاحتيال ونحو ذلك، إذ كان التعامل في البيع والشراء مع المشركين، واليهود، ونحوهم ممن هو مظنة الإستيلاء على الأموال بغير حق، ومع هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم التحرز من شراء ما كان يحتاجه منهم، مما يدل على أن الأصل الحل في مثل هذا التعامل.
(2)
انظر: تفسير السعدي (408)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (277).
لعدم علم من فعل ذلك لم يذكر الله بعد ذلك شيئاً يبين حرمة ما فعلوا مما يدل على الجواز؛ لأن الله لا يذكر في القرآن شيئاً يحتاج إلى تعقيب وبيان إلا وبينه.
ومما يؤيد هذا الاستنباط أن المشقة تجلب التيسير، فلو كلف الإنسان البحث عن مصدر كل مال لكان في ذلك حرج ومشقة، ولكن رحم الله الخلق فلم يكلفهم بذلك، وعليه فلا إثم على من باشر بيع أوشراء أوخدمة أواستعمال ولم يعلم أنه كان على غير الشرع
(1)
.
الهروب من مواقع الفتن، وأسباب المعصية
.
قال تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)} (يوسف: 25).
270 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-:: أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة وأسباب معصية، أن يفر منه ويهرب غاية ما يمكنه، ليتمكن من التخلص من المعصية، لأن يوسف عليه السلام -لما راودته التي هو في بيتها- فر هارباً، يطلب الباب ليتخلص من شرها). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه ينبغي للعبد الهروب من أماكن
(1)
انظر: إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف (1/ 279).
(2)
انظر: تفسير السعدي (409)، وفوائد مستنبط من قصة يوسف للسعدي (122)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (278).
الفتنة، وأسباب المعصية؛ حتى ينجو من ذلك، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف هرب من موقع الفتنة لما دعته امرأة العزيز.
وهذا الاستنباط استنباطاً سلوكياً في كيفية التعامل مع المعصية وموقع الفتنة وأسبابها، وأن الهرب وعدم التعرض لذلك من أسباب النجاة، وفيه زجر وعظة لبعض العصاة في زماننا الذين يذهبون بأنفسهم إلى أماكن المعصية، ويتعرضون لأسباب الفتنة سواء ما كان منها مسموعاً أو مرئياً أو مكتوباً، فالهروب من الفاحشة والفتنة أمر ممدوح
(1)
.
العمل بالقرائن عند الاشتباه
.
قال تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلُهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} (يوسف: 26 - 27).
271 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أن القرائن يعمل بها عند الاشتباه
(2)
، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار، فما يصلح للرجل فإنه للرجل، وما يصلح للمرأة فهو لها، إذا لم يكن بينة، وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة، والعمل بالقافة في الأشباه والأثر، من هذا الباب، فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة، وحكم بها في قد القميص، واستدل بقدِّه من دبره على صدق يوسف وكذبها.
(1)
انظر: إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف (1/ 328).
(2)
قال ابن القيم: (دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام) انظر: إعلام الموقعين (3/ 103).
ومما يدل على هذه القاعدة، أنه استدل بوجود الصُّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة، من غير بينة شهادة ولا إقرار، فعلى هذا إذا وجد المسروق في يد السارق، خصوصاً إذا كان معروفاً بالسرقة، فإنه يحكم عليه بالسرقة، وهذا أبلغ من الشهادة، وكذلك وجود الرجل يتقيأ الخمر، أو وجود المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، حاملاً فإنه يقام بذلك الحد، ما لم يقم مانع منه، ولهذا سمى الله هذا الحاكم شاهدا فقال:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلُهَا} ). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مشروعية العمل بالقرائن عند الاشتباه، ووجه استنباط ذلك
من الآية أن شاهد يوسف شهد بالقرينة، وهي مكان القطع من الثوب، فإذا كان القد من
الأمام فهو قرينة على صدقها، لأنه دال على إقباله، وإن كان القد من الخلف فهو قرينة على صدقه، لأنه دال على إدباره وهروبه.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الشنقيطي:(يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين، وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب؛ لأن كون القميص مشقوقاً من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها، وهي تنوشه من خلفه)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، والهراسي، وابن عطية، وابن الفرس، والقرطبي، والطوفي، والألوسي، وابن عاشور.
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (409)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (121)، وفتح الرحيم (165)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (278).
(2)
انظر: أضواء البيان (3/ 71).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 222)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 75)، والمحرر الوجيز (990)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 217)، والجامع لأحكام القرآن (9/ 150)، والإشارات الإلهية (2/ 330)، روح المعاني (6/ 414)، والتحرير والتنوير (12/ 257).
تقديم الأهم فالأهم
.
272 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أنه يبدأ بالأهم فالأهم، وأنه إذا سئل المفتي، وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته، وحسن إرشاده وتعليمه، فإن يوسف - لما سأله الفتيان عن الرؤيا - قدم لهما قبل تعبيرها دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية تقديم المفتي للسائل ما هو بحاجة إليه ولو لم يكن ضمن سؤاله، وأن هذا من باب تقديم الأهم فالمهم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف لما سأله الفتيان عن الرؤيا، بدأ بالكلام معهما عن التوحيد؛ لأنه الأهم في حقهما.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الزمخشري: (وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة
(1)
انظر: تفسير السعدي (410)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (281).
والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك أيضاً من المفسرين: الرازي، والألوسي.
(2)
وهذه الطريقة في الفتيا تدل على فقه المُستفتَى، وحرصه على مصلحة المستفتِي التي ربما لا تظهر له وقد يفوت عليه إدراكها.
وقد ذكر بعض المفسرين
(3)
أوجهاً أخرى لتقديم يوسف الكلام عن التوحيد قبل أن يفسر رؤيا الغلامين، من أهمها:
أولاً: لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه.
ثانياً: لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر، ولا يستوجب العقاب الشديد.
ثالثاً: أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب، ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام، فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه، حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة.
وما ذكره السعدي ومن وافقه لا يتنافى مع هذا الكلام؛ إذ الكلام هنا إنما هو تفسير لسبب التقديم وبيان الحاجة لتقديم الكلام عن التوحيد، وعلى أي حال فهو قدم الأهم في الفتيا، ولا يضر هنا بيان السبب الذي لأجله قُدم. والله أعلم.
(1)
انظر: الكشاف (515).
(2)
انظر: التفسير الكبير (18/ 109)، وروح المعاني (6/ 431).
(3)
انظر: التفسير الكبير (18/ 109).
بيان طريقة نافعة من طرق الجدال
.
قال تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرَ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)} (يوسف: 39).
273 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن فوائد القصة الإرشاد إلى طريق نافع من طرق الجدال، والمقابلة بين الحق والباطل، وهو بيان ما في الحق من الخير والمنافع العاجلة والآجلة، وما في الباطل من ضد ذلك، قال تعالى في دعوة يوسف للتوحيد: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرَ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)} فذكر ما في الشرك من القبح وسوء الحال واتباع الظنون الباطلة، وأن كل طائفة من الشرك لهم معبود، إما نار أو صنم أو قبر أو ميت، أو غير ذلك من المعبودات المتفرقة التي لا تملك لنفسها ولا لأهلها نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وكل طائفة تضلل الأخرى، وكلهم ضالون هالكون، فهل هذه الأرباب والمعبودات خير أم الله الواحد القهار؟ فذكر له ثلاثة أوصاف عامة عظيمة: أنه الله الذي له الأسماء والصفات العليا، ومنه النعم كلها وبذلك استحق أن يكون الله المألوه، إله أهل الأرض وأهل السماء، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وأنه الواحد المتفرد بكل صفة كمال، المتوحد بنعوت الجلال والجمال، الذي لا شريك له في شيء من الأفعال ; وأنه القهار لكل شيء ; فجميع العالم العلوي والسفلي كلهم مقهورون بقدرته، خاضعون لعظمته، متذللون لعزته وجبروته، فمن هذه صفاته العظيمة هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، لا شريك له). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: فوائد مستنبطة من قصة يوسف (137).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دلالتها على طريقة نافعة من طرق الجدال وهي مقابلة بين الحق والباطل مع بيان ما في الحق من خير عاجل وآجل ما في الباطل من ضد ذلك، ووجه
استنباط ذلك من الآية أن يوسف بين لهؤلاء الفتيان في المجادلة معهم المقابلة بين الإله الذي يعبده، وبين الأرباب الذين يدعونهم من دون الله، وبين وجه كبير في الفرق وهو الوحدانية، والقدرة.
ولا شك أن هذه الطريقة نافعة جداً لمن أراد الله له الخير، كما أن فيها إقناعاً عقلياً بعظم الحق، وفيها كذلك إسقاط لراية الباطل، فما أن يقوم الحق إلا وتتهاوى أمامه رايات الباطل، وذلك ببيان مصالح الحق ومفاسد الباطل وهذا يكون بالمقابلة بين الحق والباطل.
تعبير الرؤيا فتوى شرعية
.
قال تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)} (يوسف: 41).
274 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أن علم التعبير من العلوم الشرعية، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه، وأن تعبير المرائي داخل في الفتوى، لقوله للفتيين: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)} وقال الملك: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} [يوسف: 43] وقال الفتى ليوسف: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} [يوسف: 46] الآيات، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم). ا. هـ
(1)
(1)
قال ابن سيرين: (واعلم أن نفاذك في علم الرؤيا بثلاثة أصناف من العلم، لابد لك منها:
أولاً: حفظ الأصول ووجوهها واختلافها وقوتها وضعفها في الخير أوفي الشر.
ثانياً: تأليف الأصول بعضها إلى بعض.
ثالثاً: شدة تفحصك وتثبتك في المسألة حتى تعرفها حق معرفتها، وتستدل من سوى الأصول بكلام صاحب الرؤيا ومخارجه ومواضعه على تلخيصها وتحقيقها). انظر: تفسير الأحلام لابن سيرين (27).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن تعبير الرؤى داخل في الفتيا، فلا بد أن يكون عن علم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل ذكر في أكثر من آية في قصة يوسف أن تعبير الرؤيا فتيا.
والمقصود من ذلك أن الفتيا لا بد أن تكون عن علم، فكما لا يجوز التصدر للفتيا عن غير علم، لا يجوز التصدر لتعبير الرؤى من غير علم بأصول التعبير
(1)
.
وهذا الاستنباط له فائدة في زماننا إذ انبرى لتعبير الرؤى خلق كثير، ولكن عندما يعلم بعضهم أن التعبير فتيا، فربما يرعوي ويترك التصدي لهذا الشأن خصوصاً لمعدومي الأهلية.
الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة
.
قال تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرٌ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)} (يوسف: 42).
275 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أنه لا بأس بالاستعانة بالمخلوق في الأمور العادية التي يقدر عليها بفعله أو قوله وإخباره كما قال يوسف للذي ظن أنه ناج
(1)
انظر: تفسير السعدي (410)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (282).
منهما: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مسألة عقدية، وهي جواز الاستعانة بالمخلوقين فيما يقدرون عليه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله ذكر عن يوسف استعانة بأحد الفتيين الذين استفتياه في الرؤيا طلب منه أن يذكره عند الملك، مما يدل على جواز الاستعانة بالمخلوقين فيما يقدرون عليه.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال القاسمي:(دلت الآية على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة ولو مشركاً)
(2)
، وممن قال بنحو ذلك من المفسرين: الزمخشري، وابن العربي، والرازي، والبيضاوي.
(3)
وقد أشار بعض المفسرين هنا إلى أن سبب لبث يوسف في السجن بضع سنين، أنه عندما طلب الاستعانة بالملك نسي الاستعانة بالله فعاقبه الله بأن لبث في السجن بضع سنين، قال الخازن: (والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه عز وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بمخلوق مثله في دفع الضرر وتلك غفلة عرضت ليوسف عليه السلام فإن الاستعانة بالمخلوق في دفع الضرر جائزة إلا أنه لما كان مقام يوسف أعلى المقامات ورتبته أشرف
المراتب وهي منصب النبوة والرسالة لا جرم صار يوسف مؤاخذاً بهذا القدر فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين)
(4)
، وأيدوا استنباطهم هذا بما جاء عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو لم
(1)
انظر: تفسير السعدي (410)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (124)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (281).
(2)
انظر: محاسن التأويل (6/ 184).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 47)، والكشاف (516)، التفسير الكبير (18/ 117)، وأنوار التنزيل (2/ 175).
(4)
انظر: لباب التأويل (2/ 530).
يقل -يعني: يوسف -الكلمة التي قال: ما لبث في السجن طول ما لبث. حيث يبتغي الفرج من عند غير الله)
(1)
.
وهذا الاستنباط مردود وغير صحيح للآتي:
أولاً: أن هذا لا يليق بصغار المؤمنين، أن يكون طلب استعانتهم بالمخلوقين سبباً في نسيانهم الاعتماد على الله، فكيف بنبي.
ثانياً: أن ما فعله يوسف إنما هو من باب بذل الأسباب التي يجب على الإنسان بذلها، ولا يليق في حقه غير ذلك.
ثالثاً: أما الحديث فالجواب عنه ما قاله ابن كثير حيث قال بعد إيراده: (وهذا الحديث ضعيف جداً؛ لأن سفيان بن وَكِيع ضعيف، وإبراهيم بن يزيد -هو الخُوزي -أضعف منه أيضاً، وقد رُوي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما، وهذه المرسَلات هاهنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن. والله أعلم)
(2)
.
تقييد السنين المجدبات بالسبع دليل على أن ما بعدها فيه رخاء
.
قال تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} (يوسف: 49).
276 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 49] أي يحصل للناس فيه غيث مغيث، تعيد الأراضي خصبها، ويزول عنها جدبها، وذلك مأخوذ من
(1)
رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (7/ 221)، برقم (19322).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1844).
تقييد السنين المجدبات بالسبع ; فدل هذا القيد على أنه يلي هذه السبع ما يزيل شدتها، ويرفع جدبها ; ومعلوم أن توالي سبع سنين مجدبات لا يبقي في الأرض من آثار الخضر والنوابت والزروع ونحوها لا قليلاً ولا كثيراً، ولا يرفع هذا الجدب العظيم إلا غيث عظيم ; وهذا ظاهر جدا، أخذه من رؤيا الملك ومن العجب أن جميع التفاسير التي وقفت عليها لم يذكروا هذا المعنى، مع وضوحه، بل قالوا: لعل يوسف صلى الله عليه وسلم جاءه وحي خاص في هذا العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. والأمر لا يحتاج إلى ما ذكروه، بل هو ولله الحمد ظاهر من مفهوم العدد، وأيضاً ظاهر من السياق؛ فإنه جعل هذا التعبير والتفسير توضيحاً لرؤيا الملك). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن ذكر العام الذي يغاث فيه الناس مفهوم من الآية، ووجه استنباطه من الآية بمفهوم العدد، حيث إن السنين الشداد سبع سنين، فدل مفهوم ذلك أن بعد السبع السنين يأتي العام الذي يغاث الناس فيه.
ولم أجد من المفسرين من وافق السعدي على هذا الاستنباط، بل ذكر جمع من المفسرين أن هذا الإخبار لا بد أن يكون عن وحي، قال أبوالسعود:(وأحكامُ هذا العام المبارك ليست مستنبَطةً من رؤيا الملكِ وإنما تلقاها عليه السلام من جهة الوحي)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، وشهاب الدين خفاجي، والألوسي، ومحمد رشيد رضا
(3)
.
(1)
انظر: فوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (115).
(2)
انظر: إرشاد العقل السليم (3/ 401).
(3)
انظر: الكشاف (519)، والتفسير الكبير (18/ 121)، والجامع لأحكام القرآن (9/ 174)، وأنوار التنزيل (2/ 177)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (5/ 319)، وروح المعاني (6/ 445)، وتفسير المنار (12/ 269).
وقد قال بعض المفسرين أن استنباط يوسف لعام الإغاثة هو من باب أن انتهاء الجدب بالخصب، أو بأن السنة الإِلهية على أن يوسع الله على عباده بعدما ضيق عليهم، قال ابن عاشور:(فهو بشارة وإدخال المسرة والأمل بعد الكلام المؤيس، وهو من لازم انتهاء مدة الشدة، ومن سنن الله تعالى في حصول اليسر بعد العسر)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك أيضاً: محيي الدين شيخ زاده
(2)
.
وما ذهب إليه السعدي استنباط قوي من الرؤيا، إذ هو مؤيد بمفهوم العدد، ولا يمنع أنه فهم ذلك كذلك من حصول اليسر بعد العسر، وأن زمن الشدة لا بد أن يكون بعده فرج.
وأما كون ذلك وحي فلا حاجة إلى ذلك إذ الدلائل تدل عليه من غير حاجة إلى الوحي كما ذكره السعدي. والله أعلم.
دفع التهمة عن النفس أمر لا يلام عليه الإنسان
.
قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)} (يوسف: 50).
277 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه، وطلب البراءة لها، بل يحمد على ذلك، كما امتنع يوسف عن
(1)
انظر: التحرير والتنوير (12/ 287).
(2)
انظر: حاشية زاده على البيضاوي (5/ 44).
الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة اللاتي قطعن أيديهن). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الإنسان لا يلام على دفع التهمة عن نفسه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف امتنع عن الخروج من السجن دفعاً للتهمة التي وجهت له بسبب النسوة حتى ثبتت براءته.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال البيضاوي:(وفيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها)
(2)
، وقال السيوطي:(فيه سعي الإنسان في براءة نفسه، لئلا يُتهم بخيانة أونحوها، خصوصاً الأكابر ومن يُقتدى بهم)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين: الجصاص، وإلكيا الهراسي، والرازي، والألوسي، ومحمد رشيد رضا
(4)
.
ويؤيد هذا المعنى المستنبط ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين من الأنصار مرا عليه ومعه صفية بنت حيي، فقال:(على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً)
(5)
، قال النووي في شرحه
(1)
انظر: تفسير السعدي (410)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (124)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (282).
(2)
انظر: أنوار التنزيل (2/ 177).
(3)
انظر: الإكليل (2/ 876).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 224)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 77)، والتفسير الكبير (18/ 121)، وروح المعاني (6/ 447)، وتفسير المنار (12/ 270).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، ح (2035)، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خالياً بامرأة وكانت زوجة أومحرماً له، أن يقول هذه فلانة، ليدفع ظن السوء به، ح (2175).
لهذا الحديث: (وفيه استحباب التحرز من التعرض لسوء ظن الناس في الإنسان، وطلب السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة، وأنه متى فعل ما قد ينكر ظاهره مما هو حق، وقد يخفى، أن يبين حاله ليدفع ظن السوء)
(1)
.
لا بأس أن يخبر الإنسان عن صفات الكمال في نفسه
.
قال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} (يوسف: 55).
278 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل، إذا كان في ذلك مصلحة، ولم يقصد به العبد الرياء، وسلم من الكذب، لقول يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} وكذلك لا تذم الولاية، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله وحقوق عباده، وأنه لا بأس بطلبها، إذا كان أعظم كفاءة من غيره، وإنما الذي يذم، إذا لم يكن فيه كفاية، أو كان موجودا غيره مثله، أو أعلى منه، أو لم يرد بها إقامة أمر الله، فبهذه الأمور، ينهى عن طلبها، والتعرض لها). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن إخبار الإنسان عن نفسه بصفات
(1)
انظر: شرح النووي على مسلم (14/ 131).
(2)
انظر: تفسير السعدي (410)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (145)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (282).
الكمال جائز إذا لم يكن في ذلك كذب أو رياء، وكان في هذا الإخبار مصلحة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف طلب من العزيز أن يتولى خزائن الأرض، وأخبر عن نفسه بأنه حفيظ عليم، ولم يُلم على ذلك.
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال الألوسي:(وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جهل أمره، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلاً وكان متعيناً لذلك)
(1)
، وممن قال بذلك من
المفسرين أيضاً: الجصاص، والقصاب الكرجي، وإلكيا الهراسي، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، ابن كثير، والبيضاوي، وأبوالسعود، والسيوطي، وابن عاشور.
(2)
وقد يشكل على هذا الاستنباط النهي الوارد عن تزكية النفس في قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] وكذلك النهي الوارد عن طلب الإمارة كما جاء في حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)
(3)
.
والجواب عن ذلك كالآتي:
(1)
انظر: روح المعاني (7/ 7).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 225)، ونكت القرآن (1/ 618)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 77)، والمحرر الوجيز (1003)، والتفسير الكبير (18/ 128)، والجامع لأحكام القرآن (9/ 183)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1847)، وأنوار التنزيل (2/ 178)، وإرشاد العقل السليم (3/ 406)، والإكليل (2/ 876)، والتحرير والتنوير (13/ 9).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب من سأل الإمارة وكل إليها، ح (7147)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، ح (1652).
أولاً: مدح النفس بما فيها للمصلحة ليس بمحرم إنما المحرم إذا كان المراد التطاول، والوصول إلى غير ما يحل، قال الرازي:(مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] المراد منه تزكية النفس حال ما يعلم كونها غير متزكية)
(1)
.
ثانياً: أما الحديث فالجواب عنه: أن طلب الولاية المنهي عنه إذا كان هناك من يساويه في الفضل؛ لأن طلبها مع وجود غيره ممن هو أكفأ يدل على أنه يريد نفع نفسه لا يريد نفع الخلق، أما إذا لم يكن هناك غيره، وكان يريد نفع الخلق فالواجب عليه أن يتقدم لهذه الولاية وليست من باب النهي الوارد حينئذ، وعند التأمل في الولاية التي طلبها يوسف نجد أنه كان كفواً ليس لا ينافسه غيره، كما أنه يريد نفع الناس إذ طلب أمراً يرى احتياج الناس إليه فيه، قال ابن عاشور:(وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة، وخاصة إذا لم يكن ممّن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة. وقد علم يوسف عليه السلام أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، فلا يعارض هذا ما جاء في حديث عبد الرحمن بن سمرة؛ لأن عبد الرحمان بن سمرة لم يكن منفرداً بالفضل من بين أمثاله ولا راجحاً على جميعهم)
(2)
، وقال الخازن: (قلت إنما يكره طلب الإمارة إذا لم يتعين عليه طلبها فإذا تعين عليها طلبها وجب ذلك عليه ولا كراهية فيه، وقيل إنه علم انه سيحصل قحط وشدة إما بطريق الوحي من الله أو بغيره وربما أفضى ذلك إلى هلاك معظم الخلق، وكان في طلب الإمارة إيصال
(1)
انظر: التفسير الكبير (18/ 128).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (13/ 9).
الخير والراحة إلى المستحقين وجب عليه طلب الأمارة لهذا السبب)
(1)
.
اعتبار الكفاءة والأمانة في الولايات والوظائف
.
قال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} (يوسف: 55).
279 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف: 55]، {إِن خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص: 26]. يدل على اعتبار الكفاءة والأمانات في الولايات والوظائف كلها بحسب ما يليق بالولاية، فإن لم يحصل الأكمل في هذه الصفات فالأمثل فيها). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين، استنباطاً متعلقاً بالسياسة الشرعية وهو اعتبار الكفاءة والأمانة في الولايات والوظائف من الأمور المعتبرة شرعاً، بحسب كل ولاية ما تحتاج، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف عرض نفسه بالكفاءة لهذا المنصب الذي طلبه وكانت كفاءته الأمانة والعلم، وموسى كانت كفاءته القوة والأمانة، فأخذ السعدي من ذلك اعتبار الكفاءة في الولايات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فليس عليه أن يستعمل إلا أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام،
(1)
انظر: لباب التأويل (2/ 536).
(2)
انظر: فتح الرحيم للسعدي (165).
وأخذه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله، وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة. كما قال تعالى: {إِن خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص: 26])
(1)
.
وهذا الاستنباط تأصيل لما يسمى اليوم في علم الإدارة الكفاءة الإدارية، وهو كون المدير يحصل على مجموعة من الصفات الإدارية حتى يحصل على هذه الدرجة.
كما أن هذا الاستنباط يستفاد منه محاربة المحسوبية والوساطة التي من شأنها تقديم من ليس كفؤاً؛ لأن ضرر تقديم من كان كذلك يكون على المصلحة العامة للناس.
انعقاد العقود بما يدل عليها من قول وفعل
.
قال تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)} (يوسف: 62).
280 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أن العقود تنعقد بما يدل عليها من قول وفعل، لا فرق بين عقود التبرعات وعقود المعاوضات
(2)
، لأن يوسف صلى الله عليه وسلم ملك
(1)
انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية (20).
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت فأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما انعقد به العقد وهذا عام في جميع العقود فان الشارع لم يحد في ألفاظ العقود حدا بل ذكرها مطلقة فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية وغيرهما من الألسن العجمية فهي تنعقد بما يدل عليها من الألفاظ العربية ولهذا وقع الطلاق والعتاق بكل لفظ يدل عليه وكذلك البيع وغيره، وطرد هذا النكاح فان اصح قولي العلماء أنه ينعقد بكل لفظ يدل عليه لا يختص بلفظ الإنكاح والتزويج وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنفية ومالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد بل نصوصه لم تدل إلا على هذا الوجه وأما الوجه الآخر من أنه إنما ينعقد بلفظ الإنكاح والتزويج فهو قول أبى عبد الله ابن حامد وأتباعه كالقاضي أبى يعلى ومتبعيه وأما قدماء أصحاب أحمد وجمهورهم فلم يقولوا بهذا الوجه) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 533).
إخوته بضاعتهم التي اشتروا بها ميرتهم من حيث لا يشعرون، ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم، الآية، وذلك من دون إيجاب وقبول قولي، لأن الفعل والرضى يدل على ذلك). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن العقود تنعقد بما يدل عليها من قول أو فعل، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف رد بضاعة إخوته في رحالهم دون أن يخبرهم بها، ودون أن يكون هناك إيجاب أو قبول من الطرفين، مما يدل على أن العقود تنعقد بما يدل عليها.
استعمال الأسباب الدافعة للعين جائز
.
قال تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ (67)} (يوسف: 67).
281 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أن استعمال الأسباب الدافعة للعين أو غيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها، غير ممنوع، بل جائز، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر، فإن الأسباب أيضاً من القضاء والقدر، لأمر
(1)
انظر: فوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (139).
يعقوب حيث قال لبنيه: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} ). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مشروعية استعمال الأسباب الدافعة للعين، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يعقوب أمر أبناءه أن يدخلوا من أبواب متفرقة، حتى لا ترصدهم عين حاسد إذا دخلوا جميعاً؛ إذ دخولهم جميعاً يلفت النظر، ويستدعي حصول مثل ذلك.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال القصاب:(حجة في الاحترازات خشية العين؛ لأن يعقوب صلى الله عليه وسلم، نبي وقد فكر في هذا)
(2)
، وقال السيوطي:(ففيه أن العين حق، وأن الحذر لا يرد القدر، ومع ذلك لا بد من ملاحظة الأسباب)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: البغوي، والجصاص، وإلكيا الهراسي، وابن العربي، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، والطوفي، وأبوحيان، والبيضاوي، والألوسي، والشوكاني.
(4)
والعين حق كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله قال: (العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم
(1)
انظر: تفسير السعدي (411)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (127)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (284).
(2)
انظر: نكت القرآن (1/ 621).
(3)
انظر: الإكليل (2/ 877).
(4)
انظر: معالم التنزيل (2/ 367)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 226)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 77)، وأحكام القرآن لابن العربي (3/ 51)، والمحرر الوجيز (1006)، والتفسير الكبير (18/ 138)، والجامع لأحكام القرآن (9/ 192)، والإشارات الإلهية (2/ 333)، والبحر المحيط (5/ 322)، وأنوار التنزيل (2/ 181)، وروح المعاني (7/ 16)، وفتح القدير (3/ 49).
فاغسلوا)
(1)
، وهذا الحديث واضح الدلالة على أثر العين.
وقد جاء في الشريعة الإسلامية الحث على اتخاذ بعض الأسباب الواقية من العين منها:
أولاً: اجتناب من عرف بالعين والتحرز منه.
ثانياً: الرقية الواقية من العين.
ثالثاً: الاغتسال ممن طلب منه ذلك، لكي يغتسل به المصاب، فهو أفضل العلاج كما قرره النبي صلى الله عليه وسلم، والواقع يشهد بذلك أيضاً
(2)
.
جواز استعمال الحيل التي يُتوصل بها إلى الحقوق
.
قال تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (76)} (يوسف: 76).
282 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد، وإنما الممنوع، التحيل على إسقاط واجب، أو فعل محرم). ا. هـ
(3)
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الطب، باب العين حق، ح (5740)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطب، باب الطب والمرض والرقي، ح (2188).
(2)
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (10/ 210)، وشرح النووي على مسلم (14/ 144 - 145).
(3)
انظر: تفسير السعدي (411)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (127)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (284).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز استخدام الحيل والمكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف وضع السقاية في رحل أخيه؛ ليتوصل بها إلى بقائه عنده.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الشوكاني:(وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً)
(1)
، وقال الجصاص: (وفيما حكى الله تعالى من أمر يوسف وما عامل به إخوته في قوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} دلالة على
إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح واستخراج الحقوق وذلك لأن الله تعالى رضي ذلك من فعله ولم ينكره)
(2)
، وقال ابن القيم:(وفيها تنبيه على أن العلم الذي يتوصل به إلى المقاصد الحسنة مما يرفع الله به درجات العبد)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: إلكيا الهراسي، وابن العربي، والزمخشري.
(4)
وقد ذكر بعض المفسرين وجهاً آخر لهذا الاستنباط وهو جواز الوصول إلى الحق بأي صورة، وجعلوا في ذلك إطلاقاً، حيث يفهم منه استخدام الحيل ولو غير المشروعة، وممن قال بذلك الحنفية، قال ابن العربي:(خلافاً لأبي حنيفة في تجويزه الحيل، وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل)
(5)
.
وهذا الاستنباط باطل، وغير جائز، قال ابن القيم: (فصل: استنباط
(1)
انظر: فتح القدير (3/ 52).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 228).
(3)
انظر: أعلام الموقعين (3/ 173).
(4)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 78)، والكشاف (525)، وأحكام القرآن لابن العربي (3/ 58).
(5)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 59).
خاطيء من قصة يوسف، وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق، قال شيخنا رضي الله عنه-يعني ابن تيمية- وهذه الحجة ضعيفة فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال إنه قد اقتص منه وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك. . . ولم يكن قصد يوسف باحتباس أخيه الانتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا وكان في ذلك من الإيذاء لأبيه أعظم مما فيه من إيذاء إخوته وإنما هو أمر أمره الله به ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف قصد القصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به وإنما موضع الخلاف هل يجوز له أن يسرق أو يخون من سرقه أو خانه مثل ما سرق منه أو خانه إياه.
وقصة يوسف لم تكن من هذا الضرب نعم لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضا فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق وهو أن يحبس رجل برئ ويعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جرم ولو قدر إن ذلك وقع من يوسف فلا بد أن يكون بوحي من الله ابتلاء منه لذلك المعتقل كما ابتلى إبراهيم بذبح ابنه فيكون المبيع له على هذا التقدير وحيا خاصا كالوحي الذي جاء إبراهيم بذبح ابنه وتكون حكمته في حق المبتلى امتحانه وابتلاؤه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه)
(1)
.
لكل نفس ما كسبت ولا تزر وازرة وزر أخرى
.
قال تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)} (يوسف: 79).
(1)
انظر: أعلام الموقعين (3/ 170).
283 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: الدلالة على الأصل الكبير الذي أعاده الله وأبداه في كتابه: أن لكل نفس ما كسبت من الخير والثواب، وعليها ما اكتسبت من الشر والعقاب، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، لقوله: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن لكل نفس ما كسبت من الخير، وعليها ما اكتسبت من الشر، وأنه لاتزر وازرة وزر أخرى، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يأخذ أحداً من إخوتة بدلاً عن من وجد المتاع في رحله، وبين سبب عدم مؤاخذة الغير أن فيه ظلماً، مما يدل على أنه لاتزر وازرة وزر أخرى.
ومما يدل على ذلك من الآية أنه صدّر الرفض بالتعوذ بالله، والتعوذ لا يكون إلا من شيء لا يرضاه الله، فدل على أن مؤاخذة الغير بما فعله غيره، غير جائز.
يكون الإحسان إحساناً إذا لم يتضمن فعل محرم أوترك واجب
.
قال تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)} (يوسف: 79).
284 -
قال السعدي رحمه الله: (ويؤخذ منه -أي من قصة
(1)
انظر: فوائد مستنبطة من قصة يوسف (135).
يوسف- مسألة دقيقة، وهو أن الإحسان إنما يكون إحساناً إذا لم يتضمن فعل محرم أو ترك واجب، فإنهم طلبوا من يوسف أن يحسن إليهم بترك هذا الأخ أن يذهب إلى أبيه ويأخذ أحدهم بدله ; فامتنع وقال:{مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)} [يوسف: 79] فالإحسان إذا تضمن ترك العدل كان ظلماً، ولهذا كان تخصيص بعض الأولاد على بعض، وبعض الزوجات على بعض - وإن كان إحساناً إلى المخصص والمفضل - لا يجوز لأنه ترك للعدل، وكذلك ما أشبه ذلك، والله أعلم). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً سلوكياً وهو أن الإحسان إنما يكون إحساناً إذا لم يتضمن فعل محرم، أوترك واجب، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف امتنع عن مؤاخذة غير من وجد السقاية في رحله؛ لأن هذا وإن كان إحساناً إلا أنه تضمن مؤاخذة غير المقصود، فلم يكن حينئذ إحساناً.
وهذا المعنى المستنبط تدل عليه أدلة كثيرة منها ما أشار إليه السعدي وهو ميل الرجل إلى إحدى زوجتيه فهذا وإن كان إحساناً إليها لكنه غير جائز؛ لأنه تضمن ترك العدل، فالمعنى المستنبط صحيح في ذاته، ولكن استنباطه من هذه الآية فيه نظر؛ إذ امتناع يوسف عن مؤاخذة غير أخيه لقصد أنه يريده هو دون غيره، كما أنه يعلم أنه غير سارق في الأصل وإنما هي حيلة لأجل بقائه عنده، فأخذ غيره ليس فيه فعل محرم ولا ترك واجب. والله أعلم.
(1)
انظر: فوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (142).
جواز استعمال المعاريض القولية أو الفعلية المانعة من الكذب
.
قال تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)} (يوسف: 79).
285 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره، بأمر لا يحب أن يطلع عليه، أن يستعمل المعاريض
(1)
القولية والفعلية المانعة له من الكذب، كما فعل يوسف حيث ألقى الصُّواع في رحل أخيه، ثم استخرجها منه، موهماً أنه سارق، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته، وقال بعد ذلك:{مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} ولم يقل "من سرق متاعنا" وكذلك لم يقل "إنا وجدنا متاعنا عنده" بل أتى بكلام عام يصلح له ولغيره، وليس في ذلك محذور، وإنما فيه إيهام أنه سارق ليحصل المقصود الحاضر، وأنه يبقى عند أخيه وقد زال عن الأخ هذا الإيهام بعد ما تبينت الحال). ا. هـ
(2)
(1)
المعاريض: هي أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحاً ويتوهم غيره أنه قصد به معنى آخر ويكون سبب ذلك التوهم كون اللفظ متشركاً بين حقيقتين لغويتين أوعرفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع أحدهما أو عرفية مع شرعية فيعني أحد معنييه ويتوهم السامع أنه إنما عنى الآخر لكون دلالة الحال تقتضيه أو لكونه لم يعرف إلا ذلك المعنى أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا فيه معنى فيعني به معنى يحتمله باطنا فيه بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته بعرف خاص له أوغفلة منه أوجهل منه أوغير ذلك من الأسباب مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته فهذا إذا كان المقصود به دفع ضرر غير مستحق جائز. انظر: الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 120).
(2)
انظر: تفسير السعدي (411)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (128)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (284).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز استخدام المعاريض القولية والفعلية المانعة من الكذب، ووجه استنباط ذلك من الآية أن يوسف استخدمها عندما وضع السقاية في رحل أخيه، فعند استخراجها قال كلمة تصلح لأكثر من معنى وهي قوله من وجدنا متعانا عنده، فهي تحتمل عنده سارقاً لها، وتحتمل عنده لغير ذلك، فكان في استخدام هذا اللفظ مندوحة عن التصريح بالكذب، ومن هنا استنبط السعدي جواز استخدام المعاريض عند الحاجة إليها.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال القصاب:(حجة في جواز المعاريض)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن تيمية، وأبوالسعود
(2)
.
ومما يؤيد المعنى المستنبط ما قاله البخاري في صحيحه: باب المعاريض مندوحة عن الكذب
(3)
، وقال إسحق سمعت أنساً، مات ابن لأبي طلحة فقال كيف الغلام؟ قالت أم سليم هدأ نفسه وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أنها صادقة
(4)
، قال ابن حجر:(وفي الحديث: مشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها)
(5)
.
(1)
انظر: نكت القرآن (1/ 623).
(2)
انظر: الفتاوى الكبرى (6/ 127)، وإرشاد العقل السليم (3/ 420)، وانظركذلك: إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف (2/ 693).
(3)
انظر: صحيح البخاري ص (1018).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة، ح (1301)، ومسلم في صحيحه، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود، ح (2144).
(5)
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (3/ 204)، وانظر كذلك: شرح النووي على مسلم (14/ 105).
سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه ليس بممنوع
.
قال تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا (83)} (يوسف: 83).
286 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها -أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم، فإن يعقوب قال لأولاده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة، ثم قال لهم بعد ما أتوه، وزعموا أن الذئب أكله {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} وقال لهم في الأخ الآخر:{هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64]
ثم لما احتبسه يوسف عنده، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} فهم في الأخيرة - وإن لم يكونوا مفرطين - فقد جرى منهم ما أوجب لأبيهم أن قال ما قال، من غير إثم عليه ولا حرج). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه ليس بمحرم، ووجه استنباط ذلك أن يعقوب قال لأولاده لما رجعوا إليه وأخبروه عن ابنه الثاني قال لهم بل فعلتم به ما فعلتم بيوسف من قبل، وأساء الظن بهم مستدلاً عليه بفعلهم الأول.
وقد أشار بعض المفسرين إلى نحو من ذلك، قال ابن عاشور: (وأما تهمته أبناءه بأن يكونوا تمالؤوا على أخيهم بنيامين فهو ظن مستند إلى
(1)
انظر: تفسير السعدي (411)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (117)، ومجموع الفوائد للسعدي (29)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (284).
القياس على ما سبق من أمرهم في قضية يوسف عليه السلام
(1)
، وممن أشار إلى ذلك أيضاً: ابن كثير، وأبوحيان
(2)
.
وقيل إن القرينة التي استند إليها يعقوب في ظنه هو كون المؤاخذة على السرقة ليست من دين هؤلاء بل هي من دين يعقوب، فقام ذلك مقام القرينة، وأورثه شبهة لاتهامهم بقصد السوء لأخيهم
(3)
.
الإيمان الكامل واليقين بالله الذي اتصف به يوسف
.
287 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: فضل الإيمان الكامل واليقين والطمأنينة بالله وبذكره حيث اتصف بها يوسف صلى الله عليه وسلم فأوجبت له الثبات في أموره كلها والاشتغال فيما هو يصدره من وظائفه الحاضرة، وهو في أحواله وتنقلاته مطمئن القلب ثابت النفس ليس عنده قلق لبعده عن أبيه وأحبابه، مع ما يعلمه من شدة الشوق والحب المفرط بينه وبين والديه خصوصا أبوه يعقوب، وهو يعلم المكان الذي هو فيه ويتمكن من مراسلته، ولكن اقتضت حكمة الله أن لا يحصل اللقاء إلا في تلك الحال التي اشتدت مشقتها وعظمت شدتها، فأعانه الله وأيده بروح منه، وهذا من أجل ثمرات الإيمان). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من عموم الأحوال التي مر بها يوسف عليه الصلاة
(1)
انظر: التحرير والتنوير (13/ 41).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 1854)، والبحر المحيط (5/ 332).
(3)
انظر: حاشية الشهاب على البيضاوي (5/ 348)، ومحاسن التأويل (6/ 214).
(4)
انظر: فوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (124).
والسلام، اتصافه بالإيمان الكامل، واليقين بالله، ووجه استنباط ذلك من الأحوال التي مر بها يوسف عليه الصلاة والسلام أنه تمكن من الذهاب إليه أبيه واللقاء بأحبابه الذين طال فراقه لهم، وكان يعرف المكان والطريق، ولكنه لم يذهب لأنه مطمئن واثق بالله في أنه لا بد أن يحصل اللقاء، ولكن في الوقت الذي يختاره الله، وهذا الثبات لا يكون إلا من قلب قد امتلأ إيماناً وثقة بالله، ومن هنا استنبط السعدي اتصاف يوسف بذلك.
وهذا الاستنباط فيه إشارة إلى أن المسلم ينبغي أن يسعى أن يكون متصفاً بهذه الصفة التي تضمن له السعادة والثبات في هذه الحياة.
رجاء الرحمة يكون حسب إيمان العبد
.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} (يوسف: 87).
288 -
قال السعدي رحمه الله: (ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه، ووجه استنباط ذلك من مفهوم المخالفة في الآية، حيث بين الله أن اليأس إنما يكون من الكافرين، فدل مفهوم المخالفة أن الرجاء في رحمة الله يكون من المؤمنين، فكلما زاد إيمان العبد كلما زاد رجاؤه فيما عند الله.
(1)
انظر: تفسير السعدي (404).
ومن هذا الاستنباط يستطيع الإنسان أن يقيس إيمانه؛ إذ عند حدوث الملمات يكون الرجاء في رحمة الله هو علامة إيمان العبد، بينما اليأس والاستسلام علامة من علامات ضعف الإيمان بالله، وإنما كان اليأس علامة من علامات الضعف الإيماني لأنه ناتج عن عدم الثقة بقدرة الله سبحانه وتعالى على تغيير الأمور، أو عدم علم الله بهذا الأمر، أما عند اكتمال اليقين بقدرة الله وعلمه فهنا يكون الرجاء في الله عظيماً.
فالرجاء في الله والاتصال الوثيق به يتجلى في قلوب الصفوة المختاره؛ فيصبح عندها أصدق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار.
(1)
جواز الإخبار بما يجد الإنسان من مرض أو فقر على غير وجه التسخط
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ (88)} (يوسف: 88).
289 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: جواز إخبار الإنسان بما يجد، وما هو فيه من مرض أو فقر ونحوهما، على غير وجه التسخط، لأن إخوة يوسف قالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} ولم ينكر عليهم يوسف). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز إخبار الإنسان عن نفسه بما
(1)
انظر: إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف (2/ 733).
(2)
انظر: تفسير السعدي (411)، وفوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي (130)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (285).
يعانيه من مرض أو فقر ونحو ذلك إذا لم يكن على سبيل التشكي والتسخط، ووجه استنباط ذلك من الآية أن إخوة يوسف شكوا عليه حالهم، وأقرهم على ذلك، فلو كان غير جائز لأنكر عليهم.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الجصاص:(لما ترك يوسف عليه السلام النكير عليهم في قوله: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} دل ذلك على جواز إظهار مثل ذلك عند الحاجة إليه وأنه لا يجري مجرى الشكوى من الله تعالى)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن الفرس، والقرطبي، والقاسمي، والشوكاني.
(2)
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، حين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: وا رأساه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذاك لو كان وأنا حي، فأستغفر لك وأدعو لك "، فقالت عائشة واثكلياه، والله إنى لأظنك تحب موتى، ولوكان ذاك لظللت آخر يومك معرساً ببعض أزواجك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه)
(3)
، وبوب البخاري على هذا الحديث قائلاً: باب ما رخص للمريض أن يقول أنا وجع، أو وا رأساه، أو اشتد بي الوجع، وقول أيوب عليه السلام:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}
(4)
[الأنبياء: 83].، قال ابن حجر نقلاً عن القرطبي:(وأما مجرد التشكي فليس مذموماً حتى يحصل التسخط للمقدور)
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 229).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 229)، والجامع لأحكام القرآن (9/ 214)، ومحاسن التأويل (6/ 218)، وفتح القدير (3/ 60).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرض، باب ما رخص للمريض أن يقول أنا وجع، أو وا رأساه، أو اشتد بي الوجع، وقول أيوب عليه السلام:(إني مسني الضر)، ح (5663).
(4)
انظر: صحيح البخاري ص (1003).
(5)
انظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 129).
العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية
.
قال تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)} (يوسف: 91).
290 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة يوسف-: أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والسماح التام من يوسف ومن أبيهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد عن حقه، فالله خير الراحمين.
ولهذا - في أصح الأقوال - أنهم كانوا أنبياء
(1)
لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وذريتهم، ومما يدل على ذلك أن في رؤيا يوسف، أنه رآهم كواكب نيرة، والكواكب فيها النور والهداية الذي من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء هداة). ا. هـ
(2)
(1)
اختلف العلماء في هذه المسألة، وهي هل أبناء يعقوب كانوا أنبياء؟ فمن العلماء من رأى أنهم ليسوا بأنبياء لا أولاً ولا آخراً؛ لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، وذهب بعض العلماء إلى أنهم كانوا أنبياء، وما حصل منهم زلة، وذهب بعض العلماء إلى أنهم ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله، وهذا أقرب الأقوال، واختاره القرطبي، وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال:(وقد اخبر الله عن إخوة يوسف بما اخبر ثم نبأهم بعد توبتهم وهم الأسباط الذين أمرنا أن نؤمن بما أوتوا). انظر: الجامع لأحكام القرآن (9/ 115)، وروح المعاني (6/ 375)، والقصص القرآني لصلاح الخالدي (2/ 251).
(2)
انظر: تفسير السعدي (408)، وفوائد مستنبط من قصة يوسف للسعدي (119)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (276).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن العبرة في أحوال العباد بكمال النهاية لا بنقص البداية، ووجه استنباط ذلك من الآية أن إخوة يوسف كانت بدايتهم التآمر على يوسف ولكن لا يعد ذلك من المعايب التي يعابون بها إلى الآن؛ لأن كمال نهايتهم بالتوبة أصلح عيبهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان عمر وخالد بن الوليد رضي الله عنهما من أشد الناس على الإسلام فلما أسلما تقدما على من سبقهما إلى الإسلام. . . وهذا وغيره مما يبين أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية)
(1)
.
وهكذا في الحكم على العباد ينبغي أن يكون بالمآل الذي آلوا إليه لا بالبداية التي بدأوها وهذا فيه إنصاف في الحكم على الآخرين، كما أن فيه تشجيع على الإقلاع عن المعايب لأن الأحوال التي بعدها هي التي عليها المعول.
(1)
انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 265)، وانظر كذلك: إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف (2/ 820).
سورة إبراهيم
علوم العربية مما ينبغي تعلمها؛ لتوقف بيان القرآن على ذلك
.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (4)} (إبراهيم: 4).
291 -
قال السعدي رحمه الله: (ويستدل بهذه الآية الكريمة
(1)
على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلامه وكلام رسوله أمور مطلوبة محبوبة لله لأنه لا يتم معرفة ما أنزل على رسوله إلا بها إلا إذا كان الناس بحالة لا يحتاجون إليها، وذلك إذا تمرنوا على العربية، ونشأ عليها صغيرهم وصارت طبيعة لهم فحينئذ قد اكتفوا المؤنة، وصلحوا لأن يتلقوا عن الله وعن رسوله ابتداء كما تلقى عنهم الصحابة رضي الله عنهم. ا. هـ
(2)
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر من هذه الآية وهو: أن اللغات اصطلاحية لا توفيقية. قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل، وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم، وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف، فوجب حصولها بالاصطلاح. انظر: التفسير الكبير (19/ 63)، والإشارات الإلهية (2/ 346).
(2)
انظر: تفسير السعدي (421).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن تعلم علوم العربية أمر مطلوب، ووجه استنباط ذلك من الآية أن علوم العربية هي التي يتم بها تبيين كلام الله، وتبيين كلام الله لا يتم إلا بذلك، فكان تعلم العربية أمراً مطلوباً.
وعلم اللغة العربية من أهم شروط المفسر الذي يريد أن يعرف معنى كلام الله، قال السيوطي في معرض كلامه عن العلوم التي يحتاج المفسر إليها:(أحدها: اللغة لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب، الثاني: النحو، الثالث: التصريف، الرابع: الاشتقاق، الخامس والسادس، والسابع: المعاني، والبيان، والبديع).
(1)
(1)
انظر: الإتقان في علوم القرآن (6/ 2293).
سورة الحجر
التأكيد بعد التأكيد في سجود الملائكة ليدل على أنه لم يتخلف منهم أحد
.
قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)} (الحجر: 30).
292 -
قال السعدي رحمه الله: ({فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)} تأكيد بعد تأكيد ليدل على أنه لم يتخلف منهم أحد، وذلك تعظيماً لأمر الله وإكراماً لآدم حيث علم ما لم يعلموا). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة التأكيد بعد التأكيد في هذه الآية، وهو دلالته على التأكيد أنه لم يتخلف منهم أحد في السجود.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن عاشور:(تأكيد على تأكيد، أي لم يتخلّف عن السجود أحد منهم)
(2)
،
(1)
انظر: تفسير السعدي (431).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (14/ 45).
وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الخليل، وسيبويه، والزجاج، وابن عطية، وأبو حيان، والبيضاوي.
(1)
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في ذلك، فقالوا إن مناسبة الإتيان بكل هنا هو أنه من المحتمل أن يكون الذي سجد بعضهم فذكر"كلهم"ليزول الإشكال، ثم كان يحتمل أنهم سجدوا في أوقات مختلفة فزال ذلك الإشكال بقوله"أجمعون" ليؤكد بذلك كله أنهم سجدوا جميعاً وفي وقت واحد، وممن قال بذلك من المفسرين: المبرد، والفراء
(2)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه الفراء والمبرد هو الصحيح؛ لأن هذا هو المناسب لبلاغة القرآن، قال الألوسي:(فالحق في المسألة مع الفراء، والمبرد وذلك هو الموافق لبلاغة التنزيل)
(3)
، كما أن التأسيس أولى من التأكيد.
وقد اعترض أصحاب القول الأول بأن أجمعين معرفة فلا يكون حالاً، قال البيضاوي:(وقيل أكد بالكل للإِحاطة وبأجمعين للدلالة على أنهم سجدوا مجتمعين دفعة، وفيه نظر إذ لو كان الأمر كذلك كان الثاني حالاً لا تأكيداً)
(4)
، وأجاب عن ذلك أبو السعود بقوله: ({فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ} أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد الملائكة {كُلُّهُمْ} بحيث لم يشذ منهم أحد {أَجْمَعُونَ} بحيث لم يتأخر في ذلك أحد
(1)
انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (3/ 179)، والمحرر الوجيز (1071)، ودرج الدرر (3/ 1056)، والتفسير الكبير (19/ 145)، البحر المحيط (5/ 442)، وأنوار التنزيل (2/ 239).
(2)
انظر: التفسير الكبير (19/ 145)، وروح المعاني (7/ 289).
(3)
انظر: روح المعاني (7/ 290)، وانظر كذلك: حاشية الشهاب على البيضاوي (5/ 513).
(4)
انظر: أنوار التنزيل (2/ 239).
منهم عن أحد ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيده التأكيد أيضاً فإن الاشتقاق الواضح يرشد إلى أن فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع والأصل في الخطاب التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا ريب في أن السجود معاً أكمل أصناف السجود لكن شاع استعماله تأكيداً وأقيم مقام كل في إفادة معنى الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر لم يكن بد من مراعاة الأصل صوناً للكلام عن الإلغاء)
(1)
.
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم (4/ 17).
سورة النحل
ذكر ما استجد من المركوبات الحديثة
.
قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} (النحل: 8).
293 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء، التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم، فإنه لم يذكرها بأعيانها، لأن الله تعالى لا يذكر في كتابه إلا ما يعرفه العباد، أو يعرفون نظيره، وأما ما ليس له نظير في زمانهم فإنه لو ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه، فيذكر أصلاً جامعاً يدخل فيه ما يعلمون وما لا يعلمون، كما ذكر نعيم الجنة وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره، كالنخل والأعناب والرمان، وأجمل ما لا نعرف له نظيراً في قوله: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)} [الرحمن: 52]. فكذلك هنا ذكر ما نعرفه من المراكب كالخيل والبغال والحمير والإبل والسفن، وأجمل الباقي في قوله:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسير السعدي (431).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً إعجازياً، وهذا الاستنباط هو أن المراكب المستحدثة سواء منها ما يستخدم في الجو، أوفي البر، أوفي البحر، قد ذكرها الله في كتابه في هذه الآية، ولكن طريقة القرآن أن لا يذكر فيه إلا ما له نظير يعرفه الناس، وما عدا ذلك فإنه يذكره في أصل عام يدخل فيه ما يعرفونه، وما يستجد بعدهم، وهذا الاستنباط هو من قبيل الإعجاز الغيبي.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن عاشور:(فالذي يظهر لي أن هذه الآية من معجزات القرآن الغيبية العلمية، وأنها إيماء إلى أن الله سيلهم البشر اختراع مراكب هي أجدى عليهم من الخيل والبغال والحمير، وتلك العجلات التي يركبها الواحد ويحركها برجليه وتسمى (بسكلات)، وأرتال السكك الحديدية، والسيارات المسيّرة بمصفّى النفط وتسمى (أطوموبيل)، ثم الطائرات التي تسير بالنفط المصفّى في الهواء، فكل هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة لم يكن يعلمها من كانوا قبل عصر وجود كل منها.
وإلهام الله الناس لاختراعها هو ملحق بخلق الله، فالله هو الذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذكاء والعلم وبما تدرجوا في سلّم الحضارة واقتباس بعضهم من بعض إلى اختراعها، فهي بذلك مخلوقة لله تعالى لأن الكلّ من نعمته)
(1)
، وقال الشنقيطي: (ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يخلق ما لا يعلم المخاطبون وقت نزولها، وأبهم الذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول ولم يصرح هنا بشيء منه، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية، كالطائرات، والقطارات،
(1)
انظر: التحرير والتنوير (14/ 111).
والسيارات)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الهرري
(2)
.
تخصيص الملائكة بالذكر لفضلهم وشرفهم
.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} (النحل: 49).
294 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} من الحيوانات الناطقة والصامتة، {وَالْمَلَائِكَةُ} الكرام خصهم بعد العموم لفضلهم وشرفهم وكثرة عبادتهم). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص الملائكة بالذكر بعد دخولهم في عموم الآية، وأن ذلك لفضلهم وشرفهم.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الشوكاني:(وعطف الملائكة على ما قبلهم، تشريفاً لهم، وتعظيماً)
(4)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين: البغوي، والقرطبي، وأبو حيان، والبيضاوي، وأبوالسعود
(5)
وذكر بعض المفسرين أوجهاً أخرى لمناسبة التخصيص، منها:
(1)
انظر: أضواء البيان (3/ 128).
(2)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان (15/ 149).
(3)
انظر: تفسير السعدي (442).
(4)
انظر: فتح القدير (3/ 206).
(5)
انظر: معالم التنزيل (3/ 58)، والجامع لأحكام القرآن (10/ 101)، والبحر المحيط (5/ 483)، وأنوار التنزيل (2/ 264)، وإرشاد العقل السليم (4/ 67).
أولاً: لخروجهم من الموصوفين بالدبيب إذ لهم أجنحة يطيرون بها
(1)
.
ثانياً: أنه تعالى بين في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى وبين بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى، لأن أخسها الدواب وأشرفها الملائكة، فلما بين في
أخسها وفي أشرفها كونها منقادة لله تعالى كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى
(2)
.
ولا تنافي بين هذه الأوجه بل المناسبة تحتملها جميعاً، لعدم وجود ما يمنع ذلك، وإنما ذكر بعض المفسرين ما وصل إليه استنباطه، مما لا يؤثر على استنباط غيره. والله أعلم.
لم يذكر السرابيل التي تقي البرد لأن الذكر هنا لمكملات النعم
.
قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ (81)} (النحل: 81).
295 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} أي: ألبسة وثيابا {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ولم يذكر الله البرد لأنه قد تقدم أن هذه السورة أولها في أصول النعم وآخرها في مكملاتها ومتمماتها، ووقاية البرد من أصول النعم فإنه من الضرورة، وقد ذكره في أولها في قوله {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} [النحل: 5]). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: معالم التنزيل (3/ 58).
(2)
انظر: التفسير الكبير (20/ 36).
(3)
انظر: تفسير السعدي (446).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الاقتصار على ذكر الألبسة التي تقي الحر دون أن يذكر الألبسة التي تقي البرد، وأن مناسبة ذلك هو أن ذكر الألبسة التي تقي البرد من أصول النعم، وقد ذكرت في أول السورة لأن أول السورة في أصول النعم، أما النعم المذكورة التي في آخر السورة فهي من المكملات.
وقد ذكر المفسرون مناسبات أخرى في تخريج عدم ذكر الألبسة التي تقي البرد وهي كالآتي:
أولاً: خص الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد، وممن قال بذلك الزجاج، والشوكاني، والشنقيطي
(1)
.
ثانياً: حذف البرد لدلالة ضده عليه، وممن قال بذلك: المبرد، والبيضاوي، وأبوالسعود، الخازن.
(2)
ثالثاً: وخص الحرّ هنا لأنه أكثر أحوال بلاد المخاطبين في وقت نزولها، والبرد فيها معدوم، وممن قال بذلك: ابن عطية، وابن عاشور.
(3)
.
وأحسن ما يمكن القول به في هذا الاستنباط هو أن عدم ذكر الألبسة التي تقي البرد هنا إنما هو لأجل الاكتفاء، بمعنى أن ذكر أحد الضدين يكفي عن ذكر الآخر، خصوصاً أن ذكر ما يقي من البرد تقدم في أول السورة، كما في قوله تعالى:({لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} [النحل: 5])، ويؤيد هذا أن السياق سياق امتنان فناسب الامتنان بما يقي من الحر وبما يقي من البرد كذلك.
(1)
انظر: معاني القرآن للزجاج (3/ 215)، فتح القدير (3/ 229)، وأضواء البيان (3/ 326).
(2)
انظر: البحر المحيط (5/ 508)، وأنوار التنزيل (2/ 274)، وإرشاد العقل السليم (4/ 84)، ولباب التأويل (3/ 92).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (1109)، والتحرير والتنوير (14/ 240).
وأما باقي تخريجات هذا الاستنباط فلا تخلو من تكلف وبعد، فما ذهب إليه السعدي فيه بعد، وتقسيم النعم التي ذكرت في السورة إلى أصول ومتممات يحتاج إلى دليل، كما أن التفريق بين ملبوس البرد وملبوس الحر وجعل الأول من الأصول والثاني من المتممات، فيه تفريق بين المتشابهات بلا حجة يعتمد عليها، فحاجة الناس إلى ألبسة البرد كحاجتهم على ألبسة الحر.
وأما القول بأن ما يقي من الحر يقي من البرد، فهو خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها، ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء
(1)
.
وأما القول بأن السبب في ذلك هو أن أرض المخاطبين وقاية الحر فيها أهم من البرد، فلا يستقيم كثيراً؛ لأن البرد في هذه البلاد كذلك شديد، والسياق هنا سياق امتنان فناسب أن يكون الامتنان بما يقي في الحر والبرد. والله أعلم.
تخصيص ذوي القربى بالذكر لتأكد حقهم في البر
.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} (النحل: 90).
296 -
قال السعدي رحمه الله: (وخص الله إيتاء ذي القربى -
(1)
انظر: روح المعاني (7/ 441).
وإن كان داخلاً في العموم- لتأكد حقهم وتعين صلتهم وبرهم، والحرص على ذلك). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص ذوي القربى بالذكر مع دخولهم في عموم من أمر بالعدل والإحسان إليهم، وأن مناسبة ذلك هو تأكيد حقهم وتعين صلتهم.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال أبو السعود:(وهو تخصيصٌ إثرَ تعميمٍ اهتماماً بشأنه)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: البيضاوي، الألوسي، والشوكاني، وابن عاشور
(3)
.
وهذا الاستنباط فيه إرشاد إلى الاهتمام بذوي الأرحام، وإيصال حقوقهم إليهم، مما يدل على اهتمام الشريعة الإسلامية بالترابط الاجتماعي، الذي يؤدي إلى تكوين أمة متحدة قوية قائمة بحقوق بعضها.
(1)
انظر: تفسير السعدي (447).
(2)
انظر: إرشاد العقل السليم (4/ 88).
(3)
انظر: أنوار التنزيل (2/ 276)، وروح المعاني (7/ 454)، وفتح القدير (3/ 233)، والتحرير والتنوير (14/ 256).
سورة الإسراء
الجمع في الذكر بين موسى ومحمد؛ لأن نبوتيهما أعظم النبوات
.
قال تعالى: {وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)} (الإسراء: 2).
297 -
قال السعدي رحمه الله: (كثيراً ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبين كتابيهما وشريعتيهما لأن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتيهما أكمل الشرائع ونبوتيهما أعلى النبوات وأتباعهما أكثر المؤمنين؛ ولهذا قال هنا: {وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الجمع بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وموسى عليه الصلاة والسلام، وأن مناسبة ذلك هو أن كتابيهما أفضل الكتب، وشريعتيهما أكمل الشرائع، ونبوتيهما أعلى النبوات.
وقد أشار إلى هذا الجمع بعض المفسرين، قال الشنقيطي: (لما بين
(1)
انظر: تفسير السعدي (453).
جل وعلا في هذه الآية الكريمة عظم شأن نبيه محمد صلى الله علية وسلم، ذكر عظم شأن موسى بالكتاب العظيم، الذي أنزله إليه، وهو التوراة، مبيناً أنه جعله هدىً لبني إسرائيل، وكرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن)
(1)
.
وقد حكى بعض المفسرين وجهاً آخر لمناسبة الجمع، قال الألوسي:(وعقب آية الإسراء بهذه استطراداً تمهيداً لذكر القرآن، والجامع أن موسى عليه السلام أعطى التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه لأنه منح ثمت التكليم وشرف باسم الكليم وطلب الرؤية مدمجاً فيه تفاوت ما بين الكتابين ومن أنزلا عليه وإن شئت فوازن بين {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] و {وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وبين {هُدَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} و {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9])
(2)
.
أهل الفترات، وأطفال المشركين لا يعذبهم الله
.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ شَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (الإسراء: 15).
298 -
قال السعدي رحمه الله: (واستدل بهذه الآية
(3)
على أن أهل الفترات وأطفال المشركين، لا يعذبهم الله حتى يبعث إليهم رسولاً
(4)
(1)
انظر: أضواء البيان (3/ 402).
(2)
انظر: روح المعاني (8/ 15).
(3)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر من هذه الآية وهو: أن لا تكليف قبل السمع، وأنه لا وجوب قبل إرسال الرسل، وأنه لا يُقبّح ولا يُحسّن بالعقل. انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 90)، والإشارات الإلهية (2/ 390).
(4)
من العلماء من ذهب إلى التوقف فيهم، ومنهم من جزم لهم بالجنة، ومنهم من جزم لهم بالنار، ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العَرَصَات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة، وهذا القول هو الصحيح؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن هذا القول تجتمع به الأدلة وإعمال الأدلة كلها أولى من إلغاء أحدها. انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 2075)، وأضواء البيان (3/ 475).
لأنه منزه عن الظلم). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن أهل الفترة، وأطفال المشركين لا يعذبهم الله، ووجه استنباط ذلك من الآية بمفهوم المخالفة-مفهوم الغاية- حيث إن الله قيد العذاب ببعثة الرسل، فدل مفهوم القيد على أن من لم تصله دعوة الرسل فلا عذاب عليه، ومن هؤلاء أهل الفترة، وأطفال المشركين.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال السيوطي:(استدل به على أن أطفال المشركين، ومن لم تبلغه الدعوة لا يدخلون النار)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن عطية، وأبوحيان، والألوسي، والشوكاني، وابن عاشور.
(3)
المخالفون:
خالف بعض المفسرين فقالوا إن الآية لا تدل على نفي العذاب عنهم مطلقاً، وإنما العذاب المنفي هنا عذاب الدنيا دون الأخرى، وهذا القول منسوب إلى الجمهور، قال أبوحيان: (وذهب الجمهور إلى أن هذا في حكم الدنيا، أي إن الله لا يهلك أمّة بعذاب إلا من بعد الرسالة
(1)
انظر: تفسير السعدي (455).
(2)
انظر: الإكليل (2/ 914).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (1133)، والبحر المحيط (6/ 15)، وروح المعاني (8/ 35)، وفتح القدير (3/ 265)، والتحرير والتنوير (15/ 52).
إليهم والإنذار)
(1)
، ومنهم من قال إن أطفال المشركين يعذبون في الآخرة؛ لأن العذاب المنفي هنا إنما هو في حق من يجوز بعثة الرسل إليهم، وممن قال بذلك من المفسرين: إلكيا الهراسي، وابن الفرس
(2)
.
النتيجة:
والحق في هذا الاستنباط أن الآية لا بد أن تفهم مع النصوص الأخرى؛ حتى يستقيم الاستنباط من الآية، وعليه فالحق أن أهل الفترة، وأطفال المشركين، يمتحنون يوم القيامة، فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار، عملاً بالنصوص الواردة في ذلك، وجمعاً بين الأدلة الأخرى وبين هذه الآية، قال ابن كثير:(ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العَرَصَات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة، وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، رحمه الله، عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في "كتاب الاعتقاد" وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد)
(3)
، وقال الشنقيطي: (الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذ المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا، لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.
(1)
انظر: البحر المحيط (6/ 15).
(2)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 91)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 256).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 2075).
وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين:
الأول: أن هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبوته عنه نص في محل النزاع، فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك.
الأمر الثاني: أن الجمع بين الأدلة واجب متى أمكن بلا خلاف، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع بين الأدلة غلى هذا القول بالعذر والامتحان، فمن دخل النار هو الذي لم يمتثل ما أمر به عند الامتحان ويتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله تعالى).
(1)
من تولى التربية من غير الوالدين فإن له حق البر
.
قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} (الإسراء: 24).
299 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} أي: ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتاً، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا، وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً تربوياً، وهو أن للمربي من غير الوالدين حقاً في البر على من رباه، ووجه استنباط ذلك بالقياس، حيث إن التربية العلة الجامعة بينهما، فلما كان حق البر للوالدين بسبب تربيتهما، قاس عليه حق المربي من غير الوالدين.
(1)
انظر: أضواء البيان بتصرف (3/ 481).
(2)
انظر: تفسير السعدي (456).
وهذا الاستنباط من دقائق الأمور، وفيه حث على بذل البر للمربي وعدم نيسان حقه؛ إذ أن بعض الناس بعد استغناءه عن المربي يتنكر له، وإذا ارتفع عنه بمنزلة أو مال ربما نسي حقه الأول، ففي هذا تأكيد لحق المربي.
ولم أجد أحد من المفسرين أشار إلى هذا الاستنباط، حسب المصادر التي اطلعت عليها. والله أعلم.
النهي عن السؤال عن مسائل يقصد بها التعنت والتعجيز
.
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (الإسراء: 85).
300 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل، التي لا يقصد بها إلا التعنت والتعجيز، ويدع السؤال عن المهم، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية، التي لا يتقن وصفها وكيفيتها كل أحد، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد.
ولهذا أمر الله رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من جملة مخلوقاته، التي أمرها أن تكون فكانت، فليس في السؤال عنها كبير فائدة، مع عدم علمكم بغيرها.
وفي هذه الآية دليل على أن المسؤول إذا سئل عن أمر، الأولى بالسائل غيره أن يعرض عن جوابه، ويدله على ما يحتاج إليه، ويرشده إلى ما ينفعه). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسير السعدي (466).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية النهي عن المسائل التي يقصد بها التعنت والتعجيز، وترك السؤال عن المهمات التي هو بحاجة إليها، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله لم يجب عن سؤال من سألوا عن الروح، ولم يفصل في الإجابة عن سؤالهم، مما يدل على أن السائل إذا سأل سؤالاً لا فائدة فيه أن لا يجاب عنه، وتكون الإجابة فيما يهمه ويستفيد منه ولو لم تكن ضمن السؤال، والآية تدل على ذلك بمفهوم الموافقة المساوي، فكما لم يجبهم عن سؤالهم عن الروح فُهِم منه عدم إجابتهم عن أي سؤال فيه تعنت كمثل سؤالهم عن ماهية الروح.
قال الجصاص: (وقد دلت هذه الآية على جواز ترك جواب السائل عن بعض ما يسأل عنه لما فيه من المصلحة)
(1)
.
وهذا الاستنباط فيه تأديب للسائل على عدم السؤال فيما لا حاجة للسائل فيه، كما أن فيه دلالة على أن المفتي يجب أن يكون فقيهاً بحال السائل حيث يعطيه ما ينتفع به ولو لم يكن ضمن السؤال.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 270).
سورة الكهف
إذا ترتب على الحساب وإحصاء المدة مصلحة حث عليه القرآن
.
قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)} (الكهف: 12).
301 -
قال السعدي رحمه الله: (وقال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}، [الكهف: 12]،. وذلك لمعرفة كمال قدرة الله في إفاقتهم، فلو استمروا على نومهم لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم، فمتى ترتب على ضبط الحساب وإحصاء المدة، مصلحة في الدين والدنيا، كان مما حث وأرشد إليه القرآن). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه متى ترتب على إحصاء المدة وضبط الحساب مصلحة في الدين والدنيا كان مما حث عليه القرآن، ووجه
(1)
انظر: القواعد الحسان للسعدي (109).
استنباط ذلك من الآية أن إحصاء مدة لبث الفتية في الكهف فيه بيان لكمال قدرة الله وعظمته.
وفي هذا الاستنباط تأصيل قرآني لما يسمى اليوم بـ"لغة الأرقام"، حيث أثبت بعض الباحثين في التأثير والإقناع أن الإحصاءات الرقمية لها أثر كبير في إقناع الطرف المقابل والتأثير عليه، وفي هذا الاستنباط تأكيد لهذا المعنى إذ معرفة عدد المكث هنا له أثر كبير في يقين النفس بقدرة الله عز وجل والإيمان به.
صحة الوكالة والشركة
.
قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)} (الكهف: 19).
302 -
قال السعدي رحمه الله: (وقد دلت هاتان الآيتان على عدة فوائد، منها: صحة الوكالة في البيع والشراء، وصحة الشركة في ذلك). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية صحة الوكالة، والشركة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عز وجل ذكر الوكالة هنا وهي توكيل الفتية أحدهم في شراء الطعام لهم، وكذلك اشتراكهم في قيمته، مما يدل على حل ذلك وإباحته، ولو كان محرماً لبينه الله ولم يقرهم عليه.
(1)
انظر: تفسير السعدي (473)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (288).
قال ابن العربي: (هذا يدل على صحة الوكالة)
(1)
، وقال القرطبي:(في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها، قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية جواز الشركة؛ لأن الورق كان لجميعهم)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، وإلكيا الهراسي، وابن الفرس، والألوسي، والعثيمين
(3)
.
وقال بعض العلماء: لا تدل الآية على جواز التوكيل مطلقاً بل مع التقية والخوف، لأنهم لو خرجوا كلهم لشراء حاجاتهم لعلم به أعداؤهم في ظنهم فهم معذورون، فالآية تدل على توكيل المعذور دون غيره، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وهو قول سحنون
(4)
من أصحاب مالك في التوكيل على الخصام
(5)
.
والصحيح أن الوكالة جائزة مطلقاً، ومما يؤيد ذلك ما جاء عن أبي هريرة قال:(كان لرجل على الَّنبي صلى الله عليه وسلم سنّ من الإبل، فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه فطلبوا سنّه فلم يجدوا إلا سناً فوقها. فقال: أعطوه، فقال: أوفيتني أوفى الله بك. وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: (إن خياركم أحسنكم قضاء)
(6)
، قال الشنقيطي: (فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر صحيح البدن، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أمر لأصحابه أن يعطوا عنه السن التي عليه وذلك
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 183).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (10/ 328).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 277)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 101)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 268)، وروح المعاني (8/ 220)، وتفسير القرآن الكريم (سورة الكهف) للعثيمين (38).
(4)
الإمام العلامة، فقيه المغرب، أبو سعيد، عبد السلام بن حبيب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة بن عبد الله التنوخي، ويلقب بسحنون الحمصي الأصل، المغربي، القيرواني، المالكي، قاضي القيروان، وتوفي عام 240 هـ وله ثمانون سنة. انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 63).
(5)
انظر: أضواء البيان (4/ 45).
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوكالة، باب وكالة الشاهد والغائب جائزة، ح (2305)
توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم مريضاُ ولا مسافراً، وهو ذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما)
(1)
.
جواز أكل مشهي المطاعم ما لم تخرج إلى حد الإسراف
.
قال تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أَحَدًا (19)} (الكهف: 19).
303 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة أصحاب الكهف-: جواز أكل الطيبات، والمطاعم اللذيذة، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} وخصوصاً إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين، القائلين بأن هؤلاء أولاد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الأطعمة، التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز أكل الطيبات والمطاعم اللذيذة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن هؤلاء الفتية طلبوا طعاماً زكياً، بل تخيروا الأزكى في الأطعمة، ولم يأت عقب ذلك ذم، مما يدل على أن ذلك مباح.
قال القاسمي: (دل قوله تعالى عنهم: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} على مشروعية استجادة الطعام واستطابته بأقصى ما يمكن؛ لصيغة التفضيل)
(3)
،
(1)
انظر: أضواء البيان (4/ 46).
(2)
انظر: تفسير السعدي (473)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (288).
(3)
انظر: محاسن التأويل (7/ 17).
وقال العثيمين: (في هذا دليل أيضاً أنه لا بأس على الإنسان أن يطلب أطيب الطعام)
(1)
.
وهذا الاستنباط فيه بيان سماحة هذا الدين في حله لطيبات الطعام، وهذا فيه تيسير على من كانت له رغبة في مثل ذلك، كما أن فيه رداً على بعض المتنطعين الذين قد لا يرغبون في مثل ذلك تزهداً وتديناً، وهو في الحقيقة ميل نفسي لهم فقط، فجاءت هذه الآية لبيان الحل والإباحة. والله أعلم.
عدم تعقيب العدد سبعة يدل على أنه هو الصحيح
.
قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ (22)} (الكهف: 22).
304 -
قال السعدي رحمه الله: (يخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف، اختلافاً صادراً عن رجمهم بالغيب، وتقولهم بما لا يعلمون، وأنهم فيهم على ثلاثة أقوال:
منهم: من يقول: ثلاثة، رابعهم كلبهم، ومنهم من يقول: خمسة، سادسهم كلبهم. وهذان القولان، ذكر الله بعدهما، أن هذا رجم منهم بالغيب، فدل على بطلانهما.
ومنهم من يقول: سبعة، وثامنهم كلبهم، وهذا -والله أعلم- الصواب، لأن الله أبطل الأولين ولم يبطله، فدل على صحته، وهذا من الاختلاف الذي لا فائدة تحته، ولا يحصل بمعرفة عددهم مصلحة
(1)
انظر: تفسير القرآن الكريم (سورة الكهف) للعثيمين (38).
للناس، دينية ولا دنيوية). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن عدد أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عقب القولين الأولين بأنهما رجم بالغيب، ولم يعقب على القول الثالث، مما يدل على صحته.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرًا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضَعَّف القولين الأولين بقوله:{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} أي: قولا بلا علم، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه
أو قرره بقوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر)
(2)
، وقال الرازي:(وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، فوجب أن يكون المخصوص بالظن الباطل هو القولان الأولان، وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونهما رجماً بالظن)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن عطية، والقرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأبوحيان، والبيضاوي، والسيوطي، الألوسي، والشنقيطي، والعثيمين.
(4)
(1)
انظر: تفسير السعدي (474).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 2153).
(3)
انظر: التفسير الكبير (21/ 90).
(4)
انظر: المحرر الوجيز (1185)، والجامع لأحكام القرآن (10/ 333)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (13/ 367)، والبحر المحيط (6/ 110)، وأنوار التنزيل (2/ 334)، والإكليل (3/ 928)، وروح المعاني (8/ 229)، وأضواء البيان (4/ 75)، وتفسير القرآن الكريم (سورة الكهف) للعثيمين (42).
لا ينبغي كثرة البحث في المسائل التي لا أهمية لها
.
قال تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا (22)} (الكهف: 22).
305 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة أصحاب الكهف-: أن كثرة البحث وطوله في المسائل التي لا أهمية لها لا ينبغي الانهماك به لقوله: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المسائل التي لا أهمية لها لا ينبغي للإنسان الانهماك فيها وطول البحث فيها، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله عقب الكلام عن عدد أهل الكهف نهى في هذه الآية عن إطالة البحث فيها لعدم الأهمية والفائدة، وعمم هذه الفائدة في كل المسائل المشابهة.
قال السيوطي: (ففيه تحريم الجدال بغير علم وبلا حجة ظاهرة)
(2)
، وقال العثيمين:(وهذا يدل على أن ما لا خير فيه فلا ينبغي التعمق فيه)
(3)
.
وهذا الاستنباط فيه إرشاد إلى عدم الاهتمام بفضول المسائل التي لا ينتفع بها الباحث، وصرف الهمم إلى ما يفيد من العلم.
(1)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (289).
(2)
انظر: الإكليل (3/ 928).
(3)
انظر: تفسير القرآن الكريم (سورة الكهف) للعثيمين (43).
قد يصلح الشخص للإفتاء في أمر، ولا يصلح استفتاؤه في أمر آخر
.
قال تعالى: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)} (الكهف: 22).
306 -
قال السعدي رحمه الله: (ففيها-أي قصة أصحاب الكهف-: دليل على المنع من استفتاء من لا يصلح للفتوى، إما لقصوره في الأمر المستفتى فيه، أو لكونه لا يبالي بما تكلم به، وليس عنده ورع يحجزه، وإذا نهي عن استفتاء هذا الجنس، فنهيه هو عن الفتوى، من باب أولى وأحرى.
وفي الآية أيضا، دليل على أن الشخص، قد يكون منهياً عن استفتائه في شيء، دون آخر، فيستفتى فيما هو أهل له، بخلاف غيره، لأن الله لم ينه عن استفتائهم مطلقاً، إنما نهى عن استفتائهم في قصة أصحاب الكهف، وما أشبهها). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أصلاً من أصول الإفتاء والاستفتاء، وهو المنع من استفتاء من لا يصلح للإفتاء، كما أن الشخص قد يصلح للإفتاء في شيء ولا يصلح للإفتاء في شيء آخر، فيستفتى فيما هو أهل له فقط، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله نهى عن الاستفتاء بقيد وهو الاستفتاء عن عدد الفتية، مما يدل على أن استفتاءهم فيما دون ذلك مما هو من شأنهم لا بأس به.
وهذا الاستنباط فيه تأصيل قرآني للتخصص في الإفتاء، حيث إن بعض التخصصات لا يمكن لبعض المفتين أن يفتي فيها لعدم علمه ببعض
(1)
انظر: تفسير السعدي (474)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (288).
التفاصيل التي تقوم عليها الفتيا، مما يجعل هناك ضرورة للإتيان بمتخصص.
وهذا الأمر معمول به في بعض جهات الإفتاء مثل اللجنة الدائمة للإفتاء، حيث إنهم أدخلوا متخصصين في الجوانب الطبية فعند إرادة إصدار فتوى طبية يستمعون إلى تفاصيلها من طبيب متخصص، ثم ينزلون عليها الحكم الشرعي، وكذلك معمول به في المجمع الفقهي بمكة المكرمة.
استحباب الذكر والدعاء طرفي النهار
.
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (28)} (الكهف: 28).
307 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي الآية
(1)
، استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار، لأن الله مدحهم بفعله، وكل فعل مدح الله فاعله، دل ذلك على أن الله يحبه، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به، ويرغب فيه). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استحباب الذكر والعبادة والدعاء طرفي النهار، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله مدح فاعل ذلك، وكل شيء مدح الله فعله، أو مدح فاعله فإنه مستحب.
(1)
ذكر القصاب بعض الاستنباطات من هذه الآية منها: إبطال الاستحسان، ومنها: أن النية الحسنة في ظاهر فعل منكر لا تنفع، ومنها: أن استبدال مجالسة صالحي الفقراء بطالحي الأغنياء معصية، وإن لم يعمل المستبدل بأعمالهم. انظر: نكت القرآن (2/ 195 - 196).
(2)
انظر: تفسير السعدي (474).
قال القصاب في ذكره بعض الفوائد من هذه الآية: (ومنها: أن الدعاء بالغداوات والعشيات أفضل وأجدر بالإجابة)
(1)
.
جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر
.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)} (الكهف: 60).
308 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه القصة العجيبة الجليلة، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله:
منها: جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤنة وطلب الراحة كما فعل موسى). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر؛ طلباً للراحة والكفاية، ووجه استنباط ذلك من الآية أن موسى أخذ خادمه في السفر، وحكى الله قصته ولم ينبه على ما فعله موسى مما يدل على جواز ذلك.
قال السيوطي: (وفيها أنه لا بأس بالاستخدام، واتخاذ الرقيق والخادم في السفر)
(3)
.
(1)
انظر: نكت القرآن (2/ 196).
(2)
انظر: تفسير السعدي (483)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (255).
(3)
انظر: الإكليل (3/ 931).
استحباب الأكل مع الخادم
.
قال تعالى: {آَتِنَا غَدَاءَنَا (62)} (الكهف: 62).
309 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعاً، لأن ظاهر قوله: {آَتِنَا غَدَاءَنَا} إضافة إلى الجميع، أنه أكل هو وهو جميعاً). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استحباب إطعام الخادم من الطعام الذي تأكله، وأن يأكل معك، ووجه استنباط ذلك من الآية أن موسى دعا بالطعام وأضافه إليهما جميعاً، مما يدل على أنه لهما جميعاً، وأنهما سيأكلانه جميعاً.
وهذا الاستنباط فيه تنبيه للعمل بهذا الأدب مع الخادم واحترام إنسانيته، وتقدير خدمته، وهذا فيه إرشاد لبعض الناس الذين يتعاملون مع الخدم بترفع، فلا يؤاكلونهم، ولا يعطونهم مما يأكلون بل يعطونهم من الأكل الرديء، فإذا عرفنا أن خلق الأنبياء مع الخدم هو التواضع معهم والأكل مما يأكلون كان علاجاً للتصرفات التي لا تليق مع الخدم، وكم في هذا الخلق من جبر لخواطرهم، وتأنيس لغربتهم.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس)
(2)
،
(1)
انظر: تفسير السعدي (483)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (255).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون)، ح (2545)، ومسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، ح (1661).
وقال البخاري: باب الأكل مع الخادم
(1)
، قال ابن حجر بعد ذكره هذه الترجمة: أي على قصد التواضع
(2)
، وهذا الأمر الوارد في الحديث محمول على الاستحباب لا الوجوب بإجماع المسلمين
(3)
.
العبد الذي لقيه موسى ليس نبياً
.
قال تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (82)} (الكهف: 82).
310 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبياً، بل عبداً صالحاً، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبياً، لذكر ذلك كما ذكره غيره، وأما قوله في آخر القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون لغير الأنبياء، كما قال تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، {وَأَوْحَى رَبَّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل: 68]). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن العبد الذي لقيه موسى وهو الخضر ليس نبياً، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله وصفه بالعبودية، ولم يذكر نبوته ولا رسالته، ولو كان كذلك لذُكِر، وأما نسبته للأفعال التي فعلها
(1)
انظر: صحيح البخاري ص (972).
(2)
انظر: فتح الباري (9/ 494).
(3)
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 111).
(4)
انظر: تفسير السعدي (484)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (256).
بأنها ليست من عنده، فهذا إلهام؛ فلا دلالة فيه على كونه نبي؛ إذ يحدث ذلك لغير الأنبياء.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الخازن:(واستدل بعضهم بقوله سبحانه وتعالى وما فعلته عن أمري على أن الخضر كان نبياً لأن هذا يدل على الوحي وذلك للأنبياء، والصحيح أنه ولي الله وليس بنبي، وأجيب عن قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} إنه إلهام من الله سبحانه وتعالى له بذلك)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: الرازي
(2)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، وقالوا إن الآية تدل على أن هذا الخضر كان نبياً، قال أبوحيان:(أي وما فعلت ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي، وإنما فعلته بأمر الله وهذا يدل على أنه نبيّ أوحي إليه)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن عطية، والقرطبي، والبيضاوي، والألوسي، وابن عاشور
(4)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح؛ إذ لوكان الخضر نبياً لجاء التصريح بذلك، والنبوة تحتاج إلى دليل صريح في إثباتها، فمثل هذا الفعل لا يكون دليلاً على النبوة.
(1)
انظر: لباب التأويل (3/ 174).
(2)
انظر: التفسير الكبير (21/ 127).
(3)
انظر: البحر المحيط (6/ 147).
(4)
انظر: المحرر الوجيز (1209)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 18)، وأنوار التنزيل (2/ 347)، وروح المعاني (8/ 337)، والتحرير والتنوير (16/ 16).
وأما ما استدل به المستنبطون نبوة الخضر من هذه الآية، فضعيف، قال الرازي:(احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ومعناه فعلته بوحي الله، وهو يدل على النبوة، وهذا أيضاً دليل ضعيف وضعفه ظاهر)
(1)
، والضعف هنا هو لاحتمال أن يكون ذلك إلهاماً وليس وحياً، وحينها يسقط استنباط النبوة من هذه الآية. والله أعلم.
تواضع الفاضل للتعلم لمن دونه
.
قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} (الكهف: 66).
311 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أدباً مهماً من آداب طلب العلم، وهو تواضع الفاضل للتعلم ممن هو دونه، ووجه استنباط ذلك تواضع موسى للخضر للتعلم منه؛ حيث استأذنه في أن يكون تابعاً له، وهذه التبعية مقابل التعليم كذلك، مع أن موسى أفضل من الخضر بلا نزاع.
قال السيوطي: (وفيها تواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة)
(3)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: ابن العربي،
(1)
انظر: التفسير الكبير (21/ 127).
(2)
انظر: تفسير السعدي (484)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (256).
(3)
انظر: الإكليل (3/ 931).
والقرطبي.
(1)
وهذا الاستنباط فيه أن المتعلم ينبغي أن يكون متواضعاً للتعلم ممن هو دونه حتى يحصل ما يريده من علم، فإذا تكبر الإنسان عن التعلم لأجل أن من يتعلم منه دونه في الفضل؛ فإن ذلك سيكون سبباً في جهله، وعند الموازنة بين ذلك نجد أن التواضع للمفضول لأخذ العلم عنه، أهون من بقاء الإنسان جاهلاً.
تعلم الفاضل العلم الذي لم يمهر فيه، ممن مهر فيه
.
قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} (الكهف: 66).
312 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه، ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة، فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر، ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلم منه، فعلى هذا، لا ينبغي للفقيه المحدث، إذا كان قاصراً في علم النحو، أو الصرف، أو نحوه من العلوم، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه، وإن لم يكن محدثاً ولا فقيهاً). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية تعلم الفاضل العلم الذي لم يمهر فيه
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 199)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 18).
(2)
انظر: تفسير السعدي (484)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (256).
ممن مهر فيه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن موسى كان نبياً عالماً، ولكن العلم الذي كان عند الخضر من العلوم التي لم يكن موسى عالماً بها، فذهب إلى الخضر الذي كان عالماً بهذه العلوم ليتعلمها منه.
قال الشوكاني: (وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن)
(1)
.
وهذا فيه إشارة إلى أهمية التكامل في العلم والتعليم؛ إذ لا يمكن للشخص مهما كانت قدراته أن يكون عالماً بكل شيء، فحينها يحتاج إلى أن يتعلم بعض العلوم من غيره، وقد يكون هذا الغير دونه في المرتبة والفضل، والتعلم من المفضول أولى من الجهل.
جواز ركوب البحر
.
قال تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)} (الكهف: 71).
313 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: جواز ركوب البحر
(2)
،
في غير الحالة التي
(1)
انظر: فتح القدير (3/ 370).
(2)
روي عن عمر ابن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما المنع من ركوبه.
والقرآن والسنة يردان هذا القول، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له: إنا نركب البحر، وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها، وأما في أداء الفرائض فلا.
ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها، فسهل الله سبيله بالفلك، قاله ابن العربي.
ولا خلاف بين أهل العلم إن البحر إذا أرتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورون. انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 191 - 192)
يخاف منها). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز ركوب البحر، ووجه استنباط ذلك أن الله ذكر عن موسى والخضر ركوب السفينة، والسفينة لا تكون إلا في البحر، ولم ينكر عليهما كونهما في البحر مما يدل على جواز ذلك.
إجراء الأمور على ظاهرها
.
قال تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)} (الكهف: 71) وقال تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)} (الكهف: 74).
314 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية، في الأموال، والدماء وغيرها، فإن موسى عليه السلام، أنكر على الخضر خرقه السفينة، وقتل الغلام، وأن هذه الأمور ظاهرها، أنها من المنكر، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها، في غير هذه الحال، التي صحب عليها الخضر، فاستعجل عليه السلام، وبادر إلى الحكم في
(1)
انظر: تفسير السعدي (484)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (258).
حالتها العامة، ولم يلتفت إلى هذا العارض، الذي يوجب عليه الصبر، وعدم المبادرة إلى الإنكار). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتتعلق بها أحكامها الدنيوية، ووجه استنباط ذلك من الآية أن موسى أنكر على الخضر خرق السفينة التي فيها إتلاف للمال، وأنكر عليه قتل الغلام الذي فيه إراقة الدم بلا حق، فأخذ من ذلك جواز إجراء الأمور على ظواهرها.
قال النووي: (وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه؛ لإنكار موسى).
(2)
وهذا الاستنباط لا بد له من ضوابط أخرى؛ فإن جاز إجراء الأمور على ظاهرها، إلا أنه ينبغي التثبت في هذا الظاهر، فقد يكون هناك ما يستدعي الفعل أو الترك، وقد يكون هذا الفعل في ظاهره منكراً، ولكنه يكون من باب أدنى المفسدتين بالنسبة لمرتكبه، فيكون معذوراً به. والله أعلم.
إتلاف بعض مال الغير بلا إذن جائز لمصلحة المحافظة عليه
.
قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَدْوِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)} (الكهف: 79).
(1)
انظر: تفسير السعدي (484)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (258).
(2)
انظر: شرح النووي على مسلم (15/ 112).
315 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها
(1)
-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: القاعدة الكبيرة أيضاً وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم، فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق، أو نحوهما، في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار، فيه سلامة للباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظاً لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن إتلاف مال الغير إذا كان على وجه المصلحة له، فإنه يجوز، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الخضر خرق السفينة وهذا إحداث عيب فيها؛ ولكن كان لأجل مصلحة تعود على أصحاب السفينة وهي حفظها من استيلاء الملك عليها، وقد ذكر ذلك في القصة دون تعقيب، مما يدل على جواز فعل مثل ذلك.
قال السيوطي: (وأنه يجوز إتلاف بعض مال الغير أوتعييبه لوقاية باقيه، كمال المودع واليتيم)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، والقصاب، والقرطبي، والرازي، والعثيمين
(4)
.
(1)
وذكر بعض المفسرين استنباطاً آخر من هذه الآية وهو أن الفقير أشد حاجة من المسكين. انظر: الجامع لأحكام القرآن (11/ 32)، والتفسير الكبير (21/ 136).
(2)
انظر: تفسير السعدي (485)، وفتح الرحيم للسعدي (167)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (259).
(3)
انظر: الإكليل (3/ 932).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 280)، ونكت القرآن (2/ 219)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 35)، والتفسير الكبير (21/ 136)، وتفسير القرآن الكريم (سورة الكهف) للعثيمين (120).
التأدب مع المعلم في الخطاب
.
قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} (الكهف: 66).
316 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه، وهو جاهل جداً، فالذل للمعلم، وإظهار الحاجة إلى تعليمه، من أنفع شيء للمتعلم). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً سلوكياً، وهو التأدب مع المعلم في الخطاب، ووجه استنباط ذلك من الآية أن موسى لما خاطب الخضر خاطبه بألين خطاب، بأن أظهر له حاجته إليه في العلم، واستأذنه في الاتباع، مظهراً فضل المعلم وحاجته إليه.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال البيضاوي:(وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعاً له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه)
(2)
، وقال الرازي: (اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم
(1)
انظر: تفسير السعدي (484).
(2)
انظر: أنوار التنزيل (2/ 348).
من الخضر، فأحدها: أنه جعل نفسه تبعاً له، وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع، وثالثها: أنه قال على أن: {تُعَلِّمَنِ} وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم، ورابعها: أنه قال: {مِمَّا عُلِّمْتَ} وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله، وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله، وخامسها: أن قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ} اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم، وسادسها: أن قوله: {رُشْدًا} طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال.
وسابعها: أن قوله: {تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان، وأبو السعود، والألوسي، والشوكاني.
(2)
إرشاد المعلم للمتعلم في إيراد السؤال
.
قال تعالى: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)} (الكهف: 70).
(1)
انظر: التفسير الكبير (21/ 128).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (1203)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 18)، والبحر المحيط (6/ 139)، وإرشاد العقل السليم (4/ 203)، وروح المعاني (8/ 312)، وفتح القدير (3/ 370).
317 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصراً، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالاً لا يتعلق في موضع البحث). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً تربوياً، وهو تعليم المتعلم السؤال، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الخضر علّم موسى متى السؤال حيث أرشده أن السؤال يكون بعد إرشاد الخضر له وليس عند حاجة موسى إليه.
قال الزمخشري- بعد تفسيره لهذه الآية -: (وهذا من آداب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع)
(2)
، وممن قال به كذلك من المفسرين: أبوالسعود
(3)
.
وهذا الأدب من أهم الآداب التي ينبغي للمتعلم مراعاتها في أثناء تعليمه؛ إذ في المبادرة بالسؤال استباق للمعلومة التي ربما ستأتي ولكن لم يحن وقت إيرادها، كما أن في المبادرة بالسؤال إرباك للمعلم في تقديم معلومة حقها التأخير، حيث إن بعض المعلومات قد تكون أهميتها ليست بتلك، ولكن السؤال هو الذي قدمها.
(1)
انظر: تفسير السعدي (484)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (258).
(2)
انظر: الكشاف (625).
(3)
انظر: إرشاد العقل السليم (4/ 204).
استعمال الأدب مع الله في الألفاظ
.
قال تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا (79)} (الكهف: 79).
وقال تعالى: {فَأَرَادَ رَبَّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ (82)} (الكهف: 82).
318 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} وأما الخير، فأضافه إلى الله تعالى لقوله: {فَأَرَادَ رَبَّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} كما قال إبراهيم عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 80]، وقالت الجن:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10] مع أن الكل بقضاء الله وقدره). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً سلوكياً، وهو الأدب مع الله في الألفاظ، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه، وأما استخراج الكنز للأيتام فأضافه إلى الله، كل ذلك تأدباً مع الله جل شأنه في الألفاظ التي يتكلم بها المرء.
قال القرطبي: (لما كان ذلك خيراً كله أضافه إلى الله تعالى وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض،
(1)
انظر: تفسير السعدي (485)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (259).
إذ هو معنى نقص ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، وأبوحيان، والبيضاوي، وابن عرفة، وابن المنير
(2)
.
وقال بعض المفسرين إن الاختلاف هنا إنما هو مراعاة لذوق العرب في استماع الكلام، فيحبون أن يسمعوا الكلام المختلف في اللفظ المتفق في المعنى، قال ابن الأنباري:(لما كان قوله: "فأردتُ" و"وأردنا" كل واحد منهما يصلح أن يكون خبراً عن الله عز وجل، وعن الخضر، أتبعهما بما يحصر الإِرادة عليه، ويزيلها عن غيره، ويكشف البُغية من اللفظتين الأولَيين، وإِنما قال: "فأردتُ" "فأردنا" "فأراد ربُّك"، لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتِّفاقه مع تساوي المعاني، لأنه أعذب على الألسن، وأحسن موقعاً في الأسماع، فيقول الرجل: قال لي فلان كذا، وأنبأني بما كان، وخبَّرني بما نال)
(3)
.
وهذا المعنى وإن كان وارداً وهو حسن؛ إلا أن زيادة المعنى عند الإمكان هو الأحسن فمع الإمتاع في تغيير الألفاظ، إلا أنها تحمل معان كذلك، فالأول يجمع بين الأمرين. والله أعلم.
الرضا بالأقدار المكروهة
.
319 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي فوائد قصة موسى مع الخضر-: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (11/ 38).
(2)
انظر: التفسير الكبير (21/ 138)، والبحر المحيط (6/ 145)، وأنوار التنزيل (2/ 352)، وتفسير ابن عرفة (3/ 98)، والانتصاف (2/ 741).
(3)
انظر: زاد المسير (867).
وجعلها على يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أموراً يكرهها جداً، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجاً من لطفه وكرمه، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا
(1)
بأقداره المكروهة). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من عموم إيراد هذه القصة أن الأقدار التي تجري على الناس وإن كانت مكروهة في ظاهرها، لكنها في خير للعبد في دينه ودنياه، ووجه استنباط ذلك من القصة ما أجراه الله على يد الخضر من
(1)
انظر: تفسير السعدي (485)، وفتح الرحيم للسعدي (167).
(2)
قال ابن القيم: (وقد أجمع العلماء على أنه مستحب مؤكد استحبابه واختلفوا في وجوبه على قولين، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكيهما على قولين لأصحاب أحمد وكان يذهب إلى القول باستحبابه قال: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم.
قال: وأما ما يروي من الأثر: من لم يصير على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سوائي فهذا أثر إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس من شرط الرضى ألا يحس بالألم والمكاره بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ولهذا أشكل على بعض الناس الرضى بالمكروه وطعنوا فيه وقالوا: هذا ممتنع على الطبيعة وإنما هو الصبر وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهية وهما ضدان.
والصواب: أنه لا تناقض بينهما وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى كرضى المريض بشرب الدواء الكريه ورضى الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها.
وطريق الرضى طريق مختصرة قريبة جداً موصلة إلى أجل غاية ولكن فيها مشقة ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة ولا فيها من العقبات والمفاوز ما فيها وإنما عقبتها همة عالية ونفس زكية وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله). انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/ 178 - 182).
أمور منهل قتل الغلام ففي قتله سلامة دين أهله، وكذلك خرق السفينة ففي ذلك نجاة السفينة من المغتصبين.
وهذا الاستنباط فيه فائدة عظيمة جداً، فيطمئن الإنسان للأقدار المكروهة، ويعلم أن في ذلك خيراً له في دينه أو دنياه.
ومما يعين على ذلك علم العبد أن اختيار الله له خير له من اختياره لنفسه، وأن ما يجري عليه من أقدار وإن كانت مكروهة لكن إن صبر عليها ورضي بها كان له بذلك أجراً عظيماً.
سورة مريم
مناسبة التعبير بقوله فويل للذين كفروا دون قوله فويل لهم
.
قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)} (مريم: 37).
320 -
قال السعدي رحمه الله: (وتأمل كيف قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} بعد قوله {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} ولم يقل " فويل لهم " ليعود الضمير إلى الأحزاب، لأن من الأحزاب المختلفين، طائفة أصابت الصواب، ووافقت الحق، فقالت في عيسى: " إنه عبد الله ورسوله " فآمنوا به، واتبعوه، فهؤلاء مؤمنون، غير داخلين في هذا الوعيد، فلهذا خص الله بالوعيد الكافرين). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة التعبير بقوله (فويل للذين كفروا) دون قوله فويل لهم، وأن مناسبة ذلك أن من الأحزاب طائفة
(1)
انظر: تفسير السعدي (493).
آمنت فخص الله الكافرين بالذكر حتى يخرج هؤلاء الذين آمنوا، فأتى بهذا اللفظ الذي يفصل هؤلاء عن هؤلاء.
وذهب بعض المفسرين إلى أن مناسبة الإتيان بهذا اللفظ هو تعميم الحكم بالكفر على الجميع، قال أبوالسعود:({فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وهم المختلفون عبّر عنهم بالموصول إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحُكم)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً: الألوسي، وابن عاشور
(2)
.
وما ذهب إليه السعدي هو الصحيح؛ إذ فيه معنى موافق للواقع فقد صدق بعض هؤلاء الأحزاب فناسب الإتيان بلفظ يميزهم عن غيرهم.
ولعل في هذا اللفظ أيضاً بيان الدقة في العدل والإنصاف وذكر أهل الفضل وإن كانوا قلة.
الذم إنما هو لمتبعي الشهوات دون متناوليها
.
قال تعالى: {* فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} (مريم: 59).
321 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59] عذاباً مضاعفاً شديداً - اتبعوا الشهوات بمعنى أرادوها وصارت هي همهم، وانقادوا لها وصاروا مطيعين لها، فلذلك قال:{وَاتَّبَعُوا} ولم يقل " تناولوا، وأكلوا " ونحوه لهذا المعنى، لأن هذا الذم إنما يتناول متبعي الشهوات، فمهما اشتهت نفوسهم فعلوه على أنه المقصود المتبوع، ومن
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم (4/ 240).
(2)
انظر: روح المعاني (8/ 411)، والتحرير والتنوير (16/ 106).
المعلوم أن النفس من طبعها أنها أمارة بالسوء، فإذا كان هذا طبعها علم أن ذمهم على اتباع الشهوات يدخل فيه المعاصي كلها، فلذلك رتب على هذا العقاب البليغ في قوله:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} وهذا بخلاف المؤمن المطيع لله، فإنه - وإن تناول الشهوات - فإنه لا يتبعها ولا تصير أكبر همه، ولا مبلغ علمه، بل يتناولها على وجه تكون هي تابعة لغيرها لا متبوعه. وخواص المؤمنين يتناولون الشهوات بقصد التوسل بها إلى القربات فتنقلب طاعات). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الذم إنما هو لمتبعي الشهوات دو متناوليها بقيدها الشرعي وهو كونها حلالاً وبلا إسراف، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله ذم متبعي الشهوات، مما يدل على أن متناوليها ليسوا بمذمومين، فالذم خاص بالاتباع فقط دون مجرد التناول.
وقد أشار إلى قريب من ذلك البقاعي فقال: ({وَاتَّبَعُوا} أي بغاية جهدهم)
(2)
.
وهذا الاستنباط فيه بيان الفرق بين من تكون له الشهوة قصداً يترك من أجلها أي شيء، ومن تكون الشهوة له عارض ولكنها ليست مقصودة لديه بل هي تبع.
وهذا الاستنباط فيه إشارة إلى ضابط من ضوابط تناول الشهوات، فإن الإنسان من طبعه الميل إلى حب الشهوة وفعلها، ولكن الفارق بين حدود المباح والمحظور في ذلك هو ميل القلب إليها بالكلية وجعلها مقصداً، فالمؤمن يجعلها عارضة، وأما غير المؤمن فيجعلها قصداً.
ولو أخذنا مثال الكرة في هذا الزمان لتبين لنا معنى هذا الاستنباط
(1)
انظر: المواهب الربانية للسعدي (60).
(2)
انظر: نظم الدرر (4/ 545).
واضحاً، ففرق بين من يلعب الكرة للرياضة وتقوية الجسم، ونحو ذلك من المقاصد المشروعة، وبين من يجعل الكرة همه الأكبر الذي يوالي ويعادي من أجله، بل ربما ترك الواجبات وفعل المحرمات من أجل ذلك، ففي الأول مارس الشهوة تبعاً، وفي الثاني مارس الشهوة قصداً فصار مذموماً.
سورة طه
الجمع بين الخلق والأمر في الذكر
.
قال تعالى: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)} (طه: 4 - 6).
322 -
قال السعدي رحمه الله: (وكثيراً ما يقرن بين الخلق والأمر كما في هذه الآية وكما في قوله {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَرْضُ} [الأعراف: 54]، وفي قوله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَرْضُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12]، وذلك أنه الخالق الآمر الناهي فكما أنه لا خالق سواه فليس على الخلق إلزام ولا أمر ولا نهي إلا من خالقهم وأيضاً فإن خلقه للخلق فيه التدبير القدري الكوني وأمره فيه التدبير الشرعي الديني فكما أن الخلق لا يخرج عن الحكمة فلم يخلق شيئاً عبثاً فكذلك لا يأمر ولا ينهى إلا بما هو عدل وحكمة وإحسان فلما بين أنه الخالق المدبر الآمر الناهي أخبر عن عظمته وكبريائه). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسيرالسعدي (502).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الجمع بين الخلق والأمر في الذكر، وأن مناسبة ذلك هو أن الإلزام بالأمر والنهي لا يكون إلا من الخالق، وكذلك الخلق فيه التدبير القدري الكوني، والأمر فيه التدبير الشرعي الديني، وفي ذلك بيان لعظمة الله وكبريائه.
وهذا الاستنباط فيه هدم لجميع المعبودات من دون الله؛ إذ لا يستحق العبادة إلا من كان له هذه العظمة والكبرياء، وهذا إنما هو لله الواحد القهار.
إخراج الكلام بطريقة الاستفهام لزيادة الاهتمام
.
قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)} (طه: 17).
323 -
قال السعدي رحمه الله: (قال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} هذا، مع علمه تعالى، ولكن لزيادة الاهتمام في هذا الموضع، أخرج الكلام بطريق الاستفهام). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة إخراج الكلام هنا على طريقة الاستفهام، وأن ذلك لزيادة الاهتمام، أي الاهتمام بالعصا التي ستكون فيها معجزة بانقلابها إلى حية.
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا الاستنباط، قال البغوي: (قوله عز وجل: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} سؤال تقرير، والحكمة في هذا
(1)
انظر: تفسير السعدي (504).
السؤال: تنبيهه وتوقيفه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنه معجزة عظيمة. وهذا على عادة العرب، يقول الرجل لغيره: هل تعرف هذا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: ابن عطية، وأبوحيان، والبيضاوي، وأبو السعود، والبقاعي، والهرري
(2)
.
الأصل في النوابت الإباحة
.
قال تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)} (طه: 53).
324 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)} أي: أنزل المطر {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65] وأنبت بذلك جميع أصناف النوابت على اختلاف أنواعها، وتشتت أشكالها، وتباين أحوالها، فساقه، وقدره، ويسره، رزقاً لنا ولأنعامنا، ولولا ذلك لهلك من عليها من آدمي وحيوان، ولهذا قال:{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 54] وسياقها على وجه الامتنان، ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النوابت الإباحة، فلا يحرم منهم إلا ما كان مضراً، كالسموم ونحوه). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: معالم التنزيل (3/ 180).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (1248)، والبحر المحيط (6/ 220)، وأنوار التنزيل (2/ 386)، وإرشاد العقل السليم (4/ 274)، ونظم الدرر (5/ 15)، وتفسير حدائق الروح والريحان (17/ 268).
(3)
انظر: تفسير السعدي (507).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية، وهي أن الأصل في النوابت الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما كان مضراً، ووجه استنباط ذلك أن الله ذكر النوابت في الآية على وجه الامتنان ليدل على أن الأصل في ذلك الإباحة.
سورة الأنبياء
بطلان القول ببقاء الخضر
.
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلَكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} (الأنبياء: 34).
325 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذه الآية، تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر، وأنه مخلد في الدنيا، فهو قول، لا دليل عليه، ومناقض للأدلة الشرعية). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية بطلان القول ببقاء الخضر حياً، ووجه استنباط ذلك من الآية عموم نفي الخلد لأحد من الخلق، فدل على أن الخضر ليس بحي.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن كثير: (وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر،
(1)
انظر: تفسير السعدي (523).
عليه السلام، مات وليس بحي إلى الآن؛ لأنه بشر، سواء كان وليًا أو نبيًا أو رسولا وقد قال تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلَكَ الْخُلْدَ} )
(1)
، وقال الجزائري-في ذكره فوائد هذه الآية-:(إبطال ما شاع من أن الخضر حيَّ مخلد لا يموت لنفيه تعالى ذلك عن كل البشر)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: البخاري، وابن العربي، وابن الجوزي، والشنقيطي
(3)
.
المخالفون:
خالف في ذلك بعض المفسرين، وقالوا إن الخضر حي، وقالوا إن عموم الآية لا يشمل الخضر، وممن قال بذلك: القرطبي، وابن الصلاح، والنووي، والألوسي.
(4)
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، فالآية تدل على أن الخضر قد مات، وهو ظاهر عموم قوله:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلَكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} ، فقوله " لبشر " نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر من قبله، والخضر بشر من قبله، فلو كان شرب من عين الحياة وصار حياً خالداً إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد
(5)
.
ومما يؤيد هذا الاستنباط ما رواه عبد الله بن عمر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قال فقال:
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 2315).
(2)
انظر: أيسر التفاسير (3/ 413).
(3)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (2/ 196)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 40 - 41)، وأضواء البيان (4/ 164)، وفتح البيان (4/ 236).
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (11/ 40)، وروح المعاني (8/ 302)، وأضواء البيان (4/ 163).
(5)
انظر: أضواء البيان (4/ 164).
(أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهرها أحد)
(1)
، والسياق هنا سياق نفي، "أحد"نكرة في سياق نفي، والنكرة في سياق النفي تعم، فهي تعم كل أحد، وهذا العموم يشمل الخضر.
وأما ما قاله المثبتون لحياة الخضر من أن عموم الآيات والأحاديث الدالة على موته، لا يشملها العموم، فالجواب عنه: إن العلماء مجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سنداً ومتناً، فالدعوى المجردة عن دليل من كتاب أو سنة لا يجوز أن يُخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعاً
(2)
، وهذا هو الحال في النصوص المثبتة لوفاة الخضر نصوص عامة، لا بد من أدلة صحيحة تصلح لتخصيص هذا العموم وإخراج الخضر منه. والله أعلم.
كل ممقوت عند الله لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم
.
قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)} (الأنبياء: 58).
326 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} أي إلا صنمهم الكبير، فإنه تركه لمقصد سيبينه، وتأمل هذا الاحتراز العجيب، فإن كل ممقوت عند الله، لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم، إلا على وجه إضافته لأصحابه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب السمر في العلم، ح (116)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم:(على رأس مائة سنة)، ح (2537).
(2)
انظر: أضواء البيان (4/ 172).
الأرض المشركين يقول: " إلى عظيم الفرس "" إلى عظيم الروم " ونحو ذلك، ولم يقل " إلى العظيم " وهنا قال تعالى:{إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} ولم يقل " كبيراً من أصنامهم " فهذا ينبغي التنبيه له، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله، إلا إذا أضيف إلى من عظمه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن كل ممقوت عند الله لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله لم يطلق لفظ الكبير على الصنم إلا مضافاً؛ احترازاً من تعظيمها وهي ممقوتة عند الله، فأخذ من ذلك أن كل ممقوت لا ينبغي تعظيمه.
وهذا من دقائق الاستنباطات، حيث لم أجد بعد بحث من قال بمثل ذلك من المفسرين.
وهذا الاستنباط فيه بيان التحرز من مدح وتعظيم كل الممقوتين؛ وقد غفل عن هذه المسألة أناس فعظموا من لم يستحق التعظيم ونسبوا إليهم مالا يستحقونه، ففي زماننا أصبح لكل مجال شهداء، حتى إن بعضهم نسب أهل الفجر إلى ذلك فقالوا شهداء الفن، وبعضهم ملاحدة شيوعيون، وغيرهم ويُعظمون بمثل ذلك، ففي هذا الاستنباط لفتة إلى هذا.
يأجوج ومأجوج هم هؤلاء الأمم الروس والصين وأمريكا والإفرنج
.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)} (الأنبياء: 96).
(1)
انظر: تفسير السعدي (526).
327 -
قال السعدي رحمه الله: (فعلم من ذلك أن يأجوج ومأجوج
(1)
هم هؤلاء الأمم؛ الروس والصين وأمريكا، والإفرنج
(2)
، يوضح هذا قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي: حتى إذا انفتحوا على الناس فبرزوا بعد أن كانوا منحازين في ديارهم بهذا الوصف الذي ذكر الله عنهم {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)} أي: مكان مرتفع كالجبال وما فوقها. {يَنْسِلُونَ} أي يسرعون.
وهذا مطابق لما هم عليه فإنهم في جميع أقطار الدنيا قد انفتحوا على الناس وأتوهم من كل جانب؛ ولهذا أتى بأداة التعميم، وهي قوله {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} فلم يبق جبل إلا صعدوه، ولا بحر عميق إلا عبروه، ولا صعب إلا سلكوه، وأبلغ من ذلك أنهم في جو السماء ينسلون؛ أي يسرعون بالطائرات التي جابت مشارق الأرض ومغاربها وجميع جهاتها فإذا لم يصدق عليهم هذا الوصف فمن تراه يصدق عليه؟ وإذا لم ينطبق عليهم هذا النعت فأخبرني بمن ينطبق عليه؟
وفي هذه الآية الكريمة برهان ودليل باهر على الإخبار بحدوث هذه المخترعات التي وصلوا بها إلى هذه الحال؛ لأن إخبار الله ورسوله بشيء
(1)
هم من بني آدم، ويخرجون في آخر الزمان، وهم في جهة الشرق، وكان الترك منهم فتركوا دون السد وبقي يأجوج ومأجوج وراء السد، والأتراك كانوا خارج السد. ويأجوج ومأجوج من الشعوب الشرقية (الشرق الأقصى)، وهم يخرجون في آخر الزمان من الصين الشعبية وما حولها، بعد خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم. انظر: فتاوى الشيخ ابن باز (9/ 312)، وأشراط الساعة ليوسف الوابل (365).
(2)
وقد مدح بعض الباحثين في هذا الشأن رأي السعدي، قال حمدي الجهني:(لقد عبر الشيخ السعدي عن أفكاره والتي كانت تتسم بالواقعية والشجاعة وسلامة وعمق الفكر في تفنيد الكثير من التأويلات والالتباسات حول هؤلاء القوم، وقد سبق هذا العالم الكبير زمانه، في الوصول إلى هذه الحقيقة). انظر: فك أسرار ذي القرنين ويأجوج ومأجوج لحمدي الجهني (481)، وانظر كذلك: الصين يأجوج ومأجوج للمسند (59 - 83).
إخبار به وبما لا يتم ذلك إلا به، وذلك أنه لا يحصل تمكنهم من الإسراع والنسلان من كل حدب إلا بالصنائع الراقية، والمخترعات المدهشة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن يأجوج ومأجوج هم أمم الصين وأمريكا والإفرنج، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله ذكر عنهم أنهم يأتون من كل مكان، وبسرعة، وهذا ما تم اليوم؛ إذ أن هؤلاء ما تركوا مكاناً إلا أتوه وبسرعة هائلة، وأيد استنباطه بأن الإخبار عن مجيئهم من كل مكان وبسرعة، يلزم منه أن تكون لديهم وسائل سريعة مدهشة، وهذا هو الحاصل اليوم من وجود ناقلات وطائرات تمكنهم من الانتقال بكثرة وسرعة شديدة.
وما ذكره السعدي هنا فيه نوع جزم من أن هذه الأمم هي يأجوج ومأجوج، وهذا فيه نظر، وغاية ما يمكن القول به هنا أن يأجوج ومأجوج سيكون خروجهم من المشرق، ولكن الجزم بشيء محدد يحتاج إلى بحث جماعي من علماء الأمة فمثل هذا التنزيل لا يكفي فيه انفراد عالم وإن جل قدره، قال العثيمين بعد سؤاله عن يأجوج ومأجوج هل هم أهل الصين؟ فقال: لا يثبت
(2)
، كما أن النصوص الواردة في خروجهم تدل على أن لهم خروجاً مميزاً في الإفساد، وأن ذلك يكون في زمن عيسى عليه السلام، وأن هلاكهم يكون على يده، مما يدل على أن ما ذهب إليه السعدي فيه بعد
(3)
. والله أعلم.
(1)
انظر: رسالة يأجوج ومأجوج للسعدي (76).
(2)
انظر: كتب ورسائل العثيمين (3/ 314)، وتيسير لمعة الاعتقاد للمحمود (276).
(3)
انظر: يأجوج ومأجوج فتنة الماضي والحاضر والمستقبل للشفيع أحمد (296 - 304).
وممن قال ببطلان هذا القول الشيخ حمود التويجري
(1)
، حيث قال:(وبعض العصريين يزعمون أن يأجوج ومأجوج هم جميع دول الكفر المتفوقين في الصناعات الحديثة، وقد رأيت هذا القول الباطل في بعض مؤلفات المتكلفين العصريين. . . وقد قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)} (الأنبياء: 96). وفي هاتين الآتين أبلغ الرد على من زعم أن يأجوج ومأجوج هم دول الإفرنج أوغيرهم من دول المشرق والمغرب الذين لم يزالوا مختلطين بغيرهم من الناس، ولم يجعل بينهم وبين الناس سد، ومن المعلوم أن دول آسيا وأوربا وأمريكا لم تزل في أماكنها منذ زمان طويل، وأنه ليس بينهم وبين غيرهم سد من حديد يمنعهم من الخروج والاختلاط بغيرهم من الناس، فصفة يأجوج ومأجوج لا تنطبق على شيء من الدول المعروفة الآن، وقد تقدم في عدة أحاديث صحيحة أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون بعد نزول عيسى وقتل الدجال، وأنهم لا يمكثون بعد خروجهم على الناس إلا مدة يسيرة، وأما عدم رؤيتهم وعدم رؤية السد فهذا قد يكون بصارف من الله فلا يلزم من عدم رؤيتهم عدم وجودهم)
(2)
.
وأشار التويجري إلى أن السعدي تراجع عن قوله هذا بعد إنكار بعض علماء نجد عليه في هذه المسألة، وغاية ما ذكره التويجري أن السعدي لم يذكر هذا القول في التفسير، وهو بعد كتابته رسالة يأجوج ومأجوج
(3)
، إلا أن هذا لا يكفي في إثبات رجوع السعدي عن ذلك حيث
(1)
هو: الشيخ حمود بن عبدالله بن حمود التويجري، توجه للعلم وهو صغير السن، وقد ألف عدداً من المؤلفات تربو على الخمسين، منها: إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة، والاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر، زإثبات علو الله على خلقه، وغيرها، ولد في المجمعة عام 1334 هـ، وتوفي عام 1413 هـ في الرياض. انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 141).
(2)
انظر: إتحاف الجماعة للتويجري بتصرف يسير (3/ 170 - 174).
(3)
انظر: الاحتجاج بالأثر للشيخ حمود التويجري (327)، وانظر في الرد على السعدي في رسالته عن يأجوج ومأجوج كتاب"إبطال دعوى الخروج ليأجوج ومأجوج"لعبد الكريم الحميد.
إنه لم يصرح بالرجوع عن اختياره هذا، فعدم ذكره له لا يدل على التراجع، بل العادة أن من قال بمثل هذا القول ثم تراجع عنه أنه يصرح بذلك فالتلميح هنا لا يكفي. والله أعلم.
سورة الحج
قدم الطواف على الاعتكاف والصلاة لاختصاصه بالبيت
.
قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} (الحج: 26).
328 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)}
(1)
وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة، لاختصاصه بهذا البيت، ثم الاعتكاف، لاختصاصه بجنس المساجد). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تقديم ذكر الطواف قبل الاعتكاف والصلاة، وأن مناسبة ذلك هو اختصاص الطواف بالبيت،
(1)
استنبط بعض العلماء من تقديم الطواف على الصلاة أن الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة. انظر: أضواء البيان (5/ 229).
(2)
انظر: تفسيرالسعدي (537) و (66).
والكلام هنا عن البيت، ثم قدم الاعتكاف قبل الصلاة لاختصاصه بجنس المساجد فلا اعتكاف في غير المسجد.
ختم الآية بالأمر بالطواف لبيان أن الطواف ليس معلقاً بالنسك
.
قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} (الحج: 29).
329 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
(1)
أي: القديم، أفضل المساجد على الإطلاق، المعتق: من تسلط الجبابرة عليه. وهذا أمر بالطواف، خصوصاً بعد الأمر بالمناسك عموماً، لفضله، وشرفه، ولكونه المقصود، وما قبله وسائل إليه.
ولعله -والله أعلم أيضاً- لفائدة أخرى، وهو: أن الطواف مشروع كل وقت، وسواء كان تابعاً لنسك، أم مستقلاً بنفسه). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الطواف مشروع كل وقت سواء كان تابعاً لنسك أم مستقلاً، ووجه استنباط ذلك ختم آية المناسك بالأمر به.
وهذا المعنى المستنبط صحيح في ذاته إجماعاً فالطواف مشروع مطلقاً لا علاقة له بالنسك، بل هو عبادة مستقلة؛ لكن استنباطه من هذه الآية فيه نظر، وبعد؛ والسبب أن الآية في طواف الإفاضة، كما قال
(1)
استنبط بعض المفسرين من الآية كذلك: أنها تدل على أن الطواف لا يجوز في داخل البيت ولا في شيء من هوائه. انظر: الإكليل (3/ 977).
(2)
انظر: تفسيرالسعدي (537)، وفتح الرحيم للسعدي (134).
الطبري: (وعني بالطواف الذي أمر جلّ ثناؤه حاجٌ بيته العتيق به في هذه الآية طواف الإفاضة الذي يُطاف به بعد التعريف، إما يوم النحر وإما بعده، لا خلاف بين أهل التأويل في ذلك)
(1)
، وبناء على ذلك فلا مجال للاستنباط في الآية إذ معناها في طواف الإفاضة فقط، ومن هنا نعلم أن ما ذهب إليه السعدي هنا بعيد. والله أعلم.
وهذا الاستنباط يصلح فيما لو كان الأمر بالطواف عاماً، فلما تبين خصوصية المعنى فلا مجال لهذا الاستنباط حينئذ.
الإتيان بـ "من" لبيان سهولة ما أمر الله من الإنفاق
.
قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} (الحج: 35).
330 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والمماليك، والأقارب، والنفقات المستحبة، كالصدقات بجميع وجوهها، وأتي بـ {من} المفيدة للتبعيض، ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له ورزقه إياه، فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق الله عليك، ويزدك من فضله). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة التعبير بـ (من) التبعيضية عند
(1)
انظر: جامع البيان (9/ 142).
(2)
انظر: تفسيرالسعدي (538).
طلب الإنفاق، وأن مناسبة ذلك هو بيان سهولة ما أمر الله به من الإنفاق وأنه جزء يسير مما أعطى الله العبد.
وهذا الاستنباط يبين لنا نعمة الله على العباد ورحمته بهم؛ إذ أعطاهم الكثير وطلب منهم القليل، ولو تأملنا مقدار الزكاة الواجبة في المال لعرفنا رحمة الله بنا ومقدار نعمته علينا.
وهذا الاستنباط لا يعني عدم التصدق بالمال الكثير فقد تصدق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، وتصدق عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وإنما المراد من ذلك التخفيف في التكليف، فأما من كانت نفسه تسمح بالكثير فلا يوجد مانع شرعي من ذلك.
الأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به
.
قال تعالى: {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (41)} (الحج: 41).
331 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} كل منكر شرعاً وعقلاً معروف قبحه، والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم، أجبروا الناس على التعلم والتعليم، وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا، أو غير مقدر، كأنواع التعزير، قاموا بذلك، وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له، لزم ذلك، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسيرالسعدي (538).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان متوقفاً على تعلم أمر أو تعليمه ونحو ذلك من الأمور، فإنه يجب تعلم هذه الأمور لأن ما لا يتم الأمر إلا به فهو مأمور به.
وهذا الاستنباط فيه تأصيل لتعلم فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن من تصدى لهذه المهمة الشريفة يجب عليه أن يتعلم الأمور التي يحصل بها مقصود هذه المهمة، فهو تأصيل لما يسمى اليوم بـ "تأهيل عضو الهيئة".
كما أن جزءاً من هذا الاستنباط يتعرض لجعل أناس يتصدون للأمر والنهي، وهذا فيه رد لمن يعترض على جهاز الهيئة، وأنه لا داعي له إذ الكل مسلمون، ولكن هذا الاستنباط يرد عليهم وأنه يجب جعل من يقوم على هذه المهمة، لأنه من تمام قيامها.
لدفع توهم التكليف بما لا يطاق بين أن الدين لا حرج فيه
.
قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (78)} (الحج: 78).
332 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ربما توهم متوهم أن هذا من باب تكليف ما لا يطاق، أو تكليف ما يشق، احترز منه بقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسيرالسعدي (547).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الإتيان بالآية التي فيها بيان رفع الحرج والمشقة، بعد الآية التي فيها الأمر ببذل الجهد، وأن مناسبة ذلك هو دفع توهم التكليف بما لا يطاق، فالأمر بالمجاهدة في حدود الطاقة لا غير.
قال شهاب الدين الخفاجي: (الظاهر أن حق جهاده تعالى لما كان متعسراً ذيله بهذا ليبين أن المراد ما هو بحسب قدرتهم لا ما يليق به جل وعلا من كل الوجوه)
(1)
.
وهذا الاستنباط فيه فائدة أخرى وهي سد الطرق التي يمكن أن يلج منها أهل الغلو والتنطع، فهذه الآية كانت ستكون مستنداً لهم لولا أن الله قطع عليهم ذلك بالآية التي بعدها، وهكذا كلام الله متقن محكم غاية الإحكام.
(1)
انظر: حاشية الشهاب على البيضاوي (6/ 552).
سورة المؤمنون
تحريم نكاح المتعة
.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَنَمُ مَلُومِينَ (6)} (المؤمنون: 5 - 6).
333 -
قال السعدي رحمه الله: (وعموم هذه الآية، يدل على تحريم نكاح المتعة
(1)
، فإنها ليست زوجة حقيقة مقصوداً بقاؤها، ولا مملوكة). ا. هـ
(2)
(1)
معنى نكاح المتعة أن يتزوج المرأة مدة مثل أن يقول زوجتك ابنتي شهرا أو سنة أو إلى انقضاء الموسم أو قدوم الحاج وشبهه سواء كانت المدة معلومة أو مجهولة فهذا نكاح باطل نص عليه أحمد فقال نكاح المتعة حرام وهذا قول عامة الصحابة والفقهاء وممن روي عنه تحريمها عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن الزبير قال ابن عبد البر وعلى تحريم المتعة مالك وأهل المدينة وأبو حنيفة في أهل الكوفة والأوزاعي في أهل الشام والليث في أهل مصر والشافعي وسائر أصحاب الآثار، وحكي عن ابن عباس أنها جائزة وعليه أكثر أصحابه عطاء وطاوس وبه قال ابن جريج وحكي ذلك عن أبي سعيد الخدري وجابر وإليه ذهب الشيعة، وأما قول ابن عباس فقد حكي عنه الرجوع عنه. انظر: المغني بتصرف (10/ 46 - 48).
(2)
انظر: تفسيرالسعدي (548) و (887).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية تحريم نكاح المتعة، ووجه استنباط ذلك من الآية عموم الآية، حيث بين الله أن التي تحل إنما هي الزوجة والمملوكة، فدل هذا العموم على تحريم ما عدا ذلك.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال إلكيا الهراسي:(يقتضي تحريم المتعة إذ ليست بزوجة ولا ملك يمين)
(1)
، وقال الشوكاني:(وقد دلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة)
(2)
،
وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، والرازي، والقرطبي، والطوفي، والسيوطي، والألوسي، والشنقيطي
(3)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في استنباط تحريم نكاح المتعة من هذه الآية، قال الزمخشري:(فإن قلت: هل فيه دليل على تحريم المتعة؟ قلت: لا؛ لأنّ المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صحّ النكاح)
(4)
، وقال أبو السعود:(وليس فيه ما يدل حتماً على تحريم المتعة)
(5)
، وممن قال به أيضاً من المفسرين: أبوحيان، ومال إليه ابن العربي
(6)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 116).
(2)
انظر: فتح القدير (3/ 589).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 330)، والتفسير الكبير (23/ 71)، والجامع لأحكام القرآن (12/ 98)، والإشارات الإلهية (3/ 44)، والإكليل (3/ 998)، وروح المعاني (9/ 211)، وأضواء البيان (5/ 772).
(4)
انظر: الكشاف (704).
(5)
انظر: إرشاد العقل السليم (4/ 403).
(6)
انظر: البحر المحيط (6/ 367) وأحكام القرآن لابن العربي (3/ 264).
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح في استنباط تحريم المتعة من الآية، لعموم الآية ولا مخصص لهذا العموم؛ ولأن زوجة المتعة تختلف في أشياء كثيرة عن الزوجة الحقيقية الشرعية فلما لم تكن زوجة كانت من جملة المحرمات، قال الشنقيطي:(المرأة المستمتع بها في نكاح المتعة، ليست زوجة، ولا مملوكة، أما كونها غير مملوكة فواضح، وأما الدليل على كونها غير زوجة، فهو انتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث والعدة والطلاق والنفقة، ونحو ذلك، فلو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق، ووجبت لها النفقة، فلما انتفت عنها لوازم الزوجية علمنا أنها ليست بزوجة، لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم بإجماع العقلاء)
(1)
.
يشترط في حل المملوكة أن تكون كلها في ملك المالك
.
قال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (6)} (المؤمنون: 6).
334 -
قال السعدي رحمه الله: (ويدل قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أنه يشترط في حل المملوكة أن تكون كلها في ملكه، فلو كان له بعضها لم تحل، لأنها ليست مما ملكت يمينه، بل هي ملك له ولغيره، فكما أنه لا يجوز أن يشترك في المرأة الحرة زوجان، فلا يجوز أن يشترك في الأمة المملوكة سيدان). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المملوكة لا تحل لمالكها إلا إذا
(1)
انظر: أضواء البيان (5/ 772).
(2)
انظر: تفسير السعدي (548).
كانت في ملكه كاملة، فإذا كان له بعضها فإنها لا تحل له، ووجه استنباط ذلك من الآية أن لفظ الآية يدل على أنه لا بد أن تكون ملكه كاملة، فدل مفهوم المخالفة أنها لو كان بعضها له والبعض الآخر لغيره فإنها لا تحل له.
قال الكاساني
(1)
: (فلا يجوز للرجل أن يتزوج بجاريته ولا بجارية مشتركة بينه وبين غيره)
(2)
.
والسبب في عدم حليتها لأحد المالكين؛ أنه لم تتمحض ملكيتها لأي واحد منهما فحرمت على الجميع. والله أعلم.
تخصيص شجرة الزيتون بالذكر لخصوصية مكانها، ومنافعها
.
قال تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20)} (المؤمنون: 20).
335 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} وهي شجرة الزيتون، أي: جنسها، خصت بالذكر، لأن مكانها خاص في أرض الشام، ولمنافعها). ا. هـ
(3)
(1)
هو: علاء الدين، أبوبكر بن مسعود بن أحمد الكاساني وقيل الكاشاني، الحنفي، فقيه أصولي، له مؤلفات منها: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، والسلطان المبين في أصول الدين، توفي عام 587 هـ. انظر: طبقات الحنفية لابن الجنائي (243)، ومعجم المؤلفين (3/ 75).
(2)
انظر: بدائع الصنائع (3/ 467).
(3)
انظر: تفسير السعدي (549).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص شجرة الزيتون بالذكر، وأن مناسبة ذلك هو خصوصية المكان، ولكثرة المنافع كذلك.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال ابن عاشور:(وتخصيصها بالذكر مع طي كون الناس منها يأكلون تنويه بشأنها، وإيماء إلى كثرة منافعها لأن من ثمرتها طعاماً وإصلاحاً ومداواة، ومن أعوادها وَقود وغيره)
(1)
، وقال الألوسي:(والمراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون وتخصيصها بالذكر من بين سائر الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة. . . وتخصيصها بالوصف بالخروج من الطور مع خروجها من سائر البقاع أيضاً وأكثر ما تكون في المواضع التي زاد عرضها عليها ميلها واشتد بردها وكانت جبلية ذا تربة بيضاء أو حمراء لتعظيمها أو لأنه المنشأ الأصلي لها، ولعل جعله للتعظيم أولى فيكون هذا مدحاً لها باعتبار مكانها)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري، والقرطبي، وأبو السعود، والشوكاني
(3)
.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (18/ 34).
(2)
انظر: روح المعاني (9/ 224).
(3)
انظر: الكشاف (705)، والجامع لأحكام القرآن (12/ 106)، وإرشاد العقل السليم (4/ 407)، وفتح القدير (3/ 395).
سورة النور
إذا نكلت المرأة ولاعن الرجل يقام عليها الحد
.
قال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)} (النور: 8).
336 -
قال السعدي رحمه الله: (وهل يقام عليها الحد، بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قولان للعلماء
(1)
، الذي يدل عليه الدليل، أنه يقام عليها الحد، بدليل قوله:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} إلى آخره، فلولا أن العذاب وهو الحد قد وجب بلعانه، لم يكن لعانها دارئاً له). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الملاعنة إذا نكلت عن الإيمان،
(1)
وممن قال بأنها إن شهد هو، ونكلت هي أنها تحد بشهاداته ونكولها: مالك والشافعي والشعبي، ومحول، وأبو عبيد، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة، وأحمد، والحسن، والأوزاعي، وأصحاب الرأي: لا حد عليها بنكولها عن الشهادات، وتحبس أيضاً حتى تلاعن أو تقر فيقام عليها الحد. انظر: المغني (11/ 188)، وأضواء البيان (6/ 133).
(2)
انظر: تفسير السعدي (562).
وحلف الملاعن، فإنه يقام عليها الحد، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله بين أن درأها للحد إنما هو بالأيمان، فدل مفهوم المخالفة لذلك أنه بعدم الأيمان يقام عليها الحد.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الشنقيطي:(ومفهوم مخالفة الآية يدل على أنها لو نكلت عن شهاداتها، لزمها الحد بسبب نكولها مع شهادات الزوج، وهذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، فشهادات الزوج القاذف تدرأ عنه هو حد القذف، وتوجه إليها هي حد الزنى، وتدفعه عنها شهاداتها)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: إلكيا الهراسي، والرازي، والبيضاوي، والخازن، والسيوطي، وابن عاشور
(2)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، وقالوا إن المراد بالعذاب هنا هو الحبس لا إقامة الحد، كما أنه لا يجوز إقامة الحد عليها بترك اللعان؛ لأنه ليس ببينة ولا إقرار، قال أبوالسعود:({وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} أي العذابَ الدنيويَّ وهو الحبسُ المغيَّا على أحدِ الوجهينِ بالرَّجمِ الذي هو أشدُّ العذابِ)
(3)
، وممن قال بذلك أيضاً من المفسرين: الجصاص، والألوسي
(4)
.
(1)
انظر: أضواء البيان (6/ 132).
(2)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 136)، والتفسير الكبير (23/ 148)، وأنوار التنزيل (2/ 487)، ولباب التأويل (3/ 283)، والإكليل (3/ 1011)، والتحرير والتنوير (18/ 168).
(3)
انظر: إرشاد العقل السليم (4/ 441).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 483)، وروح المعاني (9/ 303 - 306).
النتيجة:
ماذهب إليه السعدي ومن وافقه من المفسرين هو الصحيح، من أن الآية تدل على أن الملاعنة عند حلف الملاعن ونكولها فإنه يقام عليها الحد، قال الطبري:(وإنما قلنا: الواجب عليها إذا هي امتنعت من الالتعان بعد التعان الزوج الحدّ الذي وصفنا، قياساً على إجماع الجميع على أن الحدّ إذا زال عن الزوج بالشهادات الأربع على تصديقه فيما رماها به، أن الحدّ عليها واجب، فجعل الله أيمانه الأربع، والتعانه في الخامسة مخرجاً له من الحدّ الذي يجب لها برميه إياها، كما جعل الشهداء الأربعة مخرجاً له منه في ذلك وزائلا به عنه الحدّ، فكذلك الواجب أن يكون بزوال الحدّ عنه بذلك واجباً عليها حدّها، كما كان بزواله عنه بالشهود واجباً عليها، لا فرق بين ذلك).
(1)
تعظيم حرمة عرض المسلم
.
قال تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} (النور: 13).
337 -
قال السعدي رحمه الله: ({فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك، فإنهم كاذبون في حكم الله، لأن الله حرم عليهم التكلم بذلك، من دون أربعة شهود، ولهذا قال:{فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} ولم يقل " فأولئك هم الكاذبون " وهذا كله، من تعظيم حرمة عرض المسلم، بحيث لا يجوز
(1)
انظر: جامع البيان (9/ 274).
الإقدام على رميه، من دون نصاب الشهادة بالصدق). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية تعظيم حرمة عرض المسلم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله سمى الذين يشهدون بالقذف وهم دون الأربعة كاذبين؛ حتى لو كانوا صادقين في أنفسهم، ولكنهم في حكم الله كاذبين، وذلك صيانة لأعراض المسلمين.
ويؤخذ من هذا الاستنباط أن أحكام الشريعة الإسلامية مبنية على الحقائق والدلائل الظاهرة، وليست مبنية على النوايا حتى ولو كانت حسنة.
وأشار الرازي إلى معنى آخر فقال: (فإن قيل: أليس إذا لم يأتوا بالشهداء فإنه يجوز كونهم صادقين كما يجوز كونهم كاذبين فلم جزم بكونهم كاذبين؟ والجواب من وجهين: الأول: أن المراد بذلك الذين رموا عائشة خاصة وهم كانوا عند الله كاذبين، والثاني: المراد فأولئك عند الله في حكم الكاذبين فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب، والقاذف إن لم يأت بالشهود فإنه يجب زجره فلما كان شأنه شأن الكاذب في الزجر لا جرم أطلق عليه لفظ الكاذب مجازاً)
(2)
.
التعبير بقوله "تستأنسوا" أحسن من التعبيربـ "تستأذنوا"؛ لأنه يشمل الاستئذان والتعليل
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ شَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلُهَا (27)} (النور: 27).
(1)
انظر: تفسير السعدي (563).
(2)
انظر: التفسير الكبير (23/ 155).
338 -
قال السعدي رحمه الله: (الإتيان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ شَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا}
(1)
[النور: 27] أحسن من قوله " تستأذنوا " لأن (تستأنسوا) تتضمن الاستئذان وزيادة التعليل، وأن الحكمة التي شرع الله الاستئذان لأجلها هي حصول الاستئناس من عدم الوحشة). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن التعبير في الآية بالاستئناس، أحسن من التعبير بالاستئذان، ووجه ذلك أن الاستئناس يتضمن الاستئذان وزيادة التعليل، وهو بيان الحكمة من الاستئذان وهي الاستئناس ورفع الوحشة.
وقد أشار إلى قريب من ذلك ابن عاشور فقال: (عُبر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان، وفي ذلك من الآداب أن المرء لا ينبغي أن يكون كلاًّ على غيره، ولا ينبغي له أن يعرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال، وأنه ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين وذلك عون على توفر الأخوة الإسلامية)
(3)
.
(1)
ما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية: حتى تستأذنوا وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم، فكتبوا تستأنسوا غلطاً بدل تستأذنوا، لا يعول عليه، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس، وإن صحح سنده عنه بعض أهل العلم، ولو فرضنا صحته فهو من القراءات التي نسخت وتركت، ولعل القارئ بها لم يطلع على ذلك، لأن جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على كتابة تستأنسوا في جميع نسخ المصحف العثماني، وعلى تلاوتها بلفظ: تستأنسوا، ومضى على ذلك إجماع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مصاحفهم وتلاوتهم من غير نكير والقرآن العظيم تولى الله تعالى حفظه من التبديل والتغيير. انظر: أضواء البيان (6/ 168)، والمحرر الوجيز (1355).
(2)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (34).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (18/ 197).
الأمر بحفظ الفرج مطلقاً، لأنه لا يباح في حالة من الأحوال، وأتى بمن للتبعيض في البصر لجوازه في بعض الأحوال
.
قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ (30)} (النور: 30)
339 -
قال السعدي رحمه الله: (وتأمل كيف أمر بحفظ الفرج مطلقا، لأنه لا يباح في حالة من الأحوال، وأما البصر فقال: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أتى بأداة " من " الدالة على التبعيض، فإنه يجوز النظر في بعض الأحوال لحاجة، كنظر الشاهد والعامل والخاطب، ونحو ذلك). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة دخول "من"على غض البصر دون حفظ الفرج، وأن مناسبة ذلك هو أن حفظ الفرج لا يباح في حالة من الأحوال، بينما النظر يجوز في بعض الأحوال كالنظرة الأولى التي بغير قصد، وكالنظر إلى المخطوبة ونحو ذلك.
وقد وافق السعدي بعض المفسرين على هذا الاستنباط، قال أبوحيان:(ودخلت {مِنْ} في قوله {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري، والرازي، وأبوالسعود، وابن القيم، والألوسي.
(3)
(1)
انظر: تفسير السعدي (566).
(2)
انظر: البحر المحيط (6/ 412).
(3)
انظر: الكشاف (726) التفسير الكبير (23/ 175)، وإرشاد العقل السليم (4/ 453)، وبدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (2/ 237)، وروح المعاني (9/ 334).
الطفل المميز تستتر منه المرأة
.
قال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ (31)} (النور: 31).
340 -
قال السعدي رحمه الله: ({أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي: الأطفال الذين دون التمييز، فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب، وعلل تعالى ذلك، بأنهم لم يظهروا على عورات النساء، أي: ليس لهم علم بذلك، ولا وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا، أن المميز تستتر منه المرأة، لأنه يظهر على عورات النساء). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية عدم جواز تمكين الطفل المميز من رؤية النساء والإطلاع على عوراتهن، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أباح إطلاع الأطفال غير المميزين على عورات النساء، فدل مفهوم المخالفة على عدم جواز ذلك للأطفال المميزين.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال السيوطي:(فيستدل به على تحريم نظر المراهق الذي فهم ذلك كالبالغ)
(2)
، وقال ابن كثير:(فأما إن كان مراهقاً أو قريباً منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يُمكّن من الدخول على النساء)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، وحقي، والألوسي.
(4)
(1)
انظر: تفسير السعدي (567).
(2)
انظر: الإكليل (3/ 1028).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 2498).
(4)
انظر: التفسير الكبير (23/ 182)، وروح البيان (6/ 156)، وروح المعاني (9/ 339).
وهذا الاستنباط فيه فائدة كبيرة وذلك أن بعض النساء يتساهلن مع الأطفال دون تمييز بين من يميز ومن لا يميز، ففي هذا تنبيه على مثل هؤلاء خصوصاً في هذا الزمن الذي أصبح فيه بعض الأطفال على اطلاع واسع فيما يختص بعورات النساء من خلال وسائل الإعلام التي توفر لهم مثل ذلك، مما يجعل الحذر هنا أشد.
العبد إذا لم يطلب الكتابة، أو علم سيده أنه لا خير في كتابته فلا يؤمر بمكاتبته
.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا (33)} (النور: 32).
341 -
قال السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية الكريمة، أن العبد إذا لم يطلب الكتابة
(1)
، لا يؤمر سيده أن يبتدئ بكتابته، وأنه إذا لم يعلم منه خيراً، بأن علم منه عكسه، إما أنه يعلم أنه لا كسب له، فيكون بسبب ذلك كلاً على الناس، ضائعاً، وإما أن يخاف إذا أعتق، وصار في حرية نفسه، أن يتمكن من الفساد، فهذا لا يؤمر بكتابته، بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن العبد إذا لم يطلب من سيده
(1)
الكتابة إعتاق السيد عبده على مال في ذمته مؤجلاً، سميت كتابة لأن السيد يكتب بينه وبينه كتاباً بما اتفقا عليه وقيل سميت كتابة من الكتب وهو الضم لأن المكاتب يضم بعض النجوم إلى بعض. انظر: المغني (14/ 441)، والجامع لأحكام القرآن (12/ 223).
(2)
انظر: تفسير السعدي (568).
الكتابة، وكذلك إذا لم يعلم السيد منه خيراً، أو علم منه شراً؛ فإنه في هذه الحالة لا يكون مأموراً بمكاتبته، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أمر بالكتابة إذا طلب المكاتب ذلك وبشرط أن يكون في المكاتب خيراً، فدل مفهوم المخالفة أن المكاتب إذا لم يكن كذلك فإنه لا يُكاتَب.
أما الجزء الأول من الاستنباط وهو أن السيد لا يكاتب مملوكه إلا إذا طلب منه ذلك فهذا فيه نظر؛ إذ المكاتبة فعل بر ينبغي للإنسان المبادرة إليها، فإذا ندب للإنسان أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وله في ذلك أجر الامتثال، فلأن يؤجر على المبادرة ابتداء من باب أولى.
وأما الجزء الثاني من الاستنباط وهو أن المكاتبة مشروطة بعلم الخير في المكاتب؛ فهذا صحيح يؤيده مفهوم الشرط في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فدل مفهوم الشرط أنه مع عدم علم الخيرية ينتفي الأمر بالمكاتبة، قال اللاحم:(ويفهم من الآية أنه إذا لم يتوفر هذا الشرط وهو قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فلا يؤمر بمكاتبتهم، سواء حمل الأمر على الوجوب، أو على الاستحباب، بل لا تنبغي مكاتبتهم، وذلك لئلا يضيع حق المالك، ويكون المملوك عالة على الغير)
(1)
.
وخالف بعض المفسرين في ذلك فقالوا إن انتفاء هذا الشرط إنما هو انتفاء للوجوب أو الاستحباب فقط أما الجواز فقائم، قال البيضاوي:(وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز)
(2)
، ووافقه على ذلك: محيي الدين شيخ زاده، وشهاب الدين الخفاجي، حقي.
(3)
ومفهوم الشرط يؤيد ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه، كما أن مكاتبة من لا خير فيه، فيه زيادة إيذاء للمجتمع فكون العبد الذي لا خير فيه مملوكاً أهون في اتقاء شره من كونه حراً، كما أن مكاتبة من لا خير فيه
(1)
انظر: تفسير سورة النور للاحم (196).
(2)
انظر: أنوار التنزيل (2/ 496).
(3)
انظر: حاشية زاده على البيضاوي (6/ 219)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (7/ 48)، وروح البيان (6/ 161).
بناء على أن معنى الخيرية هنا المال فيه تكليف له بما لا يطيق وربما دفعه ذلك إلى فعل محرم من سرقة ونحوها، وبذل حياءه من أجل الحصول على مال يكون سبباً في إعتاقه. والله أعلم.
السيد وولي الصغير مخاطبان بتعليم عبيدهم ومن تحت ولايتهم العلم والآداب
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ (58)} (النور: 58).
342 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هاتين الآيتين فوائد، منها: أن السيد وولي الصغير، مخاطبان بتعليم عبيدهم ومن تحت ولايتهم من الأولاد، العلم والآداب الشرعية، لأن الله وجه الخطاب إليهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} الآية، ولا يمكن ذلك، إلا بالتعليم والتأديب). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن السيد وولي الصغير مخاطبان بتعليم عبيدهم ومن تحت ولايتهم، العلم والآداب الشرعية، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله وجه الخطاب إليهم، وهذا يلزم منه أنهم علموهم هذه الآداب من قبل ذلك.
وقد أشار بعض المفسرين إلى نحو ذلك، قال ابن عاشور: (ووُجّه الخطاب إلى المؤمنين وجعلت صيغة الأمر موجهة إلى المماليك والصبيان
(1)
انظر: تفسير السعدي (574).
على معنى: لتأمروا الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا عليكم، لأن على أرباب البيوت تأديب أتباعهم، فلا يشكل توجيه الأمر إلى الذين لم يبلغوا الحلم)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين: الألوسي، واللاحم
(2)
.
وهذا الاستنباط فيه إشارة إلى أهمية توجيه الصغار ومن للمرء عليهم ولاية إلى الآداب التي يجب عليهم امتثالها، إذ البعض يهمل أولاده إلى أن يشتد عودهم وتتأصل أخلاقهم فلا يستطيع حينئذ تعديل ما تعودوه من سوء الأخلاق.
الصغير الذي دون البلوغ والمملوك لا يجوز أن يرى عورة غيره، ولا غيره يرى عورته
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ (58)} (النور: 58).
343 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد الآية-: أن الصغير الذي دون البلوغ، لا يجوز أن يمكن من رؤية العورة، ولا يجوز أن ترى عورته، لأن الله لم يأمر باستئذانهم، إلا عن أمر ما يجوز، ومنها-أي من فوائد الآية-: أن المملوك أيضاً، لا يجوز أن يرى عورة سيده، كما أن سيده لا يجوز أن يرى عورته، كما ذكرنا في الصغير). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: التحرير والتنوير (18/ 292).
(2)
انظر: روح المعاني (9/ 400)، وتفسير سورة النور للاحم (336).
(3)
انظر: تفسير السعدي (574).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الصغير الذي دون البلوغ، والمملوك لا يجوز أن ترى عورته، كما أنه لا يجوز أن يمكن من رؤية عورة غيره، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أمرهم بالاستئذان في أوقات هي مظنة كشف العورات، فدل ذلك على عدم جواز رؤيتهم لعورات الآخرين وإلا لم يكن لأمرهم بالاستئذان معنى.
قال القصاب: (ويدخل فيه أن ستر العورة على الأطفال الذين قد بلغوا مبلغ معرفتها فرض في كل وقت؛ إذ لا يأمر - جل وتعالى- بالاستئذان من أجل ذلك إلا وقد فرض سترها في كل وقت عنهم وعن ملك اليمين)
(1)
، وقال اللاحم في معرض ذكره للفوائد والأحكام من هذه الآية:(لا يجوز للأطفال المميزين ممن هم دون البلوغ النظر إلى عورة الرجل، كما لا يجوز للرجل أن ينظر إلى عورة الصبي والمملوك)
(2)
.
وهذا الاستنباط فيه فائدة وهي أنه من القبيح أن يرى مماليكهم وأطفالهم عوراتهم لأن ذلك منظر يخجل منه المملوك وينطبع في نفس الطفل لأنه لم يعتد رؤيته، ولأنه يجب أن ينشأ الأطفال على ستر العورة حتى يكون ذلك كالسجية فيهم إذا كبروا
(3)
.
ينبغي للمعلم والواعظ أن يقرن بالحكم دليله وتعليله
.
قال تعالى: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ (58)} (النور: 58).
344 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد الآية-
(1)
انظر: نكت القرآن (2/ 488).
(2)
انظر: تفسير سورة النور للاحم (337).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (18/ 292).
: أنه ينبغي للواعظ والمعلم ونحوهم، ممن يتكلم في مسائل العلم الشرعي، أن يقرن بالحكم، بيان مأخذه ووجهه، ولا يلقيه مجرداً عن الدليل والتعليل، لأن الله - لما بين الحكم المذكور- علله بقوله:{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} ). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المعلم ينبغي أن يقرن بالحكم الذي يعلمه الناس مأخذه ووجهه أي علته ودليله، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله لما بين الأوقات التي يحرم دخول الصبيان والمماليك فيها على غيرهم؛ بين علة ذلك الحكم وهو أنها أوقات تتكشف فيها العورات غالباً؛ فمنعوا من الدخول لأجل ذلك.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الرازي:(الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين: أحدهما: بقوله تعالى: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} والثاني: بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة وبين ما عداها بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة، وأنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات)
(2)
، وقال البيضاوي:(وفيه دليل على تعليل الأحكام)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: محيي الدين شيخ زاده، وأبو السعود، وشهاب الدين الخفاجي، واللاحم
(4)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (574).
(2)
انظر: التفسير الكبير (24/ 28).
(3)
انظر: أنوار التنزيل (2/ 507).
(4)
انظر: وحاشية زاده على البيضاوي (6/ 253)، وإرشاد العقل السليم (4/ 483)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (7/ 87)، وتفسير سورة النور للاحم (338).
وفائدة هذا المعنى المستنبط أن الكلام يكون أكثر إقناعاً للمتلقي، كما أن فيه إزالة الإشكال من ذهن المتلقي عن كيفية استخراج الحكم وعن بيان سبب تشريع هذا الحكم فيزيل الالتباس من الأذهان، وقرن الحكم بدليله وعلته هو أبلغ أنوع البلاغ. والله أعلم.
ريق الصبي طاهر ولو بعد نجاسة كالقيء
.
قال تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ (58)} (النور: 58).
345 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد الآية-: أن ريق الصبي طاهر، ولو كان بعد نجاسة، كالقيء، لقوله تعالى:{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} مع قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الهرة: " إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات "
(1)
). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن ريق الصبي طاهر ولو بعد نجاسة كالقيء، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله رفع الحرج عن دخول الصبي في غير الأوقات الثلاثة فيدخل متى شاء ولا حرج عليه في ذلك لمشقة التحرز من دخوله في غير الأوقات الثلاثة، ثم وسع السعدي مدلول رفع
(1)
أخرجه أبوداود في سننه، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، ح (75)، والترمذي في جامعه، كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة، ح (92) وقال عقبه: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في سننه، كتاب المياه، باب سؤر الهرة، ح (341)، وصححه البخاري، والعقيلي، والدراقطني، والنووي. انظر: تلخيص الحبير (1/ 68)، والمجموع للنووي (2/ 86).
(2)
انظر: تفسير السعدي (574).
الحرج ليدخل فيه طهارة الريق؛ إذ مع مشقة التحرز منه كان ذلك سبباً في الحكم على ريقه بالطهارة، ثم قاس ذلك أيضاً على طهارة ريق الهرة وذلك لمشقة التحرز منها.
وقد أشار إلى نحو ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (ويرخص في طهارته كما قال ذلك طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم في الصبيان والهرة وغيرهم أنهم إن أصابتهم نجاسة إنها تطهر بمرور الريق عليها، ولا تحتاج إلى غسل لأنهم من الطوافين كما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في الهرة مع علمه أنها تأكل الفأرة ولم تكن بالمدينة مياه تردها السنانير ليقال طهر فمها ورودها الماء، فعلم أن طهارة هذه الأفواه لا تحتاج إلى غسل).
(1)
جواز استخدام الأطفال بما لا يشق عليهم
.
قال تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ (58)} (النور: 58).
346 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها - أي من فوائد الآية-: جواز استخدام الإنسان من تحت يده، من الأطفال على وجه معتاد، لا يشق على الطفل لقوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ}). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز استخدام الإنسان من تحت يده من الأطفال على وجه معتاد لا مشقة فيه، ووجه استنباط ذلك من الآية صيغة المبالغة التي في الآية طوافون؛ فإنها توحي بكثرة استخدام هؤلاء لهؤلاء الأطفال.
(1)
انظر: تفسير سورة النور لشيخ الإسلام ابن تيمية (65).
(2)
انظر: تفسير السعدي (574).
وهذا فيه تنبيه لمن يسرف في استخدام الأطفال حتى يكون ذلك على حساب تربيتهم، ومستقبلهم، وقد وجد في زماننا قضايا كثيرة في استخدام الأطفال واستعبادهم، وقد وجد في بعض البلدان من يبيع ابنه لأجل أن يسترزق من وراءه، ففي هذا الاستنباط وضع حد لهذا الاستخدام وهو بما لا يشق على الطفل، ولا يكون سبباً في ضياعه.
ففي هذا الاستنباط حفظ لحق من حقوق الأطفال وهو حق حدود استخدامه عند من يقوم عليه.
العرف والعادة مخصص للألفاظ
.
347 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآيات دليل على قاعدة عامة كلية وهي: أن " العرف والعادة مخصص للألفاظ، كتخصيص اللفظ للفظ"
(1)
فإن الأصل، أن الإنسان ممنوع من تناول طعام غيره، مع
(1)
ومعنى هذه القاعدة: أن العرف يقيد اللفظ المطلق ويخصص عمومه، مثال ذلك: لو كان من عادة أهل البلد دفع نصف الأجر مقدماً، ولم يُنص في العقد على خلاف ذلك، فيجب على المستأجر دفع ذلك، وليس له المطالبة بخلاف العرف؛ لأن هذا العرف مخصص للفظ المطلق في العقد. انظر: موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (6/ 403).
أن الله أباح الأكل من بيوت هؤلاء، للعرف والعادة، فكل مسألة تتوقف على الإذن من مالك الشيء، إذا علم إذنه بالقول أو العرف، جاز الإقدام عليه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية، وهي أن العرف والعادة مخصص للألفاظ، كتخصيص اللفظ للفظ، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أباح للمذكورين في الآية الأكل من بيوت هؤلاء دون أن يأذنوا لهم؛ لأن العرف أنهم لا يمنعون مثل هؤلاء من بيوتهم، فجعل الله ذلك العرف مخصص للمنع.
وقد أشار الرازي إلى نحو من ذلك فقال: (أنه لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك، فيجوز أن يقال خصهم الله بالذكر، لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق، ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا فيها، فلا حاجة إلى القول بالنسخ)
(2)
.
يجوز للأب أن يتملك من مال ولده ما لا يضره
.
قال تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ (61)} (النور: 61).
348 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيها دليل على أن الأب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره، لأن الله سمى بيته بيتاً للإنسان
(3)
). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأب يجوز
(1)
انظر: تفسير السعدي (576).
(2)
انظر: التفسير الكبير (24/ 32).
(3)
بناء على أن المعنى: من بيوت أولادكم فنسب بيوت الأولاد إلى بيوت أنفسهم، وذهب ابن عاشور إلى معنى آخر فقال:(والمراد بأكل الإنسان من بيته الأكل غير المعتاد، أي أن يأكل أكلاً لا يشاركه فيه بقية أهله كأن يأكل الرجل وزوجه غائبة، أو أن تأكل هي وزوجها غائب فهذه أثرة مرخص فيها). انظر: النكت والعيون (4/ 123)، والتحرير والتنوير (18/ 301).
(4)
انظر: تفسير السعدي (576).
له أن يأخذ من مال ولده بقدر لا يتضرر منه الولد، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله نسب بيت الولد للأب، مما يدل على أن الأب مالك لذلك البيت، وإلا كانت نسبة الملكية إليه عبثاً.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن كثير:(استدل بهذا من ذهب إلى أنَّ مال الولد بمنزلة مال أبيه)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: ابن الفرس، والبيضاوي، والسيوطي
(2)
.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي اجتاح مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أنت ومالك لأبيك)
(3)
، قال الخطابي في شرح لهذا
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 2532).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 389)، وأنوار التنزيل (2/ 508)، والإكليل (3/ 1045).
(3)
أخرجه أبوداود في سننه، كتاب البيوع، باب الرجل يأكل من مال ولده، ح (3530)، وابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، ح (2292)، قال البوصيري:(هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط البخاري)، وقال الألباني:(صحيح). انظر: مصباح الزجاجة (2/ 202)، وإرواء الغليل (3/ 323).
الحديث: (معناه يستأصله فيأتي عليه، ويشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده ماله إنما هو بسبب النفقة عليه وأن مقدار ما يحتاج إليه للنفقة عليه شيء كثير لا يسعه عفو ماله والفضل منه إلا أن يجتاح أصله ويأتي عليه، فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرخص له في ترك النفقة وقال له أنت ومالك لوالدك على معنى أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، وإذا لم يكن لك مال وكان لك كسب لزمك أن تكتسب وتنفق عليه، فإما أن يكون أراد به إباحة ماله واعتراضه حتى يجتاحه ويأتي عليه لا على هذا الوجه فلا أعلم أحداً من الفقهاء ذهب إليه. والله أعلم)
(1)
.
(1)
انظر: معالم السنن للخطابي (5/ 183).
سورة الفرقان
ينبغي للمتحدث الإقتداء بالله عز وجل في تدبير أمر الخلق
.
قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} (الفرقان: 33).
349 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدث ومعلم، وواعظ أن يقتدي بربه في تدبيره حال رسوله، كذلك العالم يدبر أمر الخلق فكلما حدث موجب أو حصل موسم، أتى بما يناسب ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواعظ الموافقة لذلك). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المعلم ينبغي أن يتدبر أمر الخلق، وذلك بالإتيان لهم بما يناسبهم من الكلام والمواعظ، فيجعل الكلام مناسباً للحدث الذي يتكلم فيه، ووجه استنباط ذلك من الآية الإقتداء بفعل الله مع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ وعد الله نبيه بأنه لا يأتي أهل الباطل بحديث إلا أنزل الله حقاً يدمغ ما قالوه من باطل.
(1)
انظر: تفسير السعدي (583).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- في معرض حديثه عن حجية قول الصحابي-: (الأصل قول الله تعالى وفعله وتركه القول وتركه الفعل وقول رسول الله صل الله عليه وسلم وفعله وتركه القول وتركه العمل وان كانت قد جرت عادة عامة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله)
(1)
، وكذلك قال الشاطبي بعد أن ساق نصوصاً استخرج منها فوائد، طريق استخرجها الاقتداء بأفعال الله تعالى:(أن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني وإنما استفيد من جهة أخرى وهي جهة الإقتداء بالأفعال)
(2)
.
وهذا الاستنباط فيه تأصيل لهذه المسألة المهمة وهي مراعاة أحوال المخاطبين واهتماماتهم، وهذا يستدعي معرفة الأحوال والنوازل، وكل ما يستجد؛ حتى يكون الكلام مفيداً للمخاطَب.
استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء
قال تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)} (الفرقان: 34).
350 -
قال السعدي رحمه الله: ({أُولَئِكَ} الذين بهذه الحالة {شَرٌّ مَكَانًا} ممن آمن بالله وصدق رسله، {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} وهذا من باب استعمال أفضل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء
(3)
فإن
(1)
انظر: المسودة لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 265).
(2)
انظر: الموافقات (2/ 169).
(3)
والمعروف في علم العربية أن صيغة التفضيل تقتضي المشاركة بين المفضل والمفضل عليه فيما فيه التفضيل، إلا أن المفضل أكثر فيه وأفضل من المفضل عليه، إلا أن صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن، وفي اللغة مراداً بها مطلق الاتصاف، لا تفضيل شيء على شيء. انظر: أضواء البيان بتصرف (6/ 295).
المؤمنين حسن مكانهم ومستقرهم، واهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم وفي الآخرة إلى الوصول إلى جنات النعيم). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً لغوياً، وهو دلالة الآية على جواز استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء، ووجه استنباط ذلك من الآية أن في الآية "شر"و"أضل" وهي في حق أهل النار فقط، فليس للطرف الآخر أي مشاركة في الضلال أوفي مكان أهل الضلال حتى يكون هناك نوع من المفاضلة بين المكانين، فدل ذلك على جواز استخدام أفعل التفضيل بما ليس للطرف الآخر فيه مشاركة.
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا الاستنباط، قال أبوحيان:(و {شَرٌّ} و {أَضَلُّ} ليسا على بابهما من الدلالة على التفضيل)
(2)
، وممن قال بذلك أيضاً: الأيجي الشافعي
(3)
، وابن عاشور، والشنقيطي.
(4)
تكرار قوله تعالى "تبارك" لكثرة ماورد في هذه السورة من خيرات وإحسان، وما ورد فيها مما يبين عظمة الله وقدرته، وسعة رحمته وجوده
.
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ (1)} (الفرقان: 1). وقال تعالى:
(1)
انظر: تفسير السعدي (583)، (628).
(2)
انظر: البحر المحيط (6/ 456).
(3)
هو: معين الدين، محمد بن عبدالرحمن بن محمد الحسني الحسيني، الأيجي، الشافعي، المفسر المحدث، عاش حياة حافلة بالتدريس، والإفتاء، والتصنيف، له مصنفات منها: شرح الأربعين النووية، وجامع البيان في تفسير القرآن، وغيرها، ولد عام 832 هـ، وتوفي عام 894 هـ. انظر: الضوء اللامع (8/ 37)، والأعلام (6/ 195).
(4)
انظر: جامع البيان للأيجي (665)، والتحرير والتنوير (19/ 24)، وأضواء البيان (6/ 295).
{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ (10)} (الفرقان: 10). وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا (61)} (الفرقان: 61).
351 -
قال السعدي رحمه الله: (كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله: {تَبَارَكَ} ثلاث مرات لأن معناها كما تقدم أنها تدل على عظمة الباري وكثرة أوصافه، وكثرة خيراته وإحسانه، وهذه السورة فيها من الاستدلال على عظمته وسعة سلطانه ونفوذ مشيئته وعموم علمه وقدرته وإحاطة ملكه في الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية وكمال حكمته، وفيها ما يدل على سعة رحمته وواسع جوده وكثرة خيراته الدينية والدنيوية ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآيات سبب تكرار قوله تعالى: {تَبَارَكَ} ، وأن سبب التكرار لذلك هو ما احتوت عليه هذه السورة من كثير الخيرات الدينية والدنيوية التي أنعم الله بها على العباد، مما ناسب أن يكرر هذا اللفظ؛ لأنه يحمل معنى الكثرة والخير والنماء والزيادة الذي ذكره الله في هذه السورة.
وقد قال بعض المفسرين بنحو ما قاله السعدي، فقال الكرماني:(قوله تعالى: {تَبَارَكَ} هذه لفظة لا تستعمل إلا لله، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي، وجاءت في هذه السورة في ثلاث مواضع، تعظيماً لذكر الله؛ وخصت هذه المواضع بالذكر لأن ما بعدها عظائم، الأول ذكر الفرقان وهو القرآن المشتمل على معاني جميع كتب الله، والثاني ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والثالث ذكره للبروج والسيارات والشمس والقمر والليل والنهار ولولاها ما وجد في الأرض حيوان ولا نبات)
(2)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (583).
(2)
انظر: أسرار التكرار في القرآن (152).
سورة الشعراء
كرر الأمر بالتقوى لتكريره دعوتهم
.
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)} (الشعراء: 108 و 110).
352 -
قال السعدي رحمه الله: ({فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} كرر ذلك عليه السلام، لتكريره دعوة قومه، وطول مكثه في ذلك). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين مناسبة تكرار الأمر بالتقوى، وأن ذلك لتكرير نوح عليه السلام دعوة قومه وطول مكثه في دعوتهم، فناسب تكرار دعوتهم إلى التقوى.
وذكر بعض المفسرين أن مناسبة التكرار هو التأكيد عليهم في هذا المعنى، قال أبوحيان:(ثم كرر الأمر بالتقوى والطاعة، ليؤكد عليهم ويقرر ذلك في نفوسهم، وإن اختلف التعليل، جعل الأول معلولاً لأمانته، والثاني لانتفاء أخذ الأجر)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري، والقرطبي، والبيضاوي، والبقاعي، والألوسي، والشوكاني،
(1)
انظر: تفسير السعدي (594).
(2)
انظر: البحر المحيط (7/ 30).
وابن عاشور.
(1)
بينما ذهب الرازي إلى أنه ليس هناك تكرار لاختلاف المعنى، فقال:(ولماذا كرر الأمر بالتقوى؟ جوابه: لأنه في الأول أراد ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله، وفي الثاني: ألا تتقون مخالفتي ولست آخذ منكم أجراً فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه، وقد يقول الرجل لغيره: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً! ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً)
(2)
.
والتكرار واضح وبين؛ ولكن فائدته التأكيد على التقوى، وإن اختلف المتعلق. والله أعلم.
(1)
انظر: الكشاف (765)، والجامع لأحكام القرآن (13/ 111)، وأنوار التنزيل (2/ 546)، ونظم الدرر (5/ 374)، وروح المعاني (10/ 105)، وفتح القدير (4/ 108)، والتحرير والتنوير (19/ 159).
(2)
انظر: التفسير الكبير (24/ 133).
سورة النمل
تعميم الربوبية لكل شيء؛ لدفع توهم اختصاص مكة بالربوبية
.
قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)} (النمل: 91).
353 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} لمَّا خصها بالذكر ربما وقع في بعض الأذهان تخصيص ربوبيته بها أزال هذا الوهم بقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ}). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تعميم ربوبية الله لكل شيء، بعد أن خص مكة بالربوبية، وأن مناسبة ذلك هي دفع توهم تخصيص ربوبيته سبحانه وتعالى بمكة.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال
(1)
انظر: تفسير السعدي (611)، والقواعد الحسان للسعدي (59).
الألوسي: (وقوله تعالى: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} أي خلقاً وملكاً وتصرفاً، من غير أن يشاركه سبحانه شيء في شيء من ذلك تحقيق للحق، وتنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة لما مر من التفخيم والتشريف مع عموم الربوبية لجميع الموجودات)
(1)
، وقال ابن عاشور:(وتعقيب هذا بجملة {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} احتراس لئلا يتوهم من إضافة ربوبيته إلى البلدة اقتصار ملكه عليها)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: أبوالسعود، والبقاعي، وحقي
(3)
.
(1)
انظر: روح المعاني (10/ 248).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (20/ 57).
(3)
انظر: إرشاد العقل السليم (5/ 108)، ونظم الدرر (5/ 457)، وروح البيان (6/ 403).
سورة القصص
سنة التدرج
.
354 -
قال السعدي رحمه الله: (ذكر الفوائد المستنبطة نصاً أو ظاهراً أو تعميماً أو تعليلاً من قصة موسى:
ومنها: أن الله تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه، وأتى بها شيئا فشيئا بالتدريج، لا دفعة واحدة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من عموم قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون، سنة من سنن الله في الكون وهي التدرج في الإتيان بأي أمر أراده الله، ووجه استنباط ذلك من القصة، أن الله أراد لموسى أن يكون نبياً وأن يكون له شأن؛ ولكن سنة الله التي لابد منها وهي التدرج شيئاً فشيئاً، فعند التأمل في قصة موسى نجد فيها تدرجات عجيبة الشأن، من كونه طفلاً أمه خائفة عليه من القتل، ثم يتربى في بيت فرعون، ثم يهرب كبيراً بعد قتل القبطي، ثم يعود بعد ذلك ليدعو فرعون الطاغوت ويهدم ألوهيته الزائفة، ويؤيده الله بالآيات والمعجزات، حتى نصره الله على فرعون وسحرته.
(1)
انظر: تفسير السعدي (618)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (226).
قال ابن عاشور: (وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء هيأ له أسبابه بقدرته فأبرزه على أتقن تدبير)
(1)
.
وهذا الاستنباط فيه فائدة كبيرة للناس أفراداً وأمماً، أن الوصول إلى المعالي، وتحقيق الطموحات أياً كانت لا بد أن تكون عبر هذه السنة الكونية وهي التدرج.
الأمة المستضعفة مهما بلغ عدوها من القوة لا ينبغي أن يستولي عليها اليأس
.
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)} (القصص: 5).
355 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أن الأمة المستضعفة، ولو بلغت في الضعف ما بلغت، لا ينبغي لها أن يستولي عليها الكسل عن طلب حقها، ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور، خصوصاً إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ الله أمة بني إسرائيل، الأمة الضعيفة، من أسر فرعون وملئه، ومكنهم في الأرض، وملكهم بلادهم، ومنها: أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة لا تأخذ حقها ولا تتكلم به، لا يقوم لها أمر دينها ولا دنياها ولا يكون لها إمامة فيه). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الأمة مهما بلغت من الضعف،
(1)
انظر: التحرير والتنوير (20/ 96).
(2)
انظر: تفسير السعدي (618)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (226).
ومهما بلغ بها الحال من ضياع حقوقها، واستيلاء عدوها عليها؛ إلا أنه لا ينبغي أن يستولي عليها اليأس، وأنه ما دامت لا تأخذ حقها ولا تطالب به؛ فإنها لن تستعيد منه شيئاً، ووجه استنباط ذلك من عموم قصة بني إسرائيل مع فرعون؛ فقد بلغ من التكبر والسيطرة عليهم مبلغاً عظيماً؛ إلا أن الله مكن لهم وكتب لهم الخلاص من هذا الموقف، وهكذا ينبغي أن يكون في ذلك عبرة لكل أمة مستضعفة أن لا تيأس، وأن تعمل بأسباب الخلاص، وكما كتب الله لتلك الأمة الخلاص من فرعون، سيكتب الخلاص لأي أمة مستضعفة من أي طاغوت مستحدث.
وهذا الاستنباط نافع جداً لأمتنا في وقتها المعاصر فمهما تكالبت عليها الأمم وسلبت حقوقها، وبلغ الأمر مبلغاً كبيراً في استضعافها، فلا ينبغي أن يهيمن اليأس عليها، خصوصاً أنها تملك مقومات النصر والتمكين في الأرض، تملكه بأمور لا تملكه أي أمة أخرى فموقعها الجغرافي، وإرثها الديني والحضاري، ومخزونها الأخلاقي، ووعدها السماوي، يجعلها أكثر بعداً من غيرها من اليأس والقنوط.
لا يجوز قتل الكافر الذي له عهد بعقد أوعرف
.
قال تعالى: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} (القصص: 15 - 16).
356 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف، لا يجوز، فإن موسى عليه السلام عدَّ قتله القبطي الكافر ذنباً، واستغفر الله منه). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسير السعدي (619)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (226).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً في السياسة الشرعية، وهو أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف غير جائز، ووجه استنباط ذلك بمفهوم الموافقة حيث إن موسى عليه الصلاة والسلام استغفر من قتله للقبطي الكافر، مما يدل على أنه ارتكب ذنباً؛ إذ الاستغفار لا يكون إلا من ذنب، فدل ذلك على أن قتل الكافر المعاهد غير جائز.
وقد أشار بعض المفسرين إلى نحو ما قاله السعدي، قال البيضاوي:(لأنه لم يؤمر بقتل الكفار أو لأنه كان مأموناً فيهم فلم يكن له اغتيالهم)
(1)
، وقال ابن عاشور:(وإنما قال موسى ذلك لأن قتل النفس مستقبح في الشرائع البشرية فإن حفظ النفس المعصومة من أصول الأديان كلها)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: أبوالسعود
(3)
.
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل معاهداً
(4)
لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً)
(5)
، قال الصنعاني:(وفي الحديث دليل على تحريم قتل المعاهد)
(6)
.
وهذا الاستنباط فيه بيان خطأ ما يقوم به بعض الجهلة من استباحة دماء الكفار المعاهدين، أو الذين لهم عقود عمل مع الشركات أو غيرها، وكل هذا بحجة أنهم كفار، وهذا مرفوض شرعاً كما هو صريح الحديث
(1)
انظر: أنوار التنزيل (3/ 9).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (20/ 90).
(3)
انظر: إرشاد العقل السليم (5/ 116).
(4)
والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم. انظر: فتح الباري (12/ 217).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب إثم من قتل ذمياً بغير جرم، ح (6914).
(6)
انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام (4/ 130).
المتقدم، وكما هو ظاهر فعل موسى عليه الصلاة والسلام فلو لم يكن ما فعله ذنباً لم يحتج إلى استغفار. والله أعلم.
قاتل النفس مفسد، وإن زعم أنه مصلح
.
قال تعالى: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)} (القصص: 19).
357 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أن من قتل النفوس بغير حق، وزعم أنه يريد الإصلاح في الأرض، وتهييب أهل المعاصي، فإنه كاذب في ذلك، وهو مفسد كما حكى الله قول القبطي {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)} على وجه التقرير له، لا الإنكار). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً في السياسة الشرعية، وهو أن قتل النفس بغير حق إفساد وإن زعم صاحبه فيه الإصلاح، ووجه استنباط ذلك من الآية بمفهوم الموافقة حيث إن القبطي الذي أراد موسى قتله ذكّر موسى بأن فعله فعل الجبابرة الذين شأنهم قتل الناس بغير حق ونفى عنه الإصلاح، مما جعل موسى يرتدع عن قتله، مما يدل على أن القاتل مفسد وإن زعم أنه مصلح، وقد حكى الله قول القبطي إقراراً له دون إنكار.
وهذا الاستنباط فيه تأكيد وتنبه لهذا المعنى؛ إذ أكثر الذين يقومون بالاعتداء بالقتل والتفجير حجتهم في ذلك دائماً إرادة الإصلاح، ونصرة
(1)
انظر: تفسير السعدي (619)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (227).
الدين، ولكن في هذا الاستنباط علاج لهذه الشبهة الشيطانية وإفساد لها، فإذا ما تيقن القاتل أنه بقتله مفسد غير مصلح فإنه سيبتعد عن هذا الفعل المشين.
إخبار الرجل غيره بما قيل فيه على وجه التحذير ليس بنميمة
.
قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ (20)} (القصص: 20).
358 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه، على وجه التحذير له من شر يقع فيه، لا يكون ذلك نميمة -بل قد يكون واجباً- كما أخبر ذلك الرجل لموسى، ناصحاً له ومحذراً). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه على وجه التحذير ليس بنميمة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن هذا الرجل أخبر موسى بما يدبر له من قومه وأنهم يأتمرون لقتله، وكان ذلك على وجه التحذير له، وذكر الله ذلك دون أن يتعقبه، بل ذكره على وجه الثناء عليه، مما يدل على جواز مثل ذلك.
قال الألوسي: (واستدل القرطبي
(2)
وغيره بالآية على جواز النميمة لمصلحة دينية)
(3)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (619)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (227).
(2)
وممن عزاه كذلك إلى القرطبي السيوطي كما في الإكليل (3/ 1077)، ولكن لم أجده في تفسير القرطبي.
(3)
انظر: روح المعاني (10/ 268).
وهذا المعنى المستنبط صحيح، قال النووي:(وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية فإن دعت حاجة إليها فلا منع منها وذلك كما إذا أخبره بأن إنسانا يريد الفتك به أو بأهله أو بماله أو أخبر الإمام أومن له ولاية بأن إنسانا يفعل كذا ويسعى بما فيه مفسدة ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك وإزالته فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام وقد يكون بعضه واجباً وبعضه مستحباً على حسب المواطن)
(1)
الخوف الطبيعي لا ينافي الإيمان ولا يزيله
.
قال تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ (7)} (القصص: 7)، وقال تعالى:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا (21)} (القصص: 21).
359 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أن الخوف
(2)
الطبيعي من الخلق، لا ينافي الإيمان ولا يزيله، كما جرى لأم موسى ولموسى من تلك المخاوف). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: شرح النووي على مسلم (2/ 97).
(2)
الخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام:
أحدها: خوف السر وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان يخافونها ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله وهذا ينافي التوحيد.، الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس فهذا محرم وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد، الثالث: الخوف الطبيعي وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك فهذا لا يذم. انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن (395).
(3)
انظر: تفسير السعدي (618)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (226).
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين مسألة عقدية وهي أن الخوف الطبيعي لا ينافي الإيمان ولا يزيله، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله جل وعلا ذكر الخوف عن موسى وأمه، ولم يذكر ذلك بتعقيب، فلو كان مما لا يجوز لبينه الله ونهى عنه، فدل ذلك على أن الخوف في مثل هذه الأحوال لا يؤثر على الإيمان ولا يلام عليه الإنسان.
قال عبدالرحمن بن حسن
(1)
: (الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك فهذا لا يذم، كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: ({فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا})
(2)
.
الناظر في العلم إذا لم يترجح عنده أحد القولين فإنه يستهدي ربه ليهديه الصواب
.
قال تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)} (القصص: 22).
360 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه، إذا لم يترجح عنده أحد القولين، فإنه يستهدي ربه، ويسأله أن يهديه
(1)
هو: العلامة، أبوالحسن، عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب آل الشيخ، اشتغل بالعلم من صغره، واشتغل بالتدريس، والتأليف، له مصنفات كثيرة منها: فتح المجيد، والمقامات في تاريخ الدعوة، وملخص منهاج السنة، وغيرها، ولد عام 1193 هـ، وتوفي عام 1285 هـ. انظر: علماء نجد خلال ثلاثة قرون (28)، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد (1/ 201).
(2)
انظر: فتح المجيد (396).
الصواب من القولين، بعد أن يقصد بقلبه الحق ويبحث عنه، فإن الله لا يخيب مَنْ هذه حاله، كما خرج موسى تلقاء مدين فقال:{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)} ). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من كان باحثاً في العلم ولم يترجح عنده أحد القولين فإنه يسأل الله الهداية إلى الصواب ومن فعل ذلك مخلصاً لم يخيبه الله، ووجه استنباط ذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما خرج إلى مدين ولم يكن يعرف الطرق سأل الله أن يهديه إلى الطرق الموصل إليها فاستجاب الله دعاءه، فأخذ السعدي من ذلك أن من تحير في مسألة من مسائل العلم وسأل الله بصدق هداه الله إلى الصواب.
ونجد كذلك أن دلالة قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)} ، تدل فيما تدل عليه على أن الخروج لطلب العلم والمعرفة والفهم تكمن في النفسية التي تستطيع بشخصيتها أن تستهدي بالله سبحانه وتعالى، لأن الهداية الإلهية أساس طلب العلم، وهذا من أهم مبادئ السلوك التربوي الحديث التي سبقت آيات سورة القصص نظريات التربية الحديثة إلى أبرزها
(2)
، وحقيقة الأمر أن العبد مفتقر إلى
ما يسأله من العلم والهدى، طالب سائل، فبذكر الله والافتقار إليه يهديه الله ويدله
(3)
، كما قال الله-في الحديث القدسي-:(كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم)
(4)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (619).
(2)
انظر: سورة القصص دراسة تحليلية د. محمد مطني (175).
(3)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 39).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأدب، باب تحريم الظلم، ح (2577).
جواز خروج المرأة في حوائجها، وتكليمها للرجال من غير محذور
.
قال تعالى: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ (12)} (القصص: 12).
وقال تعالى: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ (25)} (القصص: 25).
361 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى-: جواز خروج المرأة في حوائجها، وتكليمها للرجال
(1)
، من غير محذور، كما جرى لأخت موسى وابنتي صاحب مدين). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين جواز خروج المرأة لقضاء حوائجها، وتكليمها الرجال من غير محذور، ووجه استنباط ذلك من الآتين أن الله ذكر في الآية الأولى تكليم أخت موسى ودلالتها لهم، وفي الآية الأخرى ذكر الله بنت صاحب مدين وكلامها ليوسف، ولم يأت عقب
(1)
كلام المرأة ليس بحرام وليس بعورة، ولكن إذا ألانت القول، وخضعت به، وحكت على شكل يحصل به الفتنة فذلك هو المحرم، لقوله تعالى (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً) (الأحزاب: 32)، فلم يقل الله تعالى فلا تكلمن الرجال بل قال فلا تخضعن بالقول، والخضوع بالقول أخص من مطلق الكلام، إذن فكلام المرأة للرجل إذا لم يحصل به فتنة فلا بأس به، فقد كانت المرأة تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلمه فيسمع الناس كلامها، وهي تكلمه وهو يرد عليها، وليس ذلك بمنكر، ولكن لابد أن لا يكون في هذه الحال خلوة بها إلا بمحرم، وعدم فتنة، ولهذا لا يجوز للرجل أن يستمتع بكلامها سواء كان ذلك استمتاعا نفسياً، أم استمتاعاً جنسيا إلا أن تكون زوجته. انظر: فتاوى العثيمين جمع أشرف عبدالمقصود (2/ 844).
(2)
انظر: تفسير السعدي (618)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (227).
ذلك منع أو تحذير مما يدل على الجواز مع أمن المحذور، فأخذ السعدي من ذلك جواز خروج المرأة وكلامها مع الرجال إذا أمنت الفتنة على نفسها وعلى من تتحدث معهم.
قال السيوطي موافقاً السعدي على هذا الاستنباط: (وفيه مشروعية ستر الوجه للمرأة، وأنه لا بأس بكلامها مع الرجال).
(1)
ومما يؤيد هذا المعنى المستنبط ما جاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال كان الفضل رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت إن فريضة الله أدركت أبى شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه قال:(نعم)، وذلك فى حجة الوداع
(2)
.
قال ابن حجر في معرض كلامه عن فوائد هذا الحديث: (وفيه: جواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم والترافع في الحكم والمعاملة)
(3)
.
إذا عمل العبد العمل لله ثم حصل له مكافأة على ذلك فلا لوم عليه في قبولها
.
قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا (25)} (القصص: 25).
(1)
انظر: الإكليل (3/ 1080).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب جزاء الصيد، باب حج المرأة عن الرجل، ح (1855)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما، أوللموت، ح (1334).
(3)
انظر: فتح الباري (4/ 84).
362 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى-: أن العبد إذا فعل العمل لله تعالى، ثم حصل له مكافأة عليه من غير قصد بالقصد الأول، أنه لا يلام على ذلك، كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يبتغ له، ولم يستشرف بقلبه على عوض). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن العبد إذا عمل عملاً لله، ثم حصل على مكافأة على هذا العمل من غير أن يقصد ذلك، فلا لوم عليه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن موسى عليه الصلاة والسلام فعل فعله الأول وهو تقديم بنات صاحب مدين في السقيا، دون أن يكون له قصد الحصول على أجرة، ثم جازى صاحب مدين موسى عن معروفه، وقبل موسى ذلك، ولم يأت في القرآن توجيه لوم إلى موسى في قبوله ذلك؛ مما يدل على جواز مثل ذلك.
وقد وجه بعض المفسرين ذهاب موسى هنا إلى أنه استجابة للدعوة لا لأجل الحصول على الأجر مما يجعل استنباط هذا المعنى هنا غير مستقيم، قال الشوكاني:(ويجاب عنه: بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبيّ من أنبياء الله، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، ولهذا ورد أنه لما قدّم إليه الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً)
(2)
وقال آخرون إن ذهابه هنا لأجل طلب رأي الشيخ، قال الألوسي:(ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر برأيه لا طمعاً بما صرحت به من الأجر)
(3)
،
(1)
انظر: تفسير السعدي (619)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (229).
(2)
انظر: فتح القدير (4/ 168).
(3)
انظر: روح المعاني (10/ 274)، وانظر كذلك: أنوار التنزيل (3/ 11).
وهذا أيضاً يجعل استنباط ما ذهب إليه السعدي فيه بعد كذلك.
والذي يظهر أن استنباط هذا المعنى من هذه الآية فيه بعد، وذلك لاحتمال أن ذهاب موسى ليس لأخذ الأجرة، فمثله لا يليق به أن يأخذ الأجرة على ما تبرع به من معروف
(1)
. والله أعلم.
جواز الإجارة بالمنفعة ولو كانت المنفعة بضعاً
.
قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (27)} (القصص: 27).
363 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها
(2)
-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أنه تجوز الإجارة بالمنفعة، ولو كانت المنفعة بضعاً
(3)
).
ا. هـ
(4)
(1)
انظر: حاشية الشهاب على البيضاوي (7/ 292).
(2)
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية استنباطات أخرى منها: أن العمى لا يقدح في ولاية النكاح، جواز إنكاح البكر البالغة بدون استئمار، جواز أن يكتب في الصداق أنكحه إياها، جواز نكاح التفويض وهو عدم ذكر المهر ولا إسقاطه، جواز الجمع بين نكاح وإجارة في صفقة واحدة، أن اليسار لا يعتبر في الكفاءة. انظر: الإكليل (3/ 1079 و 1080)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 407)، وأحكام القرآن لابن العربي (3/ 424).
(3)
" البضع "بالفتح والضم، وهو مهر المرأة، قال الأزهري واختلف الناس في البُضع فقال قوم هو الفَرج وقال قوم هو الجِماع وقد قيل هو عَقْد النكاح. انظر: لسان العرب (2/ 99) مادة/بضع.
واختلف أهل العلم في منافع الحر هل يجوز أن تجعل صداقاً؟ فالتحقيق من مذهب مالك أنه مكروه ويمضي، وأجازه الشافعي وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وهو مذهب أحمد في رواية، وقال أبو حنيفة: لا يجوز جعل المهر منافع حر ويجوز كونه منافع عبد، ووافقه ابن القاسم من المالكية. انظر: التحرير والتنوير (20/ 107)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 407)، والمغني (8/ 14 - 15).
(4)
انظر: تفسير السعدي (619)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (229).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز الإجارة بالمنفعة ولو كانت بضعاً، ووجه استنباط ذلك من الآية فعل موسى مع صاحب مدين، إذ أنكحه ابنته مقابل منفعة وهي العمل عنده ثمان حجج، وقد ذكر ذلك في القرآن إقراراً دون نكير.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال القصاب:(دليل على أن الإجارة جائز أن تجعل ثمناً للبضع ومهوراً للنساء)
(1)
، وقال إلكيا الهراسي:(فيه دليل على جعل منافع الحر صداقاً شرعاً)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن العربي، وابن عطية، وأبوحيان، والسيوطي، والألوسي.
(3)
المخالفون:
خالف في ذلك بعض المفسرين، فقالوا إنه لا دلالة في الآية على جعل منافع الحر مهراً، قال الجصاص:(قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (27)} من الناس من يحتج بذلك في جواز عقد النكاح على منافع الحر وليس فيه دلالة على ما ذكروا لأنه شرط منافعه لشعيب عليه السلام ولم يشرط لها مهراً، وجائز أن يكون قد كان النكاح جائزا في تلك الشريعة بغير بدل تستحقه المرأة فإن كان كذلك فهذا منسوخ بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
، وممن قال بذلك من
(1)
انظر: نكت القرآن (3/ 561).
(2)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 154).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 424)، والمحررالوجيز (1439)، والبحر المحيط (7/ 110)، والإكليل (3/ 1078)، وروح المعاني (10/ 276).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 452).
المفسرين أيضاً: الزمخشري، والرازي، وحقي
(1)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه في استنباط جواز جعل الإجارة مهراً في النكاح من هذه الآية هو الصحيح، قال ابن الفرس: (وأما النكاح بالأجرة فبين في الآية، وقد جاء في شريعتنا وزانه، وهو إنكاح النبي صلى الله عليه وسلم التي وهبت نفسها له الرجل الذي سأله إنكاحها منه ولم يكن عنده إلا آيات يحفظها، فأمره أن يعلمها ما عنده من القرآن ويتزوجها بذلك
(2)
، فهذا تزويج بإجارة)
(3)
.
جواز عرض الرجل ابنته على من يتخيره
.
قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (27)} (القصص: 27).
364 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أن خطبة الرجل لابنته الرجل الذي يتخيره، لا يلام عليه). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز عرض الرجل ابنته على من
(1)
انظر: الكشاف (798)، والتفسير الكبير (24/ 207)، وروح البيان (6/ 425).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب الصداق وجوازكونه تعليم قرآن، ح (1425).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 406).
(4)
انظر: تفسير السعدي (619)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (229).
يرضى دينه وخلقه، ووجه استنباط ذلك من الآية ماحكى الله على وجه الإقرار من عرض صاحب مدين ابنته على موسى.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال السيوطي:(فيها استحباب عرض الرجل وليته على أهل الخير والفضل، أن ينكحوها)
(1)
، وقال ابن العربي: (قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} فيه عرض المولى وليته على الزوج، وهذه سنة قائمة: عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: القرطبي، وأبوحيان، والشوكاني، والهرري
(3)
.
وهذا الاستنباط فيه علاج لبعض العادات في بعض المجتمعات خصوصاً القبلية والتي تستعيب مثل هذا الأمر، وتجعله نوعاً من الإهانة للبنت وأهلها.
حسن الخلق مع الأجير والخادم
.
قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ (27)} (القصص: 27).
365 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: أن من مكارم الأخلاق، أن يُحَسِّن خلقه لأجيره، وخادمه، ولا يشق عليه بالعمل، لقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)}). ا. هـ
(4)
(1)
انظر: الإكليل (3/ 1078).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 420).
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (13/ 241)، والبحر المحيط (7/ 110)، وفتح القدير (4/ 169)، وتفسير حدائق الروح والريحان (21/ 153).
(4)
انظر: تفسير السعدي (619)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (229).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً سلوكياً، وهو حسن المعاملة مع الأجير والخادم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن صاحب مدين أخبر موسى بعدم إرادته المشقة عليه فيما اتفق معه من العمل.
وقد أشار الرازي إلى نحو ما ذهب إليه السعدي، فقال:(وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس)
(1)
، وكما أشار إليه أبوحيان
(2)
.
وهذا الاستنباط فيه تأصيل قرآني لهذه القضية، حيث إن الحاجة في زماننا لهذا الخلق مع الخدم والعمال حاجة ملحة، إذ وجد من يعامل هؤلاء معاملة سيئة، ويهضم حقهم، ويتعامل معهم بنوع من الترفع والاستعلاء، وإظهار التكبر عليهم.
وفيه بيان لحفظ الإسلام لحقوق الإنسان، فهذا العامل والخادم حُفِظت حقوقهم، وروعوا في أعمالهم، فإذا كانت هذه الطبقة محفوظة الحقوق، فغيرها من باب أولى، مما يجعل الأمم الأخرى تتقدي بهدي الإسلام في حفظ الحقوق حفظاً حقيقياً.
جواز عقد الإجارة وغيرها من العقود دون إشهاد
.
قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)} (القصص: 28).
366 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الفوائد المستنبطة من قصة موسى -: جواز عقد الإجارة وغيرها من العقود
(3)
من دون
(1)
انظر: التفسير الكبير (24/ 207).
(2)
انظر: البحر المحيط (7/ 110).
(3)
فرّق الفقهاء في وجوب الإشهاد على العقود بين عقود النّكاح وغيرها:
فذهب جمهورهم إلى أنّ الإشهاد على عقد النّكاح واجب وشرط في صحّته، لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا نكاح إلاّ بوليّ وشاهدي عدل)، وذهب مالك إلى أنّ الإشهاد غير واجب إذا تمّ الإعلان.
أمّا عقود البيوع، فقد ذهب أبو موسى الأشعريّ، وابن عمر، والضّحّاك، وسعيد بن المسيّب، وجابر بن زيد، ومجاهد إلى أنّ الإشهاد واجب.
وذهب كثير من الصّحابة والتّابعين، وجمهور الفقهاء والمفسّرين إلى أن الأمر للنّدب وليس للوجوب.
وقد باع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأشهد، وباع في أحيان أخرى واشترى، ورهن درعه عند يهوديّ، ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمراً واجباً لوجب مع الرّهن لخوف المنازعة.
قال ابن عطيّة: (والوجوب في ذلك قلق، أمّا في الدّقائق فصعب شاقّ، وأمّا ما كثر فربّما يقصد التّاجر الاستئلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادةً في بعض البلاد، وقد يستحى من العالم والرّجل الكبير الموقّر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كلّه في الائتمان، ويبقى الأمر بالإشهاد ندباً لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (26/ 230).
إشهاد لقوله: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)} ). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز عقد الإجارة من دون إشهاد، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الاكتفاء بشهادة الله دون أحداً من الخلق.
وما استنبطه السعدي من هذه الآية في جواز العقود من غير إشهاد، فيه نظر؛ إذ عدم الذكر لا يدل على العدم، فربما أن يكون هناك إشهاد ولكنه لم يذكر في الآية، ومع هذا الاحتمال يسقط هذا الاستنباط.
أما ما يتعلق بذات الحكم وهو الإشهاد على العقود فقد تم الإشارة إليه. والله أعلم.
(1)
انظر: تفسير السعدي (619)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (230).
قرن السمع بالليل لأن سلطان السمع في الليل أبلغ، وقرن البصر بالنهار لأن سلطان البصر في النهار أبلغ
.
367 -
قال السعدي رحمه الله: (وقال في الليل {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} وفي النهار {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لأن سلطان السمع أبلغ في الليل من سلطان البصر، وعكسه النهار) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص السمع بالليل، ومناسبة تخصيص البصر بالنهار، وبين أن سلطان السمع في الليل أبلغ فناسب ذكره السمع مع الليل، وسلطان البصر في النهار أبلغ فناسب ذكر البصر مع النهار.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن القيم:(خص سبحانه النهار بذكر البصر لأنه محله وفيه سلطان البصر وتصرفه وخص الليل بذكر السمع لأن سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار لأنه وقت هدوء الأصوات وخمود الحركات وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من
(1)
انظر: تفسير السعدي (623).
(2)
انظر: بدائع الفوائد (2/ 291).
المفسرين أيضاً: البقاعي، والهرري
(1)
.
وأشار بعض المفسرين إلى استنباطات أخرى لمعنى هذه المناسبة، فمنهم من قال: لما كانت استدامة الليل أشق من استدامة النهار لأن النوم الذي هو أجل الغرض فيه شبيه الموت والابتغاء من فضل الله تعالى الذي هو بعض فوائد النهار شبيه بالحياة قيل في الأول أفلا تسمعون أي سماع فهم وفي الثاني أفلا تبصرون أي ما أنتم عليه من الخطأ ليطابق كل من التذييلين الكلام السابق من التشديد والتوبيخ
(2)
.
ومنهم من قال: لاعتبار الأولية والآخرية ذيلت الآية الأولى بقوله تعالى: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} بناءً على أن المعنى أفلا تسمعون ممن سلف من آبائكم أو مما سلف منا أن آلهتكم لا تقدر على مثل ذلك والثانية بقوله سبحانه: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} بناءً على أن المعنى أفلا تبصرون أنتم عجزها عن مثل ذلك
(3)
.
ومنهم من قال: وناسب السمع دليل فرض سرمدة الليل لأن الليل لو كان دائماً لم تكن للناس رؤية فإن رؤية الأشياء مشروطة بانتشار شيء من النور على سطح الجسم المرئي، فالظلمة الخالصة لا تُرى فيها المرئيات، ولذلك جيء في جانب فرض دوام الليل بالإنكار على عدم سماعهم، وجيء في جانب فرض دوام النهار بالإنكار على عدم إبصارهم
(4)
.
(1)
انظر: تفسير حدائق الروح والريحان (21/ 261).
(2)
انظر: روح المعاني (10/ 314).
(3)
انظر: روح المعاني (10/ 314).
(4)
انظر: التحرير والتنوير (20/ 171).
سورة العنكبوت
لما كان نفي تحملهم خطايا غيرهم موهماً عدم تحملهم الخطايا التي تسببوا فيها أعقب الله هذا النفي بيان تحملهم ما تسببوا فيه من الخطايا
.
قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ (13)} (العنكبوت: 12 - 13).
368 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان قوله: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ (12)} قد يتوهم منه أيضاً، أن الكفار الداعين إلى كفرهم -ونحوهم ممن دعا إلى باطله- ليس عليهم إلا ذنبهم الذي ارتكبوه، دون الذنب الذي فعله غيرهم، ولو كانوا متسببين فيه، قال: مخبراً عن هذا الوهم {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} أي: أثقال ذنوبهم التي عملوها {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ (13)} وهي الذنوب التي بسببهم ومن جرائهم، فالذنب الذي فعله التابع لكل من التابع، والمتبوع حصته منه، هذا لأنه فعله وباشره، والمتبوع لأنه تسبب في فعله ودعا إليها). ا. هـ
(1)
(1)
انظر: تفسير السعدي (627).
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين المناسبة بينهما، وذلك أن في الآية الأولى نفي تحمل خطايا الغير، فلما كان هذا النفي موهماً أن يتحمل من تسبب في الذنوب ذنبه وذنب غيره ممن كان سبباً في وقوعهم، أعقب الله هذا النفي بيان أن من تسبب في خطيئة وكان معيناً عليها فإن عليه من الوزر مثل ما على صاحبها.
وأشار بعض المفسرين إلى أمر آخر في هاتين الآيتين وهو توهم التعارض بينهما ففي الأولى نفي التحمل، وفي الثانية إثباته، وأجابوا عنه بأن المثبت غير المنفي فلا تعارض، فالمنفي هو تحمل الذنب مع براءة صاحبه الأصلي، والمثبت هو ذنب إضلال الغير، قال ابن عاشور:(والحمل المنفي هو ما كان المقصود منه دفع التبعة عن الغير وتبرئته من جناياته، فلا ينافيه إثبات حمل آخر عليهم هو حمل المؤاخذة على التضليل)
(1)
، وممن أشار إليه كذلك من المفسرين: الرازي، والخازن، ومحيي الدين شيخ زاده، وشهاب الدين الخفاجي، والشنقيطي
(2)
.
ينظر المحقون إلى الكلام لا إلى ذات المتكلم
.
قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)(العنكبوت: 48).
369 -
قال السعدي رحمه الله: (فمفهوم الآية الكريمة أن غير المبطلين وهم المحقون الذين قصدهم اتباع الحق أنهم لا يحصل عندهم
(1)
انظر: التحرير والتنوير (20/ 220).
(2)
انظر: التفسير الكبير (25/ 37)، ولباب التأويل (3/ 377)، وحاشية زاده على البيضاوي (6/ 492)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (7/ 338).
أدنى ريبة ولا شك ; ولو فرض أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتلو قبل نزوله كتاباً من الكتب السابقة ; أو كان يكتب لأن المحقين ينظرون ويتأملون في الكلام وما دل عليه بقطع النظر عن حالة الشخص). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً سلوكياً، وهو تعامل أهل الحق مع الكلام وقبولهم بقطع النظر عن حالة المتكلم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله قيد الارتياب بأهل الباطل فدل مفهوم المخالفة أن أهل الحق بخلافهم فهم يقبلون الحق ممن قاله.
وهذا الاستنباط يدل على عظم الأخلاق والسلوكيات التي يحث عليها الإسلام، وأن صاحب الحق يجب أن يكون هدفه الوصول إلى الحق.
كما أن العبرة هنا بالقول لا بالقائل، فمتى كان القول حقاً وجب قبوله، ومتى كان القول باطلاً وجب رده، وهذا فيه عدل، وتأصيل للبحث عن الحقيقة، ورسم طريق صحيح للوصول إلى الحق والصواب، ولا يخشى من هذا الإنصاف إلا أهل الباطل، أما الحق فيبحثون عنه حيث كان، وعند من كان.
(1)
انظر: مجموع الفوائد واقتناص الأوابد للسعدي (205).
سورة الروم
لا يؤجر المتصدق بصدقة مع وجود ما هو أوجب على المتصدق من نفقة أودين ونحو ذلك
.
قال تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ (39)} (الروم: 39).
370 -
قال السعدي رحمه الله: (ودل قوله: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} أن الصدقة مع اضطرار من يتعلق بالمنفق أو مع دَيْنٍ عليه لم يقضه ويقدم عليه الصدقة أن ذلك ليس بزكاة يؤجر عليه العبد ويرد تصرفه شرعا كما قال تعالى في الذي يمدح: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)} [الليل: 18] فليس مجرد إيتاء المال خيراً حتى يكون بهذه الصفة وهو: أن يكون على وجه يتزكى به المؤتي). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المتصدق لا يؤجر على صدقته إذا كان هناك أمور واجبة متعلقة به لم يقم بها كقضاء دين أوإنفاق واجب ونحو ذلك، ووجه استنباط ذلك من الآية أن التزكية بهذه الصدقة لا تتم
(1)
انظر: تفسير السعدي (643) و (927).
بفعل مستحب يفوت بسببه الواجب
(1)
.
وما استنبطه السعدي من هذه الآية في غاية الدقة؛ إذ لم أجد من المفسرين من أشار إلى ذلك، ومقصود الصدقة هو التزكية والتطهر من الآثام، وهذا لا يتم مع وجود ترك الواجبات.
وفي هذا الاستنباط تأصيل لترتيب الأولويات، وأن الشريعة قائمة على أصول لا بد من مراعاتها، فمع أن هذا الفعل في ظاهره حسن فهو قربة وإنفاق، ولكنه ليس بمشروع لأن فيه توفيت ما هو أهم.
(1)
انظر: تفسير السعدي (927).
سورة السجدة
مناسبة تخصيص الإنسان بالذكر من باقي المخلوقات لشرفه وفضله
.
قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} (السجدة: 7).
371 -
قال السعدي رحمه الله: ({الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي: كل مخلوق خلقه الله، فإن الله أحسن خلقه، وخلقه خلقًا يليق به، ويوافقه، فهذا عام، ثم خص الآدمي لشرفه وفضله فقال: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} وذلك بخلق آدم عليه السلام، أبي البشر). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص الإنسان بالذكر من باقي المخلوقات، وبين أن مناسبة ذلك هو شرف الإنسان وفضله، فتخصيصه من سائر المخلوقات بالذكر دليل على شرفه وفضله.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط البقاعي فقال: (ولما كان
(1)
انظر: تفسير السعدي (654).
الحيوان أشرف الأجناس، وكان الإنسان أشرفه، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل بالآفاق)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الرازي
(2)
.
وأشار ابن عاشور إلى معنى آخر في ذلك وهو كون الإنسان فيه ما يميزه عن باقي المخلوقات وهو العقل، فقال:(وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلْق الإنسان لأن في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل)
(3)
.
(1)
انظر: نظم الدرر (6/ 52).
(2)
انظر: التفسير الكبير (25/ 151).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (21/ 216).
سورة الأحزاب
عدم جواز التكلم والإخبار بوقوع ووجود ما لم يجعله الله
.
قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} (الأحزاب: 4).
372 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء، والإخبار بوقوع ووجود، ما لم يجعله الله تعالى، ولكن خص هذه الأشياء المذكورة، لوقوعها، وشدة الحاجة إلى بيانها). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة عامة وهي عدم جواز التكلم والإخبار بوقوع ووجود ما لم يجعله الله، ووجه استنباط هذه القاعدة من الآية بمفهوم الموافقة حيث إن دعوى أن يكون لرجل قلبين في جوفه، ودعوى تحريم الزوجة بالظهار، وتبني الأدعياء مجرد قول بالأفواه لا حقيقة له، ولا يغير من الواقع شيئاً، والحقائق لا تنقلب بمجرد الادعاء فالزوجة
(1)
انظر: تفسير السعدي (658).
لا تكون أمّاً والمدعى بنوته لا يكون ابناً، فهو إخبار بوقوع ووجود أمور لم يجعلها الله
(1)
، فاستنبط السعدي من ذلك قاعدة عامة في مثل هذه الأمور، وجعل تخصيص الأمرين بالذكر لشدة الحاجة في التنبيه عليهما وإلا فالقاعدة عامة.
وقد أشار بعض المفسرين إلى نحو ما قرره السعدي، قال ابن عاشور:(وهو تشريع الاعتبار بحقائق الأشياء ومعانيها، وأن مواهي الأمور لا تتغير بما يلصق بها من الأقوَال المنافية للحقائق، وأن تلك الملصقات بالحقائق هي التي تحجب العقول عن التفهم في الحقائق الحق، وهي التي تَرِينُ على القلوب بتلبيس الأشياء. . . وهذا كله زيادة تحريض على تلقي أمر الله بالقبول والامتثال ونبذ ما خالفه)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، والشوكاني
(3)
.
الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم
.
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخَرُ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (الأحزاب: 21).
373 -
قال السعدي رحمه الله: (واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم
(4)
،
وأن الأصل، أن أمته أسوته
(1)
انظر: تفسير سورة الأحزاب للاحم (27).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (21/ 254) و (21/ 261).
(3)
انظر: التفسير الكبير (25/ 167)، وفتح القدير (4/ 326).
(4)
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أضرب:
أحدها: حركاته التي تدور عليها هواجس النفوس كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فلا يتعلق بذلك أمر باتباع ولا نهى عن مخالفة.
والضرب الثاني: أفعاله التي لا تتعلق بالعبادات كأحواله في مأكله ومشربه وملبسه =
في الأحكام، إلا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية ما استنبطه الأصوليون من دلالتها على الاحتجاج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه استنباط ذلك من الآية عموم الأسوة في النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الاقتداء بأفعاله.
= ومنامه ويقظته فيدل فعل ذلك على الإباحة دون الوجوب
وأما الضرب الثالث: ما اختص بالديانات وهو على ثلاثة أضرب:
أحدها: ما يكون بياناً، والثاني: ما يكون تنفيذاً وامتثالاً، والثالث ما يكون ابتداء شرع.
فأما الأول: البيان فحكمه مأخوذ من المبين فإن كان المبين واجبا كان البيان واجبا وإن كان ندبا كان البيان ندبا ويعرف أنه بيان بأن يصرح بأنه بيان كذلك ويعلم في القرآن أنها مجملة تفتقر إلى البيان ولم يظهر بيانها بالقول فنعلم أن هذا الفعل بيان لها.
وأما الثاني: أن يفعل امتثالاً وتنفيذاً له فيعتبر أيضا بالأمر وإن كان الأمر على الوجوب علمنا أنه فعل واجباً وإن كان الفعل على الندب علمنا أنه فعل ندبا.
وأما الثالث: أن يعمل ابتداء من غير سبب ولم يوجد منه في ذلك أمر باتباع ولا نهى عنه فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة مذاهب وكذلك سائر الفقهاء والمتكلمين وهذا الاختلاف فيما يرجع إلى حقوق الأمة:
المذهب الأول: أن اتباعه فى هذه الأفعال واجب على الأمة إلا ما خصه ذلك وهذا مذهب مالك والحسن وبه قال من أصحاب الشافعي أبو العباس بن سريج والإصطخرى وأبو على بن أبى هريرة وأبو على بن خيران وهذا هو الأشبه بمذهب الشافعي رحمة الله عليه وبهذا قال من أصحاب أبى حنيفة أبو الحسن الكرخى وهو قول طائفة من المتكلمين.
والمذهب الثاني: المستحب للأمة اتباعه فى هذه الأفعال ويندب إلى ذلك ولا يجب وهو قول الأكثر من أصحاب أبى حنيفة وهو قول أكثر أهل المعتزلة وبه قال من أصحاب الشافعي أبو بكر الصيرفى وأبو بكر القفال.
والمذهب الثالث: أن الأمر فى ذلك على الوقف حتى يقوم دليل على ما أريد منا فى ذلك وإلى هذا ذهب أكثر الأشاعرة واختاره من أصحاب الشافعي أبو بكر الدقاق وأبو القاسم بن كج. انظر: قواطع الأدلة (1/ 303 - 304)، واللمع للشيرازي (143)، والإشارات الإلهية (3/ 127).
(1)
انظر: تفسير السعدي (643) و (927).
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن كثير:(هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله)
(1)
، وقال الطوفي:(يحتج بها على التأسي به صلى الله عليه وسلم في أفعاله)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، وإلكيا الهراسي، وابن الفرس، والقرطبي، والسيوطي، والألوسي، وابن عاشور
(3)
.
مناسبة تعقيب النهي عن الخضوع بالقول، بالحث على اللين لدفع توهم إرادة الغلظة في الخضوع
.
قال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} (الأحزاب: 32).
374 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}
(4)
ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله:{وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} أي: غير غليظ، ولا جاف كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع). ا. هـ
(5)
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 2793).
(2)
انظر: الإشارات الإلهية (3/ 127).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 466)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 163)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 423)، والجامع لأحكام القرآن (14/ 139)، والإكليل (3/ 1105)، وروح المعاني (12/ 164)، والتحرير والتنوير (21/ 303).
(4)
ذكر الجصاص استنباطاً آخر من هذه الآية وهو دلالتها على أن المرأة منهية عن الأذان. انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 471).
(5)
انظر: تفسير السعدي (664).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الحث على اللين بعد النهي عن الخضوع بالقول، وأن مناسبة ذلك هو دفع توهم إرادة الإغلاظ في القول، فالمراد عدم الخضوع لا الإغلاظ القول.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال ابن القيم: (فنهاهن عن الخضوع بالقول، فربما ذهب الوهم إلى الإذن في الإغلاظ في القول والتجاوز، فرفع هذا الوهم
بقوله: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} )
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الرازي
(2)
.
وقد ذكر ابن عاشور وجهاً آخر وهو أن الأمر بالخضوع قد يفهم منه الإسرار بالقول، فدفع هذا التوهم بالأمر بالأمر بالقول المعروف، قال ابن عاشور:(وعَطْفُ {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} على {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار)
(3)
.
والذي يظهر والله أعلم أن كلا الأمرين مقصود هنا، فالتعقيب بالقول المعروف لدفع توهم إرادة الإغلاظ، أو الإسرار، وتقرير حالة الوسط هنا وهو الكلام لكن بدون إغلاظ ولا إسرار. والله أعلم.
التعليم الفعلي أبلغ من التعليم القولي
.
قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَشَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
(1)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (3/ 329).
(2)
انظر: التفسير الكبير (25/ 180).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (22/ 9).
حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)} (الأحزاب: 37).
375 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآيات
(1)
المشتملات على هذه القصة، فوائد:
ومنها: أن التعليم الفعلي، أبلغ من القولي، خصوصاً، إذا اقترن بالقول، فإن ذلك، نور على نور). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه القصة عموماً-وهي قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش- أن التعليم الفعلي أبلغ من التعليم القولي، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أراد أن يشرع للناس أن الأدعياء ليسوا كالأبناء من كل وجه، وأن نكاح زوجاتهم جائز لمن تبناهم، ولكن لأجل أن يكون هذا أرسخ في عقول الناس، وأبلغ في تعليمهم جعل الله ذلك فعلياً مع النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة، ليكون ذلك أبلغ في التعليم وترسيخ الحكم، ومن هنا استنبط السعدي أن التعليم بالفعل أبلغ من التعليم بالقول.
وفي هذا الاستنباط تأصيل قرآني لما يُسمَى اليوم التعليم بالوسيلة، وهو تعليم فعلي أكثر منه قولي، ويعد هذا النوع من التعليم أفضل من غيره في ترسيخ المعلومة وفهمها الفهم الصحيح.
وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من التعليم في حياته كثيراً، فعلم
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية، منها: إثبات القياس في الأحكام واعتبار المعاني في إيجابها، ومنها كذلك: أن الأمة مساوية للنبي صلى الله عليه وسلم في الحكم إلا ما خصه الله تعالى. انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 165)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 472).
(2)
انظر: تفسير السعدي (666).
الصحابة الوضوء بالفعل، وعلمهم الصلاة بالفعل، ونقلوا كثيراً من أخلاقه وتعاملاته الرائعة مع الصحابة رضي الله عنهم بالفعل أكثر منه بالقول.
المحبة التي في القلب لغير الزوجة لا يأثم عليها الزوج إذا لم يقترن بها محذور
.
قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ (37)} (الأحزاب: 37).
376 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد الآية-: أن المحبة التي في قلب العبد، لغير زوجته ومملوكته، ومحارمه، إذا لم يقترن بها محذور، لا يأثم عليها العبد، ولو اقترن بذلك أمنيته، أن لو طلقها زوجها، لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما، أو يتسبب بأي سبب كان، لأن الله أخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أخفى ذلك في نفسه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المحبة التي في قلب العبد لامرأة ليست بزوجته، وتمنيه زواجها إذا طلقت ليس بمحذور ولا يأثم عليه العبد، ووجه استنباط ذلك من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع في قلبه ذلك لزينب بنت جحش أن لو طلقها زيد لتزوجها، ولم يذكر الله ذلك على وجه اللوم له، مما يدل على جوازه إن حصل في قلب العبد.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال البغوي: (وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما
(1)
انظر: تفسير السعدي (666).
لم يقصد فيه المآثم، لأن الود وميل النفس من طبع البشر)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري، وابن عاشور
(2)
.
كما أن هذا يكشف خلقاً عظيماً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يتكلم مع زيد إلا بما يصلح له، مجاهداً ما تهوى نفسه ويتمنى، وهذا يدل على كمال خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ومدى تمكنه من إلزام نفسه للكمال الأخلاقي.
المستشار مؤتمن، أن يشير بما هو أصلح للمستشير
.
قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ (37)} (الأحزاب: 37).
377 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد الآية-: أن المستشار مؤتمن، يجب عليه -إذا استشير في أمر من الأمور- أن يشير بما يعلمه أصلح للمستشير ولو كان له حظ نفس، فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المستشار مؤتمن، يجب عليه لأن يشير بما هو أصلح للمستشير ولو خالف حظ نفسه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما استشاره زيد بن حارثة في طلاقه لزينب بنت جحش، أشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك وعدم الطلاق؛ مع أن في نفسه ميل لزينب، ولكنه قدم مصلحة المستشير وهو زيد على المستشار وهو نفسه صلى الله عليه وسلم.
(1)
انظر: معالم التنزيل (3/ 458).
(2)
انظر: الكشاف (857)، والتحرير والتنوير (22/ 36).
(3)
انظر: تفسير السعدي (666).
قال ابن عاشور: (وأما إشارة النبي عليه الصلاة والسلام على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار، ومن حق المستشار إعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير، وإن كان صلاح المشير في خلافه)
(1)
.
وهذا الاستنباط فيه تأصيل قرآني لمعنى كبير من معاني الاستشارة، وأن المستشار مؤتمن يجب أن يؤدي النصح ولو كان خلافاً لهوى نفسه.
الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ (49)} (الأحزاب: 49).
378 -
قال السعدي رحمه الله: (ويستدل بهذه الآية، على أن الطلاق، لا يكون إلا بعد النكاح
(2)
، فلو طلقها قبل أن ينكحها، أو علق
(1)
انظر: التحرير والتنوير (22/ 37).
(2)
وهذه المسألة من الخلافيات الشهيرة، وللعلماء فيها مذاهب: الوقوع مطلقاً، وعدم الوقوع مطلقاً، والتفصيل بين ما إذا عين أو عمم، ومنهم من توقف، فقال بعدم الوقوع الجمهور وهو قول الشافعي وابن مهدي وأحمد وإسحاق وداود وأتباعهم وجمهور أصحاب الحديث، وقال بالوقوع مطلقاً أبو حنيفة وأصحابه، وقال بالتفصيل ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وابن أبي ليلى ومن قبلهم ممن تقدم ذكره وهو ابن مسعود وأتباعه ومالك في المشهور عنه، وعنه عدم الوقوع مطلقا ولو عين، وعن ابن القاسم مثله، وعنه أنه توقف، كذا عن الثوري وأبي عبيد،. . . وقال البيهقي بعد أن أخرج كثيراً من الأخبار، ثم من الآثار الواردة في عدم الوقوع: هذه الآثار تدل على أن معظم الصحابة والتابعين فهموا من الأخبار أن الطلاق أو العتاق الذي علق قبل النكاح والملك لا يعمل بعد وقوعهما، وأن تأويل المخالف في حمله عدم الوقوع على ما إذا وقع قبل الملك، والوقوع فيما إذا وقع بعده، ليس بشيء. انظر: فتح الباري لابن حجر: (9/ 298 - 299)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 2828).
طلاقها على نكاحها، لم يقع، لقوله:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فجعل الطلاق بعد النكاح، فدل على أنه قبل ذلك، لا محل له، وإذا كان الطلاق الذي هو فرقة تامة، وتحريم تام، لا يقع قبل النكاح، فالتحريم الناقص، لظهار، أو إيلاء ونحوه، من باب أولى وأحرى، أن لا يقع قبل النكاح، كما هو أصح قَوْلي العلماء). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله جعل الطلاق بعد النكاح، ورتبه بثم، مما يدل على أنه قبل ذلك لا محل له.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال إلكيا الهراسي:(يدل على أن لا طلاق قبل النكاح، فإنه رتب عليه بكلمة"ثم")
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: البغوي، والقصاب، وابن الجوزي، والرازي، وأبوحيان، والخازن، والسيوطي، والهرري
(3)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، وقالوا لا دلالة في الآية على أن الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح، قال ابن الفرس- في رده لدلالة
(1)
انظر: تفسير السعدي (668).
(2)
انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 166).
(3)
انظر: معالم التنزيل (3/ 461)، ونكت القرآن (3/ 663)، وزاد المسير (1132)، والتفسير الكبير (25/ 189)، والبحر المحيط (7/ 231)، ولباب التأويل (3/ 430)، والإكليل (3/ 1112)، وتفسير حدائق الروح والريحان (23/ 71).
الآية على أن لا طلاق قبل النكاح-: (ولا هي حجة في الآية لمن منع من ذلك؛ لأنه تعالى إنما أخبر بحكم الطلاق إذا وقع بعد النكاح ولم يذكر حكمه إذا وقع قبل ذلك، ولا يقتضي نفياً ولا إثباتاً)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص
(2)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي من أن الآية تدل على أن لا طلاق قبل النكاح هو الصحيح، ومما يؤيد صحته أنه استنباط ابن عباس رضي الله عنهما، وقد قال في ذلك بعد تلاوته هذه الآية:(فلا يكون طلاق حتى يكون نكاح)
(3)
.
تصدير الآية بخطاب المؤمنين، وعدم لومهم على الطلاق، يدل على جوازه
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ (49)} (الأحزاب: 49).
379 -
قال السعدي رحمه الله: (ويدل على جواز الطلاق
(4)
، لأن الله أخبر به عن المؤمنين، على وجه لم يلمهم عليه، ولم يؤنبهم،
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 428).
(2)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 473).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (10/ 3142)، وذكر البخاري في صحيحه أن هذا اختيار جمع من الصحابة والتابعين فذكر منهم: أربعة وعشرين. انظر: صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب لا طلاق قبل نكاح، ص 941.
(4)
جواز الطلاق بنص الكتاب العزيز ومتواتر السنة المطهرة وإجماع المسلمين وهو قطعي من قطعيات الشريعة ولكنه يكره مع عدم الحاجة. انظر: الدراري المضيئة للشوكاني (1/ 188).
مع تصدير الآية بخطاب المؤمنين). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز الطلاق، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله صدر الآية بخطاب المؤمنين، ولم يلمهم على الطلاق، مما يدل على جوازه.
وفائدة هذا الاستنباط هو دفع توهم أن يكون الطلاق منقصة لأهل الإيمان؛ إذ قد يكون الطلاق هو وسيلة للحفاظ على الإيمان؛ لأن إمساك المرأة مع عدم القيام بحقوقها مؤثر على الإيمان وصاحبه.
والطلاق هو من محاسن هذه الشريعة؛ إذ مع فساد العشرة بين الزوجين يكون الطلاق هو السبيل للتخلص من هذه العلاقة التي أصبحت ثقلاً على أصحابها، والطلاق يميز دين الإسلام عن غيره من الأعراف التي تلزم بقاء الحياة الزوجية ولو مع تعثرها كما هو عند بعض المسيحيين، كما أن هذا يزيد وضوح التوازن في الإسلام.
كما أن النداء بالإيمان في أول هذا الحكم الشرعي يدل على أن امتثال الأوامر من مقتضيات الإيمان
(2)
، وأن الإيمان هو السبب في القيام بالأوامر، فمتى وجد الإيمان وجد الامتثال.
الفراق بالموت تعتد له المرأة ولو قبل الدخول
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} (الأحزاب: 49).
(1)
انظر: تفسير السعدي (668).
(2)
انظر: تفسير سورة الأحزاب للاحم (137).
380 -
قال السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أن الفراق بالموت تعتد له الزوجة المعقود عليها ولو قبل الدخول
(1)
، وكما يؤخذ من مفهوم هذه الآية فإنه يؤخذ من عموم قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234]). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المرأة المعقود عليها والمتوفى عنها زوجها تعتد ولو قبل الدخول عليها، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله جعل الفراق بالطلاق قبل الدخول لا عدة على المرأة فيه، فدل مفهوم المخالفة للقيد أن غير المطلقة تعتد، وهي التي مات عنها زوجها ولو قبل الدخول، كما أن هذا الاستنباط يؤخذ من عموم آية البقرة.
وهنا نلاحظ أن السعدي استنبط الحكم من آيتين، أما الأولى فمن مفهومها، ولم أجد من استنبط هذا الحكم من هذه الآية غير السعدي حسب ما اطلعت عليه من مصادر تفسيرية وفقهية.
وأما ما استنبطه السعدي من عموم آية البقرة فهذا أشار إليه بعض المفسرين، قال القرطبي:(عدة الوفاة تلزم الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل وعدة جميعهن إلا الأمة أربعة أشهر وعشرة أيام، لعموم الآية في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا})
(3)
، وممن أشار إليه كذلك من المفسرين: ابن
(1)
أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر، مدخولاً بها أوغير مدخول بها. انظر: المغني (11/ 223).
(2)
انظر: تفسير السعدي (669)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (148).
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 174).
العربي، وابن كثير، والخازن، والألوسي، والسيوطي، والعثيمين.
(1)
عدم الاحتجاب عن الأعمام والأخوال بدلالة الأولى
.
قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ (55)} (الأحزاب: 55).
381 -
قال السعدي رحمه الله: (ولم يذكر فيها الأعمام، والأخوال، لأنهن إذا لم يحتجبن عمن هن عماته ولا خالاته، من أبناء الإخوة والأخوات، مع رفعتهن عليهم، فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن، من باب أولى). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز عدم احتجاب المرأة عن أعمامها وأخوالها، ووجه استنباط ذلك من الآية بمفهوم الموافقة، حيث إنه ذكر في الآية أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، فيكون ذكر الأعمام والأخوال من باب أولى.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن عاشور: (ولم يذكر من أصناف الأقرباء الأعمام ولا الأخوال لأن ذكر أبناء الإِخوان وأبناء الأخوات يقتضي اتحاد الحكم، من أنه لما رفِع الحرج عنهن فيمن هن عمات لهن أو خالات كان رفع الحرج عنهن في
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 230)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 585)، ولباب التأويل (1/ 168)، والإكليل (1/ 429)، وروح المعاني (1/ 542)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين (3/ 156).
(2)
انظر: تفسير السعدي (671).
الأعمام والأخوال كذلك)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، وأبو السعود، والألوسي
(2)
.
وذهب عكرمة، والشعبي إلى أن عدم ذكر الأعمام والأخوال لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما
(3)
.
وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر وهو أن عدم ذكر الأخوال والأعمام لأنهما يجريان مجرى الوالدين، قال البيضاوي:(وإنما لم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين ولذلك سمى العم أبا في قوله {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا})
(4)
.
والذي يظهر والله أعلم أن القول بأن عدم ذكر الأعمام والأخوال هنا إما لأنهما بمنزلة الوالدين، أو لدخولهما بطريقة الأولى، وكلا الأمرين محتمل.
أما ما ذهب إليه عكرمة والشعبي من أن عدم ذكر هنا لأجل أن لا يصفان ذلك لبنيهما، فضعيف، قال الشوكاني- بعد ذكره لهذا القول-:(وهذا ضعيف جدّاً، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحلّ له ممكن من غيرهما ممن يجوز له النظر إليها، لا سيما أبناء الإخوة، وأبناء الأخوات)
(5)
، وقد ضعف هذا الوجه كذلك الألوسي
(6)
.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (22/ 96).
(2)
انظر: التفسير الكبير (25/ 195)، وإرشاد العقل السليم (5/ 237)، وروح المعاني (11/ 252).
(3)
انظر: جامع البيان (10/ 328).
(4)
انظر: أنوار التنزيل (3/ 94)، وانظر كذلك: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 236).
(5)
انظر: فتح القدير (4/ 298)، وانظر كذلك: حاشية الشهاب على البيضاوي (7/ 509).
(6)
انظر: روح المعاني (11/ 252).
نفي أهل الشر الذين يتضرر بإقامتهم
.
قال تعالى: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)} (الأحزاب: 60)
382 -
قال السعدي رحمه الله: (وهذا فيه دليل
(1)
، لنفي أهل الشر، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين، فإن ذلك أحسم للشر، وأبعد منه). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية جواز نفي أهل الشر الذين يتضرر المسلمون بإقامتهم بين أظهرهم، ووجه استنباط ذلك من الآية القياس على جواز نفي أهل النفاق الذين أباح الله لنبيه نفيهم بسبب ما يقومون به من إضرار بالمسلمين بنشر الشائعات والأكاذيب ونحو ذلك من الإرجاف، فقاس السعدي على ذلك جواز نفي كل من كان ببقاءه بين المسلمين إفساداً.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط الجصاص فقال: (في هذه الآية دلالة على أن الإرجاف بالمؤمنين والإشاعة بما يغمهم ويؤذيهم يستحق به التعزير والنفي إذا أصر عليه ولم ينته عنه)
(3)
.
ومما يؤيد المعنى المستنبط وهو نفي أهل الشر ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:(لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم)، وأخرج فلاناً،
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية، منها: أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب الاجتهاد، ومنها: جواز ترك إنفاذ الوعيد. انظر: الجامع لأحكام القرآن (14/ 221)، وروح المعاني (11/ 226).
(2)
انظر: تفسير السعدي (672).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 486).
وأخرج عمر فلاناً
(1)
، قال ابن بطال:(وفى حديث ابن عباس إخراج كل من يتأذى به الناس بإظهار المعاصي والمنكر، ونفيهم عن مواضع التأذي بهم)
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب نفي أهل المعاصي والمخنثين، ح (6834)، قال العيني:(وقال الكرماني والغرض من ذكر هذا الباب هنا التنبيه على أن التغريب على المذنب الذي لا حد عليه ثابت وعلى الذي عليه الحد بالطريق الأولى، قلت يفهم من هذا أن المرتكب لمعصية من المعاصي يجوز نفيه، والترجمة أيضا تدل عليه، وقال بعض العلماء لا ينفى إلا ثلاثة بكر زان، ومخنث، ومحارب)، وقال ابن حجر:(كأنه أراد الرد على من أنكر النفي على غير المحارب فبين أنه ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده في حق غير المحارب وإذا ثبت في حق من لم يقع= =منه كبيرة فوقوعه فيمن أتى كبيرة بطريق الأولى). انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري (24/ 21)، وفتح الباري شرح صحيح البخاري (12/ 165).
(2)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 143).
سورة فاطر
أهل الجنة لا ينامون
.
قال تعالى: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} (فاطر: 35).
383 -
قال السعدي رحمه الله: (ويدل على أنهم لا ينامون في الجنة
(1)
، لأن النوم فائدته زوال التعب، وحصول الراحة به، وأهل الجنة بخلاف ذلك، ولأنه موت أصغر، وأهل الجنة لا يموتون، جعلنا الله منهم، بمنه وكرمه). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن أهل الجنة لا ينامون، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله نفى عنهم النصب واللغوب، فلزم من ذلك أنهم لا ينامون، فدلالة الآية على عدم نوم أهل الجنة دلالة التزام، حيث إن انتفاء التعب يلزم منه انتفاء النوم.
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون). انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (9/ 181)، وانظر كذلك: شرح نونية ابن القيم للهراس (2/ 431)، وصفة الجنة لابن كثير (147).
(2)
انظر: تفسير السعدي (671).
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط الصاوي
(1)
حيث قال: (فلا نوم في الجنة لعدم التعب فيها)
(2)
.
(1)
هو: أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي: فقيه مالكي، نسبته إلى (صاء الحجر) في إقليم الغربية، بمصر، له مؤلفات منها: حاشية على تفسير الجلالين، وبلغة السالك لاقرب المسالك في فروع الفقه المالكي. ولد عام 1175 هـ، وتوفي عام 1241 هـ. انظر: الأعلام للزركلي (1/ 246)، ومعجم المؤلفين (2/ 111).
(2)
انظر: حاشية الصاوي على الجلالين (5/ 85).
سورة يس
مناسبة ذكر اسم الله "الرحمن" دون غيره من أسماء الله الأخرى
.
قال تعالى: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} (يس: 52).
384 -
قال السعدي رحمه الله: (ولا تحسب أن ذكر الرحمن في هذا الموضع، لمجرد الخبر عن وعده، وإنما ذلك للإخبار بأنه في ذلك اليوم العظيم، سيرون من رحمته ما لا يخطر على الظنون، ولا حسب به الحاسبون). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة التعبير باسم "الرحمن" دون غيره من أسماء الله جل جلاله، وأن مناسبة ذلك هي الإخبار عن رحمة الله للخلق في ذلك اليوم.
قال الألوسي: (وقيل آثره المجيبون من المؤمنين لما أن الرحمة قد
(1)
انظر: تفسير السعدي (671).
غمرتهم فهي نصب أعينهم)
(1)
.
وقال بعض المفسرين إن التعبير باسم "الرحمن"في هذه الآية تقريعاً للكفار وتكبيتاً لهم؛ إذ كانوا ينكرون اسم الرحمن مع إنكارهم للبعث، فناسب ذكره هنا تقريعاً لهم، قال ابن عاشور:(وأتوا في التعبير عن اسم الجلالة بصفة الرحمان إكمالاً للتحسر على تكذيبهم بالبعث بذكر ما كان مقارناً للبعث في تكذيبهم وهو إنكار هذا الاسم كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (الفرقان: 60))
(2)
.
وقال بعض المفسرين إن هذا القول هو قول الكفار
(3)
ومناسبة تعبيرهم باسم الرحمن طمعاً في رحمة الله
(4)
.
(1)
انظر: روح المعاني (12/ 32).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (23/ 38).
(3)
واختلف في هذه المقالة من قالها، فقال ابن زيد: هي من قول الكفرة أي لما رأوا البعث والنشور الذي كانوا يكذبون به في الدنيا قالوا {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} وقالت فرقة: ذلك من قول الله تعالى لهم على جهة التوبيخ والتوقيف، وقال الفراء: هو من قول الملائكة، وقال قتادة ومجاهد: هو من قول المؤمنين للكفرة على جهة التقريع. انظر: المحرر الوجيز (1566).
(4)
انظر: روح المعاني (12/ 32).
سورة الصافات
خص الله المشارق بالذكر لدلالتها على المغارب
.
قال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} (الصافات: 5).
385 -
قال السعدي رحمه الله: (وخص الله المشارق بالذكر، لدلالتها على المغارب، أو لأنها مشارق النجوم التي سيذكرها). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص المشارق بالذكر دون المغارب، وأن مناسبة ذلك هي أن المشارق دالة على المغارب فاكتفى بذكرها، أو لأنها مشارق النجوم التي سيذكرها بعدها.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن جرير الطبري:(وترك ذكر المغارب لدلالة الكلام عليه، واستغني بذكر المشارق من ذكرها، إذ كان معلوماً أن معها المغارب)
(2)
، وقال ابن القيم: (وخص المشارق هاهنا بالذكر إما لدلالتها على المغارب إذ الأمر
(1)
انظر: تفسير السعدي (671).
(2)
انظر: جامع البيان (10/ 469).
أن المتضايقان كل منهما يستلزم الآخر وإما لكون المشارق مطلع الكواكب ومظاهر الأنوار وإما توطئة لما ذكر بعدها من تزيين السماء بزينة الكواكب وجعلها حفظاً من كل شيطان: فذكر المشارق أنسب بهذا المعنى وأليق)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن عطية، وابن الجوزي، وابن كثير، وأبوحيان، والألوسي.
(2)
وأضاف بعض المفسرين معنى آخر للاقتصار على ذكر المشارق دون المغارب، وهو أن المشارق أكثر نفعاً، فقال الرازي بعد ذكره للوجه الأول الموافق لما ذكر المفسرون آنفاً:(والثاني أن الشرق أقوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر الشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده، ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم عليه السلام بالمشرق فقال: {فَإِن اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ})
(3)
، وأشار إليه كذلك الصاوي
(4)
.
استعمال القرعة عند الاشتباه في الحقوق
.
قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} (الصافات: 141).
386 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيها - أي من فوائد قصة يونس -: استعمال القرعة
(5)
عند الاشتباه في مسائل الاستحقاق والحرمان إذ لم
(1)
انظر: التبيان في أقسام القرآن (365).
(2)
انظر: المحرر الوجيز (1571)، وزاد المسير (1182)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 2966)، والبحر المحيط (7/ 337)، وروح المعاني (12/ 66).
(3)
انظر: التفسير الكبير (26/ 104).
(4)
انظر: حاشية الصاوي على الجلالين (5/ 112).
(5)
القرعة: لغة هي: السهمة والمقارعة المساهمة وقد اقترع القوم وتقارعوا وقارع بينهم وأقرع أعلى وأقرعت بين الشركاء في شيء يقتسمونه، ويراد بالقرعة: ضرب السهام، بحيث يجعل أحد تلك السهام مميزاً بعلامة أو بنحوه، فمن خرجت له القرعة أو ذلك السهم المميز، استحق ما جعل على القرعة. انظر: لسان العرب (12/ 77)، وشرح نظم القواعد الفقهية للسعدي (163).
قال ابن رجب: (تستعمل القرعة في تميز المستحق إذا ثبت الاستحقاق ابتداء لمبهم غير معين عند تساوي أهل الاستحقاق، ويستعمل أيضا في تمييز المستحق المعين في نفس الأمر عن اشتباهه والعجز على الاطلاع عليه). انظر: القواعد لابن رجب (3/ 195).
يكن مرجح سواها) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مشروعية استعمال القرعة في مسائل الاستحقاق إذا لم يكن هناك مرجح، ووجه استنباط ذلك من الآية حكاية الله لوقوع ذلك ليونس عليه الصلاة والسلام إذ وقعت القرعة عليه في الاستهام فرُمِي في البحر، ولم يُلحق الله ذلك بإنكار مما يدل على مشروعيته.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال السيوطي- عند إيراده هذه الآية-:(فيه دليل على الحكم بالقرعة)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن العربي، وإلكيا الهراسي، وابن الفرس، والألوسي، والعثيمين
(3)
.
المخالفون:
خالف ابن عاشور في استنباط مشروعية القرعة من هذه الآية فقال:
(1)
انظر: تيسير اللطيف المنان للسعدي (238).
(2)
انظر: الإكليل (3/ 1135).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/ 34)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 173)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 454)، وروح المعاني (12/ 137)، وتفسير القرآن الكريم سورة الصافات للعثيمين (309).
(وعندي: أن ليس في الآية دليل على مشروعية القرعة في الفصل بين المتساويين لأنها لم تحك شرعاً صحيحاً كان قبل الإِسلام إذ لا يعرف دين أهل السفينة الذين أجرَوْا الاستهام على يونس، على أن ما أُجري الاستهام عليه قد أجمع المسلمون على أنه لا يجري في مثله استهام، فلو صح أن ذلك كان شرعاً لمن قبلنا فقد نسخه إجماع علماء أمتنا)
(1)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، وأما ما قاله ابن عاشور فمردود من وجهين:
أولهما: إن إقرار الله عز وجل لهذا الأمر في كتابه دون أن يتعقبه مغني عن معرفة ديانة أهل السفينة.
ثانيهما: إن الاستهام على مثل حالة يونس جائز حتى في شريعتنا إذ هو أخف الضررين وأدنى المفسدتين فلو قدر أن يكون مثل هذه الحالة في البحر وكان لا بد من رمي أحد الناس لتخف السفينة لم يكن في شريعتنا ما يمنع الاقتراع على رمي أحدهم إذ هلاك واحد أهون من هلاك الجميع
(2)
. والله أعلم.
ومما يؤيد المعنى المستنبط وهو مشروعية استعمال القرعة، ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه، فأيتهن يخرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
، والحديث واضح الدلالة على مشروعية القرعة عند التساوي في الحقوق.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (23/ 174).
(2)
انظر: تفسير القرآن الكريم سورة الصافات للعثيمين (311).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه، ح (2879)، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، ح (2770).
سورة ص
لم يستمع داود لكلام الخصم الثاني، لدلالة السياق على صحة كلام الأول
.
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَمِنَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ (24)} (ص: 23 - 24).
387 -
قال السعدي رحمه الله: (فقال داود
(1)
- لما سمع كلامه - ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما، أن هذا هو الواقع، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر، فلا وجه للاعتراض بقول القائل:" لم حكم داود، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر "). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن عدم استماع داود لكلام الخصم
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية منها: مشروعية القضاء في المسجد، ومنها: جواز وضع القِصص التمثيلية التي يقصد منها التربية والموعظة ولا يتحمل واضعها جرحة الكذب. انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/ 51)، والتحرير والتنوير (23/ 238).
(2)
انظر: تفسير السعدي (671).
الثاني، إنما هو لصدق كلام الأول، ووجه استنباطه لصحة كلام الأول هو السياق، مما يبطل القول بأن داود تعجل في حكمه، أولم لم يستمع لقول الخصم الآخر.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الجصاص:(وقوله تعالى: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} من غير أن يسأل الخصم عن ذلك يدل على أنه أخرج الكلام مخرج الحكاية والمثل على ما بينا، وأن داود قد كان عرف ذلك من فحوى كلامه، لولا ذلك لما حكم بظلمه قبل أن يسأل فيقر عنده أو تقوم عليه البينة به)
(1)
، وقال ابن عاشور:(قد عَلم داود من تساوقهما للخصومة ومن سكوت أحد الخصمين أنهما متقاربان على ما وصفه الحاكي منهما)
(2)
.
وذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الحكم المباشر من داود دون أن يستمع إلى حجة الخصم الآخر إنما هو بناء على أحد أمرين: إما أن الطرف الآخر أقر وحينئذ فلا داعي لسماع دعواه، وإما أن يكون ذلك بناء على محذوف تقديره إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك
(3)
.
وما استنبطه السعدي ومن وافقه هو الأقرب إلى الصوب؛ إذ ليس في القصة ما يدل على إقرار الطرف الآخر، كما أن تقدير محذوف في الكلام لا يستقيم مع إمكانية فهم الكلام دون تقدير المحذوف
(4)
، فلم يبق إلا القول بأن داود فهم من سياق الكلام صحة قول الطرف الأول، وحينها لم يحتج للاستماع لقول الطرف الثاني. والله أعلم.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 499).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (23/ 235).
(3)
انظر: معالم التنزيل (4/ 47)، والتفسير الكبير (26/ 172)، والبحر المحيط (7/ 377)، وأنوار التنزيل (3/ 170)، وروح المعاني (12/ 174).
(4)
انظر: تفسير القرآن الكريم سورة (ص) للعثيمين (104).
سوء أدب الخصم لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق
.
388 -
قال السعدي رحمه الله: (فصل في بعض الفوائد المستنبطة من قصة داود وسليمان عليهما السلام:
ومنها: أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما لا ينبغي) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين استنباطاً متعلقاً بالسياسة الشرعية في الحكم بين الناس وهو أن سوء أدب الخصم لا يكون مانعاً للحاكم أن يحكم بالحق بين الخصمين، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الخصمين ساءا الأدب مع داود وذلك بدخولهما من فوق السور ولم يدخلا مع الباب، ومع سوء الأدب لم يكن مانعاً لداود أن يقول كلمة الحق بينهما من غير أن يكون لفعلهما أثر في الحكم.
قال القصاب: (دليل على أن الخصوم إذا خاطبوا الحاكم بمثله، وقالوا: اعدل في حكمك، ولا تجر علينا لم يكن ذلك منهما سوء أدب، ولا يجاز للحاكم أن يحد عليهما ولا يعاقبهما).
(2)
وهذا الاستنباط مهم للقضاة إذ يتعرضون لسوء أدب من الخصوم، فلا ينبغي أن يكون لذلك أثر في الحكم بين الخصوم.
(1)
انظر: تفسير السعدي (713)، وتيسر اللطيف المنان للسعدي (250).
(2)
انظر: نكت القرآن (3/ 752).
المنصوح ولوكان كبير القدر يقبل النصيحة ممن دونه ولا يشمئز منها أو يتكبر عن قبولها
.
قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)} (ص: 22).
389 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة داود وسليمان-: أن الموعوظ والمنصوح، ولو كان كبير القدر، جليل العلم، إذا نصحه أحد، أو وعظه، لا يغضب، ولا يشمئز، بل يبادره بالقبول والشكر، فإن الخصمين نصحا داود فلم يشمئز ولم يغضب ولم يثنه ذلك عن الحق، بل حكم بالحق الصرف) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً تربوياً سلوكياً، وهو قبول كبير القدر جليل العلم النصيحة، بل يبادر بشكر الناصح، ووجه استنباط ذلك من الآية أن داود قبل النصيحة من الخصمين عندما طلبا منه الحكم بالحق، ونصحاه بعدم الجور في الحكم.
قال الألوسي: (وفي تحمل داود عليه السلام لذلك منهم دلالة على أنه يليق بالحاكم تحمل نحو ذلك من المتخاصمين لا سيما إذا كان ممن معه الحق فحال المرء وقت التخاصم لا يخفى،
والعجب من حاكم أو محكم أو من للخصوم نوع رجوع إليه كالمفتي كيف لا يقتدي بهذا النبي الأواب عليه الصلاة والسلام في ذلك بل يغضب كل الغضب لأدنى كلمة تصدر ولو فلتة من أحد الخصمين يتوهم منها الحط لقدره ولو فكر في نفسه لعلم أنه بالنسبة إلى هذا النبي الأواب لا يعدل والله العظيم متك ذباب)
(2)
،
(1)
انظر: تفسير السعدي (713)، وتيسر اللطيف المنان للسعدي (250).
(2)
انظر: روح المعاني (12/ 172).
وقال ابن عاشور: (ومخاطبة الخصم داود بهذا خارجة مخرج الحرص على إظهار الحق وهو في معنى الذكرى بالواجب فلذلك لا يعدّ مثلها جفاء للحاكم والقاضِي، وهو من قبيل: اتَّق الله في أمري)
(1)
من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه
.
قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)} (ص: 36).
390 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة داود وسليمان-: القاعدة المشهورة "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه" فسليمان عليه السلام عقر الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس، تقديما لمحبة الله، فعوضه الله خيرا من ذلك، بأن سخر له الريح الرخاء اللينة، التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد، غدوها شهر، ورواحها شهر، وسخر له الشياطين، أهل الاقتدار على الأعمال التي لا يقدر عليها الآدميون) ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية القاعدة المشهورة من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن داود لما عقر الجياد المحبوبة إلى نفسه وكان ذلك لله بسبب إشغالها له عن طاعة الله، عوضه الله خيراً من هذه الجياد وذلك بأن أعطاه الله الريح تجري بأمره وهي أسرع من الخيل، وسخر له كذلك الشياطين الذين يعملون أعمالاً
(1)
انظر: التحرير والتنوير (23/ 234).
(2)
انظر: تفسير السعدي (713).
بسرعة واقتدار، وهذا العوض كله خير من الخيل التي عقرها لله عز وجل.
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا الاستنباط، قال ابن كثير:(ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الحسن البصري، وحقي
(2)
.
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 3013).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 3019)، وروح البيان (8/ 41).
سورة الزمر
خص الأنعام بالذكر من باقي البهائم لكثرة نفعها وتعلق كثير من المصالح بها
.
قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ (6)} (الزمر: 6).
391 -
قال السعدي رحمه الله: (وخصها بالذكر، مع أنه أنزل لمصالح عباده من البهائم غيرها، لكثرة نفعها، وعموم مصالحها، ولشرفها، ولاختصاصها بأشياء لا يصلح غيرها، كالأضحية والهدي، والعقيقة، ووجوب الزكاة فيها، واختصاصها بالدية) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص الأنعام بالذكر من بين باقي البهائم، وأن مناسبة التخصيص بالذكر لها هو كثرة منافعها، وعموم مصالحها، واختصاصها بأشياء لا يصلح غيرها له كالأضحية والهدي ونحو ذلك.
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا الاستنباط، قال حقي:
(1)
انظر: تفسير السعدي (719).
(وخصصت هذه الأنواع الأربعة بالذكر لكثرة الانتفاع بها من اللحم والجلد والشعر والوبر)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، وابن عاشور
(2)
.
مناسبة الآيتين لبعضهما أن في الأولى حث على إتباع أحسن القول، وفي الثانية تعيين لهذا الأحسن
.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (18)} وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ (23)} (الزمر: 18 و 23).
392 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية نكتة، وهي: أنه لما أخبر عن هؤلاء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كأنه قيل: هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي الألباب، وحتى نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي الألباب؟
قيل: نعم، أحسنه ما نص الله عليه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية) ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي المناسبة بين الآيتين، وهي أن في الآية الأولى حث على إتباع أحسن القول الذي يسمعونه، وفي الثانية تحديد لهذا القول الحسن الذي ينبغي لنا إتباعه.
(1)
انظر: روح البيان (8/ 83).
(2)
انظر: التفسير الكبير (26/ 214)، والتحرير والتنوير (23/ 332).
(3)
انظر: تفسير السعدي (719).
وقد أشار إلى نحو ذلك حقي، فقال:(ويحتمل أن يكون المعنى يستمعون القول مطلقاً قرآناً كان أو غيره فيتبعون أحسنه بالإيمان والعمل الصالح وهو القرآن لأنه تعالى قال في حقه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ})
(1)
وفي هذا الاستنباط إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يوضح للناس ما يريد منهم، حتى يكونوا أكثر إتباعاً لما أراد منهم، حيث إن الغموض في القول وعدم الوضوح في المطلوب يترتب عليه تعثر في التنفيذ، أو تنفيذ ما لم يكن مطلوباً.
ذكر الواو في فتح أبواب الجنة، بينما لم تذكر عند فتح أبواب النار
.
قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا (71)} وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا (73)} (الزمر: 71 و 73).
393 -
قال السعدي رحمه الله: (وقال في النار {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وفي الجنة {وَفُتِحَتْ} بالواو، إشارة إلى أن أهل النار، بمجرد وصولهم إليها، فتحت لهم أبوابها من غير إنظار ولا إمهال، وليكون فتحها في وجوههم، وعلى وصولهم، أعظم لحرها، وأشد لعذابها.
وأما الجنة، فإنها الدار العالية الغالية، التي لا يوصل إليها ولا ينالها كل أحد، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها، ومع ذلك، فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه، فلم تفتح لهم بمجرد ما
(1)
انظر: روح البيان (8/ 100).
وصلوا إليها، بل يستشفعون إلى الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى يشفع، فيشفعه الله تعالى) ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة قوله "فتحت" في أهل النار بدون واو، بينما في أهل الجنة قال "وفتحت"بالواو، وأن مناسبة ذلك هو أن أهل النار بمجرد وصولهم إلى النار تفتح لهم الأبواب دون إمهال، بينما أهل الجنة يحتاجون إلى وسائل لوصولهم إلى الجنة من الشفاعة وغيرها؛ فلهذا أتى بالواو الدالة على ذلك.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى وجه آخر، فقالوا إن أبواب السجون تكون مغلقة حتى يأتي أصحاب السجن فتفتح لهم ثم يغلق عليهم فيها، وأما أصحاب الفرح فإن الأبواب تكون مفتحة لهم إكراماً لهم، قال أبو حيان: ({فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، ودل ذلك على أنه لا يفتح إلا إذا جاءت؛ كسائر أبواب السجون، فإنها لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين
يسجنون فيها فيفتح ثم يغلق عليهم، وناسب كونها حالاً أن أبواب الأفراح تكون مفتحة لانتظار من تجيء إليها، بخلاف أبواب السجون)
(2)
، وقال الرازي:(قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فإن قيل قال أهل النار فتحت أبوابها بغير الواو، وقال هاهنا بالواو فما الفرق؟ قلنا الفرق أن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على وصولهم إليها بدليل قوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} [ص: 50] فلذلك جيء بالواو كأنه قيل: حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها)
(3)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين: الزمخشري،
(1)
انظر: تفسير السعدي (731).
(2)
انظر: البحر المحيط (7/ 424).
(3)
انظر: التفسير الكبير (27/ 20).
والثعالبي، والخازن، ومحيي الدين شيخ زاده، والألوسي، وابن عاشور.
(1)
وذهب بعضهم إلى أن الواو في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} واو الثمانية لأن المفتح ثمانية أبواب، ولما كانت أبواب النار سبعة لا ثمانية لم يؤت بها، قال ابن هشام:(واو الثمانية، ذكرها جماعة من الأدباء كالحريري، ومن النحويين الضعفاء كابن خالويهِ، ومن المفسرين كالثعلبي، وزعموا أن العرب إذا عدّوا قالوا: ستة، سبعة، وثمانية، إيذاناً بأن السبعة عدد تام، وأن ما بعدها عددٌ مستأنف)
(2)
.
والذي يظهر والله أعلم أن فتح أبواب الجنة هو المناسب لحالة الإكرام، وإغلاق أبواب النار هو المناسب للهوان، قال البقاعي:(ولما كان إغلاق الباب المقصود عن قاصده دالاًّ على صغاره، دل على أن أمرهم كذلك بقوله ذاكراً غاية السوق: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي على صفة الذل والصغار، وأجاب " إذا " بقوله: {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي بولغ كما يفعل في أبواب السجن لأهل الجرائم بعد تكاملهم عندها في الإسراع في فتحها ليخرج إليهم ما كان محبوساً بإغلاقها من الحرارة التي يلقاهم ذكاؤها وشرارها على حالة هي أمر من لقاء البهائم التي اختاروها في الدنيا على تقبل ما خالف أهويتهم من حسن الكلام،. . . ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوع هوان قال: {وَفُتِحَتْ} أي والحال أنها قد فتحت {أَبْوَابُهَا} أي إكراماً لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم من رائحتها، ويرون من زهرتها وبهجتها، ليكون ذلك لهم سائقاً ثانياً إلى ما لم يروا مثله ولا رأوا عنه ثانياً)
(3)
.
(1)
انظر: الكشاف (949)، والجواهر الحسان (3/ 149)، ولباب التأويل (4/ 65)، وحاشية زاده على البيضاوي (7/ 282)، وروح المعاني (12/ 288)، والتحرير والتنوير (24/ 72).
(2)
انظر: مغني اللبيب (1/ 504).
(3)
انظر: نظم الدرر (6/ 477 و 479).
وأما القول بأنها واو الثمانية، فقول ضعيف لا يعول عليه
(1)
، قال ابن هشام:(إذ قيل (فتحت) في آية النار لأن أبوابها سبعة، {وَفُتِحَتْ} في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية، وأقول: لو كان لواو الثمانية حقيقة لم تكن الآية منها؛ إذ ليس فيها ذكر عدد البتة، وإنما فيها ذكر الأبواب، وهي جمع لا بدل على عدد خاص)
(2)
، وقال ابن كثير:(ومن زعم أن "الواو" في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} واو الثمانية، واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية، فقد أبعد النّجْعَة وأغرق في النزع)
(3)
.
(1)
انظر: روح المعاني (12/ 288)، والتحرير والتنوير (24/ 72)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (8/ 228).
(2)
انظر: مغني اللبيب (1/ 505).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 3057).
سورة فصلت
خص الأعضاء الثلاثة بالذكر؛ لأن أكثر الذنوب تقع بها
.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)} (فصلت: 20).
394 -
قال السعدي رحمه الله: (شهد عليهم كل عضو من أعضائهم، فكل عضو يقول: أنا فعلت كذا وكذا، يوم كذا وكذا، وخص هذه الأعضاء الثلاثة، لأن أكثر الذنوب، إنما تقع بها، أو بسببها). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة وهي السمع والبصر والجلود دون باقي الأعضاء، وأن مناسبة هذا التخصيص هو أن الأعضاء الثلاثة تقع بها الذنوب، فناسب تخصيصها بالذكر دون غيرها من الأعضاء.
قال الرازي: (ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سبباً وفائدة، وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر
(1)
انظر: تفسير السعدي (747).
والشم والذوق واللمس، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر هاهنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم، لأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام، فكان هذا داخلاً فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك كذلك من المفسرين أيضاً: أبوحيان
(2)
.
بينما ذهب ابن عاشور إلى معنى آخر في التخصيص فقال: (وتخصيص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح لأن للسمع اختصاصاً بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي آيات القرآن، فسمعهم يشهد عليهم بأنهم كانوا يصرفونه عن سماع ذلك كما حكى الله عنهم بقوله: {وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5]، ولأن للأبصار اختصاصاً بمشاهدة دلائل المصنوعات الدالة على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير فذلك دليل وحدانيته في إلهيته، وشهادة الجلود لأن الجلد يحوي جميع الجسد لتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها فيظهر استحقاقها للحرق بالنار لبقية الأجساد دون اقتصار على حرق موضع السمع والبصر)
(3)
.
ولم يظهر هناك نوع تعارض بين هذه التخريجات الثلاثة فكلها صحيحة ومرادة فيكون التخصيص لهذه الأعضاء لجميع ما ذكر. والله أعلم.
(1)
انظر: التفسير الكبير (27/ 101).
(2)
انظر: البحر المحيط (7/ 471).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (24/ 267).
سورة الشورى
قول الصحابة حجة
.
قال تعالى: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} (الشورى: 13). وقال تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15)} (لقمان: 15).
395 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية، أن الله {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} مع قوله: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15)} مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم، وشدة إنابتهم، دليل على أن قولهم حجة
(1)
،
خصوصاً الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم
(1)
روي أنه حجة يقدم على القياس ويخص به العموم وهو قول مالك والشافعي في القديم وبعض الحنفية، وروي ما يدل على أنه ليس بحجة وبه قال عامة المتكلمين والشافعي في الجديد واختاره أبو الخطاب.
وقال قوم الحجة قول الخلفاء الراشدين، وذهب آخرون إلى أن الحجة قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وحاصل تحرير هذه المسألة: أن قول الصحابي الموقوف عليه له حالتان:
الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه.
الثانية: أن يكون مما له فيه مجال.
فإن كان مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع كما تقرر في علم الحديث، فيقدم على القياس ويخص به النص، إن لم يعرف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات.
وإن كان مما للرأي فيه مجال، فان انتشر في الصحابة ولم يظهر له مخالف فهو الإجماع السكوتي وهو حجة عند الأكثر، وإن علم له مخالف من الصحابة فلا يجوز العمل بقول أحدهم إلا بترجيح بالنظر في الأدلة، وإن لم ينتشر فقيل: حجة على التابعي ومن بعده لأن الصحابي حضر التنزيل فعرف التأويل لمشاهدته لقرائن الأحوال، وقيل ليس بحجة على المجتهد التابعي مثلا لأن كليهما مجتهد يجوز في حقه أن يخطئ وأن يصيب، والأول أظهر.
انظر: المستصفى في أصول الفقه (1/ 400)، وروضة الناظر (2/ 525)، والمذكرة في أصول الفقه (163)، وإعلام الموقعين (4/ 91).
أجمعين). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين، أن قول الصحابي حجة، ووجه استنباط ذلك أن الله أمر باتباع سبيل من أناب إليه، والصحابة رضي الله عنهم من أعظم المنيبين إلى الله، فدل ذلك
على أن قولهم حجة.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط ابن القيم فقال-في معرض كلامه عن أدلة وجوب إتباع قول الصحابي-: (قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15)} وكل من الصحابة منيب إلى الله فيجب إتباع سبيله، وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله، والدليل على أنهم منيبون إلى الله تعالى، أن الله تعالى قد هداهم وقد قال:{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} )
(2)
.
العفو الذي لا صلاح فيه منهي عنه
.
قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} (الشورى: 40).
(1)
انظر: تفسير السعدي (755).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (100).
396 -
قال السعدي رحمه الله: (ويستثنى من هذا الأصل-وهو العفو عن الناس- العفو عن المجرم المفسد المتمرد الذي العفو عنه مما يزيده في عتوه وتمرده
(1)
، فالواجب في مثل هذا الردع والزجر بكل ممكن، ولعل هذا يؤخذ من القيد الذي ذكره الله بقوله:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} فشرط الله أن يكون العفو فيه صلاح، فأما العفو الذي لا صلاح فيه، بل فيه ضده، فهو منهي عنه، والله أعلم). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً متعلقاً بالسياسة الشرعية وهو أن العفو عن المفسد منهي عنه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله قيد العفو بالصلاح، فدل مفهوم القيد أن العفو الذي لا صلاح فيه منهي عنه.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال العثيمين:(ولكنه بين في قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40) أن العفو لا يكون خيراً إلا إذا كان فيه إصلاح، فإذا أساء إليك شخص معروف بالإساءة والتمرد والطغيان على عباد الله، فالأفضل ألا تعفو عنه، وأن تأخذ بحقك؛ لأنك إذا عفوت ازداد شره. فمن كان عفوه إفساداً لا إصلاحاً، فإنه آثم بهذا العفو، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة، ودفع الإساءة أولى، بل العفو حينئذ محرم)
(3)
، وممن أشار إلى
(1)
يصير الانتقام مطلوباً في موضعين: الموضع الأول: حيث يكون تركه عجزاً ومهانة نفس. الموضع الثاني: حيث يترتب على العفو مفسدة تربي على مصلحة شراعاً أو سياسة معتبرة. انظر: بدائع السلك في طبائع الملك (1/ 470).
(2)
انظر: تفسير السعدي (760)، ومجموع الفوائد للسعدي (56).
(3)
انظر: شرح رياض الصالحين للعثيمين (3/ 14)، والقول المفيد شرح كتاب التوحيد للعثيمين (3/ 38).
ذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، وإلكيا الهراسي، وابن الفرس، ومحيي الدين شيخ زاده، وشهاب الدين الخفاجي
(1)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 511)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 178)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 469)، وحاشية زاده على البيضاوي (7/ 437)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (8/ 361).
سورة الفتح
فضيلة الخلفاء الراشدين ووجوب طاعتهم
.
قال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيد تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا (16)} (الفتح: 16).
397 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين، الداعين لجهاد أهل البأس من الناس، وأنه تجب طاعتهم في ذلك). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية فضيلة الخلفاء الراشدين، ووجوب طاعتهم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أمر المخلفين بالطاعة عند الدعوة إلى القتال، والخلفاء لا سيما أبي بكر وعمر رضي الله عنهما دعوا إلى القتال، فأبو بكر دعا إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعا إلى قتال فارس والروم، فدل على خلافتهما؛ إذ من لا يكون صحيح الخلافة لا تجب طاعته.
(1)
انظر: تفسير السعدي (793).
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الجصاص:(دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ لأن أبا بكر الصديق دعاهم إلى قتال بني حنيفة ودعاهم عمر إلى قتال فارس والروم، وقد ألزمهم الله إتباع طاعة من يدعوهم إليه بقوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} فأوعدهم الله على التخلف عمن دعاهم إلى قتال هؤلاء، فدل على صحة إمامتهما، إذ كان المتولي عن طاعتهما مستحقاً للعقاب)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: القصاب، وابن العربي، وإلكيا الهراسي، وابن الفرس، والرازي، والقرطبي، والطوفي.
(2)
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
.
398 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ}
(3)
إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 523).
(2)
انظر: نكت القرآن (4/ 160)، وأحكام القرآن لابن العربي (4/ 123)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 183)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3: /484)، والجامع لأحكام القرآن (16/ 231)، وحجج القرآن (66)، والإشارات الإلهية (3/ 258).
(3)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من الآية منها: مراعاة الكافر في حرمة المؤمن؛ إذ لا يمكن أذية الكافر إلا بأذية المؤمن، ومنها عدم جواز حرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى مسلمين. انظر: الجامع لأحكام القرآن (16/ 243)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 184).
أَلِيمًا (25)} يستدل بها على أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح
(1)
). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية، وهي أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله منع المؤمنين من القتال خشية أن يصيب المؤمنين أذى، فقتال الكفار مصلحة لأن فيه إعزاز للدين وأهله، وأذى المؤمنين المستضعفين مفسدة، فقدم هنا درء المفسدة على جلب المصلحة، فترك قتال الكفار مع أنه مصلحة، لدرء مفسدة قتل المؤمنين.
(1)
المراد بدرء المفاسد دفعها ورفعها وإزالتها، فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة أو مضرة ومنفعة، فرفع المفسدة يقدم؛ وذلك لأن اعتناء الشرع بترك المنهيات أشد من اعتناءه بفعل المأمورات، لما يترتب على فعل المناهي من الضرر المنافي لحكمة الشارع في النهي، فتحريم الخمر مثلاً مع أن فيها منافع لأهلها، لكن المضار الناتجة عنها أشد وأعظم، فمنعت لدرء المفسدة. انظر: موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (5/ 315).
(2)
انظر: مجموع الفوائد للسعدي (107).
سورة الحجرات
ختم الآية بهذين الاسمين للحث على الامتثال، والترهيب من عدمه
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} (الحجرات: 1).
399 -
قال السعدي رحمه الله: (وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ}
(1)
أي: لجميع الأصوات في جميع الأوقات، في خفي المواضع والجهات، {عَلِيمٌ} بالظواهر والبواطن، والسوابق واللواحق، والواجبات والمستحيلات والممكنات.
وفي ذكر الاسمين الكريمين -بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله، والأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة، والآداب المستحسنة، وترهيب عن عدم الامتثال). ا. هـ
(2)
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية منها: إن المكلف لا يقدِم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، ومنها: نفي القياس، وهو باطل فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدم بين يديه. انظر: أحكام القرآن للهراسي (4/ 185)، والتحرير والتنوير (26/ 216).
(2)
انظر: تفسير السعدي (799).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ختمها بهذين الاسمين العظيمين لله، وهما:"السميع"و"العليم"، وأن مناسبة ذلك هو الحث على امتثال الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك التقدم بين يديه، والترهيب من ترك امتثال ذلك، ووجه الترغيب والترهيب في ذلك أن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم، فإن كان امتثالاً لأمر الله فلكم الثواب، فكان ترغيباً، وإن كان تركاً للامتثال فلكم العقاب، فكان ترهيباً.
وقد أشار البقاعي إلى قريب من ذلك فقال: (ولما كان سبحانه مع كل بعلمه، وأقرب إليه من نفسه، فكان مع ذلك غيباً محضاً لكونه محتجباً برداء الكبر وإزار العظمة والقهر، وكان الإنسان لما غاب عنه نساء، ذكره مرهباً بقوله مستأنفاً أو معللاً مؤكداً تنبيهاً على ما في ذلك من الغرابة والعظمة التي يحق للإنسان مجاهدة نفسه لأجلها في الإيمان به والمواظبة على الاستمرار على استحضاره، لأن أفعال العاصي أفعال من ينكره: {إِنَّ اللَّهَ} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال، ولما كان ما يتقدم فيه إما قولاً أو فعلاً قال: {سَمِيعٌ} أي لأقوالكم أن تقولوها {عَلِيمٌ} أي بأعمالكم قبل أن تعملوها)
(1)
.
وقال ابن عاشور: (وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله، والسميع: العليم بالمسموعات، والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر)
(2)
.
(1)
انظر: نظم الدرر (7/ 222).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (26/ 219).
أموال البغاة معصومة
.
قال تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي شَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ (9)} (الحجرات: 9).
400 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هاتين الآيتين من الفوائد، غير ما تقدم: أن أموالهم معصومة
(1)
- أي البغاة-
(2)
؛ لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة، دون أموالهم). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن أموال البغاة معصومة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أباح قتالهم فقط، مما يدل على أن أموالهم معصومة.
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا المعنى، قال القاسمي:(وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم، وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية؛ لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم، وعصمة الأموال تابعة لدينهم، ولذا يجب رد ذلك إن أخذ منهم)
(4)
، وممن أشار إلى ذلك من
(1)
اتّفق الفقهاء على أنّ أموال البغاة لا تغنم، ولا تقسّم، ولا يجوز إتلافها، وإنّما يجب أن تردّ إليهم، لأنهم معصومون وإنما أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم وما عداه يبقى على أصل التحريم، ولكن ينبغي أن يحبس الإمام أموالهم دفعاً لشرّهم بكسر شوكتهم حتّى يتوبوا، فيردّها إليها لاندفاع الضّرورة. انظر: المغني لابن قدامة (12/ 254)، والموسوعة الفقهية الكويتية (8/ 142).
(2)
يقال في اللّغة: بغى على النّاس بغياً: أي ظلم واعتدى، فهو باغٍ والجمع بغاة، وبغى: سعى بالفساد، ومنه الفئة الباغية، وشرعاً: هم الخارجون من المسلمين عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأويل وفيهم منعة. انظر: المغني لابن قدامة (12/ 242)، والموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 104).
(3)
انظر: تفسير السعدي (801).
(4)
انظر: محاسن التأويل (8/ 429).
المفسرين أيضاً: الجصاص، ومحيي الدين شيخ زاده
(1)
.
معرفة الأنساب مطلوبة شرعاً
.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (13)} (الحجرات: 13).
401 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب، مطلوبة مشروعة، لأن الله جعلهم شعوبًا وقبائل، لأجل ذلك). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن معرفة الأنساب مطلوبة شرعاً، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله بين في الآية أنه جعل الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا بينهم، وهذا لا يتم إلا بمعرفة الأنساب، فدلت الآية على مشروعية تعلم الأنساب.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن الفرس:(وفي الآية دليل واضح على تعلم الأنساب)
(3)
، وقال الطوفي:(هذا أصل في مشروعية علم النسب)
(4)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: السيوطي، والقاسمي
(5)
.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 534)، وحاشية زاده على البيضاوي (7/ 645).
(2)
انظر: تفسير السعدي (801).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 501).
(4)
انظر: الإشارات الإلهية (3/ 271).
(5)
انظر: الإكليل (3/ 1199)، ومحاسن التأويل (8/ 442).
سورة الذاريات
مشروعية الضيافة
.
قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)} (الذاريات: 24).
402 -
قال السعدي رحمه الله: (فصل في ذكر بعض ما تضمنته هذه القصة-قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الملائكة- من الحكم والأحكام:
منها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن إبراهيم الخليل، الذي أمر الله هذا النبي وأمته، أن يتبعوا ملته، وساقها الله في هذا الموضع، على وجه المدح له والثناء). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مشروعية الضيافة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله ساقها على وجه المدح والثناء لإبراهيم، ونحن مأمورون بالاقتداء بإبراهيم، مما يدل على مشروعية ذلك.
(1)
انظر: تفسير السعدي (810)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (213).
وقد جاء في شريعتنا ما يؤيد هذا المعنى المستنبط ويؤكد عليه بل يحث عليه، وهو ما جاء في حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(. . . ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)
(1)
، والضيافة من آداب الإسلام وخلق النبيين والصالحين
(2)
.
وفائدة هذا الاستنباط تأكيد نقل الضيافة من كونها عادة إلى كونها عبادة؛ تأكيداً على هذا الخلق العظيم، وحثاً للناس عليه؛ إذ كونه عبادة سيكون حرص الناس على امتثاله أكثر ما لو كان مجرد عادة يستوي فيها الامتثال من عدمه.
بيت إبراهيم كان مأوى الأضياف دلالة على كرمه
.
قال تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)} (الذاريات: 25).
403 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الملائكة-: أن إبراهيم عليه السلام، قد كان بيته، مأوى للطارقين والأضياف، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن بيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه، ح (6136)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، ح (47).
(2)
انظر: شرح النووي على مسلم (2/ 16).
(3)
انظر: تفسير السعدي (810).
مأوى للأضياف، ووجه استنباط ذلك من الآية أن هؤلاء دخلوا البيت من غير استئذان، فدل على أن الداخل غير مستنكر في هذا البيت لأنه بيت كرم، فالأضياف يدخلونه باستمرار مما يسقط الاستئذان فيه، فهو مأوى للكل.
قال ابن القيم - موافقاً السعدي على هذا الاستنباط -: (قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أنه كان قد عرف بإكرام الضيفان واعتياد قراهم فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورده لا يحتاج إلى الاستئذان بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم)
(1)
المبادرة إلى الضيافة والإسراع بها
.
قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِلْمٍ سَمِينٍ (26)} (الذاريات: 26).
404 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الملائكة-: المبادرة إلى الضيافة والإسراع بها، لأن خير البر عاجله؛ ولهذا بادر إبراهيم بإحضار قرى أضيافه). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أدباً من آداب الضيافة وهو المبادرة والإسراع في إكرام الضيف وعدم التأخر عليه، ووجه استنباط ذلك من
(1)
انظر: بدائع التفسير (3/ 45).
(2)
انظر: تفسير السعدي (810)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (213).
الآية أن إبراهيم عجل بضيافة أضيافه ولم يتأخر عليهم، مما يدل على أن ذلك هو الأفضل في حق الضيف.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الألوسي:(وتشعر الفاء بأنه عليه السلام بادر بالذهاب ولم يمهل وقد ذكروا أن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يمنعه الضيف، أو يصير منتظراً)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، وأبوحيان، وابن كثير، والبيضاوي، وأبو السعود، والصاوي والشنقيطي.
(2)
الذبيحة التي أعدت لغير الضيف الحاضر إذا جعلت له ليس فيها إهانة
.
قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِلْمٍ سَمِينٍ (26)} (الذاريات: 26).
405 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الملائكة-: أن الذبيحة الحاضرة، التي قد أعدت لغير الضيف الحاضر إذا جعلت له، ليس فيها أقل إهانة، بل ذلك من الإكرام، كما فعل إبراهيم عليه السلام، وأخبر الله أن ضيفه مكرمون). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: روح المعاني (14/ 13).
(2)
انظر: التفسير الكبير (28/ 183)، والبحر المحيط (8/ 137)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 3307)، وأنوار التنزيل (3/ 323)، وإرشاد العقل السليم (6/ 137)، وحاشية الصاوي على الجلالين (5/ 347)، وأضواء البيان (3/ 30).
(3)
انظر: تفسير السعدي (810).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الذبيحة التي أعدت لغير الضيف الحاضر إذا جعلت له، فليس عليه فيها إهانة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن إبراهيم قدم لضيوفه عجلاً كان قد أعده قبل مجيئهم إليه، فدل على أن فعل مثل لا يعد منقصة في حق الضيف.
قال أبوحيان مشيراً إلى هذا الاستنباط: (وكونه عطف، "فجاء" على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرا، وأنه كان معداً عنده لمن يرد عليه، وقال في سورة هود: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] وهذا يدل أيضاً على أنه كان العجل سابقاً شيه قبل مجيئهم)
(1)
.
بينما خالف الألوسي في ذلك وقال ليس في الآية دلالة على ذلك بل إكرام الضيف يتمثل في صنع طعام جديد لا في الإتيان بطعام صنع من قبله، قال الألوسي:(واختلف في هذا العجل هل كان مهيئاً قبل مجيئهم أو أنه هيئ بعد أن جاؤوا؟ قولان اختار أبو حيان أولهما لدلالة السرعة بالإتيان به على ذلك، ويختار الفقير ثانيهما لأنه أزيد في العناية وأبلغ في الإكرام، وليست السرعة نصاً في الأول كما لا يخفى)
(2)
.
والذي يظهر والله أعلم أن الآية لا دلالة فيها على هذا الاستنباط؛ لعدم وجود ما يدل على أن العجل كان مهيئاً قبل مجيئهم، مما يجعل هذا الاستنباط من الآية فيه بعد. والله أعلم.
أما المعنى المستنبط فصحيح؛ إذ المقصود من الضيافة الإكرام وسد حاجة الضيف، وإشراكه في ذبيحة ذبحت قبل مجيئه يحقق المقصود، كما أن في خلاف ذلك إسراف، وليس في إطعامه طعاماً أعد لغيره إهانة له.
(1)
انظر: البحر المحيط (8/ 137).
(2)
انظر: روح المعاني (6/ 291) و (14/ 13).
خدمة المضيف أضيافه بنفسه
.
قال تعالى: {فَجَاءَ بِعِلْمٍ سَمِينٍ (26)} (الذاريات: 26).
406 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الملائكة-: أن إبراهيم، هو الذي خدم أضيافه، وهو خليل الرحمن، وكبير من ضيف الضيفان). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أدباً من آداب الضيافة وهو خدمة الضيف بنفسه دون غيره من الخدم، ووجه استنباط ذلك أن إبراهيم هو الذي خدم ضيوفه بنفسه فقرب إليهم العجل إليهم وهذا أبلغ في الإكرام.
قال ابن القيم: (قوله: {فَجَاءَ بِعِلْمٍ سَمِينٍ} دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر لهم، بل هو الذي ذهب وجاء بنفسه ولم يبعثه مع خادمه وهذا أبلغ في إكرام الضيف)
(2)
.
وهذا الأدب فيه تأديب لبعض النفوس التي داخلتها الأنفة في مثل ذلك، وتذكير بأصول الكرم الصحيحة، وأن خدمة الضيف ليس فيها مهانة حتى لو كان الضيف أقل مكانة، اقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
من أدب الضيافة نقل الطعام إلى الضيف لا نقل الضيف إلى الطعام
.
قال تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ (27)} (الذاريات: 27).
(1)
انظر: تفسير السعدي (811)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (213).
(2)
انظر: بدائع التفسير (3/ 46).
407 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الملائكة-: أنه قربه إليهم في المكان الذي هم فيه، ولم يجعله في موضع، ويقول لهم: " تفضلوا، أو ائتوا إليه " لأن هذا أيسر عليهم وأحسن). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أدباً من آداب الضيافة وهو جلب الطعام إلى الضيف، لا أن يُنقل الضيف إلى الطعام، ووجه استنباط ذلك من الآية أن إبراهيم قرب الطعام إلى أضيافه ولم يقربهم إلى الطعام؛ لأن ذلك أبلغ في الإكرام، مما يدل على هذا الأدب.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال ابن القيم:(أنه قربه ولم يقربهم إليه وهذا أبلغ في الكرامة أن يجلس الضيف ثم يُقرب الطعام إليه ويُحمل إلى حضرته ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك بأن يتقرب إليه)
(2)
وقال الألوسي: (وفيه دليل على أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل وأن لا يوضع الطعام بموضع ويدعى الضيف إليه)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، وأبوحيان، وابن كثير، والخازن، وابن عاشور، والشنقيطي
(4)
.
والذي يظهر والله أعلم أن هذا الأدب مرجعه العرف، فقد يكون العرف في إكرام الضيف تقريب الطعام إليه، وقد يكون في نقله إلى مكان الطعام كما هو الحاصل في زماننا؛ إذ نقل الطعام إلى الضيف في مكان
(1)
انظر: تفسير السعدي (811)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (213).
(2)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (3/ 46).
(3)
انظر: روح المعاني (14/ 13).
(4)
انظر: التفسير الكبير (28/ 184)، والبحر المحيط (8/ 137)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 3307)، ولباب التأويل (4/ 195)، والتحرير والتنوير (26/ 359)، وأضواء البيان (3/ 30).
الجلوس اليوم قد يكون فيه خلاف الإكرام؛ فمكان الجلوس غير مهيأ للأكل مما قد يجعل الضيف في ضيق وهذا ينافي الإكرام، قال العثيمين: (قوله تبارك وتعالى
عن إبراهيم: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)} ينبغي أن يجعل هذا حسب عادة الناس، إذا كان من الإكرام أن تأتي بالطعام إلى محل جلوسهم فأت به، وإذا كان من الإكرام أن تجعله في محل آخر فافعل)
(1)
.
حسن ملاطفة الضيف بالكلام
.
قال تعالى: {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)} (الذاريات: 27).
408 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الملائكة-: حسن ملاطفة الضيف في الكلام اللين، خصوصًا، عند تقديم الطعام إليه، فإن إبراهيم عرض عليهم عرضًا لطيفًا، وقال: {أَلَا تَأْكُلُونَ} ولم يقل: " كلوا " ونحوه من الألفاظ، التي غيرها أولى منها، بل أتى بأداة العرض، فقال: {أَلَا تَأْكُلُونَ} فينبغي للمقتدي به أن يستعمل من الألفاظ الحسنة، ما هو المناسب واللائق بالحال، كقوله لأضيافه: " ألا تأكلون " أو: "ألا تتفضلون علينا وتشرفوننا وتحسنون إلينا " ونحوه). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أدباً من آداب الضيافة وهو حسن ملاطفة الضيف بالكلام، ووجه استنباط ذلك من الآية أن إبراهيم عرض
(1)
انظر: تفسير القرآن الكريم جزء الذاريات للعثيمين (136).
(2)
انظر: تفسير السعدي (811)، وتيسير اللطيف المنان للسعدي (213).
على أضيافه الأكل من الطعام بلفظ فيه لين وأدب وهو استخدام العرض لا الأمر، ولا يخفى ما في هذا من التلطف مع الضيف.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال الشنقيطي في معرض كلامه عن الآداب المأخوذه من هذه القصة:(ملاطفته بالكلام بغاية الرفق، كقوله {أَلَا تَأْكُلُونَ})
(1)
، وقال العثيمين:(لم يقل كلوا إنما عرضه عليهم عرضاً؛ لأن هذا أبلغ في الإكرام، والعرض أخف وألطف من الأمر)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، والبيضاوي، والخازن، وابن عاشور.
(3)
تأمين الإنسان لمن خاف منه
.
قال تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ (28)} (الذاريات: 28).
409 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع الملائكة-: أن من خاف من الإنسان لسبب من الأسباب، فإن عليه أن يزيل عنه الخوف، ويذكر له ما يؤمن روعه، ويسكن جأشه، كما قالت الملائكة لإبراهيم لما خافهم: {لَا تَخَفْ} وأخبروه بتلك البشارة السارة، بعد الخوف منهم). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن من خاف من إنسان لسبب، فإن
(1)
انظر: أضواء البيان (3/ 30).
(2)
انظر: تفسير القرآن الكريم جزء الذاريات للعثيمين (134).
(3)
انظر: التفسير الكبير (28/ 184)، وأنوار التنزيل (3/ 323)، ولباب التأويل (4/ 195)، والتحرير والتنوير (26/ 360).
(4)
انظر: تفسير السعدي (811).
على الطرف المخوف منه إزالة الأسباب التي سببت الخوف منه؛ لإزالة روعة الطرف الخائف، ووجه استنباط ذلك من الآية هو الاقتداء بفعل الملائكة مع إبراهيم، حيث إنهم أمنوه لما خافهم، وأزالوا خوفه منهم، بأن أخبروه من هم، وماذا يريدون.
وهذا الاستنباط فيه تأصيل قرآني لهذا الخلق الرفيع وهو رفع الاستيحاش من قلوب الناس الذين تظن أنهم خافوا منك لسبب ما؛ وذلك بتوضيح الأمور التي من شأنها إزالة هذا الخوف، كأن يخبر الإنسان من هو، وما هدفه، وماذا يريد ونحو ذلك من الأمور التي تعرّف الناس به وتجعلهم يأمنون جانبه.
سورة الطور
ارتهان الإنسان بعمله يدفع توهم أن أهل النار يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم
.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} (الطور: 21).
410 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكماً واحداً، فإن النار دار العدل، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحداً إلا بذنب، ولهذا قال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد، هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ، وهي إزالة وهم أن أهل النار كأهل الجنة يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم.
(1)
انظر: تفسير السعدي (815).
قال ابن القيم موافقاً السعدي على هذا الاستنباط: (ثم أخبر سبحانه عن تكميل نعيمهم بإلحاق ذرياتهم بهم في الدرجة وإن لم يعملوا أعمالهم لتقر أعينهم بهم ويتم سرورهم وفرحهم وأخبر سبحانه أنه لم ينقص الآباء من عملهم من شيء بهذا الإلحاق فينزلهم من الدرجة العليا إلى الدرجة السفلى بل ألحق الأبناء بالآباء ووفر على الآباء أجورهم ودرجاتهم.
ثم أخبر سبحانه أن هذا إنما هو فعله في أهل الفضل وأما أهل العدل فلا يفعل بهم ذلك بل {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} ففي هذا دفع لتوهم التسوية بين الفريقين بهذا الإلحاق)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن كثير، والبقاعي، والهرري
(2)
.
(1)
انظر: التبيان في أقسام القرآن (243).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 3317)، ونظم الدرر (8/ 298)، وتفسير حدائق الروح والريحان (28/ 59).
سورة النجم
مناسبة القسم بالنجوم على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أن النجوم زينة السماء، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم زينة للأرض
.
قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (النجم: 1 - 4).
411 -
قال السعدي رحمه الله: (وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الإلهي، لأن في ذلك مناسبة عجيبة، فإن الله تعالى جعل النجوم زينة للسماء، فكذلك الوحي وآثاره زينة للأرض، فلولا العلم الموروث عن الأنبياء، لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة القسم بالنجوم على صحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن مناسبة ذلك هو جامع الزينة، فكما أن النجوم زينة للسماء، كذلك الوحي زينة للأرض.
(1)
انظر: تفسير السعدي (818).
وقد أشار بعض المفسرين إلى وجه آخر لهذه المناسبة، وهي أن المناسبة هي الاهتداء كما أن النجوم يُهتدى بها، كذلك الوحي يُهتدى به، فناسب الإقسام بالنجم هنا لجامع الاهتداء، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين: الرازي، وأبوالسعود، والألوسي
(1)
.
وأشار ابن القيم إلى وجه آخر في هذه المناسبة وهو أن النجوم آية من آيات الله التي حفظ الله بها وحيه من الشياطين، فناسب ذكرها هنا؛ إذ النجوم تحمي السماء من الشياطين، والوحي يحمي الأرض منها
(2)
.
وذهب ابن عاشور إلى معنى آخر لهذه المناسبة وهي أن مناسبة القسم بالنجم هنا هو التشابه في النزول، والإنارة، فكما أن النجوم الهاوية نازلة من أعلى وهي منيرة، كذلك الوحي نازل من أعلى وهو منير إنارة معنوية
(3)
.
والذي يظهر والله أعلم أن ما ذكر هو المناسبة، فالمناسبة هنا تضم جميع ما ذكر، وإنما ذكر بعض المفسرين ما ظهر له، فتزين المناسبة عندما تكتمل بذلك كله؛ إذ لا يوجد ما يرجح بعضها على بعض والمناسبة تحتمل اجتماع ذلك بل تزين المناسبة باجتماع ذلك كله. والله أعلم
جواز إهداء القرب للغير
.
قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} (النجم: 39).
412 -
قال السعدي رحمه الله: (وقد استدل بقوله تعالى: {وَأَنْ
(1)
انظر: التفسير الكبير (28/ 241)، وإرشاد العقل السليم (6/ 152)، وروح المعاني (14/ 45).
(2)
انظر: التبيان في أقسام القرآن (217).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (27/ 91).
لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} من يرى أن القُرَب لا يفيد إهداؤها للأحياء ولا للأموات
(1)
قالوا لأن الله قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك، وفي هذا الاستدلال نظر، فإن الآية إنما تدل على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه، وهذا حق لا خلاف فيه، وليس فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره، إذا أهداه ذلك الغير له، كما أنه ليس للإنسان من المال إلا ما هو في ملكه وتحت يده، ولا يلزم من ذلك، أن لا يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن القرب لا يفيد إهداؤها إلى الغير، ووجه استنباطهم ذلك من الآية أن الأعمال المهداة ليست من سعيه، وما ليس من سعيه لا ينفعه لظاهر الآية، قال ابن كثير:(ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي، رحمه الله، ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري، وابن الفرس، والرازي، وأبوحيان، وأبوالسعود
(4)
.
(1)
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن القرب يجوز إهداؤها إلى الغير ويصل ثوابها إليه، وهو مذهب أحمد، وأبوحنيفة، وبعض أصحاب الشافعي، وجمهور السلف، القول الثاني: أن القرب لا يجوز إهداؤها إلى الغير ولا يصل ثوابها إليه، وهو المشهور من مذهب الشافعي، ومالك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه، ثم ذكر واحد وعشرين وجهاً مما يؤيد جواز إهداء القرب إلى الغير. انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 513)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 33)، والروح لابن القيم (297)، والإشارات الإلهية (3/ 298)، وتفسير حدائق الروح والريحان (28/ 165)، وحاشية الجمل على الجلالين (7/ 332).
(2)
انظر: تفسير السعدي (818).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 3343).
(4)
انظر: الكشاف (1063)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 513)، والتفسير الكبير (29/ 14)، والبحر المحيط (8/ 164)، وإرشاد العقل السليم (6/ 161).
وقد أجاب المفسرون الذين يرون جواز إهداء القرب إلى الغير عن هذا الاستنباط، وقالوا لا دلالة في الآية على عدم جواز إهداء القرب إلى الغير، وقد تنوعت إجاباتهم عن هذا الاستنباط
(1)
، وأحسن ما قيل فيها ما قاله السعدي هنا، من أن الآية لا دلالة فيها على نفي انتفاعه بسعي الغير، مما يجعل استنباط عدم جواز إهداء القرب من الآية غير وجيه، وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الرد، قال الشنقيطي:(قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} قد دلت اللام فيه على أنه لا يستحق ولا يملك شيئاً إلا بسعيه، ولم تتعرض لنفي الانتفاع بما ليس ملكاً له ولا مستحقاً له)
(2)
، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ما يعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة واتفاق الأئمة وكذلك العتق والحج ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} لوجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه كدعاء الملائكة واستغفارهم له، ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم له، وكدعاء المصلين للميت ولمن زاروا قبره من المؤمنين.
الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه وهذا حق فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه وأما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم)
(3)
، وممن أشار إلى ذلك
من المفسرين أيضاً: القرطبي، والطوفي، ومحيي الدين شيخ زاده، والجمل،
(1)
قيل إنها تختص بشرع من قبلنا، وقيل إنها مخصوصة، وقيل إنها منسوخة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد إيراده هذه الأجوبة:(ولا يحتاج إلى شيء من ذلك، بل ظاهر الآية حق لا يخالف بقية النصوص،. . . لكن هذا لا يمنع أن ينتفع بسعي غيره، كما ينتفع الرجل بكسب غيره). انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (24/ 312).
(2)
انظر: أضواء البيان (7/ 709).
(3)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (7/ 498).
والصاوي، وصديق حسن خان، والهرري
(1)
.
والحق ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه من الآية لا دلالة فيها على نفي الانتفاع من سعي الغير؛ إذ أن سعيه لنفسه لا يتنافى مع انتفاعه من سعي غيره له. والله أعلم.
(1)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (17/ 101)، والإشارات الإلهية (3/ 299)، وحاشية زاده على البيضاوي (8/ 24)، وحاشية الجمل على الجلالين (7/ 332)، وحاشية الصاوي على الجلالين (6/ 22)، وفتح البيان (6/ 464)، وتفسير حدائق الروح والريحان (28/ 166).
سورة القمر
سهولة ويسر اليوم الآخر على المؤمنين
.
قال تعالى: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَرَضٌ (8)} (القمر: 8).
413 -
قال السعدي رحمه الله: ({يَقُولُ الْكَافِرُونَ} الذين قد حضر عذابهم: {هَذَا يَوْمٌ عَرَضٌ} كما قال تعالى {عَلَى الْكَافِرِينَ غَنَمُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر: 10] مفهوم ذلك أنه يسير سهل على المؤمنين). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن اليوم الآخر يوم يسير على المؤمنين، ووجه استنباط ذلك من الآية بمفهوم المخالفة- مفهوم الصفة -، حيث إنه وصف العسر للكافرين فدل مفهوم المخالفة أنه يسر على المؤمنين.
قال ابن عباس: لما قال إنه غير يسير على الكافرين، كان يسيراً على المؤمنين
(2)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (825) و (896).
(2)
انظر: التفسير الكبير (30/ 174)، ولم أجد غير الرازي نسب هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الألوسي:(وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأنه على المؤمنين ليس كذلك)
(1)
، وقال الجزائري:(كما قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَنَمُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر: 9 - 10] مفهومه أنه على المؤمنين يسير)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري، والرازي، والبيضاوي، وأبو السعود، والشوكاني، والخازن، والشنقيطي
(3)
.
وهذا الاستنباط بشارة يسعد بها كل مؤمن؛ إذ اليوم الآخر يوم تكثر فيه الأهوال فكون المؤمن ناج من ذلك فهي بشارة، كما أن فيه حث على العمل الصالح، فإذا كان المؤمن هو الناجي من عسر ذلك اليوم كان دافعاً لكل عاقل أن يبذل ما يجعله من أهل النجاة واليسر في ذلك اليوم.
تكرار الآية رحمة بالعباد حيث دعاهم إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم
.
قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)} (القمر: 22).
414 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} كرر تعالى ذلك رحمة بعباده وعناية بهم، حيث دعاهم إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم). ا. هـ
(4)
(1)
انظر: روح المعاني (14/ 80).
(2)
انظر: أيسر التفاسير (5/ 207).
(3)
انظر: الكشاف (1155)، والتفسير الكبير (30/ 174)، وأنوار التنزيل (3/ 466)، وإرشاد العقل السليم (6/ 166)، ولباب التأويل (4/ 219)، وفتح القدير (5/ 173)، وأضواء البيان (8/ 620).
(4)
انظر: تفسير السعدي (826).
الدراسة:
استنبط السعدي سبب تكرار قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وأن ذلك رحمة بالعباد، حيث دعاهم وكرر الدعوة لهم إلى ما فيه صلاح دنياهم وأخراهم وهو تدبر القرآن الكريم والعناية به.
وقد ذكر بعض المفسرين وجهاً آخر لتكرير هذه الآية وهو أنها ذكرت خلف أربع قصص فمناسبة التكرار هو تجدد الاعتبار؛ إذ في كل قصة ما يستدعي العبرة بما فيها دون غيرها من القصص، فاستدعى ذلك تكرار الدعوة إلى الاعتبار، قال أبو السعود:(جملة قسمية وردتْ في أواخر القصصِ الأربع تقريراً لمضمون ما سبق وتنبيهاً على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكارِ كافية في الازدجار)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً: الكرماني، والزمخشري، وأبوحيان، وابن جزي الكلبي، والألوسي
(2)
.
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم (6/ 168).
(2)
انظر: أسرار التكرار للكرماني (197)، والكشاف (1067)، والبحر المحيط (8/ 180)، والتسهيل لعلوم التنزيل (2/ 389)، وروح المعاني (14/ 83).
سورة الرحمن
التخويف للعباد مما هم قادمون عليه نعمة
.
قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)} (الرحمن: 35 - 36).
415 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان تخويفه لعباده نعمة منه عليهم، وسوطاً يسوقهم به إلى أعلى المطالب وأشرف المواهب، امتن عليهم فقال: {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)}). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة ذكر امتنان الله على عباده بعد ذكره النار؛ إذ المتبادر أنه لا امتنان في ذلك، وبين أن مناسبة هو الزجر والردع وأن ذلك من أكبر نعم الله على عباده.
وقد وافق بعض المفسرين السعدي على هذا الاستنباط، قال البيضاوي:(فإن التهديد لطف)
(2)
، وكان التهديد لطفاً؛ لأن به ينزجر الشخص عن المعاصي فيفوز بالنعيم المقيم فبهذا الاعتبار كان من
(1)
انظر: تفسير السعدي (829).
(2)
انظر: أنوار التنزيل (3/ 356).
الآلاء
(1)
، وقال الشوكاني:({فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)} فإن من جملتها هذا الوعيد الذي يكون به الانزجار عن الشرّ، والرغوب في الخير)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: أبو السعود، والبقاعي، وحقي، والألوسي.
(3)
(1)
انظر: حاشية الشهاب على البيضاوي (9/ 55).
(2)
انظر: فتح القدير (5/ 195).
(3)
انظر: إرشاد العقل السليم (6/ 179)، ونظم الدرر (7/ 389)، وروح البيان (9/ 300)، وروح المعاني (14/ 112).
سورة الواقعة
خص الله المسافرين بالذكر لأنهم أكثر انتفاعاً من غيرهم
.
قال تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} (الواقعة: 73).
416 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أي: المنتفعين أو المسافرين وخص الله المسافرين لأن نفع المسافر بذلك أعظم من غيره، ولعل السبب في ذلك، لأن الدنيا كلها دار سفر، والعبد من حين ولد فهو مسافر إلى ربه، فهذه النار، جعلها الله متاعاً للمسافرين في هذه الدار، وتذكرة لهم بدار القرار). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص المسافرين بالذكر من بين المنتفعين، وأن مناسبة ذلك هو كون المسافر أكثر انتفاعاً بذلك من غيره؛ ولأن الدنيا دار سفر، فالعبد مسافر إلى ربه، فخص السفر ليتنبه العبد فلا يغفل.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال أبو
(1)
انظر: تفسير السعدي (835).
السعود: (وتخصيصُهم بذلك لأنهم أحوجُ إليها)
(1)
، وقال القرطبي:(وخص المسافر بالانتفاع بها لان انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم، لأن أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلاً لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم)
(2)
، وقال ابن القيم:(وهم المسافرون يقال أقوى الرجل إذا نزل بالقي والقوى وهي الأرض الخالية وخص المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهاً لعباده والله أعلم بمراده من كلامه على أنهم كلهم مسافرون وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر)
(3)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الخازن، ومحيي الدين شيخ زاده، والألوسي، وحقي، والجمل، وابن عاشور
(4)
.
وهذا الاستنباط فيه كذلك الحث على الاهتمام بأمر الآخرة وتقديمه على غيره من الأمور الدنيوية، فالإنسان مهما طالت حياته فهو مسافر إلى الآخرة، ولأجل هذا قدم التذكرة على المتاع، قال الرازي:(وفيه لطيفة: وهو أنه تعالى قدم كونها تذكرة على كونها متاعاً ليعلم أن الفائدة الأخروية أتم وبالذكر أهم)
(5)
.
لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر
.
قال تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (الواقعة: 79).
(1)
انظر: إرشاد العقل السليم (6/ 194).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (17/ 191).
(3)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (3/ 114).
(4)
انظر: لباب التأويل (4/ 241)، وحاشية زاده على البيضاوي (8/ 95)، وروح المعاني (14/ 149)، وروح البيان (9/ 334)، وحاشية الجمل على الحلالين (7/ 402)، والتحرير والتنوير (27/ 327).
(5)
انظر: التفسير الكبير (29/ 161).
417 -
قال السعدي رحمه الله: ({لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أي: لا يمس القرآن إلا الملائكة الكرام، الذين طهرهم الله تعالى من الآفات، والذنوب والعيوب، وإذا كان لا يمسه إلا المطهرون، وأن أهل الخبث والشياطين، لا استطاعة لهم، ولا يدان إلى مسه، دلت الآية
(1)
بتنبيهها على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر
(2)
، كما ورد بذلك الحديث
(3)
، ولهذا قيل أن الآية خبر بمعنى النهي أي: لا يمس القرآن إلا
(1)
هناك بعض المفسرين أشاروا إلى دلالة الآية على عدم جواز مس القرآن للمحدث؛ ولكن هذا الاستدلال لا يعتبر استنباطاً لأن دلالة الآية عليه ظاهرة، وذلك بأنهم فسروا الكتاب بالمصحف فتكون دلالة الآية عليه واضحة، وهذا على القول بصحة هذا التفسير، مع أن الصحيح أن هذا القول مرجوح، بل قال بعضهم إنه ضعيف وممن قاله: ابن جزي الكلبي، والصاوي، والعثيمين، وأكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، وهو اختيار السعدي. انظر: زاد المسير (1392)، والنكت والعيون (5/ 464)، والتسهيل لعلوم التنزيل (2/ 405)، وحاشية الصاوي على الجلالين (6/ 57)، وتفسير السعدي (836)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين جزء الذاريات (348).
(2)
لم يختلف فقهاء الأمصار بالمدينة، والعراق، والشام، أن المصحف لا يمسه إلا الطاهر على وضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبي عبيد وهؤلاء أئمة الفقه والحديث في أعصارهم، وروي ذلك عن: سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وطاوس والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وعطاء، قال إسحاق بن راهويه: لا يقرأ أحد في المصحف إلا وهو متوضئ، وهناك من قال إنه يجوز مس المصحف للمحدث، وهذا منقول عن أبي حنيفة، والحكم، وحماد، والقول الأول هو قو أكثر الفقهاء. انظر: التمهيد لابن عبدالبر (17/ 397)، ومعالم التنزيل (4/ 236)، والجامع لأحكام القرآن (17/ 195) ..
(3)
أراد بذلك كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزام، وكان فيه:(ألا يمس القرآن إلا طاهر). أخرجه مالك في الموطأ، كتاب القرآن، باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن، ح (471)، وعبدالرزاق في مصنفه (1/ 342)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 242) ح (13217)، والدارقطني في سننه باب في نهي المحدث عن مس القرآن (1/ 218) ح (437)، وقال العظيم الأبادي في تعليقه على الدارقطني: مرسل رواته ثقات، انطر التعليق المغني (1/ 121)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب نهي المحدث عن مس المصحف (1/ 141) ح (408).
قال ابن عبد البر: (لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث بهذا الإسناد وقد روي مسنداً من وجه صالح وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة). انظر: التمهيد لابن عبدالبر (17/ 338). وقال ابن كثير: (ومثل هذا ينبغي الأخذ به) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (7/ 3410)، وقال الألباني: صحيح. انظر: الإرواء (1/ 158).
طاهر). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، ووجه استنباط ذلك من الآية أنه يجب أن لا يمسه بنو آدم إلا وهم طاهرون كالملائكة المطهرين
(2)
، فالاستنباط هنا بمفهوم الموافقة وذلك إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا طاهر فكذلك القرآن لا يمسه إلا طاهر.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط شيخ الإسلام ابن تيمية نقل ذلك عنه تلميذه ابن القيم فقال: (وسمعت شيخ الإسلام يقرر الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسه المحدث بوجه آخر فقال هذا من باب التنبيه والإشارة إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر)
(3)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، وإلكيا الهراسي، والسيوطي، وابن عاشور
(4)
.
وقد أشار الرازي إلى وجه آخر لاستنباط هذا الحكم من هذه الآية
(1)
انظر: تفسير السعدي (836).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 518).
(3)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (3/ 119).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 555)، وأحكام القرآن للهراسي (4/ 195)، والإكليل (3/ 1231)، والتحرير والتنوير (27/ 335).
فقال: (إذا كان الأصح أن المراد من الكتاب اللوح المحفوظ، فالصحيح أن الضمير في {لَا يَمَسُّهُ} للكتاب، فكيف يصح قول الشافعي رحمة الله تعالى عليه: لا يجوز مس المصحف للمحدث، نقول: أخذه من الآية على طريق الاستنباط، وقال: إن المس بطهر صفة من الصفات الدالة على التعظيم والمس بغير طهور نوع إهانة في المعنى، وذلك لأن الأضداد ينبغي أن تقابل بالأضداد، فالمس بالمطهر في مقابلة المس على غير طهر، وترك المس خروج عن كل واحدة منهما فكذلك الإكرام في مقابلة الإهانة وهناك شيء لا إكرام ولا إهانة فنقول: إن من لا يمس المصحف لا يكون مكرماً ولا مهيناً وبترك المس خرج عن الضدين ففي المس عن الطهر التعظيم، وفي المس على الحدث الإهانة فلا تجوز وهو معنى دقيق يليق بالشافعي رحمه الله ومن يقرب منه في الدرجة)
(1)
.
(1)
انظر: تفسير الكبير (29/ 168).
سورة الحديد
الوعد بالحسنى للفاضل والمفضول يدفع توهم نقص المفضول
.
قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى (10)} (الحديد: 10).
418 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي: الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، كلهم وعده الله الجنة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الإشراك في الوعد بالحسنى بين المنفقين، سواء من أنفق قبل الفتح أو أنفق بعده، وأن مناسبة ذلك هو دفع توهم نقص من أنفق بعد الفتح، فإنه وإن كان مفضولاً، لكن ذلك لا يكون موجباً للقدح فيه.
(1)
انظر: تفسير السعدي (839).
وقد أشار بعض المفسرين إلى نحو ما قاله السعدي، قال ابن كثير:(وإنما نَبَّه بهذا لئلا يُهدرَ جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه؛ فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه)
(1)
، وقال العثيمين:(ولكن لما كان تفضيل السابقين قد يفهم منه أن لا فضل للاحقين قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى})
(2)
، وممن أشار إليه كذلك سيد طنطاوي
(3)
.
وأشار البقاعي إلى وجه آخر للمناسبة فقال: (ولما كان التفضيل مفهماً اشتراك الكل في الفضل، صرح به ترغيباً في الإنفاق على كل حال)
(4)
.
وذهب ابن عاشور إلى معنى آخر لهذه المناسبة، فقال:(وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} احتراس من أن يتوهم متوهم أن اسم التفضيل مسلوب المفاضلة)
(5)
.
وهذه المناسبات تحتملها الآية ما عدا اختيار ابن عاشور، فقد يكون لدفع توهم نقص من أنفق بعد الفتح، وقد يكون للحث على الإنفاق قبل وبعد لئلا يتوقف الناس عنه؛ خشية عدم الأجر فيه.
أما قول ابن عاشور أن ذلك للاحتراس من توهم أن اسم التفضيل مسلوب المفاضلة؛ فهذا فيه بعد؛ إذ السياق والمعنى يدفعان هذا التوهم؛ فيكون دفع توهم تنقص من أنفق بعد الفتح هو الأظهر. والله أعلم.
(1)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 3431).
(2)
انظر: تفسير القرآن الكريم للعثيمين (جزء الذاريات)(384).
(3)
انظر: التفسير الوسيط للقرآن د. محمد طنطاوي (14/ 206).
(4)
انظر: نظم الدرر (7/ 442).
(5)
انظر: التحرير والتنوير (27/ 376).
قرن بين الكتاب والحديد؛ لأنه بهذين الأمرين ينصر دينه
.
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (25)} (الحديد: 25).
419 -
قال السعدي رحمه الله: (وقرن تعالى في هذا الموضع بين الكتاب والحديد، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه، ويعلي كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن الله، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله، وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الجمع بين الكتاب والحديد في هذه الآية، وأن مناسبة ذلك هو أن النصر لهذا الدين يكون بالأمرين فالكتاب حجة وبيان، والسيف جهاد لمن حارب الله ورسوله.
وقد أشار بعض المفسرين إلى ما قاله السعدي، قال الطوفي:(وفي الآية إشارة إلى أن كتاب الشريعة، وسيف السياسة رضيعا لبان، وفرسا رهان، لا يستغني أحدهما عن الآخر، فكتاب بلا سيف كال، وسيف بلا كتاب ضال)
(2)
، وقال الشهاب- في معرض ذكره لمناسبة الجمع بين الكتاب، والحديد-: (بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينالوا السعادة في
(1)
انظر: تفسير السعدي (842).
(2)
انظر: الإشارات الإلهية (3/ 323).
الأخرى، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، ومن تمرد وطغا وقسا يضرب بالحديد الراد لكل مريد)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الألوسي، والشنقيطي، والهرري
(2)
.
وذكر الرازي أوجهاً لهذه المناسبة
(3)
؛ ولكن الأوجه التي ذكرها فيها تكلف وبعد من المناسبة الوجيهة في الجمع.
استخراج منافع الحديد مأمور بها شرعاً
.
قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (25)} (الحديد: 25).
420 -
قال السعدي رحمه الله: (وأخبر تعالى أنه أنزل الحديد
(4)
، فيه بأس شديد ومنافع للناس، فخص منافعه في أمور الحرب ثم عممها في سائر الأمور ; فالحديد أنزله الله لهذه المنافع الضرورية والكمالية،
(1)
انظر: حاشية الشهاب على البيضاوي (9/ 106).
(2)
انظر: روح المعاني (14/ 188)، وأضواء البيان (7/ 815)، وتفسير حدائق الروح والريحان (28/ 494).
(3)
انظر: تفسير الكبير (29/ 210).
(4)
إنزال الحديد معجزة قرآنية، قال العالم (استروخ) أشهر علماء وكالة ناسا الأمريكية للفضاء:(لقد أجرينا أبحاثاً كثيرة على معادن الأرض، ولكن المعدن الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد، ذرات الحديد لها تكوين متميز. . . إن الإلكترونات والنيوترونات في ذرة الحديد لكي تتحد فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربع مرات مجموع الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية، ولذلك لا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض، ولا بد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض). انظر: الموسوعة الذهبية في الإعجاز لأحمد متولي (260)
الخاصة والعامة، فجميع الأشياء إلا النادر منها تحتاج إلى الحديد ; وقد ساقها الله في سياق الامتنان على العباد بها، ومقتضى ذلك الأمر باستخراج هذه المنافع بكل وسيلة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية الأمر باستخراج منافع الحديد، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله بين فيها أن للحديد منافع وساقها على وجه الامتنان، وهذا يلزم منه معرفة هذه المنافع واستخراجها، فدلالة الآية على ذلك دلالة التزام.
وهذا الاستنباط فيه إشارة إلى تأصيل قرآني لأهمية دراسة الحديد وما فيه من منافع، ومن ثم استخراجها ودلالة الناس عليها، وكان الناس في الزمن الغابر يستفيدون من منافع الحديد الظاهرة، ولكن عند إقامة مراكز أبحاث متطورة اكتشف من منافع الحديد ما يليق بامتنان الله به على العباد، وكان نتاج هذه الدراسات توسيع نطاق الانتفاع بالحديد، بل ومعرفة منافعه ليس في الصناعات فقط بل حتى في الأرض وتوازنها حتى أصبح الحديد العمود الفقري للمنشآت الهندسية وللحضارة، وتشير كل المؤشرات الجيولوجية إلى أنه سيظل كذلك
(2)
، ويؤكد علماء الجيولوجياء أن معدن الحديد يشكل حوالي 35% من تكوين الأرض، كما أن الحديد يحفظ توازن الأرض وذلك أنه أكثر المعادن ثباتاً وكثافة، وعلى الرغم من هذه المزايا التي تميز معدن الحديد عن غيره من المعادن إلا أن العلماء لم يتوصلوا إلى الأهمية الصناعية لمعدن الحديد إلا خلال القرن الثامن عشر أي بعد نزول القرآن الكريم باثني عشر قرناً، حيث اكتشف العلماء صناعة الحديد واكتشفوا أسهل الوسائل لإخراج معدن الحديد ودخل الحديد في جميع
(1)
انظر: الدلائل القرآنية للسعدي (280).
(2)
انظر: الموسوعة الذهبية في الإعجاز لأحمد متولي (261)
المجالات الصناعية كأساس لها، فهو يستخدم كأنسب معدن لصناعة الأسلحة وأساس لجميع الصناعات الثقيلة والخفيفة أيضا
(1)
.
وكل ما تقدم من منافع الحديد لم يكن ليُكتشف لولا دراسة هذه المنافع والأخذ بها، وهذا ما استنبطه السعدي من هذه الآية.
(1)
انظر: من آيات الإعجاز العلمي في القرآن د. زغلول النجار (87)، ومقال إلكتروني في موقع ملتقى المهندسين العرب عن الحديد.
سورة المجادلة
الظهار مختص بتحريم الزوجة دون الأمة
.
قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ (2)} (المجادلة: 2).
421 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآيات، عدة أحكام:
ومنها: أن الظهار
(1)
مختص بتحريم الزوجة
(2)
، لأن الله قال {مِنْ
(1)
الظهار لغة: مشتق من الظهر وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء لأن كل مركوب يسمى ظهراً لحصول الركوب على ظهره في الأغلب.
شرعاً: تشبيه المسلم زوجته أو تشبيه جزء شائع منها بعضو يحرم النظر إليه من أعضاء امرأة محرمة عليه نسباً، أو مصاهرة، أو رضاعاً. انظر: المغني (11/ 54)، والموسوعة الفقهية الكويتية (12/ 20).
(2)
اختلف العلماء فيمن قال لأمته: أنت عَلَيَّ كظهر أمي، أو قال ذلك لأم ولده، فقال بعض أهل العلم: لا يصح الظهار من المملوكة، وهو مروي عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، وربيعة، والأوزاعي، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد، وقال بعضهم: يصح الظهار من الأمة أم ولد كانت أو غيرها، وهو مذهب مالك وهو مروي أيضاً عن الحسن، وعكرمة والنخعي، وعمرو بن دينار، وسليمان بن يسار، والزهري، والحكم، والثوري، وقتادة، وهو رواية عن أحمد، وعن الحسن، والأوزاعي: إن كان يطؤها فهو ظهار، وإلا فلا. وعن عطاء: إن ظاهر من أمته، فعليه نصف كفارة الظهار من الحرة. انظر: المغني (11/ 67).
نِسَائِهِمْ} فلو حرم أمته، لم يكن ذلك ظهاراً، بل هو من جنس تحريم الطعام والشراب، تجب فيه كفارة اليمين فقط). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الظهار خاص بالزوجة دون الأمة، ووجه استنباط ذلك من الآية أن التحريم خاص بالنساء وهن الزوجات هنا، فدل مفهومه أن غير الزوجة كالأمة ليس داخلاً في هذا الحكم.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الشنقيطي:(ونحن نقول: إن آية الظهار تدل بفحواها على أن تحريم الزوجة ظهار، لأن أنت عليَّ كظهر أمي، وأنت عليَّ حرام معناهما واحد كما لا يخفى، وعلى هذا الذي ذكرنا فلا يصح الظهار من الأمة، وإنما يلزم في تحريمها بظهار، أو بصريح التحريم كفارة يمين أو الاستغفار كما تقدم، وهذا أقرب لظاهر القرآن)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، والرازي، وحقي، والهرري
(3)
.
المخالفون:
خالف في هذا الاستنباط بعض المفسرين، وقالوا إن العموم دال على أن الأمة كالزوجة يصح الظهار منها، قال ابن العربي المالكي في قول مالك وأصحابه: بصحة الظهار من الأمة: (وهي مسألة عسيرة جداً علينا، لأن مالكاً يقول: إذا قال لأمته أنت علي حرام لم يلزم، فكيف يبطل فيها
(1)
انظر: تفسير السعدي (845).
(2)
انظر: أضواء البيان (6/ 531).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 465)، والتفسير الكبير (29/ 221)، وروح البيان (9/ 389)، وتفسير حدائق الروح والريحان (29/ 19).
صريح التحريم ويصحح كنايته، ولكن تدخل الأمة في عموم قوله تعالى:{مِنْ نِسَائِهِمْ} ، لأنه أراد من محللاتهم، والمعنى فيه: أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد، فصح في الأمة أصله الحلف بالله تعالى)
(1)
، وممن قال به من المفسرين أيضاً: القصاب، وابن الفرس
(2)
.
النتيجة:
والصحيح ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه من استنباط عدم دخول الأمة في الظهار، وأن ذلك مختص بالزوجة فقط، ومما يؤيد هذا الاستنباط أن الأصل بقاء الحل، فلا ينقل عن الأصل إلا بدليل واضح، قال الجصاص:(قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وهذا اللفظ ينصرف من الظهار إلى الحرائر دون الإماء، والدليل عليه قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (النور: 31) فكان المفهوم من قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} الحرائر، لولا ذلك لما صح عطف قوله:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} عليه؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وقال - تعالى -:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، فكان على الزوجات دون ملك اليمين فلما كان حكم الظهار مأخوذاً من الآية، وكان مقتضاها مقصوراً على الزوجات دون ملك اليمين، لم يجز إيجابه في ملك اليمين، إذ لا مدخل للقياس في إثبات ظهار في غير ما ورد فيه)
(3)
.
لا يصح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها
.
قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ (2)} (المجادلة: 2).
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/ 171).
(2)
انظر: نكت القرآن (4/ 247)، وأحكام القرآن لابن الفرس (3/ 525).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 465).
422 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الأحكام التي تدل عليها الآية-: أنه لا يصح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها
(1)
، لأنها لا تدخل في نسائه وقت الظهار). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه لا يصح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله بين أن الظهار من الزوجة، ومن لم تكن زوجه فليست داخلة في الحكم؛ لأن مفهوم القيد في قوله {مِنْ نِسَائِهِمْ} ، يخرج غير النساء فلا يدخلن في الظهار.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال السيوطي في بيان ما تتضمنه هذه الآية من أحكام:(وفيها أنه خاص بالزوجات دون الأجنبيات)
(3)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، وقالوا إن الآية عامة في الظهار، فمن ظاهر من امرأة ولو قبل الزواج منها، فإنه يقع عند زواجه منها، قال ابن الفرس-في معرض ذكره للخلاف في الظهار قبل
(1)
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: إن الظهار من الأجنبية يصح، وهو مذهب مالك، وروي عن سعيد بن المسيب، وعروة، وعطاء، والحسن، وإسحاق، وأحمد بن حنبل. القول الثاني: إن الظهار من الأجنبية لا يصح، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وقال به الثوري، ومروي عن ابن عباس. انظر: المغني (11/ 75)، والجامع لأحكام القرآن (17/ 234)، والاستذكار لابن عبدالبر (موسوعة شروح الموطأ)(14/ 584).
(2)
انظر: تفسير السعدي (845).
(3)
انظر: الإكليل (3/ 1235).
النكاح-: (ودليل ما في المذهب - أي مذهب مالك- عموم الآية ولم يخصص قبل النكاح أوبعده)
(1)
، وممن قال به من المفسرين أيضاً: ابن العربي،
والشنقيطي
(2)
.
النتيجة:
ما استنبطه السعدي من هذه الآية من عدم صحة الظهار من المرأة الأجنبية، مرجوح، وذلك أن القيد في الآية خرج مخرج الغالب، وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له
(3)
؛ فلا يستقيم حينئذ استنباط السعدي.
وبناء على ذلك فالقول الآخر القائل بصحة الظهار من قبل المرأة الأجنبية هوالصحيح، يؤيده عموم الآية، وكذلك ما جاء عن عمر رضي الله عنه:(أنه قال في رجل قال: إن تزوجت فلانه، فهي عليّ كظهر أمي، فتزوجها، قال: عليه كفارة الظهار)
(4)
؛ ولأنها يمين فصح انعقادها قبل النكاح
(5)
.
يكره نداء الزوجة باسم المحارم
.
قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِن اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)} (المجادلة: 2).
423 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الأحكام التي
(1)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (3/ 526).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/ 172)، وأضواء البيان (6/ 539).
(3)
انظر: المغني لابن قدامة (11/ 76).
(4)
رواه مالك في الموطأ، كتاب الطلاق، باب ظهار الحر، ح (1217).
(5)
انظر: المغني لابن قدامة (11/ 76).
تدل عليها الآية: أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويسميها باسم محارمه
(1)
،
كقوله "يا أمي""يا أختي" ونحوه، لأن ذلك يشبه المحرم). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية تحريم نداء الزوجة بأسماء المحرمات، كأن يناديها "يا أمي"، ووجه استنباط ذلك من الآية أنه مظنة التحريم فكان البعد عنه أولى.
والذي يظهر والله أعلم أن استنباط هذه الكراهة من الآية غير متجه؛ وذلك لاختلاف المقاصد؛ فمن كان يقوله لأجل إرادة الظهار فلا شك في تحريمه ليس في كراهته فقط، وأما قول ذلك دون أن يكون له قصد الظهار فلا دلالة على كراهته، قال البخاري:(باب إذا قال لامرأته وهو مكره: هذه أختي، فلا شيء عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال إبراهيم لسارة هذه أختي، وذلك في ذات الله)
(3)
، قال ابن بطال: أراد بذلك رد من كره أن يقول لامرأته يا أختي
(4)
، وقال ابن القيم - في تعليقه على حديث إبراهيم مع سارة وقوله لها إنها أختي-: (وفيه دليل على أن من قال لامرأته: إنها
(1)
قال الخطابي في المعالم: إنما كره ذلك من أجل أنه مظنة للتحريم، وذلك أن من قال لامرأته أنت كأختي وأراد به الظهار كان مظاهراً كما يقول أنت كأمي، وكذلك هذا في كل امرأة من ذوات المحارم. وعامة أهل العلم وأكثرهم متفقون على هذا إلا أن ينوي بهذا الكلام الكرامة فلا يلزمه الظهار، وإنما اختلفوا فيه إذا لم يكن له نية فقال كثير منهم
لا يلزمه شيء، وقال أبو يوسف إن لم يكن له نية فهو تحريم، وقال محمد بن الحسن هو ظهار إذا لم يكن له نية. انظر: معالم السنن للخطابي (3/ 135)، وانظر في المسألة كذلك: المغني لابن قدامة (11/ 66).
(2)
انظر: تفسير السعدي (845).
(3)
انظر: صحيح البخاري (941).
(4)
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 409).
أختي، أو أمي، على سبيل الكرامة والتوقير لا يكون مظاهراً)
(1)
.
يجزئ في كفارة الرقبة الصغير والكبير، والذكر والأنثى
.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا (3)} (المجادلة: 3).
424 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من الأحكام التي تدل عليها الآية: أنه يجزئ في كفارة الرقبة، الصغير والكبير، والذكر والأنثى، لإطلاق الآية في ذلك). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن كفارة الرقبة يجزئ فيها الرقبة الصغيرة والكبيرة سواء، وكذلك ذكراً أو أنثى سواء، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أطلق عتق الرقبة ولم يقيدها، فدل ذلك على جواز أن تكون صغيرة أو كبيرة، وكذلك ذكراً كان أو أنثى.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال القصاب:(وفي إرساله - جل وتعالى- الرقبة بلا شرط، ولا صفة دليل على أنها تجزئ الصغيرة والكبيرة. . .،. . . ويجزئ فيها الذكر والأنثى. . .)
(3)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: أبوالسعود، وحقي، والشوكاني
(4)
.
(1)
انظر: حاشية ابن القيم على سنن أبي داوود (تهذيب السنن) المطبوع مع معالم السنن (3/ 136).
(2)
انظر: تفسير السعدي (845).
(3)
انظر: نكت القرآن (4/ 251).
(4)
انظر: إرشاد العقل السليم (6/ 215)، وروح البيان (9/ 390)، وفتح القدير (5/ 258).
الرقبة المعتقة في كفارة الظهار لابد أن تكون مؤمنة
.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا (3)} (المجادلة: 3).
425 -
قال السعدي رحمه الله: ({فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مُؤْمِنَةٍ
(1)
كما قيدت في آية أخرى ذكر أو أنثى، بشرط أن تكون سالمة من العيوب المضرة بالعمل
(2)
). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الرقبة المعتقة في كفارة الظهار لابد أن تكون مؤمنة، ووجه استنباط ذلك تقييد هذه الآية بما جاء قي كفارة
(1)
اختلف العلماء في عتق الرقبة في الظهار هل يشترط فيه أن تكون مؤمنة؟ أم أنه يجزئ أي رقبة؟ قولان لأهل العلم: القول الأول: إنه لا يجزئه إلا عتق رقبة مؤمنة في كفارة الظهار وسائر الكفارات هذا ظاهر المذهب-أي الحنبلي- وهو قول الحسن ومالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد، القول الثاني: وهو رواية ثانية عن أحمد أنه يجزئ فيما عدا كفارة القتل من الظهار وغيره عتق رقبة ذمية وهو قول عطاء والنخعي والثوري وأبي ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر. انظر المغني (11/ 81).
(2)
اعلم أن أهل العلم اختلفوا في رقبة كفارة الظهار، هل يشترط فيها سلامتها من العيوب أولا؟ فحكي عن داود الظاهري أنه جوز كل رقبة يقع عليها الاسم ولو كانت معيبة بكل العيوب، وذهب أكثر أهل العلم إلى اشتراط السلامة من العيوب القوية مع اختلافهم في بعض العيوب. قالوا: يشترط سالمتها من العيوب المضرة بالعمل ضرراً بيناً، لأن المقصود تمليك العبد منافعه، وتمكينه من التصرف لنفسه، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضرراً بيناً، فلا يجزئ الأعمى، ولا المقعد، ولا المقطوع اليدين أو الرجلين، ولا يجوز المجنون جنوناً مطبقاً، وبه علم إجماع الأئمة الأربعة على اشتراط السلام من مثل العيوب المذكورة. انظر: المغني لابن قدامة (11/ 82)، وأضواء البيان (6/ 549).
(3)
انظر: تفسير السعدي (844).
القتل، فحمل المطلق على المقيد، فجعل الإيمان شرطاً في الرقبة المعتقة.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال البيضاوي:(والرقبة مقيدة بالإيمان عندنا قياساً على كفارة القتل)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن الفرس، والرازي، والخازن، والشنقيطي
(2)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط وقالوا إن الآية مطلقة فلا دليل فيها على أن عتق الرقبة في كفارة الظهار لا بد أن تكون مؤمنة، قال الجصاص:(ظاهر قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يقتضي جواز الكافرة، ولم يشترط الإيمان، ولا يجوز قياسها على كفارة القتل لامتناع جواز قياس المنصوص بعضه على بعض)
(3)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: القصاب، الزمخشري، وأبو حيان، وأبوالسعود، وشهاب الدين الخفاجي، وحقي، والشوكاني
(4)
.
النتيجة:
ما استنبطه السعدي ومن وافقه من اشتراط الإيمان في عتق الرقبة في كفارة الظهار هو الصحيح، ويؤيده أنه من باب حمل المطلق على المقيد مع اتحاد السبب وهو قول أكثر الأصوليين، كما أن هذا الاستنباط مؤيد
(1)
انظر: أنوار التنزيل (3/ 380).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن الفرس (2/ 236)، والتفسير الكبير (29/ 226)، ولباب التأويل (4/ 285)، وأضواء البيان (6/ 547).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 568).
(4)
انظر: نكت القرآن (4/ 251)، والكشاف (1087)، والبحر المحيط (8/ 232)، وإرشاد العقل السليم (6/ 215)، وحاشية الشهاب على الخفاجي (9/ 118)، وروح البيان (9/ 390)، وفتح القدير (5/ 258).
بما رواه معاوية بن الحكم قال: (كانت لي جارية فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت علي رقبة فأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فقالت في السماء فقال: من أنا؟ فقالت أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة)
(1)
، قال ابن قدامة:(فعلل جواز إعتاقها عن الرقبة التي عليه بأنها مؤمنة فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليه إلا مؤمنة)
(2)
كما أن الإعتاق إنعام، فتقييده بالإيمان يقتضي صرف هذا الإنعام إلى أولياء الله وحرمان أعداء الله، وعدم التقييد بالإيمان قد يفضي إلى حرمان أولياء الله، فوجب أن يتقيد بالإيمان تحصيلاً لهذه المصلحة
(3)
. والله أعلم.
إيقاع الظاهر مكان المضمر في الآية دليل على فضيلة الإيمان والعلم
.
426 -
قال السعدي رحمه الله: (ومن فوائد إيقاع الظاهر موقع المضمر
(4)
في هذه الآية حيث قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، ح (537).
(2)
انظر: المغني لابن قدامة (11/ 82).
(3)
انظر: التفسير الكبير (29/ 226).
(4)
اعلم أن الأصل في الأسماء أن تكون ظاهرة وأصل المحدث عنه كذلك، والأصل أنه إذا ذكر ثانيا أن يذكر مضمراً للاستغناء عنه بالظاهر السابق، وللخروج على خلاف الأصل أسباب: أحدها قصد التعظيم، الثاني قصد الإهانة والتحقير، الثالث الاستلذاذ بذكره، الرابع زيادة التقدير، الخامس إزالة اللبس حيث يكون الضمير يوهم أنه غير المراد، السادس أن يكون القصد تربية المهابة وإدخال الروعة في ضمير السامع، السابع قصد تقوية داعية المأمور، الثامن تعظيم الأمر، التاسع أن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف، العاشر التنبيه على علة الحكم، الحادي عشر قصد العموم، الثاني عشر قصد الخصوص، الثالث عشر مراعاة التجنيس، الرابع عشر أن يتحمل ضميراً لا بد منه، الخامس عشر كونه أهم من الضمير، السادس عشر كون ما يصلح للعود ولم يسق الكلام له، السابع عشر الإشارة إلى عدم دخول الجملة في حكم الأولى. انظر: البرهان في علوم القرآن (2/ 498)، والإتقان في علوم القرآن (5/ 1673).
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} ولم يقل يرفعكم، ليدل ذلك على فضيلة الإيمان والعلم عموماً، وأن بهما تحصل الرفعة في الدنيا والآخرة، ويدل على أن من ثمرات العلم والإيمان سرعة الانقياد لأمر الله، وأن هذه الآداب ونحوها إنما تنفع صاحبها، ويحصل له بها الثواب إذا كانت صادرة عن العلم والإيمان، وهو أن تكون خالصة لوجه الله لا لغير ذلك من المقاصد). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً بلاغياً، وهو أن إيقاع الظاهر موقع المضمر في الآية في قوله"يرفع الله" إذ الأصل أن يقول يرفعكم؛ لأن الاسم إذا تقدم ذكره وأعيد مرة أخرى لا يكون ظاهراً وإنما يكون مضمراً، فإذا أُظهر فلا بد للإظهار من معنى، وهو هنا ما استنبطه السعدي، حيث قال إن ذلك دال على فضيلة العلم والإيمان.
وأشار البقاعي إلى معنى آخر لهذا الإظهار وهو الترغيب في الامتثال، فقال:(عبر بالجلالة وأعاد إظهارها موضع الضمير ترغيباً في الامتثال).
(2)
(1)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (30).
(2)
انظر: نظم الدرر (7/ 496).
سورة الحشر
المهاجرون أفضل من الأنصار
.
قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} (الحشر: 8).
427 -
قال السعدي رحمه الله: (قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}
(1)
ويدل ذلك على أن المهاجرين
(2)
، أفضل من الأنصار
(3)
(4)
، لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في
(1)
ذكر بعض المفسرين استنباطات أخرى من هذه الآية منها: دلالتها على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، لأنهم شهدوا بإمامته وقد شهد الله بصدقهم، ومنها: أن الكفر يملكون بالاستيلاء أموال المسلمين؛ لأن الله سمى المهاجرين فقراء مع أنه كانت لهم ديار وأموال. انظر: التفسير الكبير (29/ 249)، ومدارك التنزيل للنسفي (1225).
(2)
المهاجرون: هم الذين هاجروا إلي المدينة في عهد النبي صلي الله عليه وسلم قبل فتح مكة. انظر: شرح الواسطية للعثيمين (2/ 256).
(3)
الأنصار: هم الذين هاجر إليهم النبي صلي الله عليه وسلم في المدينة. انظر: شرح الواسطية للعثيمين (2/ 256).
(4)
وهذا التفضيل؛ لأن المهاجرين جمعوا الوصفين النصرة والهجرة، وهذا التفضيل للجملة على الجملة، فلا ينافي أن في الأنصار من هو أفضل من بعض المهاجرين. انظر: شرح العقيدة الواسطية لمحمد هراس (240)، والتنبيهات اللطيفة (102).
صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن المهاجرين أفضل من الأنصار، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله قدم ذكر المهاجرين على الأنصار في هذه الآية، فدل ذلك على أنهم أفضل.
وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (ويقدمون المهاجرين على الأنصار)
(2)
، وهذا التقديم لما فضلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة
(3)
.
وقال العثيمين موافقاً السعدي على هذا الاستنباط: (وأهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أتوا بالنصر فقط، فالمهاجرون تركوا أهلهم وأموالهم، وتركوا أوطانهم، وخرجوا إلي أرض هم فيها غرباء، كل ذلك هجرة إلي الله ورسوله، ونصرة لله ورسوله، والأنصار أتاهم النبي صلي الله عليه وسلم في بلادهم، ونصروا صلي الله عليه وسلم، ولا شك أنهم منعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم.، ودليل تقديم المهاجرين: قوله تعالي: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، فقدم المهاجرين على الأنصار، وقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117]، فقدم المهاجرين، وقوله في الفئ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]، ثم قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9]).
(4)
(1)
انظر: تفسير السعدي (851).
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 152).
(3)
انظر: شرح ابن رشيد للعقيدة الواسطية (299).
(4)
انظر: شرح الواسطية للعثيمين (2/ 256).
سورة الممتحنة
النهي عن التزوج بالكافرة غير الكتابية
.
قال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ (10)} (الممتحنة: 10).
428 -
قال السعدي رحمه الله: (وإذا نهى عن الإمساك بعصمتها
(1)
فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية النهي عن نكاح المرأة الكافرة، ووجه استنباط ذلك من أن الله نهى المؤمنين عن الإمساك بنسائهم الكافرات، فمن باب أولى أن يكون النهي عن ابتداء نكاح الكافرات، وهذا الاستنباط بمفهوم الموافقة - الأولى- حيث نهي عن استدامة نكاح الكافرات فمن باب أولى أن يكون النهي عن ابتداء نكاحهن.
قال القصاب: (دليل على أنه لا يحل لمسلم وطء كافرة إلا الكتابية
(1)
المراد هنا عبدة الأوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب. انظر: الجامع لأحكام القرآن (18/ 60).
(2)
انظر: تفسير السعدي (857).
المستثناة في سورة النساء بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ).
(1)
خروج البضع من ملك الزوج متقوم
.
قال تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا (10)} (الممتحنة: 10).
429 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذا
(2)
دليل على أن خروج البضع من الزوج متقوم
(3)
، فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل، برضاع أو غيره، كان عليه ضمان المهر). ا. هـ
(4)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الأزواج سواء كانوا من المؤمنين أو من الكفار كانوا مستحقين لنفقاتهم التي أنفقوها على زوجاتهم اللاتي
(1)
انظر: نكت القرآن (4/ 274).
(2)
ذكر بعض المفسرين استنباطاً من هذه الآية وهو دلالتها على أن الكفار مخاطبون بالأحكام. انظر: حاشية زاده على البيضاوي (8/ 193).
(3)
خروج البضع عن ملك الزوج متقوم عند الأكثرين كمالك والشافعي وأحمد في نص الروايتين والشافعي يقول هو مضمون بمهر المثل والنزاع بينهم فيما إذا شهد شاهدان أنه طلق امرأته ثم رجعا عن الشهادة فقيل لاشى عليهما بناء على أن خروج البضع من ملك الزوج ليس بمتقوم، وهذا قول أبى حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين اختارها متأخرو أصحابه كالقاضي أبى يعلى وأتباعه، وقيل عليهما مهر المثل وهو قول الشافعي وهو وجه في مذهب أحمد وقيل عليهما المسمى وهو مذهب مالك وهو أشهر في نص أحمد وقد نص على ذلك فيما إذا أفسد نكاح امرأته برضاع أنه يرجع بالمسمى. انظر: إعلام الموقعين (2/ 28).
(4)
انظر: تفسير السعدي (857).
خرجن من عصمتهم، فأخذ السعدي من ذلك قياساً أن خروج البضع من الملك متقوم بالمهر الذي دفعه الزوج، وسواء في ذلك السبب الذي بسببه فقد الزوج ملك البضع.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط ابن القيم فقال: (وأمر الله نبيه والمؤمنين أن يمتحنوا من جاءهم من النساء فإن علموها مؤمنة لم يردوها إلى الكفار وأمرهم برد مهرها إليهم لما فات على زوجها من منفعة بضعها وأمر المسلمين أن يردوا على من ارتدت امرأته إليهم مهرها إذا عاقبوا بأن يجب عليهم رد مهر المهاجرة فيردونه إلى من ارتدت امرأته ولا يردونها إلى زوجها المشرك فهذا هو العقاب وليس من العذاب في شيء، وكان في هذا دليل على أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم وأنه متقوم بالمسمى الذي هو ما أنفق الزوج لا بمهر المثل)
(1)
.
(1)
انظر: زاد المعاد (3/ 127).
سورة الصف
نصرة الحق تكون بالسعي بالأسباب التي تتم بها نصرة الحق
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ (14)} (الصف: 14).
430 -
قال السعدي رحمه الله: (ودلت هذه الآية ونحوها باللزوم على الأمر بالسعي بالأسباب التي تتم بها نصرة الحق، كالتعلم والتعليم للعلوم النافعة ونحوها). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية وجوب السعي بالأسباب التي تتم بها نصرة الحق، ووجه استنباط ذلك من الآية بدلالة اللزوم، حيث الأمر بالنصرة يلزم منه الأمر بالأسباب التي تتم بها النصرة.
وهذا الاستنباط فيه لفتة دقيقة إلى أن نصرة الحق لا تتم بالعواطف والرغبات المجردة، بل لا بد من بذل الأسباب التي تتم بها نصرة الحق وأهله، فالنصرة تستلزم تعلم الأمور التي تحقق النصرة سواء كانت أموراً
(1)
انظر: المواهب الربانبة للسعدي (77)، وتفسير السعدي (861).
اقتصادية أو إعلامية، أو سياسية، أو عسكرية، أو صناعية، ونحو ذلك حسب متطلبات النصر.
ومن ذلك كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أساس من أساسات النصر، قال القصاب:(قوله: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} حجة واضحة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا يشك أحد أن نصر الله إنما هو نصر دينه، ولا يكون نصره إلا بالمعونة على إقامة أمره ونهيه وعلوهما، والأخذ على يدي من يريد ذله وإهانته)
(1)
.
(1)
انظر: نكت القرآن (4/ 294).
سورة الجمعة
لا يذم المشتغل بالمعاملات إلا إذا ألهت عن واجب
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرُ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ شَهْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} (الجمعة: 9).
431 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها-أي من فوائد هذه الآية-: أن المعاملات مع إباحتها فالمشتغل بها غير مذموم، إذا لم تلهه عن ذكر الله الواجب من صلاة ونحوها، فإن ألهت عن ذلك فهي مذمومة وصاحبها خاسر). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أنه لا يذم المشتغل بالمعاملات، ما لم تلهه عن واجب؛ فإن ألهته عن واجب أصبحت مذمومة وصاحبها مذموم، ووجه استنباط ذلك من الآية تحريم البيع بعد نداء الجمعة الثاني مع أن الأصل فيه الإباحة إلا أن الاشتغال به في هذا الوقت يعد محرماً، وذلك لأنه كان سبباً في الإلهاء عن واجب، فلما كان الذم مخصوصاً بما
(1)
انظر: فتح الرحيم للسعدي (139).
إذا ألهى عن واجب دل على أنه غير مذموم إذا لم يلهه عن واجب.
وهذا الاستنباط فيه الحث على العمل وأن من اشتغل بتجارة ونحوها فلا يعد مذموماً، ولا يكون ذلك ملهاة عن الآخرة، كما قد يتصوره بعض المتمزهدين، الذين يظنون أن الاشتغال بمثل ذلك مدعاة للانصراف عن أمر الآخرة.
كما أن هذا الاستنباط يكشف اللثام عن محاسن هذه الشريعة التي تحث على العمل، لا على الإنزواء كما يصوره بعض أعداءها، أومن لم يفهما على حقيقتها، ويكشف كذلك عن التوازن المطلوب في الحياة، حيث يستخدم المباح في مكانه ووقته.
لما كانت التجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله أمر الله بالذكر
.
قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} (الجمعة: 10).
432 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان الاشتغال بالتجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله وطاعته أمر الله بالإكثار من ذكره، فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة الأمر بذكر الله كثيراً بعد أن ذكر التجارة، وأن مناسبة ذلك هي أن التجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله فناسب التذكير بالذكر بعد ذكرها.
(1)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (87).
وقد أشار بعض المفسرين إلى نحو ما قاله السعدي، قال البقاعي:(ولما كان السعي في طلب الرزق ملهياً عن الذكر، بين أنه أعظم السعي في المعاش وأن من غفل عنه لم ينجح له مقصد وإن تحايل له بكل الحيل وغير ذلك فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره فإنه لا رخصة في ترك ذكره أصلاً)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري، وابن عاشور
(2)
.
وأشار بعض المفسرين إلى مناسبة أخرى وهي أنه لما ذكر الذكر مخصوصاً بالصلاة، ناسب الأمر بالذكر على وجه العموم لئلا يتوهم اختصاص الذكر بالصلاة، قال الصاوي:(قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أتى به ثانية؛ إعلاماً بأن ذكر الله مأمور به في سائر الأحوال لا في خصوص الصلاة)
(3)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الألوسي
(4)
.
والذي يظهر - والله أعلم - أن المناسبة الأولى هي الأقرب فالاشتغال بالتجارة من الملهيات عن ذكر الله، فمناسبة التذكير بذكر الله لمن اشتغل بالتجارة هو الأقرب، وأما القول بأن المناسبة هي دفع توهم اختصاص الذكر بالصلاة ففيه بعد لا يخفى؛ إذ الذكر عبادة مستقلة لا يتوهم شخص بسقوطها، أو اختصاصها بحالة معينة دون غيرها. والله أعلم.
مشروعية النداء للصلوات الخمس
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (9)} (الجمعة: 9).
(1)
انظر: نظم الدرر (7/ 602).
(2)
انظر: الكشاف (1108)، والتحرير والتنوير (28/ 227).
(3)
انظر: حاشية الصاوي على الجلالين (6/ 112).
(4)
انظر: روح المعاني (14/ 298).
433 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها- أي من الفوائد التي دلت عليها هذه الآية-: مشروعية النداء يوم الجمعة وغيرها، لأن التقييد بيوم الجمعة دليل على أن هناك نداء لبقية الصلوات الخمس). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مشروعية الأذان للصلوات الخمس، ووجه استنباط ذلك من الآية بمفهوم الموافقة، حيث دلت الآية صراحة على مشروعية الأذان ليوم الجمعة، فدل مفهوم الموافقة - المساوي - على مشروعية الأذان لباقي الصلوات الخمس؛ لأن الحكم في الأمرين سواء، أي في الجمعة والصلوات الأخرى.
ولم أجد من أشار إلى ذلك من المفسرين أو الفقهاء، وربما كان سبب الإعراض عن استنباط مثل ذلك أن مشروعيته واضحة الأدلة فلا داعي لاستنباطها من مثل هذه الآية، ولكن حس الاستنباط الذي وهبه الله للسعدي يجعله يقف على مثل هذه المواقف النادرة.
تحريم الكلام والإمام يخطب
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرُ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ (9)} (الجمعة: 9).
434 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها - أي من الفوائد التي تدل عليها الآية -: تحريم الكلام والإمام يخطب
(2)
، لأنه إذا كان الاشتغال
(1)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (88).
(2)
لا يجوز الكلام لأحد من الحاضرين ونهى عن ذلك عثمان وابن عمر وقال ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فأقرع رأسه بالعصا وكره ذلك عامة أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وعن أحمد رواية أخرى لا يحرم الكلام وكان سعيد بن جبير والنخعي والشعبي وإبراهيم بن مهاجر وأبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب. انظر: المغني لابن قدامة (3/ 194).
بالبيع ونحوه - ولو كان المشتغل بعيداً عن سماع الخطبة - محرماً فمن كان حاضراً تعين عليه أن لا يشتغل بغير الاستماع، كما أيد هذا الاستنباط الأحاديث الكثيرة
(1)
). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية تحريم الكلام والإمام يخطب، ووجه استنباط ذلك بالقياس، حيث حرم الاشتغال بالبيع ولو كان المشتغل بعيداً عن سماع الخطبة، فدل من باب أولى تحريم الكلام لمن كان حاضراً لها، فالتحريم هنا بقياس الأولى.
ولم أجد من أشار إلى ذلك من المفسرين. والله أعلم.
المشتغل بالطاعة إذا رأى من نفسه طموحاً إلى الدنيا عالجها بتذكيرها ما عند الله من الخيرات
.
قال تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ شَهْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ (11)} (الجمعة: 11).
(1)
من الأحاديث التي أخذ منها أهل العلم تحريم الكلام يوم الجمعة والإمام يخطب، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب الإنصات يوم الجمعة، والإمام يخطب، ح (934)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، ح (851)، قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث:(والنهي عن الكلام مأخوذ من الحديث بدلالة الموافقة. . . واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور في حق من سمعها، وكذا الحكم في حق من لا يسمعها عند الأكثر) انظر: فتح الباري (2/ 481).
(2)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (89).
435 -
قال السعدي رحمه الله: (ومنها - أي من الفوائد التي تدل عليها الآية -: أن المشتغل بعبادة الله وطاعته إذا رأى من نفسه الطموح إلى ما يلهيها عن هذا الخير من اللذات الدنيوية والحظوظ النفسية شرع أن يذكرها ما عند الله من الخيرات، وما لمؤثر الدين على الهوى، وما يترتب من الضرر والخسران على ضده). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً تربوياً وهو أن المشتغل بعبادة الله وطاعته إذا رأى من نفسه طموحاً إلى الدنيا، وإقبالاً عليها أن يذكرها ما عند الله من الخير، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أمر نبيه أن يعظ - أولئك الذين انصرفوا عنه وهو يخطب لأجل سماعهم بالقافلة التي تحمل البضائع- بأن ما عند الله من الأجر والنعيم خير مما انصرفوا إليه، فأخذ السعدي من هذا التوجيه الرباني هذا الاستنباط وجعل منه قاعدة عامة في علاج الانصراف من العبادة إلى الدنيا.
وهذا الاستنباط نافع جداً خصوصاً في زماننا الذي انفتحت فيه الدنيا على مصراعيها، وأصبحت الفتنة بها والجري وراءها والاشتغال بها أكبر من ذي قبل، فهذا هو العلاج الرباني وهو تذكر الآخرة ونعيمها، ومن ثم المقارنة بين النعيمين، والموازنة بينهما، وعند ذلك يحصل العلاج لمن أراد الله له الخير.
(1)
انظر: تيسير اللطيف للسعدي (89)، وتفسير السعدي (517) و (864).
سورة التغابن
لما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد فيما على العبد فيه ضرر موهم للغلظة عليهم دفع ذلك بالترغيب في العفو والصفح عنهم
.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} (التغابن: 14).
436 -
قال السعدي رحمه الله: (ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} لأن الجزاء من جنس العمل). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تعقيب النهي عن طاعة الأولاد
(1)
انظر: تفسير السعدي (868).
والأزواج بالعفو والصفح عنهم، وأن مناسبة ذلك هي أن التحذير منهم قد يوهم إيقاع العقوبة والغلظة عليهم، فناسب الترغيب في العفو والصفح عنهم؛ لدفع هذا التوهم.
وقد أشار البقاعي إلى نحو ما استنبطه السعدي، فقال:(ولما كان قد يقع ما يؤذي مع الحذر لأنه لا يغني من قدر أو مع الاستسلام، وكان وكل المؤذي إلى الله أولى وأعظم في الاستنصار، قال مرشداً إلى ذلك: {وَإِنْ تَعْفُوا})
(1)
.
وأشار بعض المفسرين إلى مناسبة أخرى وهي أن هذا الحذر قد يصدر عنه نوع من الجفاء والعزوف عن الزوجة والأبناء، والهروب من المسؤولية تجاههم مما قد يورث عداوة
أشد، فناسب ذكر العفو بعده، قال حقي:(وفى الحث على العفو والصفح إشارة إلى أن ليس المراد من الأمر بالحذر تركهم بالكلية والإعراض عن معاشرتهم ومصاحبتهم)
(2)
.
وما أشار إليه السعدي فيه لفتة دقيقة في معالجة المشاكل الأسرية وأن عداوة الزوجة والأولاد لا ينبغي أن تقابل إلا بالعفو والصفح والغفران، وأن ذلك يخفف أو يذهب أو يجنب الزوج والولد نتائج هذا العداء، وأنه خير من المشاحة والخصام
(3)
، وأنه مهما بدر من الأبناء أو الزوجة إلا أنه لا يبرر استخدام العنف ضدهم، ولذا يبرز هذا الاستنباط محاربة الإسلام لما يسمى اليوم بالعنف الأسري، فإذا كان المسلم مأموراً بالعفو والصفح عن أفراد الأسرة مع صدور الأذى منهم، فهو مأمور بعدم إصدار العنف ضدهم إذا لم يبدر منهم أذى من باب أولى.
(1)
انظر: نظم الدرر (8/ 18).
(2)
انظر: روح البيان (18/ 10).
(3)
انظر: أضواء البيان (8/ 344).
يأتي من المأمور بما يستطيع ويسقط عنه ما عجز عنه
.
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (16)} (التغابن: 16).
437 -
قال السعدي رحمه الله: (فهذه الآية، تدل على أن أنه إذا قدر على بعض المأمور، وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه
(1)
، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)
(2)
). ا. هـ
(3)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية، وهي أن من عجز عن المأمور أتى منه بما يستطيع ويسقط عنه الباقي، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أمر بالتقوى، ثم بين أن المطلوب من التقوى هو قدر المستطاع.
وهذه القاعدة تبين لنا يسر الإسلام وسهولته، وكذلك الدقة والنظام فيه، فسقوط بعض الواجب لا يعني سقوط الواجب بالكلية، كما أن هذه القاعدة تؤصل لنا البدائل التي يجب علينا الاستعداد بها عند العجز عن القيام بالأمر على وجهه المطلوب تماماً.
(1)
المأمورات مبناها على القدرة والاستطاعة، فمن قدر على فعل بعض المأمور به وعجز عن فعل باقيه وجب عليه فعل ما قدر عليه، ولا يجوز ترك الكل بدعوى عدم القدرة على البعض، بل يجب على المكلف فعل ما يقدر عليه، ومن أمثلة ذلك: من لم يقدر على القيام في الصلاة وقدر على القعود؛ فإنه يجب عليه القعود ويسقط عنه القيام، ولكن سقوط القيام لا يسقط عنه الواجب بالكلية. انظر: موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (8/ 954).
(2)
المراد به حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح (7288)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم، ح (1337).
(3)
انظر: تفسير السعدي (868).
سورة الطلاق
إذا لم يقبل الرضيع إلا ثدي أمه أجبرت على إرضاعه، وكان لها أجرة المثل
.
438 -
قال السعدي رحمه الله: ({وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} بأن لم يتفقوا على إرضاعها لولدها، فلترضع له أخرى غيرها وهذا حيث كان الولد يقبل ثدي غير أمه، فإن لم يقبل إلا ثدي أمه، تعينت لإرضاعه، ووجب عليها، وأجبرت إن امتنعت
(1)
، وكان لها أجرة
(1)
ليس للزوج إجبار أم الولد على إرضاعه دنية كانت أو شريفة وسواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة ولا نعلم في عدم إجبارها على ذلك إذا كانت مفارقة خلافاً وكذلك إن كانت مع الزوج عندنا وبه يقول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح: له إجبارها على ذلك وهو قول أبي ثور ورواية عن مالك والمشهور عن مالك أنها إن كانت شريفة لم تجر عادة مثلها بالرضاع لولدها لم تجبر عليه وإن كانت ممن ترضع في العادة أجبرت عليه. فأما إن اضطر الولد إليها بأن لا توجد مرضعة سواها أو لا يقبل الولد الارتضاع من غيرها وجب عليها التمكين من إرضاعه لأنها حال ضرورة وحفظ لنفس ولدها كما لو لم يكن أحد غيرها. انظر: الشرح الكبير (9/ 296)، والمغني (11/ 428).
المثل إن لم يتفقا على مسمى، وهذا مأخوذ من الآية الكريمة من حيث المعنى، فإن الولد لما كان في بطن أمه مدة الحمل، ليس له خروج منه، عين تعالى على وليه النفقة، فلما ولد، وكان يمكن أن يتقوت من أمه ومن غيرها، أباح تعالى الأمرين، فإذا كان بحالة لا يمكن أن يتقوت إلا من أمه كان بمنزلة الحمل، وتعينت أمه طريقًا لقوته). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الرضيع إذا لم يقبل إلا ثدي أمه أجبرت على إرضاعه وكان لها أجرة المثل، ووجه استنباط ذلك من الآية القياس، حيث إن الطفل لما كان في بطن
أمه وجب على والده النفقة مدة الحمل إذ في هذه الحالة أمه هي السبيل الوحيد لحياته، فإذا كان بحالة لا يمكن أن بعيش إلا بإرضاع أمه له أجبرت على ذلك قياساً على حالها في الحمل، وكان لها أجرة المثل قياساً على إنفاق الزوج عليها في حالة الحمل.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الضحاك:(إن أبت الأمّ أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر)
(2)
، وقال السيوطي: (يدل على أن الأم لا تجبر على الرضاع حيث وجد له غيرها، وقبل الصبي ثديها، وإلا
(1)
انظر: تفسير السعدي (871).
(2)
انظر: فتح القدير (5/ 344).
أجبرت عليه)
(1)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: ابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وأبوحيان، والألوسي، والهرري
(2)
.
(1)
انظر: الإكليل (3/ 1265).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/ 262)، المحرر الوجيز (1869)، والجامع لأحكام القرآن (18/ 151)، والبحر المحيط (8/ 281)، وروح المعاني (14/ 353)، وتفسير حدائق الروح والريحان (29/ 426).
سورة الملك
خص الله التوكل بالذكر لأن وجود الأعمال وكمالها متوقف عليه
.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا (29)} (الملك: 29).
439 -
قال السعدي رحمه الله: (قال تعالى: {آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} والإيمان يشمل التصديق الباطن، والأعمال الباطنة والظاهرة، ولما كانت الأعمال، وجودها وكمالها، متوقفة على التوكل، خص الله التوكل من بين سائر الأعمال، وإلا فهو داخل في الإيمان، ومن جملة لوازمه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تخصيص التوكل بالذكر من دون سائر الأعمال مع دخوله في عموم مسمى الإيمان، وبين أن مناسبة ذلك هو أن وجود الأعمال وكمالها متوقف على التوكل، فناسب تخصيصهمن بينها.
(1)
انظر: تفسير السعدي (878).
وأشار بعض المفسرين إلى معنى آخر، وهو أن ذكر التوكل لبيان أن المؤمنين توكلهم على الله، بخلاف المشركين الذين توكلهم على أموالهم، وعلى رجالهم، قال ابن عاشور:(توكلنا عليه دون غيره تعريضاً بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوها في التوكل مع الله، أو نَسُوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الأصنام)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الزمخشري، والصاوي، والقاسمي
(2)
.
(1)
انظر: التحرير والتنوير (29/ 54).
(2)
انظر: الكشاف (1128)، وحاشية الصاوي على الجلالين (6/ 147)، ومحاسن التأويل (9/ 199).
سورة الحاقة
تكرار لفظ الحاقة لأجل التفخيم والتعظيم
.
قال تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} (الحآقة: 1 - 3).
440 -
قال السعدي رحمه الله: ({الْحَاقَّةُ (1)} من أسماء يوم القيامة، لأنها تحق وتنزل بالخلق، وتظهر فيها حقائق الأمور، ومخبآت الصدور، فعظم تعالى شأنها وفخمه، بما كرره من قوله:{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} فإن لها شأناً عظيماً وهولاً جسيماً). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآيات فائدة تكرار لفظ الحاقة، وأن فائدة التكرار هنا هي إرادة تعظيم وتفخيم يوم القيامة.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط جمع من المفسرين، قال الزركشي - في تعداد فوائد التكرار-: (التعظيم والتهويل كقوله تعالى:
(1)
انظر: تفسير السعدي (882).
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} )
(1)
، وقال الصاوي- في بيان معنى هذا التكرار في هذه الآية-:(حكمة تكرار الاستفهام، زيادة تعظيم لها، وتهويل لشأنها)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: ابن عطية، والرازي، وأبوحيان، وأبو السعود، والسيوطي، والألوسي، والقاسمي، والشوكاني
(3)
.
(1)
انظر: البرهان في علوم القرآن (3/ 20).
(2)
انظر: حاشية الصاوي على الجلالين (6/ 159).
(3)
انظر: المحرر الوجيز (1889)، والتفسير الكبير (30/ 90)، والبحر المحيط (8/ 315)، وإرشاد العقل السليم (6/ 293)، والإتقان في علوم القرآن (5/ 1649)، وروح المعاني (15/ 46)، ومحاسن التأويل (9/ 216)، وفتح القدير (5/ 390).
سورة نوح
خص الوالدين بالدعاء قبل التعميم لتأكد حقهم وتقديم برهم
.
قال تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (28)} (نوح: 28).
441 -
قال السعدي رحمه الله: (خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم، ثم عمم الدعاء). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة تقديم نوح عليه السلام لوالديه في الدعاء، وأن ذلك لتأكد حقهم في البر.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الرازي:(إنما خص نفسه أولاً بالدعاء ثم المتصلين به لأنهم أولى وأحق بدعائه ثم عم المؤمنين والمؤمنات)
(2)
، وقال الخازن: (وإنما بدأ بنفسه لأنها أولى بالتخصيص والتقديم ثم ثنى بالمتصلين به لأنهم أحق بدعائه من غيرهم ثم
(1)
انظر: تفسير السعدي (890).
(2)
انظر: التفسير الكبير (30/ 130).
عمم جميع المؤمنين والمؤمنات ليكون ذلك أبلغ في الدعاء)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: محيي الدين شيخ زاده، وحقي
(2)
.
(1)
انظر: لباب التأويل (4/ 347).
(2)
انظر: حاشية زاده على البيضاوي (8/ 353)، وروح البيان (10/ 188).
سورة القيامة
التأني في أخذ العلم وعدم العجلة في السؤال
.
قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)} (القيامة: 16).
442 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، حتى يفرغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهماً يتمكن به من الكلام عليه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية استنباطاً تربوياً وهو عدم التعجل في أخذ العلم من المعلم حتى يفرغ المعلم من كلامه، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استعجال أخذ الوحي من جبريل عند نزوله، فكان في ذلك إشارة إلى هذا الأدب؛ إذ النهي عن الشيء أمر بضده.
(1)
انظر: تفسير السعدي (899).
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط ابن القيم، فقال- في معرض كلامه عن أسرار سورة القيامة-:(ومن أسرارها أنها تضمنت التأني والتثبت في تلقي العلم وأن لا يحمل السامع شدة محبته وحرصه وطلبه على مبادرة المعلم بالأخذ قبل فراغه من كلامه بل من آداب الرب التي أدب بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمره بترك الاستعجال على تلقي الوحي بل يصبر إلى أن يفرغ جبريل من قراءته ثم يقرأه بعد فراغه عليه فهكذا ينبغي لطالب العلم ولسامعه أن يصبر على معلمه حتى يقضي كلامه ثم يعيده عليه أو يسأل عما أشكل عليه منه ولا يبادره قبل فراغه)
(1)
.
وهذا الأدب من أهم الآداب في تلقي العلم، وبامتثاله يحصل الطالب علماً نافعاً، وبحرمانه يفوت عليه علماً.
بيان النبي صلى الله عليه وسلم لمعاني القرآن
.
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (القيامة: 19)
443 -
قال السعدي رحمه الله: (وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كما بين للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بين لهم معانيه
(2)
). ا. هـ
(3)
(1)
انظر: التبيان في أقسام القرآن لابن القيم (149).
(2)
اختلف العلماء في المقدار الذي بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن لأصحابه: فمنهم مَن ذهب إلى القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه كل معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، وعلى رأس هؤلاء ابن تيمية. ومنهم مَن ذهب إلى القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُبيِّن لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل، وعلى رأس هؤلاء: الخُويّبي والسيوطي. انظر: التفسير والمفسرون للذهبي (1/ 49).
(3)
انظر: تفسير السعدي (899).
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية بيان النبي صلى الله عليه وسلم بمعاني القرآن، ووجه استنباط ذلك من الآية بدلالة اللازم، فوعد الله نبيه ببيان معاني القرآن، فلزم من ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للأمة هذه المعاني، فدلالة الآية على ذلك باللازم؛ إذ بيان المعاني ملازم لبيان الألفاظ
(1)
.
وممن أشار إلى ذلك العثيمين فقال: (قوله تعالي: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]، يتضمن هذا وهذا، أي: بيان لفظه وبيان معناه)
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب أن يعلم أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناول هذا وهذا).
(3)
(1)
انظر: التحرير والتنوير (29/ 350).
(2)
انظر: شرح مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية في التفسير للعثيمين (21).
(3)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (13/ 331).
سورة الإنسان
تخصيص الحرير بالذكر لأنه اللباس الظاهر الدال على النعمة العظيمة
.
قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} (الإنسان: 12).
444 -
قال السعدي رحمه الله: (ولعل الله إنما خص الحرير، لأنه لباسهم الظاهر، الدال على حال صاحبه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية معنى تخصيص التحرير بالذكر مع دخوله في عموم نعيم الجنة، وبين أن معنى هذا التخصيص هو أن الحرير اللباس الظاهر الدال على نعيم صاحبه؛ إذ لا يلبسه إلا صاحب نعمة.
وقد أشار البقاعي إلى نحو ما قال السعدي، فقال:(ولما ذكر ما يكسو الباطن، ذكر ما يكسو الظاهر فقال: {وَحَرِيرًا} أي هو في غاية العظمة)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: ابن عاشور
(3)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (899).
(2)
انظر: نظم الدرر (8/ 269).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (29/ 388).
وأشار بعض المفسرين إلى استنباطات أخرى لمعنى تخصيص الحرير بالذكر، فمنهم من قال: عوضاً عن حرير الدنيا الذي كان محرماً عليهم لبسه فناسب أن يكون الجزاء من جنس العمل، قال الشوكاني:(وألبسهم الحرير، وهو لباس أهل الجنة عوضاً عن تركه في الدنيا امتثالاً لما ورد في الشرع من تحريمه)
(1)
، وممن أشار إليه من المفسرين أيضاً: القرطبي
(2)
.
ومن المفسرين من قال إن المناسبة في ذلك هي أنه لما كان الإيثار بالمحبوبات يسبب الجوع والعري ناسب في جزاءه ذكر ما يسد الجوع، ويكسو العري، قال الزمخشري:(فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت: المعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدّي إليه من الجوع والعري بستاناً فيه مأكل هنيّ، {وَحَرِيرًا} فيه ملبس بهيّ)
(3)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: أبوحيان، وحقي
(4)
.
وذهب ابن القيم إلى معنى آخر فقال: (فلما كان في الصبر الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة)
(5)
.
(1)
انظر: فتح القدير (5/ 490).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (19/ 123).
(3)
انظر: الكشاف (1165).
(4)
انظر: البحر المحيط (8/ 388)، وروح البيان (10/ 271).
(5)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (3/ 235).
سورة عبس
لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة موهومة
.
قال تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} (عبس: 5 - 10).
445 -
قال السعدي رحمه الله: (فدل هذا على القاعدة المشهورة، أنه: " لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة
(1)
"). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية قاعدة فقهية، وهي أنه لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة موهومة، ووجه استنباط
(1)
مفاد هذه القاعدة أنه لا يثبت حكم شرعي استناداً إلى وهم، كما أنه لا تعارض بين الموهوم والمعلوم؛ لأن الموهوم ضعيف جداً أمام المعلوم القوي، كما أنه لا يجوز تأخير الشيء الثابت بصورة قطعية بوهم طارئ. نظر: موسوعة القواعد الفقهية للبورنو (8/ 1061).
(2)
انظر: تفسير السعدي (911).
ذلك أن الله عاتب النبي صلى الله عليه وسلم في انصرافه عن الأعمى، واشتغاله بالغني، وذلك لأن الأعمى جاء باحثاً عن الهدى فالمصلحة فيه متحققة، بينما الغني معرض فالمصلحة فيه متوهمة، فكان في ذلك تأصيلاً لهذه القاعدة؛ إذ جاء العتاب على ترك المصلحة المتحققة وهي هداية الأعمى، لأجل مصلحة متوهمة وهي هداية الغني.
سورة التكوير
العبد له مشيئة لكنها تابعة لمشيئة الله، خلافاً للقدرية النفاة، والقدرية المجبرة
.
قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (التكوير: 28 - 29).
446 -
قال السعدي رحمه الله: (كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}. فهذه الآية فيها رد على القدرية النفاة وعلى القدرية المجبرة
(1)
: وإثبات للحق الذي
(1)
اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية، فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان السمرقندي: أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية، كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز! وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله! فالجبرية غلوا في إثبات القدر، فنفوا صنع العبد أصلا.
وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها، لا تعلق لها بخلق الله تعالى، فالقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى.
وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فكل دليل صحيح تقيمه الجبري، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا =
عليه أهل السنة والجماعة. فقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} ، أثبت: أنه لهم مشيئة حقيقية، وفعلاً حقيقياً - وهو الاستقامة - باختيارهم، فهذا رد على الجبرية. وقوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أخبر: أن مشيئتهم تابعة لمشيئة الله، وأنها لا توجد بدونها، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ففيها رد على القدرية القائلين:" إن مشيئة العباد مستقلة، ليست تابعة لمشيئة الله ": بل عندهم يشاء العباد ويفعلون ما لا يشاؤه الله، ولا يقدره ودلت الآية على الحق الواضح، وهو: أن العباد هم الذين يعملون الطاعات والمعاصي حقيقة، ليسوا مجبورين عليها: وأنها - مع ذلك - تابعة لمشيئة الله كما تقدم كيفية وجه ذلك). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين الآيتين الرد على القدرية النفاة الذين يقولون إن العبد له مشيئة مستقلة ليست تابعة لمشيئة الله، وكذلك على الجبرية القائلين إن العبد لا مشيئة له وأنه مجبور على فعل نفسه فهو كالريشة في مهب الريح، ووجه استنباط هذا الرد أن في قوله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} إثبات مشيئة العبد وأن له فعلاً حقيقة وذلك
= مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار.
وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى - فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم. انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز بتصرف (639)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 375 و 393).
(1)
انظر: الدرة البهية للسعدي (155)، وتفسير السعدي (914).
رد على الجبرية، وفي قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إثبات أن مشيئتهم تابعة لمشيئة الله وليست مستقلة وذلك رد على القدرية.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين،، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(وهذه الآية رد على الطائفتين المجبرة الجهمية والمعتزلة القدرية فإنه تعالى قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} فأثبت للعبد مشيئة وفعلاً ثم قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} فبين أن مشيئة العبد معلقة بمشيئته الله)
(1)
، وقال ابن القيم: (وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ} رد على الجبرية القائلين بأن العبد لا مشيئة له أو أن مشيئته مجرد علامة على حصول الفعل لا ارتباط بينها وبينه إلا مجرد اقتران عادي من غير أن يكون سبباً فيه.
وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} رد على القدرية القائلين بأن مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله بل متى شاء العبد الفعل وجد ويستحيل عندهم تعلق مشيئة الله بفعل العبد بل هو يفعله بدون مشيئة الله فالآيتان مبطلتان لقول الطائفتين)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: السيوطي، وابن عاشور
(3)
.
(1)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 488).
(2)
انظر: التبيان في أقسام القرآن لابن القيم (123).
(3)
انظر: الإكليل (3/ 1298)، والتحرير والتنوير (30/ 167).
سورة البروج
قرن الودود بالغفور ليدل على أن أهل الذنوب إذا تابوا غفر لهم وأحبهم
.
قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)} (البروج: 14).
447 -
قال السعدي رحمه الله: (وفي هذا سر لطيف، حيث قرن {الودود} بالغفور، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا، غفر لهم ذنوبهم وأحبهم، فلا يقال: بل تغفر ذنوبهم، ولا يرجع إليهم الود، كما قاله بعض الغالطين). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية مناسبة قرن الودود بالغفور في هذه الآية، وبين أن مناسبة ذلك هو الدلالة على أن أهل الذنوب إذا تابوا غفر الله لهم وأحبهم.
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط ابن القيم فقال: (وما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم وبالغفور فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ول
(1)
انظر: تفسير السعدي (919)، وفتح الرحيم للسعدي (56).
ايحبه وكذلك قد يرحم من لا يحب والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه ويرحمه ويحبه مع ذلك فإنه يحب التوابين وإذا تاب إليه عبده أحبه ولو كان منه ما كان)
(1)
.
وهذا يدل على كمال حلم الله وسعة رحمته أن يغفر للمسيء ثم يجمع له مع ذلك المحبة، بل يدل ذلك على كمال قدرة الله جل وعلا، قال البقاعي:(ولما ذكر سبحانه بطشه، وكان القادر على العنف قد لا يقدر على اللطف، وإن قدر فربما لم يقدر على الإبلاغ في ذلك، وكان لا يقدر على محو الذنوب أعيانها وآثارها على كل أحد بحيث لا يحصل لصاحبها عقاب ولا عتاب من أحد أصلاً إلا من كان قادراً على كل شيء)
(2)
.
(1)
انظر: التبيان في أقسام القرآن لابن القيم (92).
(2)
انظر: نظم الدرر (8/ 381).
سورة الأعلى
إن لم تنفع الذكرى لم يكن مأموراً بها
.
قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} (الأعلى: 9).
448 -
قال السعدي رحمه الله: (ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى، بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو ينقص من الخير، لم تكن الذكرى مأمورًا بها، بل منهيًا عنها
(1)
). ا. هـ
(2)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن الذكرى إذا لم تنفع بأن كانت تزيد الشر، أو ينقص بسببها الخير لم يكن مأموراً بها، ووجه استنباط ذلك من الآية مفهوم المخالفة - مفهوم الشرط-، حيث بين الله أن الذكرى مشروطة بالنفع ومفهوم الشرط إن لم يكن هناك نفع لم تكن الذكرى مأموراً بها، بل
(1)
فإنكار المنكر أربع درجات الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. انظر: إعلام الموقعين (3/ 12).
(2)
انظر: تفسير السعدي (921)، والقواعد الحسان للسعدي (71)، وفتح الرحيم للسعدي (170).
يكون النهي عنها في مثل هذه الحالة هو الأولى.
الموافقون:
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الشنقيطي:(وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)}. هذه الآية الكريمة يفهم منها أن التذكير لا يطلب إلا عند مظنة نفعه بدليل أَنْ الشرطية)
(1)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: ابن كثير
(2)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط، قال ابن عاشور:(فالشرط في قوله: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} جملة معترضة وليس متعلقاً بالجملة ولا تقييداً لمضمونها إذ ليس المعنى: فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تُذَكِّر إذا لم تنفع الذكرى)
(3)
، وقد تعددت أجوبة المخالفين لهذا الاستنباط عن معنى الشرط في الآية بأجوبة:
منها: أن في الكلام حذفا أي إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أي والبرد وهو قول الفراء والنحاس والجرجاني وغيرهم.
(4)
ومنها: أنها بمعنى (إذ) وإتيان (إن) بمعنى (إذ) مذهب الكوفيين خلافاً للبصريين.
(5)
(1)
انظر: دفع إيهام الاضطراب للشنقيطي (273).
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 3758).
(3)
انظر: التحرير والتنوير (30/ 284).
(4)
انظر: معالم التنزيل (4/ 445)، والتفسير الكبير (31/ 131)، وروح المعاني (15/ 319)، وفتح القدير (5/ 610).
(5)
انظر: الدر المصون (10/ 763).
ومنها: أن معنى {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} الإرشاد إلى التذكير بالأهم أي ذكر بالمهم الذي فيه النفع دون ما لا نفع فيه. فيكون المعنى ذكر الكفار مثلا بالأصول التي هي التوحيد، لا بالفروع لأنها لا تنفع دون الأصول وذكر المؤمن التارك لفرض مثلا بذلك الفرض المتروك لا بالعقائد ونحو ذلك لأنه أنفع
(1)
.
ومنها: أن {إِنْ} بمعنى (قد) وهو قول قطرب
(2)
.
ومنها: أنها صيغة شرط أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكرهم، وممن قاله: أبو حيان، وابن عاشور
(3)
.
النتيجة:
ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح، لأنه المتوافق مع ظاهر الشرط في الآية وبقاء الآية على ظاهرها هو الأولى حتى يأتي ما يفيد الصرف عن هذا الظاهر، قال الشنقيطي:(والذي يظهر لمقيد هذه الحروف عفا الله عنه بقاء الآية الكريمة على ظاهرها وأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن يكرر الذكرى تكريراً تقوم به حجة الله على خلقه مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة أما إذا علم عدم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم أنه لا فائدة فيه لأن العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه)
(4)
.
(1)
انظر: دفع إيهام الاضطراب للشنقيطي (273).
(2)
انظر: الدر المصون (10/ 763)، ودفع إيهام الاضطراب للشنقيطي (273).
(3)
انظر: البحر المحيط (8/ 454)، والتحرير والتنوير (30/ 284).
(4)
انظر: دفع إيهام الاضطراب (275).
سورة الغاشية
تسطيح الأرض لا ينافي كرويتها
.
قال تعالى: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} (الغاشية: 20).
449 -
قال السعدي رحمه الله: (واعلم أن تسطيحها لا ينافي أنها كرة مستديرة، قد أحاطت الأفلاك فيها من جميع جوانبها، كما دل على ذلك النقل والعقل والحس والمشاهدة
(1)
، كما هو مذكور معروف عند أكثر الناس، خصوصًا في هذه الأزمنة، التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد، فإن التسطيح إنما
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية نقلاً عن أبي الحسين أحمد ابن جعفر بن المنادي: (وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (25/ 195)، وقال شيخ الإسلام كذلك:(وحكى الإجماع كذلك -أي الإجماع على كروية الأرض- الإمام أبومحمد بن حزم، وأبوالفرج بن الجوزي، وروى العلماء ذلك بالأسانيد المعروفة عن الصحابة والتابعين، وذكروا ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، وبسطوا القول في ذلك بالدلائل السمعية) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (6/ 586).
وتمكن العلم الحديث من تصوير الأرض من خارجها في عصر الفضاء والأقمارالصناعية، وأعلن أن الأرض أشبه بحبة كمثرى، وأن أقرب شكل لها هو البيضة. انظر: الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن والسنة النبوية د. أحمد متولي (224).
ينافي كروية الجسم الصغير جدًا، الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر، وأما جسم الأرض الذي هو في غاية الكبر والسعة، فيكون كرويًا مسطحًا، ولا يتنافى الأمران، كما يعرف ذلك أرباب الخبرة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن كروية الأرض لا ينافي تسطيحها، ووجه ذلك أن الجسم الكبير يكون كروياً مسطحاً فلا تنافي لإمكانية الجمع بينهما إذ الجسم الكبير قد يكون كروياً مسطحاً، وإنما التنافي يكون في الجسم الصغير فلا تجتمع فيه الكروية والتسطيح.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الألوسي:(ولا ينافي ذلك القول بأنها قريبة من الكرة الحقيقية لمكان عظمها)
(2)
، وممن قال بذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، وحقي، والعثيمين، وعطية محمد سالم
(3)
.
المخالفون:
خالف بعض المفسرين في هذا الاستنباط وقالوا إن الآية دالة على أن الأرض مسطحة وليست كروية، قال جلال الدين المحلي:(وقوله {سُطِحَتْ} ظاهر في أن الأرض سطح، وعليه علماء الشرع، لا كرة كما قاله أهل الهيئة وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع)
(4)
، وممن أشار
(1)
انظر: تفسير السعدي (922).
(2)
انظر: روح المعاني (15/ 329).
(3)
انظر: التفسير الكبير (31/ 144)، وروح البيان (10/ 424)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين جزء عم (183)، وتتمة أضواء البيان (9/ 202).
(4)
انظر: تفسير الجلالين (603).
إليه من المفسرين أيضاً: ابن عطية
(1)
.
النتيجة:
والصحيح ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه على أن سطحية الأرض لا ينافي كرويتها، وأن الاستدلال على نفي كروية الأرض بهذه الآية ضعيف، قال الرازي:(ومن الناس من استدل بهذا على أن الأرض ليست بكرة، وهو ضعيف، لأن الكرة إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح)
(2)
.
(1)
انظر: المحرر الوجيز (1937).
(2)
انظر: التفسير الكبير (31/ 144).
سورة الشرح
تعريف العسر يدل على أنه واحد، وتنكير اليسر يدل على تكراره
.
قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} (الشرح: 5 - 6).
450 -
قال السعدي رحمه الله: (وتعريف " العسر " في الآيتين، يدل على أنه واحد، وتنكير " اليسر " يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين.
وفي تعريفه بالألف واللام، الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر -وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ- فإنه في آخره التيسير ملازم له). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن العسر واحد، وأن اليسر مكرر، كما أن العسر وإن بلغ في غايته ما بلغ إلا أن اليسر ملازم له، ووجه
(1)
انظر: تفسير السعدي (929).
استنباط ذلك من الآية أن العسر تتكرر معرفاً، بينما اليسر تكرر منكراً.
الموافقون:
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط كثير من المفسرين، قال الطوفي:(لما كرر العسر معرفاً كان واحداً، ولما كرر اليسر منكراً كان متعدداً)
(1)
، وقال الخازن:(ومن عادة العرب إذا ذكرت اسماً معرفاً ثم أعادته كان الثاني هو الأول، وإذا ذكرت اسماً نكرة ثم أعادته كان الثاني غير الأول، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف فكان عسراً واحداً، واليسر مكرر بلفظ التنكير فكانا يسرين)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الجصاص، وابن كثير، وابن القيم، والبيضاوي، وأبوالسعود، وشهاب الدين الخفاجي، والصاوي، والشوكاني،
والعثيمين
(3)
.
المخالفون:
خالف الجرجاني في هذا الاستنباط فقال البغوي نقلاً عنه: (وقال أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني
(4)
صاحب "النظم"فلم يحصل منه غير قولهم: إن العسر معرفة واليسر نكرة، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران، وهذا قول مدخول، إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفاً، إن مع الفارس سيفًا، فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدً
(1)
انظر: الإشارات الإلهية (3/ 414).
(2)
انظر: لباب التأويل (4/ 442).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 639)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 3807)، وبائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (3/ 333)، وأنوار التنزيل (3/ 546)، وإرشاد العقل السليم (6/ 444)، وحاشية الشهاب على البيضاوي (9/ 519)، وحاشية الصاوي على الجلالين (6/ 295)، وفتح القدير (5/ 656)، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين جزء عم (253).
(4)
هو: أبو علي، الحسن بن يحي بن نصر الجرجاني، كان مسكنه بجرجان، له تصانيف منها: نظم القرآن. انظر: تاريخ جرجان للسهمي (188).
والسيف اثنين)
(1)
، وممن قال بذلك أيضاً: ابن هشام، وابن عاشور
(2)
.
النتيجة:
وما ذهب إليه السعدي ومن وافقه هو الصحيح؛ لأنه قول الأكثر، ويحمل على الغالب، بينما ما ذهب إليه الجرجاني ومن معه يحمل على النادر.
ومما يؤيد ما اختاره الأولون أن المعنى الذي اختاروه فيه تأسيس، بينما ما اختاره الآخرون إنما فيه معنى التأكيد، والتأسيس أولى، كما أن المعنى الأول فيه تسلية وتنفيس فالحمل عليه أولى
(3)
.
(1)
انظر: معالم التنزيل (4/ 470).
(2)
انظر: مغني اللبيب (2/ 338)، والتحرير والتنوير (30/ 415).
(3)
انظر: حاشية زاده على البيضاوي (8/ 629).
سورة التكاثر
البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية
.
قال تعالى: {شَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} (التكاثر: 2).
451 -
قال السعدي رحمه الله: (ودل قوله: {شَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية، أن الله سماهم زائرين، ولم يسمهم مقيمين، فدل ذلك على البعث والجزاء بالأعمال في دار باقية غير فانية). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الآخرة، مما يدل على البعث والجزاء، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله سمى مقامهم في دار البرزخ زيارة، مما يدل على عدم بقاءهم فيها وهذا يدل باللازم على البعث والجزاء.
وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:({شَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} تنبيهاً على أن الزائر لابد أن
(1)
انظر: تفسير السعدي (929).
ينتقل عن مزاره فهو تنبيه على البعث)
(1)
، وقال شهاب الدين الخفاجي:(وفيها إشارة إلى تحقق البعث؛ لأن الزائر لابد من انصرافه عما زاره؛ ولذا قال بعض الأعراب لما سمعها: بعثوا ورب الكعبة، وقال عمر بن عبدالعزيز: لابد لمن زار، أن يرجع إلى جنة أو نار)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: ابن القيم، والألوسي، وحقي، وابن عاشور
(3)
.
(1)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (16/ 517).
(2)
انظر: حاشية الشهاب على البيضاوي (9/ 557).
(3)
انظر: بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (3/ 354)، وروح المعاني (15/ 452)، وروح البيان (10/ 515)، والتحرير والتنوير (30/ 520).
سورة الكافرون
تكرار نفي عبادتهم ليدل الأول على عدم وجود الفعل والثاني على أنه صار وصفاً
.
قال تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} (الكافرون: 5).
452 -
قال السعدي رحمه الله: (كرر ذلك ليدل الأول على عدم وجود الفعل، والثاني على أن ذلك قد صار وصفًا لازمًا). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هاتين مناسبة تكرارهما، وأن ذلك ليدل الأول على عدم وجود العبادة منهم، وليدل الثاني على أن ذلك صار وصفاً لهم.
وقد ذكر شيخ الإسلام نحو ما قاله السعدي، فقال:(فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل، والثاني: نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل)
(2)
، واستحسنه ابن كثير، والبقاعي، والعثيمين
(3)
.
(1)
انظر: تفسير السعدي (936).
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (16/ 554).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 3882)، ونظم الدرر (8/ 556)، وتفسير القرآن الكريم جزء عم للعثيمين (341).
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بذلك هو نفي للحال والمستقبل، وممن قال بذلك: الزجاج، وثعلب، واستحسن ذلك ابن القيم، والزركشي، والسيوطي
(1)
.
وذهب بعضهم إلى أن المقصود من التكرار هنا هو التأكيد، أي تأكيد على عدم تبعية أحد الأطراف للآخر وهو قول الفراء، وأبي حيان، والشوكاني
(2)
.
(1)
انظر: معاني القرآن للزجاج (5/ 371)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (16/ 538)، وبدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (3/ 373)، والبرهان في علوم القرآن (3/ 25)، والإتقان في علوم القرآن (5/ 1653).
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (16/ 534)، والبحر المحيط (8/ 522)، وفتح القدير (5/ 722).
سورة النصر
قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم
.
قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} (النصر: 1 - 3).
453 -
قال السعدي رحمه الله: (وأما الإشارة الثانية، فهي الإشارة إلى أن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب ودنا، ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم الله به، وقد عهد أن الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار، كالصلاة والحج، وغير ذلك، فأمر الله لرسوله بالحمد والاستغفار في هذه الحال، إشارة إلى أن أجله قد انتهى، فليستعد ويتهيأ للقاء ربه، ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات الله وسلامه عليه). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه السورة قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه استنباط ذلك أن الأمور الفاضلة تختم بالحمد والاستغفار، وعمر النبي صلى الله عليه وسلم فاضل،
(1)
انظر: تفسير السعدي (936).
فأمر الله له بالاستغفار إشارة إلى قرب أجله، ودلالة الآية عليه دلالة لزوم.
وقد روي هذا الاستنباط عن بعض الصحابة والتابعين، قال ابن عباس رضي الله عنهما جواباً لعمر رضي الله عنه لما سأله عن هذه الآية:(هو أجل رسول الله أعلمه له، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول)
(1)
، وممن روي عنه ذلك أيضاً: ابن مسعود، ومجاهد، والضحاك
(2)
.
وقد قال بهذا الاستنباط بعض المفسرين ممن جاء بعد هؤلاء، قال الطوفي: (قيل: هو إشارة إلى قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
، وممن أشار إلى ذلك من المفسرين أيضاً: الرازي، والبيضاوي، وأبوالسعود، والألوسي، وابن عاشور
(4)
.
وقد أشار بعض المفسرين إلى أوجه استنباط ذلك من الآية:
منها: أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكمال والتمام، وذلك يعقبه الزوال
(5)
.
ومنها: أن قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} وهو صلى الله عليه وسلم، كان يسبح بحمده دائما فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بقية فأمره بتوفيتها
(6)
.
ومنها: أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتم الأعمال
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:(فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)، ح (4970).
(2)
روى ذلك عنهم ابن جرير الطبري في جامع البيان (12/ 732).
(3)
انظر: الإشارات الإلهية (3/ 425).
(4)
انظر: التفسير الكبير (32/ 151)، وأنوار التنزيل (3/ 580)، وإرشاد العقل السليم (6/ 483)، روح المعاني (15/ 484)، والتحرير والتنوير (30/ 594).
(5)
انظر: التفسير الكبير (32/ 151).
(6)
انظر: إعلام الموقعين (1/ 333).
فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا وشرع للمتوضئ بعد كمال وضوئه أن يقول اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجاً فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها فشرع له الاستغفار عقيبها
(1)
، وهذا الوجه هو الذي أشار إليه السعدي.
(1)
انظر: إعلام الموقعين (1/ 333).
سورة المسد
الإخبار عن أبي لهب وامرأته أنهما من أهل النار يلزم من ذلك أنهما لا يسلمان
.
قال تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)} (المسد: 3 - 4).
454 -
قال السعدي رحمه الله: (وعلى كل، ففي هذه السورة، آية باهرة من آيات الله، فإن الله أنزل هذه السورة، وأبو لهب وامرأته لم يهلكا، وأخبر أنهما سيعذبان في النار ولا بد، ومن لازم ذلك أنهما لا يسلمان، فوقع كما أخبر عالم الغيب والشهادة). ا. هـ
(1)
الدراسة:
استنبط السعدي من هذه الآية دلالتها على أن أبا لهب وامرأته لن يسلما، ووجه استنباط ذلك من الآية أن الله أخبر أنهما من أهل النار فلزم من ذلك عدم إسلامهما، فوقع ذلك ليدل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فدلالة الآية على ذلك دلالة لزوم.
(1)
انظر: تفسير السعدي (937).
وقد وافق السعدي على هذا الاستنباط بعض المفسرين، قال الجصاص:(وقوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}، إحدى الدلالات على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر بأنه وامرأته سيموتان على الكفر ولا يسلمان، فوجد مخبره على ما أخبر به)
(1)
، وقال ابن عاشور:(ونزل هذا القرآن في حياة أبي لهب. وقد مات بعد ذلك كافراً، فكانت هذه الآية إعلاماً بأنه لا يُسلم وكانت من دلائل النبوءة)
(2)
، وممن أشار إلى ذلك أيضاً: عطية محمد سالم
(3)
.
خالف البيضاوي في ذلك وقال: (وليس فيه ما يدل على أنه لا يؤمن، لجواز أن يكون صليّها للفسق)
(4)
، وتابعه على ذلك: أبوالسعود، وحقي
(5)
.
ولكن الحق ما ذهب إليه السعدي ومن وافقه؛ ويؤيده دلالة اللزوم في الآية، وكذلك الواقع فأبو لهب وامرأته ماتا على الكفر، فكان فهم موتهما على الكفر من الآية صحيح، وأما القول باحتمال أن يكون ذلك بالفسق لا بالكفر فيرده سياق السورة، فسب النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في إيذائه ليست مجرد فسق. والله أعلم.
(1)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 647).
(2)
انظر: التحرير والتنوير (30/ 604).
(3)
انظر: تتمة أضواء البيان (9/ 608).
(4)
انظر: أنوار التنزيل (3/ 582).
(5)
انظر: إرشاد العقل السليم (6/ 485)، وروح البيان (10/ 552).
الخاتمة
الخاتمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فمن خلال دراسة استنباطات السعدي أخلُص إلى النتائج الآتية:
1 -
أن الاستنباط من القرآن هو: استخراج المعاني، والأحكام، والحكم، والمناسبات، الخفية، من القرآن الكريم، بطريق صحيح.
2 -
أن الاستنباط لا بد له من مقدمة أساسية وهي تفسير اللفظ القرآني تفسيراً صحيحاً، وأن الاستنباط يستدعي قوة فكر، وحسن تدبر، وصحة قصد.
3 -
حتى يكون الاستنباط صحيحاً، فلابد من مراعاة الشروط المعتبرة في المستنبط، وفي المعنى المستنبط.
4 -
أن السعدي من بني تميم من حائل، ولكن أسرته قدمت إلى عنيزة عام 1120 هـ.
5 -
عاش السعدي في القرن الرابع عشر الهجري، وكان يتيماً، ونشأ مقبلاً على العلم شغوفاً به.
6 -
لم يرحل السعدي إلى خارج بلاد نجد، ولكن استفاد من العلماء الذين رحلوا إلى مصر أو الشام، وكانت له كذلك مكاتبات مع علماء آخرين في القضايا العصرية.
7 -
كان في بدايته حنبلي المذهب، ثم توسع في العلم والإطلاع
فخرج عن القيود المذهبية متبعاً الدليل ولو في غير المذهب الحنبلي.
8 -
ألف السعدي ما يربو على الأربعين مؤلفاً، ولكن تميزت مؤلفاته بالإبداع في التأليف إما في طريقة الكتابة أو في مضمونها.
9 -
اهتم السعدي بالاستنباط وقد بدا ذلك واضحاً في تأليفه كتباً خاصة بالاستنباط، وفي إكثاره من الاستنباطات في تفسيره.
10 -
استخدم السعدي صيغاً تدل على مواطن الاستنباط، وتأتي هذه الصيغ منوعة من حيث طبيعة الاستنباط، فهناك ما هو خاص بالاستنباط الواحد المباشر من الآية، وهناك ما هو خاص بالقصص القرآني، أو عندما يكون أكثر من استنباط.
11 -
استخدم السعدي في عرضه الاستنباط طريقة السؤال والجواب، ولكن بقلة.
12 -
تنوعت الاستنباطات عند السعدي فلم تكن في فن واحد بل في فنون
مختلفة، الاستنباطات الفقهية، ثم الاستنباطات في علوم القرآن، ثم الاستنباطات العقدية، ثم الاستنباطات التربوية والسلوكية، ثم الاستنباطات الإعجازية، ثم استنباطات السياسة الشرعية، ثم الاستنباطات الأصولية، ثم الاستنباطات اللغوية.
13 -
استخدم السعدي أساليب علمية في استخراج الاستنباطات، وكان استخدامه لهذه الأساليب حسب الأكثر استعمالاً كالتالي: الاستنباط بدلالة المفهوم (مفهوم المخالفة)، ثم الاستنباط بدلالة الالتزام، ثم الاستنباط بالقياس، ثم الاستنباط بدلالة المطرد من أساليب القرآن، ثم الاستنباط بدلالة النص (مفهوم الموافقة)، ثم الاستنباط بدلالة التضمن، ثم الاستنباط بدلالة الاقتران.
14 -
ظهر في بعض الاستنباطات تأثر السعدي باستنباطات الصحابة والتابعين، ولكن بقلة.
15 -
تأثر السعدي بشكل واضح في استنباطاته ببعض المفسرين،
وهم على الترتيب حسب الأكثر تأثيراً في السعدي كالتالي: ابن القيم، ثم شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم ابن كثير.
16 -
تعرض السعدي لنقد بعض استنباطات المفسرين ممن سبقه ولكن بقلة.
17 -
تميزت استنباطات السعدي بدقتها، وسلامتها من المخالفات العقدية، وظهور التمكن الفقهي في استنباطاته الفقهية، وتميزت كذلك بسهولة عبارتها، وتنوعها.
18 -
ظهر في استنباطات السعدي اهتمامه بالأمور العصرية، ووضعها في مكانها المناسب من الاستنباط، مما جعل السعدي يتفرد ببعض الاستنباطات عن سابقيه من المفسرين.
19 -
هناك من نقد السعدي في التفسير، والاستنباط، وهذه الانتقادات منها ما هو صحيح، ومنها ما هو غير صحيح، ومنها ما هو محل اختلاف لا يجزم بخطأ من اختار أحد الآراء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
فهرس المصادر والمراجع
أولاً: الرسائل الجامعية:
1 -
الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي مفسراً، رسالة ماجستر، إعداد عبدالله بن مسابح الطيار، دار ابن الجوزي، الدمام، ط الأولى 1421 هـ.
2 -
الفكر التربوي عند الشيخ عبدالرحمن السعدي، رسالة دكتوراه، إعداد عبدالعزيز الرشودي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط الأولى 1420 هـ.
3 -
منهج الاستنباط من القرآن، رسالة ماجستير، إعداد فهد الوهبي، مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الشاطبي، جدة، ط الأولى 1428 هـ.
ثانياً المصادر والمراجع المطبوعة:
1 -
إبطال دعوى الخروج ليأجوج ومأجوج، لعبدالكريم الحميد.
2 -
إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف، لمحمد نصر، وسليم الهلالي، مكتبة الرشد، ط الأولى 1424 هـ.
3 -
إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة، لحمود التويجري، دار الصميعي، الرياض، ط الثانية 1414 هـ.
4 -
إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر (منتهى الأماني والمسرات في علوم القراءات) لأحمد بن محمد البنا، تحقيق د. شعبان إسماعيل، ط الأولى 1407 هـ- عالم الكتب - بيروت.
5 -
الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: مركز الدراسات القرآنية، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة، 1426 هـ
6 -
أثر القواعد الأصولية اللغوية في استنباط أحكام القرآن، د. عبدالكريم حامدي، دار ابن حزم، بيروت، ط الأولى 1429 هـ.
7 -
الإجماع لابن منذر النيسابوري، تحقيق أبو حماد حنيف، ط الأولى 1402 هـ، دار طيبة - الرياض.
8 -
الإجماعات الواردة في الفرائض، لزايد العمري، دار الآثار، مصر، ط الأولى 2007 م.
9 -
الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر، لحمود التويجري، دار العليان، بريدة، ط الثانية 1406 هـ.
10 -
أحكام القرآن - لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي - تحقيق علي محمد البجاوي، ط الأولى 1421 هـ، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
11 -
أحكام القرآن لابن الفرس الأندلسي، تحقيق د. طه بوسريح، دار ابن حزم، بيروت، ط الأولى 1427 هـ.
12 -
أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: عبد السلام محمد علي شاهين، ط الثانية، 1424 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
13 -
أحكام القرآن، لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق د. سعد الدين أونال، ط الأولى 1416 هـ، مركز البحوث الإسلامية التابع لوقف الديانة التركي - استنبول.
14 -
أحكام القرآن، لعماد الدين الطبري المعروف بالكيا الهراسي، تحقيق: موسى علي، ود. عزت عطية، دار الجيل، بيروت، ط الأولى 2004 م.
15 -
أحكام القرآن، للشافعي، تحقيق عبدالغني عبدالخالق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412 هـ.
16 -
أحكام القرآن، للعثيمين، بإشراف مؤسسة العثيمين الخيرية، مدار الوطن، الرياض، الأولى 1420 هـ.
17 -
أحكام القرآن، للقاضي أبي إسحاق إسماعيل المالكي، تحقيق د. عامر صبري، دار ابن حزم، بيروت الأولى 1426 هـ.
18 -
أحكام أهل الذمة، لابن القيم الجوزية، تحقيق د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، ط الرابعة، 1994 م.
19 -
الإحكام في أصول الأحكام، لابن جزم، دار الكتب العلمية، بيروت.
20 -
الأربعين في أصول الدين، فخر الدين الرازي - تحقيق: أحمد السقا، ط الأولى 1406 هـ، مطبعة دار التضامن، بالقاهرة.
21 -
إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، لأبي السعود محمد بن محمد العمادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1419 هـ.
22 -
الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد، للشيخ ابن جبرين، اعتنى به محمد المنيع، دار الأفهام، ط الثالثة 1424 هـ.
23 -
إرشار الفارض إلى كشف الغوامض في علم الفرائض، لبدر الدين سبط المارديني، تحقيق د. مجدي المكي، الريان، بيروت، ط الأولى 2000 م.
24 -
إرواء الغليل، للألباني، ط الثانية 1405 هـ، المكتب الإسلامي - بيروت.
25 -
أساس البلاغة، للزمخشري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، ط الأولى 1419 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
26 -
الاستذكار، لابن عبد البر، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، ط الأولى 1414 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
27 -
الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، تحقيق: عادل مرشد، ط الأولى 1423 هـ، دار الأعلام - الأردن.
28 -
أسد الغابة في معرفة الصحابة، لعز الدين ابن الأثير الجزري، تحقيق: محمد البنا وآخرون، دار الشعب.
29 -
الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، د. محمد بن محمد أبوشهبة، ط الرابعة 1408 هـ، مكتبة السنة - القاهرة.
30 -
أسرار التكرار، للكرماني، تحقيق عبدالقادر عطا، دار الاعتصام.
31 -
الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية، للطوفي، تحقيق حسن قطب، دار الفاروق، ط الأولى 1423 هـ.
32 -
الأشباه والنظائر، للثعالبي، تحقيق: محمد المصري، ط الأولى 1404 هـ، دار سعد الدين للثقافة - دمشق - القاهرة.
33 -
الأشباه والنظائر، لمقاتل بن سليمان البلخي، تحقيق د. عبد الله شحاته، ط الثانية 1395 هـ، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
34 -
أشراط الساعة، ليوسف الوابل، دار ابن الجوزي، ط السابعة 1416 هـ.
35 -
أصول السرخسي، لأبي بكر محمد السرخسي، تحقيق أبوالوفاء الأفغاني، دار المعرفة، 1372 هـ.
36 -
الأضداد، لأبي حاتم السجستاني، تحقيق: د. محمد أبو جرى، ط 1414 هـ، مكتبة الثقافة الدينية - مصر.
37 -
الأضداد، لعبد الواحد الحلبي، تحقيق: د. عزة حسن، 1382 هـ، المجمع العلمي العربي - دمشق.
38 -
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد بن الأمين الشنقيطي، عالم الكتب، بيروت.
39 -
الاعتصام، للشاطبي، تحقيق سليم الهلالي، دار ابن عفان، ط الأولى 1414 هـ.
40 -
إعراب القرآن، لأبي جعفر أحمد بن محمد النحاس، تحقيق: عبد المنعم خليل إبراهيم، ط الأولى 1421 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
41 -
أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، تحقيق محمد إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417 هـ.
42 -
الأعلام، لخير الدين الزركلي، ط الثانية عشرة 1997 م، دار العلم للملايين - بيروت.
43 -
الأغراب في أحكام الكلاب، لابن المبرد، تحقيق د. عبدالله الطيار، ود. عبدالعزيز الحجيلان، دار الوطن، الرياض، الأولى 1417 هـ.
44 -
الإغفال، لأبي علي الفارسي، تحقيق: د. عبد الله إبراهيم، المجمع الثقافي، 1424 هـ، أبو ظبي.
45 -
اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، تحقيق د. ناصر العقل، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية، ط السابعة 1419 هـ.
46 -
أقل وأكثر مدة الحمل دراسة فقهية طبية، د. عبدالرشيد قاسم.
47 -
الإكليل في استنباط التنزيل، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: د. عامر العرابي، ط الأولى 1422 هـ، دار الأندلس الخضراء - جدة.
48 -
الأم، للإمام الشافعي، تحقيق: د. رفعت عبد المطلب، ط الأولى 1422 هـ، دار الوفاء - مصر - المنصورة.
49 -
إنباء الغمر بأبناء العمر، لشهاب الدين ابن حجر العسقلاني، بعناية د. محمد خان، ط الثانية 1406 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
50 -
الانتصار للقرآن، للباقلاني، تحقيق د. محمد عصام القضاة، ط الأولى 1422 هـ، دار ابن حزم - بيروت.
51 -
الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال مطبوع مع الكشاف، لابن المنير الاسكندراني، دار المعرفة، بيروت.
52 -
انشراح الصدور في تدبر سورة النور، د. سليمان اللاحم، دار العاصمة، الرياض، الأولى 1426 هـ.
53 -
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للمرداوي، تحقيق محمد إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1417 هـ.
54 -
أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للقاضي البيضاوي، تحقيق محمد حلاق، ومحمد الأطرش، دار الرشيد، بيروت، ط الأولى 1421 هـ.
55 -
إهداء الديباجة بشرح سنن ابن ماجه، صفاء العدوي، ط الأولى 1422 هـ، دار اليقين - البحرين.
56 -
أيسر التفاسير لكلام العلي القدير، لأبي بكر الجزائري، ط الثالثة 1418 هـ، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة.
57 -
إيضاح الأسرار المصونة في الجواهر المكنونة، أحمد الرسحولي، دار الفكر.
58 -
إيضاح الأسرار المصونة في الجواهر المكنونة، لأحمد الرسموكي، دار الفكر.
59 -
إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لإسماعيل البغدادي، ط 1413 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
60 -
الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيس، تحقيق: أحمد حسن فرحات، ط الأولى 1406 هـ، دار المنارة - جدة.
61 -
البحر المحيط، لابن حيان، تحقيق: عادل عبد الموجود، علي معوض، وآخرون، ط الثانية 2007 م، دار الكتب العلمية - بيروت.
62 -
بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم، ليسري محمد، وصالح الشامي، ط الأولى 1427 هـ، دار ابن الجوزي - الدمام.
63 -
بدائع السلك في طبائع الملك، لأبي عبدالله بن الأزرق، تحقيق د. علي النشار، من منشورات وزارة الإعلام للجمهورية العراقية، 1977 م.
64 -
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، تحقيق علي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى، 1418 هـ.
65 -
بدائع الفوائد، لابن القيم، تحقيق علي العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط الأولى 1425 هـ.
66 -
بداية المجتهد، لابن رشد، تحقيق عبدالحليم عبدالحليم، دار زمزم، ط الثانية 1403 هـ.
67 -
البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير، ط الثانية 1977 م، دار الفكر - بيروت.
68 -
البرهان في علوم القرآن، للزركشي، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط 1422 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
69 -
بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، لأحمد بن يحيى الضبي، تحقيق: د. روجيه السويفي، ط الأولى 1417 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
70 -
تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة، عبداللطيف الحفظي، دار الأندلس، جدة، ط الأولى 1421 هـ.
71 -
تاج العروس من جواهر القاموس، لمحب الدين الزبيدي، تحقيق علي شيري، ط 1414 هـ، دار الفكر - بيروت.
72 -
تاريخ ابن خلدون، للعلامة ابن خلدون المغربي، دار الكتاب اللبناني - بيروت.
73 -
التاريخ الكبير، للإمام البخاري، توزيع: دار الباز - مكة المكرمة.
74 -
تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، د. السيد سالم، دار النهضة - بيروت.
75 -
تاريخ بغداد، للحافظ الخطيب البغدادي، تحقيق: مصطفى عطار، ط الأولى 1417 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
76 -
تاريخ جرجان للسهمي، مراقبة د. محمد خان، عالم الكتب، ط الرابعة، 1407 هـ.
77 -
تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق: د. أكرم العمري، ط الثانية 1405 هـ، دار طيبة - الرياض.
78 -
تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، ط الأولى 1423 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
79 -
تبصير وتيسير المنان، علي بن أحمد المهايجي، ط الثانية 1403 هـ، دار عالم الكتب - بيروت.
80 -
التبيان في إعراب القرآن، لأبي البقاء العكبري، تحقيق: علي البجاوي، مطبعة عيسى البابي - القاهرة.
81 -
التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، تحقيق عادل محمد، دار الإيمان، مصر.
82 -
تجريد التوحيد المفيد، لأحمد بن علي المقريزي، تحقيق: د. أحمد السايح ود. السيد الجميلي، ط الأولى 1417 هـ، مركز الكتاب للنشر - مصر - القاهرة.
83 -
التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس.
84 -
تحفة المودود بأحكام المولود، لابن القيم، تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط، دار البيان، دمشق ط الأولى 1391 هـ.
85 -
التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية، للشيخ صالح بن فوزان الفوزان، دار المعارف، الرياض، ط الثالثة 1406 هـ.
86 -
التذكار في أفضل الأذكار، للقرطبي، ط الثالثة 1407 هـ، مكتبة دار البيان، توزيع مكتبة المؤيد - الرياض.
87 -
تذكرة الأريب في تفسير الغريب لابن الجوزي، تحقيق: د. علي البواب، ط الأولى 1407 هـ، دار المعارف - الرياض.
88 -
تذكرة الحفاظ، للذهبي، تحقيق: مكتبة الحرم المكي، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
89 -
التذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي، تحقيق محمود البسطويسي، دار البخاري، المدينة، ط الأولى 1417 هـ.
90 -
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي الغرناطي، تحقيق: محمد هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1415 هـ.
91 -
التعقبات الجياد على تفسير السعدي لبعض الآيات، لعلي رضا المدني، دار الكتاب والسنة، مصر، ط الأولى 2007 م.
92 -
التعليق المغني على سنن الدارقطني، للعظيم آبادي، مطبعة فالكن، لاهور، باكستان.
93 -
التعليق وكشف النقاب على نظم قواعد الإعراب، لعبدالرحمن السعدي، تحقيق محمد آل بسام، ط الأولى 1426 هـ.
94 -
التعليقات الذكية على العقيدة الواسطية، لابن جبرين، ط الأولى 1419 هـ، دار الوطن - الرياض.
95 -
تفسر القرآن، لأبي المظفر السمعاني، تحقيق: ياسر إبراهيم، وغنيم عباس، ط الأولى 1418 هـ، دار الوطن للنشر - الرياض.
96 -
تفسير ابن باديس، لعبدالحميد بن باديس، اعتنى به، أبوعبدالرحمن محمود، دار الرشيد، الجزائر، ط الأولى 1430 هـ.
97 -
تفسير ابن عرفة، لمحمد بن محمد ابن عرفة، تحقيق جلال الأسيوطي، دار الكتب العلمية، ط الأولى 2008 م.
98 -
تفسير الأحلام، لابن سيرين، دار الغد الجديد، القاهرة، ط الأولى 1428 هـ.
99 -
تفسير الجلالين، تعليق: صفي الرحمن المباركفوري، ط الثانية 1422 هـ، دار السلام - الرياض.
100 -
التفسير الصحيح، أ. د. حكمت بشير، 1419 هـ، دار المآثر، المدينة المنورة.
101 -
تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب، ط الثانية 1424 هـ، مكتبة نزار الباز - مكة المكرمة.
102 -
تفسير القرآن الكريم الحجرات-الحديد، للعثيمين، طبع بإشراف مؤسسة العثيمين الخيرية، دار الثريا للنشر، الرياض، ط الأولى 1425 هـ.
103 -
تفسير القرآن الكريم جزء عم، للعثيمين، طبع بإشراف مؤسسة العثيمين الخيرية، دار الثريا للنشر، الرياض، ط الثالثة 1424 هـ.
104 -
تفسير القرآن الكريم سورة آل عمران، للعثيمين، طبع بإشراف مؤسسة العثيمين الخيرية، دار ابن الجوزي، الدمام، ط الأولى 1426 هـ.
105 -
تفسير القرآن الكريم سورة الصافات، للعثيمين، طبع بإشراف مؤسسة العثيمين الخيرية، دار الثريا للنشر، الرياض، ط الأولى 1424 هـ.
106 -
تفسير القرآن الكريم سورة الفاتحة-البقرة، للعثيمين، طبع بإشراف مؤسسة العثيمين الخيرية، دار ابن الجوزي، الدمام، ط الأولى 1423 هـ.
107 -
تفسير القرآن الكريم سورة الكهف، للعثيمين، طبع بإشراف مؤسسة العثيمين الخيرية، دار ابن الجوزي، الدمام، ط الأولى 1423 هـ.
108 -
تفسير القرآن الكريم سورة ص، للعثيمين، طبع بإشراف مؤسسة العثيمين الخيرية، دار الثريا للنشر، الرياض، ط الأولى 1425 هـ.
109 -
تفسير القرآن الكريم سورة يس، للعثيمين، طبع بإشراف مؤسسة العثيمين الخيرية، دار الثريا للنشر، الرياض، ط الأولى 1424 هـ.
110 -
تفسير القرآن، للإمام عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، ط الأولى 1411 هـ، دار المعرفة - بيروت.
111 -
التفسير الكامل لابن تيمية، تحقيق: عمر العمروي، ط الأولى 1423 هـ، دار الفكر - بيروت.
112 -
التفسير الكبير - لفخر الدين الرازي، ط الأولى 1411 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
113 -
التفسير الكبير للطبراني، تحقيق هشام البدراني، دار الكتاب الثقافي، الأردن، ط الأولى 2008 م.
114 -
تفسير المراغي، لأحمد مصطفى المراغي، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
115 -
تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، تحقيق فؤاد عبدالغفار، المكتبة التوفيقية، القاهرة.
116 -
تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، د. محمد أديب الصالح، المكتب الإسلامي، ط الرابعة 1413 هـ.
117 -
تفسير آيات الأحكام في سورة المائدة، د. سليمان اللاحم، دار العاصمة، الرياض، الأولى 1424 هـ.
118 -
تفسير آيات الأحكام في سورة النساء، د. سليمان اللاحم، دار العاصمة، الرياض، الأولى 1424 هـ.
119 -
تفسير سورة النور، د. عبدالهادي التازي، طبع في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية.
120 -
تفسير سورة النور، لابن تيمية، تحقيق زهير الكبي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط الأولى 1413 هـ.
121 -
تفسير سورة النور، لمحمد الأمين الشنقيطي، كتبه عنه د. عبدالله الأهدل، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، ط الأولى 1410 هـ.
122 -
تفسير غريب القرآن، لابن الأمير الصنعاني، تحقيق: محمد صبحي حلاق، ط الأولى 1421 هـ، دار ابن كثير - دمشق.
123 -
تفسير غريب القرآن، لابن الملقن، تحقيق: سمير المجذوب، ط الأولى 1408 هـ، عالم الكتب - بيروت.
124 -
تفسير غريب القرآن، لابن قتيبة، دار الكتب العلمية - بيروت.
125 -
التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي.
126 -
تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: مصطفى عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1413 هـ.
127 -
تقرير القواعد وتحرير الفوائد، لابن رجب الحنبلي، تحقيق مشهور حسن سلمان، دار ابن عفان، ط الأولى 1419 هـ.
128 -
تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: مجموعة من الباحثين، ط الأولى 1417 هـ، دار الباز - مكة المكرمة.
129 -
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر، تحقيق: سعيد أحمد أعراب، ط 1411 هـ، وزارة الأوقاف المغربية.
130 -
التنبيهات اللطيفة، لعبدالرحمن السعدي، تعليق الشيخ ابن باز، اعتنى بها محمد آل بسام، دار ابن الجوزي، ط الأولى 1424 هـ.
131 -
التنيهات السنية على العقيدة الواسطية، لعبدالعزيز الرشيد، مكتبة الرياض الحديثة، ط الثانية 1400 هـ.
132 -
تهذيب الآثار، للطبري، تحقيق: د. ناصر الرشيد، مطابع الصفاة - مكة المكرمة.
133 -
تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، تحقيق عادل مرشد، وعامر غصبان، الرسالة العالمية، دمشق، ط الأولى 1430 هـ.
134 -
تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: إبراهيم الزيبق، عادل مرشد، ط الأولى 1416 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
135 -
تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ المزي، تحقيق: بشار معروف، ط الأولى 1413 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
136 -
تهذيب اللغة، لأبي منصور الأزهري، تحقيق ومراجعة: عبد السلام هارون، ومحمد النجار، ت ط 1384 هـ، الدار المصرية للتأليف والترجمة - مصر.
137 -
التهذيب في الفرائض، لمحفوظ أحمد الكلوذاني، تحقيق د. راشد الهزاع، دار الخراز، ط الثانية 1417 هـ.
138 -
التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، لأبي بكر بن خزيمة، تحقيق: د. عبد العزيز الشهوان، ط السادسة 1418 هـ، مكتبة الرشد - الرياض.
139 -
توضيح الأحكام من بلوع المرام، عبدالله البسام، مكتبة النهضة، ط الرابعة، 1417 هـ.
140 -
تيسر الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن السعدي، تحقيق عبدالرحمن اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط الرابعة 1416 هـ.
141 -
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، لسليمان بن عبدالله، تحقيق عرفات العشا، وصدقي جميل، دار الفكر، 1412 هـ.
142 -
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، تقديم محمد النجار، دار المدني، جدة، 1408 هـ.
143 -
تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، لعبدالرحمن السعدي، من مطبوعات وزارة الشؤون الإسلامية، دار عالم الكتب، 1424 هـ.
144 -
التيسير في القراءات السبع، لأبي عمرو الداني، تحقيق: أوتو يرتزل، ط الأولى 1416 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
145 -
جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري، ط الثانية 1418 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
146 -
جامع البيان في تفسير القرآن، لمحمد الأيجي الشافعي، تحقيق محمد الغزنوي، غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط الأولى 1428 هـ.
147 -
جامع الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، إشراف ومراجعة صالح آل الشيخ، دار السلام، الرياض، ط الأولى 1420 هـ.
148 -
الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، ط الأولى 1418 هـ، دار الكتاب العربي - بيروت.
149 -
جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، لابن القيم الجوزيه، تحقيق محيي الدين متو، مكتبة دار التراث، المدينة، ط الأولى 1408 هـ.
150 -
جمال القراء وكمال الإقراء، لعلم الدين السخاوي، تحقيق: عبد الكريم الزبيدي، ط الأولى 1413 هـ، دار البلاغة - بيروت.
151 -
جمهرة اللغة، لأبي بكر بن دريد، تحقيق: د. رمزي بعلبكي، ط الأولى 1988 م، دار العلم للملايين - بيروت.
152 -
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية، تحقيق مجموعة، دار العاصمة، ط الأولى 1414 هـ.
153 -
جواب أهل العلم والإيمان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط الأولى 1417 هـ، دار القاسم - بيروت.
154 -
جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار، لابن بدران، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط الأولى 1420 هـ.
155 -
الجواهر الحسان في تفسير القرآن، لعبد الرحمن الثعالبي، تحقيق محمد الفاضلي، المكتبة العصرية، بيروت، ط الأولى 1417 هـ.
156 -
جواهر القرآن ودرره، لأبي حامد الغزالي، ط السادسة 1411 هـ، دار الآفاق الجديدة - بيروت.
157 -
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم الجوزية، تحقيق يوسف بديوي، ط الأولى 1411 هـ، دار ابن كثير - دمشق.
158 -
حاشية الباجوري على شرح الشنشوري، المكتب الإسلامي، ط الثانية، 1407 هـ.
159 -
حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي، لشهاب الدين أحمد الخفاجي، تحقيق عبدالرزاق مهدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1417 هـ.
160 -
حاشية الصاوي على تفسير الجلالين، لأحمد بن محمد الصاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الأولى 1419 هـ.
161 -
حاشية زاده على تفسير البيضاوي، لمحيي الدين شيخ زاده، تحقيق محمد شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأول 1419 هـ.
162 -
الحاوي الكبير في فقه الشافعي، للماوردي، تحقيق: علي معوض وآخرون، ط الأولى 1414 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
163 -
الحجة في القراءات السبع، لابن خالويه، تحقيق: د. عبد العال مكرم، ط السادسة 1417 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
164 -
الحجة للقراء السبعة، لأبي علي الفارسي، تحقيق: بدر الدين قهوجي، بشير حديجاني، ط الأولى 1413 هـ، دار المأمون للتراث - دمشق.
165 -
حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، لمحمد الأمين بن عبد الله الهروي، ط الأولى 1421 هـ، دار طوق النجاة - بيروت.
166 -
حكم تارك الصلاة، لان تيمية، دار ابن حزم، ط الأولى، 1421 هـ.
167 -
حياة الشيخ عبدالرحمن السعدي في سطور، لأحمد القرعاوي، ط الأولى 1413 هـ.
168 -
الخصائص، لابن جني، تحقيق محمد النجار، المكتبة العلمية.
169 -
الخوارج تاريخهم، وآراؤهم الإعتقادية وموقف الإسلام منها، د. غالب عواجي، مكتبة لينة، مصر، ط الأولى 1418 هـ.
170 -
الخوارج وآراؤهم، د. شوقي عبدالله، دار الطباعة المحمدية، مصر، ط الأولى 1411 هـ.
171 -
دائرة المعارف الإسلامية، ترجمها: مجموعة، ط الأولى 1418 هـ، مركز الشارقة للإبداع الفكري - الإمارات.
172 -
الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي، تحقيق: أحمد الخراط، الطبعة الأولى، 1411 هـ/1991 م، دار القلم - دمشق.
173 -
الدر المنثور في تفسير المأثور، للسيوطي، تحقيق: نجدت نجيب، ط الأولى 1421 هـ، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
174 -
الدراري المضيئة شرح الدرر البهية، لمحمد بن علي الشوكاني، جمعية إحياؤ التراث الإسلامي، الكويت، ط الرابعة 1423 هـ.
175 -
الدرة المرضية شرح المنظومة الفقهية، لجمعة صالح، دار الرضا، مصر ط الأولى 1423 هـ.
176 -
درج الدرر في تفسير الآي والسور، لعبد القادر الجرجاني، تحقيق وليد الحسين، وإياد القيسي، صدر عن مجلة الحكمة الصادرة في بريطانيا، ط الأولى 1429 هـ.
177 -
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، لمحمد الأمين الشنقيطي، مطابع الرياض، ط الأولى 1375 هـ.
178 -
دقائق التفسير، لابن تيمية، تحقيق د. محمد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط الثالثة 1406 هـ.
179 -
الدلالات اللفظية وأثرها في استنباط الأحكام من القرآن، د. علي الطويل، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط الأولى 1427 هـ.
180 -
دليل الفارض ومتاح الفرائض، لصالح السوسي، ط الأولى 1410 هـ.
181 -
دليل الفارض، مطالع النجاح، الدار البيضاء، ط الأولى 1410 هـ.
182 -
الديباج المُذهَّب في معرفة أعيان علماء المذهب، لابن فرحون، تحقيق: د. علي عمر، ط الأولى 1423 هـ، مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة.
183 -
ذيل تذكرة الحفاظ، لأبي المحاسن الحسيني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى، 1419 هـ.
184 -
الرد على الجهمية، للدارمي، تحقيق بدر البدر، دار ابن الأثير، ط الثانية 1416 هـ.
185 -
رسالة فتنة الدجال، ويأجوج ومأجوج، لعبدالرحمن السعدي، تحقيق د. أحمد القاضي، دار ابن الجوزي، ط الأولى 1424 هـ.
186 -
رسالة في السياسة الشرعية، لابن سيناء، تحقيق محمد حسن، وأحمد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 2003 م.
187 -
رسالة في السياسة الشرعية، لأبي القاسم المغربي، تحقيق محمد حسن، وأحمد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 2003 م.
188 -
رسالة في السياسة الشرعية، لأبي نصر الفارابي، تحقيق محمد حسن، وأحمد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 2003 م.
189 -
رسالة في السياسة الشرعية، لدده خليفة، تحقيق محمد حسن، وأحمد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 2003 م.
190 -
روح البيان في تفسير القرآن، لإسماعيل حقي، تحقيق عبداللطيف حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 2003 م.
191 -
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للألوسي، تحقيق علي عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1422 هـ.
192 -
الروح لابن القيم، تحقيق يوسف بديوي، دار ابن كثير، ط الرابعة 1420 هـ.
193 -
الروح، لابن قيم الجوزية، تحقيق يوسف بديوي، ط الرابعة 1420 هـ، دار ابن كثير - دمشق - بيروت.
194 -
الروض الأنف في شرح السيرة، للسهيلي، تحقيق عبدالرحمن الوكيل، مكتبة ابن تيمية، ط الأولى 1410 هـ.
195 -
روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه، لابن قدامة، تحقيق د. عبدالكريم النملة، مكتبة الرشد، الرياض، ط الأولى 1413 هـ.
196 -
روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين، لمحمد بن عثمان القاضي، مطبعة الحلبي، ط الثانية 1403 هـ.
197 -
رياض الصالحين، للنووي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط العشرون 1412 هـ.
198 -
زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، ط الأولى 1423 هـ، دار ابن حزم - بيروت.
199 -
زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وعبدالقادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثالثة 1423 هـ.
200 -
الزاهر في معاني كلمات النامس، لأبي بكر الأنباري، تحقيق: د. حاتم الضامن، ط الأولى 1412 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
201 -
الزهد والورع والعبادة، لابن تيمية، تحقيق حماد سلامة، ومحمد عويضة، مكتبة المنار الأردن، ط الأولى 1407 هـ.
202 -
زهرة التفاسير، لمحمد أبوزهرة، دار الفكر العربي.
203 -
سبل السلام شرح بلوغ المرام، للصنعاني، اعتنى به محمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1408 هـ.
204 -
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، للعلامة الألباني، ط الرابعة 1405 هـ، المكتب الإسلامي - بيروت.
205 -
سنن ابن ماجة، لأبي عبدالله محمد بن يزيد ابن ماجة، إشراف ومراجعة صالح آل الشيخ، دار السلام، الرياض، ط الأولى 1420 هـ.
206 -
سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، إشراف ومراجعة صالح آل الشيخ، دار السلام، الرياض، ط الأولى 1420 هـ.
207 -
سنن الدارقطني، لعلي بن عمر الدراقطني، تحقيق شعيب الأرناءوط وجماعة، مؤسسة الرسالة، ط الأولى 1424 هـ.
208 -
السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد الحسين البيهقي، تحقيق محمد عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية، ط الأولى 1414 هـ.
209 -
سنن النسائي الصغرى، لأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي، إشراف ومراجعة صالح آل الشيخ، دار السلام، الرياض، ط الأولى 1420 هـ.
210 -
سنن سعيد بن منصور، تحقيق: د. سعد آل حميد، ط الأولى 1414 هـ، دار الصميعي - الرياض.
211 -
سورة القصص دراسة تحليلية، د. محمد مطني، ضمن كتب الموسوعة الشاملة.
212 -
السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية، تحقيق محمد الشبراوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1421 هـ.
213 -
سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط ومحمد مقيم العرقسوسي، ط الحادية عشرة 1417 هـ، دار الرسالة - بيروت.
214 -
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط، ومحمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، ط الأولى 1413 هـ.
215 -
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي، تعليق: نشأت المصري، دار البصيرة - الإسكندرية.
216 -
شرح رياض الصالحين، للعثيمين، إعداد د. عبدالله الطيار، دار الوطن، الرياض، ط الأولى 1416 هـ.
217 -
شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، لمحمد عبدالباقي الزرقاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1411 هـ.
218 -
شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، تحقيق: عبد الله التركي وشعيب الأرنؤوط، ط الثانية 1413 هـ/1993 م، مؤسسة الرسالة،، بيروت.
219 -
شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، شرح: محمد العثيمين، تحقيق: سعيد الصميل، ط الثانية 1415 هـ، دار ابن الجوزي - الدمام.
220 -
شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين، اعتنى به سعد الصميل، دار ابن الجوزي، ط الرابعة، 1417 هـ.
221 -
شرح العقيدة الواسطية، لابن تيمية، شرح: محمد خليل هراس، ط الثانية 1414 هـ، دار الهجرة للنشر - الرياض.
222 -
شرح القصيدة النونية لابن القيم، لمحمد هراس، ط الثانية 1415 هـ، مكتبة دار الباز - مكة المكرمة.
223 -
شرح القواعد الفقهية، للشيخ أحمد الزرقا، دار القلم، دمشق، ط الخامسة 1419 هـ.
224 -
الشرح الممتع على زاد المستقنع، للعثيمين، دار ابن الجوزي، الدمام، الأولى 1426 هـ.
225 -
شرح سنن ابن ماجة، لمغلطاي، تحقيق: كامل عويضة، ط الأولى 1419 هـ، مكتبة نزار الباز - مكة المكرمة - الرياض.
226 -
شرح سنن ابن ماجه، للسندي، دار الجيل - بيروت.
227 -
شرح صحيح البخاري، لابن بطال، تحقيق: إبراهيم الصيحي وآخرون، ط الثانية 1423 هـ، مكتبة الرشد - الرياض.
228 -
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، للغنيمان، ط الأولى 1405 هـ، مكتبة الدار - المدينة المنورة.
229 -
شرح لمعة الاعتقاد لابن قدامة، شرح: محمد بن عثيمين، تحقيق: أشرف عبد المقصود، ط الثالثة 1415 هـ/1995 م، مكتبة دار طبرية - الرياض.
230 -
شرح لمعة الاعتقاد، د. عبدالرحمن المحمود، دار الوطن، ط الأولى 1423 هـ.
231 -
شرح لمعة الاعتقاد، للشيخ صالح الفوزان، اعتنى به عبدالسلام السليمان، ط الأولى 1425 هـ.
232 -
شرح مشكل الآثار، للطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنوؤط، ط الأولى 1415 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
233 -
شرح معاني الآثار، للطحاوي، تحقيق: محمد النجار وآخرون، ط الأولى 1414 هـ، دار عالم الكتب - بيروت.
234 -
شرح مقدمة شيخ لإسلام ابن تيمية في التفسير، للعثيمين، إعداد د. عبدالله الطيار، دار الوطن، ط الأولى 1415 هـ.
235 -
الشريعة، للإمام أبي بكر الآجري، تحقيق: عبد الله الدميجي، ط الأولى 1418 هـ، دار الوطن - الرياض.
236 -
الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، تحقيق علي البجاوي، دار الكتاب العربي - بيروت.
237 -
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، تحقيق: السيد محمد السيد، الطبعة الأولى 1414 هـ/1994 م، دار الحديث - القاهرة.
238 -
الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل الجوهري، تحقيق: أحمد عطار، الطبعة الثانية 1399 هـ، دار العلم للملايين.
239 -
صحيح البخاري بشرح الكرماني، ط الثانية 1401 هـ، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
240 -
صحيح البخاري، لأبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، دار السلام، الرياض، ط الثانية 1419 هـ.
241 -
صحيح سنن ابن ماجه، للعلامة الألباني، ط الأولى 1417 هـ، مكتبة المعارف - الرياض.
242 -
صحيح سنن أبي داود، للعلامة الألباني، ط الأولى 1419 هـ، مكتبة المعارف - الرياض.
243 -
صحيح سنن الترمذي، للعلامة الألباني، ط الأولى 1420 هـ، مكتبة المعارف - الرياض.
244 -
صحيح سنن النسائي، للعلامة الألباني، ط الأولى 1419 هـ، مكتبة التعارف - الرياض.
245 -
صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج، دار السلام، الرياض، ط الأولى 1419 هـ.
246 -
صفحات من حياة علامة القصيم، د. عبدالله الطيار، دار ابن الجوزي، الدمام، ط الأولى 1413 هـ.
247 -
صفوة الآثار والمفاهيم، للشيخ عبدالرحمن الدوسري، دار المغني للنشر والتوزيع، ط الأولى 1425 هـ.
248 -
صلاة الجماعة، د. صالح السدلان، دار الوطن للنشر، الرياض، ط الثانية 1414 هـ.
249 -
الصلاة وحكم تاركها، لابن القيم الجوزية، تحقيق د. محمد الرعود، دار الفرقان، ط الأولى 1423 هـ.
250 -
الصلة، لابن بشكوال، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966 م.
251 -
الصين يأجوج ومأجوج، عبدالعزيز المسند، الفرزدق، الرياض، ط الأولى 1410 هـ.
252 -
ضعيف سنن ابن ماجه، للعلامة الألباني، ط الأولى 1417 هـ، مكتبة المعارف - بيروت.
253 -
ضعيف سنن أبي داود، للعلامة الألباني، ط الثالثة 1410 هـ، المكتب الإسلامي - بيروت.
254 -
ضعيف سنن الترمذي، للعلامة الألباني، ط الأولى 1420 هـ، مكتبة المعارف - الرياض.
255 -
ضعيف سنن النسائي، للعلامة الألباني، ط الأولى 1419 هـ، مكتبة المعارف - الرياض.
256 -
الضوء اللامع، للسخاوي، دار الجيل، ط الأولى 1412 هـ.
257 -
الضوء المنير على التفسير من كتب ابن القيم، لعلي الصالحي، مكتبة دار السلام - الرياض.
258 -
طبقات الحنفية، لابن الحنائي، تحقيق سفيان محمد، دار ابن الجوزي، ط 1425 هـ.
259 -
طبقات المفسرين للداودي، تحقيق: علي عمر، ط الأولى 1392 هـ، مكتبة وهبة - القاهرة.
260 -
طوالع الأنوار، للبيضاوي، ط الأولى 1468 هـ، دار الاعتصام.
261 -
العذب المنير من مجالس الشنقيطي في التفسير، اعتنى به خالد السبت، دار ابن القيم، الدمام، ط الأولى 1424 هـ.
262 -
علماء نجد خلال ثمانية قرون، لعبد الله آل بسام، دار العاصمة للنشر والتوزيع، ط الثالثة.
263 -
علوم الأرض في الحضارة الإسلامية، د. زغلول النجار، الدار المصرية اللبنانية.
264 -
عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، للسمين الحلبي، تحقيق: د. محمد التونجي، ط الأولى 1414 هـ، دار عالم الكتب - بيروت.
265 -
عمدة القارئ شرح صحيح البخاري للعيني، ط الأولى 1424 هـ، دار إحياء التراث - بيروت.
266 -
العمدة في غريب القرآن، لمكي بن أبي طالب، تحقيق يوسف المرعشلي، ط. الأولى 1401 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
267 -
العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائي، ط 1981 م، دار الرشيد للنشر - العراق.
268 -
غاية النهاية في طبقات القراء، لابن الجزري، اعتنى بنشره ج. برجستر اسر، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
269 -
غرائب القرآن ورغائب الفرقان، للنيسابوري، تحقيق إبراهيم عطوة، ط الأولى 1381 هـ.
270 -
غريب الحديث، لإبراهيم بن إسحاق الحربي، تحقيق: د. سليمان العايد، ط الأولى 1405 هـ، دار المدني - جدة.
271 -
غريب الحديث، لأبي الفرج بن الجوزي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، ط الأولى 1405 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
272 -
غريب القرآن، لأبي بكر السجستاني، تحقيق: محمد جمران، ط الأولى 1416 هـ، دار قتيبة.
273 -
الغريب المصنف، لأبي عبيد القاسم بن سلام، ط الأولى 1418 هـ، تحقيق: مركز البحوث والدراسات بمكتبة نزار الباز، مكتبة نزار الباز - الرياض - مكة المكرمة.
274 -
الغريبين في القرآن والحديث، لأبي عبيد الهروي، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، ط الأولى 1419 هـ، مكتبة نزار الباز - مكة المكرمة.
275 -
غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر، لأحمد الحموي، تحقيق نعيم أشرف، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، باكستان، ط الأولى 1418 هـ.
276 -
الفائق في غريب الحديث، لجار الله الزمخشري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي البجاوي، ط الثانية، مطبعة عيسى البابي الحلبي - القاهرة.
277 -
فتاوى الشيخ العثيمين، إعداد أشرف عبدالمقصود، دار عالم الكتب، ط الأولى 1411 هـ.
278 -
الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، تحقيق محمد عطا، ومصطفى عطا، دار الكتب العلمية، بيروت.
279 -
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ترتيب أحمد الدويش، طباعة مؤسسة العنود الخيرية، ط الأولى 1424 هـ.
280 -
فتح الباري، شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، ط الثانية 1407 هـ، دار الريان للتراث - القاهرة.
281 -
فتح البيان في مقاصد القرآن، لصديق حسن خان، عناية: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1420 هـ.
282 -
الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني، أحمد البنا، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
283 -
فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن، لعبد الرحمن السعدي، اعتنى به عبدالرزاق البدر، دار ابن الجوزي، ط الأولى 1424 هـ.
284 -
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكاني، 1415 هـ/1994 م، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
285 -
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، لعبدالرحمن بن حسن، تحقيق الوليد آل فريان، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية، ط الرابعة 1419 هـ.
286 -
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية، لسليمان الجمل، تحقيق إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الثانية 2006 م.
287 -
الفرائض وشرح آيات الوصية، عبدالرحمن السهيلي، تحقيق د. محمد البنا، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، ط الثانية 1405 هـ.
288 -
الفرائض، لسفيان الثوري، تحقيق د. عبدالعزيز الهليل، دار العاصمة، الرياض، الأولى 1410 هـ.
289 -
الفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، تحقيق: إبراهيم رمضان، ط الثانية 1417 هـ، دار المعرفة - بيروت.
290 -
الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، تحقيق: محمد سليم، دار العلم والثقافة - القاهرة.
291 -
الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم الأندلسي، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، محمد نصر، دار الجيل - بيروت.
292 -
الفصول في الفرائض، أحمد الهائم الشافعي، تحقيق د. عبدالمجيد البيتي، الأولى 1414 هـ.
293 -
فضل علم السلف على الخلف، لابن رجب الحنبلي،
294 -
فك أسرار ذي القرنين ويأجوج ومأجوج، لحمدي الجهني، ط الثانية، 1428 هـ.
295 -
الفهرست، لابن النديم، تحقيق: د. يوسف طويل، ط الأولى 1416 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
296 -
القاموس المحيط، للفيروز آبادي، تحقيق: حسان عبد المنان، بيت الأفكار الدولية - عمان.
297 -
القراءات الشاذة، لابن خالويه، دار الكندي للنشر - الأردن.
298 -
القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، د. صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط الثانية 1428 هـ.
299 -
قواطع الأدلة في الأصول، لأبي المظفر السمعاني، تحقيق محمد حسن الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1418 هـ.
300 -
قواعد الاستنباط من ألفاظ الأدلة عند الحنابلة، د. عبدالمحسن الصويغ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط الأولى 1425 هـ.
301 -
القواعد الحسان لتفسير القرآن، لعبدالرحمن السعدي، من مطبوعات إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد سابقاً، 1408 هـ.
302 -
القواعد الفقهية، لعلي البديوي، دار القلم، دمشق، ط الثالثة 1413 هـ.
303 -
القول المفيد على كتاب التوحيد، للعثيمين، اعتنى به د. سليمان أباالخيل، ود. خالد المشيقح، دار العاصمة، الرياض، ط الأولى 1415 هـ.
304 -
الكاشف للذهبي، تحقيق محمد عوامه، وأحمد الخطيب، شركة دار القبلة، السعودية، ط الأولى 1413 هـ.
305 -
كتاب الفروع، لابن مفلح المقدسي، تحقيق د. عبدالله التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1424 هـ.
306 -
كتاب تفسير القرآن الكريم، لأبي بكر محمد النيسابوري، تحقيق د. سعد السعد، دار المآثر، ط الأولى 1423 هـ.
307 -
كتاب حجج القرآن، للرازي، دار الكتب العلمية، ط الأولى 1406 هـ.
308 -
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري، تحقيق: خليل مأمون شيحا، ط الأولى 1423 هـ، دار المعرفة - بيروت.
309 -
كشف الستار على تلفيق وتعليق النجار على تفسير السعدي، لمحمد آل بسام، مكتبة السوادي، جدة، ط الأولى 1411 هـ.
310 -
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، ط 1413 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
311 -
كشف الغوامض في علم الفرائض، لمحمد بن محمد سبط المارديني، تحقيق د. عوض العوفي، دار العلوم والحكم، المدينة، ط الأولى 1417 هـ.
312 -
الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، مكي بن أبي طالب، تحقيق: محي الدين رمضان، ط الرابعة 1407 هـ/1987 م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
313 -
الكشف والبيان، للثعلبي، تحقيق: سيد حسن، ط الأولى 1425 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
314 -
الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق: عدنان درويش، محمد المصري، الطبعة الثانية 1413 هـ/1993 م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
315 -
الكنز في القراءات العشر، لعبد الله الواسطي، تحقيق: د. خالد المشهداني، ط الأولى 1425 هـ، مكتبة الثقافة الدينية- القاهرة.
316 -
لباب التأويل في معاني التنزيل "تفسير الخازن"، لعلاء الدين البغدادي الخازن، تحقيق: عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1425 هـ،.
317 -
اللباب في تهذيب الأنساب، لعز الدين ابن الأثير الجزري، ط الثالثة 1414 هـ، دار صادر - بيروت.
318 -
اللباب في علوم الكتاب، لأبي حفص عمر بن علي الدمشقي، تحقيق: عادل عبد الموجود، علي معوض وآخرون، ط الأولى 1419 هـ/1998 م، دار الكتب العلمية - بيروت.
319 -
لسان العرب، لابن منظور ط الأولى، دار صادر - بيروت.
320 -
اللمع لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق محيي الدين متو، ويوسف بديوي، دار الكلم الطيب، ط الثانية 1418 هـ.
321 -
مباحث في إعجاز القرآن، د. مصطفى مسلم، دار القلم، دمشق، ط الثالثة 1426 هـ.
322 -
المبسوط، للسرخسي، تحقيق سمير دباب، دار إحياء التراث، ط الأولى 1422 هـ.
323 -
مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق: محمد فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي - القاهرة.
324 -
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ط 1408 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
325 -
مجموع الفوائد واقتناص الأوابد، لعبدالرحمن السعدي، اعتنى به سعد الصميل، دار الوطن، الرياض، ط الأولى 1422 هـ.
326 -
المجموع شرح المهذب، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق مجموعة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1423 هـ.
327 -
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن قاسم وابنه محمد، إشراف الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين.
328 -
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز، جمع وترتيب د. محمد الشويعر، توزيع مركز الدعوة بالرياض، ط الثالثة 1423 هـ.
329 -
المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبدالرحمن السعدي، مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة، ط الثانية 1412 هـ.
330 -
محاسن التأويل، لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: أحمد علي، وحمدي صبح، دار الحديث، القاهرة، 1424 هـ.
331 -
المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، لأبي الفتح بن جني، تحقيق: محمد عطا، ط الأولى 1416 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
332 -
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، ط الأولى 1423 هـ، دار ابن حزم - لبنان.
333 -
المحرر في أسباب النزول، د. خالد المزيني، دار ابن الجوزي، الدمام، ط الأولى 1427 هـ.
334 -
المحلى بالآثار، لابن حزم الاندلسي، تحقيق د. عبدالغفار البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 هـ.
335 -
مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، تحقيق: يحيى توفيق، ط الأولى 1418 هـ، مكتبة الآداب - القاهرة.
336 -
مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم، تحقيق: رضوان رضوان، المكتبة التجارية، مصطفى أحمد الباز - مكة المكرمة.
337 -
مختصر المزني، ليحي المزني، دار المعرفة، ط الأولى 1425 هـ.
338 -
مختصر منهاج السنة لابن تيمية، اختصار عبدالله الغنيمان، دار لينة، مصر، ط الثانية 1415 هـ.
339 -
مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة المقدسي، تحقيق محمد سليمان، وعلي أبو الخير، دار الخير، بيروت، ط الثالثة 1418 هـ.
340 -
مدارج السالكين، لابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت.
341 -
مدارك التنزيل وحقائق التأويل، للنسفي، عناية: عبد المجيد جلبي، ط الأولى 1421 هـ، دار المعرفة - بيروت.
342 -
المدونة الكبرى، للإمام مالك، دار صادر - بيروت.
343 -
مذاهب الأخيار في أحكام الحج والاعتمار، بيبا سيدي الشنقيطي.
344 -
مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، للشنقيطي، ط الأولى 1415 هـ.
345 -
المرتبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، لأبي الحسن بن عبد الله بن الحسن النبهاني، منشورات دار الآفاق الجديدة - بيروت، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي في الدار، 1400 هـ.
346 -
المزهر في علوم اللغة وأنواعها، للسيوطي، تحقيق مجموعة، المكتبة العصرية، بيروت، 1414 هـ.
347 -
مسائل الجاهلية، لمحمد بن عبدالوهاب، تحقيق د. محمود مطرجي، دار القلم، بيروت، ط الأولى 1406 هـ.
348 -
المستدرك على الصحيحين، للإمام الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عطا، ط الأولى 1411 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
349 -
المستدرك للحاكم، تحقيق مصطفى عطاء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1411 هـ.
350 -
المستصفى من علم الأصول، للغزالي، تحقيق د. محمد الأشقر، مؤسسة الرسالة، ط الأولى 1417 هـ.
351 -
المستفاد من قصص القرآن، د. عبدالكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1426 هـ.
352 -
مسند الإمام أحمد، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وآخرون، ط الثانية 1429 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
353 -
المسودة في أصول الفقه، لابن تيمية، تحقيق عبدالحميد محمد، دار الكتاب العربي.
354 -
مشاهير علماء نجد، لعبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض.
355 -
مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط، د. محمد أديب الصالح، مكتبة العبيكان، ط الأولى، 1423 هـ.
356 -
مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة، للبوصيري، تحقيق موسى علي، وعزت عطية، دار الكتب الإسلامية.
357 -
المصنف في الأحاديث والآثار، لابن أبي شيبة، تحقيق: حمد الجمعة ومحمد اللحيدان، ط الأولى 1425 هـ، مكتبة الرشد - الرياض.
358 -
المصنف، للحافظ أبي بكر عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط الثانية 1403 هـ، المكتب الإسلامي - بيروت.
359 -
معارج التفكر ودقائق التدبر، لعبدالرحمن حبنكة، دار القلم، دمشق، ط الأولى 1425 هـ.
360 -
معارج القبول شرح سلم الوصول، لحافظ حكمي، تحقيق: عمر أبو عمر، ط الثالثة 1414 هـ، دار ابن القيم - الدمام.
361 -
معالم التنزيل، لمحي الدين البغوي، ط الأولى، دار الكتب العلمية - بيروت.
362 -
معالم السنن، لأبي سليمان الخطابي، تحقيق محمد حامد الفقي، طبع على نفقة الملك خالد رحمه الله، مكتبة السنة المحمدية.
363 -
معاني القرآن الكريم، لأبي جعفر النحاس، تحقيق: محمد علي الصابوني، ط الأولى 1408 هـ، جامعة أم القرى.
364 -
معاني القرآن وإعرابه، للزجاج، تحقيق: عبد الجليل شلبي، ط الأولى 1408 هـ، دار عالم الكتب - بيروت.
365 -
معاني القرآن، لأبي زكريا الفراء، تحقيق: فاتن محمد اللبون، ط الأولى 1424 هـ، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
366 -
معاني القرآن، للأخفش الأوسط، تحقيق: د. فائز فارس، ط الأولى 1400 هـ.
367 -
المعتمد في أصول الدين، للقاضي أبي يعلى الحنبلي البغدادي، تحقيق: د. وديع حداد، دار المشرق - بيروت.
368 -
معجم الأدباء، لياقوت الحموي، دار المأمون، مراجعة وزارة المعارف العمومية.
369 -
معجم البلدان، لياقوت الحموي، ط الثانية 1995 م، دار صادر - بيروت.
370 -
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية، سعد الجنيدل، ط الثانية 1417 هـ.
371 -
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية، عبدالله خميس، مطابع الفرزدق التجارية، ط الثانية 1400 هـ.
372 -
معجم القراءات القرآنية، د. أحمد عمر ود. عبد العال مكرم، ط الثالثة 1997 م، عالم الكتب.
373 -
معجم القراءات، د. عبد اللطيف الخطيب، ط الأولى 1422 هـ، دار سعد الدين - بيروت.
374 -
المعجم الكبير للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، دار إحياء التراث العربي، ط الثانية.
375 -
معجم المؤلفين، عمر كحالة، دار إحياء التراث العربي.
376 -
معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، د. محمود عبد المنعم، دار الفضيلة - القاهرة.
377 -
معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الجيل - بيروت.
378 -
معجم قبائل العرب، لعمر كحالة، ط الثامنة 1418 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
379 -
مغني اللبيب عن كتاب الأعاريب، لابن هشام الأنصاري، تحقيق: د. عبد اللطيف الخطيب، ط الأولى 1421 هـ، دار التراث العربي - الكويت.
380 -
المغني في الفقه، لابن قدامة المقدسي، تحقيق د. عبدالله التركي، ود. عبدالفتاح الحلو، دار عالم الكتب، الرياض، ط الخامسة 1426 هـ.
381 -
المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد عيتاني، ط الثالثة 1422 هـ.
382 -
المقدمة، لابن خلدون، تحقيق سعيد عقيل، دار الجيل، ط الأولى 1426 هـ.
383 -
الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق: أمير مهنا، علي فاعور، 1417 هـ/1997 م، دار المعرفة - بيروت.
384 -
الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق أمير مهنا، دار المعرفة، ط الخامسة 1416 هـ.
385 -
من آيات الإعجار العلمي في القرآن، د. زغلول النجار، مكتبة الشروق، ط الأولى 1422 هـ.
386 -
من آيات الإعجاز العلمي السماء في القرآن، د. زغلول النجار، دار المعرفة، ط الأولى 1425 هـ.
387 -
مناهج الاستمداد من الوحي، أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء، دار أبي رقراق، الرباط، ط الأولى 2008 م.
388 -
مناهل العرفان في علوم القرآن، للشيخ محمد الزرقاني، دار المعرفة، بيروت، ط الثانية 1422 هـ.
389 -
المنتقى شرح موطأ مالك، لأبي الوليد الباجي، تحقيق: د. محمد تامر، مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة.
390 -
منحة الكريم الوهاب في تفسير آيات الأحكام في سورة الأحزاب، د. سليمان اللاحم، دار العاصمة، الرياض، الأولى 1426 هـ.
391 -
المنهاج في شعب الإيمان، للحليمي، ط الأولى 1399 هـ، دار الفكر - بيروت.
392 -
الموافقات، للشاطبي، تحقيق: مشهور حسن، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، 1424 هـ.
393 -
الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن والسنة النبوية، د. أحمد متولي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط الأولى 1426 هـ.
394 -
الموسوعة الطبية الفقهية، د. محمد كنعان، دار النفائس، بيروت، ط الأولى 1420 هـ.
395 -
الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشؤن الإسلامية الكويتية، مطابع دار الصفوة، ط الأولى 1414 هـ.
396 -
موسوعة القواعد الفقهية، لمحمد البورنو، مؤسسة الرسالة، ط الأولى 1424 هـ.
397 -
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ط الخامسة 1424 هـ، الرياض.
398 -
الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة، جمع وليد الزيري وآخرون، ط الأولى 1424 هـ، صادرة عن مجلة الحكمة - بريطانيا.
399 -
ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للحافظ الذهبي، تحقيق: علي معوض، وعادل عبد الموجود، ط الأولى 1416 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
400 -
الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز وما فيه من الفرائض والسنن، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: محمد المديفر، الطبعة الثانية 1418 هـ/1997 م، مكتبة الرشد - الرياض.
401 -
الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، لابن العربي، تحقيق: عبد الكبير العلوي، المملكة المغربية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1408 هـ/1988 م.
402 -
الناسخ والمنسوخ في كتاب الله عز وجل واختلاف العلماء في ذلك، للنحاس، تحقيق: سليمان اللاحم، ط الأولى 1412 هـ/1991 م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
403 -
نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، لابن الجوزي، تحقيق: محمد الراضي، ط الثالثة 1407 هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت.
404 -
نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن، للإمام أبي بكر محمد بن عزيز السجستاني، تحقيق: د. يوسف المرعشلي، ط الأولى 1410 هـ، دار المعرفة - بيروت.
405 -
النسخ في القرآن الكريم دراسة تشريعية تاريخية نقدية، د. مصطفى زيد، اعتنى به د. محمد إبراهيم، دار اليسر، مصر، ط الثانية 1428 هـ.
406 -
النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، أشرف عليه: علي محمد الطباع.
407 -
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، لأحمد المقري التلمساني، تحقيق: د. إحسان عباس، ط الأولى 1968 م، دار صادر - بيروت.
408 -
نكت القرآن الدالة على البيان، للكرجي القصاب، مجموعة رسائل علمية، دار ابن القيم، الدمام، ط الأولى 1424 هـ.
409 -
النكت في القرآن، لعلي المجاشعي، تحقيق د. إبراهيم علي، مكتبة الرشد، ط الأولى 1427 هـ.
410 -
النكت والعيون، لأبي الحسن الماوردي، تحقيق: السيد بن عبد المقصود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الثانية 1428 هـ.
411 -
نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد، لأبي العباس البسيلي التونسي، تحقيق محمد الطبراني، من مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، ط الأولى 1429 هـ.
412 -
نمو المعاني دراسة تحليلة لسورة النور، د. عادل يوسف، دار ابن حزم، الرياض، ط الأولى 1424 هـ.
413 -
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، اعتنى به: رائد بن أبي علفة، بيت الأفكار الدولية - عمان.
414 -
النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، لمحمد الحمود النجدي، ط الثانية 1417 هـ، مكتبة الإمام الذهبي - الكويت، دار ابن الجوزي - الدمام.
415 -
النوادر والزيادات على ما في المدونة وغيرها من الأمهات، لابن أبي زيد القيرواني، تحقيق: د. عبد الفتاح الحلو، ط الأولى 1999 م، دار الغرب الإسلامي - بيروت.
416 -
نواسخ القرآن، لابن الجوزي، تحقيق: محمد أشرف الملباري، الطبعة الأولى 1404 هـ/1984 م، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
417 -
نور البصائر والألباب في أحكام العبادات والمعاملات والحقوق والآداب، لعبدالرحمن السعدي، اعتنى به خالد السبت، دار ابن الجوزي، ط الثالثة 1426 هـ.
418 -
الهداية إلى بلوغ النهاية، لمكي بن أبي طالب، مجموعة رسائل جامعية، جامعة الشارقة، ط الأولى 1429 هـ.
419 -
هدية العارفين، أسماء المؤلفين وآثار المصنفين من كشف الظنون، لإسماعيل البغدادي، ط 1413 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.
420 -
الوافي بالوفيات، للصفدي، فرانز شتايز بقسبادن، دار النشر، 1381 هـ.
421 -
وجوه القرآن، لأبي عبد الرحمن الضرير، تحقيق: فاطمة الخيمي، ط الأولى 1996 م، دار السقا - دمشق.
422 -
الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، د. سليمان القرعاوي، ط الأولى 1410 هـ، مكتبة الرشد - الرياض.
423 -
الوجوه والنظائر، للدامغاني، تحقيق: فاطمة الخيمي، ط الأولى 1419 هـ، مكتبة الفارابي - دمشق.
424 -
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للواحدي، تحقيق: صفوان داوودي، ط الأولى 1415 هـ، دار القلم - دمشق، والدار الشامية - بيروت.
425 -
الوسيط في تفسير القرآن المجيد، للواحدي، تحقيق: عادل عبد الموجود وآخرون، الطبعة الأولى 1415 هـ/1994 م، دار الكتب العلمية - بيروت.
426 -
وفيات الأعيان وإنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت.
427 -
يأجوج ومأجوج فتنة الماضي والحاضر والمستقبل، د. الشفيع أحمد، دار ابن حزم، ط الثانية 1422 هـ.