الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المملكة العربية السعودية - وزارة التعليم
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - كلية أصول الدين - قسم القرآن وعلومه
استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره جمعاً ودراسة
رسالة: مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في القرآن وعلومه
إعداد: رقية بنت محمد بن سالم باقيس
إشراف: د عبد الرحمن بن ناصر اليوسف، الأستاذ في قسم القرآن الكريم وعلومه
المناقشان: أ. د. يوسف بن عبد العزيز الشبل، د. فهد بن مبارك الوهبي
العام الجامعي: 1435/ 1436 هـ
تاريخ التسجيل: 5/ 11/ 1432 هـ
تاريخ المناقشة: 21/ 6/ 1437 هـ
نتيجة المناقشة: ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.
شكر وتقدير
الحمد لله حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ثم الصلاة والسلام على أشرف من بعث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين، أما بعد:
فإنه من باب الاعتراف بالجميل وإرجاع الفضل إلى أهله، لا يسعني إلا أن أشكر الله العلي القدير، وأحمده حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه على ما سهّل لي من أسباب العلم، ويسّر لي من وسائل تحصيله، وأسأله سبحانه المزيد من فضله وإحسانه.
ثم أتقدم بالشكر والتقدير وخالص الدعاء بالأجر والثواب لوالدي غفر الله له وجزاه عني خير الجزاء، والشكر لوالدتي حفظها الله وإخوتي على ما قاموا به من إعانتي لمواصلة تحصيلي العلمي.
وشكر خاص لمن شاطرني همي في هذا البحث وكان سندا وعونا لي بعد الله، زوجي الذي شجعني ولم يجعل البحث عائقاً في بداية حياتي الزوجية، فجزاه الله خيرا على ما قدم.
والشكر والتقدير لكل من كان له إسهام برأي أو مشورة أو توجيه أو نصيحة أو تزويد بمراجع أو دعاء أو غير ذلك من وجوه الإعانة، وهم كثير.
وأخص بالشكر والتقدير فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: عبد الرحمن بن ناصر اليوسف، حفظه الله ونفع به، على قبوله الإشراف على هذه الرسالة، حيث لم يدخر جهداً في توجيهي، وإرشادي، فجزاه الله عني خير الجزاء.
وأتقدم بالشكر والتقدير للجنة المناقشة الكريمة المكونة من فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف بن عبد العزيز الشبل، أستاذ التفسير في قسم القرآن بجامعة الإمام، وفضيلة الدكتور فهد بن مبارك الوهبي، أستاذ التفسير في جامعة طيبة، اللذان تفضلا بقبول مناقشة هذه الرسالة، وتقويمها وإثرائها بملاحظاتهما القيمة، فشكر الله لهما وأسأله سبحانه أن يجزيهما عني خير الجزاء
كما أتقدم بالشكر لجامعتي الحبيبة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ممثلة في كلية أصول الدين، وقسم القرآن وعلومه، على ما هيأت لي من أسباب التحصيل العلمي منذ بداية دراستي الجامعية، فجزا الله أساتذتي ومشائخي وكل من عمل وخطط لوصولنا لهذه المرحلة خير ما يجزي به عباده المحسنين.
وأخيراً، فإن هذا البحث عمل بشري، لا يسلم من الخطأ والزلل، فما كان فيه من صواب فهو فضل من الله وتوفيقه، وما كان فيه من خطأ وزلل فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله منه.
وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، ويتقبله قبولا حسنا، وأن يرحم والدينا ومن علّمنا، إنه على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وخالق الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه الذين ساروا على نهجه في اتباع القرآن الكريم، وكانوا به يهتدون.
أمَّا بعد:
فإن غاية الإنسان في هذه الدنيا هو تحقيقُ العبودية لله رب العالمين، إذ عليها مناط التكليف، وإليها دعت الرسالات السماوية كلها، والعلم من أشرف مقامات العبودية إذا كان متعلقاً بنصوص الوحيين الشريفين (القرآن الكريم والسنة الشريفة) إذ هما أصل العلوم ومنبعها.
وعلم التفسير من أجَلِّ العلوم وأنفعها وأشرفها، لتعلقه بكلام الله جل وعلا، وكل ما كان متصلاً بالتفسير ومتعلقا به كان له من القدر والمنزلة بقدر تعلقه به.
ولما كان الأمر كذلك؛ انْبَرى علماء الإسلام في شتى الأقطار لدراسة كلامِ رب العالمين، ونذروا حياتهم لخدمة الكتاب المبين، حتى استخرجوا دُرَرَه، واقتنصوا شوارده، ونهلوا من معينه، وارتشفوا من سلسبيله العذب.
وكان من بين هؤلاء الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله صاحب " تفسير المنار" الذي أراد منه أن يكون القارئ المتدبر للقرآن يهتدي به، ويتخذه وسيلة للنهوض بإصلاح الأمة وتجديد شبابها، الذي هو المقصود بذاته
(1)
.
وقد ضمَّن الشيخ تفسيره عصارة ذهنه، ونتاج قراءته واطلاعه، وأَودَعه من الفوائد المتعددة والمباحث القيمة حتى صار مرجعاً مليئًا بالفوائد والعلوم، فالكتاب موسوعة علمية قرآنية قيِّمة.
ومن هنا وقع اختياري على موضوع الاستنباط عند هذا الشيخ الجليل، وذلك أن علم الاستنباط من العلوم المتعلقة بالقرآن العظيم، إذ هو استخراج ما خفي من المعاني، ويحتاج إلى إعمال العقل الذي يحتاجه المستنبط حال الاستنباط، ولا يحصل هذا إلا بتأمل وتدبر كتاب الله.
وفي إبراز المعاني المتوصل إليها بالاستنباط هدايات قرآنية عقدية، وفقهية، وأصولية، وتربوية ينتفع بها الناظر إليها والعامل بها.
فكان لجمع مواضع الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله إبرازاً لهذا العلم من وجه، وبياناً لبراعة المفسر من وجه آخر، لذا عقدت العزم على جمع هذه الاستنباطات ودراستها تحت عنوان:
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 20).
أهمية الموضوع، وأسباب اختياره:
1.
القيمة العلمية لعلم الاستنباط إذ به يظهر رسوخ العلماء ومقدرتهم البارعة على استخراج المعاني الجليلة، وترسيخ القيم السامية.
2.
المكانة العلمية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله حيث يعد من العلماء الذين تبحروا في مختلف العلوم الشرعية وخاصة التفسير، إذ يُعدّ من مؤسسي مدرسة التفسير الحديث. وقد أثنى عليه ثلة من العلماء المعتبرين، منهم الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله إذ قال:"تأثرتُ بمنهاجِ الشيخِ محمد رشيد رضا رحمه الله لأنهُ جيدٌ في عقدِ المسائل، وفي إتحافِهِ الفكريِ"
(1)
، ومنهم أيضا الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله
(2)
والشيخ المفسر عبد الرحمن الدوسري رحمه الله.
3.
مكانة " تفسير المنار" بين كتب التفسير لاهتمامه بالقضايا العلمية والتربوية.
4.
عناية الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله بالقضايا الاجتماعية وإبرازه لها من خلال آيات الكتاب العزيز، وهو مما تدعو الحاجة الملحّة إليه في وقتنا الحاضر.
5.
الإسهام في إثراء المكتبة القرآنية بكتاب مستقل يضم كل ما يتعلق بالاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في التفسير.
أهداف البحث:
1.
الكشف عن منهج الشيخ محمد رشيد رضا في الاستنباط.
2.
جمع استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله التفسيرية ودراستها.
3.
بيان القيمة العلمية لاستنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وبيان ما لتلك الاستنباطات وما عليها وموقف العلماء منها.
4.
إبراز علم الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله من وجه، وبراعته فيه من وجه آخر.
حدود البحث:
درست استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله من أول سورة الفاتحة إلى الآية 52 آخر آية فسرها من سورة يوسف، وقد بلغت قرابة 200 استنباط.
(1)
شريط: رحلة الشيخ في طلب العلم)، وأذيع هذا اللقاء في البرنامج العام في الإذاعة السعودية 15/ 10/ 1403 هـ
(2)
حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه 1/ 400.
الدراسات السابقة:
بحسب ما اطلعت عليه من خلال البحث في الإنترنت، والتواصل مع قواعد المعلومات في المراكز البحثية كمركز الملك فيصل للدراسات والأبحاث، والجامعات في المملكة، وسؤال أهل الاختصاص من الباحثين والمتخصصين، تبين لي أن موضوع الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله لم تسبق دراسته.
إلا أن هناك بعض الرسائل العلمية المتعلقة بجهود الشيخ، ولكن في جوانب أخرى:
1.
قواعد التفسير من خلال تفسير المنار لمحمد رشيد رضا بين التجديد والمحافظة، الهادي لمراني علوي، المغرب، كلية الآداب 1994 م.
2.
الاتجاه العقلي في تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا، فوزية المشتوي، جامعة عين شمس 1990 م.
3.
التفسير المقاصدي عند الشيخ محمد رشيد رضا من خلال "تفسير المنار"، فاطمة الزهراء الخمامي، دكتوراه، كلية الآداب: ظهر المهراز: فاس، 1999 م.
4.
جهود الشيخ محمد رشيد رضا في التفسير: دراسة لتفسيره المنار، مصطفى بن عبد الله، أكاديمية الدراسات الإسلامية بجامعة ملايا، 2006 م.
5.
رشيد رضا المفسر، حسيب حسن السامرائي، جامعة الأزهر، 1970 م.
6.
مفهوم السنن الإلهية عند محمد رشيد رضا من خلال تفسيره المنار، حازم زكريا محيي الدين، ماجستير.
ويتبين مما سبق أن هذا الموضوع لم يفرد بالبحث، وأحسب أن إفراد هذا الموضوع من موضوعات علوم القرآن والتفسير بالجمع والدراسة من خلال تفسير له مكانته القيّمة والعالية، كتفسير الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله سيكون إضافة، أرجو أن تكون ضمن سلسلة الخدمات التي عنيت بهذا التفسير القيّم.
خطة البحث:
تتكون خطة البحث من: مقدمة وتمهيد، وقسمين، وخاتمة، وفهارس.
المقدمة؛ وفيها: أهمية الموضوع وأسباب اختياره، وأهداف البحث، وحدوده، والدراسات السابقة، وخطة البحث، ومنهجه.
التمهيد ويشمل: لمحة موجزة عن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
القسم الأول: الدراسة، وتتضمن تفسير الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ومنهجه في الاستنباط من خلال تفسيره، وفيه تمهيد وأربعة فصول:
التمهيد: بيان مفهوم الاستنباط والفرق بينه وبين التفسير.
الفصل الأول: التعريف بتفسيره ومنهجه رحمه الله فيه. وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: التعريف " بتفسير المنار".
المبحث الثاني: منهج الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره.
المبحث الثالث: مزايا تفسير المنار.
المبحث الرابع: المآخذ على تفسير المنار.
الفصل الثاني: أقسام الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الاستنباط، باعتبار موضوع المعنى المستنبط.
وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: الاستنباطات العقدية.
المطلب الثاني: الاستنباطات في علوم القرآن.
المطلب الثالث: الاستنباطات الأصولية والفقهية.
المطلب الرابع: الاستنباطات اللغوية والبلاغية.
المطلب الخامس: الاستنباطات التربوية والسلوكية.
المطلب السادس: الاستنباطات الاجتماعية.
المطلب السابع: الاستنباطات في السياسة الشرعية.
المبحث الثاني: الاستنباط، باعتبار ظهور وخفاء النص المستنبط منه، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الاستنباط باعتبار ظهور النص المستنبط منه.
المطلب الثاني: الاستنباط باعتبار خفاء النص المستنبط منه.
المبحث الثالث: الاستنباط، باعتبار الإفراد والتركيب، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الاستنباط باعتبار الإفراد.
المطلب الثاني: الاستنباط باعتبار التركيب.
الفصل الثالث: طرق دلالات الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره، وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: الاستنباط بدلالة النص.
المبحث الثاني: الاستنباط بدلالة المفهوم.
المبحث الثالث: الاستنباط بدلالة الالتزام.
المبحث الرابع: الاستنباط بدلالة التضمن.
المبحث الخامس: الاستنباط بدلالة الاقتران.
المبحث السادس: الاستنباط بدلالة المطرد من أساليب القرآن.
الفصل الرابع: القيمة العلمية لاستنباطات الشيخ محمد رشيد رضا. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تأثر الشيخ محمد رشيد رضا باستنباطات المفسرين قبله، وموقفه منها.
المبحث الثاني: مميزات استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا، وأثرها فيمن بعده.
القسم الثاني: جمع استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا التفسيرية ودراستها حسب ترتيب سور المصحف وآياته.
الخاتمة:
وفيها أهم النتائج والتوصيات.
الفهارس وتشمل:
1.
فهرس الآيات القرآنية.
2.
فهرس الأحاديث النبوية.
3.
فهرس الأعلام.
4.
ثبت المصادر والمراجع.
5.
فهرس السور والاستنباطات
6.
فهرس الموضوعات.
منهج البحث:
سلكت بعد توفيق الله وعونه في القسم الدراسي المنهج الوصفي التحليلي لشخصية المفسر وتفسيره، والاستنباطات عنده.
كما سلكت في القسم الآخر المنهج الاستقرائي التحليلي في استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله متبعة ما يلي:
أ - ذكر الآية المستنبط منها، وبيان وجه الاستنباط.
ب - تحليل الاستنباط من خلال بيان نوع دلالة الآية عليه.
ت - الحكم عليه بعد موازنة قوله بأقوال غيره من العلماء.
متبعة في ذلك ما يلي:
• كتابة الآيات القرآنية بالرسم العثماني، مع عزوها إلى سورها بأرقام آياتها.
• تخريج الأحاديث من مظانها، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فاكتفي بذلك، وإن كان في غيرهما أخرجه من مظانه، وأذكر أقوال العلماء في الحكم عليه.
• عزو النصوص والآراء.
• توثيق المعاني اللغوية من المعاجم المعتمدة مع ذكر المادة والجزء والصفحة.
• توثيق المعاني الاصطلاحية من كتب المصطلحات الخاصة بها أو من كتب الفن الذي يتبعه المصطلح.
• توثيق النصوص والأقوال.
• التعريف بالأعلام الذين ورد ذكرهم، عدا المشهورين، ومن ورد في نقولات أهل العلم.
• التعريف بالفرق والأماكن والبلدان.
• وضع الفهارس الفنية اللازمة.
التمهيد
لمحة موجزة عن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
كان رحمه الله متعدد الجوانب والمواهب، فكان مفكرًا إسلاميًا غيورًا على دينه، وصحفيًا نابهًا أنشأ مجلة (المنار) ذات الأثر العميق في الفكر الإسلامي، وكاتبًا بليغًا، ومفسرًا نابغًا، ومحدثًا متقنًا في طليعة محدثي العصر، وأديبًا لغويًا، وخطيبًا مفوهًا تهتز له أعواد المنابر، وسياسيًا يشغل نفسه بهموم أمته وقضاياها، ومربيًا ومعلمًا يروم الإصلاح ويبغي التقدم لأمته.
كان رائداً من رواد الإصلاح الإسلامي الذين بزغوا في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وعملوا على النهوض بأمتهم؛ حتى تستعيد مجدها الغابر، وقوتها الفتية على هدى من الإسلام، وبصر بمنجزات العصر
(1)
.
اسمه ونسبه:
هو العلامة محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بَهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني البغدادي الأصل الحسيني النسب
(2)
.
من نسب السادة الأشراف؛ يذكر أن أجداد الشيخ محمد رشيد ينحدرون من العترة النبوية الشريفة وهم من الأشراف الحسينين وأصلهم من الحجاز وانتقلوا إلى العراق ونزلوا النجف ثم نزحوا من العراق إلى الشام وسكنوا قرية القلمون على سيف البحر بقرب طرابلس الشام
(3)
.
مولده:
ولد في السابع والعشرين من شهر جمادى الأولى عام ألف ومائتين واثنين وثمانين للهجرة، الموافق الثامن عشر من شهر تشرين الأول سنة ألف وثمانمائة وخمسة وستين ميلادية في قرية قلمون، الواقعة على شاطئ البحر على بعد زهاء خمسة كيلومترات إلى الجنوب من طرابلس الشام، هذه القرية كانت تسمى بسيدة القرى والمزارع، ونشأ في بيت علم وتقوى، وترعرع في أسرة متديّنة تنتسب إلى الإمام الحسين بن علي
(4)
.
(1)
مقدمة مجلة المنار ترجمة المؤلف.
(2)
مجلة المنار (35/ 153) الأعلام للزركلي (6/ 126).
(3)
انظر: رشيد رضا الإمام المجاهد، د. إبراهيم أحمد العدوي، المؤسسة المصرية للتأليف والنشر (19)، مجلة المنار (23/ 290).
(4)
محمد رشيد رضا (ص: 1) المنار، والأزهر 133، مجلة المنار (35/ 153)، السيد رشيد رضا وإخاء أربعين سنة، شكيب أرسلان، قدم له د. مدحت السبع، دار الفضيلة، مصر، ص 4.
نشأته:
نشأ وتعلم في مدرسة قلمون قواعد الحساب والخط والقراءة بما فيها قراءة القرآن الكريم، ثم دخل المدرسة الرشدية بطرابلس الشام وهي مدرسة ابتدائية تابعة للدولة العثمانية وكان التعليم فيها باللغة التركية فمكث بها سنة ثم تركها والتحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية وهي مدرسة أنشأها الشيخ حسين الجسر الأزهري رحمه الله سنة (1299 هـ)
(1)
، وكانت أرقى من المدرسة السابقة، والتعليم فيها بالعربية، وتهتم بتدريس العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية، غير أن هذه المدرسة أغلقتها السلطات العثمانية، فانتقل إلى المدارس الدينية بطرابلس وبقي فيها حتى تحصل على الشهادة العالية، ثم واصل تعليمه ودراسته الحرة على أستاذه الشيخ حسين الجسر واتصل بحلقاته ودروسه حتى تخرج على يديه وكتب له الشيخ الجسر الإجازة بالتدريس سنة خمس عشرة بعد الثلاثمائة وألف من الهجرة.
وبجانب ذلك تلقى العلوم العربية والأدبية والتصوف على الشيخ (عبد الغني الرافعي
(2)
رحمه الله، والشيخ (محمد القاوقجي الكبير
(3)
رحمه الله، وتلقى علم الحديث وفقه الشافعية على الشيخ (محمود نشابة
(4)
رحمه الله.
(1)
حسين بن محمد بن مصطفى الجسْر: عالم بالفقه والأدب، من بيت علم في طرابلس الشام، له نظم كثير، ولد وتعلم في طرابلس، ورحل إلى مصر، فدخل الأزهر سنة 1279 هـ فاستمر إلى 1284 هـ، وعاد إلى طرابلس، فكان رجلها في عصره، علما ووجاهة، وتوفي فيها 1299 هـ، الأعلام للزركلي (2/ 258).
(2)
عبد الغني بن أحمد بن عبد القادر الرافعي البيساري الفاروقي، محدث، أصولي، فقيه، لغوي، ناثر، ناظم، صوفي، ولد بطرابلس الشام 1236 هـ، ونشأ بها، ورحل إلى دمشق، وأخذ عن علمائها، وحج وقرأ على أعلام مكة، وعاد إلى طرابلس، وتخرج به كثير من أهل العلم والأدب، ولي الإفتاء بطرابلس، ثم عين رئيسا لمحكمة الاستئناف بصنعاء اليمن، وسافر إلى مصر والقسطنطينية، وتوفي بمكة 1308 هـ، معجم المؤلفين (5/ 270)
(3)
محمد بن خليل بن إبراهيم القاوقجي الطرابلسي الحنفي (أبو المحاسن) محدث، مسند، فقيه، صوفي، خطيب، ولد بطرابلس الشام 1224 هـ، وتلقى مبادئ العلوم بها، ورحل إلى مصر، فدرس في الأزهر، وعاد إلى بلده، وتوفي حاجا بمكة 1305 هـ، معجم المؤلفين (9/ 287).
(4)
محمود بن محمد بن عبد الدائم نشابة: فاضل، من أهل طرابلس الشام ولد (1228 هـ) تعلم بمصر، من كتبه (حاشية على متن البيقونية في مصطلح الحديث - ط) و (نثر الدراري - ط) حاشية على شرح الفناري، في المنطق، و (حاشية على همزية البوصيري) و (تعليق على شرح الضناوي) في المنطق، وآل نشابة فرع من بيت الزيلع، يقولون إن جدّهم كان عدّاء فلقب بالنشابة تشبيها له بها، وتوفي عام (1308 هـ) الأعلام للزركلي (7/ 186).
وقد أقبل في تلك الفترة على كتب الأخلاق والتصوف، وخصوصاً كتاب أبي حامد الغزالي "إحياء علوم الدين" الذي كان له أكبر الأثر في دينه وأخلاقه وعلمه وسلوكه
(1)
.
ثم وسع دائرة اهتماماته الفكرية فاطلع على شيء من الثقافة الغربية من خلال قراءته لبعض الكتب الأجنبية المترجمة مثل كتاب "الاجتماع" وغيره، ومن الكتب التي أثرت في أفكاره، وأضافت إلى ثقافته عنصراً مميزاً دفعه إلى الانشغال بقضايا الأخلاق والفكر والتأريخ "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" لمسكويه و"مقدمة ابن خلدون"
(2)
.
شيوخه:
كما تقدم، فإن الشيخ محمد رشيد طلب العلم على يد كبار الشيوخ في القلمون وطرابلس منهم
(3)
:
1.
الشيخ حسين الجسر
(4)
: وهو من أكابر علماء سورية في عصره، وذلك حينما دخل المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس، فلما ألغيت استمر في تعلمه عليه حتى تخرج وكتب له الشيخ حسين سنة 1315 هـ الإجازة في التدريس.
2.
الشيخ محمود نشابة
(5)
: أخذ عنه فقه الشافعية، وعلم الحديث، وكان أول ما أخذ عنه في الحديث: الأربعين النووية حيث قال: قرأتها وضبطتها حتى أجازني بها كتابة.
3.
الشيخ عبد الغني الرافعي
(6)
: حضر عنده بعضاً من شرح كتاب نيل الأوطار للقاضي الشوكاني، ولكنه يقول: استفدت كثيرا من معاشرته في العلم والأدب والتصوف.
عقيدته
(7)
:
الشيخ محمد رشيد رضا إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، سار على نهجهم واقتفى أثرهم، ودافع عن العقيدة الصافية، ووقف في وجه أعدائها، كما بين ذلك الباحث تامر محمود في بيان عقيدة الشيخ محمد رشيد رضا في رسالته:(منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة).
(1)
رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الدكتور: محمد عبد الله السلمان، ط: الأولى 1408 هـ، نادي القصيم الأدبي، بريدة 47 - 48.
(2)
مفهوم السنن الإلهية في الفكر الإسلامي - السيد محمد رشيد رضا نموذجاً ـ الدكتور حازم محي الدين، دار النوادر، بيروت، ط: 2 ـ 1433 هـ، ص 94.
(3)
أنظر: منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة، تامر محمود، رشيد رضا الإمام المجاهد، د. إبراهيم العدوي 23 - 31، رشيد رضا وإخاء أربعين سنة، شكيب أرسلان 35.
(4)
مجلة المنار (7/ 792)، منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة (ص: 67).
(5)
مجلة المنار (21/ 153)، منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة (ص: 69).
(6)
مجلة المنار (21/ 153)، منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة (ص: 70).
(7)
أنظر: رشيد رضا الإمام المجاهد، د. إبراهيم العدوي 36، والسيد رشيد رضا، شكيب أرسلان 40 وما بعده.
إلا أن الشيخ محمد رشيد كانت له بداية في التصوف بحسب البيئة التي نشأ فيها وتأثر بعلمائها، فقد كان رشيد رضا قد بدأ التصوف حين كان يُقرئه شيخه حسين الجسر بعض كتب الصوفية ومنها بعض الفصول من الفتوحات المكية، ودرس على شيخه أبي المحاسن القاوقجي، ونال الإجازة في كتاب دلائل الخيرات، ثم بان له أن هذا الكتاب أغلبه أكاذيب على النبي صلى الله عليه وسلم فتركه، وأقبل على قراءة أذكار وأوراد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة.
فسلك الطريقة النقشبندية
(1)
، ويذكر الشيخ محمد رشيد رحمه الله في هذا المجال أن الذي حبب إليه التصوف هو كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وقطع أشواطاً كبيرة فيها، ثم يقول:"ورأيت في أثناء ذلك كثيراً من الأمور الروحية الخارقة للعادة كنت أتأول الكثير منها وعجزت عن تأويل بعضها"
(2)
، ثم يقول:"ولكن هذه الثمرات الذوقية غير الطبيعية لا تدل على أن جميع وسائلها مشروعة أو تبيح ما كان منها بدعة، كما حققت ذلك بعد"
(3)
.
وقد عبر عن هذه التجربة الصوفية بعد سنوات طويلة جداً في التصوف بقوله: " إنني قد سلكت الطريقة النقشبندية، وعرفت الخفي والأخفى من لطائفها وأسرارها، وخضت بحر التصوف ورأيت ما استقر باطنه من الدرر، وما تقذف أمواجه من الجيف، ثم انتهيت إلى مذهب السلف الصالحين، وعلمت أن كل ما خالفه فهو ضلال مبين"
(4)
.
ثم أنكر على أهل هذه الطرق، فناصبوه العداء، حتى وقعت بين يديه صحيفة العروة الوثقى التي كان يصدرها الأستاذان جمال الدين الأفغاني
(5)
، والشيخ محمد عبده
(6)
، فأعجب بها وأقبل على قراءتها فكانت بمثابة تغيير جذري في طريقة تفكيره وأهدافه في الحياة، فقال:"هي التي وجهت نفسي للسعي في الإصلاح العام بعد أن كنت لا أفكر إلا فيما بين يدي، وأرى كل الواجب علي أن أظهر في دروسي العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة، وأنا لا أعلم سبب الفساد الذي فعل في العقائد والأخلاق ما فعل، ودفع المسلمين إلى مزالق الزلل، حتى هدتني العروة الوثقى، إلى المناشئ والعِلل"
(7)
.
(1)
النقشبندية: هي إحدى الطرق الصوفية نسبة إلى الشيخ محمد بهاء الدين شاه نقشبند، انظر: عبد الرحمن دمشقية: "النقشبندية (ص: 29) ط: دار طيبة، الرياض، الثالثة 1409 هـ/ 1988 م. منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة (ص: 556).
(2)
مجلة المنار (33/ 353).
(3)
مجلة المنار (33/ 353).
(4)
مجلة المنار (11/ 504).
(5)
محمد بن صفدر الحسيني، جمال الدين، ولد في أسعد آباد (بأفغانستان) 1254 هـ. ونشأ بكابل، وتلقى العلوم العقلية والنقلية، وبرع في الرياضيات، سافر إلى الهند ثم قصد مصر، وتتلمذ على يده الشيخ محمد عبده، وكثيرون، ونفته الحكومة المصرية (سنة 1296 هـ) فرحل إلى حيدر آباد، ثم إلى باريس، وأنشأ فيها مع الشيخ محمد عبده جريدة (العروة الوثقى) توفي 1315 هـ، له (تاريخ الأفغان - ط) و (رسالة الرد على الدهريين - ط)، الأعلام للزركلي (6/ 168 - 169) معجم المؤلفين (3/ 154).
(6)
محمد عبده بن حسن خير الله، من آل التركماني، فقيه، مفسر، متكلم، حكيم، أديب، لغوي، كاتب، صحافي سياسي، ولد في شنيرا من قرى الغربية بمصر في أواخر 1266 هـ، ونشأ فيها، وعمل في التعليم، وتولى تحرير الوقائع المصرية، وأصدر مع جمال الدين الافغاني جريدة العروة الوثقى، وعاد إلى بيروت فاشتغل بالتدريس والتأليف، وتولى منصب القضاء، فمفتيا للديار المصرية وتوفي فيها 1323 هـ، له (تفسير القرآن الكريم - ط) لم يتمه، و (رسالة التوحيد - ط) و (شرح نهج البلاغة - ط) وغيرها، معجم المؤلفين (10/ 272 - 273)، الأعلام للزركلي (6/ 252).
(7)
انظر: مجلة المنار (صفحات التعريف)، رشيد رضا الإمام المجاهد، أحمد العدوي، 77.
وقال: "كنت أقلب في أوراق والدي فرأيت عددين من جريدة العروة الوثقى فقرأتهما بشوق ولذة ففعلا في نفسي فعل السحر، وكان كل عدد منها كسلك من الكهرباء اتصل بى فأحدث في نفسي من الهزة والانفعال والحرارة والاشتعال ما قذف بي من طور إلى طور ومن حال إلى حال-ويصف الطورين والحالين فيقول- كان همي قبل ذلك محصورا في تصحيح عقائد المسلمين ونهيهم عن المحرمات وحثهم على الطاعات وتزهيدهم في الدنيا، فتعلقت نفسي بعد ذلك بوجوب رشاد المسلمين عامة إلى المدنية والمحافظة على ملكهم ومباراة الهمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات وجميع مقومات الحياة فطفقت استعد لذلك استعداداً"
(1)
.
واشتهر حبه وتعلقه الشديد بالأفغاني ومحمد عبده حتى صار الثناء عليهما يعتبر تقربا إليه، وكتب الأفغاني وهو في الآستانة كتابا أبان له فيه ما يكنّه له من محبة وتأييد وسأله إن كان يقبله مريدا يتلقف الحكمة منه وتلميذا يقوم ببعض الخدمة.
كان الشيخ محمد عبده في الشام منفيا من مصر والتقى به السيد رشيد مرتين في طرابلس في مناسبتين قصيرتين كان نتيجتهما زيادة إعجاب السيد رشيد بالإمام ورغبته في الاتصال به، وبعد أن توفي الأفغاني سنة 1314 هـ، عزم الشيخ محمد رشيد على الرحيل إلى مصر للاتصال بوارث علمه وحكمته الأستاذ الإمام محمد عبده لتلقي الحكمة منه، ولازمه حتى توفي.
ثم بدأ يتحول تدريجيا بعد وفاة أستاذه محمد عبده، من منهج المدرسة العقلية الحديثة إلى منهج السلف، وهو وإن لم يتحول تحولا كاملا إلا أنه كان في ازدياد إلى أن أدركته الوفاة.
وتبدو مظاهر هذا التحول عن سيرة سلفه التي ساروا عليها فيما يلي:
أولا: من خلال منهجه في التفسير؛ فقد نص في تفسيره على أنه "خالف منهج أستاذه بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة سواء كان تفسيرا لها أو في حكمها وفى تحقيق بعض المفردات والجمل اللغوية والمسائل الخلافية بين العلماء، وفى الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة وفى بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر أو يقوي حجتهم على خصومهم من الكفار والمبتدعة أو يحل بعض المشكلات التي أعيا حلها بما يطمئن به القلب وتسكن إليه النفس"
(2)
.
وقال أيضا: " (وأقول) أنا مؤلف هذا التفسير: إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم، عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله -تعالى-، وإنما أذكر من كلام شيخنا، ومن كلام غيره، ومن تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري الناس أن ما انتشر في الأمة من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين، جعل قبول مذهب السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما يخالفه، أو طول ممارسة الرد عليهم، ولا نعرف في كتب علماء السنة أنفع في الجمع بين النقل والعقل من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى-، وإنني أقول عن نفسي: إنني لم يطمئن قلبي بمذهب السلف تفصيلا إلا بممارسة هذه الكتب.
(1)
المرجع السابق.
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 16).
فنحن قد سمعنا بآذاننا شبهات على بعض الآيات والأحاديث لم يسهل علينا دفعها وإقناع أصحابها بصدق كلام الله وكلام رسوله إلا بضرب من التأويل، وأمثال تقربها من عقولهم ومعلوماتهم أحسن التقريب، وقد غلط كثير من علماء الكلام والمفسرين في بيان مذهب السلف وفي معاني التفويض والتأويل، وتجد تفصيل ذلك لنا في أوائل تفسير سورة آل عمران، كما أخطأ من قالوا: إن الدليل العقلي هو الأصل فيرد إليه الدليل السمعي ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقا، والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلا من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي، فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا حتى نرجح أحدهما على الآخر، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب ترجيح القطعي مطلقا، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منها رجحنا المنقول على المعقول؛ لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جدا؛ فظواهر الآيات في خلق آدم مثلا مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنية لم تبلغ درجة القطع.
وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن: أن من الخير لك أن تطمئن قلبا بمذهب السلف ولا تحفل بغيره"
(1)
.
ثانيا: عنايته بكتب السلف وطبعها في مطبعة المنار وذلك بطبع كتب ابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب ونحوهم وهو أمر اشتهر به السيد رشيد والمنار حتى سماه خصومه بالوهابي.
وبذل جهدا كبيرا في الدفاع عن العقيدة المتمثلة في دعوة الشيخ محمد عبد الوهاب فكتب مقالات عديدة في الدفاع عنها بل تجاوز هذا إلى تأليف كتاب:
1.
السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة، رد فيه على خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الشيعة والرافضة.
2.
الوهابيون والحجاز، وهو مجموعة مقالات كتبها حينما هاجم خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية ووصفوها بالابتداع والخروج عن الإسلام، شرح فيها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومبادئها وأهدافها وحالة أتباعها في عصره وأنهم لا يرجى غيرهم في إعادة ما للمسلمين من عزة ومجد.
ونشاطه في طبع كتب السلف وتحقيقها والتعليق عليها بما يوضحها ويجلوها للناس أمر لا يخفى، وكان لها الأثر الكبير في تحوله إلى مذهب السلف وتأثره بهم عن طريق كتبهم.
ثالثا: الخصومة بينه وبين أتباع المدرسة العقلية الحديثة من تلاميذ الشيخ محمد عبده، فقد أدركوا تحوله عن منهج شيخه وجرت بينه وبينهم مناقشات حادة، ففي الصحف كثيرا ما هاجموه وهاجموا آراءه الجديدة ومن هؤلاء الأستاذ محمد حسين، والشيخ عبد العزيز جاويش والأستاذ محمد فريد وجدي.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 211).
رابعا: أن علاقة السيد رشيد بالإنجليز لم تكن كعلاقة الأفغاني وعبده المريبة بهم، فقد كان السيد رشيد يعلن حربه للاستعمار بجميع أشكاله الإنجليزي والفرنسي والإيطالي.
خامسا: أنه لم يدخل الماسونية
(1)
بل كان يحذر منها ومن الانتساب إليها ومن رواجها بين المسلمين، وكان إذا عاب أحد عنده الأفغاني أو محمد عبده بدخول الماسونية اكتفى بقوله:"نعم هما داخلان في الماسونية ولكن أنا لم أدخل فيها"
(2)
.
سادسا: حربه لجمعية الاتحاد والترقي
(3)
التي خلعت السلطان عبد الحميد بعد ما تكشفت له أهدافها التي ترمى إليها من القضاء على الخلافة الإسلامية وتأسفه على الخلافة الإسلامية، ووصفه لجمعية الاتحاد والترقي بأنها جمعية الأحمرين الدم والذهب ووصف مصطفى كمال أتاتورك بالإلحاد والمروق من الدين الإسلامي وأخذ يدعو بعد هذا بشدة إلى إعادة الخلافة الإسلامية وألّف في ذلك كتابه (الخلافة أو الإمامة العظمى).
ومن هذا ندرك مدى مخالفة السيد رشيد رضا لسيرة أستاذيه الأفغاني ومحمد عبده ولم يكن هذا التحول فجائيا بل كان التدرج واضحا في سيره، فقد كان يزداد تقربا إلى منهج السلف كلما امتد به العمر إلى أن توفاه الله
(4)
.
وقال صاحب كتاب منهج الشيخ محمد رشيد في العقيدة: " لقد تبين لي من خلال عرض منهج وآراء رشيد رضا في العقيدة أنه كان متأثراً بعدة مدارس مختلفة، منها مدرسة شيخه محمد عبده الفلسفية، ومدرسة ابن تيمية السلفية، وبناءً على ذلك تعددت الآراء فيه، فعدّه بعضهم محسوباً على هؤلاء وعده آخرون على هؤلاء، وكل نظر إلى جانب واحد، ولكني أقول إحقاقاً للحق إن الذي غلب على رشيد رضا، لا سيما في آخر حياته ـ هو المنهج السلفي المتأثر فيه بمؤلفات ابن تيمية ومدرسته"
(5)
.
(1)
منظمة سرية يهودية إرهابية غامضة محكمة التنظيم، ترتدي قناعاً إنسانياً إصلاحياً، وتهدف من وراء ذلك إلى ضمان سيطرة اليهود على العالم، وتدعو إلى الإلحاد والإباحية والفساد، وقيل هي: أخطر تنظيم سري إرهابي يهودي متطرف، يحتوي على حُثالات البشر؛ من أجل السيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية في كل أنحاء المعمورة. رسائل في الأديان والفرق والمذاهب، د. محمد الحمد ص 110.
(2)
الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين ص 96.
(3)
حركة سياسية كانت توجّه مقدرات الدولة العثمانية وتدير شؤونها منذ الانقلاب الدستوري عام 1908 م حتى هزيمة الدولة في الحرب العالمية الأولى وتوقيع معاهدة مودروس عام 1918 م. الموسوعة العربية المجلد الأول الحضارة العربية، 224.
(4)
انظر: منهج المدرسة العقلية في التفسير، الدكتور فهد الرومي، الناشر: إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية 1403 هـ. من 182 - 186.
(5)
منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة (ص: 897).
ومن خلال هذا يتضح أن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: سلفي المذهب، إضافة إلى أنه صرح في تفسيره بذلك فقال:"قال المغوون لهم من أهل الطرائق القدد بلسان حالهم أو مقالهم: إن صاحب المنار معتزلي منكر لكرامات الأولياء، وما هو بمعتزلي ولا أشعري، بل هو قرآني سني"
(1)
.
أما ما وقع فيه من انحرافات في العقيدة عموما فتبعاً لشيخه محمد عبده، وقد استطاع التخلص مما كان عليه شيخه من العقيدة الأشعرية فنراه يرد عليه، إضافة إلى أنه أظهر المذهب السلفي فيما جمعه في تفسيره، فقد أثبت في معظم الصفات مذهب السلف ودافع عنه، وإن كان وقع في التأويل في بعض الصفات، فهو يعتبر من الذين غلبت عليهم الصفة السلفية
(2)
.
تلامذته:
أنشئت في عهده مدرسة "دار الدعوة والإرشاد" وكانت هذه المدرسة هي مما دعا إليه في مجال الإصلاح الديني التعليمي، حيث كانت تعنى بتدريس جميع العلوم والفنون التي تدرس عادة في الكليات مع التربية الدينية، وزيادة العناية بالعلوم الإسلامية، وتنشأ أقسامها بالتدريج، يبدأ منها بقسم عال؛ لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين بالوعظ والتدريس وهو المقصد الأساسي
(3)
.
ويتبين من منهاج الدراسة النظري والعملي أن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله حاول من خلاله تحقيق كثير من أسس الإصلاح الديني والتعليمي الذي كان يدعو إليه، وقد توقفت المدرسة أثناء الحرب العالمية الأولى بسبب انقطاع الدعم المادي لها
(4)
، ورغم الفترة المحدودة التي ظلت الدراسة بها قائمة والتي لم تتعد أربع سنوات، إلا أن حماس الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وحرصه على نجاحها أدى إلى تخرج مجموعة من تلامذتها وهم مجتهدون للعمل على منهج الإصلاح الذي أرساه فيهم الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ومزودون بكثير من العلوم والمعارف والخبرات التي أهلتهم فيما بعد للإسهامات العلمية والعملية في المناطق التي ذهبوا إليها
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 203).
(2)
انظر: المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات، محمد بن عبد الرحمن المغراوي، الناشر: مؤسسة الرسالة، دار القرآن، سنة النشر: 1420 هـ -2000 م، 2/ 663.
(3)
مجلة المنار (14/ 785) رشيد رضا الإمام المجاهد، د. إبراهيم العدوي 180.
(4)
مجلة المنار (35/ 197 - 198).
(5)
مجلة المنار (35/ 197 - 198) مقالة: السيد الإمام محمد رشيد ناظر دار الدعوة، الكاتب: عبد الرحمن عاصم.
ومن هؤلاء الطلاب:
1.
الشيخ يوسف ياسين
(1)
.
2.
الشيخ أمين الحسيني
(2)
.
3.
الشيخ محمد بهجت البيطار
(3)
.
4.
الشيخ محمد الفقي
(4)
.
5.
الشيخ عبد الظاهر أبو السمح، من أئمة الحرم المكي
(5)
.
6.
الشيخ عبد السميع البطل، من علماء مصر
(6)
، وغيرهم.
(1)
(1309 - 1381 هـ) يوسف بن محمد ياسين: من كبار العاملين في خدمة الملك عبد العزيز آل سعود، ولد ونشأ في اللاذقية بسورية، وحفظ القرآن، له " الرحلة الملكية " و " مذكرات " الأعلام للزركلي (8/ 253).
(2)
(1311 - 1394 هـ) محمد أمين (أو الحاج أمين) بن محمد طاهر بن مصطفى الحسيني: زعيم فلسطين السياسي في عصره، ولد وتعلم بالقدس، وأقام سنتين بين الجامع الأزهر ودار الدعوة والإرشاد التي أنشأها محمد رشيد رضا بمصر، المجاهد، فقام بتأليف (جيش الجهاد المقدس)، (مذكرات)، الأعلام للزركلي (6/ 46).
(3)
(1311 - 1396 هـ) علامة الشام، عالم ومصلح وخطيب ومؤلف، درس على يد أعلام عصره، مثل: جمال الدين القاسمي، محمد رشيد رضا، وتولى الخطابة والإمامة والتدريس، له: الإسلام والصحابة الكرام بين السُّنة والشيعة، وتفسير سورة يوسف، وغيرها، انظر تكملة معجم المؤلفين (ص: 718).
(4)
(1309 - 1378 هـ) محمد حامد الفقي، من علماء الدين، ولد في نكلي العنب، إحدى قرى مديرية البحيرة بمصر، فحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالأزهر، ونال شهادة العالية، وأسس جماعة أنصار السنة المحمدية، ودرس بالمعهد العلمي بمكة، من آثاره: أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها، شذرات البلاتين، ومن دفائن الكنوز، معجم المؤلفين (9/ 172).
(5)
(ت 1370 هـ) عبد الظاهر (أو محمد عبد الظاهر) ابن محمد، نور الدين التليني، أبو السمح خطيب الحرم المكيّ وإمامه، من وعاظ الفقهاء الأزهريين، من بلدة التلين في الشرقية بمصر، تفقه في الأزهر، تولى الخطابة والإمامة بالحرم المكيّ وإدارة دار الحديث من (1345 - 1370)، له رسائل مطبوعة، منها "حياة القلوب بدعاء علام الغيوب" و"الأولياء والكرامات" و"الرسالة المكية"، الأعلام للزركلي (4/ 11).
(6)
انظر: مجلة المنار (35/ 195) الكاتب: عبد السميع البطل.
مؤلفاته:
ترك لنا الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تراثاً ضخماً من الكتب والمؤلفات يدل على ضخامة الجهود التي كان يبذلها في سبيل توضيح أفكاره والدعوة إليها، وعلى عمق ثقافته وتنوعها وشمولها
(1)
.
قال عنه شكيب أرسلان
(2)
: "ولم أكن أرى في عصرنا هذا أصبر على الكتاب وأجلد على الشغل وأسيل قلما وأسرع خاطرا من الشيخ رشيد، فلو وزعنا ما كتبه بقلمه وبخط بنانه في حياته على خمسين كاتب لأصاب كل منهم قسطا، يجدر بأن يجعله في وصف المؤلفين العاملين". وقال أيضا عنه: "أنه الرجل الذي لم يضيع ساعة واحدة من حياته بلا عمل مفيد للإنسانية عموماً وللإسلام خصوصاً"
(3)
.
ويمكن القول إن أكثر مؤلفاته نشرت مرتين، إحداهما في مجلة المنار والثانية في كتاب مستقل.
والنظرة الفاحصة لمؤلفات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تبين أنها متنوعة الجوانب متعددة التخصصات؛ فبعضها شرعية فقهية، وبعضها عقائدية شرعية، مثل كتاب (السنة والشيعة)، و (رسالة التوحيد)، وبعضها تركز على النواحي السياسية، وبعضها تاريخية سياسية، وأكثر مؤلفاته تختص بالنواحي الإصلاحية الإسلامية.
ومن الصعب حصر مقالاته وكتاباته الصحفية ومؤلفاته العلمية، ونكتفي بذكر أبرزها ومنها
(4)
:
1.
مجلة المنار؛ مجلة شهرية صدر أول عدد منها في 22/ 10/ 1315 هـ، كان لها حضورٌ في العالم الإسلامي، يتركز هدفها في الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة، وإبطال الشبهات الواردة على الإسلام، وتربية البنين والبنات، وإصلاح كتب التعليم، ودفع الأمة على مجاراة الأمم المتقدمة، كانت تصدر أسبوعيا، ثم في كل شهر مرتين ثم مرة، كانت تطبع في عهدها الأول في مطبعة المؤيد التي يملكها علي يوسف، ثم اشترى الشيخ رشيد رضا رحمه الله المطبعة ليطبع مجلته، وسائر كتبه فيها.
2.
الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية.
3.
تاريخ الأستاذ الإمام في ثلاثة مجلدات وهو أوسع ترجمة للإمام محمد عبده.
(1)
مفهوم السنن الإلهية، حازم محي الدين 101.
(2)
(1286 - 1366 هـ) شكيب بن حمود بن حسن بن يونس أرسلان، من سلالة التنوخيين ملوك الحيرة، عالم بالأدب، والسياسة، مؤرخ، من أكابر الكتّاب، ينعت بأمير البيان، من أعضاء المجمع العلمي العربيّ، له (الحلل السندسية في الرحلة الأندلسية) رحلة إلى الحجاز، و (السيد رشيد رضا، وإخاء أربعين سنة - ط)، أنظر الأعلام للزركلي (3/ 174 - 175).
(3)
السيد رشيد رضا، وإخاء أربعين سنة 15.
(4)
انظر: محمد رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من 183 - 188، وتفكير محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار، محمد صالح المراكشي، ط: 1985 م، الدار التونسية للنشر- تونس: 63 - 72، رشيد رضا الإمام المجاهد، د. إبراهيم العدوي 270.
4.
نداء للجنس اللطيف؛ في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام، وقد علق عليه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
5.
الوحي المحمدي.
6.
المنار والأزهر.
7.
ذكرى المولد النبوي.
8.
الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية.
9.
يسر الإسلام وأصول التشريع العام في نهي الله ورسوله عن كثرة السؤال.
10.
الخلافة والإمامة العظمى.
11.
الوهابيون والحجاز.
12.
السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة.
13.
مناسك الحج أحكامه وحكمه.
14.
تفسير المنار: سيأتي الحديث عنه في الفصل الأول من هذه الرسالة.
15.
الربا والمعاملات في الإسلام.
16.
مساواة الرجل.
17.
رسالة في أبى حامد الغزالي.
18.
المقصورة الرشيدية.
19.
شبهات النصارى وحجج الإسلام.
20.
خلاصة السيرة المحمدية وحقيقة الدعوة الإسلامية وكليات الدين وحكمه.
21.
تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن الكريم.
22.
تفسير الفاتحة ومشكلات القرآن.
23.
تفسير سورة يوسف: الذي أكمله محمد بهجت البيطار، وطبع بعد وفاة الشيخ محمد رشيد سنة 1355 هـ.
24.
المسلمون والقبط والمؤتمر المصري.
25.
عقيدة الصلب والفداء.
26.
محاورات المصلح والمقلد.
27.
ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد ومنافاة الإسلام.
وفاته:
توفي رحمه الله يوم الخميس الموافق (23 من جمادى الأولى 1354 هـ، 22 من أغسطس 1935 م) في طريق عودته من السويس بعد أن قام بتوديع الأمير سعود بن عبد العزيز، وكان يقرأ القرآن طول الطريق حتى خرجت روحه، ودفن في القاهرة، بقرّافة المجاورين بجوار الإمام محمد عبده
(1)
.
رثاؤه:
(حزن عليه المسلمون ورثاه العلماء والأدباء في جميع الأقطار فلما بلغ نعيه الحجاز رثاه الشيخ يوسف ياسين برثاء مطلعه: (دمعة تلميذ على أستاذه) نشر في جريدة أم القرى عدد 560 السنة الثانية عشر الموافق يوم الجمعة عاشر جمادى الثانية سنة 1354 هـ.
ونعاه ابن باديس
(2)
فقال: " لقد كان الأستاذ نسيج وحده في هذا العصر فقهاً في الدين، وعلماً بأسرار التشريع، وإحاطة بعلوم الكتاب والسنّة، ذا منزلة كاملة في معرفة أحوال الزمان وسير العمران والاجتماع، وكفى دليلاً على ذلك ما أصدره من أجزاء التفسير، وما أودعه مجلّة المنار في مجلّداتها التي نيفت على الثلاثين، وما أصدره من غيرهما مثل (الوحي المحمّدي) الذي كان أحبّ كتبه إليه، وإنّ ما كان يقوم به من عمل في تفسير القرآن لا تستطيع أن تقوم به من بعده إلاّ لجنة من كبار العلماء، فهل يكون من رجال الأزهر من يتقدّمون لخدمة الإسلام بتتميم هذا العمل الجليل؟ "
(3)
.
(1)
انظر: رشيد رضا الإمام المجاهد، د. إبراهيم العدوي 282، مجلة المنار (35/ 153، 158، 215).
(2)
عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي ابن باديس: رئيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، أصدر مجلة (الشهاب) علمية دينية أدبية، توفي سنة 1359 هـ له (تفسير القرآن الكريم) اشتغل به تدريسا زهاء 14 عاما، ونشرت نبذ منه ثم جمع تفسيره لآيات من القرآن، باسم (مجلس التذكير)، (آثار ابن باديس)، الأعلام للزركلي (3/ 289).
(3)
آثار ابن باديس (4/ 194).
ورثاه الشاعر محمد الهراوي
(1)
فقال:
(أي صرح هوى وحصن حصين ولواء طوته أيدي المنون
يا غريب الديار لم تفقد الأهل فما مصر غير أم حنون
جئتها عالماً وطالب علم فتلقتك في الحشى والعيون)
(2)
.
قالوا عنه:
قال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
(3)
رحمه الله: "تأثرتُ بمنهاج الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله لأنهُ جيدٌ في عقدِ المسائل، وفي إتحافِهِ الفكريِ، وإن كان عليه بعض ما أخطأ فيه ولا أحد يسلَم إلا المعصومُ"
(4)
.
وقال المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
(5)
رحمه الله: "السيد محمد رشيد رضا رحمه الله له فضل كبير على العالم الإسلامي، بصورة عامة، وعلى السلفيين منهم بصورة خاصة، ويعود ذلك إلى كونه من الدعاة النادرين الذين نشروا المنهج السلفي في سائر أنحاء العالم بوساطة مجلته المنار"
(6)
.
(1)
محمد بن حسين ابن الدكتور محمد الهراويّ: شاعر مصري. انفرد بنوع من النظم السهل، ابتكره للأطفال يحفظونه ويتناشدونه في مدارسهم وبيوتهم، وأنشأ (مجلة الرسول) وله كتيبات لطيفة، منها (السمير الصغير - ط) و (الطفل الجديد - ط)، توفي سنة 1358 هـ الأعلام للزركلي (6/ 106).
(2)
محمد رشيد رضا (ص: 22) مجلة المنار (35/ 153، 158، 215).
(3)
محمد بن صالح العثيمين، ولد في عنيزة عام 1347 هـ، ونشأ بها، تعلم القرآن على يد جده لأمه، والتحق بإحدى المدارس، فحفظه في سن مبكرة ومختصرات المتون في الحديث والفقة، ودرس علي يد الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، له شرح ثلاثة الأصول، والشرح الممتع في الفقه، تفسير ابن عثيمين، وغيرها، توفي 15 شوال سنة 1421 هـ في جدة ودفن في مكة المكرمة.
(4)
شريط: رحلة الشيخ في طلب العلم، وأذيع هذا اللقاء في البرنامج العام في الإذاعة السعودية 15/ 10/ 1403 هـ.
(5)
ولد في أشقودرة، عاصمة ألبانيا عام 1914 م، في أسرة متدينة، هاجرت إلى بلاد الشام فرارا بدينها، وفيها درس وتلقى بعض العلوم الدينية والعربية على يد بعض الشيوخ من أصدقاء والده، وأخذ إجازة في الحديث، وإليه انصرفت همته، له مختصر في الشمائل المحمدية، وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وشرح العقيدة الطحاوية، وغيرها، توفي عام 1420 هـ في عمان، انظر: حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه.
(6)
حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه، محمد إبراهيم الشيباني، ط: الأولى 1407 هـ، مكتبة السدَّواى، 1/ 400.
ويقول أيضاً: " فإذا كان من الحق أن يعترف أهل الفضل بالفضل لذوي الفضل، فأجد نفسي بهذه المناسبة الطيبة مسجلاً هذه الكلمة، ليطلع عليها من بلغته، فإنني بفضل الله عز وجل بما أنا فيه من الاتجاه إلى السلفية أولاً وإلى تمييز الأحاديث الضعيفة والصحيحة ثانياً يعود الفضل الأول في ذلك إلى السيد رضا رحمه الله عن طريق أعداد مجلته المنار التي وقفت عليها في أول اشتغالي بطلب العلم"
(1)
.
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر
(2)
رحمه الله: "ونبغ من تلاميذه -يقصد الشيخ محمد عبده- والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب (المنار) فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام، وزادها وضوحًا وبيانًا، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة، وجمعها في أجزاء على أجزاء القرآن الكريم، ومضى لطيته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه، فكأنه أُلهم من روحه، لم يكل ولم يضعف، وها هو الآن قد أتم منه أجزاء تسعة، وكثيرًا من العاشر، فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طُبع على الإطلاق، ولا أستثني؛ فإنه هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح الواضح -إذ هو كتاب هداية عامة للبشر- لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على كثير من العلماء والمفسرين، ثم هو يُظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة، غير مقلد ولا متعصب، بل على سنن العلماء السابقين: كتاب الله وسنة رسوله، ولقد عرض لكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في شؤون المسلمين فأفسدت على كثير من شبابهم هداهم ودينهم، فحللها تحليلاً دقيقًا وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن والسنة، وأقام الحجة القاطعة على أن الإسلام دين الفطرة، وأنه دين كل أمة في كل عصر، ونفى عن الإسلام كثيرًا مما ألصقه به الجاهلون أو دسه المنافقون، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من أبنائه عن سبيله، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة ليضموهم إلى صفوفهم وينزعوهم من أحضان أمتهم، وإنه لكتاب العصر الحاضر، يفيد منه العالم والجاهل، والرجعي والمجدد، بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين، وأنا أرى من الواجب على كل مَن عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته والاستفادة منه، وبث ما فيه من علم نافع لعل الله أن يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها بالجهالات المتكررة، ولو كانت حكومتنا حكومة إسلامية حقيقة لطلبنا منها أن يُدرس في مدارسها ومعاهدها حق الدرس، ولكنا نعلم أنها لا تلقي للدين بالاً، بل لا تدفع عنه مَن أراد به عدوانًا، والطامة الكبرى أنها تحمي مَن يعتدي عليه بقوانينها الوضيعة، فلم يبق للمسلمين رجاء إلا أن يعملوا أفرادًا وجماعات في سبيل الدفاع عنه، وإظهار محاسنه للناشئة التي تكاد تندُّ عنه، وهم عماد الأمم"
(3)
.
(1)
المرجع السابق 1/ 400.
(2)
(1309 - 1377 هـ) أحمد بن محمد شاكر بن احمد بن عبد القادر، من آل علباء الحسيني (شمس الدين، أبو الاشبال) محدث، مفسر، فقيه، أديب، حقق ونشر عددا من كتب الحديث والفقه والأدب، وتوفي بالقاهرة، من آثاره: نظام الطلاق في الأسلام، الشرع واللغة، الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير، معجم المؤلفين (13/ 368).
(3)
مجلة المنار، مقال تفسير القرآن الحكيم، الكاتب: خادم السنة أحمد شاكر (31/ 193).
القسم الأول:
الدراسة النظرية:
وتتضمن تفسير الشيخ محمد رشيد رضا، ومنهجه في الاستنباط من خلال تفسيره.
وفيه تمهيد وأربعة فصول:
التمهيد:
بيان مفهوم الاستنباط، والفرق بينه وبين التفسير.
الفصل الأول: التعريف بتفسيره ومنهجه فيه.
الفصل الثاني: أقسام الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره.
الفصل الثالث: طرق دلالات الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره.
الفصل الرابع: القيمة العلمية لاستنباطات الشيخ محمد رشيد رضا.
التمهيد
بيان مفهوم الاستنباط، والفرق بينه وبين التفسير
أولاً: الاستنباط في اللغة:
تدورُ مادَّةُ (نَبَطَ)(النون والباء والطاء) على أصلٍ واحدٍ، وهو استخراجُ شيءٍ
(1)
، والألف والسين والتاء في استنبط تدلُّ على تطلُّبِ الشيءِ لأجلِ حصولِه، وكأنَّ فيها معنى التَّكلُّفِ في إعمالِ العقلِ الذي يحتاجُه المستنبطُ حال الاستنباط
(2)
، وهو استفعالٌ من أَنْبَطْتُ كذا
(3)
، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [سورة النساء: 83] أي: "لعلم ذلك الأمر الذين يستخرجونه ويُظهرون مخبّأه منهم"
(4)
.
ويقال: استنبطت الركية: إذا استخرجت ماءها، ونبطتها أنبطها، والنبط الماء المستنبط من الأرض، ومنه قول الشاعر
(5)
:
قريب ثراه ما ينال عدوه
…
له نبطا آبي الهوان قطوب
يعني بالنبط: الماء المستنبط.
وأصله من النَّبْط: وهو الماء الذي يخرج من البئر، وهو الماء أول ما تحفر.
ويطلق كذلك على ما يُتَحَلَّب من الجبل، كأنه عَرَقٌ يخرج من أعراض الصخور
(6)
.
ومنه سُمي النَّبَط - قوم بسواد العراق- من ولد نُبيط بن هاشم بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح؛ سمي بذلك لأنه فيما يقال: أول من استنبط المياه
(7)
.
(1)
مقاييس اللغة، (5: 381)، والعباب الزاخر واللباب الفاخر، (حرف الطاء: 208).
(2)
مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر، 159.
(3)
المفردات في غريب القرآن 788.
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 243).
(5)
شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، (10/ 6457).
(6)
تهذيب اللغة، (13/ 249)، المحيط في اللغة:(2/ 326)، كتاب العين (7/ 439).
(7)
كتاب العين: (7/ 439)، معجم مقاييس اللغة لابن فارس:(5/ 381).
وكذا يقال من المجاز: (استنبط الفقيه): إذا استخرج الفقه الباطن، باجتهاده وفهمِه
(1)
.
ويظهر من استعمال مادة نبط؛ أن لفظ الاستنباط في اللغة يستخدم لكل ما أُخْرِجَ أو أُظْهِرَ بعد خفاءٍ.
الاستنباط في الاصطلاح:
تعددت تعاريف العلماء للاستنباط
(2)
، والذي يعنينا المعنى الاصطلاحي للاستنباط
من القرآن، وهو استخراج ما خفي من النص القرآني بطريق صحيح
(3)
.
ومصطلح الاستنباط في علوم القرآن: استخراج ما في القرآن من دقيق المعاني ونفيس الأحكام وثمين الآداب
(4)
.
والاستنباط في استعمال المفسرين، هو: استخراج ما وراء ظواهر معاني الألفاظ من الآيات القرآنية، والمراد بظواهر معاني الألفاظ: ما يتوقف فهم القرآن عليها من المعاني المباشرة
(5)
.
أهمية الاستنباط:
الاستنباط قدرٌ زائدٌ على مجرد إدراك المعنى الظاهر؛ ومن ثَمَّ عزَّ وجوده، وصَعُبَ إدراكه، ولا يؤتاهُ كلُّ أحدٍ، بل هو من مواهب الله تعالى التي يُنعِمُ بِها على من شاء من عباده، وقد امتَنَّ الله تعالى به على المؤمنين، وعصمهم به من اتِّباع غير الحق؛ فقال تعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا} [سورة النساء: 83]، والاجتهاد في نيل العلم المُستَنبَط نوعٌ من الجهاد في سبيل الله
(6)
.
قال ابن القيم
(7)
: "المقصود أن الواجب فيما علّق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني ألا يتجاوز بألفاظها ومعانيها، ولا يقصر بها، ويعطي اللفظ حقه والمعنى حقه؛ وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه وأخبر أنهم أهل العلم؛ ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره، ويلغى ما لا يصح، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
(1)
تهذيب اللغة للأزهري: (13/ 249)، العباب الزاخر واللباب الفاخر، (حرف الطاء: 208).
(2)
انظر: منهج الاستنباط من القرآن الكريم، الدكتور: فهد الوهبي، 45.
(3)
منهج الاستنباط من القرآن الكريم ص 45.
(4)
علوم القرآن عند الصحابة والتابعين، د. بريك القرني ص 890.
(5)
معالم الاستنباط في التفسير، د. نايف الزهراني، ص 20.
(6)
معالم الاستنباط في علم التفسير، د. نايف الزهراني، ص 27.
(7)
شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، الدمشقي، الأصولي، المفسر، النحوي، المعروف بابن قِّيم الجوزية، ولد عام 691 هـ، لازم شيخ الإسلام ابن تيمية أخذ عنه، وامتحن وأوذي وحبس معه، له تصانيف عظيمة منها:"زاد المعاد، و"التبيان في أقسام القرآن"، وغيرها، توفي عام 751 هـ، بغية الوعاة 1/ 62، طبقات المفسرين 2/ 94 - 96 ـ
قال الجوهري (393 هـ): (الاستنباط كالاستخراج)، ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم، والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه.
ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم بكلامه ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد، ولا يخرج منها شيء من المراد"
(1)
.
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 172).
ثانياً: التفسير في اللغة:
التفسير تفعيلٌ من الفَسْر وهو البيان
(1)
، يقال: فَسَرْتُ الشيءَ أَفْسِرُه بالكسر فَسرْاً، ويقال: فَسَّرْته بالتّشديدِ أُفَسِّرهُ تَفْسِيراً إذَا بيّنته
(2)
، والتشديدُ أعمُّ في الاستعمال
(3)
، وبه جاء القرآن، كما قال تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ} [سورة الفرقان: 33]، أي بياناً وتفصيلاً
(4)
.
فالفاء والسين والراء كلمة واحدة تدلُّ على بيانِ شيءٍ وإيضاحِه، ومن ذلك الفَسْرُ، يقال: فَسَرْتُ الشَّيءَ وفسَّرتُه، والفَسْر والتَّفسِرَة: نظَر الطَّبيب إلى الماء وحُكمهُ فيه
(5)
.
الفسر: الإبانة وكشف المغطى، أو كشف المعنى المعقول، كما في البصائر، كالتفسير، والفعل كضرب ونصر، يقال: فسر الشيء يفسره ويفسره وفسره: أبانه
(6)
، فالتفسير في الأصل هو الكشف والإظهار
(7)
.
ومن خلال ما تقدم يتبين أن أقوال اللغويين في مادة اشتقاق التفسير متقاربة كلها تدل على البيان والإيضاح والكشف والإظهار، فتفسير الكلام: بيانه، وإيضاحه، وإظهاره، والكشف عن المراد منه
(8)
.
(1)
معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/ 504، لسان العرب (مادة فسر) 5/ 55، مختار الصحاح (2/ 781)، تاج العروس (13/ 323) القاموس المحيط (2/ 114).
(2)
ينظر: كتاب العين 7/ 247، تهذيب اللغة 12/ 283، المخصص 4/ 398.
(3)
تاج العروس 13/ 323.
(4)
أنظر: جامع البيان لابن جرير: (17/ 448)، تفسير القرآن العظيم (6/ 109).
(5)
مقاييس اللغة لابن فارس، (4/ 504).
(6)
تاج العروس من جواهر القاموس، (13/ 323).
(7)
التعريفات، (1/ 87).
(8)
تفسير القرآن الكريم أصوله وضوابطه، (15).
التفسير في الاصطلاح:
اشتهر تعريف التفسير في الاصطلاح عند العلماء، واختلفت عباراتهم في الدلالة على هذا العلم، ومن أشهر التعاريف ما يلي:
1.
ما عرفه أبو حيان (ت: 745)
(1)
، فقال:"التفسير: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب، وتتمات ذلك".
فقولنا: (علم): هو جنس يشمل سائر العلوم.
وقولنا: (يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن): هذا علم القراءات.
وقولنا: (ومدلولاتها) أي: مدلولات تلك الألفاظ، وهذا علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم.
وقولنا: (وأحكامها الإفرادية والتركيبية): هذا يشمل علم التصريف وعلم الإعراب وعلم البيان وعلم البديع.
(ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب): شمل بقوله: (التي تحمل عليها): ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئا، ويصد عن الحمل على الظاهر صاد، فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غير الظاهر، وهو المجاز.
وقولنا: (وتتمات ذلك): هو معرفة النسخ، وسبب النزول، وقصة توضح ما انبهم في القرآن، ونحو ذلك"
(2)
.
2.
وعرفه الزركشي
(3)
(ت: 794) في موضعين من كتابه البرهان في علوم القرآن، فقال في الموضع الأول:"علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه"
(4)
.
(1)
محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان الإمام أثير الدين أبو حيان الأندلسي الغرناطي، النفزيّ، نسبة إلى نفزة قبيلة من البربر، نحوي عصره، ولغويه، ومفسّره، ومحدثه، ومقرئه، ومؤرخه، وأديب، وله من التصانيف:«البحر المحيط في التفسير» ، «النهر» مختصره، «إتحاف الأريب بما في القرآن من الغريب» ، طبقات المفسرين للداوودي (2/ 287 - 290)، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (9/ 276).
(2)
البحر المحيط (1: 26).
(3)
محمد بن عبد الله بن بهادر، الإمام العالم العلامة المصنف المحرر بدر الدين أبو عبد الله المصري الزركشيّ الشافعي، ولد سنة 745 هـ، كان فقيها أصوليا مفسّرا أديبا فاضلا في جميع ذلك، ودرّس وأفتى، وولي مشيخة خانقاه كريم الدين بالقرافة الصّغرى، وكان منقطعا إلى الاشتغال بالعلم، لا يشتغل عنه بشيء، وله تصانيف كثيرة في عدّة فنون، منها «سلاسل الذهب» في الأصول، و «البرهان في علوم القرآن» ، «تفسير القرآن العظيم» وصل فيه إلى سورة مريم، مات سنة 794 هـ، طبقات المفسرين للداوودي (2/ 162 - 163).
(4)
البرهان في علوم القرآن (1: 13).
3.
وعرفه في الموضع الثاني، فقال:"هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وزاد فيه قوم، فقالوا: علم حلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها"
(1)
.
4.
وقال الزرقاني
(2)
(ت: 1367 هـ): "علم يُبْحَثُ فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله بقدر الطاقة البشرية"
(3)
.
5.
وقال الشيخ محمد ابن عثيمين (ت: 1421 هـ): "بيان معاني القرآن الكريم"
(4)
.
تحليل هذه التعريفات
(5)
:
أولا: أن بعض هذه التعريفات قد نص على مهمة المفسر، وضابط التفسير، وهي الشرح والبيان والإيضاح.
ثانيا: أن بعضها قد أدخل جملة من علوم القرآن في تعريف التفسير، وأنها قد جاءت في بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وسبب ذلك: كثرة هذه العلوم، كتعريف أبي حيان (ت: 745) والزركشي (ت: 794).
ويظهر أن أصحاب هذه التعريفات لم يميزوا بين التفسير وعلوم القرآن، فأدخلوا في مصطلح التفسير ما ليس منه.
ثالثاً: أن بعضهم قد توسع في تعريفه، وجعل بعض العلوم التي ليست من علم التفسير، ولا من مهمة المفسر، جعلها من صلب تعريف التفسير، وهذا ليس بصحيح، ويظهر أن سبب ذلك، أنهم لم يحددوا مهمة المفسر، حتى أن بعض من تحدث عن العلوم التي تلزم المفسر ذكر جملة العلوم الإسلامية التي لو كانت في مفسر لكان مجتهدا مطلقا في الشريعة.
والذي يظهر أن التفسير هو: " بيان معاني القرآن الكريم".
الفرق بين الاستنباط والتفسير
إن العلاقة بين الاستنباط والتفسير علاقة قوية، فعلم الاستنباط يتفق مع التفسير في أنهما بيان للمعنى.
ويفترقان في المعنى المبين في كل منهما، فالتفسير للمعنى الظاهر المباشر اللازم للفظ، والاستنباط ما وراءه من المعاني الزائدة، وكلاهما من أجل علوم القرآن الكريم وألصقها بألفاظه
(6)
.
(1)
البرهان في علوم القرآن، للزركشي (2: 148).
(2)
محمد عبد العظيم الزرقاني، من علماء الأزهر بمصر. تخرج بكلية أصول الدين، وعمل بها مدرسا لعلوم القرآن والحديث. وتوفي بالقاهرة. من كتبه (مناهل العرفان في علوم القرآن) و (بحث) في الدعوة والإرشاد، الأعلام للزركلي (6/ 210).
(3)
مناهل العرفان، (2/ 7).
(4)
أصول في التفسير، (28).
(5)
مفهوم التفسير، للشيخ مساعد الطيار 68.
(6)
معالم الاستنباط في علم التفسير، د. نايف الزهراني 22.
وقد أشار الدكتور فهد الوهبي في كتابه"منهج الاستنباط من القرآن" إلى الفروق التالية
(1)
:
1.
من حيث التعريف اللغوي: فالتفسير معناه البيان والإيضاح والكشف، والاستنباط معناه الاستخراج بعد الخفاء.
2.
الفرق بينهما في التعريف الاصطلاحي: فلو كانا شيئاً واحداً لاتفقت تعريفاتهم عند العلماء، بينما الواقع هو الاختلاف والتباين في التعاريف.
3.
يشترط في الاستنباط الخفاء فيما يستنبط، بحيث لا يوجد ما يدل ظاهراً على ارتباط هذا المعنى بالآية قبل استنباطه. بخلاف التفسير فلا يشترط فيه ذلك.
4.
مرجع التفسير هو اللغة وكلام السلف، ومرجع الاستنباط هو التدبر والتأمل في الآيات، والتدبر يأتي بعد الفهم للآية.
5.
التفسير مختص بمعرفة المعاني، والاستنباط مختص باستخراج ما وراء المعاني من الفوائد والأحكام الخفية.
6.
الاستنباط يحتاج إلى جهد وقوة ذهن، بخلاف التفسير الذي هو بيان المعنى فقد يحتاج لذلك في حالة عدم وضوح المعنى أو اختيار أحد الأقوال المذكورة في الآية، وقد لا يحتاج.
7.
الاستنباط مستمر لا ينقطع، وأما التفسير للألفاظ فقد استقر وعلم.
(1)
منهج الاستنباط من القرآن الكريم، فهد مبارك الوهبي، مركز الدراسات والمعلومات بمعهد الإمام الشاطبي، الطبعة الأولى: 1428 هـ. 58 - 60 بتصرف.
الفصل الأول: التعريف بتفسير الشيخ محمد رشيد رضا ومنهجه فيه
.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بتفسير المنار.
المبحث الثاني: منهج الشيخ محمد رشيد في تفسيره.
المبحث الثالث: مزايا تفسير المنار.
المبحث الرابع: المآخذ على تفسير المنار.
المبحث الأول: التعريف "بتفسير المنار
"
قصة الكتاب:
رحل الشيخ محمد رشيد رضا من طرابلس الشام إلى مصر بعد أن وقع في يده نسخة من جريدة "العروة الوثقى"، التي كان يقوم بإخراجها والكتابة فيها الأستاذ جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الشيخ محمد عبده، فقرأ الشيخ رشيد ما في الجريدة، فأعجب بالرجلين إعجاباً شديداً، ورغب في الاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني فلم يتمكن من ذلك، ثم تعلق أمله بالاتصال بخليفته الشيخ محمد عبده، وتحقق له ذلك، واتصل بالشيخ في رجب سنة 1315 هـ، وكان أول اقتراح عرضه عليه، أن يكتب تفسيراً للقرآن على نهج ما كان يكتب في جريدة "العروة الوثقى"، وبعد أخذ ورد بين الشيخين اقتنع الأستاذ الإمام بأن يقرأ دروساً في التفسير بالجامع الأزهر، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قام بإلقاء دروسه في التفسير على طُلابه ومريديه.
وكان الشيخ رشيد رحمه الله ألزم الناس بهذه الدروس، وأحرصهم على تلقيها وضبطها، فكان يكتب بعض ما يسمع، ثم يزيد عليه بما يذكره من دروس الشيخ بعد ذلك، ثم قام بنشر ما كتب على الناس في مجلته "المنار"، ولكنه لم يفعل إلا بعد مراجعة أستاذه لما كتب، وتناوله له بالتنقيح والتهذيب
(1)
.
إن التفسير المسمى بـ "تفسير المنار" يقوم في حقيقة أمره على ثلاثة رجال:
" أولهم السيد جمال الدين الأفغاني الذي انقدحت في فكره نظرية وجوب إصلاح المجتمع الإسلامي، برجوع المسلمين إلى منبع الدين وتلقيه من هنالك صافياً مبرأ عما اتصل به من الشوائب، والرجل الثاني، من الثلاثة الذين قام على كاهلهم تفسير المنار، هو الشيخ محمد عبده الذي باشر فعلاً تفسير القرآن العظيم على طريقة تطبيق النظرية التي دعا إليها السيد جمال الدين الأفغاني، وكان ذلك في الدروس التي قام بها الشيخ محمد عبده في بيروت، بين سنة 1301 هـ وسنة 1303 هـ ثم الدروس التي قام بها في مصر في الست سنين الأخيرة من حياته، ما بين سنة 1317 هـ وسنة 1323 هـ وتناولت من أول القرآن العظيم إلى نهاية الآية السادسة والعشرين بعد المائة من السورة الرابعة، سورة النساء: وهي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النساء: 126].
والرجل الثالث الذي تمت به سلسلة الثلاثة الذين يصح أن ينسب إليهم تفسير المنار هو الشيخ محمد رشيد رضا، الذي كان الداعي للشيخ محمد عبده إلى أن يواصل، في مصر بجهد ذي بال، ما كان ابتدأ به في بيروت بجهد ضعيف، ثم كان هو المتولي لتقييد ما يمليه الشيخ محمد عبده وتلخيصه، ثم لنشره تباعاً في مجلته: مجلة المنار التي اشتهر التفسير باسمها، ثم كان الشيخ رشيد أخيراً هو المكمل للتفسير: بما يدرجه من عمله وبيانه أثناء تلخيص ما قرره الشيخ محمد عبده، وبما وصل به الكتاب من حيث انتهى الشيخ محمد عبده من تتمة التفسير استقلالاً بما كمل به المجلد الخامس وتتابعت عليه بقية المجلدات حتى المجلد الثاني عشر.
فإذا كان هناك من بين الثلاثة: جمال الدين وعبده ورشيد رضا من هو أحق بأن ينسب إليه تأليف هذا التفسير من الآخرين فلن يكون ذلك غير المؤلف الحقيقي له فعلياً: وهو العلامة الشيخ محمد رشيد رضا"
(2)
.
(1)
انظر: التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي، (5/ 38).
(2)
انظر: التفسير ورجاله للطاهر بن عاشور، (1/ 147 - 148).
الهدف من كتابة هذا التفسير:
كان الشيخ محمد رشيد رضا يسعى لإيجاد تفسير يقوم على أساس التجديد والإصلاح ويفي بحاجات العصر وهذا ما يفهم من كلامه رحمه الله في مقدمة تفسيره حيث يقول: "وكان أول اقتراح لي عليه أن يكتب تفسيرا للقرآن ينفخ فيه من روحه التي وجدنا روحها ونورها في مقالات "العروة الوثقى" الاجتماعية العامة، فقال: إن القرآن لا يحتاج إلى تفسير كامل من كل وجه، فله تفاسير كثيرة أتقن بعضها ما لم يتقنها بعض، ولكن الحاجة شديدة إلى تفسير بعض الآيات، ولعل العمر لا يتسع لتفسير كامل.
فاقترحت عليه أن يقرأ درسا في التفسير، ثم اقترحت عليه أن يكتب تفسيراً يقتصر فيه على حاجة العصر، ويترك كل ما هو موجود في كتب التفسير السابقة، ويبين ما أهملوه فيها، غير أنَّ محمد عبده رفض هذا الاقتراح أيضاً محتجاً أنَّ الكتب لا تفيد القلوب العُمي، إذا وصل لأيدي هؤلاء العلماء كتابٌ فيه غير ما يعلمون، لا يعقلون المراد منه، وإذا عقلوا منه شيئاً يردونه، ولا يقبلونه، وإذا قبلوه حرَّفوه إلى ما يوافق علمهم ومشربهم، كما جروا عليه في نصوص الكتاب والسنة التي نريد بيان معناها الصحيح، وما تفيده، -ولم يزل يقنعه بقوله-: إن الزمان لا يخلو ممنْ يقدِّر كلام الإصلاح قدره، وإن كانوا قليلين، وسيزيد عددهم يوماً فيوما، فالكتابة تكون مرشداً لهم في سيرهم، وإنَّ الكلام الحق، وإنْ قلَّ الآخذ به، والعارف بشأنه لا بدَّ أن يُحفظ، وينمو بمصادفة المباءة المناسبة له، حتى أقنعه"
(1)
.
اسم الكتاب:
(تفسير القرآن الحكيم)، واشتهر (بتفسير المنار) نسبة للمجلة التي كان يُنشر فيها، حيث كان الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله يدوّن ما يسمعه من التفسير ويرتِّبه، ثم ينشره في "مجلة المنار" التي صدر المجلد الأول منه سنة 1346 هـ -1928 م، في طبعته الأولى، منها خمسة مجلدات أولى هي من تفسير الأستاذ الإمام محمد عبده، وقد بدأ الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تجريد التفسير من مجلة المنار في حياة الشيخ محمد عبده ولم يطبعه إلا بعد وفاته.
وقد استهدفت عملية التجريد ما احتواه المجلد الثالث من المنار، بداية من سورة الفاتحة واستمر إلى حدود بداية المجلد العاشر عند الآية 125 من سورة النساء
(2)
.
ويقع في اثني عشر مجلداً ابتداء بتفسير سورة الفاتحة وانتهاء بالآية الثانية والخمسين من سورة يوسف، والتفسير مطبوع ومتداول (طبعته دار المعرفة في بيروت)، وقد جاء في مقدمات أجزائه:" (تفسير سلفي أثري، مدني عصري، إرشادي اجتماعي، سياسي) وهو التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول وتحقيق الفروع والأصول، وحل جميع مشكلات الدين ودحض شبهات الماديين والجاحدين، وإقامة حجج الإسلام"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 12 - 13).
(2)
تفكير محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار 68.
(3)
انظر: علوم التفسير، د. عبد الله شحاته، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 1421 هـ، ص 39
طبعات الكتاب
(1)
:
يذكر الشيخ محمد رشيد رحمه الله أنه كان يكتب في أثناء إلقاء الدرس مذكرات يودعها على ما يراه ثم ما قاله الشيخ محمد عبده في دروسه ويزيد عليها ما يراه في وقت الفراغ، ثم اقترح عليه بعض قراء المنار في مصر وغيرها نشره في مجلة المنار، وقد استجاب لطلبهم ابتداء من الجزء السادس من المجلد الثالث الصادر في المحرم سنة 1318 هـ
(2)
.
وقد قام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله بتجريد الجزء الثاني من التفسير من مجلة المنار طبعه على حده، ثم أعقبه بالجزء الثالث إلى العاشر وذلك ما بين سنة (1326 - 1350 هـ)، ثم أعاد النظر في تفسير الجزء الأول ليتفق في منهجه مع الأجزاء الأخرى ونشره عام 1346 هـ.
ثم تلا ذلك طبع الجزئين الحادي عشر والثاني عشر، ولما شرع في الجزء الثالث عشر لحقته المنية فتوفي سنة 1354 هـ، وقد طبع أول طبعة بشكل متكامل في أغلب أجزائه سنة 1346 هـ، ثم طبع طبعة ثانية سنة 1366 هـ بعد وفاة الشيخ محمد رشيد رضا، وطبع ثالثة سنة 1367 هـ، وأدق الطبعات الطبعة الأولى وأما الطبعتان الأخيرتان فمملوءتان بالأخطاء المطبعية.
(1)
رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 146.
(2)
مجلة المنار 3/ 130.
المبحث الثاني
منهج الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار
للشيخ رشيد رضا منهج واضح في تفسيره غايته فهم القرآن ومعرفة أهدافه وأغراضه والانتفاع بها كما أراد الله لهذه الأمة حتى تكون خير أمة أخرجت للناس، وعلى ذلك فالذين يفيدون من القرآن فقها وعلما طائفة خاصة من الناس هم من يقول عنهم صاحب المنار:" إنما يفهم القرآن ويتفقه فيه من كان نصب عينه ووجهه وقلبه في تلاوته في الصلاة وفى غير الصلاة ما بينه الله تعالى فيه من موضوع تنزيله وفائدة ترتيله وحكمة تدبره من علم ونور، وهدى ورحمة وموعظة وعبرة وخشوع وخشية وسنن في العالم مطردة، فتلك غاية إنذاره وتبشيره ويلزمها عقلا وفطرة تقوى الله تعالى بترك ما نهى عنه، وفعل ما أمر به بقدر الاستطاعة، فإنه كما قال: (هدى للمتقين) "
(1)
.
ثم ينعى الشيخ رشيد رضا على المسلمين حظهم بسبب ما اشتملت عليه كثير من التفاسير مما أبعدها عن مقاصد القرآن أساسا فيقول: "كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن مقاصد القرآن العالية، والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن به لبحث الإعراب وقواعد النحو ونكت المعاني ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتظلمين، و تخريجات الأصوليين واشتباكات الفقهاء المقلدين وتأويلات المتصوفين وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات، وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات .. نعم إن أكثر ما ذكر من وسائل فهم القرآن، من فنون العربية لا بدّ منها واصطلاحات الأصول وقواعده الخاصة بالقرآن ضرورية أيضا كقواعد النحو والمعاني، وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه كل ذلك يعين على فهم القرآن"
(2)
.
(1)
مجلة المنار (31/ 673)، تفسير المنار (1/ 8).
(2)
مجلة المنار (32/ 102)، تفسير المنار (1/ 8).
ثم يقول: "وغرضنا من هذا كله أن أكثر ما رُوي في التفسير حجاب
(1)
على القرآن وشاغل لنا فيه عن مقاصده العالية المزكية للأنفس المنورة للعقول، الفضول للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات التي لا قيمة لها إسنادا ولا موضوعا، كما أن المفضلين لسائر التفاسير لهم صوارف أخرى كما تقدم، فكانت الحاجة شديدة إلى تفسير تتوجه العناية الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذي يتفق مع الآيات الكريمة المنزلة في وصفه، وما أنزل لا جله من الإنذار والتبشير والهداية والإصلاح، ثم العناية إلى مقتضى حال هذا العصر في سهولة التعبير، ومراعاة إقبال صنوف القارئين، وكشف شبهات المشتغلين بالفلسفة والعلوم الطبيعية وغيرها إلى غير ذلك مما تراه قريبا هو ما يسره الله بفضله لهذا العاجز، والناظر في تفسير الشيخ رشيد رضا يجد فيه روح الشيخ الإمام محمد عبده وكلامه وآراءه ووقفاته الكريمة لفهم كتاب الله الحكيم"
(2)
.
"لا نستطيع أن نقرر بشكل قاطع، أنَّ للشيخ رشيد رضا منهجاً، وأسلوباً موحّداً، اتبعه في كامل تفسيره، لأنه فسّر ما فسّر في مدة تزيد على الثلاثين عاماً (ما بين 1317 ـ-1354 هـ)، وهذه مدة طويلة تمنع على الأرجح أي مفسِّر من اتّباع خطة تفصيلية موحّدة يلتزم بها في كل ما يفسِّره
(3)
، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نستخرج الملامح الرئيسة لمنهجه وأسلوبه في التفسير، والتي إنْ زاد عليها في بعض الأحيان، ولكنه لم يخالفها على الإجمال في كامل تفسيره"
(4)
.
ولكن قبل ذكر هذه الملامح العامة، أجد من الضروري، من الناحية المنهجية، ذكر نقطتين مهمتين
(5)
:
(1)
عبارات الشيخ محمد رشيد فيها مبالغة، وفيها تجني على ما قام به المفسرون الأوئل، بل إن ما قاموا به له كان أثر في التفسير في كل المجالات، وكل هذه العلوم مجتمعة تعين على فهم القرآن الكريم.
(2)
مناهج المفسرين، منيع بن عبد الحليم محمود ص 317 - 319.
(3)
لقد تركت هذه المدة الطويلة التي دُوِّن فيها تفسير "المنار"، وما حدث فيها من تقلبات سياسية، بعض الآثار السلبية عليه، مثل التطويل، والإسهاب، والتكرار، وظهور شيء من النزعة الخطابية في بعض المواضع، انظر: أحمد الشرباصي، رشيد رضا الصحفي، المفسِّر، القاهرة، (مجمع البحوث الإسلامية، ط 1، 1977 م) 152 ـ 157.
(4)
مقال قراءة في منهج رشيد رضا، حازم محي الدين، http:// vb.tafsir.net/ tafsir 17857/ #.VyUjtDArLIU
(5)
المرجع السابق
أولهما: كان تفسير المنار في الأصل عبارة عن دروس شفهية، كان محمد عبده يلقيها على جمهور من الطلبة والمثقفين المصريين في الجامع الأزهر، وكان رشيد رضا في الوقت نفسه يقوم بتدوين خلاصة أفكار هذه الدروس في مذكرات خاصة به مدةً من الزمن، ثم بدأ يحرّر هذه المذكرات، ويضيف عليها من كتب التفسير الأخرى، ومن أفكاره الخاصة، ويعرض كل ذلك على عبده ليأخذ موافقته عليه، ويقوم بعد ذلك بنشرها في مجلته المنار ابتداءً من الجزء السادس في المجلد الثالث الصادر في محرم سنة (1318 هـ)، وابتداءً من هذا التاريخ استمر رضا حتى وفاته بنشر تفسيره على صفحات مجلته "المنار"، علماً أنه قد بدأ منذ سنة (1908 م) بجمع كل ما كان ينشره من التفسير في مجلته في نهاية كل سنة ويعيد نشره في مجلد مستقل
(1)
، وأردتُ من ذكر ما سبق الإشارةَ إلى أن اختلاف فئة مُتلقيّ التفسير بين مرحلة عبده
(2)
ومرحلة رضا، وخاصة بعد أن بدأ بنشر تفسيره على صفحات مجلته التي يقرؤها جمهورٌ عريض من المسلمين في معظم بلاد العالم الإسلامي آنذاك، فرض على رشيد رضا أن يستجيب أكثر لحاجات هذه الجماهير العريضة المتعطشة للهداية، والثقة بالدين وأحكامه بأكثر مما فعل عبده، وقد تجلَّت هذه الاستجابة في مظاهر عدة، أهمها ازدياد حضور النزعة الإصلاحية في التفسير، التي ازدادت وضوحاً وجلاءً من خلال الفصول الإصلاحية الاستطرادية الكثيرة
(3)
التي كتبها رشيد، وأدرجها في تفسيره دون أن تكون هناك دائماً حاجة واضحة لذكرها في المواضع التي ذُكرت فيها في التفسير
(4)
، وكذلك الفصول الاستطرادية العديدة التي عقدها للرد على المبشرين وحملاتهم، وبشكل خاص تلك الفصول التي جعلهم فيها في موقع الدفاع عن النفس عندما هاجم وبكل قوة عقائد الصلب والتثليث والفداء، وكذلك اعتماد رضا أسلوباً في الكتابة بعيداً عن لغة التجريد والتنظير، والمصطلحات والمفاهيم الدقيقة التي تعلو عن مستوى عامة قرائه، وفي المقابل سعيه إلى مراعاة السهولة والجمال في التعبير، بحيث يتمكن القارئ المحدود الثقافة والعلم من فهم عباراته، ويقف دون صعوبة على مراده منها، وبذلك استطاع تفسيره أن يحقق الهدف الذي أراده له رشيد رضا منه، وهو أن يتدبَّر القارئ القرآن الكريم، ويهتدي به، ويُعينه على "النهوض بإصلاح أمته، وتجديد شباب ملّته، الذي هو المقصود بالذات منه"
(5)
.
(1)
انظر: رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 145.
(2)
يصف لنا رشيد رضا هوية الفئة التي كانت تحضر دروس محمد عبده بقوله: "هذا وإن درس التفسير في الأزهر كان أحفل الدروس وأنفعها في الدين، والاجتماع، والسياسة، والأدب والبلاغة، وكان يحضره كثير من علماء الأزهر، وأساتذة المدارس الثانوية والعالية، وكبار رجال القضاء الأهلي، وفضلاء الوجهاء، ورجال الحكومة"، تاريخ الأستاذ الإمام، رشيد رضا، (القاهرة، مطبعة المنار، ط 1، 1350 هـ/ 1931 م) 1/ 769.
(3)
ذكر رشيد رضا أن سبب ذكر هذه الاستطرادات هو تحقيق "مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها بما يُثبِّتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو يحلّ بعض المشكلات التي أَعيَا حلُّها بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس"تفسير القرآن الحكيم" (تفسير المنار)(1/ 16).
(4)
كان رشيد رضا يدرك بنفسه هشاشة الصلة بين معظم هذه الفصول، وبين نسيج النص التفسيري الذي أُضيفت إليه، لذلك لم يتردد في القول "وأستحسن للقارئ أن يقرأ الفصول الاستطرادية الطويلة وحدها في غير الوقت الذي يقرأ فيه التفسير"، المصدر السابق، 1/ 16.
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 16).
ثانيهما: أخبرنا رشيد رضا بنفسه عن منهجه في التفسير بعد أن انفرد في العمل بعد وفاة عبده، قائلاً:"هذا، وإنني لما استقللتُ بالعمل بعد وفاته، خالفتُ منهجه رحمه الله تعالى بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة"
(1)
.
يمكن أن نفهم من هذا النص أنَّ رشيد رضا قام بعد استقلاله بالعمل بتضييق فسحة حرية النظر اللغوي، والعقلي المستقل التي كان يمنحها عبده لنفسه أثناء تفسيره لصالح توسيع دائرة الاعتماد على النصوص الدينية: قرآناً وسنةً، وعلى أقوال السلف، بالإضافة إلى زيادة الاعتماد على التفريع الفقهي، والتوسع الكلامي واللغوي. فقال:"كتبنا ما تقدم في تفسير الآية مستعينين على فهمها ببيان سنة رسول الله، وما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين في الصدر الأول، وذلك شأننا في فهم كتاب الله عز وجل، نستعين عليه بما ذكر وبأساليب لغة العرب وسنن الله في خلقه، ثم راجعنا بعد ذلك ما كتبناه في مسألة حل الطعام وحرامه في المجلد السادس من المنار، فرأينا ما كان منه بفهمنا واجتهادنا موافقا لما هنا مع زيادة بيان لحكمة تحريم الميتة، ونقول من كتب مذاهب الفقهاء المشهورة"
(2)
.
وتظهر آثار هذا التحول جليَّةً من خلال كثرة نُقولاته، الطويلة أحياناً، من مصادر التفسير بالأثر، وبشكل خاص: الطبري (ت 310 هـ)، والبغوي (ت 516 هـ)، وابن كثير (ت 774 هـ)، والسيوطي (ت 911 هـ). وكذلك نقله من مصادر التفسير اللغوي، وبشكل خاص تفسير الكشاف (ت 538 هـ)، بالإضافة إلى اعتماده على أمهات معاجم اللغة مثل لسان العرب لابن منظور (ت 711 هـ)، ومقاييس اللغة لابن فارس (ت 395 هـ)، فضلاً عن اعتماده على معاجم ألفاظ القرآن الكريم، من مثل:"مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 502 هـ).
ويمكن لنا أن نقرأ دلالة هذا التحول عند رشيد على أنها محاولةٌ منه لإدراج أفكاره الإصلاحية المعروضة في تفسيره في سياق التراث الإسلامي المعتمد في ميدان التفسير، وبذلك يمكن أن يحصل على شرعية القول الجديد في التفسير بأقل قدرٍ ممكن من معارضة الجمهور العريض، وممثليه من العلماء، وهذا هو الذي حدثَ فعلاً، حيث وجد هذا التفسير قبولاً عاماً عند قرائه، وبذلك يكون رضا قد تحاشى قسماً كبيراً من الموجة العاصفة من الاعتراضات، والانتقادات التي قيلت بحق تفسير محمد عبده المستقلّ، والتي حكمت على منهجه بأنه تفسيرٌ بالرأي، وتفسير عقلاني توفيقي، الأمر الذي أدى إلى إقصاء تفسيره من دائرة التأثير العام التي كان يطمح إليها
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 16).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 162).
(3)
انظر: قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، وموقف النقاد منه، لحازم محي الدين.
http:// www.almultaka.net/ ShowMaqal.php? cat=1&id=659
مصادره في التفسير:
بعد القراءة المطولة في هذا التفسير المبارك تبين لي أن الشيخ اعتمد على مصادر متنوعة في التفسير وغيرها من العلوم، وهذا يدل على سعة علم الشيخ وبعد نظره وأنه لا يعتمد على رأيه ولا ينسب ما ليس له لنفسه، بل إنه تمثل بأسس البحث العلمي من خلال توثيقة للمعلومات التي يستفيد منها.
ومن المصادر التي اعتمد عليها في تفسيره:
• تفسير الطبري المسمى: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ).
•
…
معالم التنزيل في تفسير القرآن لمحيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى: 510 هـ).
•
…
تفسير الرازي: مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 هـ).
• تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المؤلف: ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (المتوفى: 685 هـ).
• تفسير القرآن العظيم، المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ).
• تفسير الجلالين، المؤلف: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى: 864 هـ)، وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى: 911 هـ).
• تفسير أبي السعود المسمى: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، المؤلف: أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982 هـ).
• تفسير فتح القدير، المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250 هـ).
• تفسير الألوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، المؤلف: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270 هـ).
• وكتاب أسباب النزول للسيوطي (المتوفى: 911 هـ).
• وكتب ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وكتب الغزالي.
منهجه في التفسير
انتهج الشيخ رشيد نهج شيخه الأستاذ الإمام محمد عبده، فلا تقيد بأقوال المفسِّرين، ولا خوض في إسرائيليات، ولا تعيين لمبهمات، ولا تعلق بأحاديث موضوعة، ولا حشد لمباحث الفنون، ولا رجوع بالنص إلى اصطلاحات العلوم، بل شرح للآيات بأسلوب رائع، وكشف عن المعاني بعبارة سهلة مقبولة، وتوضيح لمشكلات القرآن، ودفاع عنه يرد ما أُثير حوله من شبهات، وبيان لهدايته، ودلالة إلى عظيم إرشاده، وتوقيف على حكم تشريعه، ومعالجة لأمراض المجتمع بناجع دوائه، وبيان لسنن الله في خليقته.
ومن ذلك ما قال عند آخر آية فسرها الشيخ محمد عبده: "هذه الآيات كانت آخر ما فسره شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في الجامع الأزهر، فرضي الله عنه وجزاه عن نفسه وعنا خير الجزاء، وسنستمر في التفسير على هذه الطريقة التي اقتبسناها منه إن شاء الله تعالى، وإن كنا محرومين في تفسير سائر القرآن من الفوائد والحكم التي كانت تهبط من الفيض الإلهي على عقله المنير إلا في الجزء الثلاثين، فإنه كتب له تفسيرا مختصرا مفيدا، وكان فراغه من تفسير هذه الآية في منتصف المحرم سنة 1323 هـ، وقد توفي شهر جمادى الأولى منها رحمه الله تعالى ونفعنا به، وكتبت تفسير هذه الآيات في مدينة بمبى أو (بومباي) من ثغور الهند في غرة ربيع الآخر سنة 1330 هـ والله أسأل أن يوفقني لإتمام هذا التفسير، إنه على ما يشاء قدير"
(1)
.
ولكنَّا نجد الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله يحيد عن هذا المنهج بعض الشيء، وذلك بعد وفاة شيخه، واستقلاله بالعمل، ويُحدِّثنا هو بذلك فيقول:"وإنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته، خالفت منهجه - رحمه الله تعالى - بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السُّنَّة الصحيحة، سواء أكان تفسيراً لها، أو في حكمها، وفى تحقيق بعض المفردات، أو الجمل اللُّغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفى الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة، وفى بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها، بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوى حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو يحل بعض المشكلات التي أعيا حلها، بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس"
(2)
.
ولعل من أسباب توسعه في المسائل الاجتماعية ما أتاحته له الصحافة من معرفة بالناس على اختلاف منازعهم ومشاربهم، وفيهم المتدين، والملحد والكافر، فأراد أن يتمشى بكتابته مع الجميع، فيثبت المتدين على دينه، ويرد الملحد عن إلحاده، ويكشف عن محاسن الإسلام، لعل الكافر أن يثوب إلى رشده ويرجع عن كفره
(3)
.
كان الشيخ عبده يطلع على ما سينشر، بعد التصفيف في المطبعة وقبل الإخراج فربما ينقح فيه بزيادة قليلة، أو حذف كلمة أو كلمات، على أن صاحب المنار لم يكن يتحرى حكاية أو تلخيصاً لما يقوله الأستاذ الإمام، بل كان يكتب ما يجده في نفسه من إدراك لمعنى الآية بما ثار في فكره، أو انساق إليه علمه مما يوضح معنى الآية، ويحتفل لإيراد ما اختص ببيانه الأستاذ من المعاني المبتكرة المستجدة، فيعزو ذلك إليه صراحة.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 359 - 360).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 16).
(3)
انظر: التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبى (5/ 39) بتصرف.
وكان الأستاذ الإمام يطلع على ذلك كله ويقره لما كان حياً، ومنذ أن توفى الأستاذ الإمام، واستمرت مجلة المنار تنشر دروس التفسير التي كان ألقاها في حياته، أصبح التحرير واضحاً في التفرقة بين ما هو منقول عنه وبين ما هو من بيان الكاتب، ثم لما انتهى النشر إلى حيث أدركت الوفاة الأستاذ الإمام، استقل الشيخ رشيد بأعباء التفسير وحده فأكمل منه إلى نهاية الجزء الثاني عشر عند قوله تعالى:{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ} [سورة يوسف: 52].
فكان ما كتبه الشيخ رشيد، مستقلاً، أكثر من سبعة أجزاء، وما كتبه اعتماداً على أستاذه واستمداداً منه، أقل من خمسة أجزاء فكان حظه في المجموع أغلب، وكان بانتساب هذا التفسير إليه أحق، نعم إن روح التفسير اختلفت في بعض عناصرها، بين ما كان يكتب منه في حياة الأستاذ الإمام، وما كتب بعده مما استقل به الشيخ رشيد، وذلك الاختلاف يبدو جلياً في العنصر الذي يعبر عنه الشيخ رشيد بـ (الأثري).
فقد رأينا أن التكوّن الأصلي للشيخ رشيد كان نقلياً أثرياً، على طريقة المتقدمين، مختلفاً في ذلك عن التكوّن الأصلي للسيد جمال الدين والشيخ محمد عبده، إذ كان تكوّنهما بحثياً نظرياً، على طريقة المتأخرين، فلم يكن الأستاذ يحفل بالناحية الأثرية، ولا يولي اهتماماً للأخبار وطرق تخريجها، ولا يعتمد في تفسير الآيات على الأخبار المتصلة بها، وكان الشيخ رشيد، بما امتزج بالأستاذ الإمام روحياً وفكرياً، قد تأثر بهذا المنهج، وساير الأستاذ الإمام عليه فيما اقتبسه من الدروس التي ألقاها الأستاذ الإمام وكان ببيانه مفتتح البحث فيها وممهد المداخل إليها، حتى صرح في المقدمة بأن:"أكثر ما روي في التفسير بالمأثور حجاب على القرآن وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية"، ولكن لما استقل الشيخ رشيد بمعاناة العمل من مبدئه، وأصبح معتمداً على المصادر التي كان الأستاذ الإمام يأخذ منها ويترك حسب منهجه العلمي، بدأ هواه الأول للعلوم النقلية الأثرية يعاوده ويأخذ به، فمال إليها، وتتبع رجالها الأولين مثل الطبري، والآخرين مثل ابن كثير، فبدت على التفسير مسحة أثرية ما كانت بادية على أجزائه الخمسة الأولى، على ما يؤلف بين اللاحق والسابق من حيث القصد والأسلوب، فيما عدا هذا العنصر الأثري.
وقد أثبت الشيخ رشيد بنفسه هذا المعنى في المقدمة، ولكن مع ما اختلف بين الطرفين في المنهج العلمي، فإن الغاية بقيت متحدة، والروح بقيت متحدة كذلك، بحيث إن (تفسير المنار) في جملته يعتبر تفسيراً ذا منهج مطرد، وأفكار متناسقة، وهذا المنهج المطرد قد يقع الاتجاه إليه من مسالك البحوث الأصلية النظرية أحياناً، وقد يقع الاتجاه إليه من مسالك النقول الأثرية تارات أخرى، فإذا وصلت هذه المسالك أو تلك بمحرر التفسير إلى المنهج المخطط للسير، التزمه واستقام عليه، حتى يصل منه إلى نتائج البحث المتلاقية في غاياتها وروحها، مع ما كان انتهى إليه من نتائج في بحوث أخرى عند آيات أخرى على ذلك المنهج نفسه، فبرزت من مجموع ذلك الوحدة التي جعلت من تفسير المنار مداد روح النهضة الإسلامية الحديثة وقوام التفكير الإسلامي المجدد، في هذا القرن الرابع عشر
(1)
.
(1)
انظر: التفسير، ورجاله للفاضل الطاهر بن عاشور (ص: 151 - 154).
الأسس التي قام عليها تفسير المنار
(1)
:
قام تفسير المنار على مجموعة من الأسس والقواعد التي ينطلق من خلالها في توجيه وبيان معنى النص القرآني، وهذا بيانها بإيجاز:
أولاً: الوحدة الموضوعية، فالسورة مهما تعددت موضوعاتها وتشعبت القضايا التي طرقتها، فإنها ترجع بجملتها إلى موضوع محوري ترتبط به ارتباطاً وثيقاً.
ثانياً: تجلية الهداية القرآنية، لأن المقصد الأساسي للقرآن الكريم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدايتهم إلى طريق الحق والخير، وهذا الأساس يقتضي عدم الانشغال في المباحث الجانبية في أثناء التفسير عن الهدف الكبير الذي يسعى لتحقيقه، فكثيراً ما انشغل المفسرون بمباحث لغوية أو كلامية أو فقهية.
ثالثاً: عدم تجاوز النص فيما ورد مبهماً في القرآن، فكل ما سكت القرآن عن بيانه، مما ليس فيه عبرة للمسلمين، فلا حاجة لذكره وبيانه، وقد تكفل هذا التفسير بالتنبيه على أهمية الوقوف عند حدود النص القرآني.
رابعاً: رفض البدع والخرافات، والتحذير من الإسرائيليات والأساطير.
خامساً: احترام العقل وتقديمه، فالعقل والوحي أثران من آثار الله في الوجود
(2)
، وآثار الله تهدي إليه وتدل عليه، وهذه النقطة تتصل بالنقطة السابقة، لأن من احترام العقل رفض البدع والخرافات والروايات التي يحكم العقل ببطلانها
(3)
.
سادساً: محاربة التقليد، ورفض الاتباع بغير دليل أو بصيرة، وهذا أيضاً من احترام العقل.
سابعاً: التأكيد على شمول القرآن وعمومه، لأنه جاء هداية للناس في جميع الأزمان والأماكن فلا بد أن يكون بهذا الشمول والعموم.
ثامناً: التأكيد على أن القرآن هو المصدر الأول للتشريع، والأصل الأول لهذا الدين، وأن حكم الله يلتمس فيه أولاً فإن وُجد فيه يؤخذ وعليه يعوّل، ولا يحتاج معه إلى مأخذٍ آخر، وإن لم يوجد فيه التمس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
انظر: د. محمد الزغول، الخصائص المميزة لتفسير المنار، ص 8 - 14.
(2)
وفي هذا مبالغة وتقديم للعقل، واتهام للوحي أنه أثر من آثار الله في الوجود، وهذا مخالف للمناج الصحيح فالوحي صفة منصفات الله تكلم به وأوحي به إلى رسله.
(3)
تجدر الإشارة إلى أن المبالغة في تقديم العقل وتحكيمه أدت إلى ظهور بعض الآراء المتطرفة لدى مدرسة المنار، من أبرزها الجرأة على ردّ الأحاديث والروايات الصحيحة لمجرد أنها لا تتفق مع العقل -في زعمهم- حتى صار قبول النصوص وردها أمراً خاضعاً للفهم الشخصي.
(4)
انظر: رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) 5/ 120.
تاسعاً: بيان سنن الله في الكون والإنسان والحياة، حيث اعتنى هذا التفسير بشرح هذه السنن وآثارها ليتنبه المسلمون من غفلتهم.
عاشراً: الاهتمام بالعلوم الكونية وتسخيرها لفهم الآيات القرآنية، وبيان آيات الله في الكون مما يؤكد على عظمته وحكمته وإقناع الناس بالإيمان به.
حادي عشر: الدفاع عن الإسلام ودحض الشبهات، خصوصاً وأن هذا التفسير جاء في وقتٍ ضعُف فيه المسلمون وتكالب الأعداء عليهم، يوردون الشبهات والافتراءات، ويحاولون تشويه صورته ليردوا الناس عن الإيمان به.
ثاني عشر: بروز الاتجاه العقدي في هذا التفسير، من خلال التأكيد على مميزات العقيدة الإسلامية ورد الشبهات عنها، وبيان أن الإسلام هو دين العقل، ومحاربة التعصب المذهبي.
ثالث عشر: الاهتمام باللغة العربية وآدابها، وبالبلاغة وعلومها، لأن هذا القرآن بلسانٍ عربي مبين، ولا يمكن فهمه بعيداً عن التفقه في العربية والتمرس بمعرفتها.
رابع عشر: رعاية السياق القرآني وترابطه، بحيث يكون الانتقال من آية إلى أخرى، ومن موضوع إلى آخر بسلاسة ورفق، وهذا يؤدي إلى رد كثير من الروايات التي تمزق السياق الواحد وتجعله أشلاءً مبعثرة.
هذه الأسس كان لها الأثر الكبير في التعامل مع النص القرآني وفق منهجية واضحة ترفض كل رواية أو قول يؤثر سلبياً على السياق القرآني، ووحدته الموضوعية، أو تتعارض مع شيء من مقررات العقيدة، حتى ولو رويت تلك الرواية بأسانيد صحيحة، وتأكيداً لهذه المنهجية يقول رشيد رضا عند حديثه عن عصمة الأنبياء: "فالحديث الذي يفيد خرمها ونقضها لا يُقبل على أي وجه جاء، وقد عدّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة من الأخبار التي يجب القطع بكذبها
(1)
.
منهجه في أسباب النزول:
أما بخصوص منهج الشيخ رحمه الله في تفسير المنار وموقفه من أسباب النزول
(2)
يتلخص في نقاط هي
(3)
:
1 ـ النظر إلى النص القرآني على أنه نسق واحد، محكم السبك لا يمكن تفكيك أجزائه أو تقطيع أوصاله.
(1)
انظر: رشيد رضا، تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن، ص 126.
(2)
روايات أسباب النزول نصوص حديثية تخضع لقواعد علم الحديث من حيث القبول وعدمه، فالتأمل فيها ينبغي أن يكون منطلقاً من هذا الأصل، ومن حاد عن ذلك لا يقبل منه سواء كان الشيخ محمد رشيد رضا أو غيره.
(3)
موقف تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) من روايات أسباب النزول والإسرائيليات، د. أحمد القضاة.
http:// www.tafsir.net/ vb/ tafsir 19701/.
2 ـ التأكيد على الفرق بين الآيات التي يبحث لها عن سبب نزول، والآيات التي لا يحتاج في فهمها إلى ذلك.
3 ـ مراعاة أن يكون سبب النزول ظاهراً أو مشاراً إليه في الآية.
4 ـ رفض القول بتعدد أسباب النزول للنص الواحد.
5 ـ الاهتمام بتاريخ نزول الآيات، ومعرفة المكي والمدني، وإشارات السياق ودلالاته لفهم النص القرآني فهماً صحيحاً دقيقاً.
منهجه في الإسرائيليات
(1)
:
ويتلخص في النقاط التالية:
1.
رد الروايات الإسرائيلية والتشدد في قبولها، فلا تقبل إلا إذا صحت روايتها أو وافقت القرآن.
2.
الموازنة بين الإسرائيليات المروية في كتب المسلمين، ونظيراتها عند أهل الكتاب لبيان الفرق الكبير بين هذه وتلك.
3.
الاستناد إلى معطيات العلم لبيان بطلان الروايات الإسرائيلية، ومناقضتها للحقائق العلمية والتاريخية.
هذه النقاط استقاها الدكتور القضاة من خلال مراجعته لتفسير المنار وأقوال الشيخ رضا الصريحة في هذا المجال، واعترافه بأن عدداً من الروايات التي أخذها المسلمون من أهل الكتاب وغيرها من الروايات الموضوعة أو المختلقة قد تسببت في «تمزيق السياق القرآني الواحد» وأفسدت الفهم الصحيح لكتاب الله، وتعارضت مع أصول العقيدة الإسلامية ومعطيات العلم الصحيحة.
ومما قاله الشيخ محمد رشيد رحمه الله في بيان موقفه من الإسرائيليات: "فأنت ترى أنه ليس في الرواية المعتمدة عند بني إسرائيل تلك الخرافات التي بثوها بين المسلمين في العصر الأول، وإنما فيها من المبالغة أنهم لخوفهم ورعبهم من الجبارين احتقروا"
(2)
.
وقال: "وجملة القول: أن هذه الروايات الإسرائيلية لا يعتد بشيء منها، ولا قيمة لأسانيدها؛ لأن من ينتهي إليه السند قد اغتر ببعض ملفقي الإسرائيليات حتما، وقد رأينا شيخ المفسرين ابن جرير لم يعتد بها، ونرجو -وقد راجعنا أشهر ما لدينا من كتب التفسير-أن يكون ما بينا به معنى الآيات أصحها وأكبرها فائدة"
(3)
.
(1)
موقف تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) من روايات أسباب النزول والإسرائيليات، د. أحمد القضاة.
http:// www.tafsir.net/ vb/ tafsir 19701/.
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 274).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 348).
منهجه في النقل من سفر التكوين:
أكثر الشيخ رشيد من النقل منه ومن غيره من كتب أهل الكتاب، ولكن تغير في نهاية كتابه، فأصبح يقل من النقل، ويذكر نقولاته من هذا السفر في حاشية الكتاب بدلا من متنه كما هو الحال في مقدمة كتابه
(1)
.
أمثلة لبيان منهج الشيخ محمد رشيد في تفسيره:
•
من أمثلة تفسيره للقرآن بالقرآن:
نصه في بعض المواضع بأن هذا النوع من تفسير القرآن بالقرآن، فقال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة الأنعام: 80]"وجعلها بعضهم تعريضا بجهل معبوداتهم من الكواكب والأوثان، وما قلناه أرجح، وهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن"
(2)
.
وقال عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [سورة الأنعام: 98]: "وأقول: ليس في الكتاب العزيز ما نستعين به على تفسير هذه العبارة -كدأبنا في تفسير القرآن بالقرآن- إلا قوله تعالى في سورة الحج: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا} [سورة الحج: 5] الآية"
(3)
.
وقال في موضع آخر: "فهذان الوجهان الوجيهان، من تفسير القرآن بالقرآن، ينافيان ما روي من تفسير الحرج بالشك، ويغنيان عما تمحله المفسرون في توجيهه بالتأويل الشبيه بالمحك"
(4)
.
وقال أيضا: "ومن تفسير القرآن بالقرآن في تقليب القلوب، والحيلولة بينها وبين إرادة الإنسان المتصرفة في قدرته ومشاعره قوله تعالى من سورة الأنعام: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) (6: 110) فيراجع معناها في آخر تفسير الجزء السابع، وقال الراغب: تقليب الله القلوب صرفها من رأي إلى رأي، وذكر آية الأنعام هذه"
(5)
.
•
(1)
انظر: تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، ط دار الكتب العلمية بيروت (12/ 251).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 480).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 533).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 270).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 529).
من أمثلة تفسيره للقرآن بالسنة:
قال عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة: 186]: " (أقول): أما الحديث فقد رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن من طرق إلى أبي عثمان النهدي عن أبي موسى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا منكم))
(1)
، وفي رواية: أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير إذا علوا عقبة أو ثنية، وليس في هذه الروايات ذكر الآية ولكن الحديث في المقام؛ فإنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير المأمور به في الآية السابقة فدلت الآية على ما صرح به الحديث من النهي، فكان الحديث تفسيرا لها بل هو عمل بها"
(2)
.
•
ومن أمثلة ما ذكره من تفسير الصحابة والتابعين:
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: " أقول: وهذا القول يتفق مع ما روي عن ابن عباس من " أن الحكمة هي الفقه في القرآن " أي معرفة ما فيه من الهدى، والأحكام بعللها وحكمها; لأن هذا الفقه هو أجل الحقائق المؤثرة في النفس الماحية لما يعرض لها من الوساوس حتى لا تكون مانعة من العمل الصالح"
(3)
.
وقال: " فسر ابن مسعود السحت بالرشوة في الدين، وابن عباس بالرشوة في الحكم، وعلي بالرشوة مطلقا، قيل له: الرشوة في الحكم؟ قال: ذلك الكفر، وقال عمر: بابان من السحت يأكلهما الناس; الرشا في الحكم"
(4)
.
وقال: "وفسر محمد بن كعب القرظي
(5)
النصيب بالرزق والأجل والعمل"
(6)
.
(1)
رواه البخاري: كتاب المغازي باب غزوة خيبر، ح (3968)(5/ 133).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 134).
(3)
تفسير المنار (3/ 64).
(4)
تفسير المنار (6/ 324).
(5)
أبو حمزة - أو أبو عبد الله - محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظى المدنى، قيل عنه: مدنى وتابعى، ثقة، رجل صالح. عالم بالقرآن. وهو عند أصحاب الكتب الستة. كان من أفاضل أهل المدينة علماً وفقهاً، وكان يقص فى المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف فمات هو وجماعة معه تحت الهدم، سنة 118 هـ، وقيل غير ذلك، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، التفسير والمفسرون (1/ 87).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 367).
•
ومن أمثلة استعماله للغة في التفسير:
ما قاله عند قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا} [سورة الأعراف: 33] قال: "الإثم والبغي، تقدم أن الإثم في اللغة هو القبيح الضار فهو يشمل جميع المعاصي: الكبائر منها كالفواحش والخمر، والصغائر كالنظر واللمس بشهوة لغير الحليلة وهو اللمم، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا} [سورة النجم: 32]، فعطف الفواحش على كبائر الإثم لا على الإثم، وهو من عطف الخاص على العام، وكذلك عطف البغي على الإثم هنا من عطف الخاص على العام، ومعناه في أصل اللغة: طلب لما ليس بحق أو بسهل أو ما تجاوز الحد، وقالوا: بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد، أو تجاوز الحد في فساده"
(1)
.
وقال في موضع آخر: "وقد خرج الزمخشري بهذا عن الظاهر المتبادر من استعمال لفظي القضاء وإقامة الصلاة في القرآن، وهو الدقيق في فهم اللغة وتفسير أكثر الآيات بما يفصح عنه صميمها المحض، أسلوبها الغض فسبحان المنزه عن الذهول والسهو"
(2)
.
•
رده في تفسيره على الفرق الضالة:
مثال ذلك ما استدل به عند تفسير قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ} [سورة الأنعام: 133] حيث أورد حديث أبي ذر
(3)
رضي الله عنه عن النبي عن الله تبارك وتعالى أنه: ((قال: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونى أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفرونى أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))
(4)
، ثم قال والحديث حجة على الجبرية كالآيات
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 351 - 352).
(2)
تفسير المنار (5/ 313).
(3)
جندب بن جنادة بن كعيب بن صعير بن الوقعة بن حرام بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار، أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة أول الإسلام، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق، وإن كان مرا، توفي بالربذة سنة إحدى وثلاثين، وقيل في التي بعدها، أنظر: أسد الغابة ط العلمية (1/ 562)، الطبقات الكبرى ط العلمية (4/ 165)، الإصابة في تمييز الصحابة (7/ 109).
(4)
رواه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ح (2577)
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 100).
وقال في موضع آخر: "وقد جهل الجبرية والقدرية النفاة جميعا حقيقة القدر، وصار كل منهما يحمل الآيات على ما ذهب إليه كأنها مختلفة متعارضة، وهي مخالفة لكل منهما ولا اختلاف ولا تعارض فيها"
(1)
.
(1)
تفسير المنار (8/ 88)
المبحث الثالث
مزايا تفسير المنار
يعد تفسير المنار من أجل التفاسير الحديثة، ومن أبرز المميزات التي ميّزت منهج وطريقة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره، ما يلي:
1 -
كان الشيخ محمد رشيد رضا يلجأ في تفسيره للآيات الكريمة إلى القرآن الكريم
نفسه أولاً، مؤكداً أنَّ "الآيات يفسِّر بعضها بعضاً إذا نحن أخذنا القرآن بجملته كما أُمرنا"
(1)
، ثم كان يلجأ بعد ذلك كما صرح هو إلى "سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين في الصدر الأول، وبأساليب لغة العرب، وسُنن الله في خلقه"
(2)
، أي الالتزام بالمنطق الداخلي المتماسك، والمنسجم للنص القرآني، والاعتصام بعواصم الأثر والخبر الصحيح، والأخذ بطرق اللغة العربية في دلالة الألفاظ، والتراكيب على المعاني، ومقتضيات العقل السليم من خلال تحكيم سنن الله تعالى العاملة في الكون والتاريخ، واعتبارها إحدى مرجعيات، ومعايير التفسير السليم
(3)
ومن ذلك قوله رحمه الله: "وقد بينا غير مرة أن القرآن هو أصل الدين، وأن السنة بيان له واستنباط منه، وذكرنا بعض الشواهد على هذا في التفسير وفي المنار"
(4)
.
2 -
كان حريصاً في بداية تفسير كل مجموعة من الآيات الكريمة، أن يربط هذه الآيات ربطاً منطقياً محكماً بمجموعة الآيات التي تسبقها، أو بموضوع السورة الرئيسي الذي تتحدث عنه مجمل آيات السورة، وبذلك عمل رشيد رضا على إبراز الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، والسياق الواحد الذي يؤلف بين آياتها
(5)
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 207).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 162).
(3)
(قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) وموقف النقاد منه)، لحازم محي الدين.
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 391).
(5)
(قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) وموقف النقاد منه)، لحازم محي الدين.
(6)
انظر على سبيل المثال تقريره لارتباط آية الدَيْن الطويلة بما سبقها من آيات الحثّ على الصدقة وتحريم الربا في آخر سورة البقرة، تفسير المنار، 3/ 118 - 119، وانظر أيضاً، 4/ 122 ـ 123، 256 ـ 257، 434 ـ 435.
3 -
كان يعتني بذكر مقدمات مهمة للسورة، كما يذكر خلاصة موجزة لها يتحدث فيها عن الفوائد والقواعد والأحكام الشرعية التي اشتملت عليها، وهاهو يقول رحمه الله لصديقه (شكيب ارسلان):"واتفق أن تمت في سورة براءة (التوبة)، وعليّ أن أراجعه كله لأستخرج منه مسائل السورة الكريمة من أصول وفروع وغيرها، وهذا أشق عمل في التفسير، ولم أسبق إلى مثله"
(1)
، وقد سار على هذه الطريقة في جميع السور التي فسرها، فهو في سورة الأعراف مثلا يبسط تفسيرها فيما يقارب الثمانمائة صفحة، ثم يلخص أحكامها في اثنتين وعشرين صفحة
(2)
.
4 -
العناية بدعم التفسير بالأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآثار الواردة المتعلقة بالآية أو السورة، وذكر أسباب النزول وتمحيص الروايات الواردة فيها، ولم يغفل عند ذكره هذه الأحاديث، عن التعليق عليها، ونقد أسانيدها، وتمحيص رواتها، هذا فضلاً عن تخريجها، وعَزْوها إلى مصادر الحديث المعتمدة
(3)
(4)
، و كان مهتماً بذكر القراءات القرآنية عند وجودها
(5)
.
5 -
توسع الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في بعض المسائل اللغوية والنحوية، ومن ذلك توسعه في شرح معاني بعض الكلمات الغريبة والعناية بالجوانب البلاغية، والإشارة إلى القواعد النحوية، وإيراد شواهد أو نصوص أدبية تتصل بالموضوع
(6)
، وأحيانا لا يذكر إلا ما كان منهما ضرورياً لبيان معنى الآيات، وجمال الأسلوب القرآني، ودقة التعبير فيها
(7)
، وكان هدفه من هذا الاقتصاد هو ألاَّ يشغل القارئ عن وجوه الهداية، والإصلاح في معاني الآيات المفسرة، وهي مقصوده الأول من التفسير، كما كان ذلك مقصود شيخه محمد عبده من تفسير القرآن
(8)
.
(1)
السيد رشيد رضا وإخاء أربعين سنة، شكيب أرسلان 615.
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 559 - 580).
(3)
رشيد رضا ودعوته 155 - 175، قراءة في منهج رشيد رضا، حازم محي الدين.
(4)
انظر، على سبيل المثال، تفسير المنار، 3/ 82 - 91، وانظر أيضاً، موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث الشريف: دراسة تطبيقية على تفسير المنار، (275 ـ 408).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 167، 3/ 247)
(6)
حسيب السامرائي 12 - 18
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 524).
(8)
أشار رشيد رضا إلى أن للقرآن الكريم بلاغتين، بلاغة مضمونه ومعانيه، وتأتي في المقام الأول، وبلاغة ألفاظه وأساليبه، وتأتي على الرغم من أهميتها في المقام الثاني، فها هو يقول "وإن كثرة البحث في الثاني -يقصد البلاغة اللفظية- ليشغل المفسر عن الأول الخاص منه بالهداية، وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا السبب نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات". تفسير المنار، 12/ 91. انظر أيضاً 10/ 524.
6 -
لم يكن رشيد رضا حاسماً منذ البداية في موقفه إزاء تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بالله تعالى وصفاته، وأمور الغيب بشكل عام، حيث كان يتأرجح بين موقفي السلف والخلف، أي بين موقف التنزيه مع التفويض من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وبين موقف التنزيه مع التأويل فيما يتعلق في تفسير هذه الآيات الكريمة، حتى حسم موقفه بوضوح إزاء هذه القضايا بسبب إقباله الكبير على قراءة كتب أئمة الفكر السلفي، وعلى رأسهم ابن تيمية، وتَبَنيه لموقفهم بشكل كامل، مع الاحتفاظ لنفسه بذكر بعض تأويلات محمد عبده، وعلماء الخلف، وتأويلات خاصة به أحياناً، بسبب اقتناعه بضرورة هذه التأويلات في إقناع أصحاب الثقافة المادية والفلسفية الذين لا يقبلون التسليم بأمور الغيب كما وردت النصوص بها دون تأويل يُزيل التعارض الظاهري بينها، وبين العقل
(1)
، فهو مؤمن إيماناً تاماً بمنهج السلف في تفسير آيات الغيب، إلا أنه قدّم بعض التنازلات، عن قناعةٍ وإدراكٍ منه لِما يفعل، في هذا المجال إرضاءً لنزعته الإصلاحية التي قضت عليه هنا بسرد بعض التأويلات من أجل أن يكسب أنصاراً جدداً للإسلام من بين قُرائه من ذوي الثقافة العصرية، ومن أبناء المؤسسات التعليمية الحديثة الذين بدؤوا يهيمنون على مقاليد الحياة السياسية الثقافية في عصره
(2)
.
7 -
لم يكن رشيد رضا يتحرَّج في مواضع كثيرة من مناقشة ونقد شيخه محمد عبده في بعض آرائه، وخاصة في الأمور والمسائل العقدية التي مال فيها عبده عن مذهب السلف
(3)
، فهو لا يسلِّم له تسليماً مطلقاً، ولا يؤيِّد كلامه عندما يؤيده إلا بعد قناعةٍ منه، واتفاقٍ معه بالرأي، وليس عن طريق التقليد المحض الذي سبق أن ذمَّه كثيراً، وبهذا نعلم أن رشيد رضا كان يحتفظ بشخصيته العلمية المستقلة، حتى وهو ينقل كلام أستاذه، ومن باب أولى غيره من المفسرين
(4)
(5)
.
(1)
يقول رشيد رضا: "وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن أنَّ من الخير لك أن تطمئن قلباً بمذهب السلف، ولا تحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويلٍ يرضاه أسلوب اللغة العربية، فلا حرج عليك، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها .. والذي عليك قبل كل شيء أن توقن بأن كلام الله كله حق، وألا تؤول شيئاً منه بسوء قصد .. والتفسير الموافق للغة العرب لا يُسمى تأويلاً، وإنما يجب معه تنزيه الخالق، وعدم تشبيه عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه". تفسير المنار، 1/ 252 - 253، وفي الحقيقة فقد ذكر رضا هذا الكلام في المجلد الأول من تفسيره الذي نشره بشكل مستقل بعد أن أضاف عليه إضافات كثيرة، عام 1346 هـ/ 1927 م، أي في المرحلة التي تشبَّع فيها رضا من الفكر السلفي، دون أن يتخلى في الوقت نفسه عن تمسكّه بمشروع محمد عبده الإصلاحي بشكل عام.
(2)
(قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) وموقف النقاد منه)، لحازم محي الدين.
(3)
انظر مناقشته لمحمد عبده في الفرق بين الذنب والسيئة، تفسير المنار، 4/ 302 - 304، وانظر نقده له في مسألة "الغُلو"، وانتصاره لمذهب السلف في تقرير هذه المسألة، تفسير المنار، 1/ 395، وانظر أيضاً 2/ 139.
(4)
(قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) وموقف النقاد منه)، لحازم محي الدين.
(5)
انظر على سبيل المثال نقده لفخر الدين الرازي، تفسير المنار، 1/ 68، 4/ 61 - 63، ونقده لشهاب الدين الآلوسي (ت 1854 م) صاحب تفسير "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني "، 1/ 91 - 94.
8 -
نبه الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله إلى بعض أخطاء شيخه الإمام محمد عبده في تفسيره بأدب ووفاء، فها هو يقول:"ما نقلناه عن شيخنا في معنى الرحمة تبع فيه متكلمي الأشاعرة والمعتزلة ومفسريهم كالزمخشري والبيضاوي ذهولاً، ثم يقرر مذهب السلف الصالح في إثبات الصفات كلها لله تعالى وإمرارها كما جاءت من غير تشبيه بصفات المخلوقين"
(1)
. وبهذا تظهر بوضوح سلفيته العميقة التي فاقت سلفية أستاذه محمد عبده
(2)
.
9 -
لم يكن الشيخ محمد رشيد رضا بالدرجة التي كان عليها أستاذه محمد عبده في جنوحه إلى التفسير بالعقل والرأي في كثير من المواضع، بل امتاز بتخفيفه بعض الشيء من الركون إلى حكم العقل فيما قد يعلو عن إدراك هذا العقل
(3)
.
10 -
ذكر المسائل الخلافية وترجيح بعض الأقوال فيها على بعض، أو الإشارة برأي آخر فيها، وقد يصحب ذلك شيء من التأويل أو التخريج
(4)
.
11 -
العناية والتوسع في رد الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الملاحدة والمستشرقين أو الجاهلين ممن يدّعون الإسلام، فقد دافع في تفسير المنار عن حجج الإسلام وعقائده دفاعاً مثمراً وبأدلة واضحة وقوية
(5)
.
12 -
قام بربط تفسير الآيات ومضمونها بواقع المسلمين ومشاكلهم السياسية والاجتماعية، واتخذ من تفسير الآيات وسيلة لتنبيه المسلمين، وتذكيرهم بالواجبات الملقاة على عاتقهم، وكثيراً ما كان يستفيد من هذا الربط، ويقوم بالانتقاد الشديد لمعظم علماء وشيوخ عصره الذين تمسكوا بالتقليد، وابتعدوا عن الاجتهاد، ولم يقوموا بدورهم في تذكير المسلمين، وربط حياتهم بالقرآن الكريم، والسنة الصحيحة
(6)
(7)
.
13 -
بيانه لحكمة التشريعة واهتمامه بالعلوم الشرعية الإسلامية، وذكرها وإن كانت لاتتصل بتفسير الآية اتصالا مباشرا، فقد اهتم بالبحوث الفقهية وتوسع فيها، فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ} [سورة النساء: 43] ختم تفسيره لها بمسائل عشر في أحكام التيمم
(8)
، وتمتاز بحوثه الفقهية بالتجديد والبعد عن التقليد، وترجيح ما يناسب مصالح الناس، وتجنب الحيل والتعصب
(9)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 64).
(2)
حسيب السامرائي 12 - 18
(3)
أحمد الشرباصي 133.
(4)
رشيد رضا ودعوته 155 - 175.
(5)
صواعق من نار على صاحب المنار، للشيخ يوسف الدجوي الحنفي.
(6)
(قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) وموقف النقاد منه)، لحازم محي الدين.
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 98، 318).
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 100 - 112).
(9)
رشيد رضا ودعوة محمد بن عبد الوهاب 152 - 155.
14 -
العناية بالعلوم الاجتماعية والطبيعية والإشارة إليها في الأماكن المناسبة لها من التفسير
(1)
كإشارته إلى علم التاريخ، فقال عنه: فالتاريخ هو المرشد الأكبر للأمم العزيزة اليوم إلى ما هي فيه من سعة العمران وعزة السلطان، وكان القرآن هو المرشد الأول للمسلمين إلى العناية بالتاريخ ومعرفة سنن الله في الأمم منه، وكان الاعتقاد بوجوب حفظ السنة وسيرة السلف هو المرشد الثاني إلى ذلك، فلما صار الدين يؤخذ من غير الكتاب والسنة أهمل التاريخ، بل صار ممقوتا عند أكثر المشتغلين بعلم الدين، فإن وجد من يلتفت إليه، فإنما يكون متبعا في ذلك سنة قوم آخرين
(2)
. وكذا إشاراته إلى قوانين علم الاجتماع وقواعده في قيام الدول ونهوضها وسقوطها، وإشاراته لعلوم الطبيعة كالكيمياء وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم الطب
(3)
.
15 -
نقل رشيد رضا بعض أقوال المفسرين في الأمور التي يحتاج إلى نقلها فيه، وهو يدل على غزارة علم الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله واطلاعه الواسع، ومع نقله هذا فهو لا يقلد شيئا من هذه الأقوال ولا يتأثر بها، وإنما ينقلها ثم يبدي رأيه مستقلا سواء وافق بعضها أم لم يوافقه
(4)
.
16 -
امتاز في تفسيره بالتطويل والإطناب والإسهاب، بينما كان شيخه محمد عبده يميل في تفسيره إلى التركيز والإيجاز، كما أن أسلوب الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أقرب وأخف وأسهل من أسلوب الشيخ محمد عبده رحمه الله ولعل لاشتغال الشيخ محمد رشيد بالصحافة والخطابة والسياسة أثراً في ذلك
(5)
.
17 -
كان حريصاً في نهاية تفسير كل سورة تقريباً، على كتابة خلاصة إجمالية لأحكامها، وقواعدها، ومقاصدها
(6)
، يركِّز فيها بشكل خاص على السُنن الإلهية الكثيرة التي أوردها في ثنايا الآيات المفسَّرة
(7)
، بحيث يمكننا القول: إنَّ استنباط السُنن الإلهية في الخلق والتكوين، وفي الاجتماع والعمران البشري، وشؤون الأمم من القرآن الكريم، من أهم وأبرز السِّمات والخصائص التي تمَيَّز تفسير المنار بها عن مختلف التفاسير الأخرى
(8)
.
(1)
رشيد رضا ودعوته 155 - 175.
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 259).
(3)
مجلة المنار (35/ 190).
(4)
حسيب السامرائي ص 27.
(5)
رشيد رضا ودعوته 155 - 175.
(6)
وصف رشيد رضا عمله هذا بأنه " أشق عمل في التفسير، ولم أُسبق لمثله "، السيد رشيد رضا وإخاء أربعين سنة، 615.
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 559 - 585).
(8)
(قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) وموقف النقاد منه)، لحازم محي الدين.
ويرى بعض الباحثين أن تفسير المنار يحمل أكثر من تفسير ومنهج، والأجدر أن يسمى مدرسة ذات ألوان شتى، فهو حركة تجديد شاملة بشتى أنواع الحياة من عقائد وأخلاق ونظم وحكم وأحكام واقتصاد وسياسة
(1)
.
(1)
حسيب السامرائي 12 - 18
المبحث الرابع
المآخذ على تفسير المنار
على الرغم من المكانة المتميزة التي احتلها تفسير المنار في سياق حركة التفسير الحديثة، وموقعه المؤثر في مجمل حركة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، فقد تعرَّض إلى انتقادات كثيرة من قِبل فئات عدة، يأتي في مقدمتهم بعض علماء المدرسة السلفية الحديثة، وطائفة أخرى من العلماء، يمكن تصنيفهم ضمن علماء المؤسسة الدينية الرسمية، والمؤسسة الصوفية الشعبية.
ومن أبرز ملاحظات المدارس التفسيرية على تفسيره:
1.
تساهل رشيد رضا رحمه الله في ذكر بعض التأويلات، وتأويل بعض المعجزات، وردّ بعض الأحاديث النبوية، وانفراده ببعض الآراء الفقهية
(1)
، وقسوته أحياناً على بعض العلماء السابقين، اتباعاً أعمى من رشيد رضا لمنهج شيخه محمد عبده الذي أسرف في نظرهم في الاعتماد على العقل والرأي في التفسير، ولم يشفع لرشيد رضا أمام هؤلاء العلماء ما ذهب إليه، بعد وفاة شيخه، من ترجيح مذهب السلف على مذهب الخلَف العقلي، وأخذه الواضح بمقومات المنهج الأثري في التفسير، وتوسعه الكبير في الاقتباس من أمهات التفسير المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، فقد بقي في نظرهم وفي مؤلفاتهم، أحد نماذج العلماء المسلمين الذين انهزموا فكريا أمام الغرب المتقدِّم، والذين قدَّموا من أجل التوفيق بين الإسلام، وبين حضارة الغرب الغالبة تنازلات على حساب خصوصية الإسلام، ومنهجه المستقل في العقيدة والتشريع، ولعل أهم من يمثل علماء هذه المدرسة هو الدكتور فهد الرومي أحد أبرز العلماء السعوديين المعاصرين
(2)
.
2.
وقد تعرّض رشيد رضا وتفسيره إلى نقد طائفة أخرى من العلماء، يمكن تصنيفهم ضمن علماء المؤسسة الدينية الرسمية، والمؤسسة الصوفية الشعبية، فقد وجَّه إليه بعض علماء هاتين المدرستين انتقادات شديدة بسبب زحزحته المكانة التقليدية المرموقة التي كان يتمتع بها كل من الفقهاء التقليديين، وشيوخ الطرق الصوفية في المجتمع، وذلك من خلال الحملة العنيفة التي قام بها على صفحات تفسيره على التقليد المذهبي وعلمائه (12/ 220 - 221)، وعلى البدع والخرافات الدينية الشائعة الذيوع في كثير من البيئات الصوفية الطُرقية، ومن خلال دعوته اللاهبة في مقابل ذلك إلى إحياء روح الاجتهاد، وروح الزهد والتزكية وفق نصوص الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح فقط، ولقد تركزت معظم انتقادات هذا الفريق من العلماء على الميول السلفية والوهابية التي ظهرت جلياً في تفسير المنار، بالإضافة إلى تأويله لبعض المعجزات، وإنكاره لكثير من الكرامات التي يدعيها شيوخ الطرق الصوفية، ونذكر من علماء هذه الطائفة التي تصدت لرشيد رضا، الشيخ الأزهري المتصوف يوسف الدجوي (ت 1946 م) الذي قاد حملة صحفية قوية ضد رشيد رضا، على صفحات مجلة الجامع الأزهر آنذاك "نور الإسلام"، واتهمه باتهامات خطيرة، مثل: إنكار الملائكة والجن، وإنكار بعض المعجزات، والإيمان بمذهب دارون، وردّ بعض الأحاديث الصحيحة، ونشر مقالاته تلك في كتاب سماه "صواعق من نار في الرد على صاحب المنار"، الأمر الذي دفع رضا للرد، وتبيين حقيقة وسلامة موقفه إزاء القضايا التي اتهمه فيها، في مقالات عديدة جمعها ونشرها في كتاب سماه:(المنار والأزهر)
(3)
.
(1)
انظر على سبيل المثال ما ذهب إليه من أن المسافر يجوز له التيمم، حتى لو كان الماء بين يديه، ولا يوجد أي مانع يمنعه من استخدامه إلا كونه مسافراً، تفسير المنار، 5/ 120 - 121
(2)
انظر على سبيل المثال، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، 809 ـ 812، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 333 - 339
(3)
انظر: رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 477 ـ 478.
3.
وهناك فريق آخر من الباحثين المعاصرين ممن ينتمون إلى تيار إعادة قراءة القرآن الكريم وفق مناهج ومكتسبات العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة، يرى أنَّ مساهمة رشيد رضا في تفسير "المنار" ما هي إلا خطوة تراجعية عن بعض ما أنجزته مدرسة المنار على يد رائديها الأفغاني وعبده ـ وهو في نظرهم إنجاز محدود، وموضع نقد وتقويم ـ وذلك بسبب ما قام به رضا من إعادة العمل التفسيري إلى تخوم المدرسة التقليدية القديمة في التفسير، وتظهر أهم ملامح تلك العودة، في نظرهم، من خلال إكثاره من النُقول الواسعة عن علماء التفسير السابقين، فضلاً عن استطراداته الواسعة فيما يتعلق بقضايا العقيدة والتشريع، هذا بالإضافة إلى عجزه عن الاستفادة من المناهج الغربية الحديثة في دراسة ونقد النصوص المقدسة؛ وكأحد نماذج هذه المدرسة يقول الدكتور عبد المجيد الشرفي في معرض تقييمه لتفسير المنار:"فنلاحظ إذن أنه لا يمت بصلة إلى حركة التفسير "الكتابي" -نسبة إلى الكتب المقدسة عند اليهود والمسيحيين- التي عرفها الغرب منذ أواخر القرن السابع عشر بالخصوص، والتي كانت أبرز ملامحها متمثلة في استقلالها عن علم اللاهوت، واعتمادها منهجاً نقدياً في تناول النصوص المقدسة، فتفسير المنار أبعد ما يكون عن التفسير النقدي، وليس فيه أدنى إعادة نظر في المسلَّمات المتعلقة بالترتيب الرسمي والتعبُّدي للسور والآيات، ومواطن الإشكال في عدد من التعابير القرآنية، ويتبنى بالطبع المفهوم التقليدي للوحي الذي يكون فيه الرسول مجرد مبلِّغ سلبي للرسالة الإلهية، فلا مجال فيه لأثر ما لشخصية النبي وللظروف التاريخية التي أحاطت به، ولا لمشكلة الانتقال من الكلام الإلهي المفارق إلى الكلام البشري المحدود بالضرورة، وبعبارة أخرى فقد كان تفسير المنار تفسيراً إيمانياً بالدرجة الأولى"
(1)
.
يكاد الدكتور عبد المجيد الشرفي بكلامه هذا يستعيد بشكل شبه كامل ما قاله المستشرق آرثر جيفري قبل أكثر من سبعين عاماً في مجلة "العالم الإسلامي"، في مقالة بعنوان "النقد العالي للقرآن" طالب فيها علماء المسلمين باقتفاء أثر علماء الغرب بإخضاع القرآن الكريم إلى معايير النقد التاريخي والأدبي التي أخضعوا لها نصوصهم المقدسة، دون أدنى اعتبار منه للاختلافات الصريحة بين طبيعة النص القرآني المقطوع بصحته التاريخية، وإيمان المسلمين القاطع بأنه كلام الله تعالى الذي أنزله لفظاً ومعنىً على قلب رسوله محمد، وبين نصوصهم المقدسة التي تعرضت للتحريف والتزوير التاريخي باعترافهم هم، وأنها نصوص مقدسة دوَّنها أتباع الرسل عليهم السلام، ولا تُعَد كلام الله تعالى نفسه لفظاً ومعنىً في وقت واحد كما هو حال القرآن الكريم.
(1)
انظر: الإسلام والحداثة، عبد المجيد الشرفي 67 - 68.
وفي الحقيقة، فإنه يمكن القول بأن ما يريده أصحاب هذا الاتجاه ـ فضلاً عن إخضاع النص القرآني لأسئلة الحداثة وإشكالاتها النقدية المتعلقة بالنصوص المقدسة ـ هو عزل النص القرآني عن شبكة النصوص التفسيرية التي أحاطت به، وأصبحت مدخلاً إجبارياً لفهمه، وأصبحت معاني القرآن الكريم بالتالي أسيرةً لمنهجية هذه النصوص في تحديد المعنى بشكل عام، لذلك فقد اعتبروا محاولة رضا للعودة بتفسير القرآن الكريم إلى أحضان التراث، والارتباط بمنهجيته التفسيرية العامة بمثابة تراجع منهجي لا يساعد على تطوير علم التفسير
(1)
.
وفي الحقيقة، فإنّ أصحاب هذا الرأي قد غفلوا عن الأخذ بعين الاعتبار السياق المعرفي والتاريخي الحرج الذي كان يكتب فيه رشيد رضا تفسيره، وتجاهلوا الحساسية الدينية والتاريخية الخاصة لقرّاء تفسيره، إذ هما، بالإضافة إلى اقتناعه العلمي بطبيعة الحال، اللذان أجبرا رشيد رضا على اختيار ما اختاره من إجراءات وأساليب في التفسير، حيث ما كان له أن يؤثر في وعي قرائه، ويكسب تأييدهم لأفكاره الإصلاحية المنبثّة في كل صفحات تفسيره، إلا إذا احترم ذاكرتهم الجمعية التي تضمن لهم أدنى حدود التضامن، والتماسك في اللحظات التاريخية العصيبة التي كانوا يمرون بها، وإلا إذا قام مخلصاً بالانتظام في داخلها، وتقديم أفكاره على قاعدةٍ متينة منها، وهذا هو بالضبط الذي فعله عندما استكثر من الاعتماد على تراث المفسرين من قبله أخذاً ونقاشاً ونقداً، واعتمد منهجيتهم العامة في التفسير
(2)
.
ومهما كان رشيد مصيباً أو مخطئاً في رأيه هذا، فإنه يدل دلالة واضحة على عنايته بنصوص القرآن الكريم وإن خالفت آراء العلماء السابقين له، كما يدلنا على القدر الذي وصل إليه رشيد في اجتهاداته الفقهية النابعة من حربه على التقليد بكل أنواعه، وبهذا يمكننا القول: إن شدة رشيد في دعوته إلى رأيه قد تكون في بعض الأحيان من محاسن تفسيره لا من مآخذه) أ. هـ
(3)
.
ومن أبرز الملاحظ العامة على تفسير المنار ما يلي
(4)
:
أولا: كثرة التفريعات والاستطرادات الطويلة التي تشبه البحوث المستقلة، والتي توجد فجوات واسعة، تحول دون متابعة التفسير، ورشيد نفسه يشير إلى هذه الاستطرادات
(5)
، وعقد فصل في عقيدة التثليث
(6)
، ويقول:"واستحسن للقارئ أن يقرأ الفصول الاستطرادية وحدها في غير الوقت الذي يقرأ فيه التفسير"
(7)
.
(1)
انظر، الإنسان والقرآن: التفاسير القرآنية المعاصرة، قراءة في المنهج، أحميدة النيفر، 76.
(2)
قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) وموقف النقاد منه، لحازم محي الدين، ملتقى أهل التفسير.
(3)
رشيد ودعوته ص 163.
(4)
مقال أحمد الشرباصي 153 - 160
(5)
مقال أحمد الشرباصي 153 - 160
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 73 - 80).
(7)
تفسير المنار (1/ 16).
ثانيا: الأسلوب الخطابي الذي يبدو أحيانا في تفسير المنار ولعل رشيدا نفسه قد أحس بهذا اللون الخطابي الذي يفتح الباب للتطويل والإسهاب، فعمد إلى اختصار تفسير المنار في أجزاء موجزة تحت عنوان: التفسير المختصر المفيد الذي يمكن أن يزداد علمنا بأمره عند الحديث عن كتب رشيد رضا
(1)
.
ثالثا: عدم الاستقرار أحيانا في التفسير، ومن أمثلة ذلك أنه تكلم عن السبب في عدم نزول:"بسم الله الرحمن الرحيم" في أول سورة التوبة فقال: "ولذلك لم تنزل البسملة في أول سورة التوبة التي فضحت آياتها المنافقين وبُدئت بنبذ عهود المشركين وشرع فيها القتال بصفة أعم مما أنزل فيما قبلها من أحكامه"، فنفهم من هذا أن عدم ذكر البسملة هو أن السورة منذرة وليست موطنا داعيا إلى التحدث عن الرحمة التي ذُكرت كثيرا في القرآن، ولكن رشيدا يعود في الجزء العاشر من التفسير إلى الحديث في الموضوع فلا يجعل هذا القول هو المختار، بل يقول عن سورة التوبة:"ولم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من سور القرآن، هذا هو المعتمد المختار في تعليله، وقيل: رعاية لمن كان يقول أنها مع الانفال سورة واحدة والمشهور أنه لنزولها بالسيف ونبذ العهود وقيل غير ذلك مما في جعله سببا وعلة نظر"، ففي الموطن الأول يلوّح لنا أن رشيدا قد اختار الرأي القائل بأن سورة التوبة حُذفت منها البسملة لأنها إنذار وتشريع قتال، وفي الموطن الأخير يرى أن المعتمد المختار غير ذلك، وكلمة المشهور التي ذكرها لا تقطع بأن هذا هو المعتمد، فقد يكون هناك قول مشهور، ومع ذلك لا يكون هو المعتمد المختار
(2)
.
ومن أمثلة ذلك أيضا أنه تحدث في الجزء الأول من التفسير عن اسم الله الأعظم فقرر أن اسمي الحي والقيوم هما مع اسم الجلالة الله: "ما يعبر عنه بالاسم الأعظم وهو القول الراجح عندنا"، لكنه حينما بلغ تفسير قوله تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} [سورة البقرة: 255] في الجزء الثالث قال كلاما لا يفيد تأكيده لما سبق أن قرره، أنه قال:"وهذا الذي قلناه في بيان معنى (الحي القيوم) يجلّى لمن وعاه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا هو الاسم الأعظم، أو قال (أعظم أسماء الحي القيوم)، وقد أخرج أحمد وأبو دواد والترمذي وابن ماجه، عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: (اسم الله الأعظم) في هاتين الأيتين: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} وفاتحة آل عمران {ألم (*) الله لا إله إلا هو الحي القيوم} "
(3)
هو في الموطن الأول صرح بأن الاسم الأعظم يتكون من ثلاثة أسماء: "الله، الحي، القيوم" ولكنه في الموطن الأخير لم يصرح بذلك، بل أفهمنا أن الاسم الأعظم يتكون من اسمين هما الحي القيوم، وإن كنا نستطيع أن نستنبط من الشواهد التي ذكرها الأسماء الثلاثة التي يتكون منها الاسم الأعظم
(4)
.
(1)
مقال أحمد الشرباصي 153 - 160
(2)
مقال أحمد الشرباصي 153 - 160
(3)
تفسير المنار (3/ 24).
(4)
مقال أحمد الشرباصي 153 - 160
رابعا: العجلة أحيانا في كتابة التفسير وعدم التهيؤ الكامل لصياغته بإتقان وإحسان وكل لون من ألوان الكتابة قد تحتمل فيه العجلة إلا كتاب الله العلي الأعلى فإنه يلزمه التدبر والاستعداد والتفرغ عند كتابة تفسيره
(1)
.
ورشيد كما يحدثنا كان يكتب التفسير أحيانا وهو على سفر وهو مثلا يقول في حديثه عن رحلته إلى الحجاز: "وتأخرت عنهم لإتمام ما كنت بدأت من كتابة نبذة من التفسير للمنار، لإرسالها مع البريد من جدة مع كتابة ما لا بد من كتابته إلى مصر"، وأغرب صور العجلة وقلة الاستقرار في كتابة رشيد للتفسير هو ما فعله في الجزء الخامس من تفسير المنار مما ترشدنا إليه عبارة ختم بها هذا الجزء وفيها يقول:"تم الجزء الخامس من التفسير وقد نُشر في المجلد الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من المنار، بدأت كتابة هذا الجزء وأنا في القسطنطينية سنة 1328 هـ، ففاتني تصحيح ما طبع منه في أُثناء رحلتي تلك، وأتممته في أثناء رحلتي هذا العام 1330 هـ إلى الهند، ومنه ما كتبته في مسقط والكويت والعراق، وقد أتممته في المحجر الصحي بين حلب وحماة، في أوائل شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف، ونشر آخره في جزء المنار الذي صدر في آخر رمضان، ولم أقف على تصحيح شيء مما كتبته في هذه الرحلة أيضا"
(2)
.
لعل رشيدا أراد أن يلتمس لنفسه الأعذار فيما يحدث من تقصي أو من هفوات الطبع، ومهما يكن الدافع فتفسير كتاب الله ينبغي له التفرغ والاستقرار.
ولا يستطيع عارف بقدر كتاب الله تعالى أن يرتضي خطة رشيد في كتابته التفسير التي يقول عنها: "وإننا نكتب التفسير دائما في وقت ضيق ونعطي ما نكتبه للمطبعة من غير قراءة ولا مراجعة، ثم لا نراه إلا عند تصحيح ما يُجمع في المطبعة وكلما جُمع شيء يُطبع، وإن لم تتم كتابة ما يتعلق به"
(3)
.
خامسا: انتقال تفسير المنار من مختصر إلى متوسط إلى طويل، فرشيد يذكر في نهاية تفسير الفاتحة المنشور في الجزء الأول من تفسير المنار أن غرضه الأول من كتابة تفسير الفاتحة ونشره في مجلة المنار كان بيان ما يستفيده من دروس شيخه الأستاذ الإمام (محمد عبده) مع شيء مما يفتح الله به عليه في إيجاز
(4)
.
فاختصر فيما كتبه أولا، ولما طبع تفسير الفاتحة على حدته زاد فيه بعض الزيادات وكان قد بدا له أن يجعل هذا التفسير مطولا مستوفى ولما بدأ طبع الجزء الأول من التفسير وانتهى من طبع الصفحات الخاصة منه بتفسير الفاتحة عززه بفوائد ألحقها بآخر تفسير هذه السورة.
(1)
مقال أحمد الشرباصي 153 - 160
(2)
تفسير المنار (5/ 387).
(3)
رشيد ودعوة محمد بن عبد الوهاب 162.
(4)
المصدر السابق.
ولقد صرح رشيد في مواطن أخرى بأنه بدأ تنقيحا وإضافة على التفسير بعد نشره في المجلة مثل أن يقول: "وبعد أن طبع تفسير تلك الآية في المنار نقحناه، وزدنا فيه فوائد أثبتناها في نسخة التفسير التي تطبع على حدتها"
(1)
، ولو أن رشيدا كان في هذه التغييرات يسير على نظام محدد واضح لهان الخطب ولكنه تارة يضع الإضافة في وسط الكلام، وتارة يضعها في الهامش وتارة يجعلها في آخر الموضوع وتارة يجعلها في نهاية الجزء مع استدراكات أخرى
…
إلخ
(2)
.
سابعا: عدم الثبات على طريقة في التأليف: فقد تقلب الشيخ في كتابة التفسير إلى أربعة ألوان؛ فهو أولا كان يختصر، ثم أخذ يزيد ثم أخذ يطول ثم قام بالاختصار لهذا التطويل، كل هذا يدل على عدم استقرار رشيد على طريقة واحدة في تأليفه لتفسير المنار، وهو أمر يفقد هذا التفسير شيئا من مكانته وقدره
(3)
.
ثامنا: الشدة في الدعوة إلى رأيه والتمسك به، فقد عدّ بعض الباحثين
(4)
من مآخذ رشيد رضا في تفسير المنار تعصبه لرأيه في استنباط الأحكام، وإن خالف جمهور الفقهاء، ومع إبداء رأيه يشتد في الحملة العنيفة على المخالفين له، ويضربون مثالا واحدا على ذلك بما قرره في تفسيره لآية التيمم في سورة النساء من أن المسافر يجوز له التيمم ولو كان الماء بين يديه ولا علة تمنعه من استعماله إلا كونه مسافرا، وهو رأي مخالف لجمهور فقهاء المسلمين، ويشن حملة على مخالفيه، فيقول:"نعم إن الآية واضحة المعنى كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم، ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز، ولو مع وجود الماء، وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا"
(5)
، ثم يقول:"ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن"
(6)
.
…
تاسعا: نقله عن أهل الكتاب
(7)
، ونقله عن بعض العلماء الغربيين، مثل دارون
(8)
، وعقده فصل في مباحث تتعلق بمسألة الصلب
(9)
. ومن ذلك قوله: "وأقول: إن استقامة بعض أهل الكتاب على الحق من دينهم لا ينافي ما حققناه في تفسير التوراة والإنجيل في أول السورة من ضياع بعض كتبهم وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها، فإن من يعرف من المسلمين بعض السنة ويحفظ بعض الأحاديث النبوية فيعمل بما علم مستمسكا به مخلصا فيه، يقال: إنه قائم بالسنة السنية عامل بالحديث النبوي، وإن كان بعض الأحاديث قد نقل بالمعنى وبعضها ضعيف أو موضوع وبعض الناس كالحشوية حرفوها بل حرفوا بعض آيات القرآن تحريفا معنويا ليدعموا بها مذاهبهم وآراءهم، أما قوله تعالى: يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون فمعناه على القول بأن المراد بهم من دخل في الإسلام ظاهرا، وعلى القول الآخر المختار أنهم يتلون ما عندهم من مناجاة الله ودعائه له والثناء عليه عز وجل، وهي كثيرة في كتبهم لا سيما زبور (مزامير) داود عليه السلام، كقوله في المزمور السادس والثلاثين: ([5] يا رب في السماوات رحمتك أمانتك إلى الغمام [6] عدلك مثل جبال الله وأحكامك لجة عظيمة، الناس والبهائم تخلص يا رب [7] ما أكرم رحمتك يا الله فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون [8] يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمتك تسقيهم [9] لأن عندك ينبوع الحياة، بنورك نرى نورا [10] أدم رحمتك للذين يعرفونك وعدلك للمستقيمي القلب [11] لا تأتيني رجل الكبرياء ويد الأشرار لا تزحزحني [12] هناك سقط فاعلو الإثم دحروا فلم يستطيعوا القيام"، وقوله في المزمور الخامس والعشرين:" [1] إليك يا رب أرفع نفسي [2] يا إلهي عليك توكلت فلا تدعني أخزى، لا تشمت بي أعدائي [3] أيضا كل منتظريك لا يخزوا، ليخز الغادرون بلا سبب [4] طرقك يا رب عرفني، سبلك علمني [5] دربني في حقك وعلمني، لأنك أنت إله خلاصي، إياك انتظرت اليوم كله [6] أذكر مراحمك يا رب وإحساناتك لأنها منذ الأزل هي [7] لا تذكر خطايا صباي ولا معاصي، كرحمتك اذكرني أنت من أجل جودك يا رب". وأمثال هذه الأدعية والمناجاة كثيرة جدا وإذا رآها العربي البليغ غريبة الأسلوب فليذكر أنها ترجمة ضعيفة وأن قراءتها بلغة أهل الكتاب أشد تأثيرا في النفس من قراءة ترجمتها هذه"
(10)
.
(1)
مجلة المنار (13/ 22).
(2)
رشيد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 162 - 163.
(3)
رشيد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 162 - 163.
(4)
حبيب السامرائي 439.
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 98).
(6)
تفسير المنار (5/ 98).
(7)
صواعق من نار على صاحب المنار للشيخ يوسف الدجوي الحنفي
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 64)
(9)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 20 - 48).
(10)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 60).
عاشرا: استخدامة لعبارات فيها تنقص لبعض الأئمة، ومن ذلك قوله:"وقد علمت أن اللفظ يفيد العموم وهو الذي تقتضيه الحكمة وتتم به المصلحة، وإنما بين الأستاذ ما قصر فيه غيره من المفسرين"
(1)
.
وقال في حق الإمام ابن جرير
(2)
: "قال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الأول، وهو أن قوله: (إلا ما ذكيتم) استثناء من قوله: (وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع) .. ثم أورد ابن جرير سؤالا وأجاب عنه، فقال: فإن قال لنا قائل: فإذا كان ذلك معناه عندك فما وجه تكريره ما كرر بقوله: وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية وسائر ما عدد تحريمه في هذه الآية، وقد افتتح الآية بقوله: حرمت عليكم الميتة؟ وقد علمت أنه شامل كل ميت كان موته حتف أنفه من علة به غير جناية أحد عليه؟ أو كان موته من ضرب ضارب إياه، أو انخناق منه أو انتطاح أو فرس سبع، وهلا كان قوله - إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك من أنه معني بالتحريم في كل ذلك الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك، دون أن يكون معنيا به تحريمه إذا تردى، وقد أخطأ ابن جرير في سياقه هذا بما ذكر من العلة، وبالتعبير فيه بلفظ الذبح بدل لفظ التذكية الذي هو تعبير القرآن، والتذكية أعم من الذبح كما سيأتي، وقد ثبت أن المتردية في بئر إذا طعنت في أي جزء من بدنها، فكان ذلك هو المتمم لموتها عد تذكية، وحل أكلها، وما هو بالذي يجهل هذا، ولكن الاستعمال الغالب ينسي الإنسان غيره أحيانا فيعبر به وقد يريد به المثال، ثم إن ذلك من الميتة، وهي أخص من عبارته هو"
(3)
.
وقال عن الرازي
(4)
: "وأقول: إن هذا الذي ذكره الرازي على طريقة المعتزلة تعليل حسن لمغفرة الله تعالى لأهل بدر ما يحتمل أن يقع منهم من الذنوب، وهو موافق لمذهب أهل السنة، ونصوص القرآن في تغليب الحسنات على السيئات، ولكنه لا يتجه في تفسير الآية وما ذكره على مذهب الأشعرية مثله في هذا فما اعتمده أضعف مما رده وأبطله"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 8).
(2)
محمد بن جرير بن كثير بن غالب الطبري، الإمام أبو جعفر، رأس المفسرين على الإطلاق، أصله من طبرستان، وله التصانيف العظيمة منها: جامع البيان عن تأويل أي القرآن، وهو أجل التفاسير لم يؤلف مثله كما ذكره العلماء، توفي 310 هـ. انظر: طبقات المفسرين السيوطي 82، الأعلام 6/ 69.
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 117 - 116).
(4)
محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي، الإمام فخر الدين الرازي القرشي البكري، الشافعي المفسر المتكلم، ولد سنة 544 هـ، كان من تلامذة محيي السنة البغوي، كان فريد عصره ونسيج وحده، شهرته تغني عن استقصاء فضائله، وتصانيفه في علم الكلام والمعقولات سائرة، وله: التفسير الكبير، والمحصول في أصول الفقه، وغيرها. توفي 606 هـ. طبقات المفسرين 115، الأعلام 6/ 313.
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 80).
وقال عن الزمخشري
(1)
: "هذا وإن بعض المفسرين ولا سيما الزمخشري قد أساءوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، وكان يجب أن يتعلموا منها أعلى الأدب معه صلوات الله وسلامه عليه، إذ أخبره ربه ومؤدبه بالعفو قبل الذنب، وهو منتهى التكريم واللطف"
(2)
.
وقال في حق الإمام أبي السعود
(3)
: "ولكن أبا السعود تنطع في التأويل فذهب إلى أن الإنذار هنا موجه إلى من يتوقع منهم التأثر في الجملة وهم المجوزون منهم للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين، أو في شفاعة الأصنام كالآخرين، أو مترددين فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقا، وأما المنكرون للحشر رأسا، والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام، فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم، وقد قيل: هم المفرطون في الأعمال من المؤمنين، ولا يساعده سباق النظم الكريم ولا سياقه، بل فيه ما يقضي باستحالة صحته، كما ستقف عليه "
(4)
.
وقال في حق الإمام الألوسي
(5)
: "وقد نقل السيد الألوسي في "روح المعاني" كلاما ركيكا في الفرق بين الاستعمالين عزاه إلى الدرة، وقال في آخره: قاله مولانا شهاب الدين فليفهم، وهو أمر بما لا يستطاع من فهم ذلك الكلام المضطرب المبهم، والذي يظهر لنا في نكتة ذلك أن تقديم اللعب على اللهو لا يحتاج إلى تعليل؛ لأنه الأصل المقدم في الوجود، وقد فصلت آية الحديد متاع الحياة الدنيا بحسب ترتيبه الذي تقتضيه الفطرة البشرية، فقدم فيها اللعب لأن أول عمل للطفل يلذ له هو اللعب المقصود عنده لذاته"
(6)
.
(1)
محمود بن عمر بن محمد بن عمر، أبو القاسم الزمخشري الخوارزمي، المعتزلي، النحوي اللغوي المتكلم المفسر يلقب بجار الله لأنه جاور بمكة زماناً، وقد كان ممن برع في الأدب والنحو واللغة، لقي الكبار، وصنف التصانيف التي منها؛ الكشاف في التفسير، وأساس البلاغة، وغيرها. ت: 538 هـ. طبقات المفسرين للداودي 172 - 173، الأعلام 7/ 178.
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 402).
(3)
محمد بن محمد بن مصطفى العمادي، المولى أبو السعود: مفسر شاعر، من علماء الترك المستعربين. ولد بقرب القسطنطينية (898 هـ)، ودرس ودرس في بلاد متعددة، وتقلد القضاء، صاحب التفسير المعروف باسمه وقد سماه (إرشاد العقل السليم إلى مرايا الكتاب الكريم) ومن كتبه (تحفة الطلاب) في المناظرة، توفي (982 هـ)، انظر: طبقات المفسرين للأدنه وي (ص: 398)، الأعلام للزركلي (7/ 59).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 361).
(5)
محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي، شهاب الدين، أبو الثناء: مفسر، محدث، أديب، من المجددين، من أهل بغداد، مولده ووفاته فيها (1217 - 1270 هـ)، من كتبه (روح المعاني) في التفسير وغيرها، انظر: الأعلام للزركلي (7/ 176)، هدية العارفين (2/ 418).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 305).
وتكلم عن بعض المفسرين وذكر أقوالهم، فمثلا عند تفسير:(فلا تركنوا) ذكر 11 قول للمفسرين، فقال
(1)
: (نموذج من قصور أقوال المفسرين وغلطهم وتقليدهم في تفسير الآية: الروايات المأثورة والمعتمدون عليها:
روى الإمام ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه فسر الآية بالركون إلى الشرك، (وهو أقوى ما روي فيها)، وروي عنه تفسيره بالميل وأنه قال: لا تميلوا إلى الذين ظلموا.
وروى عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم - ولا تركنوا - لا تذهبوا، وهو ليس تفسيرا بالمعنى اللغوي، ولا يظهر المراد الشرعي منه إلا بقرينة ما قبله إن جمع بينهما بإرادة المشركين الظالمين للمؤمنين.
وما قاله ورواه حق في نفسه ولكنه لا يحيط بمعنى الآية، وما كانت تلك الروايات إلا كلمات مجملة وجيزة ذكرت بالمناسبة لا يقصد تحقيق معنى الآية في لغتها وأسلوبها وموقعها من العبرة بقصص الرسل مع أقوامهم الظالمين، وقال مثله كل من البغوي وابن كثير فإنهما يعتمدان على المأثور قل أو كثر.
(2)
قال أبو بكر الجصاص الحنفي المتوفى سنة 370 هـ في تفسيره (أحكام القرآن): والركون إلى الشيء: هو السكون إليه والمحبة، فاقتضى ذلك النهي عن مجالسة الظالمين ومؤانستهم والإنصات إليهم، وهو مثل قوله تعالى:(فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) 6: 68، وقد أبعد كل البعد، وإنما هو فقيه لا لغوي ولا مفسر عام.
(3)
قال الزمخشري المعتزلي المتوفى سنة 538 هـ في كشافه بعد ذكر القراءات في الآية: والنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله:(ولا تركنوا)، فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله:(إلى الذين ظلموا)، أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين، انتهى المراد منه، وذكر بعده حكاية صلاة الموفق خلف الإمام الذي قرأ الآية فغشي عليه وتقدمت، وموعظة بليغة وعظها للزهري أحد إخوانه من عباد السلف وزهادهم، أقول: كل ما أدغمه في النهي عن الركون إلى الذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي للمؤمن اجتراحه، وقد يكون من لوازم الركون الحقيرة، ولكن لا يصح أن يجعل شيء منه تفسيرا للآية مرادا منها والمخاطب الأول بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون، إلى التوبة من الشرك والإيمان معه، ثم نقل كلام ابن العربي واعقبه بقوله: وقد أصاب المعنى اللغوي والمأثور دون فقه الآية، وتبعه القرطبي المتوفى سنة 671 هـ في تفسيره جامع أحكام القرآن فنقل كلامه بدون عزو إليه ولم يزد عليه، ثم ختم: أختم هذه النقول بما أورده السيد محمد صديق حسن خان نائب ملك بهوبال (الهند) المتوفى سنة 1307 هـ وفي تفسيره (فتح البيان في مقاصد القرآن) الذي أودعه تفسير أستاذه القاضي الشوكاني المسمى (بفتح القدير) وزاد عليه، فكان ما أورده عنه مغنيا عن أصله، فقد اتفق المفسران على تخطئة الزمخشري ومن تبعه في تفسير الركون بالميل اليسير، وأوردا بعض ما قاله رواة التفسير واللغة في معناه مخالفا له، مما نقلناه وزنا عليه، وانفردنا بتحقيق معناه دونهم ودونهما، ثم انفردا بالبحث الآتى بنصه، قال: "وقد اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية، هل هي خاصة بالمشركين أو عامة؟ فقيل: خاصة، وأن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين وأنهم المرادون بـ (الذين ظلموا) وقد روي ذلك عن ابن عباس، وقيل: إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، وهذا هو الظاهر من الآية، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) أ. هـ
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 142 - 148).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 142 - 148).
الفصل الثاني: أقسام الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره
،
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الاستنباط باعتبار موضوع المعنى المستنبط.
المبحث الثاني: الاستنباط باعتبار ظهور وخفاء النص المستنبط منه.
المبحث الثالث: الاستنباط باعتبار الإفراد والتركيب.
المبحث الأول: الاستنباط باعتبار موضوع المعنى المستنبط
، وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: الاستنباطات العقدية
.
المطلب الثاني: الاستنباطات في علوم القرآن.
المطلب الثالث: الاستنباطات الأصولية والفقهية.
المطلب الرابع: الاستنباطات اللغوية والبلاغية.
المطلب الخامس: الاستنباطات التربوية والسلوكية.
المطلب السادس: الاستنباطات الاجتماعية.
المطلب السابع: الاستنباطات في السياسة الشرعية.
تنوعت موضوعات الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رحمه الله في علوم شتى، منها:
- الاستنباطات العقدية.
- الاستنباطات في علوم القرآن.
- الاستنباطات الأصولية والفقهية.
- الاستنباطات اللغوية والبلاغية.
- الاستنباطات التربوية والسلوكية.
- الاستنباطات الاجتماعية.
- الاستنباطات في السياسة الشرعية.
المطلب الأول: الاستنباطات العقدية
(1)
الاستنباطات العقدية:
يراد بها استخراج ما كان له تعلق بالمعتقد تقريراً لمسائله أو دحضاً لما يناقض قواعده
(2)
.
قال ابن خلدون
(3)
في تعريف علم العقيدة: "علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد"
(4)
.
(1)
العقيدة لغة: مأخوذة من مادة عقد، ومعاني عقد في اللغة تأخذ معنى: الشد والحزم والربط، لسان العرب مادة عقد (3/ 296)، وفي الاصطلاح:"تطلق العقيدة على ما يدين به الإنسان ربه، ويعتقده من أمور الدين، فإن كان ما يعتقده الإنسان مطابقا للواقع فهي عقيدة صحيحة، وإن كان مخالفا للواقع فهي عقيدة فاسدة، فإن العقيدة هي ما يجزم به الإنسان، و يعتقده ويتيقنه في قرارة نفسه"، شرح العقيدة الطحاوية، عبد العزيز الراجحي (ص: 5).
(2)
آليات الاستنباط عند ابن عاشور، 137.
(3)
(732 - 808 هـ) عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، وليّ الدين الحضرميّ الإشبيلي، الفيلسوف المؤرخ، العالم الاجتماعي البحاثة. ومولده ومنشأه بتونس، كان فصيحا، جميل الصورة، عاقلا، صادق اللهجة، عزوفا عن الضيم، طامحا للمراتب العالية، اشتهر بكتابه (العبر وديوان المبتدإ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر - ط)، أوّلها (المقدمة) وهي تعد من أصول علم الاجتماع، وختم (العبر) بفصل عنوانه (التعريف بابن خلدون)، انظر: الأعلام للزركلي (3/ 330).
(4)
مختصر مقدمة ابن خلدون، 426.
و بالنظر في استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا العقدية نجد أنها شملت كل أبواب العقيدة، سواء كان تقريرا لها على منهج أهل السنة والجماعة أو بيانا لأهميتها، أو ردا على مخالفيها، وقد شكلت ثلث استنباطاته، وهذا يدل على شدة عنايته بالعقيدة الصحيحة وتجليتها، ويتضح ذلك من خلال الأوجه التالية:
الاهتمام بجوانب التوحيد وأقسامه:
•
توحيد الربوبية:
ــ مسألة إثبات الوحدانية لله تعالى: عند قوله تعالى {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة آل عمران: 3 - 4]، قال:"وفي هذا وما قبله شيء آخر، وهو الإشعار بأن ما أنزله الله تعالى من الكتب والفرقان يدل على إثبات الوحدانية لله تعالى وتنزيهه عن الولد والحلول أو الاتحاد بأحد أو بشيء من الحوادث"
(1)
.
ـ مسألة دلالة الفطرة: عند قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [سورة آل عمران: 14] قال: "وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر وبيان حقيقة الأمر في نفسه لا في جزئياته وأفراد وقائعه، فالمراد أن الله - تعالى - أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه"
(2)
.
ـ مسألة الخلق والفعل: عند قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [سورة آل عمران: 47]، قال:"وعبر هنا بالخلق وفي بشارة زكريا بيحيى بالفعل، وكل منهما خلق وفعل"
(3)
.
ـ مسألة الإرادة والتكوين: عند قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة آل عمران: 59]، قال:"وخطر لي الآن أنه يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع كن فيكون، والمعنى: ثم قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالا"
(4)
.
ـ مسألة سنن الله الكونية ودلالتها على الوحدانية: عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [سورة النساء: 51]، قال:"وتدل بطريق اللزوم على أن الأمم المغلوبة تكون أقرب إلى الجبت والطاغوت من الأمم الغالبة المنصورة، فليحاسب المسلمون أنفسهم بها وبما في معناها من الآيات"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 134).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 196).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 253).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 263).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 129).
ـ مسألة عناية الله بالخلق: عند قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [سورة الأنعام: 4]، قال:"وإضافة الآيات إلى الرب تفيد أن إنزاله الوحي، وبعثه للرسل وتأييدهم، وهدايته للخلق بهم، كله من مقتضى ربوبيته، أي مقتضى كونه هو السيد المالك المربي لخلقه المدبر لأمورهم على الوجه الموافق للحكمة"
(1)
.
ـ مسألة صفات الإله الحق: عند قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [سورة الأعراف: 148]، قال:"فعلم بهذا أن من شأن الرب الإله الحق أن يكون متكلما، وأن يكلم عباده، ويهديهم سبيل الرشاد باختصاصه من شاء منهم وإعداده لسماع كلامه، وتلقي وحيه، وتبليغ أحكامه"
(2)
.
ـ مسألة أن توحيد الربوبية سبب تحصيل رحمة الله: عند قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف: 156]، قال:"وخص الزكاة بالذكر دون الصلاة، وما دونها من الطاعات، وفيه إشارة إلى شدة حب اليهود للدنيا وافتتانهم بجمع المال ومنع بذله في سبيل الله"
(3)
.
ـ مسألة المغفرة العامة: عند قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف: 23]، قال:"فحذفهما لمفعول (تغفر) يدل على أنهما قد علقا النجاة من الخسران على المغفرة العامة المطلقة التي تشمل هذا الذنب وغيره"
(4)
.
ـ مسألة المشيئة: عند قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [سورة المائدة: 64]، قال:"والنكتة في قوله (كيف يشاء) بيان أن تقتير الرزاق على بعض العباد، الجاري على وفق الحكمة وسنن الله تعالى في الاجتماع لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق، بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 252).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 174).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 193).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 312).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 377).
ـ مسألة التوحيد ووحدة الدين: عند قوله تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف: 40]، قال:"ما الحكم الحق في الربوبية، والعقائد والعبادات الدينية إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله - تعالى - على ألسنة جميع رسله، لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة"
(1)
.
•
توحيد الألوهية:
ـ مسألة شروط لا إله إلا الله، عند قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [سورة البقرة: 256] قال: "والتعبير بالاستمساك يدل على أن من لم يكفر بجميع مناشئ الطغيان، ويعتصم بالحق اليقين من أصول الإيمان، فهو لا يعد مستمسكا بالعروة الوثقى وإن انتمى في الظاهر إلى أهلها"
(2)
. واشتراطه للعلم واليقين لتحقيقها
(3)
.
ـ مسألة إجابة الدعاء، كقوله عند قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة: 186] قال: "ولا دليل في الآية على أن كل دعاء يجاب، بل هي نفسها دليل على أنه لا يجيب الدعاء إلا الله"
(4)
. ومسألة إجابة الدعاء
(5)
.
ـ مسألة العمل وقبوله: عند قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [سورة البقرة: 148]، قال:"ذكر الجزاء يوم البعث بعد الأمر باستباق الخيرات ليفيد أن الجزاء إنما يكون على فعل الخيرات أو تركها"
(6)
، ومثلها مسألة الجزاء على الأعمال
(7)
.
ـ مسألة الولاية: عند قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة البقرة: 257]، قال:"ومما يجب بيانه في تفسير هذه الآية أيضا الفرق بين ولاية الله للمؤمنين وولايتهم له وولاية بعضهم لبعض"
(8)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 254).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 32).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 162).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 137).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 137).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 19)
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 113).
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 36).
ـ مسألة العبودية العامة والخاصة: عند قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [سورة آل عمران: 83]، قال:"وصفوة الكلام أن الدين الحق هو إسلام الوجه لله -تعالى- والإخلاص في الخضوع له"
(1)
.
ـ مسألة التوكل على الله: عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [سورة آل عمران: 159]، قال:"الآية صريحة في وجوب إمضاء العزيمة المستكملة لشروطها، وأهمها في الأمور العامة حربية كانت أو سياسية أو إدارية المشاورة"
(2)
.
ـ مسألة الطاعة والعصمة: عند قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [سورة الأنعام: 52]، قال:"والآية تدل على نفي الرياسة الدينية المعهودة في الملل الأخرى"
(3)
.
ـ مسألة التوبة والمغفرة: عند قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [سورة الأنعام: 52]، قال:"ويستنبط من الآية ألا يجوز لرؤساء المدارس الدينية ولا ينبغي لغيرهم، عقاب أحد من طلاب العلم بالحرمان من بعض الدروس فضلا عن طرده من المدرسة، وحرمانه من تلقي الدين والعلم ألبته، ولكن قد يجوز ذلك بمقتضى نظام لا لأجل الانتقام"
(4)
.
ـ مسألة الذبح لغير الله: عند قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [سورة الأنعام: 118]، قال:"رتب على ذلك أمر اتباع هذا الرسول بمخالفة الضالين من قومهم وغير قومهم في مسألة الذبائح بترك جميع الآثام، وحكمة الاهتمام بهذه المسألة وقرنها بمسائل العقائد، هو أن مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل جعلوا الذبائح من أمور العبادات، وقد غفل عن هذا المعنى بعض كبار المفسرين"
(5)
.
•
توحيد الأسماء والصفات:
ـ أثر معرفة أسماء الله وصفاته: عند قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [سورة البقرة: 255]، قال:"إن جملة الآية تملأ القلب بعظمة الله وجلاله وكماله، حتى لا يبقى فيه موضع للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون تعظيما خياليا غير معقول حتى ينسون أنهم بالنسبة إلى الله - تعالى - عبيد مربوبون، فإن عظمته - تعالى - لا تدع في نفسه غرورا، بل يوقن بأن لا سبيل إلى السعادة في الآخرة إلا بمرضاة الله - تعالى - في الدنيا، فمن لم يكن مرضيا لله - تعالى - لا يتجرأ أحد على الشفاعة له"
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 292).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 168).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 369).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 369).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 15).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 28 - 29).
ـ بيانه لاسم الله الشاكر: عند قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: 158]، قال:"والنكتة في اختيار هذا التعبير تعليمنا الأدب، فقد علمنا سبحانه وتعالى بهذا أدبا من أكمل الآداب بما سمى إحسانه وإنعامه على العاملين شكرا لهم مع أن عملهم لا ينفعه ولا يدفع عنه ضراً"
(1)
.
ـ بيانه لرحمة الله العامة: عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [سورة البقرة: 207]، قال:"لما قرنه الله تعالى باسمه الرءوف الدال على سعة رحمته بعباده، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه، ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم "
(2)
.
ـ بيانه لتعليل استجابة الله باسم السميع والعليم: عند قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} [سورة يوسف: 34]، قال:"فعطف استجابة ربه له، وصرف كيدهن عنه بالفاء الدالة على التعقيب، وتعليلها بأنها مقتضى كمال صفتي السمع والعلم، دليل على أن ربه عز وجل لم يتخل عن عنايته بتربيته"
(3)
.
الاهتمام بباب الإيمان وأركانه:
•
الإيمان بالله:
ـ مسألة الإيمان بالغيب: عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة آل عمران: 179]، قال:"وعلى هذا يكون قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة آل عمران: 179] متضمنا للإيمان بما أخبر به رسله من خبر الغيب وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم أي إن أنتم آمنتم بما جاءوا به من خبر الغيب "
(4)
.
ـ مسألة الإيمان والتقوى: عند قوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران: 179] قال: "لزّ التقوى هاهنا مع الإيمان في قرن، وترتيب الأجر عليهما معا هو الموافق للآي الكثيرة في الذكر الحكيم، وهي أظهر، وأشهر، وأكثر من أن ينبه عليها بالشواهد كلما ذكر شيء منها. "
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 38)
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 204).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 247).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 209).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 209).
ـ مسألة الانحراف في الإيمان: عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [سورة النساء: 52]، قال:"وهذه الآية تدل على أن سبب لعن الله للأمم هو إيمانها بالخرافات والأباطيل والطغيان"
(1)
.
ـ مسألة مطابقة الأقوال لما في الجنان: عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [سورة النساء: 64]، قال:"فلا بد أن يشعر القلب أولا بألم المعصية وسوء مغبتها، وبالحاجة إلى التزكي من دنسها "
(2)
.
ـ مسألة العلم والإيمان: عند قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [سورة النساء: 78]، قال:"وفيه أنه يجب على العاقل الرشيد أن يطلب فقه القول دون الظواهر الحرفية"
(3)
.
ـ مسألة الإيمان واليقين: عند قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [سورة الأعراف: 89]، قال:"والتعبير يدل على نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الفعل؛ لأنه نفي له بالدليل "
(4)
.
•
الإيمان بالرسل:
ـ مسألة الإيمان بهم وبوظيفتهم وكتبهم وعدم التفرقة بينهم: عند قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [سورة البقرة: 285]، قال:"وفي هذا مزية للمؤمنين من هذه الأمة على غيرهم من أهل الكتاب، كأنهم لم يعقلوا معنى الرسالة في نفسها "
(5)
(6)
(7)
.
ـ مسالة الفرق بين النبي والرسول: عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ} [سورة النساء: 64]، قال:" (من رسول) أبلغ في استغراق النفي، وإيجاب طاعة الرسول تشعر بأن الرسول أخص من النبي؛ فالرسول لا بد أن يكون مقيما لشريعة"
(8)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 129).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 191).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 217).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 6).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 120).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 226).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 215).
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 189).
ـ مسألة تكليف النبي: عند قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [سورة النساء]، قال:"ويؤخذ من الآية أن الله - تعالى - كلف نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الكافرين، وسيرته صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك"
(1)
.
ـ مسألة النبي والرسول من قومه: عند قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [سورة الأعراف: 65]، قال:"والآية دليل على جواز تسمية القريب أو الوطني الكافر أخا وحكمته كون رسول القوم منهم، أن يفهمهم ويفهم منهم"
(2)
.
•
الإيمان باليوم الآخر:
ـ مسألة البعث والنشور: عند قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [سورة البقرة: 259]، قال:"فهذا الفصل دليل على الانتقال من الآية الخاصة إلى الآية العامة التي يغفل الناس عنها"
(3)
.
ـ مسألة الجزاء على الأعمال: عند قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [سورة النساء: 49] قال: "والآية تدل على أن الله تعالى يجزي كل عامل خير بعمله"
(4)
(5)
.
•
الإيمان بالقدر خيره وشره:
ـ مسألة خلق أفعال العباد: عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [سورة الأنعام: 108]، قال:"فظهر بهذا أن التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه، وليس المراد به أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر"
(6)
.
ـ مسألة الرد على الجبرية
(7)
في مسائلهم، كما في المثال السابق، وكذا رده عليهم عند قوله تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [سورة الأنفال: 23]، فقال:"أمثال هذه الآيات تحثو التراب في من يزعم أن الآية تدل على الجبر وعدم اختيار العبد في كفره وإيمانه"
(8)
(9)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 248).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 441).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 44).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 124).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 113).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 557).
(7)
نسبة إلى الجبر: وهو في باب القدر، مذهب الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على أفعاله الاختيارية؛ كالريشة المعلقة في الهواء، انظر: البغدادي: الفرق بين الفرق، وهم الذين يزعمون بأن العبد مجبور على عمله بمعنى أن حركاته بمنزلة حركات الجماد ولا قدرة له عليها ولا اختيار، لوامع الأنوار البهية (1/ 306).
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 522).
(9)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 120).
ـ ورد أيضا على القدرية
(1)
: كما يظهر ذلك عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [سورة الأنفال: 24] قال: "ليس معناه أنه تعالى خلق فيه الضلال استقلالا - كما يدعي بعض المتكلمين - بل هو داخل في سنته تعالى في الأسباب والمسببات ويؤيده إثبات كون ضلاله على علم، وهو أنه متعمد لاتباع الهوى، مؤثر له على الهدى"
(2)
.
•
الشرك، والكفر، والنفاق:
ـ مسألة أنواع الكفر: عند قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة: 254]، قال:"إن هذا الكفر والظلم مما يتهاون فيه المسلمون في هذه الأزمنة وفي أزمنة قبلها، وعلم من الدين بالضرورة إجماعا، وهذه الآية نفسها تبطل ظنهم وفي معناها آيات كثيرة"
(3)
.
ـ مسألة سبب كفر اليهود والنصارى: قفال عند قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [سورة المائدة: 68]، قال:"أما إسناد إنزاله إلى الرسول، فليس لإفادة أنه أوحي إليه فقط، بل يشعر مع ذلك بأن إنزاله إليه سبب لطغيانهم وكفرهم"
(4)
.
ـ خطورة الظلم: عند قوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة هود: 44]، قال:"والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد والطرد الذي يحتمل عدة معان مذمومة شرها الطرد من رحمة الله"
(5)
.
(1)
القدرية فرقتان: الأولى: تنكر ما ذكرنا من سبق العلم بالأشياء قبل وجودها، وتزعم أن الله لم يقدر الأمور أزلا، ولم يتقدم علمه بها، وإنما يأتنفها علما حال وقوعها، وكانوا يقولون: إن الله أمر العباد ونهاهم، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك، فعلمه بعد ما فعلوه؛ ولهذا قالوا: الأمر أنف، أي مستأنف، قال العلماء: والمنكرون لهذا انقرضوا، وهم الذين كفرهم عليه الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد، الثانية: المقرون بالعلم، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول، قال: والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارا من تعلق القديم بالمحدث، أنظر: لوامع الأنوار البهية (1/ 300 - 301).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 528).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 17).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 394).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 68).
ـ بيان سبب هلاك الأمم: عند قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [سورة هود: 3]، قال:"والآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال"
(1)
.
ـ علاقة الصلاح بالظلم: عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [سورة هود: 117]، قال:"والآية تدل على أن إهلاك المصلحين ظلم فلذلك يتنزه الله عنه"
(2)
.
ـ النفاق وعلاقته بالطعن في النبوة: عند قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [سورة التوبة: 61]، قال:"والآية وما في معناها دليل على أن إيذاء الرسول كفر، إذا كان فيما يتعلق بصفة الرسالة"
(3)
.
أمور يتحقق بها التوحيد وتقوم بها الشريعة:
هناك أمور لا بد منها ليتحقق التوحيد وتقوم الشريعة، ذكرها الشيخ تحت أبواب متفرقة:
•
العلم:
عند قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [سورة البقرة: 120]، قال:"وفيه أن من سنن الله تأييد متبعي الهدى على علم صحيح وأنهم هم الغالبون المنصورون، وهو ما يعبر عنه علماء الاجتماع ببقاء الأمثل في كل تنازع بينه وبين ما دونه"
(4)
.
وعند قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [سورة الأنعام: 28]، قال:"ويستنبط من الآية أن الطريقة المثلى لإقامة الناس على صراط الحق والفضيلة إنما هي حملهم على ذلك بالعمل والتعويد"
(5)
(6)
(7)
.
•
الاعتصام:
عند قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة: 132]، قال:"ويتضمن هذا النهي إرشاد من كان منحرفا عن الإسلام إلى عدم اليأس وأن يبادر بالرجوع إليه والاعتصام بحبله لئلا يموت على غيره "
(8)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 8).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 159).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 449).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 366).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 297).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 4).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 67).
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 391).
•
العقل وإعماله، واستخدامه في طرق الاستدلال:
عند قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [سورة البقرة: 170]، قال:"ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين إذ لا يسلكون طريق العقل بالاستدلال على أن ما هم عليه من العقائد والعبادات حق، ولا يهتدون في أحكامه وأعماله بوحي من الله جاءهم به رسول من عند الله؟ أي حتى في تجردهم من دليلي العقل والنقل، هذا ما أفهمه"
(1)
(2)
.
•
الحقوق وحفظ الكليات الخمس:
عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ} [سورة النساء: 92]، قال:"وثم نكتة أخرى وهو أن في سماح المعاهد للمؤمن بالدية منة عليه، والكتاب العزيز الذي وصف المؤمنين بالعزة لا يفتح لهم باب هذه المنة"
(3)
(4)
.
• الوسطية والعدالة: عند قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران: 21]، قال:"وفي هذا تعظيم شأن الحكمة والعدالة ما فيه من شرف الإسلام وإرشاد أهله إلى أن يكونوا من أهل هذه المرتبة التي تلي مرتبة النبوة"
(5)
.
•
مسألة تعظيم القول على الله بغير علم
، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [سورة آل عمران: 179]، قال: "وقد ذهب وهم بعض الناس إلى أن الآية تدل على أن من اجتباهم الله من رسله يعلمون الغيب كله، وكل ذلك من الجرأة على الله - تعالى - والقول عليه بغير علم
(6)
.
•
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 74).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 65).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 273).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 289).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 216).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 209).
الكبائر والصغائر:
ذكرها عند قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [سورة النساء: 18] فقال: "إن الإصرار على بعض أفراد الذنوب يغري صاحبه بأفراد أخرى من نوعها، أو جنسها، والشر داعية الشر، كما أن الخير داعية الخير"
(1)
.
•
معرفة المقاصد:
عند قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [سورة النساء: 134]، قال:"والآية تدل على أن الإسلام يهدي أهله إلى سعادة الدارين، وأن يتذكروا أن كلا من ثواب الدنيا وثواب الآخرة من فضل الله ورحمته"
(2)
.
•
فقه الإنكار:
عند قوله تعالى: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [سورة النساء: 140]، قال:"ويؤخذ منه أن إقرار المنكر والسكوت عليه منكر، وهذا منصوص عليه أيضا، وأن إنكار الشيء يمنع فشوه بين من ينكرونه حتما، فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان"
(3)
.
•
الوعد والوعيد:
عند قوله تعالى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة الأنعام: 123]، قال:"وهي تتضمن الوعيد لأكابر مجرمي مكة الماكرين والوعد، وذلك بالإيجاز الذي يستنبطه الأذكياء من أمثال هذه القواعد العامة"
(4)
.
•
الترغيب والترهيب:
عند قوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة يونس: 19]، قال:"والآية تتضمن الوعيد على اختلاف الناس المفضي إلى الشقاق والعدوان"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 367).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 370).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 378).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 30).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 269).
المطلب الثاني: الاستنباطات في علوم القرآن
اختلفت عبارات العلماء في المراد بعلوم القرآن، من حيث المعنى العام أو الخاص، إلا أن عباراتهم لا تخرج عن أنها مباحث متعلقة بالقرآن من ناحية نزوله، وجمعه وتفسيره وأسباب نزوله وبيان ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، ومكيّه ومدنيّه، وغيرها من العلوم التي تعين على فهم معانيه وتدبرها
(1)
.
والمقصود هنا إظهار عناية الشيخ محمد رشيد بعلوم القرآن من خلال استنباطاته.
وقد تنوعت استنباطاته بتنوع هذه العلوم:
•
علم التفسير:
ـ تفسير القرآن بالقرآن: فرق رحمه الله بين الولاية في سورة آل عمران وسورة المجادلة، فعند قوله تعالى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران: 28]، قال:"زعم الذين يقولون في الدين بغير علم، ويفسرون القرآن بالهوى في الرأي أن آية آل عمران وما في معناها من النهي العام أو الخاص، يدل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يخالفوا أو يتفقوا مع غيرهم، وإن كان الخلاف أو الاتفاق لمصلحتهم، وإذا رجع المؤمن إلى سورة الممتحنة، التي فصلت فيها هذه المسألة ما لم تفصل في غيرها يجد الآية الأولى تقيد النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله وإلقاء المودة إليهم بكونهم كفروا كفرا حملهم على إخراج الرسول والمؤمنين من وطنهم؛ لأنهم مؤمنون بالله، فكل شعب حربي يعامل المؤمنين مثل هذه المعاملة تحرم موالاته قطعا"
(2)
(3)
(4)
.
(1)
انظر: مباحث في علوم القرآن، د. مناع القطان، مؤسسة الرسالة، 15
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 229).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 209).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 317).
وبما أن التفسير الموضوعي صورة من صور تفسير القرآن بالقرآن فقد ذكر الشيخ استنباطا يوضح هذا الأسلوب من أساليب التفسير
(1)
.
ـ
تفسير القرآن بالسنة:
تقدم اهتمام الشيخ رحمه الله بالسنة النبوية ومن ذلك استخدامه لها في استنباط بعض المعاني ومن ذلك عند قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة: 186]، قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم))
(2)
وفي رواية: أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير إذا علوا عقبة أو ثنية، وليس في هذه الروايات ذكر الآية ولكن الحديث في المقام؛ فإنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير المأمور به في الآية السابقة، فدلت الآية على ما صرح به الحديث من النهي، فكان الحديث تفسيرا لها بل هو عمل بها"
(3)
.
ـ
التفسير العلمي:
عند قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [سورة الأنعام: 65]، قال:"ومثال ما عبر القرآن عنه مما يشمل ما لم يكن في زمن تنزيله ولا فيما قبله، بحسب ما يعلم البشر هذه الآية التي ظهر تفسيرها في هذا الزمان بهذه الحرب الأوربية التي لم يسبق لها نظير؛ فقد أرسل الله على الأمم عذابا من فوقها بما تقذفه الطيارات والمناطيد من المقذوفات النارية والسموم البخارية والغازية التي لم تعرف قبل هذه الحرب فوق مقذوفات المدافع وغيرها مما كان معروفا قبلها، ولكن بعد تنزيل الآية - وعذابا من تحتها بما يتفجر من الألغام النارية، وبما ترسله المراكب الغواصة في البحر التي اخترعت في هذا العصر، ولبسها شيعا متعادية، وأذاق بعضها بأس بعض، فحلّ بها من التقتيل والتخريب ما لم يعهد له نظير في الأرض، ولا شك في أن دلالة الآية على هذه المخترعات مراد، لأن الله تعالى منزل القرآن هو علام الغيوب"
(4)
.
ـ
أساليب القرآن:
أشار الشيخ محمد رشيد إلى بعض الاستنباطات من أساليب القرآن الكريم، ومن ذلك عند قوله تعالى:{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [سورة الأنعام: 12]، قال:"قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين، أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 528).
(2)
رواه البخاري: كتاب المغازي باب غزوة خيبر، ح (3968)
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 134).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 410).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 271).
ـ
المناسبات بين الآيات:
من المباحث التي استنبط منها الشيخ بعض المعاني، عند قوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [سورة البقرة: 142]، قال:"وقد ابتدأ الكلام في هذه المسألة ببيان ما يقع من اعتراض اليهود وغيرهم على التحويل وإخبار الله نبيه والمؤمنين به قبل وقوعه، وتلقينهم الحجة البالغة عليه والحكمة السديدة فيه، ويتضمن هذا بيان سر من أسرار الدين وقاعدة عظيمة من قواعد الإيمان، كان أهل الكتاب في غفلة عنها وجهل بها، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في كونها محاجة لأهل الكتاب في أمر الدين؛ لإمالتهم عن التقليد الأعمى فيه، والجمود على ظواهره من غير تفقه فيه ولا نفوذ إلى أسراره وحكمه التي لم تشرع الأحكام إلا لأجلها"
(1)
(2)
.
وعند قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة آل عمران: 26]، قال:"وقد نظرنا فيما وقع للغابرين والحاضرين ومحّصنا أسبابه، فألفيناها ترجع إلى سنن مطردة، وبين بعض هذه السنن في نزع الملك ممن يشاء وإيتائه من يشاء، وبهذا يظهر وجه اتصال الآية بما قبلها وكونها بمثابة الدليل لقوله السابق: (قل للذين كفروا ستغلبون)، فهي تتضمن تأكيد الوعد بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وغلب أعدائه من أهل الكتاب والمشركين"
(3)
.
ـ
التدبر:
من المعاني التي أشار إليها الشيخ محمد في استنباطاته، فعند قوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [سورة النساء: 82]، قال:"وفيه أن تدبر القرآن فرض على كل مكلف لا خاص بنفر يسمون المجتهدين يشترط فيهم شروط ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما الشرط الذي لا بد منه ولا غنى عنه، هو معرفة لغة القرآن مفرداتها وأساليبها"
(4)
.
ـ
الإعجاز:
من اهتمام الشيخ بمبحث الإعجاز، عقد فصلا في تحقيق وجوه الإعجاز
(5)
، ومن وجوه الإعجاز مخالفته لما عهد في كلام العرب، وكذا استنبط بعض المعاني في إعجاز القرآن، فعند قوله تعالى:{الم (1)} [سورة البقرة: 1]، قال: "إن عدم إعرابها يرجح أن حكمة افتتاح بعض السور المخصوصة بها للتنبيه لما يأتي بعدها مباشرة من وصف القرآن والإشارة إلى إعجازه؛ لأن المكي منها كان يتلى على المشركين للدعوة إلى الإسلام، ومثل هذه السورة وما بعدها لدعوة أهل الكتاب إليه وإقامة الحجج عليهم به
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 4).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 18).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 223).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 240).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 165 - 178).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 103).
ـ
الأمثال وفوائدها:
ذكرها الشيخ وذكر شيئا من فوائدها مما يبين أهميتها، فعند قوله تعالى:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [سورة الأعراف: 176]، قال:"والآية تدل على تعظيم شأن ضرب الأمثال في تأثير الكلام، وكونه أقوى من سوق الدلائل والحجج المجردة، ويدل على تعظيم شأن التفكر، وكونه مبدأ العلم وطريق الحق"
(1)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 342).
المطلب الثالث: الاستنباطات الأصولية والفقهية
يقصد بها الأحكام الشرعية العلمية المستفادة من الآيات القرآنية المتعلقة بأفعال المكلفين من حيث تكليفهم بها
(1)
.
والمراد بالقواعد الأصولية: "القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
وهذه القواعد نوعان:
قواعد لغوية: كقولنا: اللفظ العام يتناول جميع أفراده قطعا ما لم يخصص، والمشترك بين معنيين أو أكثر لا يراد به إلا معنى واحد، إلى آخر القواعد اللغوية التي اشتمل عليها علم الأصول.
قواعد شرعية: وهي المتعلقة بالأسس التي بنى عليها الشارع أحكامه، والأغراض التي تحقق مصالح العباد، وأن الأحكام الشرعية تقوم على دعامتين: جلب المنافع ودفع المفاسد، وهكذا"
(2)
.
وأما القاعدة الفقهية فهي: "الأمر الكلي الذي ينطبق على جزئيات كثيرة يفهم أحكامها منها"
(3)
.
الفرق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقيهة: "إن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفا وعلوا، اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:
أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك وما خرج عن هذا النمط، إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.
والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه"
(4)
.
(1)
انظر آليات الاستنباط عند ابن عاشور 140.
(2)
أنظر: أصول الفقه الميسر (1/ 13).
(3)
الاشباه والنظائر (1/ 11)، القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين (162).
(4)
الفروق للقرافي، أنوار البروق في أنواء الفروق (1/ 2).
ويعد الشيخ محمد رشيد ممن عني عناية فائقة بعلم أصول الفقه، ويظهر ذلك من قوله:"ولما تصدى بعض العلماء في القرن الثاني والثالث لاستنباط الأحكام واستخراج الفروع من أصولها - ومنهم الأئمة الأربعة - كانوا يذكرون الحكم بدليله على هذا النمط، فهم متفقون مع الصحابة والتابعين - عليهم الرضوان - على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد في الدين ما لم يعرف دليله ويقتنع به، ثم جاء من العلماء المقلدين في القرون الوسطى من جعل قول المفتي للعامي بمنزلة الدليل، مع قولهم بأنه لو بلغه الحديث فعمل به كان ذلك أولى، ثم خلف خلفٌ أعرق منهم في التقليد، فمنعوا كل الناس أخذ أي حكم من الكتاب أو السنة، وعدّوا من يحاول فهمهما والعمل بهما زائغا، وهذا غاية الخذلان وعداوة الدين، وقد تبعهم الناس في ذلك فكانوا لهم أندادا من دون الله، وسيتبرأ بعضهم من بعض كما أخبر الله"
(1)
.
وقد بلغت استنباطات الشيخ الأصولية قرابة 40 استنباطا من جملة ما تم بحثه.
وتنوعت استنباطاته فشملت المسائل الأصولية اللغوية:
ـ مسألة العموم والخصوص، عند قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 179]، قال:"خص بالنداء أصحاب العقول الكاملة، مع أن الخطاب عام للتنبيه على أن ذا اللب هو الذي يعرف قيمة الحياة والمحافظة عليها، ويعرف ما تقوم به المصلحة العامة وما يتوسل به إليها"
(2)
(3)
.
ـ مسالة الأمر أعم من النهي: عند قوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [سورة المائدة: 88]، قال:"والأمر بالتقوى في هذا المقام أوسع معنى وأعم فائدة من النهي عن الإسراف في آية الأعراف التي أوردناها آنفا "
(4)
.
ـ مسألة عطف الخاص على العام: عند قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: 188]، قال:"ذكر الأكل مجملا عاما، ثم بين نوعا منه خصه بالنهي عنه مع دخوله في العام لما يقع من الشبهة فيه لبعض الناس"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 66).
(2)
انظر تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 107).
(3)
وانظر مثال آخر: تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 118).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 25).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 160).
ـ قاعدة الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة: عند قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [سورة المائدة: 2]، قال:"فهذا تصريح بمفهوم قوله في الآية السابقة: (غير محلي الصيد وأنتم حرم)، والأصل في الأمر بالشيء يجيء بعد حظره: أن يكون للإباحة، أي رفع ذلك الحظر"
(1)
(2)
.
ـ قاعدة النهي عن الشيء أمر بضده: عند قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [سورة البقرة: 282]، قال:"دليل على أن العالم بما فيه مصلحة الناس يجب عليه إذا دعي إلى القيام بها أن يجيب الدعوة؛ ولذلك لم يكتف بالنهي عن الإباء عن الكتابة بل أمر بها أمرا صريحا فقال: فليكتب، وهذا ظاهر لا سيما على قول من قال من أهل الأصول: إن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده"
(3)
.
ـ قاعدة النهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه: عند قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [سورة الأنعام: 152]، قال:"والنهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه، لأنه يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل التي تؤدي إليه وتوقع فيه"
(4)
(5)
، وقاعدة النهي عن الشيء يستلزم ضده
(6)
.
ولشدة عنايته بعلم الأصول ذكر
طرق الاستدلال
، وبيّن كيف يستنبط منها، ومن هذه الطرق:
ـ
طريقة الاستدلال بالقواعد الأصولية:
عند قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [سورة البقرة: 219]، قال: "ثم فطنت بعد ذلك إلى قاعدة عظيمة من قواعد التشريع الإسلامي، بيّنتها في المنار وفي التفسير، واستدللت عليها بهذه الآية، وهي أن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا يجعل تشريعا عاما تطالب به كل الأمة
(7)
، وصرحت بالأمر باجتنابه، وهو أبلغ من الأمر بالترك"
(8)
(9)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 106).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 24).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 101)
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 167).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 308).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 370)
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 264 - 265).
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 137).
(9)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 137).
ـ
طريقة استقراء النصوص
، قال عند قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [سورة المائدة: 89]، "فمجموع الآيات في المائدة والبقرة والنحل يدل على أن المؤاخذة في الأيمان إنما تكون في المؤكد الموثق منها بالقصد الصحيح والنية"
(1)
(2)
.
ـ
مسألة العقل ودلالاته:
عند قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة الأنعام: 151] قال: "وفيه تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها، مما لا تعقل له فائدة، ولا تظهر للأنظار الصحيحة فيه مصلحة"
(3)
.
وعند قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 28]، قال:"فهذا القول تكذيب لهم من طريقي العقل والنقل، أما الأول فتقريره أن هذا الفعل لا خلاف بينكم وبيننا في أنه من الفحشاء أي أقبح القبائح، والله تعالى منزه بكماله المطلق الذي لا شائبة للنقص فيه أن يأمر بالفحشاء"
(4)
.
ـ
مسألة العرف:
عند قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [سورة البقرة: 228]، قال:"والآية تدل على اعتبار العرف في حقوق كل من الزوجين على الآخر، ما لم يحل العرف حراما أو يحرم حلالا مما عرف بالنص، والعرف يختلف باختلاف الناس والأزمنة"
(5)
(6)
.
ـ
مسألة حجية الإجماع:
عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [سورة النساء: 115]، قال:"ومن مباحث الأصول في هذه الآية استدلال بعضهم بها على حجية الإجماع، لأن مخالفه متبع غير سبيل المؤمنين، وعبّر بعضهم في بيان حجيته بأنه هو سبيل المؤمنين، وقد علمت أن الإجماع الذي يعنونه هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها في أي عصر على أي أمر، والآية إنما نزلت في سبيل المؤمنين في عصره لا بعد عصره، وأتذكر أنني بينت عدم اتجاه الاستدلال بالآية على حجية الإجماع في المنار، وكذلك رده الأستاذ الإمام والإمام الشوكاني في إرشاد الفحول"
(7)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 31).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 229).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 166).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 333).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 300).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 446).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 340).
ـ
مسألة الترجيح:
عند قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [سورة البقرة: 196]، قال:"وآية آل عمران في التصريح بفرضيته نزلت قبل هذه الآيات فيما يظهر، ولهذا قال الجمهور: إن الحج فرض سنة تسع، والصواب أنه فرض قبلها ونفذ فيها"
(1)
.
ـ
مسألة العلة:
عند قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة البقرة: 59]، قال:"القاعدة أن ترتيب الحكم على المشتق يدل على أن مصدره علة له، والموصول مع صلته هنا كذلك"
(2)
(3)
(4)
.
ـ
مسألة رد المتشابه إلى المحكم:
عند قوله تعالى: {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة الأنفال: 2]، قال:"وجملة القول: إن زيادة الإيمان ثابتة بنص هذه الآية وآيات أخرى"، ثم قال:"فمن العجب بعد هذا أن تنقل هفوة لبعض العلماء أنكر فيها زيادة الإيمان بالمعنى المصدري لشبهة نظرية، ويجعل مذهبا يقلد صاحبه فيه تقليدا، وتأول الآيات والأحاديث لأجله تأويلا"
(5)
.
ـ
مسألة العلم أبلغ من الشواهد:
عند قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [سورة الأنفال: 9]، قال:"فعلمه بربه وبوقت استجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه استنباطا من حال أبي بكر رضي الله عنه"
(6)
.
وهناك قواعد أصولية ذكرها ومن ذلك:
ـ
قاعدة الأمور بمقاصدها:
عند قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [سورة البقرة: 233]، قال:"وهنا وجه (رابع) لترجيح هذا القول ظهر لي الآن؛ وهو تعليل الحكم بالنهي عن المضارة بالولد"
(7)
(8)
(9)
(10)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 177).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 270).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 286).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 286).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 493).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 503).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 324).
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 438).
(9)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 57).
(10)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 44).
ـ
مقاصد الشريعة:
عند قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام: 164]، قال:"وهي قاعدة من أصول دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله، وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية"
(1)
(2)
.
ـ
قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح:
عند قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [سورة البقرة: 263]، قال:"إن هذه الآية مقررة لقاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" التي هي من أعظم قواعد الشريعة"
(3)
.
ـ
مسائل حفظ الحقوق، كحفظ المال:
عند قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة: 283]، قال:"إن في جعل عدم وجدان الكاتب مقيدا بحال السفر إشارة إلى أنه ليس من شأن مواطن الإقامة أن تكون خلوا من الكتاب"
(4)
(5)
.
وغيرها من المسائل، كمسألة بطلان التقليد
(6)
، ومسألة اتباع الدليل
(7)
، غيرها من المسائل.
أما استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا الفقهية فقد تنوعت وشملت بعض أبوب الفقه.
•
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 217).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 503).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 54).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 109)
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 106).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 193).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 107).
فذكر في جانب العبادات، استنباطات خاصة بالصلاة:
ـ
مسألة صلاة الجماعة:
عند قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [سورة البقرة: 43]، قال:"فاتني أن أذكر ما أفهمه أنا في هذا الأمر بعد الأمرين، وهو أنه أمر بصلاة الجماعة"
(1)
.
ـ
مسألة صوم المريض:
عند قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة: 185]، قال:"إطلاق كلمة (مريضا) يدل على أن الرخصة لا تتقيد بالمرض الشديد الذي يعسر معه الصوم"
(2)
.
ـ
مسألة شروط صحة العبادة:
عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [سورة البقرة: 199]، قال:"وقوله: (ثم) يفيد أن الإفاضة من مزدلفة يجب أن تكون مرتبة على الإفاضة من عرفات ومتأخرة عنها، ففيه تأكيد إبطال تلك العادة"
(3)
.
أما في باب المعاملات فتنوعت كتنوع المعاملات، ومن ذلك:
•
باب النكاح وما فيه من معاملات خاصة:
ـ
مسألة المهر:
عند قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [سورة النساء: 24]، قال:"إن تسمية المهر هنا أجرا، أي ثوابا وجزاء لا ينافي ملاحظة ما في الزوجية من معنى سكون كل من الزوجين إلى الآخر وارتباطه معه برابطة المودة والرحمة، فرض لها سبحانه في مقابلة هذا الامتياز الذي جعله للرجل جزاء وأجرا تطيب به نفسها "
(4)
.
ـ
مسألة القوامة:
عند قوله تعالى: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [سورة الأعراف: 19]، قال:"والآية ترشد إلى أن المرأة تابعة للرجل في السكنى والمعيشة باقتضاء الفطرة، وهو الحق الواقع الذي يعد ما خالفه شذوذا"
(5)
.
ـ
مسألة هل الأفضل النكاح أم تركه:
عند قوله تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة آل عمران: 39]، قال:"إن الآية ليست نصا ولا ظاهرة في ذلك، وسنة النكاح أفضل سنن الفطرة لأنها قوام هذه الحياة الدنيا "
(6)
.
ـ
مسألة نكاح زوجة الأب:
عند قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [سورة النساء: 22]، قال:"قدم هذا النكاح على غيره، وجعله في آية خاصة، ولذلك ذمه بمثل ما ذم به الزنا"
(7)
.
•
مسائل المعاملات المالية:
ـ
مسألة الدعوة إلى الاعتدال والترشيد في النفقة:
عند قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [سورة البقرة: 3]، قال:"يدل على أن النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان لا كل ما يملك، فهو ركن من أركان الاقتصاد، والإنفاق في سبيل الله أظهر آيات الإيمان الصحيح"
(8)
، والقصد في أمور الحياة
(9)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 402).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 121).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 188).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 10).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 308).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 245).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 379).
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 109).
(9)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 341).
ـ
مسألة حفظ الحقوق بكتابة الديون:
عند قوله تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [سورة البقرة: 282]، قال:"وهو دليل أيضا على أن الكتابة واجبة في القليل والكثير، قاعدة عظيمة من قواعد الاقتصاد، والعمل بها آية الكياسة والعقل، وكم من حريص على الدرهم والدانق يجود بالدنانير والبدر"
(1)
.
ـ
مسألة الوفاء بالعقود:
عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: 1]، قال:"وأساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة (أوفوا بالعقود) وهي تفيد أنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به، وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الشارع إلا ببينة منه"
(2)
.
ـ
مسائل الحل والحرمة في المأكل:
عند قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [سورة آل عمران: 93]، قال:"والمتبادر عندي: أن المراد بما حرمه إسرائيل على نفسه ما امتنعوا عن أكله وحرموه على أنفسهم بحكم العادة والتقليد لا بحكم من الله"
(3)
.
(4)
.
ـ
مسألة حكم المرتد:
عند قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة آل عمران: 72]، قال:"ويظهر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه"
(5)
.
ـ
مسألة التولي يوم الزحف:
عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [سورة الأنفال: 15]، قال:"والآية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي"
(6)
، ومراتب الجهاد
(7)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 105)
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 100).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 5).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 131).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 275).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 514).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 65).
ـ
مسألة الاستنباط والمعنيين به:
عند قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء: 83]
(1)
.
ـ
مسألة التحية:
عند قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [سورة النساء: 86]، قال:"علم من الآية الجواب عن التحية له مرتبتان: أدناهما ردها بعناية، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها، فالمجيب مخير، ولا دليل على هذه التفرقة من لفظ الآية ولا من السنة"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 243).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 254).
المطلب الرابع: الاستنباطات اللغوية والبلاغية
المقصود: أن يذكر المستنبط دلالة خفية لحكم لغوي مجمع عليه أو مختلف فيه، إما مستدلاً لقول أو مرجحاً له، أو معترضاً عليه
(1)
.
وطريق الاستنباط هنا، هي: استعمال القرآن، فمتى ما صح الاستعمال في القرآن فهو دليل على صحته لغةً، فالقرآن يستدل به في اللغة ولا يستدل عليه
(2)
.
والشيخ محمد رشيد رحمه الله ممن عني عناية فائقة باللغة ويعد من أهلها، وقد جاءت استنباطاته في هذا الجانب كثيرة، ومتنوعة فكانت على النحو التالي:
•
استنباطات خاصة بباب العطف في اللغة
، وقد بين الشيخ أثر العطف على المعنى واستنبط منه جملة من المعاني، ومن ذلك:
ـ
مسألة ترك العطف بسبب التباين:
عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [سورة البقرة: 6]، قال:"هذا بيان لحال القسم الثاني من أقسام الناس تجاه هداية القرآن، وقد قطعه وفصله مما قبله، فلم يعطفه عليه للإشارة إلى ما بينهما من طول شقة الانفصال وعدم المشاركة في شيء ما، بخلاف القسم الثالث الآتي، فإن لهم حظا منه في الدنيا ولمن يتوب منهم حظ في الآخرة أيضا "
(3)
.
ـ
مسألة أثر العطف على المعنى:
عند قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة آل عمران: 59]، قال:"والعطف بـ (ثم) لبيان التكوين الآخر يفيد تراخيه وتأخره عن الخلق الأول"
(4)
(5)
.
(1)
منهج الاستنباط من القرآن الكريم، فهد الوهبي 166.
(2)
المرجع السابق.
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 117).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 263).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 247).
ومما تفرد به: عند قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [سورة التوبة: 68]، قال:"والظاهر من العطف أنه نوع من العذاب نفسي معنوي غير عذاب جهنم الحسي الخاص بها بنوعيه الظاهر والباطن"
(1)
.
ـ
مسألة أثر العطف بالواو على المعنى:
عند قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [سورة هود: 94]، قال:"ومن دقيق نكت البلاغة في الآيات قوله تعالى في إهلاك مدين هنا: - (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا - إلخ)، فعطف "لما" على ما قبلها بالواو، ومثله في قوم هود، ولكنه عطفها بالفاء في قصة ثمود (66)، وقصة قوم لوط، ووجه هذا الأخير أن الآيتين جاءتا عقب الإنذار بالعذاب واستحقاقه وحلول موعده فعطفتا بالفاء الدالة على التعقيب، أما الثاني ففيه وعيد مسوف فيه مقرون بالارتقاب لا الاقتراب، فلا يناسب العطف عليه الفاء التي تفيد التعقيب بدون انفصال، فهل تصادف مثل هذه الدقائق اللغوية اللغوية في غير القرآن؟ "
(2)
.
ـ
مسألة العطف على محذوف:
عند قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس: 103]، قال:"هذا التعبير من أعجب إيجاز القرآن المعجز الذي انفرد به في العطف على محذوف، وهو ذكر شيء يدل دلالة واضحة على أمر عام كسنة اجتماعية تستنبط من قصة أو قصص واقعة، ثم يأتي بجملة معطوفة لا يصح عطفها على ما قبلها من الجمل، فيتبادر إلى الذهن وجوب عطفها على ذلك الأمر العام، بحرف العطف المناسب للمقام، بحيث يستغنى به عن ذكره"
(3)
.
•
ومما استنبطه الشيخ أثر الجملة الفعلية على المعنى
، وذكر فيها عدة مسائل منها:
ـ
مسألة دلالة الأفعال وأثرها على المعنى:
عند قوله تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [سورة المائدة: 70]، قال: "والتعبير عن القتل بالمضارع مع كونه كالتكذيب وقع في الماضي نكتته تصوير جرم القتل الشنيع واستحضار هيئته المنكرة كأنه واقع في الحال للمبالغة في النعي عليهم والتوبيخ لهم. فقد أفادت الآية أنهم بلغوا من الفساد واتباع أهوائهم أخشن مركب وأشده تقحما بهم في الضلال حتى لم يعد يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل وهديهم، بل صار يغريهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة الأخيار
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 462).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 124).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 397).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 398).
ـ
مسألة امضاء الفعل الماضي موضع المضارع:
عند قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [سورة الأنعام: 115]، قال:"الفعل الماضي فيها "تمت" بمعنى المستقبل، فهو لتحقق وقوعه كأنه وقع، وهذا من ضروب المبالغة البليغة"
(1)
(2)
.
ـ
مسألة الجار والمجرور وأثرها على المعنى:
عند قوله تعالى: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} [سورة الأعراف: 45]، قال:"وتقديم الجار والمجرور (بالآخرة) على متعلقه للاهتمام به فإن أصل كفرهم قد علم مما قبله وهذا النوع منه له تأثير خاص في إصرارهم على ما أسند إليهم، وقد غفل عن هذا من قال إن التقديم لأجل رعاية الفاصلة"
(3)
.
ـ
مسألة التقديم والتأخير:
عند قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس: 58]، قال:"والتعبير في غاية البلاغة لما فيها من التأكيد والمبالغة في التقرير، فإن أصل المعنى بدونهما: قل ليفرحوا بفضل الله وبرحمته، فأخر الأمر وقدم عليه متعلقه لإفادة الاختصاص، كأنه قال: إن كان في الدنيا شيء يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته، وأدخل عليه (الفاء) لإفادة معنى السببية فصار فيهما (فليفرحوا) دون ما يجمعون من متاع الدنيا المبين في آخر الآية ثم أدخل على الأمر (فبذلك) لزيادة التأكيد والتقرير"
(4)
.
ـ وقال: "ويعلم مما تقدم أن تقديم ذكر الصابرين على ما بعده لأنه كالشرط إذ لا يتم بدونه الصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار في الأسحار"
(5)
، عند قوله تعالى:{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [سورة آل عمران: 17]
ـ
مسألة اختلاف دلالة الألفاظ على المعاني، كاختلاف التعبير:
عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النساء: 141]، قال:"والنكتة في التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من الله، وعن ظفر الكافرين بالنصيب هي إفادة أن العاقبة في القتال للمؤمنين"
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 11).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 221).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 382).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 334).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 207).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 378).
ـ واختلاف لفظ (أحل لكم الطيبات، وقوله حل لكم)
(1)
، واختلاف لفظ (يعملون، ويصنعون)
(2)
، ولفظ (ما أنزل، وما أوتي)
(3)
، ولفظ (سوف، وفسوف)
(4)
.
• واستنبط في باب البلاغة وخاصة علم المعاني، باب المسند والمسند إليه، من مسألة خروج الكلام على مقتضى الظاهر، استنباطات عدة، منها: عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة البقرة: 7]، قال:"وقد أسند الختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلى الله تعالى؛ لأنه بيان لسنته تعالى في أمثالهم، وعبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر قد فرغ منه، وهو لا يدل على أنهم مجبورون على الكفر، ولا على منع الله تعالى إياهم منه بالقهر، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرنهم على الكفر وأعماله في قلوبهم بأنه استحوذ عليها"
(5)
.
ـ وعند قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [سورة البقرة: 19]، قال:"وضع الاسم المظهر موضع المضمر للإيذان بأنهم إنما كانوا كذلك بكفرهم وأن ذلك يرد في أمثالهم"
(6)
.
(7)
(8)
(9)
.
ـ واستنبط في مسائل العموم والخصوص مسائل، منها: عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة: 153]، قال:"والتحقيق أنه عام في كل عمل نفسي أو بدني أو ترك يشق على النفس، كما يدل عليه حذف متعلقه"
(10)
، ودلالة العموم من لفظ الاستغراق
(11)
، ومسألة التخصيص من اللفظ العام
(12)
، وعطف الخاص على العام
(13)
.
(14)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 153).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 373).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 398).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 254).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 120).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 149).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 269).
(8)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 17).
(9)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 8).
(10)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 27)
(11)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 69)
(12)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 107).
(13)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 160).
(14)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 7).
• وكان للفاصلة القرآنية أثر على المعنى، ومن ذلك ما استنبطه الشيخ محمد رشيد رحمه الله، عند قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة البقرة: 173]، قال:"ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر (غفور) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال: إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية، وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات، والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جدا، ومرجعه إلى اجتهاد المضطر، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود، والله أعلم"
(1)
.
• ومن المباحث التي استنبط منها الشيخ محمد معنى التأكيد، مبحث التكرار: عند قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [سورة هود: 15]، قال:"وكرر لفظ (فيها) للتأكيد والإعلام بأن الآخرة ليست كالدنيا في وفاء كيل الجزاء وفي بخسه، فإنه فيها منوط بأمرين: كسب الإنسان، ونظام الأقدار، وقد يتعارضان، وأما جزاء الآخرة فهو بفعل الله - تعالى - مباشرة: (ولا يظلم ربك أحدا) (18: 49) "
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 81)
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 41).
المطلب الخامس: الاستنباطات التربوية والسلوكية
ونعني بها تلك الأحكام أو الفوائد المستخلصة من الآيات القرآنية التي تعنى بمكارم الأخلاق وفيها تقويم للسلوك، وذلك أن القرآن الكريم كتاب هداية، ولا تستبين هداياته إلا لمن وفقه الله.
والشيخ محمد رشيد ممن نهل من نبع القرآن، وحمل على عاتقه لواء الإصلاح ولا يكون الإصلاح إلا باتباع آداب وسلوكيات مستنبطة من الآيات القرآنية.
ومن استنباطاته:
ـ
مسألة الأدب في طلب العلم:
فعند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [سورة البقرة: 104]، قال:"لا شك أن من يعامل أستاذه ومرشده معاملة المساواة في القول والعمل، يقل احترامه له وتزول هيبته من نفسه حتى تقل الاستفادة منه أو تعدم، وإذا لم تزل الاستفادة منه من حيث كونه معلما، وأنه في حاجة للاستفادة من علمه وإرشاده ومن أخلاقه وآدابه، فإنه لا يستطيع أن يساوي نفسه به في المعاملة القولية ولا الفعلية، إلا ما يكون من فلتات اللسان ومن اللمم، وعن مثل هذا نُهي الصحابة رضي الله عنهم؛ لئلا يجرهم الأنس به صلى الله عليه وسلم وكرم أخلاقه إلى تعدي حدود الأدب الواجب معه الذي لا تكمل التربية إلا بكماله، وهو - تعالى - يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (33: 21) الآية"
(1)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 339).
ـ
مسألة عقاب طالب العلم:
عند قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام: 52]، قال:"ويستنبط من الآية ألا يجوز لرؤساء المدارس الدينية ولا ينبغي لغيرهم عقاب أحد من طلاب العلم بالحرمان من بعض الدروس فضلا عن طرده من المدرسة، وحرمانه من تلقي الدين والعلم ألبته، ولكن قد يجوز ذلك بمقتضى نظام لا لأجل الانتقام"
(1)
.
ـ
مسألة في باب النصيحة:
عند قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 62]، قال:"فعلم منه أن الأصل في النصيحة أن يقصد بها صلاح المنصوح له لا الناصح، فإن كان له فائدة منها وجاءت تبعا فلا بأس، وإلا لم تكن النصيحة خالصة"
(2)
.
ـ ومما انفرد به رحمه الله في هذا الباب، أركان الهداية من القرآن: عند قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [سورة المائدة: 2]، قال:"أما الأمر بالتعاون على البر والتقوى فهو من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن؛ لأنه يوجب على الناس إيجابا دينيا أن يعين بعضهم بعضا على كل عمل من أعمال البر التي تنفع الناس أفرادا وأقواما في دينهم ودنياهم، وكل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم، فجمع بذلك بين التحلية والتخلية، ولكنه قدم التحلية بالبر، وأكد هذا الأمر بالنهي عن ضده؛ وهو التعاون على الإثم بالمعاصي وكل ما يعوق عن البر والخير"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 369).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 438).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 108).
المطلب السادس: الاستنباطات الاجتماعية
ونقصد بها: المعاني المستخلصة من الآيات القرآنية التي ترتبط بعلاقات أفراد المجتمع فيما بينهم على اختلاف طبقاتهم، وما يتبع ذلك من أحكام، إذ علم الاجتماع "علم يبحث في العلاقات التي تربط بين الكائنات البشرية، كوشائج القربى وأواصر الصداقة والخصومات والأوضاع والمبادلات التجارية"
(1)
.
(1)
آليات الاستنباط عند ابن عاشور 143.
والشيخ محمد رشيد رضا من أعلام الإصلاح الاجتماعي، وقد أصّل في تفسيره لمبادئ هذا العلم الذي كان في طور التكوين واستخلاص القواعد فيه.
ومن تلك الاستنباطات:
ـ
مسألة تنازع البقاء بين المتقابلات:
عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [سورة الأنعام: 112]، قال:"وحكمة عداوة الأشرار للأخيار هي ما يعبر عنه في عرف علماء الاجتماع البشري بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تفضي بالجهاد والتمحيص إلى ما يسمونه (سنة الانتخاب الطبيعي) أي انتصار الحق وبقاء الأمثل"
(1)
.
ـ
مسألة العدل في المعاملات، وأنها من أركان الإصلاح الاجتماعي:
عند قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام: 164]، قال:"هي قاعدة من أصول دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله كما قال في سورة النجم: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [سورة النجم: 36 - 39]، وهي من أعظم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم، لأنها هادمة لأساس الوثنية، وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية"
(2)
.
ـ وعند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [سورة الأنعام: 165]، قال:"هذه الآية مبينة لبعض أحوال البشر التي نعبر عنها في عرف هذا العصر بالسنن الاجتماعية"
(3)
، ثم قال:"فهذه الهداية الاجتماعية مقررة لعقيدة التوحيد وهادمة لقواعد الشرك التي اعتادها الناس".
ـ انفرد رحمه الله بالاستدلال بآية على قاعدة اجتماعية: عند قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [سورة هود: 116]، قال:"ونقول: لأن الأحياء يهلك منهم الأضعف فالأضعف أولا، ويبقى الأقوى فالأقوى، ومن هذا ما يعرف في علم الاجتماع بسنة الانتخاب الطبيعي، وهو إفضاء تنازع الأحياء إلى بقاء الأمثل والأصلح"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 6).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 217).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 220).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 158).
المطلب السابع: الاستنباطات في السياسة الشرعية
مدلول السياسة الشرعية من خلال استقراء مضامين المؤلفات الفقهية في السياسة الشرعية تؤول إلى معنيين
(1)
:
الأول: معنى عام، مرادفـ لـ (الأحكام السلطانية)، التي هي: اسم للأحكام والتصرفات التي تدبر بها شؤون الدولة الإسلامية، في الداخل والخارج، وفق الشريعة الإسلامية، سواء كان مستند ذلك نصاً خاصاً، أو إجماعاً أو قياساً، أو كان مستنده قاعدة شرعية عامة؛ وعليه: فالسياسة الشرعية بالمعنى العام: تشمل الأحكام والتصرفات التي تدبّر بها شؤون الأمة في حكومتها، وتنظيماتها وقضائها، وسلطتها التنفيذية والإدارية، وعلاقتها بغيرها من الأمم في دار الإسلام وخارجها، سواء كانت هذه الأحكام مما ورد به نص تفصيلي جزئي خاص، أو مما لم يرد به نص تفصيلي جزئي خاص، أو كان من شأنه التبدل والتغير، تبعاً لتغير مناط الحكم في صور مستجدة.
الثاني: معنى خاص، مندرج في السياسة الشرعية بالمعنى العام (الأحكام السلطانية)؛ واندراجه فيها من جهة طبيعة الأحكام، وأصول تشريعها؛ إذْ يُلمحُ في إفراد مسائلها، عدمُ ثبات الحكم، تبعا لاختلاف مناطه.
يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحسن فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة، تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشرعية، علمها من علمها وجهلها من جهلها"، إلى أن يقول:"فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله"
(2)
.
والمقصود بها هنا: اظهار ما استنبطه الشيخ محمد رشيد رضا في هذا الجانب، وكيف وظّف استنباطه لتوجيه هذه العلاقة بين الأمور السياسية والأمور الشرعية، وذلك من خلال استنباطاته التالية:
ـ
مسألة صفات الخليفة أو الملك:
عند قوله تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [سورة البقرة: 247]، قال:"والمتبادر عندي، أن معناه فضّله واختاره عليكم بما أودع فيه من الاستعداد الفطري للملك، وإنما تذكر تتمة للفائدة وبيانا للحقيقة؛ ولذلك ذكرت قاعدة عامة لا وصفا له"
(3)
.
(1)
أضواء على السياسة الشرعية، د. سعد بن مطر العتيبي، (ص 12).
(2)
بدائع الفوائد (3/ 117).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 379).
ـ
مسألة الاهتمام ببناء الأفراد:
عند قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [سورة آل عمران: 144]، قال: "فهي لا تحصر الاستعداد لشيء من الأشياء في فرد من الأفراد، ولا تقصر القيام بأمر من الأمور على نابغ واحد من النابغين، قاعدة الاعتماد على التحقق بالعلوم والنهوض بالأعمال دون الاتكال على أفراد الرجال
(1)
.
ـ انفرد رحمه الله في مسألة استيفاء شروط الجهاد: عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران: 200]، قال:"المصابرة والمرابطة، وهي الرباط بمعنى مباراة الأعداء، ومغالبتهم في الصبر، وفي ربط الخيل، على الأصل الذي قرره الإسلام من مقاتلتهم بمثل ما يقاتلوننا به، فهي واجبة على المسلمين في هذا العصر؛ لأن الواجب من الاستعداد العسكري لا يتم إلا بها"
(2)
.
ـ
مسألة القتال لإقامة شعائر الدين:
عند قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة النساء: 76]، قال:"وفي هذه الآية من العبرة أن القتال الديني أشرف من القتال المدني، لأن القتال الديني في حكم الإسلام يقصد به الحق والعدل وحرية الدين"
(3)
.
ـ
مسألة إقامة الحدود:
عند قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [سورة المائدة: 33]، قال:"إن الآية تدل دلالة صريحة على أن هذا العقاب خاص بمن يفسدون في الأرض بالسلب والنهب، ولا يتأتى ذلك إلا حيث يقام شرعه العادل من دار الإسلام"
(4)
.
ـ
مسألة الحمية للأعراق والأعراف الجاهلية دون الحمية للدين:
عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [سورة المائدة: 51]، قال:"ونكتة التعبير عنهم باليهود والنصارى دون أهل الكتاب هي أن معاداتهم للنبي والمؤمنين إنما كانت بحسب جنسياتهم السياسية، لا من حيث أن كتابهم يأمرهم بذلك"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 135).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 261).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 212).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 297).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 352)
ـ مسألة حماية الدولة من الخيانة: عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [سورة الأنفال: 27]، قال:"وفيه عبرة لمنافقي هذا الزمان الذين يخلصون الخدمة، ويسدون النصيحة إلى أعداء ملتهم وأوطانهم فيما يمكن لهم السلطان في بلادهم، والسيادة على أمتهم "
(1)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 533).
المبحث الثاني:
الاستنباط باعتبار ظهور وخفاء النص المستنبط منه
.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الاستنباط باعتبار ظهور النص المستنبط منه
.
المطلب الثاني: الاستنباط باعتبار خفاء النص المستنبط منه.
المطلب الأول: الاستنباط باعتبار ظهور النص المستنبط منه
ويقصد به: استخراج ما خفي من النص القرآني الظاهر المعنى -الواضح-.
والاستنباط هنا مباشرٌ من النص، إذ المعنى المراد من الآية ظاهرٌ لا يحتاج إلى إيضاح.
وعمل المُسْتنْبِطِ هنا: هو إعمال العقل في النص القرآني من خلال طرق الاستنباط الصحيحة لاستخراج مكنون ذلك النص، ثم بعد ذلك يعرض ما ينتج له من الفوائد والأحكام والمعاني على شروط صحتها ليسلم له ما استنبطه
(1)
.
وقد عمد الشيخ إلى الاستنباط من هذه النصوص، ومن ذلك:
ـ قول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [سورة البقرة: 109]، قال:"وفي هذه الآية وما بعدها إشارة إلى أن لذلك بعض الأثر في نفوس بعض المسلمين، وفائدة هذا التنبيه أو التنبيهات أن يعلم المسلمون أن ما يبدو من أهل الكتاب أحيانا من إلقاء الشبه على الإسلام وتشكيك المسلمين فيه، إنما هو مكر السوء، يبعث عليه الحسد لا النصح الذي يبعث عليه الاعتقاد"
(2)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [سورة البقرة: 6]، قال:"هذا بيان لحال القسم الثاني من أقسام الناس تجاه هداية القرآن، وقد قطعه وفصله مما قبله، فلم يعطفه عليه للإشارة إلى ما بينهما من طول شقة الانفصال وعدم المشاركة في شيء ما، بخلاف القسم الثالث الآتي، فإن لهم حظا منه في الدنيا ولمن يتوب منهم حظ في الآخرة أيضا "
(3)
.
(1)
منهج الاستنباط من القرآن الكريم، فهد الوهبي 102.
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 346).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 117).
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة: 39]، قال:"إن هذه الجملة تدل على الحصر أو الاختصاص الإضافي، أي أولئك الكافرون المكذبون البعداء هم - دون متبعي هداي- أصحاب النار وأهلها هم فيها خالدون لا يظعنون عنها "
(1)
.
المطلب الثاني: الاستنباط باعتبار خفاء النص المستنبط منه
النص هنا غير بيّن ويحتاج إلى بيان، فالاستنباط هنا متوقف على مقدمةٍ أساسية، وهي الرجوع للتفسير.
ففي هذه النصوص ينبغي على المستنبط معرفة معنى الآية، وتفسيرها الصحيح قبل الاستنباط منها لكي يتسع الفهم والاستنباط
(2)
.
وقد ظهر هذا النوع من الاستنباطات في ثنايا تفسير الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، ومن ذلك:
ـ قول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة: 254]، قال:"إن هذا الكفر والظلم مما يتهاون فيه المسلمون في هذه الأزمنة وفي أزمنة قبلها؛ لظنهم أن جميع ما في القرآن من وعيد الكافرين يراد به الكافرون بالمعنى الخاص في اصطلاح المتكلمين والفقهاء، وهم الجاحدون للألوهية أو للنبوة أو لشيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلم من الدين بالضرورة إجماعا، وهذه الآية نفسها تبطل ظنهم وفي معناها آيات كثيرة"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 239).
(2)
منهج الاستنباط -فهد الوهبي 111.
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 17).
المبحث الثالث: الاستنباط باعتبار الإفراد والتركيب
،
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الاستنباط باعتبار الإفراد
.
المطلب الثاني: الاستنباط باعتبار التركيب.
المطلب الأول: الاستنباط باعتبار الإفراد
يقصد به: أن يكون الاستنباط من نص مفرد بلا ضم إلى نص آخر
(1)
.
وهذا كثير في تفسير الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، ومن ذلك:
ـ قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [سورة البقرة: 172]، "الأمر هنا للوجوب لا للإباحة، والطيبات ما طاب كسبه من الحلال، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تدينا لتعذيب النفس، وهذا تنبيه بعد ما تقدم إلى عدم الالتفات إلى أولئك الحمقى الذين أبيحت لهم خيرات الأرض فطفقوا يحلون بعضها ويحرمون بعضا بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم"
(2)
.
(1)
منهج الاستنباط، فهد الوهبي 125.
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 77).
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 179]، "خص بالنداء أصحاب العقول الكاملة، مع أن الخطاب عام للتنبيه على أن ذا اللب هو الذي يعرف قيمة الحياة والمحافظة عليها، ويعرف ما تقوم به المصلحة العامة وما يتوسل به إليها، وهو مرتبتان: القصاص وهو العدل، والعفو وهو الفضل، كأنه يقول: إن ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الأحكام، وما فيها من المنفعة للأنام، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان، فهو بلا لب ولا جنان، ولا رحمة ولا حنان"
(1)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [سورة البقرة: 203]، "ومن فوائد هذا الأسلوب أن تكرار الأمر بالذكر وبيان مكانة التقوى، ثم الأمر بها تصريحا في هذه الآيات التي فيها من الإيجاز ما هو في أعلى درجات الإعجاز، حتى سكت عن بعض المناسك الواجبة للعلم بها، كل ذلك يدلنا على أن المهم في العبادة ذكر الله تعالى الذي يصلح النفوس وينير الأرواح، حتى تتوجه إلى الخير وتتقي الشرور والمعاصي، فيكون صاحبها من المتقين، ثم يرتقي في فوائد الذكر وثمراته فيكون من الربانيين"
(2)
المطلب الثاني: الاستنباط باعتبار التركيب
وهو استخراج المعاني البديعة والفوائد الدقيقة، بطريقة ضم النصوص بعضها إلى بعض، وهو قسم رفيع دقيق برز فيه عِلمُ العلماء من السلف والخلف رحمهم الله وتبين به مقدار ما وهبهم الله تعالى من ذكاء العقول وزكاء النفوس
(3)
.
وهو ما يسميه ابن القيم "دلالة التركيب؛ وهو ضمُّ نصٍّ إلى نصٍّ أخر، وهي غير دلالة الاقتران، بل هي ألطف منها وأدقُّ وأصح"
(4)
.
وكان الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ممن برع في هذا النوع من الاستنباطات في تفسيره، ومن ذلك:
ـ قوله رحمه الله: عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [سورة البقرة: 17]، فبعد أن أورد قوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [سورة الزمر: 22]، وقوله:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} [سورة الحديد: 13 - 14]، في تفسير قوله تعالى:(ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)، "وفي هاتين الآيتين أصدق بيان للمراد من ذهاب الله بنورهم، وكونه ليس إجبارا لهم على الكفر، ولا عبارة عن سلبهم التمكن من الإيمان، وإنما هو تعبير عن سنة الله تعالى في عاقبة فتنتهم لأنفسهم"
(5)
، وكذا مثال
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 107).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 195).
(3)
منهج الاستنباط، فهد الوهبي 124.
(4)
إعلام الموقعين 1/ 273.
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 143).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 339).
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [سورة البقرة: 186]، "جاء في الحديث الذي رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن من طرق إلى أبي عثمان النهدي عن أبي موسى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم)، وفي رواية: أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير إذا علوا عقبة أو ثنية، وليس في هذه الروايات ذكر الآية ولكن الحديث في المقام؛ فإنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير المأمور به في الآية السابقة، فدلت الآية على ما صرح به الحديث من النهي، فكان الحديث تفسيرا لها، بل هو عمل بها، وذكره ابن عادل في تفسيره من أسباب نزولها"
(1)
.
ـ وقال أيضا رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [سورة البقرة: 136]، "ولعل نكتة اختلاف التعبير أن يشمل ما أوتي موسى وعيسى تلك الآيات التي أيدهما بها كما قال:(ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات)(17: 101)، وقال:(وآتينا عيسى بن مريم البينات)(2: 87)، ثم قال:(وما أوتي النبيون من ربهم) ليدل على أن ذلك لم يكن خاصا بموسى وعيسى والله أعلم "
(2)
.
ـ وقوله رحمه الله: عند قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة البقرة: 209]، "والتقييد بمجيء البينات والآيات دليل على أن من لم تبلغه الدعوة الصحيحة بالبينة والدليل لا يخاطب بهذا الوعيد، فحسبه حرمانه من هداية الأنبياء عليهم السلام، فكيف يطالب مع ذلك بما لا يعلم، ويجعل مع من عاند الحق من بعد ظهوره له في قرن؟! "
(3)
.
ـ وقوله رحمه الله: عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [سورة البقرة: 219]، "فإن آية البقرة تدل على التحريم بمقتضى القاعدة المعروفة عند الفقهاء، وهي تحريم ما تغلب المفسدة فيه على المصلحة، ويرجح الضرر فيه على النفع، وقد نطقت الآية بهذا الترجيح في الخمر والميسر (وإثمهما أكبر من نفعهما)، وهو ما فهمه بعض خواص الصحابة فتركوهما، ولم يكلف جميع المسلمين تركهما إلا بعد نزول آية المائدة التي هي نص قطعي لا يحتمل التأويل؛ إذ نطقت بأنهما رجس من عمل الشيطان، وصرحت بالأمر باجتنابه، وهو أبلغ من الأمر بالترك، وما من مسألة ذكرت في القرآن بنص غير قطعي الدلالة إلا ولله تعالى حكمة في عدم القطع بها"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 134).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 398).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 215).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 137).
ـ وقوله رحمه الله: عند قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة البقرة: 59]، "القاعدة أن ترتيب الحكم على المشتق يدل على أن مصدره علة له، كقوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (5: 38)، فالسرقة علة للقطع، والموصول مع صلته هنا كذلك"
(1)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [سورة البقرة: 158]، "وإن في طي (ولأتم نعمتي عليكم) (2: 150) بشارة بهذا الاستيلاء، مفيدة للأمل والرجاء، وقد علم الله المؤمنين بعد هذه البشارة ما يستعينون به على الوصول إليها هي وسائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة، وأشعرهم بما يلاقون في سبيل الحق من المصائب والشدائد، فكان من المناسب بعد هذا أن يذكر شيئا يؤكد تلك البشارة ويقوي ذلك الأمل، فذكر شعيرة من شعائر الحج هي السعي بين الصفا والمروة فكان ذكرها تصريحا ضمنيا بأن سيأخذون مكة ويقيمون مناسك إبراهيم فيها، وتتم بذلك لهم النعمة والهداية، وهو قوله عز وجل:(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)، فهذه الآية ليست منقطعة عن السياق السابق لإفادة حكم جديد لا علاقة له بما قبله كما توهم، بل هي من تتمة الموضوع ومرتبطة به أشد الارتباط، من حيث هي تأكيد للبشارة"
(2)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [سورة البقرة: 207]، "فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان، ثم بين أنه ما شرع هذا إلا رأفة بعباده، فقال: (والله رءوف بالعباد)، إذ يرفع همم بعضهم ويعلي نفوسهم حتى يبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده وتقرير الحق والعدل والخير فيهم، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (2: 251)، وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا، وألا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها، ولو كان كذلك - وهو من تكليف ما لا يطاق - لما قرنه الله تعالى باسمه الرءوف الدال على سعة رحمته بعباده، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه، ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم "
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 270).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 35)
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 204).
الفصل الثالث: طرق ودلالات الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره
.
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: الاستنباط بدلالة النص.
المبحث الثاني: الاستنباط بدلالة المفهوم.
المبحث الثالث: الاستنباط بدلالة الالتزام.
المبحث الرابع: الاستنباط بدلالة التضمن.
المبحث الخامس: الاستنباط بدلالة الاقتران.
المبحث السادس: الاستنباط بدلالة المطرد من أساليب القرآن.
تمهيد:
أنزل الله كتابة الكريم بأعظم لغة، وهي اللغة العربية تلك اللغة الثرية بألفاظها، ومعانيها ومدلولاتها، وقد اعتنى اللغويون والنحويون والأصوليون بهذه اللغة ومباحثها وتقسيماتها ودلالاتها كل فيما يهمه منها.
ومن أبرز علوم اللغة، علم الدلالات الذي يعنى باللفظ ومدلوله، وقد كانت بحوث اللغويين في علم الدلالات أسبق من غيرهم، ثم تلتها بحوث النحويين، ثم بحوث الأصوليين الذين اهتموا بدراسة المعنى ووضع قواعد وأصول لاستنباطه، فلم يكن ثمة فصل في هذا المجال بين البحث في طرق استنباط النص وبين البحث اللغوي، بل إن مباحث الدلالة عند اللغويين تأثرت بمباحث الأصوليين ومناهجهم في تقعيد فهم النص وتواتر استعمال مصطلح الدلالة في التعبير عن المعنى المستنبط من النصوص والألفاظ، فكان هذا هو الفرق بين اللغويين والأصوليين في تناول مفهوم اللفظ، فكان تركيز الأصوليين مرتبطاً بالدلالة دائماً، فكانت مهمة الأصوليين هي استنباط الأحكام من القول، أو من معناه، أو من علة الحكم
(1)
.
معنى الدلالات:
الدلالات لغة: جمع دلالة، مصدر دلّ يدلُّ دلالة، وهي التسديد إلى الشيء والإبانة والإرشاد
(2)
. وقيل: "الدال واللام أصلان: أحدهما إبانة الشيء بأمارة تعلمها، والآخر اضطراب في الشيء، فالأول قولهم: دللت فلانا على الطريق، والدليل: الأمارة في الشيء، وهو بين الدَّلالة والدِّلالة"
(3)
.
الدلالات اصطلاحا
(4)
:
جاءت تعريفات الأصوليين لـ (الدلالات) مختلفة في ألفاظها متفقة في معانيها، ومنها: وضع الشيء بحيث يفهم منه شيء آخر.
وقيل هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول: هو الدال والثاني: المدلول.
(1)
انظر: مدخل إلى علم الدّلالات، د. فتحية عبد الصمد عبيد، مجلة الحكمة العدد 49 - 1435 هـ، (212 - 222).
(2)
لسان العرب (11/ 249) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 199)
(3)
مقاييس اللغة (2/ 259).
(4)
انظر: مدخل إلى علم الدلالات 210، منهج الاستنباط من القرآن 288.
بحث الاصوليون العلاقة بين اللفظ والمعنى من حيثيات مختلفة:
- من حيث وضع اللفظ للمعنى، وينقسم إلى (خاص، وعام، ومشترك، ومؤول).
- من حيث استعمال اللفظ في المعنى وينقسم إلى (حقيقة، ومجاز، وصريح، وكناية).
-
من حيث وضوح اللفظ وخفائه
، انقسموا فيه إلى قسمين:
أ - طريقة الأحناف:
وهو نوعان:
الواضح ويشمل (الظاهر، والنص، والمفسر والمحكم).
وغير الواضح، ويشمل:(الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابة).
ب - طريقة الجمهور:
وهو نوعان:
الواضح، ويشمل (الظاهر، النص، ويشملهما المبين).
وغير الواضح، ويشمل:(المجمل، والمتشابة).
-
من حيث كيفية دلالته على المعنى
، انقسموا فيه إلى قسمين:
أ - طريقة الأحناف:
عبارة النص= دلالة العبارة.
إشارة النص= دلالة الإشارة.
دلالة النص= دلالة الدلالة.
اقتضاء النص= دلالة الاقتضاء.
ب - طريقة الجمهور
(1)
:
قسموا الدلالة على المعنى إلى قسمين:
1) المنطوق:
وينقسم إلى قسمين:
الأول: ما لا يحتمل التأويل، وهو النص،
ويشمل الصريح وغير الصريح.
وغير الصريح ينقسم إلى: دلالة اقتضاء - دلالة إيماء= التنبيه- دلالة إشارة.
الثاني: ما يحتمل التأويل وهو الظاهر.
2) المفهوم:
ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، بأن يكون حكما لغير المذكور وحالا من أحواله، وهو نوعان:
الأول: مفهوم الموافقة: وهو أن يكون حكم غير المذكور موافقا لحكم المذكور نفياً وإثباتا، ويسمى فحوى الخطاب (أي مفهومه)، وتنبيه الخطاب= لحن الخطاب.
الثاني: مفهوم المخالفة: وهو أن يكون حكم غير المذكور مخالفا لحكم المذكور نفيا وإثباتا، ويسمى دليل الخطاب.
والذي يدخل في بحث الاستنباطات هو ما كان ضمن الدلالات الخفية، كما سبق في تعريف الاستنباط، من أنه استخراج المعاني والاحكام الخفية، فما كان من الدلالات موصلا إلى ذلك فهو من طرق الاستنباط
(2)
.
(1)
أنواع الدلالة عندهم:
1 -
الدلالة المطلقة، وتشمل: ما دلالته وضعية، أو عقلية أو طبيعية غير لفظية، أو لفظية.
2 -
الدلالة اللفظية: وتنقسم إلى: دلالة طبيعية، دلالة عقلية، دلالة وضعية.
3 -
الدلالة الوضعية: وتنقسم إلى: دلالة المطابقة، دلالة التضمن، دلالة الالتزام.
(2)
منهج الاستنباط من القرآن 294.
المبحث الأول: الاستنباط بدلالة النص (مفهوم الموافقة)
النص في اللغة: يدل على رفع وارتفاع وانتهاء في الشيء، منه قولهم: نصَّ الحديث إلى فلان أي: رفعه إليه
(1)
.
وأما دلالة النص في الاصطلاح فهي: (ما ثبت بمعنى النص لغةً لا اجتهاداً ولا استنباطاً)
(2)
.
يقصد بهذه الدلالة: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق
(3)
.
"وهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأولى"
(4)
.
فهو "ما ثبت بمعنى النظم لغة لا استنباطا بالرأي، لأن للنظم صورة معلومة ومعنى هو المقصود به، فالألفاظ مطلوبة للمعاني وثبوت الحكم بالمعنى المطلوب باللفظ بمنزلة الضرب له صورة معلومة ومعنى هو المطلوب به، وهو الإيلام ثم ثبوت الحكم بوجود الموجب له فكما أن في المسمى الخاص ثبوت الحكم باعتبار المعنى المعلوم بالنظم لغة فكذلك في المسمى الخاص الذي هو غير منصوص عليه يثبت الحكم بذلك المعنى، ويسمى ذلك دلالة النص فمن حيث إن الحكم غير ثابت فيه بتناول صورة النص إياه لم يكن ثابتا بعبارة النص ومن حيث إنه ثابت بالمعنى المعلوم بالنص لغة كان دلالة النص ولم يكن قياسا فالقياس معنى يستنبط بالرأي مما ظهر له أثر في الشرع ليتعدى به الحكم إلى ما لا نص فيه لا استنباط باعتبار معنى النظم لغة"
(5)
.
وقد استخدم الشيخ محمد رشيد رحمه الله هذه الدلالة في أكثر من موضع، وقد يصرح بهذه الدلالة ومن ذلك:
ـ قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: عند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: 29]، قال:"إن هذه الجملة هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء إن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة"
(6)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سورة البقرة: 202]، "وقد بينت الآية صريحا أنهم يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم، وهذا نص فيما تقدم من معنى الدعاء وأنه لا بد أن يكون طلب اللسان مطابقا لما في النفس من الشعور بالحاجة إلى الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب والسعي في الطرق التي مضت سنة الله تعالى"
(7)
.
(1)
مقاييس اللغة لابن فارس (5/ 356).
(2)
أصول البزدوي، 1/ 241.
(3)
إرشاد الفحول للشوكاني 3/ 36
(4)
البرهان في أصول الفقه (1/ 166)
(5)
أصول السرخسي (1/ 241).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 206).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 192).
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [سورة آل عمران: 20]، "ومثل هذه الآية نص قاطع في حصر وظيفة الرسول بالبلاغ عن الله وأنه ليس مسيطرا على الناس ولا جبارا ولا مكرها لهم على الإسلام، وقد صرحت آيات أخرى بمفهوم الحصر في التبليغ يعرف مواقعها حفاظ القرآن والمكثرون من تلاوته"
(1)
.
• وأحيانا لا يصرح بهذه الدلالة:
ـ قال رحمه الله: عند قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [سورة آل عمران: 17]، "ويعلم مما تقدم أن تقديم ذكر الصابرين على ما بعده لأنه كالشرط إذ لا يتم بدونه الصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار في الأسحار"
(2)
(3)
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 215).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 207).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 266).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 6).
المبحث الثاني: الاستنباط بدلالة المفهوم (مفهوم المخالفة)
مفهوم المخالفة: "أن يكون المسكوت عنه مخالفاً لحكم المنطوق به، كقوله صلى الله عليه وسلم: (في الغنم السائمة الزكاة)، فالمنطوق السائمة، والمسكوت عنه: المعلوفة، والتقييد بالسوم يفهم منه عدم الزكاة في المعلومة، ويسمى دليل الخطاب، وتنبيه الخطاب"
(1)
.
والمتأمل في استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله يجد أنه اعتمد على هاتين الدلالتين في استنباطاته.
ومن أمثلة مفهوم الموافقة:
ـ قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة آل عمران: 59]، "وخطر لي الآن أنه يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع كن فيكون، والمعنى: ثم قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالا، ويظهر هذا في مثل قوله - تعالى -: {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} [6: 73]، ولو كان القول للتكليف لم يظهر هذا؛ لأن قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة، ولعل من تأمله حق التأمل لا يجد عنه منصرفا، والعطف بـ (ثم) لبيان التكوين الآخر يفيد تراخيه وتأخره عن الخلق الأول"
(2)
.
(1)
مذكرة في أصول الفقه (ص: 285).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 263).
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة آل عمران: 138]، "وإيضاح النكتة في جعل البيان للناس كافة، والهدى والموعظة للمتقين خاصة هو بيان أن الإرشاد عام، وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة فهو أنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقيقة، ويتعظون بما ينطبق عليهم من الوقائع فيستقيمون على الطريقة، هم الذين تكمل لهم الفائدة والموعظة لأنهم يتجنبون ويتقون نتائج الإهمال التي يظهر لهم أن عاقبتها ضارة، فليزن مسلمو هذا الزمان إيمانهم وإسلامهم بهذه الآيات"
(1)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة الأنعام: 5]، "وقد دلت الآية على ما جاء مصرحا به في سورة أخرى من استهزاء مشركي مكة والكلام فيهم بوعد الله ووعيده، وكذا بآياته ورسله، ولا حاجة إلى تقدير ذلك في الكلام، فهو وإن لم يقدر من بدائع إيجاز القرآن"
(2)
.
ـ وكذا قال رحمه الله عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة الأنعام: 123]، "وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل في عصرهم ودعاة الإصلاح من ورثتهم بعدهم إلا بأنفسهم وكذا سائر من يعادون الحق والعدل والصلاح لبقاء ما هم عليه من الفسق والفساد؛ لأن عاقبة هذا المكر السيئ تحيق بهم في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فالأمر ظاهر والنصوص واضحة، وأما في الدنيا فبما ثبت في الآيات من نصر المرسلين، وهلاك الكافرين المعاندين لهم، ومن علو الحق على الباطل ودمغه له، ومن هلاك القرى الظالمة المفسدة، وبما أيد ذلك من الاختبار، حتى صار من قواعد علم الاجتماع أن تنازع البقاء ينتهي ببقاء الأمثل والأصلح"
(3)
، وزاد:"وهذا نص فيما انفردنا بفهمه من أن هذه الآيات بيان لسنن الله تعالى في الاجتماع البشري"
(4)
ومن أمثلة استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا لمفهوم المخالفة:
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 118).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 253).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 30).
(4)
المرجع السابق (8/ 31).
ـ قوله رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الأنفال: 61]، وبعد أن ساق دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا))
(1)
، قال:"وهذا يؤيد ما دلت عليه الآية من أن الحرب ليست محبوبة عند الله، ولا عند رسوله لذاتها، ولا لما فيها من مجد الدنيا، وإنما هي ضرورة اجتماعية يقصد بها منع البغي والعدوان، وإعلاء كلمة الحق والإيمان، ودحض الباطل، واكتفاء شر عمله، بناء على سنة: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [سورة الرعد: 17]، وتسمى في عرف عصرنا سنة الانتخاب الطبيعي"
(2)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة يونس: 19]، "والآية تتضمن الوعيد على اختلاف الناس المفضي إلى الشقاق والعدوان، ولا سيما الاختلاف في كتاب الله الذي أنزله لإزالة الشقاق بحكمه، وإدالة الوحدة والوفاق منه"
(3)
.
(1)
رواه البخاري: كتاب الجهاد والسير باب لا تمنوا لقاء العدو ح (2861).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 44).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 269).
المبحث الثالث: الاستنباط بدلالة التضمن
المقصود بدلالة التضمن: هي دلالة اللفظ على جزء ما وضع له
(1)
.
وقد استخدم الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله هذه الدلالة في استنباطه للأحكام ومن ذلك:
ـ قول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: عند تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [سورة البقرة: 222]، "وهذا التعبير على لطفه ونزاهته وبلاغته وحسن استعارته تصريح بما فهم من قوله عز وجل:(فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أو بيان له، فهو يقول: إنه لم يأمر بإتيان النساء الأمر التكويني بما أودع في فطرة كل من الزوجين من الميل إلى الآخر، والأمر التشريعي بما جعل الزواج من أمر وأسباب المثوبة والقربة إلا لأجل حفظ النوع البشري بالاستيلاد، كما يحفظ النبات بالحرث والزرع، فلا تجعلوا استلذاذ المباشرة مقصودا لذاته فتأتوا النساء في المحيض حيث لا استعداد لقبول زراعة الولد وعلى ما في ذلك من الأذى، وهذا يتضمن النهي عن إتيانهن في غير المأتى الذي يتحقق به معنى الحرث"
(2)
.
(1)
الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 120)، نهاية السول شرح منهاج الوصول (ص: 85)، البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 269).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 287).
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [سورة آل عمران: 144]، "وفي هذه الآية من الهداية والإرشاد أيضا أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب وعدمه متعلقا بوجود القائد بحيث إذا قتل ينهزم الجيش أو يستسلم للأعداء، وإن الأمة التي تقدر هذه الهداية حق قدرها تعد لكل علم تحتاج إليه ولكل عمل تقوم مصالحها به رجالا كثيرين، فلا تفقد معلما ولا مرشدا ولا حاكما ولا قائدا ولا رئيسا ولا زعيما إلا ويوجد فيها من يقوم مقامه ويؤدي لها من الخدمة ما كان يؤديه، فهي لا تحصر الاستعداد لشيء من الأشياء في فرد من الأفراد، ولا تقصر القيام بأمر من الأمور على نابغ واحد من النابغين، قاعدة الاعتماد على التحقق بالعلوم والنهوض بالأعمال دون الاتكال على أفراد الرجال
(1)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [سورة المائدة: 88]، "والأمر بالتقوى في هذا المقام أوسع معنى وأعم فائدة من النهي عن الإسراف في آية الأعراف التي أوردناها آنفا، فهو من باب الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد، وبه يدفع إشكال من عساه يقول: إن الدين شُرع لتزكية النفس، والتمتع بالشهوات واللذات ينافي التزكية وإن اقتصر فيه على المباحات"
(2)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [سورة المائدة: 101]، "وهذه الآية تدل على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو على أنه لا يقع، وقد غفل جمهور الأصوليين عن الاستدلال بها، وبيان ذلك أن ما يسأل عنه إما أن يكون مما يطلب العلم به كالعقائد والأخبار، وإما أن يكون مما يطلب العمل به وهو الأحكام، وتأخير البيان - دع تركه وعدمه - يقتضي الإقرار على الاعتقاد الباطل، أو العمل بغير الوجه المراد للشارع، إلا أن يكون من شرعه تركه الاجتهاد للناس توسعة عليهم، ولا يدخل في هذا ولا ذاك السؤال عن الأمور الشخصية كسؤال من سأل عن ناقته، ولذلك جعلنا هذا النوع من السؤال غاية في خفاء دخوله في عموم: (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) فإن كان داخلا فيه فحكمته والله أعلم أن عدم إبداء الجواب للسائل المؤمن ربما كان مشككا له في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم "
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 135).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 25).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 114).
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الأنعام: 115]، "أما تمامها صدقا فهو وقوع مضمونها من حيث كونها خبرا، وأما تمامها عدلا فمن حيث كونها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون، وللمؤمنين المهتدين بما يستحقون، وإن كانوا بمقتضى الفضل يزادون، وإذا كانت هذه الآية نزلت بمكة قبل نصر الله تعالى نبيه على طغاة قومه في بدر وغيرها، فالفعل الماضي فيها " تمت " بمعنى المستقبل، فهو لتحقق وقوعه كأنه وقع، وهذا من ضروب المبالغة البليغة"
(1)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 11).
المبحث الرابع: الاستنباط بدلالة الالتزام
المقصود بدلالة الالتزام: دلالة اللفظ على كل ما يفهم منه غير المسمى سواء كان داخلا فيه أو خارجا
(1)
.
وقد اعتنى الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله باستخدام هذه الدلالة في استنباطاته، ومن ذلك:
ـ قول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: عند قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [سورة النساء: 80]، "الآية تدل على أن الله - تعالى - هو الذي يطاع لذاته؛ لأنه رب الناس وإلههم وملكهم، وهم عبيده المغمورون بنعمه، وأن رسله إنما تجب طاعتهم فيما يبلغونه عنه من حيث إنهم رسله لا لذاتهم، ومثال ذلك الحاكم تجب طاعته في تنفيذ شريعة المملكة وقوانينها، وهو ما يعبرون عنه بالأوامر الرسمية، ولا تجب فيما عدا ذلك"
(2)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام: 45]، "ووضع المظهر الموصوف بالموصول موضع المضمر؛ للإشعار بعلة الإهلاك وسببه وهو الظلم، ولا بد من زهوق الباطل فظهور الحق"
(3)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [سورة الأعراف: 148]، "فعلم بهذا أن من شأن الرب الإله الحق أن يكون متكلما، وأن يكلم عباده، ويهديهم سبيل الرشاد باختصاصه من شاء منهم وإعداده لسماع كلامه، وتلقي وحيه، وتبليغ أحكامه"
(4)
.
(1)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 121)، نهاية السول شرح منهاج الوصول (ص: 85)، البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 269).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 225).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 348).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 174).
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [سورة يونس: 59]، قال:"هاتان الآيتان في إقامة الحجة على منكري الوحي من المشركين بفعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون فيه، تعزيزا لما تقدم من أنواع الحجج العقلية على إثباته، ودفع شبهاتهم عليه وهذه الحجة مبنية على قاعدة كون التشريع العملي في التحريم والتحليل هو حق الله تعالى وحده، وقاعدة كون الأصل في الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الخلق الإباحة، وقاعدة كون انتحال العبيد حق التشريع الخاص بربهم افتراء عليه وكفرا به، يستحق فاعلوه أشد عقابه، وهو يتضمن الشهادة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كونه مبلغا لهذا القرآن عنه تعالى"
(1)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 334 - 335).
المبحث الخامس: الاستنباط بدلالة الاقتران
المقصود بها: الاستدلال بالجمع بين شيئين أو أكثر في سياق واحد على اتحاد في حكمهما
(1)
.
واختلف العلماء في حجية
(2)
هذه الدلالة من حيث القوة والضعف، ولذا لم نجد الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله يكثر منها ومن ذلك:
ـ ما قاله رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة البقرة: 143]، "أي وما كان من شأن الله في حكمته ورحمته أن يضيع إيمانكم الباعث لكم على اتباع الرسول في الصلاة والقبلة، فلو كان نسخ القبلة مما يضيع الإيمان بنقضه أو نقصه أو فوت ثواب ما كان قبله لما نسخها"، ثم قال:"فأراد الله أن يبين لهم أنه يتقبل من الصلاة ما كان أثر الإيمان الخالص؛ أي: متى كنتم تصلون إيمانا واحتسابا لا رياء ولا سمعة، فصلاتكم مقبولة؛ لأنها أثر الإيمان الراسخ في القلب المصلح للنفس، فتسمية الصلاة على هذا إيمانا ليس لأنها أعظم أركان الدين، بل للإشارة إلى أن مزيتها في منشئها الباعث عليها من الإيمان والإخلاص، ولذلك يقرن الإيمان دائما بذكر الصلاة والزكاة، فالصلاة آية الإيمان القلبية الخفية؛ لأنها لا تكون آية إلا بإخلاص القلب، والزكاة هي الدليل الحسي الظاهر عليه "
(3)
.
(1)
انظر: منهج الاستنباط، فهد الوهبي 327
(2)
انظر: الأشباه والنظائر للسبكي (2/ 193)، البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 109)، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (2/ 197)، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (ص: 381).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 9).
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة البقرة: 269]، "ثم أقول إيضاحا للمقام: إن الله جعل الخير الكثير مع الحكمة في قرن، فهما لا يفترقان كما لا يفترق المعلول عن علته التامة، فالحكمة: هي العلم الصحيح المحرك للإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير، وآلة الحكمة هي العقل السليم المستقل بالحكم في مسائل العلم، فهو لا يحكم إلا بالدليل، فمتى حكم جزم فأمضى وأبرم، فكل حكيم عليم عامل مصدر للخير الكثير؛ ولذلك قال تعالى:(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)، أي وقد جرت سنته - تعالى - بأنه لا يتعظ بالعلم ويتأثر به تأثرا يبعث على العمل إلا أصحاب العقول الخالصة من الشوائب، والقلوب السليمة من المعايب، وهو تذييل يؤيد ما تقدم في تفسير الحكمة، فنسأله -تعالى- أن يجعلنا من أولي الألباب المؤيدين بالحكمة وفصل الخطاب"
(1)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران: 179]، قال:"وقرنتم بالإيمان تقوى الله - تعالى - بترك المنهيات، وفعل المأمورات بقدر الاستطاعة، فلكم أجر عظيم لا يقدر قدره لا يعرف كنهه. لز التقوى هاهنا مع الإيمان في قرن، وترتيب الأجر عليهما معا هو الموافق للآي الكثيرة في الذكر الحكيم، وهي أظهر، وأشهر، وأكثر من أن ينبه عليها بالشواهد كلما ذكر شيء منها"
(2)
.
ـ وقال رحمه الله: عند قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [سورة الأنعام: 28]، قال:"ويستنبط من الآية أن الطريقة المثلى لإقامة الناس على صراط الحق والفضيلة إنما هي حملهم على ذلك بالعمل والتعويد، مع التعليم وحسن التلقين، كما يربى الأطفال في الصغر، وكما يمرن الرجال على أعمال العسكر، وأن من أكبر الخطأ أن يسمح للأحداث بطاعة شهواتهم، واتباع أهوائهم، بشبهة تربيتهم على الحرية والاستقلال، الذي يهديهم إلى الحق والفضيلة بما يفيدهم العلم في سن الرشد من الاقتناع بطرق الاستدلال"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 65).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 209).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 297).
المبحث السادس: الاستنباط بدلالة المطرد من أساليب القرآن
المراد بأسلوب القرآن: طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه
(1)
، والاطراد مأخوذ من اطّرد الشيء: إذا تبع بعضها بعضا، واطرد الكلام: إذا تتابع، ويقال: واطرد الأمر: استقام
(2)
.
والمراد بالمطّرد من أسلوب القرآن: تتابع الأفعال، واختيار الألفاظ تجاه أمر ما في القرآن الكريم
(3)
.
وعليه فالقول الذي يوافق استعمال القرآن سواء كان استعمالا أغلبياً: بأن كان لموضع النزاع نظائر وقع فيها النزاع، ولكن الكثرة الكاثرة من الاستعمال هي مما اتفق على معناه، أو مطردا: بأن يكون استعمالها في جميع مواردها في القرآن متفقاً عليه، غير موضع الخلاف بأن يقول مفسر قولاً في آية جميع نظائرها في القرآن على خلاف هذا القول أو عادة في أسلوب القرآن
(4)
.
ـ قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: عند تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [سورة البقرة: 43]، "فأتني أن أذكر ما أفهمه أنا في هذا الأمر بعد الأمرين، وهو أنه أمر بصلاة الجماعة أي: صلوا مع المصلين لا فرادى، ومثله في أمر مريم عليها السلام، فقال لها (مع الراكعين) دون الراكعات لأن تغليب الذكور في صلاة الجماعة أظهر من تغليبهم في الصلاة مطلقاً"
(5)
.
(1)
مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 303).
(2)
تهذيب اللغة (13/ 212)، مقاييس اللغة (3/ 456).
(3)
منهج الاستنباط - فهد الوهبي (338)
(4)
أنظر: قواعد الترجيح عند المفسرين، حسين الحربي (1/ 153).
(5)
تفسير المنار (1/ 402).
الفصل الرابع: القيمة العلمية لاستنباطات الشيخ محمد رشيد رضا
.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تأثر الشيخ محمد رشيد رضا باستنباطات المفسرين قبله، وموقفه منها.
المبحث الثاني: مميزات استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا وأثرها فيمن بعده.
المبحث الأول
تأثر الشيخ محمد رشيد رضا باستنباطات المفسرين قبله، وموقفه منها
هذا المبحث متعلق بمبحث منهج الشيخ محمد رشيد رحمه الله في تفسيره، وقد مر بنا أن هذا التفسير مر بمرحلتين، مرحلة التلقي والتحرير من قبل الشيخ رحمه الله، والموافقة على ما كتب من قبل الشيخ محمد عبده رحمه الله، وما تميزت به هذه المرحلة من بعض التعليقات الخاصة بالشيخ محمد رشيد رحمه الله، وأنه كان يسبقها بعبارات لتمييزها عن عبارات الشيخ محمد عبده رحمه الله.
وهذه المرحلة لم يتطرق فيها إلى إثبات ما تم الاستفادة منه من كتب التفسير، إلا أن أغلبها موافقة لما في تفسير البيضاوي، والجلالين.
أما المرحلة الثانية، وهي التي استقل فيها الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله بكتابة التفسير بعد وفاة الشيخ محمد عبده رحمه الله فإنها كذلك مرت بمرحلتين:
الأولى: مرحلة السير على خطى شيخه، وقد كانت له طريقة في النقل عن شيخه محمد عبده فكان يضع نقوله بين علامتي تنصيص " "، كما قال:(وقد بين الأستاذ الإمام النوع الأول في رسالة التوحيد أكمل بيان، بأوضح برهان، واختصر في بيان النوع الثاني، فقال: " أما أرباب النفوس والعقول السامية من العرفاء، ممن لم تدن مراتبهم من مراتب الأنبياء، ولكنهم رضوا أن يكونوا لهم أولياء، وعلى شرعهم ودعوته أمناء: فكثير منهم نال حظه من الأنس، بما يقارب تلك الحال في النوع أو الجنس، لهم مشارفة في بعض أحوالهم على شيء من عالم الغيب، ولهم مشاهد صحيحة في عالم المثال لا تنكر عليهم لتحقق حقائقها في الواقع، فهم لذلك لا يستبعدون شيئا مما يحدث به من الأنبياء صلوات الله عليهم، فلم يبق بين المنكرين لأحوال الأنبياء ومشاهدهم وبين الإقرار بإمكان ما أنبئوا به بل بوقوعه إلا حجاب من العادة، وكثيرا ما حجب العقول حتى عن إدراك أمور معتادة")
(1)
.
المرحلة الثانية: مرحلة العودة إلى منهج السلف في التفسير بالمأثور، وهنا يظهر مدى عناية الشيخ محمد رشيد بكتب السلف والإفادة من استنباطاتهم، وقد تميزت هذه المرحلة بالتالي:
ـ التصريح بمصطلح التفسير بالمأثور من بداية الجزء السابع فقال: "وروى أهل التفسير المأثور قولا بأن المراد بالقسيسين والرهبان من آمن بعيسى في عهده كالحواريين، وقولا آخر: المراد بهم جماعة النجاشي، وسيأتي بعض ما ورد في ذلك ومن الناس من يجعل هذه الآية آخر الجزء السادس، لأن التجزئة لا تراعى فيها المعاني"
(2)
.
ـ اعتماده على تفاسير كثير من الصحابة واستنباطاتهم، ومن ذلك قوله:"من استنباط أم المؤمنين خديجة في حديث أم المؤمنين عائشة في بدء الوحي فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لخديجة رضوان الله عليها: " لقد خشيت على نفسي، قالت له: كلا، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق "، هذا لفظ مسلم"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 266 - 267).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 11).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 34).
ـ أكثر الشيخ من النقل عن كثير من المفسرين، ومن ذلك كثرة نقوله عن الرازي، قوله:"قال الإمام الرازي: وبيان التفاوت من وجوه: أحدها أن قوله: (ولكم في القصاص حياة) أخصر من الكل; لأن قوله: (ولكم) لا يدخل في هذا الباب إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك، وإذا تأملت علمت أن قوله: (في القصاص حياة) أشد اختصارا من قولهم: القتل أنفى للقتل؛ أي لأن حروفه أقل"
(1)
.
ورده عليه فقال عند قوله: " (وهو قائم يصلي في المحراب) فالظاهر من معناه المتبادر عندي أنه نودي وهو قائم يدعو بذلك الدعاء الذي ذكر هنا مختصرا، وذكر في سورة مريم بأطول مما هنا، فالصلاة دعاء والدعاء صلاة، وقد عطف فنادته الملائكة على ما قبله بالفاء وحكاية ما قبله صريحة في كون الدعاء وقع في المحراب الذي كانت مريم فيه، فقول الرازي: إن الآية تدل على أن الصلاة مشروعة عندهم غريب جدا، وأي دين لا صلاة فيه ولا دعاء؟ "
(2)
.
ونقل عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ال الشيخ
(3)
، فقال:"قال الشيخ الفاضل مفتي الديار النجدية عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ابن سليمان بن علي في كتابه "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" في باب ما جاء في الذبح لغير الله قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) في الكلام على قوله تعالى: (وما أهل به لغير الله) الظاهر أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 105).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 244).
(3)
العلامة المشهور، عبد الرحمن بن حسن ال الشيخ، صاحب التاريخ الحافل بالجهاد والكفاح، والمشرق بالدعوة والإصلاح، الذي كرس جهده، وأوقف حياته في بث العلم ونشره وجرد قلمه في الذب عن دعوة الإسلام، وعقيدة التوحيد، ولد سنة 1193 هـ، في بلدة الدرعية، جلس يدرس علم التوحيد والفقه، وانتهت إليه رئاسة العلم في زمنه بنجد فأصبح مرجع علمائها وشيخهم، له: بيان كلمة التوحيد، و فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، توفي 1285 هـ، انظر مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 58 - 69).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 24).
والمتأمل في تفسير الشيخ، يجد أن الشيخ كان يتمتع بفهم ونقد ومراجعة لمن ينقدهم ومن ذلك مثلا انتقاده للإمام الألوسي في مسألة إيمان والد إبراهيم عليه السلام فقال بعد أن حرر القول في هذه المسألة:"هذا وإنني بعد كتابة ما تقدم وجمعه للطبع عثرت بالمصادفة على ما كتبه الألوسي في مسألة استغفار إبراهيم لأبيه من تفسير سورة الممتحنة، فإذا هو مبني على رجوعه عن هفوته التي نقلناها عنه وانتقدناها عليه، وحملنا ذلك على مراجعة ما كتبه في المسألة من تفسير سورة التوبة"
(1)
.
ـ ذكره لاستنباطات بعض الفقهاء ولم يحدد من هم، ومن ذلك قوله:"استنبط بعض الفقهاء في هذا المقام مسألة جعلوها محل النظر والاجتهاد، وهي: هل العبرة في حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم بمن كانوا يدينون بالكتاب كالتوراة والإنجيل كيفما كان كتابهم وكانت أحوالهم وأنسابهم، أم العبرة باتباع الكتاب قبل التحريف والتبديل، وبأهله الأصليين; كالإسرائيليين من اليهود؟ "
(2)
.
وقوله: "وقد استنبط بعضهم من الآية تحريم القول في الدين بمجرد التقليد وعصبية المذاهب، لأن ذلك من اتباع الأهواء بغير علم، إذ المقلد غير عالم بما قلد فيه وذلك بديهي في العقل، ومتفق عليه في النقل، قال الرازي: دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد قول بمحض الهوى والشهوة والآية دلت على أن ذلك حرام"
(3)
.
وقد يذكر استنباطا ولا يذكر من قال به: "وقد استنبط من الآية أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، ولا في الفضائل والفواضل من العادات، كقرى الضيوف، وإغاثة الملهوف، وسائر عمل المعروف، ويعجبني قول بعض العلماء ما معناه: من قال لك: أتأكل؟ هل آتيك بكذا من الفاكهة أو الحلوى مثلا؟ فقل له: لا، فإنه لو أراد أن يكرمك لما استأذنك"
(4)
.
تأثيره فيمن بعده:
كان ممن عاصر الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله عدد من أهل العلم منهم الشيخ عبد الرحمن بن سعدي
(5)
رحمه الله، وكان بينهما مكاتبات ومتابعات فمن المكاتبات بينهما ما جاء في مجلة المنار بعنوان"من عنيزة إلى قاهرة مصر، في رجب سنة 1346 هـ
(1)
المصدر السابق (7/ 461).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 148).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 18).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 405).
(5)
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي الناصري التميمي الحنبلي، ولد في مدينة عنيزة بالقصيم سنة 1307 هـ، حفظ القرآن، وقرأ الحديث والتوحيد والتفسير والفقة وأصوله والنحو على يد عدد من علماء عصره، وتأثر بابن تيمية وابن القيم، وتتلمذ علي يده عدد طلبة العلم من أشهرهم الشيخ ابن عثيمين، وله مصنفات كثيرة نافعة من أهمها كتابه في التفسير"تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن"، توفي عام 1376 هـ. مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 256 - 260).
بسم الله الرحمن الرحيم
أبعث جزيل التحيات، ووافر السلام والتشكرات، لحضرة الشيخ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم حرسه الله تعالى من جميع الشرور، ووفقه وسدده في كل أحواله آمين، أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فالداعي لذلك ما اقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بها الشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصر الإسلام والمسلمين، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم، وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة، وأنعم عليكم بنعمه الظاهرة والباطنية، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثًا واسعًا لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون وأنفعها لشدة الحاجة"
(1)
.
وكان الرد من الشيخ محمد رشيد: " إننا لا نألو جهدًا في الرد على كل ما نطلع عليه من البدع المخالفة لكتاب الله والصحيح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الدعوة إليهما على الوجه الذي كان عليه جمهور السلف الصالح، وفي الرد على خصومهما كما يرى في مقالة أعداء الإسلام من هذا الجزء، والذي نعلمه أن بدعة وحدة الوجود وفلسفة اليونان في الإلهيات والرسالة التي فتن الناس بها الباطنية وغيرهم في عصرهم قد نسخت وزالت في هذا العصر فلم يبق لهم دعاة، وإن كان لها اتباع قليلون"
إلى أن قال: "ونرجو أن يقرأ أخونا صاحب هذه الرسالة الجزء الأول من تفسير المنار المشتمل على هذا البحث ويكتب إلينا بما يراه فيه، فإنني كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطلع بعض علماء نجد على المنار ويفتح بيني وبينهم البحث والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقدًا لينجلي وجه الصواب فيها"
(2)
.
وممن صرح بتأثره بالشيخ محمد رشيد رضا، الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله حيث قال:"تأثرت بمنهاجِ الشيخِ محمد رشيد رضا لأنهُ جيدٌ في عقدِ المسائل، وفي إتحافِهِ الفكريِ، وإن كان عليه بعض ما أخطأ ولا أحد يسلَمُ إلا المعصومُ"
(3)
.
ونقل عنه من كتاب (الوحي المحمدي)
(4)
، وكذا ينقل اختياراته في بعض المسائل التي فاقت العشرين مسألة فكان يقول:"واختار هذا القول أيضا من المتأخرين الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، وشيخنا عبد الرحمن السعدي"
(5)
.
(1)
مجلة المنار (29/ 143).
(2)
مجلة المنار (29/ 143).
(3)
(شريط: رحلة الشيخ في طلب العلم)، وأذيع هذا اللقاء في البرنامج العام في الإذاعة السعودية 15/ 10/ 1403 هـ).
(4)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (5/ 308).
(5)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (15/ 277).
غير أني لم ألحظ ذلك التأثير الواضح فيمن استفاد من استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا، ولعل ذلك يرجع إلى أسباب، من أهمها:
- تأخر وفاة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، فتفسيره يعد من التفاسير المتأخرة، وأكثر طلبة العلم يرجع إلى المتقدم في هذا المجال.
- طلاب الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله لم يعتنوا بتفسيره أو مؤلفاته، تلك العناية التي لاقاها غيره من المفسرين كعناية القنوجي بكتب الشيخ الشوكاني وتفسيره، فما عرف من طلابه إلا علامة الشام محمد بهجت البيطار، الذي أكمل تفسير سورة يوسف فقط.
- انتهاج الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله منهج المدرسة العقلية، الذي جعل كثيرا من طلاب العلم يحجم عن قراءة تفسيره والاستفادة منه.
المبحث الثاني
مميزات استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، وأثرها فيمن بعده
تميزت استنباطات الشيح محمد رشيد رضا بمميزات منها:
1.
انفرد الشيخ محمد رشيد باستنباطات لم أقف عليها عند أحد ممن سبقه فيما اطلعت عليه، وهي:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أهمية علم التاريخ، من قول الله تعالى:{الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
[سورة الفاتحة: 7]، "ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات"
(1)
.
ب - استنبط حق المطلقة من قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [سورة البقرة: 233]، "أن للمطلقة الحق في إرضاع ولدها كسائر الوالدات، وأنه ليس للمطلق منعها منه وهو عرضة لهذا المنع"
(2)
.
ت - استنبط معنى السعادة الحقة من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة: 254]، "أن السعادة الدنيوية الحقيقية التي يعرفها الشرع ويؤيده الاختبار والعقل، هي في الأنفس لا في الآفاق؛ أعني أنها لا تنال بإسعاد الأخلاء، ولا بشفاعة الشفعاء، إنما العمدة فيها على اعتدال النفس في أخلاقها وأعمالها، وصحة عقائدها ومعارفها، ويتبع هذا في الغالب صحة الجسم، وسهولة طرق الرزق، والسلامة من الخرافات والأوهام التي تفتك بالعقول والأجسام"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 56).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 324).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 16).
ث - استنبط علة الحكم من قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة آل عمران: 72]، "يظهر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه؛ لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين"
(1)
.
ج - استنبط سبب الكيد للمؤمنين، من قوله تعالى:{وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [سورة آل عمران: 73]، قال:"سبب كيدهم للمؤمنين ليرجعوا وكراهتهم أن يحاجهم بعض المؤمنين عند ربهم هو سبب كتمانهم ذلك عمن لم يتبع دينهم أو عدم الإيمان لهم إذا هم ادعوه"
(2)
.
ح - استنبط استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم، من قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [سورة المائدة: 4]، قال:"مراعاة استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم؛ لأن إغفالها ينسيها ما تعلمت"
(3)
.
خ - استنبط أهمية علم الاجتماع من قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [سورة الأنعام: 31]، قال:"إن هذه الآية وما في معناها من الآيات - كآية هود - من قواعد علم الاجتماع البشري الذي لا يزال في طور الوضع والتدوين"
(4)
.
د - استنبط دلالة اختلاف العطف في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [سورة هود: 94]، قال:"ومن دقيق نكت البلاغة في الآيات قوله -تعالى -في إهلاك مدين هنا: -ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا -إلخ، فعطف " لما " على ما قبلها بالواو، ومثله في قوم هود، ولكنه عطفها بالفاء في قصة ثمود وقصة قوم لوط، ووجه هذا الأخير أن الآيتين جاءتا عقب الإنذار بالعذاب واستحقاقه وحلول موعده فعطفتا بالفاء الدالة على التعقيب، وأما عطف مثلهما في قوم هود وقوم شعيب فليس كذلك"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 275).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 278).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 142).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 96).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 124).
2.
تميزت استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله بتأصيل لبعض العلوم كعلم التاريخ وعلم الاجتماع.
3.
غلب على بعض استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أنه من آية واحدة كما سبق بيانه في مبحث الاستنباط باعتبار الإفراد.
4.
تميز الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله بالاستنباط من ضم نص إلى نص وهو ما عبر عنه بالاستنباط بدلالة التركيب كما سبق بيانه.
5.
دلت أغلب استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله العقدية على سلامة منهجه وأنه سلفي المنهج.
6.
تميزت استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله بشمولها لجميع أنواع العلوم، واستخدم فيها جل الدلالات التي تصل به إلى المعنى المنشود.
7.
لم تسلم استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله من الخطأ في دلالتها على المعنى، فعند قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [سورة النساء: 1]، قال:"إذا كان جماهير المفسرين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها بل من المسألة المسلمة عندهم، وهي أن آدم أبو البشر"
(1)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 266).
القسم الثاني
جمع استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا في التفسير
ودراستها حسب ترتيب سور المصحف وآياته.
الاستنباطات في سورة الفاتحة
[اتساع اسم (الله) الأعظم لمعاني الأسماء ولوازمها]
قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة: 1]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "من عرف الأسماء الحسنى، والصفات العليا، عرف أن اسم الجلالة الأعظم (الله) يدل عليها كلها وعلى لوازمها الكمالية وعلى تنزهه عن أضدادها السلبية، فدل هذا الاسم الأعلى على اتصاف مسماه بجميع صفات الكمال، وتنزهه عن جميع النقائص"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الأسماء والصفات، في مسألة اتساع اسم (الله) الأعظم لمعاني الأسماء ولوازمها، وتنزهة عن أضدادها، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: بين الشيخ أن اسم الله الأعظم يتسع لأسماء الله، الذي هو اسم علم على الله عز وجل، وإليه ترجع جميع الأسماء والصفات والمعاني، كما قال جل ثناؤه:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [سورة الحشر: 22 - 23]
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 38).
وإلى هذا المعنى أشار ابن كثير
(1)
وزاد: "فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}، وقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110] "
(2)
، ومثله ابن جرير، والرازي، والقرطبي
(3)
، والسيوطي
(4)
(5)
قال ابن القيم: "اسم الله دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا بالدلالات الثلاث، فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له مع نفي أضدادها عنه، وصفات الإلهية: هي صفات الكمال، المنزهة عن التشبيه والمثال، وعن العيوب والنقائص، ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180]، فعلم أن اسمه الله مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله، واسم الله دال على كونه مألوها معبودا، تؤلهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، وفزعا إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله"
(6)
.
(1)
عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، أبو الفداء، ولد سنة 701 هـ في بُصْرى الشام، الحافظ المفسر، صنف التصانيف التي من أهمها: تفسير القرآن العظيم المعروف بتفسير ابن كثير، والبداية والنهاية في التاريخ، وشرح صحيح البخاري، وغير ذلك، توفي في دمشق سنة 774 هـ. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 445)، ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 239)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 111).
(2)
تفسير القران العظيم، ابن كثير (1/ 122).
(3)
محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري، الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله، القرطبي: من كبار المفسرين، صالح متعبد، من أهل قرطبة، رحل إلى الشرق واستقر بمنية ابن خصيب في شمالي أسيوط، بمصر، وتوفي فيها سنة 671 هـ. له: الجامع لأحكام القرآن، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. طبقات المفسرين للسيوطي (1/ 92)، طبقات المفسرين للداوودي (2/ 69).
(4)
جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد السيوطي المعروف بابن الأسيوطي، ولد بالقاهرة سنة 849 هـ، أخذ العلم على يد كثير من علماء الشافعية، والمالكية والحنابلة، زادت مؤلفاته على خمسمائة مؤلف منها:"الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، و"الإتقان في علوم القرآن"، توفي سنة 911 هـ. انظر: ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 223 - 226).
(5)
جامع البيان (1/ 206)، مفاتيح الغيب (1/ 110)، الجامع لأحكام القرآن (1/ 102)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (1/ 23).
(6)
مدارج السالكين (1/ 55 - 56).
[التاريخ سجل الأمم وبه تعرف أسباب السعادة والشقاوة]
قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}
[سورة الفاتحة: 7]
2.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "إذا امتثلنا الأمر والإرشاد، ونظرنا في أحوال الأمم السالفة، وأسباب علمهم وجهلهم، وقوتهم وضعفهم، وعزهم وذلهم، وغير ذلك مما يعرض للأمم كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم فيما كان سبب السعادة والتمكن في الأرض، واجتناب ما كان سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار، ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا علميا، في باب علم التاريخ، في مسألة التاريخ سجل الأمم وبه تعرف أسباب السعادة والشقاء، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: هذه الآية نبهت إلى أهمية علم التاريخ ومكانته، لأنه سجل معرفة أحوال المغضوب عليهم والضالين، ومعرفة أسباب السعادة والشقاوة، واستبانة سبيل الصالحين وسبيل الغاوين، وهذا استنباط دقيق حول مكانة وأهمية علم التاريخ والسير.
وهذا المعنى لم يشر إليه أحد من المفسرين، فيما اطلعت عليه عند تفسير هذه الآية، إلا أن هناك من وافق الشيخ في عنايته واهتمامه بعلم التاريخ من بعض المفسرين.
منهم الشيخ ابن سعدي رحمه الله حيث قال: "أنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ"
(2)
.
وابن عاشور
(3)
رحمه الله حيث قال: "أهمية علم التاريخ لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 56).
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 134).
(3)
محمد الطاهر ابن عاشور، رئيس المفتين المالكيين بتونس، وشيخ جامع الزيتونة، ولد عام 1296 هـ، وهو من أعضاء المجمعين العربيين في دمشق والقاهرة، له مصنفات مطبوعة، من أشهرها (مقاصد الشريعة الإسلامية) و (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) و (التحرير والتنوير) في تفسير القرآن، توفي عام 1393 هـ بتونس، الأعلام للزركلي (6/ 174).
(4)
التحرير والتنوير (3/ 227).
الاستنباطات في سورة البقرة
[النفقة المشروعة تكون في بعض المال لا كله]
قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [سورة البقرة: 3]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "يدل على أن النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان لا كل ما يملك، فهو ركن من أركان الاقتصاد، والإنفاق في سبيل الله أظهر آيات الإيمان الصحيح"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب النفقة، في مسألة الدعوة إلى الاعتدال والترشيد في النفقة، وبيان أن النفقة المشروعة تكون في بعض المال لا كله، حتى في الإنفاق في سبيل الله تعالى، بدلالة مفهوم الآية.
وجه الاستنباط: المراد من النفقة المشروعة، سواء كانت النفقة واجبة كالزكاة أو صدقة تطوع، أن تكون في بعض ما يملكه الإنسان لا كل ما يملكه، كما أشار إلى معنى آخر دقيق حيث ربط بين مسألة الدعوة إلى الاعتدال والترشيد في النفقة، وبين ما يعبر عنه اليوم في علم الاقتصاد بالتكافل الاجتماعي، وهو ما أشار إليه بقوله:"وهو ركن من أركان الاقتصاد"، وهو ما عبر عنه علماء الاقتصاد، أنه الركن الثالث من أركان الاقتصاد
(2)
.
وقد بين كثير من المفسرين أن معنى "من" هنا للتبعيض، أي بعض ما يملك الإنسان لا كله لما في ذلك من الاعتدال وعدم الإسراف، منهم الزمخشري، والبيضاوي، والنسفي
(3)
، وأبو السعود
(4)
، وابن عاشور، والسعدي، والشوكاني
(5)
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 109).
(2)
انظر: الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة، علي أحمد السالوس، ط: 1428 هـ، دار الثقافة -الدوحة قطر، والنظام الاقتصادي في الإسلام، د/ مسفر بن علي القحطاني، 1423 هـ.
(3)
عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي حافظ الدين أبو البركات، علم في الفقه والأصول، له المدارك في التفسير، توفي سنة 710 هـ في بلدة بغداد، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (3/ 17)، طبقات المفسرين للأدنه وي (ص: 263).
(4)
محمد بن محمد بن مصطفى العمادي، المولى أبو السعود: مفسر شاعر، من علماء الترك، درس ودرّس في بلاد متعددة، وتقلد القضاء، وهو صاحب التفسير المعروف باسمه وقد سماه (إرشاد العقل السليم إلى مرايا الكتاب الكريم) و (تحفة الطلاب)، توفي سنة 982 هـ، طبقات المفسرين للأدنه وي (ص: 398)، الأعلام للزركلي (7/ 59) معجم المؤلفين (11/ 302).
(5)
محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني: مفسر، محدث، فقيه، أصولي، مؤرخ، أديب، نحوي، منطقي، متكلم، ولد 1173 هـ، ولي القضاء، توفي سنة 1250 هـ، له 114 مؤلفا، منها (فتح القدير في التفسير) و (نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار)، و (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) معجم المؤلفين (11/ 53)، العارفين (2/ 365)، الأعلام للزركلي (6/ 298).
(6)
انظر: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 40)(1/ 122)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 11)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 33)، التحرير والتنوير (1/ 234)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 40)، فتح القدير (1/ 26).
وأشار ابن جرير إلى معنى آخر، فقال:"اختلف المفسرون في تأويلها؛ فقال بعضهم: زكاة أموالهم، وقال آخرون: هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل أن تنزل الزكاة، ثم قال: وأولى التأويلات بالآية وأحقها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدّين، زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل وعيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك"
(1)
، وممن قال بذلك البغوي
(2)
، وابن كثير، والقرطبي
(3)
وغيرهم.
[عدم انتفاع الكافرين بهداية القرآن]
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [سورة البقرة: 6]
2.
قال الشيخ محمد رحمه الله: "هذا بيان لحال القسم الثاني من أقسام الناس تجاه هداية القرآن، وقد قطعه وفصله مما قبله، فلم يعطفه عليه للإشارة إلى ما بينهما من طول شقة الانفصال وعدم المشاركة في شيء ما، بخلاف القسم الثالث الآتي، فإن لهم حظا منه في الدنيا ولمن يتوب منهم حظ في الآخرة أيضا"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا بلاغيا، في مسألة قطع الكلام، من تركيب لفظ الآية، بدلالة ترك العطف بسبب التباين، في مسألة عدم انتفاع الكافرين بهداية القرآن.
وجه الاستنباط: سبب عدم عطف هذه الآية على ما قبلها هو التباين وعدم وجود قواسم مشتركة بين صفات هؤلاء المشركين وبين المؤمنين، وذلك أن الكفر رسخَ في قلوبهم ولم يكن للإيمان إليها سبيلا، وأما من بعدهم فهم المنافقون، وهم قسم آخر غير الصنفين المذكورين في أول السورة، وقد أشار إلى ذلك الشيخ محمد عبده فقال:"هاتان الآيتان بيّنتا حال طائفة ثانية من الناس، وهم الكافرون"
(5)
، فهذا التقسيم يدل على الفصل ويوجبه لكمال الانقطاع، فإن "الكلام قطع عما قبله، لأنه كلام في شأن الذين كفروا، وما قبله كلام في شأن القرآن"
(6)
، وهذا المعنى هو ما عبر عنه عدد من المفسرين بالتضاد وأن سببه كمال الانقطاع الموجب عدم العطف بين الجمل
(7)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (1/ 244).
(2)
الإمام الفقيه الحافظ المجتهد أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء الشافعي، يلقب بمحيي السنة، وركن الدين، كان إماما في التفسير، وفي الحديث، وفي الفقه، وهو صاحب معالم التنزيل وشرح السنة والتهذيب والمصابيح، توفي سنة 516 هـ، طبقات المفسرين للسيوطي (ص: 50)، طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 457)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 161).
(3)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 63)، تفسير القرآن العظيم (1/ 168)، الجامع لأحكام القرآن (1/ 179).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 117).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 117).
(6)
الإيضاح في علوم البلاغة (ص: 158).
(7)
البرهان في علوم القرآن (1/ 49، -4/ 106)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 46)، روح المعانى (1/ 128)، التحرير والتنوير (1/ 256 - 244).
[الختم على القلوب سنة الله فيمن فقد دواعي النظر والفكر في أدلة الإيمان]
قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} [سورة البقرة: 7]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "أسند الختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلى الله تعالى؛ لأنه بيان لسنته تعالى في أمثالهم، وعبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر قد فرغ منه، وهو لا يدل على أنهم مجبورون على الكفر، ولا على منع الله تعالى إياهم منه بالقهر، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرنهم على الكفر وإعماله في قلوبهم بأنه استحوذ عليها"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا، في باب المسند والمسند إليه، في مسألة خروج الكلام على مقتضى الظاهر، بدلالة الأسلوب، من إسناد الفعل للفاعل الحقيقي، في مسألة أن الختم على القلوب سنة الله فيمن فقد دواعي النظر والفكر في أدلة الإيمان.
وجه الاستنباط: إسناد الختم على القلوب والأسماع يكون إلى الله، وتلك سنة الله في مثلهم ممن عطل فكره ونظره عن الإيمان بالله تعالى، فهم ممنوعون من وصول الحق إلى قلوبهم فلا ينفذ إليها الحق ولا يخرج منها الباطل، وهذا بسبب مكابرتهم وإعراضهم، فإنهم عندما أعرضوا عن الحق عاقبهم الله بالختم لفقدهم الدواعي والأسباب التي تعطفهم إلى النظر والفكر في أدلة الإيمان ومحاسنه، وإسناد الختم إلى الله إسناد صحيح إذ هو إسناد للفاعل الحقيقي لأن الله هو خالق كل شيء، وفي هذا تقرير لمنهج أهل السنة والجماعة في مسألة القدر، والرد على مخالفيهم، الذين يزعمون أن الله أكرههم على الكفر وقهرهم عليه.
وإلى هذا أشار بعض المفسرين، ومنهم:
ابن جرير فقال: "أخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب، إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى"
(2)
. وكذا السمعاني
(3)
، وابن كثير، وأبو حيان، والقرطبي، وابن عاشور
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 120).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (1/ 267)
(3)
منصور بن محمد أبو المظفّر السّمعانيّ التميميّ المروزيّ، الحنفي، ثم الشافعي، صنف في الفقه، والتفسير، والحديث، والأصول:«فالتفسير» في ثلاث مجلدات، وكتاب «البرهان والاصطلام» ، وكتاب «القواطع في أصول الفقه» وكتاب «المنهاج لأهل السنة» ، توفي سنة 489 هـ، طبقات المفسرين للداوودي (2/ 339)، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (5/ 335).
(4)
تفسير السمعاني (1/ 47)، تفسير القرآن العظيم (1/ 174)، البحر المحيط (1/ 79)(1/ 80)، الجامع لأحكام القرآن (1/ 187)، التحرير والتنوير (1/ 250)(1/ 253).
وقال ابن القيم: "وقالت طائفة منهم: الكافر هو الذي طبع على قلب نفسه في الحقيقة وختم على قلبه والشيطان أيضا فعل ذلك ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه لإقراره للفاعل على ذلك لأنه هو الذي فعله، وأما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه، فلولا إقدار الله له على ذلك لم يفعله وهذا حق، لكن القدرية لم توف هذا الموضع حقه وقالت أقدره قدرة تصلح للضدين فكان فعل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب وإن دخلت قدرته الصالحة لهما تحت مقدروه سبحانه فمشيئته واختياره وفعله غير واقع تحت مقدور الرب وهذا من أبطل الباطل"
(1)
.
[تحقق الإيمان بالعلم]
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} [سورة البقرة: 13].
4.
قال الشيح محمد رشيد رحمه الله: "وأزيد عليه في نكتة نفي العلم الآن ما ينبه الأذهان إلى دقة التعبير في القرآن، وهو أن أمر الإيمان لا يتحقق إلا بالعلم اليقيني، فموضوعه علمي، ثم إن ثمرته السعادة في الدنيا والآخرة، ولا يدرك ذلك إلا من علم حقيقته"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رحمه الله استنباطا في علوم القرآن، في مسألة الإعجاز البياني في القرآن الكريم ودقة تعبيره، في مسألة تحقق الإيمان بالعلم، وأن ثمرته السعادة في الدارين، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: الآية دلت على نفي العلم عن هؤلاء، وجاء نفي العلم بلفظ يناسب لفظ السفه وهو الجهل في أمر الإيمان الذي أمروا به في أول الآية، وأن العلم الحقيقي هو ما يفضي إلى الإيمان لأنه من لوازمه، ومن جهل الملزوم كان بلوازمه أجهل، وأن العلم الحقيقي هو الذي يزيل الشبه ويذهب العلل ويبعث على الاقتداء بالعمل، وهؤلاء لم يصلوا إلى حد هذا العلم، ولن يتحقق هذا العلم إلا بالتفكر والتأمل وهذا منفي عنهم.
قال الزمخشري: "السفه سخافة العقل وخفة الحلم، فإن قلت: فلم فصلت هذه الآية ب: (لا يعلمون)، والتي قبلها ب: (لا يشعرون)؟ قلت: لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة"
(3)
، ومثله ابن عاشور
(4)
.
(1)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن القيم (17/ 7).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 136)، وعبارة:"وأزيد عليه" من عبارات الشيخ محمد رشيد للفصل بين كلامه وكلام شيخه.
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 64).
(4)
التحرير والتنوير (1/ 284).
وقال أبو حيان: "وإنما قال هناك لا يشعرون وهنا لا يعلمون لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، وهي الحواس، مبالغة في تجهيلهم، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم، والمثبت هنا هو السفه، والمصدر به هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور، والعلم نقيض الجهل، فقابله بقوله: (لا يعلمون)، لأن عدم العلم بالشيء جهل به"
(1)
.
[علة ذهاب النور فتنتهم أنفسهم]
قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} [سورة البقرة: 17]
5.
قال الشيخ محمد رحمه الله، بعد أن أورد قوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [سورة الزمر: 22] وقوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} [سورة الحديد: 13 - 14] في تفسير (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)، قال:"وفي هاتين الآيتين أصدق بيان للمراد من ذهاب الله بنورهم، وكونه ليس إجبارا لهم على الكفر، ولا عبارة عن سلبهم التمكن من الإيمان، وإنما هو تعبير عن سنة الله تعالى في عاقبة فتنتهم لأنفسهم"
(2)
.
(1)
البحر المحيط (1/ 112).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 143).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا في باب القدر، في مسألة الرد على الجبرية، من خلال دلالة التركيب بالجمع بين الآيات، في مسألة علة أن ذهاب النور فتنتهم أنفسهم.
وجه الاستنباط: ذهاب الله بنوره ليس إجباراً منه لهم على الكفر، وإنما كان بسبب زيغهم وفتنتهم أنفسهم وظلمهم إياها بالكفر، وأن نفي الإيمان عنهم لم يكن إلا سير على سنة الله فيمن ظلم نفسه بالكفر والبعد عن الله، وقد وافق كثير من المفسرين في هذا.
قال ابن القيم: "ولم يقل ذهب نورهم، وفيه سر بديع وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى، فإن الله تعالى مع المؤمنين، وإن الله مع الصابرين، وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ فذهاب الله بذلك النور انقطاع لمعيته التي خص بها أولياءه، فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم"
(1)
.
وقال ابن كثير: "إن المعنى: أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله"
(2)
، وكذا القرطبي والشوكاني وابن عاشور
(3)
.
وقال ابن عثيمين: "إن الله تعالى جازاهم على حسب ما في قلوبهم: {ذهب الله بنورهم} ، كأنه أخذه قهراً، فإن قال قائل: أليس في هذا دليل على مذهب الجبرية؟
فالجواب: لا؛ لأن هذا الذي حصل من رب العباد عز وجل بسببهم؛ وتذكَّر دائماً قول الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]، حتى يتبين لك أن كل من وصفه الله بأنه أضله فإنما ذلك بسبب منه"
(4)
، وكذا قال الزمخشري والبيضاوي والنسفي والألوسي
(5)
.
[الكفر بالله سبب إحاطة الكافرين بالعذاب]
قال تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)} [سورة البقرة: 19].
6.
قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: "أقول: فوضع الاسم المظهر موضع المضمر للإيذان بأنهم إنما كانوا كذلك بكفرهم وأن ذلك يرد في أمثالهم "
(6)
.
(1)
اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية (2/ 27).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 189 - 188).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 213)، فتح القدير (1/ 43)، التحرير والتنوير (1/ 304).
(4)
تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين (3/ 35).
(5)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 74)(1/ 190)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 21)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (1/ 167).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 149)، وعبارة:" أقول" من عبارات الشيخ للفصل بين كلامه وكلام شيخه.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا بلاغيا، في علم المعاني، في باب المسند والمسند إليه، في مسألة الخروج على مقتضى الظاهر، في أن الكفر بالله سبب إحاطة العذاب بالكافرين، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: لفظ (محيط بالكافرين) جاء مصرحاً به بدلا من الإشارة بضمير (بهم) المتفق مع مقتضى الظاهر، إشارة إلى أن ما حل بهم من إحاطة الله بهم كان بسبب كفرهم، والنكير عليهم، وأن في الإظهار زيادة تمكن دلالة الاسم الظاهر بدل المضمر، وتمكن المسند إليه وتقرره في نفس السامع.
وهذا أسلوب من أساليب البلاغة القرآنية
(1)
، وتصريح الشيخ بهذه القاعدة، "فوضع الاسم المظهر موضع المضمر" دليل على بلاغته وعنايته بالبلاغة القرآنية.
وممن أشار إلى هذه القاعدة عند تفسيره لهذه الآية أبو السعود حيث قال: "وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيّب، الإيذانُ بأن ما دَهَمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم"
(2)
، ونقل ذلك القاسمي
(3)
(4)
.
[الفسق سبب إضلال الله للكافرين]
7.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "فعلم بهذا أن المراد بإسناد الإضلال إليه - تعالى - في الآية السابقة بيان سنته - تعالى - في أصحاب هذه الأعمال من الفساق، وهو أنهم يضلون حتى بما هو سبب من أشد أسباب الهداية تأثيرا، وهو المثل المذكور بسبب رسوخهم في الفسق ونقضهم للعهد
…
إلخ، وليس المعنى أنه - تعالى - خلق الضلال فيهم خلقا وأجبرهم عليه إجبارا"
(5)
.
(1)
انظر: البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها (ص: 399).
(2)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 66).
(3)
جمال الدين (أو محمد جمال الدين) بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق، إمام الشام في عصره، علما بالدين، وتضلعا في فنون الأدب، مولده ووفاته في دمشق (1283 - 1332 هـ)، ألف في التفسير وعلوم الشريعة الإسلامية والأدب، ونشر بحوثا كثيرة في المجلات والصحف، منها (محاسن التأويل) و (الائل التوحيد) و (ديوان خطب)، الأعلام للزركلي (2/ 135).
(4)
محاسن التأويل (1/ 259).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 202).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا، في باب المسند والمسند إليه، في مسألة إسناد الفعل للفاعل الحقيقي، في مسألة الفسق سبب إضلال الله للكافرين، بدلالة الأسلوب.
وجه الاستنباط: إسناد الضلال إلى الله إسناد صحيح، لأن الله هو الفاعل الحقيقي له، وذلك أن الكفار لما أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى وأغفلوا عقولهم عن النظر في الأمثال المضروبة في القرآن، صاروا في محنة وحيرة وضلال، ولا سبيل إلى الخروج من هذا التيه والضلال إلا بطاعة الله واتباع رسله، أما هؤلاء فقد خرجوا عن طاعة الله وعاندوا رسله فصار الفسق وصفا لهم، عندها اقتضت حكمة الله إضلالهم لعدم صلاحيتهم لهذا الهدى، وفي هذا تقرير لمنهج أهل السنة والجماعة في مسألة القدر، والرد على مخالفيهم، الذين يزعمون أن الله أضلهم عن الهدى.
قال أبو الحسين العمراني
(1)
: "وأنه لما حرم الكفار الاهتداء والعقل في الأمثال المضروبة، خلق فيهم ضده وسماه إضلالاً، ولا يجوز حمل الإضلال هاهنا على إبطاله لأعمالهم لأنه يحتاج إلى إضمار الأعمال، ولا يجوز صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل ولا ضرورة"
(2)
.
قال ابن سعدي: "هذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، قال تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [سورة التوبة: 124 - 125]، فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [وضلالة] وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة [ورحمة] وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال.
ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى، فقال:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} ، أي: الخارجين عن طاعة الله; المعاندين لرسل الله؛ الذين صار الفسق وصفهم؛ فلا يبغون به بدلا فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة"
(3)
.
(1)
أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليماني، الشافعي، كان إمام زاهدا ورعا عالما عارفا بالفقه والأصول والكلام والنحو، ومن تصانيفه البيان، كتاب الانتصار في الرد على القدرية، توفي سنة 558 هـ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (7/ 336).
(2)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية (22/ 5).
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 47).
وقال الشوكاني: "وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال المذكور هنا، وفي نسبته إلى الله سبحانه، وقد نقح البحث الرازيُّ في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحاً نفيساً، وجوّده وطوّله، وأوضح فروعه، وأصوله، فليرجع إليه فإنه مفيد جداً، وأما صاحب الكشاف، فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سبباً، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي، وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله {يُضِلَّ} يخذل"
(1)
، نقل هذا عن الرازي، والزمخشري، وأبي حيان، والقرطبي، وأبي السعود، والألوسي
(2)
.
[ارتباط العذاب بالفسق والخروج عن أمر الله]
قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)} [سورة البقرة: 59]
8.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ويدل على قوله - تعالى -: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) على أن هذا العصيان لم يكن من كل بني إسرائيل، وأن هذا الرجز كان خاصا بالظالمين منهم الذين فسقوا عن الأمر ولم يمتثلوه، وقد أكد هذا المعنى أشد التأكيد بوضع المظهر موضع المضمر، فقال: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، ولم يقل: فأنزلنا عليهم؛ ولعل وجه الحاجة إلى التأكيد الاحتراس من إبهام كون الرجز كان عاما، كما هو الغالب فيه، ثم أكده بتأكيد آخر، وهو قوله: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، وفي هذا الضرب من المقابلة من تعظيم شأن المحسنين ما فيه"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا بلاغيا، في مسألة خروج الكلام على مقتضى الظاهر، في مسألة ارتباط العذاب بالفسق والخروج عن أمر الله، بدلالة المطرد من أساليب القرآن.
وجه الاستنباط: أن العصيان لم يكن من كل بني إسرائيل، وأن العذاب النازل خاص بالظالمين منهم خاصة، واستدل لهذا بقوله:"وقد أكد هذا المعنى أشد التأكيد بوضع المظهر موضع المضمر"، ثم بين سبب هذا التأكيد، وهو الاحتراس
(4)
من أن يكون الرجز عاما لهم، فهو بهذا دفع الإيهام أن يكون العذاب نازلاً على بني إسرائيل كلهم، وإنما هو خاص بمن كانت هذه صفته.
(1)
فتح القدير (1/ 58).
(2)
انظر: مفاتيح الغيب الرازي (2/ 266 - 272)، الكشاف (1/ 118)، البحر المحيط (1/ 202)، الجامع لأحكام القرآن (1/ 244)، تفسير أبي السعود (1/ 94)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي (1/ 211).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 269).
(4)
الاحتراس أو التكميل: اسمان أُطْلِقا على مسمَّى واحد، وهو زيادة إطنابيّةٌ في الكلام يَدْفَع بها المتكلّم إيهاماً اشتمل عليه كلامه، ويكون هذا الاحتراس حينما يأتي المتكلم بكلام يوهم خلاف ما يُريد، ويأتي بَعْدَه بكلامٍ يدفع به ذلك الإِيهام، ومثل هذا يُوجَد في أرفع الكلم لتحقيق غرضٍ بلاغي، وقد يوجد في كلام أهل الخطب الارتجالية على سبيل التدارك لما جاء في كلامهم ففطنوا إليه فاحترسوا تكميلاً، البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها (ص: 531).
وممن اشار إلى هذا المعنى ابن عاشور حيث قال: "اعتنى فيهما بالإظهار في موضع الإضمار ليعلم أن الرجز خص الذين بدلوا القول وهم العشرة الذين أشاعوا مذمة الأرض لأنهم كانوا السبب في شقاء أمة كاملة"
(1)
.
وقال الألوسي: "وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم"
(2)
، وممن أشار إلى أنه إظهار في موضع الإضمار الزمخشري وابن عثيمين
(3)
.
[العمل جزء من الإيمان ولا يتحقق الوعد إلا بهما]
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} [سورة البقرة: 82].
9.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفيه دليل على أن الوعد على الإيمان والعمل معا، إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر، إلا من آمن فمات ولم يتسع له الوقت للعمل، فهو من أهله بمقتضى إيمانه الصحيح، وما حال دونه من الآجال عذر؛ لأنه لا ذنب له فيه"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسأل العمل جزء من الإيمان ولا يتحقق الوعد بدخول الجنة إلا بهما، بدلالة الاقتران.
وجه الاستنباط: دخول الجنة مترتب على الجمع بين الإيمان والعمل معا، وعليه عرف الشيخ محمد رشيد الإيمان: بأنه مجموع العلم والاعتقاد والعمل بموجبه
(5)
، وعليه فإن الإيمان وحده لا يكفي لدخول الجنة، وكذا العمل وحده لا يكفي لدخول الحنة بل لابد من الجمع بينهما، وبهذا يرد على مرجئة الفقهاء الذين يقولون إن العمل لازم للإيمان وداخلٌ في تعريفه
(6)
، وهو بهذا يوافق منهج أهل السنة والجماعة، ويرد به على المرجئة ومن شاكلهم.
ومسألة دخول العمل في الإيمان ورد فيها خلاف عند بعض العلماء، والخلاصة فيها
(7)
: أن الإيمان تصديق بالقلب ونطق باللسان وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، هذا هو الحق الذي تدل عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي أجمع عليه الصحابة والتابعون والأئمة.
(1)
التحرير والتنوير (1/ 500).
(2)
روح المعانى (1/ 267).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 143)، تفسير ابن عثيمين (3/ 142).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 302).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 492).
(6)
كتاب الإيمان 184، وللاستزادة: انظر منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة 217.
(7)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية، عبد العزيز الراجحي (1/ 236).
وخالف في هذا المرجئة
(1)
، حيث قالوا: إن الإيمان قول وتصديق فقط، بل يجعلون الأعمال إما من مقتضى التصديق أو من واجباته ومن لوازمه
(2)
.
وعليه فإن أهل النجاة والفوز، هم أهل الإيمان والعمل الصالح الموافق للشريعة
(3)
.
قال ابن عثيمين: "قوله تعالى: {وعملوا الصالحات} أي عملوا الأعمال الصالحات؛ والعمل يصدق على القول، والفعل؛ وليس العمل مقابل القول؛ بل الذي يقابل القول: الفعل؛ وإلا فالقول والفعل كلاهما عمل؛ لأن القول عمل اللسان، والفعل عمل الجوارح"، ثم قال:"ومن فوائد الآية: أن الإيمان وحده لا يكفي لدخول الجنة؛ بل لا بد من عمل صالح، وأن العمل وحده لا يكفي حتى يكون صادراً عن إيمان؛ لقوله تعالى: {آمنوا وعملوا الصالحات} ولذلك لم ينفع المنافقين عملهم؛ لفقد الإيمان في قلوبهم"
(4)
.
[التوحيد يتحقق بإفراد الله بالعبادة والنهي عن الشرك]
10.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وهذا النهي عن عبادة غير الله مستلزم للأمر بعبادته - تعالى - ولم يصرح به؛ ولأنهم كانوا يعبدون الله، وإنما يخشى عليهم الشرك به كما وقع منهم في بعض الأجيال ومن غيرهم من الشعوب، فالأصل الأول لدين الله على ألسنة جميع رسله هو أن يعبد الله وحده، ولا يشرك به عبادة أحد سواه من ملك ولا بشر ولا ما دونهما بدعاء ولا بغيره من أنواع العبادة، كما قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [سورة النساء: 36]، فالتوحيد لا يحصل إلا بالجمع بين الأمرين"
(5)
.
(1)
المرجئة ثلاثة أصناف: القسم الأول: الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه، والقسم الثاني: من يقولون هو مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية، والقسم الثالث: من يقولون هو تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم، كتاب الإيمان الكبير (1/ 102)، الفرق بين الفرق (ص 19).
(2)
شرح العقيدة الواسطية، الغنيمان (27/ 4)
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 57)، تفسير القرآن العظيم (1/ 315).
(4)
تفسير القرآن ابن عثيمين (3/ 192)(3/ 194).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 303)
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب الأمر، في مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده
(1)
، في مسألة تحقق التوحيد بأمرين: إفراد الله بالعبادة والنهي عن الشرك، بدلالة التلازم.
وجه الاستنباط: الأمر هنا لازم للنهي عن الشرك، حيث أمر الله سبحانه وتعالى بعبادته ونهى عن الشرك به، وهذا يتضمن إثبات العبادة لله وحده، فمن لم يعبد الله فهو كافر مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو كافر مشرك، ومن عبد الله وحده فهو مسلم مخلص
(2)
.
وعلل رحمه الله سبب هذا بأنهم كانوا يعبدون الله، وإنما خشي عليهم الشرك به كما وقع منهم في بعض الأجيال، وبين أن الأصل الأول لدين الله على ألسنة جميع رسله هو أن يعبد وحده ولا يشرك به عبادة أحدٍ سواه من ملك ولا بشر، وبين أن التوحيد لا يحصل إلا بالجمع بين الأمرين- العبادة وعدم الإشراك-.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب
(3)
في كتاب التوحيد: "في قوله: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا}، -واعبدوا- معلوم في أصول الفقه أن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، وفي الآية هنا أمر بالعبادة له ونهى عن الشرك به من باب التأكيد"
(4)
.
وقال الشيخ عبد الرحمن الدوسري
(5)
: "وهذا النهي عن عبادة غير الله مستلزم للأمر بعبادته، لأنها الأصل الأول لدين الله على ألسنة جميع الأنبياء والمرسلين أن تحصر جميع أنواع العبادة لله، ولا يشرك بها غيره مهما كان، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ومن مهمات العبادة الوقوف عند حدود الله فيما أباحه أو حرمه أو أوجب الاحتكام إليه، فمن حرم شيئاً مما أباح الله أو أباح شيئاً مما حرم الله، أو حكم بغير ما أنزل الله، معتقداً أحقيته على حكم الله، فهو مشرك مهما عمل من الأعمال، فوصية الله الأولى في خلقه أجمعين، ألا يعبدوا إلا الله"
(6)
.
(1)
انظر: روضة الناظر (45)، وشرح الورقات (1/ 73) إرشاد الفحول (1/ 263).
(2)
شرح ثلاثة الأصول، العثيمين (1/ 42).
(3)
الشيخ محمد بن الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ سليمان، إمام الدعوة السلفية، ولد في بلد العيينة سنة 1115 هـ، حفظ القرآن، وتعلم الحديث والفقه والنحو، تأثر بابن تيمية وابن القيم، وطلب العلم على يده عدد من طلاب العلم، وتحالف مع الإمام محمد بن سعود على إقامة التوحيد وقمع الشرك، له مصنفات كثيرة أغلبها في العقيدة ومن أهمها: كتاب التوحيد وكشف الشبهات، توفي عام 1206 هـ. مشاهير علماء نجد (ص: 16 - 25)، الأعلام (6/ 257).
(4)
فوائد من شرح كتاب التوحيد (1/ 8).
(5)
عبد الرحمن بن محمد الفهد الدوسري، إمام سلفي، مفسر، وداعية، ولد في البحرين 1332 هـ، وتوفي سنة 1399 هـ، كان شغوفا بالعلم، له: في التفسير صفوة الآثار والمفاهيم، انظر: موقع الشيخ على الشبكة العنكبوتية.
(6)
تفسير صفوة الآثار والمفاهيم، (2/ 233).
[مكانة العلم وآداب التعامل مع العالم]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [سورة البقرة: 104]
11.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "لا شك أن من يعامل أستاذه ومرشده معاملة المساواة في القول والعمل، يقل احترامه له وتزول هيبته من نفسه حتى تقل الاستفادة منه أو تعدم، وإذا لم تزل الاستفادة منه من حيث كونه معلما، فإنها تقل وتزول لا محالة من حيث كونه مربيا؛ لأن المدار في التربية على التأسي والقدوة
…
والعبرة بما في الواقع ونفس الأمر، وهو أن من اعتقد أن امرأ فوقه علما وكمالا، وأنه في حاجة للاستفادة من علمه وإرشاده ومن أخلاقه وآدابه، فإنه لا يستطيع أن يساوي نفسه به في المعاملة القولية ولا الفعلية، إلا ما يكون من فلتات اللسان ومن اللمم، وعن مثل هذا نهى الصحابة رضي الله عنهم؛ لئلا يجرهم الأنس به صلى الله عليه وسلم وكرم أخلاقه إلى تعدي حدود الأدب الواجب معه الذي لا تكمل التربية إلا بكماله، وهو - تعالى - يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب: 21] "
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا سلوكيا تربويا، في باب الآداب، في مسألة مكانة العلم والأدب مع المعلم، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: النهي الموجه للمؤمنين فيه إشارة إلى أهمية العلم والعلماء، وبيان لكيفية التعامل مع العلماء وتوقيرهم وتعظيمهم، فهذا أدب من آداب الشريعة، وعليه فإنه يجب على الإنسان أن يكون بينه وبين من هو في حاجة إلى الاستفادة من علمه وإرشاده وخلقه وآدابه حدوداً في التعامل لا يتعداها، وعليه أن ينزله منزلة التوقير والاحترام، وقد ذكر بعض العلماء أن حقه آكد من حق الوالد، لأن هذا أدعى إلى قبول ما عنده من العلم والتأسي والاقتداء به.
قال ابن العربي
(2)
في أحكام القرآن: "هذا دليل على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعرض للتنقيص والغض"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 339).
(2)
محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، أبو بكر ابن العربيّ: الإمام القاضي، الحافظ، ولد 453 هـ في إشبيلية، ورحل إلى المشرق، وبرع في الأدب، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، وصنف كتبا في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ، وولي قضاء إشبيلية، توفي سنة 467 هـ، له:(أحكام القرآن)، و (عارضة الأحوذي في شرح الترمذي)، سير أعلام النبلاء (20/ 204 - 197)، طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 468).
(3)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 55).
وممن أشار إلى هذا المعنى ابن جرير رحمه الله في تفسيره حيث بين أن النهي من الله للمؤمنين عن قول كلمة "راعنا" أنها كلمة كره الله أن تقال لنبيه صلى الله عليه وسلم فأمرهم بقول كلمة فيها توقير وتعظيم
(1)
.
وقيل: كان هذا النهي نهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنهوا عن مخاطبته بما يوهم شيئاً من الغض مما يستحقه من التعظيم والتلطف في القول وأدبه، وابتعادا عن سوء الظن، كما قال ابن كثير، وأبو حيان، والقرطبي، والشوكاني، وابن عثيمين
(2)
.
وقال ابن مفلح
(3)
: "قال ابن حزم قبل السبق والرمي في الإجماع: اتفقوا على إيجاب توقير أهل القرآن والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الخليفة والفاضل والعالم"
(4)
.
[خطر فتنة الشبهات على عقيدة المسلم]
12.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "هذه الآية وما بعدها إشارة إلى أن لذلك بعض الأثر في نفوس بعض المسلمين، وفائدة هذا التنبيه أو التنبيهات أن يعلم المسلمون أن ما يبدو من أهل الكتاب أحيانا من إلقاء الشبه على الإسلام وتشكيك المسلمين فيه، إنما هو مكر السوء، يبعث عليه الحسد لا النصح الذي يبعث عليه الاعتقاد"
(5)
.
(1)
جامع البيان (2/ 463 - 464).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 373 - 374)، البحر المحيط (1/ 291)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 60)، فتح القدير (1/ 157)، تفسير القرآن للعثيمين (3/ 252).
(3)
محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج القاقوني الفقيه الحنبلي، كان بارعا فاضلا متقنا في علوم كثيرة، له كتاب الفروع، والمبدع على المقنع، وعلق على المنتقى، توفي سنة 763، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (6/ 14)، الأعلام للزركلي (7/ 107).
(4)
الآداب الشرعية (2/ 47).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 346).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الفتن، في مسألة فتنة الشبهات، وأثرها على عقيدة المسلم، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: الآية أشارت إلى أثر الشبه على عقيدة الإنسان، وكيف أن الشُبه في الدين توقع أثراً في النفوس، ولذا يستغلها الكفار وأهل الكتاب للتشكيك وزعزعة المسلمين، وأن الباعث لهذا الحسد والحقد لا النصح، وأن هذا السلوك واضح وظاهر في أهل الكتاب، وأنهم يبذلون جهدهم في رد المؤمنين وإدخال الشبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه، وذلك أن المحق لا يبعد عن الحق إلا بشبهة.
قال ابن القيم: "والفتنة نوعان: فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد وقد ينفرد بإحداهما ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم"
(1)
.
قال الرازي: "قوله: من عند أنفسهم فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «ود» على معنى أنهم أحبوا أن ترتدوا عن دينكم، وتمنيهم ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق، لأنهم ودوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق فكيف يكون تمنيهم من قبل طلب الحق؟ الثاني: أنه متعلق ب (حسدا) أي حسدا عظيما منبعثا من عند أنفسهم"
(2)
، ومثله البيضاوي، والشوكاني، وابن سعدي
(3)
.
قال ابن عاشور: "مناسبة الآية لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم، وآخرتها شبهة النسخ، فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر"
(4)
، ومثله السمعاني
(5)
.
[تقرير قاعدة: إقامة الدليل على الدعوى]
قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [سورة البقرة: 111].
13.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "طالبهم - تعالى - بالبرهان على دعواهم، فقرر لنا قاعدة لا توجد في غير القرآن من الكتب السماوية، وهي أنه لا يقبل من أحد قولٌ لا دليل عليه، ولا يحكم لأحد بدعوى ينتحلها بغير برهان يؤيدها، ذلك أن الأمم التي خوطبت بالكتب السالفة لم تكن مستعدة لاستقلال الفكر ومعرفة الأمور بأدلتها وبراهينها؛ ولذلك اكتفى منهم بتقليد الأنبياء فيما يبلغونهم وإن لم يعرفوا برهانه، فهم مكلفون أن يفعلوا ما يؤمرون"
(6)
.
(1)
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/ 165).
(2)
مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (3/ 651).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 100)، فتح القدير للشوكاني (1/ 149)، تفسير السعدي (1/ 134).
(4)
التحرير والتنوير (1/ 651).
(5)
تفسير السمعاني (1/ 125).
(6)
تفسير المنار (1/ 350).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقيها، في كتاب القضاء، في مسألة إقامة الدليل على الدعوى، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: طلب الله من اليهود والنصارى برهانا على كلامهم، وما احتجوا به، فأرشد لعدم قبول الأقوال إلا بعد إيراد الأدلة وإعمال النظر فيها وتوجيهها، والبرهان أو الدليل إما أن يكون نقليا أو عقليا، فأبطل بهذا التقليد وما ينشأ عنه من الجهل والتبعية.
ثم قرر أن قاعدة "لا دعوى بلا دليل" لا توجد في غير القرآن، وهذه مزية للقرآن على غيره من الكتب السالفة والأمم السابقة حيث لم يطالبوا في تلك المرحلة السابقة لنزول القرآن إلا بتقليد أنبيائهم وفعل ما يؤمرون.
قال القرطبي: "طلب الدليل هنا يقضي إثبات النظر ويرد على من ينفيه"
(1)
.
وقال الزمخشري: "وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وأنّ كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت"
(2)
.
وقال الرازي: "دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيا، أو إثباتا، فلا بد له من الدليل والبرهان، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد"
(3)
.
وممن قال بهذا أيضا البيضاوي، وأبو حيان، والألوسي، وابن سعدي
(4)
.
قال ابن عاشور: "وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم، حتى يعلموا أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان، لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده فهو اعتقاد كاذب، لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه ومن باب أولى لا يكون صادقا عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده"
(5)
.
[إثبات صفة العلو لله جل جلاله، وأنه لا تحدّه جهة ولا يحصره مكان]
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: 115].
14.
قال الشيخ رحمه الله: "وأقول: بل هو فوق كل شيء بائناً منه" ثم قال: "فهذه الآية تثبت لنا قاعدة من أهم قواعد الاعتقاد، وهي أن الله - تعالى - لا تحدّه الجهات، ولا تحصره الأمكنة"
(6)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 75).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 178).
(3)
مفاتيح الغيب (4/ 6).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 384)، البحر المحيط (1/ 563)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (1/ 358)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 62).
(5)
التحرير والتنوير (1/ 656).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 357 - 358)، وقوله " أقول" من عبارات الشيخ رشيد للفصل بين كلامه وكلام شيخه محمد عبده.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الأسماء والصفات، في مسألة إثبات صفة علو الله جل جلاله، وأنه لا تحدّه جهة ولا يحصره مكان، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: ألفاظ (التحيز والجهة) من المسائل المشتهرة عند أهل الكلام ومنتشرة في كتبهم، وهي من الألفاظ المجملة التي ليس لها أصل في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً، وهذا القول نصره شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
، وهذا ما قرره الشيخ في استنباطه بناء على قاعدة أهل السنة في التفصيل في مسألة الألفاظ المجملة.
والقاعدة عند أهل السنة في الألفاظ المجملة هي التفصيل، فإن قصد بها مطلق الفوقية دون حد فنسبتها لله سبحانه وتعالى صحيحة، وإن قصد بها الحيز واحتواء مكان فهي ممنوعة مستحيلة، ولا ينبغي العدول إلى هذه الألفاظ المجملة، إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها.
وجاء في شرح الطحاوية: "كل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل، وأما لفظ الجهة، فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا، والله تعالى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات، تعالى الله عن ذلك، وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار، فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع، عال عليه"
(2)
.
قال ابن سعدي: " {ولله المشرق والمغرب} خصهما بالذكر، لأنهما محل الآيات العظيمة، فهما مطالع الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكا لها، كان مالكا لكل الجهات، {فأينما تولوا} وجوهكم من الجهات، إذا كان توليكم إياها بأمره، إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس، أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها، فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة، فيتحرى الصلاة إليها، ثم يتبين له الخطأ، أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك، فهذه الأمور، إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا، وبكل حال، فما استقبل جهة من الجهات، خارجة عن ملك ربه"
(3)
.
(1)
شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني الحنبلي، إمام أهل السنة، الفقيه المجتهد، المجدد، ولد سنة 661 هـ، برع في الفتاوى ومحاجة المنكرين، والتفسير، وغيرها، بلغت مؤلفات أكثر من 330 مؤلف، توفي سنة 728 هـ. البداية والنهاية 14/ 135، أبجد العلوم (ص: 641).
(2)
شرح الطحاوية، ط دار السلام (ص: 221).
(3)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 63).
قال ابن عثيمين: " (الواسع) يعني واسع الإحاطة، وواسع الصفات؛ فهو واسع في علمه، وفي قدرته، وسمعه، وبصره، وغير ذلك من صفاته؛ و (عليم) أي ذو علم؛ وعلمه محيط بكل شيء"
(1)
.
[العلم الصحيح واتباع الهدى سبب ولاية الله وتأييده للمؤمنين]
قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [سورة البقرة: 120].
15.
قال الشيخ رحمه الله: "ومفهوم هذا المصرح به في آيات أخرى، أن ثباته على هدى الله المؤيد بالعلم هو الذي يكون سببا لتوليه - تعالى - له ونصره إياه عليهم، وفيه أن من سنن الله تأييد متبعي الهدى على علم صحيح وأنهم هم الغالبون المنصورون، وهو ما يعبر عنه علماء الاجتماع ببقاء الأمثل في كل تنازع بينه وبين ما دونه"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة العلم الصحيح واتباع الهدى سبب ولاية الله وتأييده للمؤمنين، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: أن الله أنعم على عباده بالتأييد والموالاة، بسبب ثباتهم على هدى الله المؤيد بالعلم الصحيح، وأن هذا من سنن الله في تأييده لمتبعي الهدى على علم صحيح، وهو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله))
(3)
، وفي رواية قال:((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))
(4)
.
وهذا التأييد من الله جل جلاله لمتبعي الهدى دليل على بقاء الأمثل والأفضل، وهذا مما عني به علماء الاجتماع حيث جعلوه قاعدة من قواعد علمهم، في مسألة بقاء الأمثل في كل تنازع، وبهذا يتبين أن القرآن الكريم هو أساس كل العلوم الإنسانية والعلمية.
(1)
تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة (2/ 14).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 366).
(3)
رواه البخاري: كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ح (71).
(4)
رواه البخاري: كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ح (71)، ورواه مسلم: كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، ح (1920)(1924).
وهذا الاستبناط مما تفرد به الشيخ فلم أجد من ذكر هذه المعنى فيما اطلعت عليه.
[خطورة الانحراف عن شرائع الإسلام وسوء عاقبته]
قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [سورة البقرة: 132].
16.
قال الشيخ رحمه الله: "ويتضمن هذا النهي إرشاد من كان منحرفا عن الإسلام إلى عدم اليأس وأن يبادر بالرجوع إليه والاعتصام بحبله لئلا يموت على غيره"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الاعتصام والالتزام بدين الله عز وجل، في مسألة خطورة الانحراف عن شرائع الإسلام وسوء عاقبته، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: الآية أوجبت الأمر بالثبات على الإسلام، وعدم مفارقته، وأرشدت إلى عدم اليأس من رحمة الله، والتعلق بحبل الله العظيم، في جميع الأوقات، ذلك أن الإنسان لا يعلم متى يأتيه الموت، كما جاء في الحديث القدسي: قال الله ((يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة))
(2)
.
قال جمع من المفسرين
(3)
: أتى بلفظ موجز يقتضي المقصود ويتضمن وعظاً وتذكيراً بالموت، وظاهرُه النهيُ عن الموت على خلاف حال الإسلام، والمقصودُ الأمرُ بالثبات على الإسلام إلى حين الموتِ، أي فاثبُتوا عليه ولا تفارقوه أبداً، كقولك: لا تصلِّ إلا وأنت خاشِعٌ، وتغييرُ العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موتٌ لا خيرَ فيه وأن حقه ألا يِحلَّ بهم وأنه يجب أن يحذَروه غايةَ الحذَر.
وقال البيضاوي
(4)
: "ظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام، والمقصود هو النهي عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا، والأمر بالثبات على الإسلام"
(5)
، ومثله الألوسي
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 391).
(2)
سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، ح (3540)، قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(3)
انظر: المحرر الوجيز (1/ 157)، البحر المحيط (1/ 638)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 191)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 77)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 208).
(4)
عبد الله بن عمر الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق المدفق ناصر الدين الشيرازي البيضاوي صاحب التصانيف البديعة المشهورة منها كتاب التفسير: أنوار التنيزيل وأسرار التأويل، والغاية القصوى في دراية الفتوى والمنهاج في أصول الفقه وغيرها، توفي سنة 685 هـ. انظر: الوافي بالوفيات (17/ 206)، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 157)، طبقات المفسرين للأدنه وي (ص: 254).
(5)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 405).
(6)
روح المعانى (1/ 387).
قال ابن عاشور: "ومعنى {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} النهي عن مفارقة الإسلام، أعنى ملة إبراهيم في جميع أوقات حياتهم، وذلك كناية عن ملازمته مدة الحياة لأن الحي لا يدري متى يأتيه الموت، فنهي أحد عن أن يموت غير مسلم أمر بالاتصاف بالإسلام في جميع أوقات الحياة، فالمراد من مثل هذا النهي شدة الحرص على ترك المنهي"
(1)
.
[تنوّع الوحي المنزّل على أنبياء الله عز وجل]
17.
قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: "ولعل نكتة اختلاف التعبير أن يشمل ما أوتي موسى وعيسى تلك الآيات التي أيدهما بها كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [سورة الإسراء: 101] وقال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [سورة البقرة: 87] ثم قال: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) ليدل على أن ذلك لم يكن خاصا بموسى وعيسى والله أعلم "
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا، في مسألة دلالة اختلاف التعبير، في مسألة تنوّع الوحي المنزّل على أنبياء الله عز وجل، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: أن التعبير بـ (أنزل) ذكر خاص في جانب الأنبياء الذين ليس لهم كتب تؤثر ولا صحف تنقل، وأن الإشارة بـ (أوتي) جاءت للتعبير عن الوحي للأنبياء الذين كان لهم كتب تؤثر في أقوامهم ويمكن الرجوع إليها والنظر فيها، وهذا من باب تنوع الكلام وتصرفاته، وهذا خاص بتلك الآيات التي أيد الله بها هذين النبيين، وفيه ثناء على أمة محمد أنها تؤمن بما أنزل على هذين النبيين اللذين بقي ديناهما حتى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أشار بعض المفسرين إلى النكتة في اختلاف التعبير في هذه الآية، فقال بعضهم: إن هذا من باب التنويع في الكلام وتصرفاته في ألفاظه وإن كان المعنى واحدا
(3)
.
(1)
التحرير والتنوير (1/ 709).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 398).
(3)
البحر المحيط (1/ 650).
قال الألوسي: " {وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى} أي التوراة والإنجيل، ولكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك، والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق، ولأن أمرهما أيضا بالنسبة إلى مُوسى وَعِيسى أنهما منزلان عليهما حقيقة، لا باعتبار التعبد فقط كما في المنزل على إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ولم يعد الموصول لذلك في عِيسى لعدم مخالفة شريعته لشريعة مُوسى إلا في النزر، ولذلك الاهتمام عبر- بالإيتاء- دون- الإنزال- لأنه أبلغ لكونه المقصود منه، ولما فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض"
(1)
.
وقال ابن عثيمين: "الحكمة في اختلاف التعبير، أن نقول بحسب ما يظهر لنا ـ والعلم عند الله ـ: إن هناك حكمة لفظية، وحكمة معنوية.
الحكمة اللفظية: لئلا تتكرر المعاني بلفظ واحد؛ لو قال: «ما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وما أنزل إلى موسى
…
وما أنزل إلى النبيين» تكررت أربع مرات؛ ومعلوم أن من أساليب البلاغة الاختصار في تكرار الألفاظ بقدر الإمكان.
أما الحكمة المعنوية: فلأن موسى وعيسى دينهما باقٍ إلى زمن الوحي، وكان أتباعهما يفتخرون بما أوتوا من الآيات؛ فالنصارى يقولون: عيسى بن مريم يُحيي الموتى، ويفعل كذا، ويفعل كذا؛ وهؤلاء يقولون: إن موسى فلق الله له البحر، وأنجاه، وأغرق عدوه، وما أشبه ذلك؛ فبين الله سبحانه وتعالى في هذا أن هذه الأمة تؤمن بما أوتوا من وحي وآيات"
(2)
.
[السعادة مبنية على حسن العمل، لا على الانتساب للآباء من الأنبياء والمرسلين]
قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} [سورة البقرة: 134].
18.
قال الشيخ رحمه الله: "أعاد هذه الآية بنصها في مقام محاجة أهل الكتاب المفتخرين بسلفهم من الأنبياء العظام، المعتمدين على شفاعتهم وجاههم وإن قصروا عن غيرهم في الأعمال، وفائدة الإعادة تأكيد تقرير قاعدة بناء السعادة على العمل دون الآباء والشفعاء، بحيث لا يطمع في تأويل القول طامع"
(3)
.
(1)
روح المعانى (1/ 392).
(2)
تفسير القرآن للعثيمين (4/ 70).
(3)
تفسير المنار (1/ 404).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الشفاعة، في مسألة أن السعادة الأخروية مبنية على حسن العمل، لا على الانتساب للآباء من الأنبياء والمرسلين، بدلالة التكرار.
وجه الاستنباط: تحقيق السعادة مرتبط بعمل الإنسان وكسبه ومتابعته لهدي الرسل والانبياء، وعليه يكون جزاؤه في الآخرة، وهذا ما أفادته إعادة الآية بنصها، وانتفاء الانتفاع بالأنبياء والصالحين، أو بتقليد الآباء والأجداد على ما هم عليه من عقائد وعبادات فاسدة، وهذه قاعدة شرعية متواترة في نصوص الشريعة، قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [سورة الإسراء: 13]، وقوله:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [سورة المدثر: 38].
قال بعض المفسرين: وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله، الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من سائر المكلفين
(1)
.
وقد وافق الشيخ في حكمة تكرار الآية ابن سعدي حيث قال: "كررها، لقطع التعلق بالمخلوقين، وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب المجرد للرجال"
(2)
، ومثلهم الزمخشري، والبيضاوي، والألوسي، وأبو السعود
(3)
.
[مدح الفقه وإعمال العقل، وذم التقليد وأنه الداء المورث للجهل والفساد]
قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [سورة البقرة: 142]
19.
قال الشيخ رحمه الله: "ابتدأ الكلام في هذه المسألة ببيان ما يقع من اعتراض اليهود وغيرهم على التحويل وإخبار الله نبيه والمؤمنين به قبل وقوعه، وتلقينهم الحجة البالغة عليه والحكمة السديدة فيه، ويتضمن هذا بيان سر من أسرار الدين وقاعدة عظيمة من قواعد الإيمان، كان أهل الكتاب في غفلة عنها وجهل بها، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في كونها محاجة لأهل الكتاب في أمر الدين؛ لإمالتهم عن التقليد الأعمى فيه، والجمود على ظواهره من غير تفقه فيه ولا نفوذ إلى أسراره وحكمه التي لم تشرع الأحكام إلا لأجلها"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن العظيم (1/ 452).
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 70).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 194)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (1/ 391)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 415)، إرشارد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 217).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 4)
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العلم، في مسألة مدح الفقه وإعمال العقل، وذم التقليد وأنه الداء المورث للجهل والفساد، بدلالة تضمن.
وجه الاستنباط: بينت الآية حال من عطل عقله وأعرض عن النظر في الأدلة والبراهين، واتخذ من تقليد الآباء منهجا له، فحكم الله عليه بالسفه، الذي من نتائجه الحتمية التقليد المورث للجهل والفساد، وعدم اتباع الرسل والبعد عن عن الطريق الصحيح، وهذا كان حال أهل الكتاب، أما أهل الإيمان فقد أعملوا العقل، فعزهم الله وهداهم إلى الصراط المستقيم.
وقد أشار جمع من المفسرين إلى قضية التقليد الأعمى وأنه سبب للجهل والفساد، منهم الإمام ابن جرير فقال:"يعني بقوله جل ثناؤه: "سيقول السفهاء"، سيقول الجهال "منَ الناس"، وهم اليهود وأهل النفاق.
وإنما سماهم الله عز وجل"سُفهاء"، لأنهم سَفِهوا الحق، فتجاهلت أحبارُ اليهود، وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل، وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا"
(1)
.
وقال بعض المفسيرين: إن القادحين في تحويل القبلة هم ممن استمهنوا التقليد الأعمى والإعراض عن التدبر والنظر من أشقياء المعتادين للخوض في فنون الفساد من الطوائف الثلاث
(2)
.
[اشتراط الصبر لتحقق معية الله الخاصة]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [سورة البقرة: 153]
20.
قال الشيخ رحمه الله: " قال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ولم يقل معكم، ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم، وقالوا: إن المعية هنا معية المعونة، فالصابرون موعودون من الله تعالى بالمعونة والظفر، ومن كان الله معينه وناصره فلا يغلبه شيء"
(3)
.
(1)
جامع البيان في تأويل أي القرآن (3/ 129).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 198)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 218)، مفاتيح الغيب (4/ 96)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 110)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 136)، إرشاد العقل السيلم لمزايا الكتاب العزيز (1/ 217).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 30)
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في مسألة اشتراط الصبر لتحقق معية الله الخاصة لعباده المؤمنين، بدلالة النص.
وجه الاستنباط: أن معية الله الخاصة، ومعونته وتوفيقه، لا تتحقق إلا لمن كان الصبر وصفا ملازماً له، خاصة في العبادات الشاقة كالجهاد وغيره، التي تستلزم صبرا ومصابرة حتى يتحقق الوعد المترتب على هذه العبادة، وبنى هذا على الإظهار في الآية الذي حل محل الإضمار، المعبر عنه بالمعية.
قال الرازي: "فكأنه تعالى ضمن لهم إذا هم استعانوا على طاعاته بالصبر والصلاة أن يزيدهم توفيقا وتسديدا وألطافا"
(1)
.
وقد وُفق ابن سعدي في تصويره لمعنى الصبر في الآية واشتراطه في تحقق معية الله الخاصة، فقال:"فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه، خصوصا الطاعات الشاقة المستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمل الصبر، وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر فاز بالنجاح، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها لم يدرك شيئا، وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم، وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى، واستعانة بالله على العصمة منها، فإنها من الفتن الكبار"
(2)
، وبمثله قال البيضاوي، وأبو حيان، وأبو السعود وابن عاشور، والشوكاني، وأبو زهرة
(3)
(4)
.
وقال ابن عثيمين: "أن في الصبر تنشيطاً على الأعمال، والثبات عليها؛ لقوله تعالى: {إن الله مع الصابرين}؛ فإذا آمن الإنسان بأن الله معه ازداد نشاطاً، وثباتاً؛ وكون الله سبحانه وتعالى مع الإنسان مسدداً له، ومؤيداً له، ومصبِّراً له، لا شك أن هذه درجة عالية كل يريدها"
(5)
.
(1)
مفاتيح الغيب (4/ 125).
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 74).
(3)
محمد بن أحمد أبو زهرة، من علماء الشريعة الإسلامية، ولد سنة 1316 هـ، درس العلوم الشرعية، وصنف في مختلف علوم الشريعة، ألف أكثر من 40 كتابا، منها، التفسير المعروف بتفسير زهرة التفاسير، وغيره، توفي سنة 1394 هـ. الأعلام للزركلي (6/ 25)
(4)
أنوار التزيل وأسرار التأويل (1/ 114)، البحر المحيط (2/ 60)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 179)، التحرير والتنوير (2/ 53)، فتح القدير (1/ 204)، زهرة التفاسير (1/ 468).
(5)
تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (2/ 174).
[البشارة بفتح مكة]
قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [سورة البقرة: 158]
21.
قال الشيخ رحمه الله: "تقدم أن من لوازم حكم تحويل القبلة إلى البيت الحرام توجيه قلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه - كما يوجهون إليه وجوههم - لأجل تطهيره من الشرك والآثام، كما عهد الله إلى أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإلا كانوا راضين باستقبال الأصنام، وإن في طي {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [سورة البقرة: 150] بشارة بهذا الاستيلاء، مفيدة للأمل والرجاء"، ثم قال:"فذكر شعيرة من شعائر الحج هي السعي بين الصفا والمروة فكان ذكرها تصريحا ضمنيا بأن سيأخذون مكة ويقيمون مناسك إبراهيم فيها، وتتم بذلك لهم النعمة والهداية"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب تحقيق العبودية، في مسألة بشارة المؤمنين بفتح مكة، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: هذه الآية مرتبطة بما قبلها، بل هي البشارة بتمام النعمة التي وعد الله بها، من النصر والتمكين بأداء هذه الفريضة، بعدما أرشدهم إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فغرس في نفوسهم الرضا والتوكل عليه، فجاءهم النصر وتمكنوا من إقامة هذه الشعائر في أمن وأمان منه سبحانه، من خلال التصريح بهذين الركنين.
ولم أجد أحدا قال بهذا الاستنباط أو أشار إليه، إلا عبارة لبعض المفسرين: أنها معالم جعلت محلا للعبادة، وأن كفار مكة جعلوا عليها صنمين، وتحرج المسلمون من السعي بينهما
(2)
.
وقال الألوسي: "أنه ما أشار سبحانه فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالم الحج فكأنه جمع بين الحج والغزو، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال، وقيل: لما ذكر الصبر عقبه ببحث الحج لما فيه من الأمور المحتاجة إليه"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 35)
(2)
جامع البيان ت شاكر (3/ 226)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 230)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 208)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 115)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 145)، البحر المحيط (2/ 95)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 178). وغيرهم
(3)
روح المعانى (1/ 424).
[تأديب المحسن للعامل بشكره وإحسانه وإنعامه عليه]
قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [سورة البقرة: 158]
22.
قال الشيخ رحمه الله: "والنكتة في اختيار هذا التعبير تعليمنا الأدب، فقد علمنا سبحانه وتعالى بهذا أدبا من أكمل الآداب، بما سمى إحسانه وإنعامه على العاملين شكرا لهم مع أن عملهم لا ينفعه ولا يدفع عنه ضراً"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الأسماء والصفات، في مسألة تأديب المحسن للعامل بشكره وإحسانه وإنعامه عليه، بدلالة اللغة.
وجه الاستنباط: في هذا أدب من أكمل الآداب، حيث سمى الله إحسانه وإنعامه على العاملين شكرا لهم، فإنه يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه العظيم من الأجر، وإذا قام العبد بأوامره، وامتثل طاعته، أعانه على ذلك، وأثنى عليه ومدحه، وجازاه في قلبه نورا وإيمانا وسعة، وفي بدنه قوة ونشاطا، وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء، وفي أعماله زيادة توفيق، ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملا موفرا، لم تنقصه هذه الأمور، وهذا من واسع رحمة الله ورأفته بعباده وترغيبهم في الاستزادة من الإيمان والطاعات.
وإن من شُكر الله التخلق والتأسي به عز وجل في أسمائه الحسنى كما تقرر ذلك عند أهل السنة في باب الأسماء والصفات.
قال ابن القيم: " وهذا شأن أسمائه الحسنى، فإن أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها، وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها"
(2)
.
[معرفة الحق مبنية على إعمال العقل واتباع النقل]
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [سورة البقرة: 170]
23.
قال الشيخ رحمه الله: "الهمزة للإنكار والتعجب، وهي داخلة على فعل حذف للعلم به من القرينة، "ولو" للغاية لا تحتاج إلى جواب وجزاء، والتقدير أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كل حال وفي كل شيء، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين، إذ لا يسلكون طريق العقل بالاستدلال على أن ما هم عليه من العقائد والعبادات حق، ولا يهتدون في أحكامه وأعماله بوحي من الله جاءهم به رسول من عند الله، أي حتى في تجردهم من دليلي العقل والنقل، هذا ما أفهمه"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 38)
(2)
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين 337.
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 74).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب التوحيد، في مسألة معرفة الحق مبنية على إعمال العقل واتباع النقل، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: في الآية إشارة إلى أهمية إعمال العقل واتباع النقل في معرفة الحق، فإن هؤلاء المتبعين لآبائهم وما هم عليه من عقائد فاسدة، ليس لديهم دليل يؤيد ما هم عليه، فهم قصروا عقولهم عن النظر في الأدلة العقلية التي تهدي إلى عبادة الله وحده فضلوا، وأعرضوا عن الاهتداء بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، واتخذوا التقليد منهجا لهم فصدهم عن اتباع الحق، وفرق بين التقليد إن كان في حق فهو أصل من أصول الدين، وأما إن كان في باطل فهو من اتباع الهوى.
وقد ذكر الشيخ في قواعد سورة البقرة: " (القاعدة الثالثة عشرة): بطلان التقليد للآباء والأجداد والمشايخ والمعلمين والرؤساء؛ لأنه جهل وعصبية جاهلية، وإن في هذه الآية تحريم التقليد وتصريح الكتاب العزيز بأن الله تعالى لا يقبله ولا يعذر صاحبه في الآخرة لتأكيدا شديدا لإيجاب العلم الاستقلالي الاستدلالي في الدين، وهو لا يقتضي الاجتهاد المطلق في جميع مسائل التشريع"
(1)
.
قال الرازي: " وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال، وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل"
(2)
.
وقال ابن سعدي: "اكتفوا بتقليد الآباء، وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس، وأشدهم ضلالا وهذه شبهة لرد الحق واهية، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق، ورغبتهم عنه، وعدم إنصافهم، فلو هدوا لرشدهم، وحسن قصدهم، لكان الحق هو القصد، ومن جعل الحق قصده، ووازن بينه وبين غيره، تبين له الحق قطعا، واتبعه إن كان منصفا"
(3)
.
وأشار بعض المفسرين إلى بيان منع التقليد والتحذير منه، منهم:
البيضاوي فقال: "وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتباع لما أنزل الله
(4)
.
وقال أبو حيان: "في هذا دلالة على ذم التقليد، وهو قبول الشيء بلا دليل ولا حجة، وحكى ابن عطية أن الإجماع منعقد على إبطاله في العقائد، وفي الآية دليل على أن ما كان عليه آباؤهم هو مخالف لما أنزل اللّه، فاتباع أبنائهم لآبائهم تقليد في ضلال، وفي هذا دليل على أن دين اللّه هو اتباع ما أنزل اللّه، لأنهم لم يؤمروا إلا به"
(5)
ومثله القرطبي
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(1/ 95).
(2)
مفاتيح الغيب (5/ 189).
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 81).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 447).
(5)
البحر المحيط (2/ 103).
(6)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 211).
[تحقق الإيمان بالفقة والنظر في الأدلة والبراهين]
قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [سورة البقرة: 171]
24.
قال الشيخ محمد رحمه الله: "والآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وأن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، فمن ربي على التسليم بغير عقل، والعمل ولو صالحا بغير فقه فهو غير مؤمن"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة تحقق الإيمان بالفقه والنظر في الأدلة والبراهين، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: من نعم الله على المؤمنين أن فتح لهم أبواب العلم وبين لهم طرق الفهم الصحيح بالنظر في الأدلة والتأمل فيها باستماع آيات الله ومشاهدة حججه الواضحة، ومتابعة رسله والإنقياد إليهم، فهؤلاء هم أصحاب العقول السليمة الذين فضلوا على البهائم بنعمة العقل، أما من عطل عقله واكتفى بالجمود على ما ألفه من قبل آبائه فإنه يصدق عليه هذا المثل، فلا فرق بينه وبينها إلا أنه معذب لعدم استجابته لما أمر الله به، ولا شك أن من دعي إلى الرشاد، ونهي عن اقتحام العذاب، وأمر بما فيه صلاحه وفلاحه، فعصى الناصح، وتولى عن أمر ربه، واقتحم النار على بصيرة، واتبع الباطل، أنه ليس من أهل الإيمان.
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تتبعون ما وجدتم عليه آباءكم فتتركون ما يأمركم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئا ولا هم مصيبون حقا ولا مدركون رشدا؟ وإنما يتبع المتبع ذا المعرفة بالشيء المستعمل له في نفسه، فأما الجاهل فلا يتبعه فيما هو به جاهل إلا من لا عقل له ولا تمييز"
(2)
، وكذا قال أبو السعود
(3)
.
وقال ابن سعدي: "لما بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل، وردهم لذلك بالتقليد، علم من ذلك أنهم غير قابلين للحق، ولا مستجيبين له، بل كان معلوما لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم، فأخبر تعالى، أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها، وليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها، فهم يسمعون مجرد الصوت، الذي تقوم به عليهم الحجة، ولكنهم لا يفقهونه فقها ينفعهم، فلهذا كانوا صما لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول، عميا لا ينظرون نظر اعتبار، بكما فلا ينطقون بما فيه خير لهم، والسبب الموجب لذلك كله، أنه ليس لهم عقل صحيح، بل هم أسفه السفهاء، وأجهل الجهلاء، فهل يستريب العاقل، أن من دعي إلى الرشاد، وذيد عن الفساد، ونهي عن اقتحام العذاب، وأمر بما فيه صلاحه وفلاحه وفوزه ونعيمه، فعصى الناصح، وتولى عن أمر ربه، واقتحم النار على بصيرة، واتبع الباطل، ونبذ الحق، أن هذا ليس له مسكة من عقل، وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة والدهاء، فإنه من أسفه السفهاء"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 77).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (3/ 44).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 240).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 81).
[رحمة الله بالناس ببيانه ما حل لهم وما حرم عليهم]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [سورة البقرة: 172]
25.
قال الشيخ رحمه الله: "الأمر هنا للوجوب لا للإباحة، والطيبات ما طاب كسبه من الحلال، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تدينا لتعذيب النفس، وهذا تنبيه بعد ما تقدم إلى عدم الالتفات إلى أولئك الحمقى الذين أبيحت لهم خيرات الأرض فطفقوا يحلون بعضها ويحرمون بعضا بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب المباحات، في مسألة رحمة الله بالناس ببيانه لما حل لهم وما حرم عليهم، من خلال دلالة وجوب الأمر في الآية.
وجه الاستنباط: الآية بينت رحمة الله بالناس بأن أحل لهم وفصل ما ينتفعون به، فلا ينبغي لأحد مهما علت منزلته أن يأتي بحكم يخالف فيه حكم الله في تحريم شيء أو تحليل شيء لا تدينا ولا اجتهادا إلا بعد أمر الله، وهذا ما عاب عليه الشيخ الرهبان وأهل العقائد الفاسدة ممن ينتمي للإسلام، الذين حرموا على أنفسهم الطيبات التي أحل الله لهم تقربا إلى الله بذلك الفعل، وأن الله لم يطلب منهم تحريم شيء منها، ولكن عقائدهم المنحرفة واتباعهم لأهوائهم هو سبب تحريمهم لها.
قال بعض المفسرين: الآية هنا أفادت الإباحة على الإطلاق
(2)
، وقيل: فيه دليل على أن العبد لا يمكنه أن يحرم على نفسه ما أحله اللّه تعالى له بعقده وقصده"
(3)
.
وقال الجصاص
(4)
: "وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا، لأن اللّه تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً}، ويدل على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها"
(5)
، ووافقهم جمع من المفسرين
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 77).
(2)
مفاتيح الغيب (5/ 190)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 216).
(3)
أحكام القرآن، الكيا هراسي (3/ 87).
(4)
أحمد بن علي الرَّازي، أبو بكر الجصاص، الإمام العلامة المفتي المجتهد، علم العراق انتهت إليه رئاسة الحنفية، وخوطب في أن يلي القضاء فامتنع، وألف كتاب (أحكام القرآن)، وكتابا في (أصول الفقه) توفي سنة 370 هـ، سير أعلام النبلاء ط الحديث (12/ 344)، الأعلام للزركلي (1/ 171).
(5)
أحكام القرآن، للجصاص (4/ 110).
(6)
كابن العربي في أحكام القرآن (2/ 122)، والرازي في مفاتيح الغيب (12/ 59)، وابن عاشور في التحرير والتنوير (7/ 16)، وابن سعدي في تفسيره (344).
[مغفرة الله وعفوه عن الخطأ في الاجتهاد]
قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} [سورة البقرة: 173]
26.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر (غَفُورٌ) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال: إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية، وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات، والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جدا، ومرجعه إلى اجتهاد المضطر، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود، والله أعلم"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا بلاغيا، في مسألة الفاصلة القرآنية وعلاقتها بالآية، في مسألة مغفرة الله وعفوه عن الخطأ في الاجتهاد، بدلالة الاقتران.
وجه الاستنباط: هنا نكتة بلاغية في ختم الآية بوصف الغفور في مقام لا يستوجب الإنابة والتوبة من الزلل، وإنما هو في العفو عن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في تحديد حالة الاضطرار، وإن من رحمة الله أن فرق بين الخطأ الناتج عن اجتهاد واضطرار، والخطأ المتعمد لتجاوز ما أذن الله به، وهذا ما يتناسب مع لفظة الغفور في هذا المقام، فإن هذا الخطأ مغفور بقدر هذه الحالة.
قال ابن عاشور: "إن هذا التذييل قصد به الامتنان، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في رؤيا القليب: "وفي نزعه ضعف والله يغفر له"، ومعنى الآية: أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة"
(2)
، وممن قال بهذا البغوي، والشوكاني
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 81)
(2)
التحرير والتنوير (2/ 121).
(3)
تفسيرالبغوي (1/ 98)، فتح القدير (1/ 197).
[المساواة في القصاص سبيل للحياة]
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [سورة البقرة: 179]
27.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "إن الآية على كونها أبلغ، وكلمتها أوجز، قد أفادت حكما لم تكن عليه العرب قبلها، ولم يطلبه أحد من عقلائهم وبلغائهم، وهو المساواة في العقوبة وبيان أن فيه الحياة الطيبة، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الحدود، في مسألة المساواة في القصاص سبيل للحياة، من دلالة مفهوم الآية.
وجه الاستنباط: جاءت الآية بحكم المساواة في العقوبة، وأنه السبيل للحياة الطيبة، وفيه صيانة للناس من اعتداء بعضهم على بعض، وأن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فيحييا بذلك معا، وهذا حكم لم تعرفه العرب قبل ذلك، وهو على خلاف ما كانت عليه، إذ كانوا إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا، وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فكان لهم في ذلك حياة، وفيه أيضا إشارة إلى إعمال العقل، والبعد عن الحميات والعصبيات القبلية التي كانت مسيطرة في ذلك الوقت وإلى يومنا هذا، ولا يفهم هذه الحكمة إلى أصحاب العقول السليمة.
قال ابن كثير: "وفي شرع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس، وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز"
(2)
، وممن قال بهذا أبو حيان، والقرطبي، وابن سعدي، والشوكاني
(3)
.
قال ابن سعدي: "وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب، وناداهم رب الأرباب، وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون"
(4)
.
قال الشيخ سليمان الخراشي: "وإن من أبعاد تلك المنزلة التي جعلها الإسلام للعقل: تعظيم الإسلام لعمل العقل في سبيل الوصول إلى الحقائق بطرق شتى منها؛ الثناء على أصحاب العقل الذين يستعملونه في الحكم على الأشياء والتعامل معها، فالله سبحانه يخاطب أصحاب العقول حينما يذكر أحكامه لأنهم هم الذين يفهمون أنها أحكام عدل وحق"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 107).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 492).
(3)
البحر المحيط (2/ 153)، الجامع لأحكام القرآن (2/ 256)، تفسير السعدي (1/ 84)، فتح القدير (1/ 228).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 84).
(5)
انظر: نقض أصول العقلانيين (3/ 34).
[لا يجيب الدعاء إلا الله]
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [سورة البقرة: 186]
28.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: " ولا دليل في الآية على أن كل دعاء يجاب، بل هي نفسها دليل على أنه لا يجيب الدعاء إلا الله"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في توحيد الألوهية، في مسألة لا يجيب الدعاء إلا الله، بدلالة المفهوم من الآية.
وجه الاستنباط: أن الدعاء من أعظم مقامات العبودية لله، لأنه إظهار افتقار العبد لخالقه، فلا يصرف الا لله وحده، ولا يتحقق إلا بشروط، فإذا جاءت الإجابة كانت تفضلا ومنّةً من الله وليس إلزاماً يقتضي إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان، لأن الخبر لا يقتضي العموم، وعليه فلا يجوز صرفه إلا لله عز وجل، وهو بهذا يرد على عباد القبور ومن يطلب منها الرزق والشفاء.
ووافق بهذا جمع من المفسرين منهم ابن عطية
(2)
حيث قال: "قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم"
(3)
، ونقل ذلك عنه القرطبي
(4)
.
وقال أبو حيان: "قيل: والدعاء أعظم مقامات العبودية لأنه إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والشرع قد جاء بالأمر به، وقد دعت الأنبياء والرسل، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه، وليؤمنوا بي معطوف على: فليستجيبوا لي، ومعناه الأمر بالإيمان بالله، وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بعد، لأن صدر الآية يقتضي أنهم مؤمنون، فلذلك يؤول على الديمومة، أو على إخلاص الدين، والدعوة، والعمل، أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة أو بالإيمان وتوابعه، أو بالإيمان في: أني أجيب دعاءهم"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 137).
(2)
عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن تمام بن عطية، أبو محمد، الإمام الكبير قدوة المفسرين، القاضي، كان فقيها عارفا بالأحكام والحديث والتفسير بارعا في الأدب ذا ضبط وتقييد وتجويد وذهن سيال، له المحرر الوجيز في التفسير ولو لم يكن له إلا هو لكفى، وتوفي سنة 542 هـ، الوافي بالوفيات (18/ 40).
(3)
المحرر الوجيز (1/ 256).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 309 - 313).
(5)
البحر المحيط (2/ 209 - 207).
قال ابن عاشور: "والآية دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عباده غير أن ذلك لا يقتضي التزام إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان، لأن الخبر لا يقتضي العموم، ولا يقال: إنه وقع في حيز الشرط فيفيد التلازم، لأن الشرط هنا ربط الجواب بالسؤال وليس ربط للدعاء بالإجابة، لأنه لم يقل: إن دعوني أجبتهم، وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} تفريع على {أُجِيبُ} أي إذا كنت أجيب دعوة الداعي فليجيبوا أوامري، واستجاب وأجاب بمعنى واحد"
(1)
.
قال ابن سعدي: "الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق، فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة، فلهذا قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة، ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره، سبب لحصول العلم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} "
(2)
، ومثله الشوكاني
(3)
.
[حفظ مال الغير سبيل لتحقيق وحدة الأمة وتكافلها]
قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [سورة البقرة: 188]
29.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "واختار لفظ (أَمْوَالَكُمْ) وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه للإشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك؛ لأن استحلال التعدي وأخذ المال بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي، وبيان لحكمة الحكم"
(4)
.
(1)
التحرير والتنوير (2/ 177).
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 87).
(3)
فتح القدير (1/ 213).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 157).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا، في باب دلالات الألفاظ وعلاقتها بالمعنى، في مسألة حفظ مال الغير سبيل لتحقيق وحدة الأمة وتكافلها، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: اختيار لفظ (أَمْوَالَكُمْ) يفضي إلى وجوب حفظ مال الغير وأنه من الكليات الخمس التي جاء الإسلام بالحفاظ عليها، فجاء بهذا التعبير الدقيق ليشعر بوحدة الأمة وتكافلها، وأن في أكل مال الغير بالباطل ليس فقط جناية على الآكل بل هو جناية على الأمة بأكملها، لأن هذا الفعل يجر إلى استحلال أشياء أخرى.
وقد دل على ذلك الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: 10]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا))
(1)
.
وهذا مما انفرد به الشيخ، فلم أجد فيما اطلعت عليه من كلام المفسرين إشارة إلى هذا المعنى، وهذا من المسائل التي اعتنى بها علم مقاصد الشريعة في كتب أصول الفقه
(2)
، التي قررت أن عصمة مال الغير كعصمة مال النفس، فهو يتضمن أن آكل مال غيره كآكل مال نفسه بالباطل، وعبر عن الإتلاف بالأكل، لأنه أهم الحوائج، ولأن به يحصل إتلاف المال غالباً.
قال ابن عاشور: "معظم قواعد التشريع المالي المتعلقة بحفظ أموال الأفراد، وآيله إلى حفظ مال الأمة، لأن منفعة المال الخاص عائدة إلى المنفعة العامة لثروة الأمة، فالأموال المتدوالة بأيدي الأفراد تعود منفعتها على أصحابها، وعلى الأمة كلها، لعدم انحصار الفوائد المنجزة إلى المنتفعين بتداولها"
(3)
.
[من صور التحايل على شرع الله، الإدلاء للحكام]
قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [سورة البقرة: 188]
30.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ذكر الأكل مجملا عاما، ثم بين نوعا منه خصه بالنهي عنه مع دخوله في العام لما يقع من الشبهة فيه لبعض الناس؛ إذ يعتقد بعضهم أن الحاكم الذي هو نائب الشارع في بيان الحق ومنفذ الشرع إذا حكم لإنسان بشيء ولو بغير حق فإنه يحل له ولا يكون من الباطل فقال تعالى: (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)، أي: ولا تلقوا بها إلى الحكام رشوة لهم (لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إبطالا لهذا الاعتقاد؛ ليعلم أن الحق لا يتغير بحكم الحاكم، بل هو ثابت في نفسه، وليس على الحاكم إلا بيانه وإيصاله إلى مستحقه بالعدل؛ بل قال الأستاذ الإمام: إن الحاكم عبارة عن شخص العدل الناطق بما لكل أحد منه"
(4)
.
(1)
رواه البخاري: كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ أوعى من سامع، ح (67).
(2)
وللاستزاد ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ المال وتنميته دراسة فقهية موازنة (506 - 513).
(3)
المقاصد العامة للشريعة، ص 170
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 160).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب التخصيص والحكمة منه، في مسألة من صور التحايل على شرع الله، الإدلاء للحكام، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: التحايل على شرع الله بأخذ أموال الغير بالأحكام التي ترفع للقضاء مما يقع من الشبهة فيه عند بعض الناس، إذ يعتقدون أن ما يأخذونها بحكم الشرع المتمثل في هذه الأحكام حلال عليهم وهم يعلمون أن ما حصلوا عليه ليس لهم، فكان هذا البيان إبطالا لهذا الاعتقاد.
قال قتادة
(1)
: "لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حراما"
(2)
.
قال ابن عاشور: "وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أكل الأموال بالباطل؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة"
(3)
.
[في أي سنة فرض الحج]
قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [سورة البقرة: 196]
31.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن الحج مما أقره الإسلام من ملة إبراهيم عليه السلام كما تقدم آنفا، وآية آل عمران في التصريح بفرضيته نزلت قبل هذه الآيات فيما يظهر؛ لأن سورة آل عمران نزلت عقب غزوة أحد سنة أربع، ولكن المسلمين لم يكن يمكنهم الحج قبل فتح مكة، فالطائف وكان فتحها في سنة ثمان، وفي سنة تسع خرجوا للحج أول مرة بإمارة أبي بكر رضي الله عنه وكانت تمهيدا لحجة النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر إذ أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا فيها بألا يطوف بالبيت بعد هذا العام مشرك، ونزلت آية: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [سورة التوبة: 28] ولهذا قال الجمهور: إن الحج فرض سنة تسع، والصواب أنه فرض قبلها ونفذ فيها"
(4)
.
(1)
قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز السّدوسيّ، الحافظ العلامة، أبو الخطاب البصري، الضرير الأكمه المفسّر، مات بواسط في الطاعون سنة 118 هـ، وله سبع وخمسون سنة، طبقات المفسرين للداوودي (2/ 47).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (3/ 277)، معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 211).
(3)
التحرير والتنوير (2/ 187).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 177).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب طرق الاستدلال والترجيح، في مسألة في أي سنة فرض الحج، بدلالة تاريخ نزول الآيات.
وجه الاستنباط: الحج فرض بعد نزول آية آل عمران، بعد غزوة أحد، وأداؤه كان سنة تسع من الهجرة، بعد القدرة عليه بعد فتح مكة، وقد ذكر الشيخ بعد ترجيحه واختياره، قول جمهور العلماء أن الحج فرض سنة تسع من الهجرة.
وقد أجاب ابن القيم على استنباط الشيخ واختياره، فقال:"لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر، وأما قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية، فليس فيها فريضة الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، فإن قيل: فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم"
(1)
.
ووافقه ابن عاشور حيث قال: "وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه، أي نزلت في سنة تسع، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة، وفرع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى الله عليه وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها، فالنهي ظاهره موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما أعطيه من الحجج كاف في قطع منازعة معارضيه"
(2)
.
(1)
زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 96).
(2)
التحرير والتنوير (17/ 328).
[أهمية التقوى وعلاقتها بصلاح القلوب]
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} [سورة البقرة: 203]
32.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "أمر بالتقوى بعد الإعلام بمكانتها فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) "، ثم قال:"ومن فوائد هذا الأسلوب أن تكرار الأمر بالذكر وبيان مكانة التقوى، ثم الأمر بها تصريحا في هذه الآيات التي فيها من الإيجاز ما هو في أعلى درجات الإعجاز، حتى سكت عن بعض المناسك الواجبة للعلم بها"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة أهمية التقوى وعلاقتها بصلاح القلوب، بدلالة التكرار.
وجه الاستنباط: تقوى الله بامتثال أوامره واجتناب نواهية هي المطلب في أي عبادة لله عزوجل، ولا سبيل لتحقيق هذا إلا بذكر الله في السر والعلن، وبهذا يتحقق معنى التقوى، ولذا كان في تكرار لفظة التقوى بعد الإعلام بمكانتها إشارة وتأكيداً لأهميتها.
قال الرازي: "قوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ) فهو أمر في المستقبل، وهو مخالف لقوله:(لِمَنِ اتَّقى) الذي أريد به الماضي فليس ذلك بتكرار، وقد علمت أن التقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحرمات، فأما قوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فهو تأكيد للأمر بالتقوى، وبعث على التشديد فيه، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار، صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى
(2)
.
وزاد الألوسي: "وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به، فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى "
(3)
.
وقال ابن سعدي: "فمن اتقى الله في كل شيء، حصل له نفي الحرج في كل شيء، ومن اتقاه في شيء دون شيء، كان الجزاء من جنس العمل، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه، وجد جزاء التقوى عنده، ومن لم يتقه، عاقبه أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله، فلهذا حث تعالى على العلم بذلك"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 195).
(2)
مفاتيح الغيب (5/ 343).
(3)
روح المعانى (1/ 489).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 93).
[علاقة الأعمال والأحوال بمكنونات القلوب]
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [سورة البقرة: 204]
33.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ولما كان محل التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب الأعمال دون مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان، فكانت هذه متصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز وهو إصلاح القلوب، واختلاف أحوال الناس فيها، وما ينبغي أن يعلموه منها، ولذلك عطفها عليها"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا، في باب العطف، في مسألة علاقة الأعمال والأحوال بمكنونات القلوب، بدلالة السياق.
وجه الاستنباط: أن العطف أفاد التناسب بين هذه الآية وما قبلها من آيات الحج، حيث كانت خاتمتها حاثة على التقوى، فجاءت هذه الآية بالدليل والشاهد على ما في القلوب من التقوى، وفضح من كانت أقوالهم تخالف ما في قلوبهم، وأفعال العباد هي ترجمان لما في قلوبهم، فكانت فاضحة للمنافقين ومبينة لصدق الصادقين.
قال الرازي: "اعلم أنه تعالى لما بين أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان: كافر وهو الذي يقول: (ربنا آتنا في الدنيا) ومسلم وهو الذي يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) بقي المنافق، فذكره في هذه الآية، وشرح صفاته وأفعاله"
(2)
ومثله أبو حيان، وابن كثير، والقرطبي، وابن سعدي
(3)
وغيرهم.
وقال أبو السعود: "تجريد للخطاب وتوجيه له إليه عليه الصلاة والسلام وهو كلام مبتدأ سيق لبيان تحزب الناس في شأن التقوى إلى حزبين وتعيين مآل كل منهما ومن موصولة أو موصوفة وإعرابه كما بين في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الاخر أي ومنهم من يروقك كلامه ويعظم موقعه في نفسك لما تشاهد فيه من ملاءمة الفحوى ولطف الأداء والتعجب حيرة تعرض للإنسان بسبب عدم الشعور بسبب ما يتعجب منه"
(4)
.
وقال ابن عاشور: "عطف على جملة {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 200] الخ، لأنه ذكر هنالك حال المشركين الصرحاء الذين لا حظ لهم في الآخرة، وقابل ذكرهم بذكر المؤمنين الذين لهم رغبة في الحسنة في الدنيا الآخرة، فانتقل هنا إلى حال فريق آخرين ممن لا حظ لهم في الآخرة وهم متظاهرون بأنهم راغبون فيها، مع مقابلة حالهم بحال المؤمنين الخالصين الذين يؤثرون الآخرة والحياة الأبدية على الحياة الدنيا"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 196).
(2)
مفاتيح الغيب (5/ 352)
(3)
البحر المحيط في التفسير (2/ 325)، تفسير القرآن العظيم (1/ 562)، الجامع لأحكام القرآن (3/ 14)، تفسير السعدي (1/ 94).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 210).
(5)
التحرير والتنوير (2/ 248).
[الأعمال الظاهرة دليل على ما في القلب من صلاح أو فساد]
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [سورة البقرة: 204]
34.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "في الآية دليل على أن تلك الصفات الظاهرة المحمودة، لا تكون محمودة مرضية عند الله تعالى إلا إذا أصلح صاحبها عمله فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، وهي ترشدنا إلى التمييز بين الناس بأعمالهم وسيرتهم وعدم الاغترار بزخرف القول"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب أعمال القلوب، في مسألة الأعمال الظاهرة دليل على ما في القلب من صلاح أوفساد، بدلالة المخالفة.
وجه الاستنباط: أعمال القلوب تظهر على الجوارح، وليست الجوارح بمعزل عما في قلوب أصحابها، فالإنسان مهما حاول إظهار محاسن الأخلاق التي لم يصدق فيها مع الله، فإن الله يظهر حقيقته مهما حاول إخفاءها، لأن الله لا ينظر إلى الصور والأشكال ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، وكما قيل: كل إناء بما فيه ينضح.
قال الجصاص: "فيه تحذير من الاغترار بظاهر القول وما يبديه من حلاوة المنطق والاجتهاد في تأكيد ما يظهره، فأخبر اللّه تعالى أن من الناس من يظهر بلسانه ما يعجبك ظاهره: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [سورة البقرة: 204]، وهذه صفة المنافقين مثل قوله تعالى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [سورة المنافقون: 1]، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [سورة المنافقون: 4]، فأعلم اللّه تعالى نبيه ضمائرهم لئلا يغتر بظاهر أقوالهم وجعله عبرة لنا في أمثالهم لئلا نتكل على ظاهر أمور الناس وما يبدونه من أنفسهم"
(2)
، ووافقهم أبو حيان والقرطبي وابن عاشور وابن عثيمين
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 199).
(2)
أحكام القرآن (1/ 396).
(3)
البحر المحيط (2/ 325)، الجامع لأحكام القرآن (3/ 15)، والتحرير والتنوير (2/ 258)، تفسير ابن عثيمين (2/ 354).
قال ابن سعدي: "في هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص، ليست دليلا على صدق ولا كذب، ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها، المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود، والمحق والمبطل من الناس، بسبر أعمالهم، والنظر لقرائن أحوالهم، وألا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم"
(1)
.
[النصح والإرشاد لا ينافي العزة]
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} [سورة البقرة: 206]
35.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وعبر عن الكبرياء والحمية بالعزة؛ للإشعار بوجه الشبهة للنفس الأمارة بالسوء وهو تخيلها النصح والإرشاد ذلة تنافي العزة المطلوبة"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا، في باب دلالات الألفاظ، في مسألة النصح والإرشاد لا ينافي العزة، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: لفظ العزة من الألفاظ المحمودة، التي إذا استخدمت في غير محلها، فإنها تطغي الإنسان وتثير فيه الحمية والعصبية، وتبعده عن قبول الحق مهما كان، فتتمثلها النفس الأمارة بالسوء فتزين لصاحبها وتغريه حتى ينساق لها ظنا منه أنه على حق، فجاء التحذير من هذه الخصال، وأن العزة لا تكون إلا لله ولرسوله، وفيما يرضيهما من إقامة شرع الله.
قال جمع من المفسرين: إن المراد بالعزة هي الأنفة والحمية على فعل الإثم وهو التكبر
(3)
.
قال القرطبي: "قال قتادة: المعنى إذا قيل له مهلا ازداد إقداما على المعصية، والمعنى حملته العزة على الإثم، وقيل: أخذته العزة بما يؤثمه، أي ارتكب الكفر للعزة وحمية الجاهلية، ونظيره: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [سورة ص: 2]، وقيل: الباء في "بِالْإِثْمِ" بمعنى اللام، أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو النفاق"
(4)
، وكذا قال البغوي
(5)
.
قال الزمخشري: "أي حملته العزة التي فيه وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه، وألزمته ارتكابه، وألا يخلى عنه ضرارا ولجاجا، أو على ردّ قول الواعظ"
(6)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 93).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 200).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 491)، ومفاتيح الغيب (5/ 349).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 19).
(5)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 236).
(6)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 251).
[مدافعة أهل الحق للباطل والفساد رحمة من الله لهم وللعباد]
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} [سورة البقرة: 207]
36.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان، ثم بين أنه ما شرع هذا إلا رأفة بعباده فقال: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)، إذ يرفع همم بعضهم ويعلي نفوسهم حتى يبذلوها في سبيله، لدفع الشر والفساد عن عباده وتقرير الحق والعدل والخير فيهم، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [سورة البقرة: 251]، وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا، وألا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها، ولو كان كذلك -وهو من تكليف ما لا يطاق- لما قرنه الله تعالى باسمه الرءوف الدال على سعة رحمته بعباده، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه، ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة مدافعة أهل الحق للباطل والفساد رحمة من الله لهم وللعباد، بدلالة الاقتران.
وجه الاستنباط: من باعوا أنفسهم لله، وكانت حياتهم موافقة لمقتضى الإيمان، فإن حياتهم في نفسها لذة، وإن كان في ظاهرها ألم ونصب، وخلافا للتوهّم بأن ذلك ترك لملذات الدنيا، وسعادة قلوبهم بالرضا والشعور برأفة الله بهم أعظم سعادة، بل إنه لم تقتصر رحمة الله عليهم فقط، فإنهم ممن ينتفع الناس بهم، ويكونون رحمة عامة للعباد، وبوجودهم يدفع الله الشر والفساد عن الخلق، ويقرر الحق والعدل والخير فيهم، مصداقا لقول الله عز وجل:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).
قال ابن عاشور: "رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة"
(2)
.
قال الشيخ ابن سعدي: "هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفيّ الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى آخر الآية، وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 204).
(2)
التحرير والتنوير (2/ 257).
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 94).
[معرفة الأحكام لا تتحقق إلا بجمع الأدلة ومناقشتها]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [سورة البقرة: 208]
37.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "هذه كلمة عظيمة، وقاعدة لو بنى جميع علماء الدين مذاهبهم عليها لما تفاقم أمر الخلاف في الأمة، ذلك أنها تفيد وجوب أخذ الإسلام بجملته، بأن ننظر في جميع ما جاء به الشارع في كل مسألة من نص قولي وسنة متبعة، ونفهم المراد من ذلك كله ونعمل به، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر، وإن أدت إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن، وحملها على النسخ أو المسخ بالتأويل، أو تحكيم الاحتمال بلا حجة ولا دليل"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب فقه كليات الشريعة، في مسألة معرفة الأحكام لا تتحقق الا بجمع الأدلة في المسألة ومناقشتها، للوصول، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الذين لهم الحق في معرفة أحكام الشريعة واستنباطها، وهذا يتم بالنظر في كليات الشريعة وأدلتها على حد سواء، وفهمها واستخراج الأحكام من خلالها، وإن سبب كثير من الاختلافات هو إهمال الكليات والأخذ بالأدلة التفصيلية في أحكام المسائل بما يوافق مذهبا معينا ثم الاحتجاج به على الآخرين، مما يترتب عليه توسع الخلاف، وإهمال كثير من الأدلة وردها بدعوى النسخ أو التأويل.
وهذا المعنى مما انفرد به الشيخ، وهو معنى بديع في تأصيله لم يتطرق إليه أهل التفسير الذين اقتصروا على المعنى العام لمعنى الدخول في السلم كافة.
قال ابن جرير: "إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في"الذين آمنوا" المصدِّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم"الإيمان"، فلا وجه لخصوص بعض دون بعض"
(2)
. ومثله ابن كثير، والبغوي، والرازي، وأبو حيان وابن سعدي
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 205).
(2)
جامع البيان (4/ 257).
(3)
جامع البيان (4/ 253)، تفسير القرآن العظيم (1/ 566)، معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 240)، مفاتيح الغيب (5/ 352)، البحر المحيط في التفسير (2/ 338)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 94).
وجاء في شرح العقيدة الطحاوية: "يجب الدخول فيه كافة، وألا يقول المسلم إذا أسلم أنا أدخل في بعض الإسلام ولا أدخل في بعض، أو ألتزم ببعض ولا ألتزم ببعض أو أقر ببعض ولا أقر ببعض"
(1)
.
[العذر بالجهل، وأن عقوبة الله لا تنزل إلا بعد البيان]
قال تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [سورة البقرة: 209]
38.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والتقييد بمجيء البينات والآيات دليل على أن من لم تبلغه الدعوة الصحيحة بالبينة والدليل لا يخاطب بهذا الوعيد، فحسبه حرمانه من هداية الأنبياء عليهم السلام، فكيف يطالب مع ذلك بما لا يعلم، ويجعل مع من عاند الحق من بعد ظهوره له في قرن"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب التوحيد، في مسألة العذر بالجهل، وأن عقوبة الله لا تنزل إلا بعد البيان، بدلالة مفهوم المخالفة.
وجه الاستنباط: دلت الآية على أن الحجة لا تقوم على الإنسان ولا يستحق عقوبة الله ما لم تبلغه الدعوة، ولا يعد كافراً بترك شيء من شعائر الدين، لأن الله رتب العقوبة على من علم علماً يقينياً ثم أعرض عناداً وكفرا، واستدل الشيخ بهذه الآية على مسألة العذر بالجهل، وهي مسألة عقدية للعلماء فيها أقوال وتفصيلات.
ومن أجمل تحريرات المسألة ماقال ابن عثيمين: "الجهل نوعان: جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئاً عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئاً عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه فإن كان منتسباً إلى الإسلام، لم يضره، وإن كان منتسباً إلى الكفر، فهو كافر في الدنيا، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح، يمتحن، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار"
(3)
. وقال: " أنه لا تقوم الحجة على الإنسان، ولا يستحق العقوبة إلا بعد قيام البينة"
(4)
.
ومما قاله أهل التفسير قول ابن جرير: "فإن أخطأتم الحق فضللتم عنه، وخالفتم الإسلام وشرائعه، من بعد ما جاءتكم حُجَجي وبيِّنات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنو، فاعلموا أن الله ذو عزة، لا يمنعه من الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكما أمره ومعصيتكم إياه دافع، حكيم فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه، بعد إقامته الحجة عليكم، وفي غيره من أموره"
(5)
، ومثله الزمخشري، وابن عطية
(6)
.
(1)
شرح العقيدة الطحاوية، صالح آل الشيخ (1/ 717).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 215).
(3)
القول المفيد على كتاب التوحيد، (1/ 204).
(4)
تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (3/ 11).
(5)
جامع البيان (4/ 259).
(6)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 253)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 283).
وقال الرازي: "دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وإزاحة العلة، فإذا علق الوعيد بشرط مجيء البينات وحصولها فبأن لا يجوز أن يحصل الوعيد لمن لا قدرة له على الفعل أصلا أولى، ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا القدرة، وقد ينتفع بالقدرة مع فقد الدلالة، وقال: دلت الآية على أن المعتبر حصول البينات لا حصول اليقين من المكلف فمن هذا الوجه دلت الآية على أن المتمكن من النظر والاستدلال يلحقه الوعيد كالعارف، فبطل قول من زعم أن لا حجة لله على من يعلم ويعرف"
(1)
. ومثله ابن عاشور
(2)
.
قال القرطبي: "وفى الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع"
(3)
.
[قبول الحق والعمل به توفيق وهداية من الله]
قال تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [سورة البقرة: 209]
39.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفي هذه من الهداية أيضا بيان أمر عظيم يغفل عنه العلماء والأذكياء، وهو أن الآيات والبينات إنما تفيد النفوس الخيرة المستعدة لقبول الحق المتوجهة إلى طلبه، وأما النفوس الخبيثة التي يفضحها الحق ويظهر باطلها الذي تحب ستره، والاسترسال فيما هي فيه من اللذة الحسية والجاه الباطل؛ فإن الآيات والبينات لا تزيدها إلا مماراة وجدلا في القول وجحودا وعنادا بالفعل. هذه سنة الله تعالى في البشر عامة، لا في بني إسرائيل خاصة"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب سنن الله عز وجل الإلهية، في مسألة قبول الحق والعمل به توفيق وهداية من الله عز وجل، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: بينت الآية الفرق بين نفوس أهل الحق وأهل الباطل في قبول الحق، فأهل الحق دائماً نفوسهم مقبلة على الحق ومتوجهة إليه، أما أهل الباطل يضمرون الخبث في نفوسهم ولا ينتفعون بالهدايات المرسلة، ولا تزيدهم إلا عناداً وكفراً.
وقد ورد في نصوص الشريعة ما يشهد لهذا الاستنباط من الشيخ أن النفوس الصادقة والباحثة عن الحق يوفقها الله للهداية، وأن النفوس المستكبرة والمعرضة تحرم من هذه الهداية، كقوله تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنفال: 23].
(1)
مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 355).
(2)
التحرير والتنوير (2/ 281).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 24).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 215).
وهذا الاستنباط مما تفرد به الشيخ، فلم أجد فيما وقفت عليه من كتب التفسير من تكلم عنه أو أشار إليه.
[التدرج منهج الأنبياء في الدعوة إلى الحق]
40.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "قال تعالى: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، الإتيان بهذه القضية بعد وصف الأنبياء بالمبشرين المنذرين يدل على أن التبشير والإنذار عمل يسبق إنزال الكتب وهو حق؛ لأن الأنبياء أول ما يبعثون ينبهون قومهم إلى ما غفلوا عنه، ويحذرونهم عاقبة ما يكونون فيه من عادة سيئة أو خلق قبيح أو عمل غير صالح، فإذا تهيأت الأذهان لقبول ما بعد ذلك من تشريع الأحكام وتحديد الحدود، أنزل الله الكتب لبيان ما يريد حمل الناس عليه مما هو صالح لهم على حسب استعدادهم"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الحكمة في دعوة الأنبياء لأقوامهم، في مسألة التدرج هو منهج الأنيباء في الدعوة إلى الحق، بدلالة العطف والتقديم في الذكر.
وجه الاستنباط: وظيفة الأنبياء هي البشارة والنذارة لأمر عظيم قامت عليه الحكمة من خلق الله لهم، واحتاج هذا إلى تهيئة عقولهم وأنفسهم لقبول هذا الأمر، وبالتالي قبول الشرائع المنزلة في الكتب على الأنبياء بعد ذلك، وما فيها من بيان للعقائد الصحيحة وتحليل الحلال وتحريم الحرام، والعمل بها لتحقيق غاية العبودية لله.
وهذا المعنى أشار إليه أبو حيان حيث قال: "وقدم البشارة لأنها أبهج للنفس، وأقبل لما يلقي النبي، وفيها اطمئنان المكلف، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة، ومنه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [سورة مريم: 97]، وانتصاب: مبشرين ومنذرين، على الحال المقارنة، وأنزل معهم الكتاب بالحق: معهم حال من الكتاب، وليس تعمل فيه أنزل، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال، وليسوا متصفين، وهي حال مقدرة أي: وأنزل الكتاب مصاحبا لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحبا لهم، لكنه انتهى إليهم، والكتاب: إما أن تكون أل فيه للجنس، وإما أن تكون للعهد على تأويل: معهم، بمعنى مع كل واحد منهم، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب، وهو التوراة"
(2)
، ومثله قال أبو السعود
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 226).
(2)
البحر المحيط (2/ 364).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 214).
[دلالة الآية على تحريم الخمر والميسر ظنية]
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)} [سورة البقرة: 219]
41.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ثم فطنت بعد ذلك إلى قاعدة عظيمة من قواعد التشريع الإسلامي بينتها في المنار وفي التفسير واستدللت عليها بهذه الآية، وهي أن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا يجعل تشريعا عاما تطالب به كل الأمة، وإنما يعمل فيه كل واحد باجتهاده، فمن فهم منه الدلالة على تحريم شيء امتنع منه، ومن لم يفهم منه ذلك جرى فيه على أصل الإباحة، ودلالة هذه الآية على تحريم الخمر والميسر ظنية، ولذلك عمل فيها الصحابة باجتهادهم - على اختلافهم فيه - وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وبقي عمر بن الخطاب يدعو الله أن يبين للأمة في الخمر بيانا شافيا حتى نزلت آية سورة المائدة كما تقدم آنفا، فترك جميع الصحابة الخمر والميسر؛ لأن دلالتها قطعية لا مراء فيها"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب دلالة النصوص على الأحكام، في مسألة دلالة الآية على تحريم الخمر والميسر ظنية، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: دلالة النصوص على الأحكام، إما أن تكون قطعية وإما أن تكون ظنية، كما هو مقرر في علم أصول الفقة، ودلالة التحريم في هذه الآية ظنية غير قطعية، وقد عمل فيه كل صحابي باجتهاده، فمن فهم الدلالة على التحريم امتنع، ومن لم يفم منه ذلك جرى فيه على قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، ولذا لم تجعل تشريعا عاما، ولم تطالب به كل الأمة.
وهذا الاستنباط من مسائل علم أصول الفقه
(2)
، ولم يشر إليه أحد من المفسرين، بينما أشار بعضهم إلى: هل الآية تدل على التحريم أوعدمه؟، كما قال أبو حيان:"واختلف المفسرون: هل تدل هذه الآية على تحريم الخمر والميسر أم لا تدل؟ والظاهر أنها تدل على ذلك، والمعنى: قل في تعاطيهما إثم كبير، أي: حصول إثم كبير، فقد صار تعاطيهما من الكبائر، ومن قال: لا تدل على التحريم، استدل بقوله: ومنافع للناس، والمحرم لا يكون فيه منفعة، ولأنها لو دلت على التحريم لقنع الصحابة بها، وهم لم يقنعوا حتى نزلت آية المائدة، وآية التحريم في الصلاة، وأجيب بأن المحرم قد يكون فيه منفعة عاجلة في الدنيا، وبأن بعض الصحابة سأل أن ينزل التحريم بالأمر الواضح الذي لا يلتبس على أحد، فيكون آكد في التحريم"
(3)
. ونقل ذلك أيضا ابن عاشور
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 264 - 265).
(2)
انظر: علم أصول الفقه (ص: 35).
(3)
البحر المحيط في التفسير (2/ 404).
(4)
التحرير والتنوير (2/ 340).
[تقديم العلة على الحكم وترتيبه عليها]
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [سورة البقرة: 222]
42.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "قدم العلة على الحكم ورتبه عليها ليؤخذ بالقبول من المتساهلين الذين يرون الحجر عليهم تحكما، ويعلم أنه حكم للمصلحة لا للتعبد كما عليه اليهود، والمراد من النهي عن القرب النهي عن لازمه الذي يقصد منه وهو الوقاع "
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب طرق الاستدلال، في مسألة تقديم العلة على الحكم وترتيبه عليها، من تقديم علة الحيض على حكمه، من دلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: الأمر باعتزال النساء، لا يعني عدم مخالطتهن، وإنما النهي عن قربهن أي مواقعتهن، لما في المواقعة من الأذى والضرر عليهما جميعا، فإن سلم منه الرجل فلا تكاد تسلم منه المرأة، لأن الغشيان يزعج أعضاء النسل فيها إلى ما ليست مستعدة له ولا قادرة عليه، لاشتغالها بوظيفة طبيعية أخرى وهي إفراز الدم المعروف بالحيض، وليعلم أن الأخذ بهذا ليس تحكما، وإنما هو للمصلحة العامة لكليهما، وفي هذا إيقاع للحكم وقد تهيأت النفوس للاستعداد له، وقبوله، وفيه أن الحكم مصلحُ أكثر من أنه تعبدي.
قال الزمخشري: "فاجتنبوا مجامعتهم لقوله عليه الصلاة والسلام إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض وإنما وصفه بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء إشعارا بأنه العلة)، (ولا تقربوهن حتى يطهرن) تأكيد للحكم وبيان لغايته"
(2)
.
قال ابن عاشور: "تفريع الحكم على العلة، والاعتزال التباعد بمعزل وهو هنا كناية عن ترك مجامعتهن"
(3)
.
وقال ابن عثيمين: "قدم العلة على الحكم لتنفر النفوس من الفعل قبل الحكم به؛ فيقع الحكم وقد تهيأت النفوس للاستعداد له، وقبوله"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 285).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 509).
(3)
التحرير والتنوير (2/ 347).
(4)
تفسير القرآن للعثيمين (5/ 45).
[النهي عن إتيان النساء في غير المأتى]
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [سورة البقرة: 222]
43.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وهذا التعبير على لطفه ونزاهته وبلاغته وحسن استعارته تصريح بما فهم من قوله عز وجل: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أو بيان له، فهو يقول: إنه لم يأمر بإتيان النساء الأمر التكويني بما أودع في فطرة كل من الزوجين من الميل إلى الآخر، والأمر التشريعي بما جعل الزواج من أمر وأسباب المثوبة والقربة إلا لأجل حفظ النوع البشري بالاستيلاد، كما يحفظ النبات بالحرث والزرع، فلا تجعلوا استلذاذ المباشرة مقصودا لذاته فتأتوا النساء في المحيض حيث لا استعداد لقبول زراعة الولد وعلى ما في ذلك من الأذى، وهذا يتضمن النهي عن إتيانهن في غير المأتى الذي يتحقق به معنى الحرث"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب مقاصد الشريعة، في مسألة النهي عن إتيان النساء في غير المأتى (وهو الدبر)، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: الأمر بإتيان النساء حيث أمر الله، شرعا وقدرا، يتضمن معنى وحكما يحقق مقصد الشريعة في حفظ النسل، وفي هذا الأمر نهي ضمني عن إتيانهن في غير الموضع المهيأ لهذه المهمة، لأن فيه تعطيلاً للحكمة من الوطء وهي تحقق الولد، وحفظ النسل، وهذا مقصد شرعي يستحق الإشارة إليه والعناية به.
قال ابن عباس
(2)
: "وطؤوهن في الفرج ولا تعدوه إلى غيره"
(3)
.
قال ابن جرير: "فأتوا نساءكم إذا تطهرن من الوجه الذي نهيتكم عن إتيانهن منه في
حال حيضهن، وذلك الفرج الذي أمر الله بترك جماعهن فيه في حال الحيض"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 287).
(2)
أبو العباس عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبر الأمة، وترجمان القرآن، وإمام التفسير، توفي سنة 68 هـ. سير أعلام النبلاء (4/ 380)، الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 122).
(3)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 259)، مفاتيح الغيب (6/ 420).
(4)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (3/ 735).
وقال الكيا
(1)
:
…
"يدل على أن في المأتي اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد"
(2)
، ومثله القرطبي
(3)
.
[الموازنة بين أدب المطلقة وحفظ حقها]
44.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفي التعبير بقوله: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) من الإبداع في الإشارة، والنزاهة في العبارة، ما عهد في كل القرآن، ولم يبلغ مراعاة مثله إنسان، فالكلام في المطلقات وهن معرضات للزواج، وخلو من الأزواج، والأنسب فيه ترك التصريح بما يتشوقن إليه، والاكتفاء بالكناية عما يرغبن فيه، على إقرارهن عليه وعدم إيئاسهن منه، مع اجتناب إخجالهن، وتوقي تنفيرهن أو التنفير منهن، وقد جمع هذه المعاني قوله تعالى: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) على ما فيه من الإيجاز، الذي هو من مواقع الإعجاز، فأفاد أنه يجب عليهن أن يملكن رغبتهن، ويكففن جماح أنفسهن، إلى تمام المدة الممدودة، والعدة المعدودة، ولكن بطريق الرمز والتلويح لا بطريق الإبانة والتصريح "
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا، في باب دلالات الألفاظ، في مسألة الموازنة بين أدب المطلقة وحفظ حقها، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: الأمر بالتربص وتقييده بلفظ أنفسهن خاصة كان جامعا لمعان ثلاثة؛ تشوق المرأة للرجل، وأن هذا حق لها، وأن حياءهن يمنعهن من التصريح، وكذا التوجيه لمن حولهن فلا ينفر منهن ولا ينفرهن، كل هذه المعاني جمعها هذا التعبير، فكأنه أشار بطريق غير مباشر أن يكبحن شهواتهن إلى انتهاء العدة المشروعة ولا يتسرعن في انقضائها لتلبية رغباتهن.
(1)
علي بن محمد بن علي، الإمام شمس الإسلام أبو الحسن إلكيا الهراسي، أحد فحول العلماء ورؤوس الأئمة فقها وأصولا وجدلا وحفظا لمتون أحاديث الأحكام، له أحكام القرآن، مات سنة 504 هـ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (7/ 231)، الوافي بالوفيات (22/ 54).
(2)
أحكام القرآن، الكيا هراسي (1/ 142).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 94).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 295).
قال الزمخشري: "في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص"
(1)
، ومثله البيضاوي، والنسفي، وابن عاشور، وابن عثيمين
(2)
.
[اعتبار العرف فيما لم يثبت تحديده من الحقوق الزوجية بالكتاب والسنة]
45.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والآية تدل على اعتبار العرف في حقوق كل من الزوجين على الآخر ما لم يحل العرف حراما أو يحرم حلالا مما عرف بالنص، والعرف يختلف باختلاف الناس والأزمنة"، (وبعد أن أورد بعض أقوال الفقهاء) قال:"إن هذه مبالغة في إعفائهن من التكاليف الواجبة عليهن في حكم الشرع والعرف، يقابلها المبالغة في وضع التكاليف عليهن بالفعل، ولكن الجاهلين بالمذاهب الفقهية يتهمون رجالها بهضم حقوق النساء، وما هو إلا غلبة التقاليد والعادات مع عموم الجهل"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب طرق الاستدلال، في مسألة حجية العرف
(4)
والاعتبار به فيما لم يثبت تحديده بالكتاب والسنة، بدلالة منطوق الآية.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 271).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 141)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 189)، التحرير والتنوير (2/ 390)، تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (3/ 154).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 300 - 301).
(4)
العرف في اللغة: بمعنى المعرفة، وهو ضد النكرة، وهو: كل ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه. والعرف في الاصطلاح: ما يتعارفه أكثر الناس، ويجري بينهم من وسائل التعبير، وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال، ويعتادونه من شؤون المعاملات مما لم يوجد في نفيه، ولا إثباته دليل شرعي. المهذب في علم أصول الفقه المقارن (3/ 1020).
وجه الاستنباط: دلت الآية على أن الحقوق بين الزوجين ثابتة بنصوص الكتاب والسنة، وما عداها فإنه يؤخذ مما تعارف عليه الناس في كل زمان، لتتحقق لهم السعادة، وهذا ما يعبر عنه عند العلماء بحجية العرف في الأحكام وأنه أصل من أصول الأحكام في الإسلام، لأن هناك من الأمور المتعارف عليها ما تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وعليها تبنى الأحكام الخاصة بها، والحقوق الزوجية مما يختلف فيها فيرجع إلى العرف.
فالعرف معمول به في الشريعة إذا لم يرد في الشرع تحديد لحكم ما، أو تفسير لحكم ما، بكلام الله تعالى ورسوله، فما جرى به العرف وعمل به الناس ما لم يخالف الشرع فهو محكّمٌ وهذا معنى قول الفقهاء العادة محكمة يعني معمول بها، فإذا نص الشارع على حكم وعلق به شيئاً فإن نص على حده وتفسيره رجعنا إليه، فهناك أمور محدودة كالزكاة مثلاً وأنصبتها هذا كله محدود في الشرع، وأما الذي لم يحد في النص، فإنه يرجع فيه إلى العرف الجاري
(1)
.
قال الشيخ ابن عثيمين: "ومن فوائد الآية: اعتبار العرف بين الناس؛ لقوله تعالى: {بالمعروف}؛ وهذا ما لم يخالف الشرع؛ فإن خالفه رد إلى الشرع"
(2)
.
وهذا مما تفرد به الشيخ، حيث لم أجد أحداً أشار إليه فيما اطلعت عليه.
[اعتبار العلة في بيان حق المطلقة في إرضاع ولدها]
46.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وهنا وجه (رابع) لترجيح هذا القول ظهر لي الآن؛ وهو تعليل الحكم بالنهي عن المضارة بالولد، وإنما تضار بذلك المطلقة دون التي في العصمة، فبين أن للمطلقة الحق في إرضاع ولدها كسائر الوالدات، وأنه ليس للمطلق منعها منه وهو عرضة لهذا المنع"
(3)
.
(1)
شرح القواعد الفقهية (4)، الشيخ عبد الرحمن السعدي، شرح الشيخ محمد النجدي.
(2)
تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (3/ 149).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 324).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب المقاصد، في مسألة اعتبار العلة في بيان حق المطلقة في إرضاع ولدها، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: النهي في الآية عام بسبب الولد، لا يقيد ولا يخصص بوقت دون وقت أو حال دون حال أو شخص دون شخص، وأن للمطلقة الحق في إرضاع ولدها، وليس للمطلق منعها من هذا وهو قادر على هذا المنع، لأن كلمة (تضار) تحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول وهي للمشاركة، وإنما أسندت إلى كل واحد من الوالدين للإيذان بأن إضراره بالآخر بسبب الولد إضرار بنفسه، ومنه أنه يتضمن ضر الولد أو يستلزمه، وكيف تحسن تربية ولد بين أبوين همّ كل واحد منهما إيذاء الآخر وضرره به.
وهذا الاستنباط وبيان الطريقة التي استخدمها الشيخ لم يشر إليها أحد من المفسرين، وإنما أشاروا إلى الأقوال في المسألة وأدلتهم، ومن ذلك قول ابن عاشور حيث قال:"ومن العلماء من تأول الوالدات على العموم، سواء كن في العصمة أو بعد الطلاق كما في القرطبي والبيضاوي، ويظهر من كلام ابن الفرس في «أحكام القرآن» أنّ هذا قول مالك، وقال ابن رشد في «البيان والتحصيل»: إن قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} محمول على عمومه في ذات الزوج وفي المطلقة مع عسر الأب، ولم ينسبه إلى مالك، ولذلك قال ابن عطية: قوله: {يرضعن} خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، والأمر على الندب والتخيير لبعضهن وتبعه البيضاوي، وفي هذا استعمال صيغة الأمر في القدر المشترك وهو مطلق الطلب ولا داعي إليه، والظاهر أن حكم إرضاع الأم ولدها في العصمة يستدل له بغير هذه الآية، ومما يدل على أنه ليس المراد الوالدات اللائي في العصمة قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن} الآية، فإن اللائي في العصمة لهن النفقة والكسوة بالأصالة"
(1)
.
[الأولاد ينسبون إلى آبائهم بدلالة لفظ (الأب)]
(1)
التحرير والتنوير (2/ 430).
47.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "المولود له هو الأب، ووجه اختيار هذا التعبير على لفظ الوالد والأب هو الإشعار بأن الأولاد لآبائهم، لهم يدعون وإليهم ينسبون، فالتعبير بالمولود له مقابل التعبير بالوالدات، واختير للتنبيه على علة وجوب النفقة كأنه يقول: إن هؤلاء الوالدات قد حملن وولدن لك أيها الرجل، وهذا الولد الذي يرضعنه ينسب إليك، ويحفظ سلسلة نسبك من دونهن، فعليك أن تنفق عليهن ما يكفيهن حاجات المعاش من الطعام واللباس ليقمن بذلك حق القيام، فاختيار لفظ (الْمَوْلُودِ لَهُ) هنا على لفظ الأب والوالد هو الذي تقضي به البلاغة قضاء مبرما، وبه يستفاد ما لا يستفاد بهما، وأين نجد هذه الدقة في غير القرآن العزيز"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا لغويا، في باب دلالات الألفاظ، في مسألة الأولاد ينسبون إلى آبائهم بدلالة لفظ (الأب) بدلالة المقابلة.
وجه الاستنباط: بلاغة القرآن في التعبير بأساليب متنوعة تضفي على المفردات معاني عظيمة وأحكاما جليلة، وهنا جاء بألفاظ متقابلة لكن لكل منها أحكاما خاصة، فالوالدات هن من حملن وولدن، وجاء في مقابلتهن المولود وهو الأب الذي ينتسب إليه الأولاد وتجب عليه نفقتهم.
قال الزمخشري: "وعلى المولود له أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب اليه وتغيير العبارة للإشارة الى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤنة المرضعة عليه"
(2)
.
وقال الرازي: " (الْمَوْلُودِ لَهُ) هو الوالد وإنما عبر عنه بهذا الاسم لوجوه وذكر منها:
أن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولوداً على فراشه على ما قال صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش)، فكأنه قال إذا ولدت المرأة الولد للرجل وعلى فراشه وجب عليه رعاية مصالحه فهذا تنبيه على أن سبب النسب واللحاق مجرد هذا القدر.
وأيضا: أنه قيل في تفسير قوله: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} [سورة الأعراف: 150] أن المراد منه أن الأم مشفقة على الولد فكان الغرض من ذكر الأم تذكير الشفقة فكذا ههنا ذكر الوالد بلفظ المولود له تنبيهاً على أن هذا الولد إنما ولد لأجل الأب فكان نقصه عائداً إليه ورعاية مصالحه لازمة له كما قيل كلمة لك وكلمة عليك"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 326).
(2)
انظر: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 524)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 230).
(3)
مفاتيح الغيب (6/ 102).
وقال أبو حيان: "جاء بلفظ: المولود له، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه، إذ اللام في: له، معناها شبه التمليك كقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة، ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار، وتجد الولد في الغالب مطيعاً لأبيه، ممتثلاً ما أمر به، منفذاً ما أوصى به، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم"
(1)
.
قال ابن عاشور: "وعبر عن الوالد بالمولود له، إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم؛ لأن منافع الولد منجرة إليه، وهو لاحق به ومعتز به في القبيلة حسب مصطلح الأمم، فهو الأجدر بإعاشته، وتقويم وسائلها"
(2)
.
[تجديد نشاط وفهم القارئ والسامع للقرآن في الصلاة وغيرها]
قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [سورة البقرة: 238]
48.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وقد خطر لي وجه آخر هو الذي يطرد في أسلوب القرآن الخاص في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض، من عقائد، وحكم، ومواعظ، وأحكام تعبدية، ومدنية، وغيرها، وهو نفي السآمة عن القارئ، والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطهما وفهمهما، واعتبارهما في الصلاة وغيرها"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا في أصوليا، في باب مقاصد القرآن والمزج بينها، في مسألة تجديد نشاط وفهم القارئ والسامع للقرآن في الصلاة وغيرها، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: الفصل بهذه الآية التي تأمر بالمحافظة على الصلاة وكذا صلاة الخوف، وبين آيات الطلاق، أنها جاءت على أسلوب القرآن الكريم المطرد، في الفصل بين الموضوعات، لتجديد النشاط والانتباه للأحكام، فالقرآن كتاب موعظة وتذكرة، وليس كتاب تدريس.
قال ابن عاشور: "الانتقال من غرض إلى غرض، في آي القرآن، لا تلزم له قوة ارتباط، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض ولكنه كتاب تذكير، وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدي الأمة، وتشريعها وموعظتها، وتعليمها، فقد يجمع فيه الشيء للشيء، من غير لزوم ارتباط، وتفرع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني، عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأمورا بإلحاقها بموضع معين"
(4)
.
(1)
تفسير البحر المحيط (2/ 155).
(2)
التحرير والتنوير (2/ 431).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 353).
(4)
التحرير والتنوير (2/ 443).
فإن قال قائل: ما وجه ارتباط هاتين الآيتين بما يتعلق بشأن العدة للنساء؟ فالجواب: أن ترتيب الآيات توقيفي ليس للعقل فيه مجال؛ والله أعلم بما أراد؛ وقد التمس بعض المفسرين حكمة لهذا؛ ولكن لما لم يتعين ما ذكره أحجمنا عن ذكرها؛ ونَكِلُ العلم إلى منزل هذا لكتاب العظيم، ونعلم أنه لابد أن يكون هناك حكمة، أو حِكَم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم
(1)
.
[صفات الملك الذاتية المؤهلة للملك]
49.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والمتبادر عندي أن معناه فضّله واختاره عليكم بما أودع فيه من الاستعداد الفطري للملك، ولا ينافي هذا كون اختياره كان بوحي من الله، وتوفيق الله تعالى الأسباب له، وهو ما يعبر عنه بقوله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) "، "وقد قدم الأركان الثلاثة على الرابع؛ لأنها تتعلق بمواهب الرجل الذي اختير ملكا فأنكر القوم اختياره فهي المقصودة بالجواب، وأما توفيق الله تعالى بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها لسعيه فليس من مواهبه ومزاياه فتقدم في أسباب اختياره، وإنما تذكر تتمة للفائدة وبيانا للحقيقة؛ ولذلك ذكرت قاعدة عامة لا وصفا له"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب السياسة الشرعية، في مسألة صفات الملك الذاتية المؤهلة للملك، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: أن الله بين أسباب اختيار الله للملك، وهي أربعة:(1) الاستعداد الفطري (2) السعة في العلم الذي يكون به التدبير (3) بسطة الجسم المعبر بها عن صحته وكمال قواه المستلزم ذلك لصحة الفكر، وللشجاعة والقدرة على المدافعة وللهيبة والوقار (4) اختيار الله له، وتوفيقه لذلك، ليبين أنها هي الأساس فيمن يتولى الملك.
قال ابن كثير: "ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن للعثيمين (5/ 140 - 141).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(2/ 378 - 379).
(3)
تفسير القرآن العظيم (1/ 666).
وقال الألوسي: "لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره، أما أولا فلأن ملاك الأمر هو اصطفاء اللّه تعالى وقد اصطفاه واختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح لكم، وأما ثانيا فلأن العمدة وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم وقد خصه اللّه تعالى بحظ وافر منهم، وأما ثالثا فلأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من شاء من التصرف في ملكه بإذنه، وأما رابعا فلأنه سبحانه واسع الفضل يوسع على الفقير فيغنيه عَلِيمٌ بما يليق بالملك من النسيب وغيره، وفي تقديم البسطة في العلم على البسطة في الجسم إيماء إلى أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف من الفضائل الجسمانية"
(1)
.
قال ابن عاشور: "أعلمهم نبيهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي، وقوة البدن، وقدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم، ولم يجيبهم نبيهم عن قوله: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}؛ فإنه يبسطه العلم وبالنصر يتوافر له المال، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة"
(2)
.
قال ابن عثيمين: "إن الملك تتوطد أركانه إذا كان للإنسان مزية في حسبه، أو نسبه، أو علمه"
(3)
.
[أسباب تحصيل السعادة والحياة الطيبة ذاتية داخلية]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [سورة البقرة: 254]
50.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن السعادة الدنيوية الحقيقية التي يعرفها الشرع ويؤيده الاختبار والعقل، هي في الأنفس لا في الآفاق؛ أعني أنها لا تنال بإسعاد الأخلاء، ولا بشفاعة الشفعاء، إنما العمدة فيها على اعتدال النفس في أخلاقها وأعمالها، وصحة عقائدها ومعارفها، ويتبع هذا في الغالب صحة الجسم، وسهولة طرق الرزق، والسلامة من الخرافات والأوهام التي تفتك بالعقول والأجسام"
(4)
.
(1)
روح المعانى (1/ 558).
(2)
التحرير والتنوير (2/ 468).
(3)
تفسير القرآن للعثيمين (5/ 168).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 16).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة أسباب تحصيل السعادة والحياة الطيبة ذاتية داخلية، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: أن الإيمان بالله والإنفاق في سبيله مما رزق طاعة وقربة له، وبها تتحقق الحياة الطيبة والسعادة في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة، وذلك أنها جمعت حسن العبادة وسلامة المعتقد وصلاح النفس وطيب الأخلاق، وأما كنز المال والإكثار من الأصحاب والأخلاء، فإنها وإن نفعت في الدنيا أحيانا، فإنها مما لا ينفع لا في الدنيا ولا يوم القيامة حقيقة، بل يكونا وبالا على من حرص على جمعهما.
وهذا الاستنباط مما انفرد به الشيخ ولم أجد أحداً من المفسرين ذكره أو أشار إليه، والذي يظهر لي أن الشيخ بنى استنباطه هذا على تقدير أن الإيمان بالله والإنفاق من رزق الله يحقق الحياة الطيبة، وأن تحقيقها لا يتم بالمال ولا بالصحبة ولا بالشفعاء في الدنيا بله الآخرة.
قال ابن جرير: "أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضى الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال، إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء، والمظاهرة له على ذلك، فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك"
(1)
.
[لفظة الكفر والظلم في القرآن تشمل الأكبر والأصغر منهما]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [سورة البقرة: 254]
51.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "أن هذا الكفر والظلم مما يتهاون فيه المسلمون في هذه الأزمنة وفي أزمنة قبلها؛ لظنهم أن جميع ما في القرآن من وعيد الكافرين يراد به الكافرون بالمعنى الخاص في اصطلاح المتكلمين والفقهاء وهم الجاحدون للألوهية أو للنبوة أو لشيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلم من الدين بالضرورة إجماعا، وهذه الآية نفسها تبطل ظنهم وفي معناها آيات كثيرة"
(2)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (5/ 383).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 17).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الكفر، في مسألة لفظة الكفر والظلم في القرآن تشمل الأكبر والأصغر منهما، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: ما يقوم به الناس اليوم من ظلم وجور فيما بينهم إنما هو مبني على ظن منهم واعتقاد عام عندهم أن الكفر والظلم يقصد بهما الأكبر منهما، من جحود ألوهية الله أو نبوة أحد من رسله، ونسوا أنواع الكفر والظلم الأخرى، بناءً على تخصيصهم لهذا المعنى وعدم العلم بالمعاني العامة له، وهذا له أثر كبير في التساهل في الوقوع في المعصية في أعمال هي ظلم وكفر.
قال الزمخشري: "والكافرون هم الظالمون أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون، فقال (والكافرون) للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج (من كفر) مكان: ومن لم يحج، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [سورة فصلت: 6 - 7] "
(1)
، ومثله البيضاوي
(2)
.
وقال أبو حيان: "والكافرون هم الظالمون يعني الجائرين الحد، قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: والكافرون، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون، ولو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم، وهو من يضع الشيء في غير موضعه، بالكفر، فلم يكن ليخلص من الكفر كل عاص إلا من عصمه الله من العصيان"
(3)
.
وقال الشوكاني: "والكافرون هم الظالمون فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه، ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعا يوجب كفره، لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق"
(4)
.
قال ابن عاشور: "والمراد بالكافرين ظاهرا المشركون، وهذا من بدائع بلاغة القرآن، فإن هذه الجملة صالحة أيضا لتذييل الأمر بالإنفاق في سبيل الله، لأن ذلك الإنفاق لقتال المشركين الذين بدأوا الدين بالمناوأة، فهم الظالمون لا المؤمنون الذين يقاتلونهم لحماية الدين والذب عن حوزته، وذكر الكافرين في مقام التسجيل فيه تنزيه للمؤمنين عن أن يتركوا الإنفاق إذ لا يظن بهم ذلك، فتركه والكفر متلازمان، فالكافرون يظلمون أنفسهم، والمؤمنون لا يظلمونها"
(5)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 299).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 153).
(3)
البحر المحيط (2/ 606).
(4)
فتح القدير (1/ 310).
(5)
التحرير والتنوير (3/ 16).
[اشتراط الكفر بالطاغوت في تحقق الإيمان]
قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [سورة البقرة: 256]
52.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "التعبير بالاستمساك يدل على أن من لم يكفر بجميع مناشئ الطغيان، ويعتصم بالحق اليقين من أصول الإيمان، فهو لا يعد مستمسكا بالعروة الوثقى وإن انتمى في الظاهر إلى أهلها، أو إلى ما بها إلمام الممسك بها، فالعبرة بالاعتصام والاستمساك"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة اشتراط الكفر بالطاغوت في تحقق الإيمان، من دلالة لفظ الاستمساك.
وجه الاستنباط: عد الشيخ رحمه الله الكفر بمناشئ الطغيان شرطاً ثامنا من شروط لا إله إلا الله، وهو: الكفر بما يعبد من دون الله، وهو أن يعتقد بطلان عبادة من سوى الله عز وجل، وأن كل المعبودات سوى الله باطلة، وجدت نتيجة جهل المشركين وضلالهم؛ فمن أقرهم على شركهم، أو شك في بطلان ما هم عليه؛ فليس بموحد، ولو قال لا إله إلا الله، ولو لم يعبد غير الله.
ثم إن لفظة الاستمساك فيها إشارة إلى قوة الاستمساك بها، فقد عبر بالكلمة بأطول مبنى لغوي، ومن المعروف أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى. وإن نصوص الشرعية خاطبت من حقق الاستمساك الواجب وليس أصل الاستمساك أو مجرده، لأن هذا يعد ضعف في الدين، ولذا جاء التأكيد بأقوى ما يمكن، فبالغ في التمسك بها كأنه وهو ملتبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه
(2)
.
يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن الكفر بما يعبد من دون الله: "وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال؛ بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يرحم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ولا دمه"
(3)
، وأن من الأدلة على هذا الشرط: قول الله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256)
(4)
، وعليه فإن كلمة التوحيد لا تتحقق إلا به، وأن من أقر على الشرك أو شك فيه فليس بموحد
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 32).
(2)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 250).
(3)
كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 33.
(4)
المفيد في مهمات التوحيد (ص: 76).
(5)
انظر الشهادتان: معناهما، وما تستلزمه كل منهما، الشيخ ابن جبرين ص 78.
قال ابن جرير: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها
(1)
.
وقال الفخر الرازي: "وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول، لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته، فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها، لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى"
(2)
.
قال ابن سعدي: "فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي: بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه، وكان المتمسك به على ثقة من أمره، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي {لا انفصام لها} وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم {والله سميع عليم} فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها"
(3)
.
[الفرق بين ولاية الله للمؤمنين، وولايتهم لله، وولايتهم فيما بينهم]
قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} [سورة البقرة: 257]
53.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ومما يجب بيانه في تفسير هذه الآية أيضا الفرق بين ولاية الله للمؤمنين وولايتهم له وولاية بعضهم لبعض، فإن الجاهلين لا يميزون بين الولايتين، فيجعلون لبعض المؤمنين من الولاية ما هو لله - تعالى - وحده، وذلك شرك في التوحيد خفي عند الجاهل، جلي عند العارف ولا بد من تفصيل فيه"
(4)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (4/ 561).
(2)
مفاتيح الغيب (7/ 16).
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 110).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 36).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الولاية، في مسألة الفرق بين ولاية الله للمؤمنين، وولايتهم لله، وولايتهم فيما بينهم، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: العلم بأنواع الولاية والتفريق بينها من العلم الذي يدفع به الجهل في هذا، فهناك ولاية الله للمؤمنين وولاية المؤمنين لله والولاية فيما بينهم، وعليه فلا بد من معرفة كل نوع من هذه الأنواع وما يلزم له وعدم الخلط بينها لأنه يعد من الجهل، فإن ولاية الله للمؤمنين هي حفظه ورعايته لهم، وولاية المؤمنين لله هي إعطاؤه ما اختص به، وولاية المؤمنين بعضهم لبعض هي حبهم ومناصرتهم، وفي هذا رد على من يتوسل بالقبور ويدعو الصالحين من دون الله فيشرك بالله في باب الولاية.
قال ابن سعدي: "ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال: {الله ولي الذين آمنوا} وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومن عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة"
(1)
.
قال ابن عثيمين: "من فوائد هذه الآية: إثبات الولاية لله عز وجل؛ أي أنه سبحانه وتعالى يتولى عباده؛ وولايته نوعان؛ النوع الأول: الولاية العامة؛ بمعنى أن يتولى شؤون عباده؛ وهذه لا تختص بالمؤمنين، كما قال تعالى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [سورة يونس: 30] يعني الكافرين، والنوع الثاني: ولاية خاصة بالمؤمنين، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [سورة محمد: 11]، وكما في قوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا}؛ ومقتضى النوع الأول أن لله تعالى كمال السلطان، والتدبير في جميع خلقه؛ ومقتضى النوع الثاني الرأفة، والرحمة، والتوفيق"
(2)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 111).
(2)
تفسير القرآن للعثيمين (5/ 214).
وقال أيضا: "ومنها: أن المؤمن لا وليّ له إلا ربه؛ لقوله تعالى: {أنت مولانا}؛ وولاية الله نوعان: خاصة، وعامة؛ فالولاية الخاصة ولاية الله للمؤمنين، كقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257]، وقوله تعالى: {والله ولي المؤمنين}، وقوله تعالى: {إن وليّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196]؛ والعامة: ولايته لكل أحد؛ فالله سبحانه وتعالى ولي لكل أحد بمعنى أنه يتولى جميع أمور الخلق؛ مثاله قوله تعالى: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} [يونس: 30] "
(1)
.
[إدخال السرور على المسلم مقدم على التفضل عليه بالمال]
قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [سورة البقرة: 263]
54.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن هذه الآية مقررة لقاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، التي هي من أعظم قواعد الشريعة، ومبينة أن الخير لا يكون طريقا ووسيلة إلى الشر، ومرشدة إلى وجوب العناية بجعل العمل الصالح خاليا من الشوائب التي تفسده وتذهب بفائدته كلها أو بعضها، وإلى أنه ينبغي لمن عجز عن إحسان عمل من أعمال البر وجعله خالصا نقيا أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدي إلى غايته حتى لا يحرم من فائدته بالمرة"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب حقوق المسلمين، في مسألة إدخال السرور على المسلم مقدم على التفضل عليه بالمال، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: فهم الآية أن تقديم القول والخلق الحسن في المعاملة، مقدم وأفضل من التفضل ببذل المال الذي يتبعه الأذى على المنفق عليه، لأن القول الحسن يتضمن إدخال السرور على قلب المسلم، لذا فهو أفضل من التفضل بالمال الذي يؤدي إلى إلحاق الأذى الحسي والمعنوي، ودرء هذا الأذى مقدم على المنفعة المتحصلة بهذه الصدقة.
وقد أشار جمع من المفسرين إلى هذا المعنى ولكن لم يذكروا قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ومنهم ابن جرير فقال: "المعطيَ ماله المجاهدين في سبيل الله معونةً لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره: الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حَمُولاتهم، وغير ذلك من مؤنهم، ثم لم يتْبع نفقته التي أنفقها عليهم منًّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم، ولا أذى لهم. فامتنانه به عليهم، بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم -بفعله وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم- معروفا، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل. وأما"الأذى" فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقوّاهم من النفقة في سبيل الله، أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفَق عليه، وإنما شَرَط ذلك في المنفق في سبيل الله، وأوجبَ الأجر لمن كان غير مانٍّ ولا مؤذٍ مَن أنفق عليه في سبيل الله، لأن النفقة التي هي في سبيل الله: ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده، فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه، لأنه لا يدَ له قِبَله ولا صَنيعة يستحق بها عليه -إن لم يكافئه- عليها المنَّ والأذى، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابًا وابتغاءَ ثواب الله وطلبَ مرضاته، وعلى الله مثوبته، دون من أنفق ذلك عليه"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن للعثيمين (5/ 362).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 54).
(3)
جامع البيان (5/ 517).
وزاد ابن عطية: "لأن ما نتلقى نحن عن المعقول من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن لله عز وجل على ما ذكرناه قبل، فلم تترتب له صدقة، فهذا هو بطلان الصدقة بالمنّ والأذى، والمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم فيها، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي يُنْفِقُ رِئاءَ لا لوجه الله"
(1)
.
وقال الرازي: "بين تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى، وسبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى، ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء، فهناك جمع بين الإنفاع والإضرار، وربما لم يف ثواب الإنفاع بعقاب الإضرار، وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار، فكان هذا خيرا من الأول"
(2)
. ومثله القرطبي
(3)
.
وقال ابن سعدي: "القول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، لأن القول المعروف إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمن أو غيره، ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة، وإنما كان المن بالصدقة مفسدا لها محرما، لأن المنة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمن بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه، وأيضا فإن المان مستعبد لمن يمن عليه، والذل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم"
(4)
. وبمثله قال ابن عاشور
(5)
.
[الخير الكثير في اقتران العقل بالعلم]
قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [سورة البقرة: 269]
55.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن الله جعل الخير الكثير مع الحكمة في قرن، فهما لا يفترقان كما لا يفترق المعلول عن علته التامة، فالحكمة: هي العلم الصحيح المحرك للإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير، وآلة الحكمة هي العقل السليم المستقل بالحكم في مسائل العلم، فهو لا يحكم إلا بالدليل، فمتى حكم جزم فأمضى وأبرم، فكل حكيم عليم عامل مصدر للخير الكثير"
(6)
.
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 357).
(2)
مفاتيح الغيب (7/ 43).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 309).
(4)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 113).
(5)
التحرير والتنوير (3/ 47).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 65).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة الخير الكثير في اقتران العقل بالعلم، بدلالة الاقتران.
وجه الاستنباط: الحكمة إذا قرنت بالعلم الصحيح أثمرت الخير والإصابة في الأقوال والأعمال وإنزال الأمور منازلها التي تستحقها، وفي هذا ترغيب إلى إعمال العقول واستخدامها فيما ينفع، ولا يكون ذلك إلا عن فهم وعلم ومعرفة، وهذا جارٍ على سنة الله في خلقه، فإنه لا يتعظ بالعلم ويتأثر به ويكوّن سلوكه في كل حالاته، إلا من كان عقله خالصا من الشوائب، وقلبه سليما من المعايب.
قال ابن جرير: "إن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره فهما خاشيا لله فقيها عالما، وكانت النبوة من أقسامه؛ لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، والنبوة بعض معاني الحكمة"
(1)
.
قال القرطبي: "الحكمة مصدر من الأحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم، وفى البخاري: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، وقال هنا: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} "
(2)
.
قال ابن سعدي: "فكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك"
(3)
.
وقال ابن عاشور: "ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعدا إلى ذلك، من سلامة عقله واعتدال قواه، حتى يكون قابلا لفهم الحقائق منقادا إلى الحق إذا لاح له، لا يصده عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة، ثم ييسر له ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العتاة فإذا انضم إلى ذلك توجهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيرا ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير، وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب"
(4)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (5/ 12).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 330).
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 115).
(4)
التحرير والتنوير (2/ 531).
[وجوب إجابة الدعوة في مصلحة الناس لمن قدر عليها]
56.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "في قوله: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ) إلخ دليل على أن العالم بما فيه مصلحة الناس يجب عليه إذا دعي إلى القيام بها أن يجيب الدعوة؛ ولذلك لم يكتف بالنهي عن الإباء عن الكتابة، بل أمر بها أمرا صريحا فقال: (فَلْيَكْتُبْ) وهذا ظاهر لا سيما على قول من قال من أهل الأصول: إن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب حفظ الحقوق، في مسألة وجوب إجابة الدعوة في مصلحة الناس لمن قدر عليها، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: وجوب كتابة الديون، والإرشاد إلى صفات الكاتب، وأنه لا يجوز له الامتناع عن الكتابة، التي فيها توثيق وحفظ للحقوق، وهذا ما أفاده الأمر الصريح بعدها، فإن في ذلك مصلحة عظيمة في حفظ الأموال، وإن شعر البعض بعدم الحاجة إلى ذلك ابتداءً.
قال ابن جرير: "وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب، ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب ألا يأبى كتابة ذلك، ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه"
(2)
. ومثله عند القرطبي
(3)
.
وقال الزمخشري: "وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا ولا يأب كاتب ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى تنكير كاتب أن يكتب كما علمه الله مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير. وقيل هو قوله تعالى (وأحسن كما أحسن الله إليك) أى ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها"
(4)
.
قال الزازي: "ظاهر هذا الكلام نهي لكل من كان كاتبا عن الامتناع عن الكتبة، وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتبا، وفيه وجوه الأول: أن هذا على سبيل الإرشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب، والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة، وشرفه بمعرفة الأحكام الشرعية، فالأولى أن يكتب تحصيلا لمهم أخيه المسلم شكرا لتلك النعمة، وهو كقوله تعالى: وأحسن كما أحسن الله إليك [القصص: 77] فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 101)
(2)
جامع البيان (6/ 53).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 385).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 325).
(5)
مفاتيح الغيب (7/ 93).
وقال البيضاوي: "ولا يمتنع أحد من الكتاب. أن يكتب كما علمه الله مثل ما علمه الله من كتبة الوثائق، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها كقوله: وأحسن كما أحسن الله إليك. فليكتب تلك الكتابة المعلمة. أمر بها بعد النهي عن الإباء عنها تأكيدا، ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة"
(1)
.
قال ابن عاشور: " {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} نهي لمن تطلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دعي إليها، فهذا حكم آخر وليس تأكيداً لقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}، لما علمت آنفاً من كون ذلك حكماً موجهاً للمتداينين، وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل نهي تحريم، فالذي يدعى لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع، وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه"
(2)
.
قال الطوفي
(3)
: "أما النهي عن الشيء؛ فإنما يستلزم الأمر بضد واحد من أضداده، إذا كان له أضداد، لاستحالة ترك المنهي عنه، بدون التلبس بما ينافيه، ليشتغل به عن فعل المنهي عنه، وذلك التلبس ضروري، يندفع بفعل ضد واحد، وليس المقصود إيجاد بقية الأضداد، كما في الأمر؛ فحصل من هذا أن المأمور به، إن كان له ضد أو أضداد، تعين النهي عن الجميع، والمنهي عنه إن كان له ضد واحد، تعين الأمر به، وإن كان له أضداد؛ فالمأمور به منها واحد لا بعينه، ضرورة توقف ترك المنهي على فعل الضد، المعين أو المبهم"
(4)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين في تفسيره: "أنها من التوكيد لأن النهي عن إباء الكتابة يستلزم الأمر بالكتابة فهي توكيد معنوي؛ وقيل: بل هي تأسيس تفيد الأمر بالمبادرة إلى الكتابة، أو هي تأسيس توطئة لما بعدها؛ والقاعدة: أنه إذا احتمل أن يكون الكلام توكيداً، أو تأسيساً، حمل على التأسيس؛ لأنه فيه زيادة معنى؛ وبناءً على هذه القاعدة يكون القول بأنها تأسيس أرجح". وقال إن من فوائد الآية: " تحريم امتناع الكاتب أن يكتب كما علمه الله؛ لقوله تعالى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله}؛ ولهذا أكد هذا النهي بالأمر بالكتابة في قوله تعالى {فليكتب} -هذا ظاهر الآية-، ويحتمل أن يقال: إنْ توقف ثبوت الحق على الكتابة كانت الكتابة واجبة على من طلبت منه؛ وإلا لم تجب، كما قلنا بوجوب تحمل الشهادة إذا توقف ثبوت الحق عليها"
(5)
.
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 164).
(2)
التحرير والتنوير (2/ 567).
(3)
سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم نجم الدين الطوفي الحنبلي، كان فقيها شاعرا أديبا، فاضلا قيما بالنحو واللغة والتاريخ، مشاركا في الأصول، له من التصانيف: مختصر الروضة في الأصول، شرحها، مختصر الترمذي، شرح المقامات، شرح الأربعين النووية، مات سنة 710 هـ، بغية الوعاة (1/ 599).
(4)
شرح مختصر الروضة (2/ 382)
(5)
تفسير القرآن للعثيمين (5/ 324).
[توثيق الحقوق وضبط الأموال بالكتابة]
قال تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [سورة البقرة: 282].
57.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وهو دليل أيضا على أن الكتابة واجبة في القليل والكثير، ولذلك قدم ذكر الصغير الذي يتهاون فيه الناس لعدم مبالاتهم بضياعه، ومن لا يحرص على الصغير والقليل أن يضيع فقلما يتقن حفظ الكبير والكثير، ففي الآية إرشاد إلى عدم التهاون بشيء من الحقوق أن يذهب سدى، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الاقتصاد، والعمل بها آية الكياسة والعقل، وكم من حريص على الدرهم والدانق يجود بالدنانير والبدر"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الحقوق، في مسألة توثيق الحقوق وضبط الأموال بالكتابة، بدلالة التقديم والتأخير.
وجه الاستنباط: ارشدت الآية إلى حفظ الحقوق وإثبات صغيرها وكبيرها، لأن فيها ضبط للأموال وحفظ لها ومنع للتنازع عليها فيما بعد، والإسلام حريص على ائتلاف المسلمين وجمع كلمتهم، وإبعاد أي أمر يؤدي إلى تفرقهم وتنازعهم، وهذه قاعدة اقتصادية مهمة في علم الاقتصاد.
قال ابن كثير: "هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرا كان أو كبيرا"
(2)
.
قال أبو حيان: "لما نهى عن امتناع الشهود إذا ما دعوا للشهادة، نهى أيضا عن السآمة في كتابة الدين، كل ذلك ضبط لأموال الناس، وتحريض على ألا يقع النزاع، لأنه متى ضبط بالكتابة والشهادة قل أن يحصل وهم فيه أو إنكار، أو منازعة في مقدار أو أجل أو وصف، وقدم الصغير اهتماما به، وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى، ونص على الأجل للدلالة على وجوب ذكره، فكتب كما يكتب أصل الدين ومحله إن كان مما يحتاج فيه إلى ذكر المحل، ونبه بذكر الأجل على صفة الدين ومقداره، لأن الأجل بعض أوصافه، والأجل هنا هو الوقت الذي اتفق المتداينان على تسميته"
(3)
.
قال ابن عاشور: "تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها، فالصغير والكبير هنا مجازان في الحقير والجليل، والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة، فلذلك نهوا عن السآمة هنا"
(4)
.
قال أبو زهرة: "ولَا تملوا من كتاب الدين إلى أجله بأن تحدُّوه وتبينوا أجله، سواء أكان الدين كبيرًا أم كان الدين صغيرًا، فلا يذهب بكم احتقار الصغر إلى إهماله وعدم كتابته؛ لأن الصغر والكبر لَا حدود لهما، فقد يكون صغيرًا في نظر غني مليء، ويكون كبيرا خطيرا عند غيره؛ ولأن إهمال الصغير يؤدي إلى جحوده، وعندئذ تذهب الثقة، وإذا ذهبت ساد التناحر والتنازع؛ ولأن التهاون في الصغير قد يؤدي إلى التهاون في الكبير؛ وإن التشديد في كتابة الصغير والكبير يدل على أن الأمر بالكتابة للوجوب كما بينا"
(5)
.
(1)
تفسير المنار (3/ 105)
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 725).
(3)
البحر المحيط (2/ 736).
(4)
التحرير والتنوير (2/ 578).
(5)
زهرة التفاسير (2/ 1073).
[التجارة قائمة على توثيق الحقوق بالكتابة]
قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [سورة البقرة: 282].
58.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "نفي الجناح إشارة إلى أن كتابة ذلك أولى، وهو إرشاد إلى استحباب ضبط الإنسان لماله وإحصائه لما يرد عليه وما يصدر عنه، وذلك من الكمال المدني ومن أسباب ارتقاء أمور الكسب ولم يجعل هذا حتما؛ لأنه مما يشق على غير المرتقين في المدنية، والترخيص فيه دليل على وجوب كتابة الديون المؤجلة كما هو ظاهر مما تقدم"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الحقوق وإثباتها، في مسألة التجارة قائمة على توثيق الحقوق بالكتابة، بدلالة الأسلوب.
وجه الاستنباط: الكتابة هي الأصل في التجارة حفظا للأموال وضبطا لها، وهذا مما يعرف في علم المحاسبة بقيد المال الصادر والوارد في جميع المعاملات المالية، وهو من أساسيات الارتقاء والتحضر والجودة إذ لا بد من وجود وثائق لكل شيء.
قال الكيا هراسي: "قوله تعالى في التجارة: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) وفرقة بينها وبين المؤجل يوهم بظاهره، أن عليهم كتب الدين المؤجل والإشهاد فيه وأن الجناح يلحقهم إذا لم يكتبوها، ويبعد أن يقال في ترك المندوب إن عليه جناحا، ففي التجارة الحاضرة إن كان ترك الشهادة دليلا على كون الشهادة مندوبا إليها، فتارك المندوب لا جناح عليه"
(2)
.
قال ابن عاشور: "وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} تصريح بمفهوم الاستثناء، مع ما في زيادة قوله: {جُنَاحٌ} من الإشارة إلى أن هذا الحكم رخصة، لأن رفع الجناح مؤذن بأن الكتابة أولى وأحسن"
(3)
.
قال ابن عثيمين: "ومن فوائد الآية: أنه لا يجب كتابة التجارة الحاضرة المدارة - ولو كان ثمنها غير منقود؛ بخلاف ما إذا تداين بدين إلى أجل مسمى؛ فإنه تجب كتابة الدَّين على ما سبق من الخلاف في ذلك؛ لقوله تعالى: {فليس عليكم جناح ألا تكتبوها} "
(4)
.
[العذر في وجوب كتابة الدين في السفر وبديله]
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 106).
(2)
أحكام القرآن، الكيا هراسي (1/ 262).
(3)
التحرير والتنوير (2/ 580).
(4)
تفسير القرآن للعثيمين (5/ 329).
59.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن في جعل عدم وجدان الكاتب مقيدا بحال السفر إشارة إلى أنه ليس من شأن مواطن الإقامة أن تكون خلوا من الكتاب، والكتابة مفروضة على المؤمنين، والإيمان لا يتحقق إلا بالإذعان والعمل، وناهيك بالفريضة إذا أكدت كالكتابة حينئذ يقطع بأن المؤمنين لا بد أن يأتوها، بل لا يفرض أن يخالفوها وألا يوجد الكتاب عندهم إلا حيث يمكن أن يكونوا معذورين كما يكون في السفر، وهذا مفهوم من العبارة بالإشارة وهو من أدق أساليب البلاغة"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب حفظ الحقوق والأموال، في مسألة العذر في وجوب كتابة الدين في السفر وبديله، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: في الآية إشارة إلى احتمال عدم وجود كاتب، والتقييد بحال السفر يفهم منه وجوب الكتابة في حال الإقامة وأنها مفروضة على المؤمنين، ومن هنا فإن من لم يلتزم بها في حال الإقامة ولم يذعن إلى أمر الله فقد استحق الإثم، ثم أعقب ذلك بذكر السفر، وأنه أقوى الأعذار المانعة من الكتابة، وجعل الرهن بدلا عنها.
قال القرطبي: "لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن، وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير، فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كذب، إني لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت، اذهبوا إليه بدرعي) فمات ودرعه مرهونة صلى الله عليه وسلم "
(2)
.
قال أبو السعود: "وليس هذا التعليقُ لاشتراط السفر في شرعية الارتهان كما حسِبه مجاهدٌ والضحاكُ، لأنه صلى الله عليه وسلم، رهَن دِرْعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله، بل لإقامة التوثقِ بالارتهان مُقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مِظنةُ إعوازِها وإنما لم يتعرّض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقاً وإعوازاً"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 109)
(2)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 406 - 407).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 337).
قال ابن عثيمين: "جواز الرهن؛ لقوله تعالى: {فرهان}؛ ولكن ذلك مشروط - حسبما في الآية - بالسفر سواء كان قصيراً، أو طويلًا؛ وبألا نجد كاتباً؛ فهل هذا الشرط معتبر؟ الجواب: دلت السنة على عدم اعتباره: فقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعاً من الشعير لأهله، ورهن درعه عند يهودي حتى مات؛ وهذا يدل على جواز الرهن في الحضر حتى مع وجود الكاتب"
(1)
.
[الإيمان بجميع الرسل من خصائص الأمة المحمدية]
قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [سورة البقرة: 285]
60.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفي هذا مزية للمؤمنين من هذه الأمة على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كأنهم لم يعقلوا معنى الرسالة في نفسها إذ لو عقلوها لما فرقوا بين من أوتوها"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان بالرسل، في مسألة الإيمان بجميع الرسل من خصائص الأمة المحمدية، بدلالة النص.
وجه الاستنباط: الإيمان بجميع الرسل وعدم التفريق بينهم، من خصائص الأمة المحمدية الذي تميزت به عن بقية الأمم، وهو يعيب على الرهبان والأحبار إهمالهم لإعمال العقل في أن مصدر الأنبياء والرسل واحد، وذلك من خلال النظر في تشريعاتهم فكلها تشريعات ترتفع بالناس من الاستعباد للعباد إلى عبادة رب الأرباب.
قال القرطبي: "نؤمن بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منه ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى"
(3)
.
وقال أهل التفسير: إن هذه الآية جمعت أصول الإيمان التي أمر الله بها هذه الأمة، وقد اتفقت عليها الكتب والرسل
(4)
.
(1)
تفسير القرآن للعثيمين (5/ 336).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 120).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 425).
(4)
تفسير الطبري (2/ 596)، مفاتيح الغيب (7/ 111)، تفسير السعدي (1/ 97).
الاستنباطات في سورة آل عمران
[اتفاق الكتب السماوية في دعوتها إلى التوحيد دليل على وحدانية الله]
قال تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [سورة آل عمران: 3 - 4]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفي هذا وما قبله شيء آخر، وهو الإشعار بأن ما أنزله الله -تعالى - من الكتب والفرقان يدل على إثبات الوحدانية لله تعالى"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة اتفاق الكتب السماوية في دعوتها إلى التوحيد دليل على وحدانية الله، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: إثبات الوحدانية لله وتنزيهه وألوهيته من خلال ما أنزله على نبيه من الكتاب مصدقا لما سبقه من الكتب والشرائع حيث إنها واحدة في لبها ومعناها وأصولها، وكانت متفقة في الدعوة إلى توحيد الله ووحدانيته، متناسقة في شرائعها، محققة لمصالح العباد في الدنيا والآخرة، لا اختلاف فيما بينها، فكانت فارقة بين الحق والباطل، فدل كل هذا على وحدتها وأنها كلها من عند الله دالة على وحدانيته.
قال ابن جرير: "عني بذلك القرآن أنه مصدق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده؛ لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير"
(2)
.
قال البيضاوي: "قوله: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) يريد به جنس الكتب الإِلهية، فإنّها فارقة بين الحق والباطل، ذكر ذلك بعد ذكر الكتب الثلاثة ليعم ما عداها، كأنه قال: وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل، أو الزبور أو القرآن، وكرر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيماً، وإظهاراً لفضله من حيث إنه يشاركهما في كونه وحياً منزلاً ويتميز بأنه معجز يفرق بين المحق والمبطل، أو المعجزات (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ) من كتبه المنزلة وغيرها، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بسبب كفرهم، (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) غالب لا يمنع من التعذيب، (ذُو انْتِقامٍ) لا يقدر على مثله منتقم، والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بالفتح والكسر، وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيماً للأمر، وزجراً عن الإعراض عنه"
(3)
.
قال القاسمي: " (من قبل) متعلق ب (أنزل)، أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب، والتصريح به مع ظهور الأمر، للمبالغة في البيان هدى للناس أي لقوم موسى وعيسى، أو ما هو أعم، لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع وأنزل الفرقان وهو الكتب السماوية التي ذكرها، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 134).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (5/ 180).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 5).
(4)
محاسن التأويل (2/ 255).
قال ابن عاشور: "قوله: (نزل عليك الكتاب) خبر عن اسم الجلالة، والخبر هنا مستعمل في الامتنان، أو هو تعريض ونكاية بأهل الكتاب: الذين أنكروا ذلك، وجيء بالمسند فعلا لإفادة تقوية الخبر، أو للدلالة -مع ذلك- على الاختصاص: أي الله لا غيره نزل عليك الكتاب إبطالا لقول المشركين: إن القرآن من كلام الشيطان، أو من طرائق الكهانة، أو يعلمه بشر"
(1)
.
قال أبو زهرة: "في قوله (مصدقا) أي: أنه مصدق لما بين يديه؛ أي الشرائع الإلهية التي سبقته؛ ولذا قال سبحانه: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) فهو في لبه ومعناه مبين لكل الشرائع مصدق لصدقها؛ وهذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في لبها ومعناها وأصولها؛ ولذا قال سبحانه: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، فالإسلام هو لب الأديان وغايتها"
(2)
.
[الموازنة بين رغبات النفس وتسخيرها لتحقيق الغاية من الخلق]
قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [سورة آل عمران: 14]
2.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "يعني أنه ليس المراد ذمها والتنفير عنها، وإنما المراد التحذير من أن تجعل هي غاية الحياة"، وقال:"وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر وبيان حقيقة الأمر في نفسه لا في جزئياته وأفراد وقائعه، فالمراد أن الله - تعالى - أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في مسألة الفطرة، في مسألة الموازنة بين رغبات النفس وتسخيرها لتحقيق الغاية من الخلق، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: هذه الأمور الواردة في الآية من الشهوات وأنها غريزة طبيعية في النفس البشرية، ولكن المهم ألا تجعل غاية للحياة وإنما هي وسيلة للتمتع بما أنعم الله به على الإنسان، يأخذ منها قدر المستطاع، فتكون وسيلة واستجابة لداعي الفطرة، وفق محددات الشريعة لهذه الشهوات، واستدرك على بعض المفسرين أنهم غفلوا عن كون الكلام في طبيعة البشر وفطرهم، ولهذا شواهد في السنة النبوية، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة))
(4)
. قال ابن جرير وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثرُوا الدنيا وحبَّ الرياسة فيها، على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه
(5)
. قال الزمخشري والله زينها لهم، لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها حب الشهوات جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها، والوجه أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالهيمية، وقال (زين للناس حب الشهوات) ثم جاء بالتفسير، ليقرر أولا في النفوس أن المزين لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس، فيكون أقوى لتخسيسها، وأدل على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله
(6)
. وزاد أبوحيان خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه
(7)
. وقال ابن عطية إذا قيل زين الله، فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء، وإذا قيل زين الشيطان فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها، والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر، وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توضيح لمعاصري محمد عليه السلام من اليهود وغيرهم
(8)
، وذكر ذلك القرطبي
(9)
، وزاد البيضاوي المزين هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي، ولعله زينه ابتلاء، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى، أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع
(10)
. قال ابن سعدي فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين، قسم جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب، والقسم الثاني عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودون منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها (ذلك متاع الحياة الدنيا) فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم، وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها
(11)
.
(1)
التحرير والتنوير (3/ 147).
(2)
زهرة التفاسير (2/ 1100).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 196).
(4)
رواه النسائي: كتاب عشرة النساء باب حب النساء ح (3940)(7/ 61)[قال الشيخ الألباني: صحيح]. ورواه الإمام أحمد بن حنبل: مسند أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه 3/ 285 ح (14069)[تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير سلام أبي المنذر فهو صدوق حسن الحديث].
(5)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (6/ 243).
(6)
الكشاف (1/ 342).
(7)
البحر المحيط (3/ 50).
(8)
المحرر الوجيز (1/ 408).
(9)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 28).
(10)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 8).
(11)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 124).
[ذكر حب النساء وإغفال الرجال، بيان لأكثر ما تتحقق به اللذة، وتقع به الفتنة]
قال تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)) [سورة آل عمران 14] قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله فمن تأمل هذه المعاني والفروق في حب كل من الزوجين للآخر يسهل عليه أن يقول إن المراد بحب النساء حب الزوجية الذي يكون بين المرأة والرجل فذكر أقوى طرفيه لأن قصد التمتع فيها أظهر، وأثره في الصرف عن الحق أو الاشتغال عن الآخرة أقوى، وطوى الطرف الثاني، وفعل مثل ذلك في النوع الثاني من الحب المزين للناس وهو حب الولد
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الفتن، في مسألة ذكر حب النساء وإغفال الرجال، بيان لأكثر ما تتحقق به اللذة، وتقع به الفتنة، بدلالة الإشارة. وجه الاستنباط العلاقة الزوجية تتكون من علاقة رجل بامرأة، ومن ثم ينتج عنها الولد، وفي ذكر النساء والولد وإغفال الرجال بيان لأكثر شيء تتحقق فيه اللذة والاستئناس، وتقع به الفتنة، وهذه أبلغ إشارة في شرعية الاستمتاع، مع الحذر التام من الانصراف عن غايات أخرى عظيمة، وقد بنى الشيخ استنباطه على مسألة الاحتباك
(2)
البلاغية. وقد سار على هذا جمع من المفسرين منهم، الرازي حيث قال إعلم أنه تعالى عدد هاهنا من المشتهيات أمورا سبعة أولها النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)[سورة الروم 21] ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة
(3)
. وقال أبو حيان بدأ بالنساء لأنهن حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجا قال صلى الله عليه وسلم (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))
(4)
وقال: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن))
(5)
، ويقال فيهن فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام، وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال، وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء، وفروع عنهن، وشقائق النساء في الفتن
(6)
. قال ابن عاشور فالميل إلى النساء مركوز في الطبع، وضعه الله تعالى لحكمة بقاء النوع بداعي طلب التناسل إذ المرأة هي موضع التناسل، فجعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلف ربما تعقبه سآمة، وفي الحديث «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» ، ولم يذكر الرجال لأن ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع، وإنما تحصل المحبة منهن للرجال بالإلف والإحسان
(7)
. وقيل سبب تقديم النساء لكثرة تشوق النفوس إليهن لأنهن حبائل الشيطان، وخص البنين دون البنات لعدم الاطراد في محبتهن
(8)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 198).
(2)
الاحتباك هو: أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، وهو نوع عزيز، وهو من ألطف الأنواع وأبدعها وقل من تنبه له أو نبه عليه من أهل فن البلاغة، الإتقان في علوم القرآن (3/ 204).
(3)
مفاتيح الغيب (7/ 162).
(4)
رواه البخاري: كتاب النكاح باب ما يتقى من شؤم المرأة ح (4808).
(5)
رواه البخاري: كتاب الحيض باب ترك الحائض الصوم ح (298).
(6)
البحر المحيط في التفسير (3/ 50).
(7)
التحرير والتنوير (3/ 181).
(8)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (4/ 29)، البحر المحيط (3/ 50)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 14)، فتح القدير للشوكاني (1/ 371).
[الصبر أساس في حسن أداء العبادات واتقانها]
قال تعالى (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)) [سورة آل عمران 17] قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله ويعلم مما تقدم أن تقديم ذكر الصابرين على ما بعده لأنه كالشرط إذ لا يتم بدونه الصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار في الأسحار
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة الصبر أساس في حسن أداء العبادات واتقانها، من دلالة اللفظ. وجه الاستنباط كل عبادة مطلوبة من المؤمنين تعترضها شهوات النفس وامتثال أمر الخالق جل في علاه، ولما كان الصابر يحبس نفسه على ما يحب الله ويرضاه ويصبر على أداء جميع العبادات بصدق في الأقوال والأحوال فقد عدّ هذه الصفة شرطا في حسن أداء العبادة، وما بعدها داخل فيها دخولا ضمنياً. قال الرازي قوله الصابرين والصادقين أكمل من قوله الذين يصبرون ويصدقون، لأن قوله الصابرين يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم، وأنهم لا ينفكون عنها. اعلم أن لله تعالى فرض على عباده أنواعا من التكليف، والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها، ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعا أخر من الطاعات، وإما بسبب الشروع فيه، وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه، وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل البتة، ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى، لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولا ثم قال الصادقين ثانيا
(2)
. وقال البيضاوي حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب، فإن معاملته مع الله تعالى إما توسل وإما طلب، والتوسل إما بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما
(3)
. وعلل أبو حيان تقديم الصابرين على غيرهم بقوله لما ذكر الإيمان بالقول، أخبر بالوصف الدال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف، فصبروا على أداء الطاعة، وعن اجتناب المحارم، ثم بالوصف الدال على مطابقة الاعتقاد في القلب للفظ الناطق به اللسان، فهم صادقون فيما أخبروا به
(4)
. قال ابن عاشور وذكر هنا أصول فضائل صفات المتدينين وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 207).
(2)
مفاتيح الغيب (7/ 167)
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 9).
(4)
البحر المحيط (3/ 57).
(5)
التحرير والتنوير (3/ 185).
[العبرة في المدح والذم متوقفة على معرفة الحق وتقريره]
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[سورة آل عمران 21] قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله إن هذا القيد يقرر لنا أن العبرة في ذم الشيء ومدحه تدور مع الحق وجودا وعدما لا مع الأشخاص والأصناف، وقال والإقدام على قتل هؤلاء دليل على غمط العقل ومقت العدل، وأقبح بذلك جرما وكفى به إثما
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العلم، في مسألة العبرة في المدح والذم متوقفة على معرفة الحق وتقريره، بدلالة المفهوم. وجه الاستنباط قررت الآية أن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق، وهذا تأكيد لمعنى قتل الأنبياء وأنه لا يكون بحق بحال، إذ لا مفهوم مراد من الآية، وأن قتلهم غاية الكفر والعناد، فالحق في طاعتهم والإيمان بهم وتوقيرهم وتعزيرهم، كما أمر الله جل وعلا في كتابه، وهذه إشارة عظيمة إلى دوران الشريعة مع العقل والعدل، فيجب أن يُفهم هذا. قال ابن جرير أنهم كانوا يقتلون رُسل الله الذين كانوا يُرسَلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها
(2)
. قال ابن عطية إن هذه الآية في اليهود والنصارى، وتعم كل من كان بهذه الحال، والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمساوئ أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوئ لأنهم كانوا حرصى على قتل محمد عليه السلام
(3)
. وقال أبو السعود هم أهلُ الكتاب قتل أوّلوهم الأنبياءَ عليهم السلام وقتلو أتباعَهم وهم راضون بما فعلوا، وكانوا قاتلهم الله تعالى حائمين حول قتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لولا أن عصَم الله تعالى ساحتَه المنيعة وقد أُشير إليه بصيغة الاستقبال وقرئ بالتشديد للتكثير والتقييدُ بغير حق للإيذان بأنه كان عندهم أيضاً بغير حق
(4)
. قال ابن سعدي هؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية، أشد الناس جرما وأي جرم أعظم من الكفر بآيات الله التي تدل دلالة قاطعة على الحق الذي من كفر بها فهو في غاية الكفر والعناد ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك، ويقتلون أيضا الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له، فقابلوهم شر مقابلة، فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات، وهو العذاب المؤلم البالغ في الشدة إلى غاية لا يمكن وصفها، ولا يقدر قدرها المؤلم للأبدان والقلوب والأرواح
(5)
. وقال ابن عاشور وقوله بغير (حق) ظرف مستقر في موضع الحال المؤكدة لمضمون جملة يقتلون النبيين إذ لا يكون قتل النبيين إلا بغير حق، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحتراز فإنه لا يقتل نبي بحق
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 216).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (6/ 284).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 414).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 19).
(5)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 126).
(6)
التحرير والتنوير (3/ 206).
[مكانة الحكمة والعدل في رفعة الأمة]
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[سورة آل عمران 21] قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وأقول على ما تقدم من الاختيار إنه يشعر بشمول قوله الذين يأمرون بالقسط لمن بلغته دعوة نبي على وجهها فآمن به، ومن لم يكن كذلك، وإلا لقال والذين يأمرون بالقسط من المؤمنين، وفي هذا تعظيم شأن الحكمة والعدالة ما فيه من شرف الإسلام وإرشاد أهله إلى أن يكونوا من أهل هذه المرتبة التي تلي مرتبة النبوة
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة مكانة الحكمة والعدل في رفعة الأمة، بدلالة العموم. وجه الاستنباط امتدحت الآية الذين يأمرون بالقسط والعدل بين الناس، وأن ما يقومون به هو عين الحكمة والعدالة، لأن ما يقومون به هو تحقيق لمصالح وإحسان ونصح بما ينفع في الدنيا والآخرة، وإن قتل بني إسرائيل لهم نابع من فساد عقائدهم وفساد نياتهم، وخبث مقاصدهم وانتكاس فطرهم، فاستحقوا على ذلك أشد العقوبات، وهم بذلك أبعد الناس عن صفات وخصائص المؤمنين الآمرين بالقسط والعدل والحكمة. وفي هذا تربية للأمة أن تكون في رتبة بعد رتبة الأنبياء، بالقيام بما أمر الله من العدل والحكمة والقسط. ونقل الرازي قول الحسن هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف، تلي منزلته في العِظم منزلة الأنبياء
(2)
. قال القرطبي دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة
(3)
. قال أبو السعود (وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس) أي بالعدل ولعل تكريرَ الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافها في الوقت
(4)
. قال ابن سعدي ويقتلون أيضا الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له، فقابلوهم شر مقابلة، فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 216).
(2)
مفاتيح الغيب (7/ 177).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 47).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 19).
(5)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 126).
[سنة الله في عاقبة المؤمنين وإهلاك الكافرين]
قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[سورة آل عمران 26] قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وقد نظرنا فيما وقع للغابرين والحاضرين ومحصنا أسبابه فألفيناها ترجع إلى سنن مطردة، وبين بعض هذه السنن في نزع الملك ممن يشاء وإيتائه من يشاء، وبهذا يظهر وجه اتصال الآية بما قبلها وكونها بمثابة الدليل لقوله السابق (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ)[سورة آل عمران 12] فهي تتضمن تأكيد الوعد بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وغلب أعدائه من أهل الكتاب والمشركين
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة سنة الله في عاقبة المؤمنين وإهلاك الكافرين، بدلالة الجمع بين الآيات. وجه الاستنباط دلت الآية على أن من سنن الله المطردة في إيتائه الملك لمن يشاء ونزعه عمن يشاء أنها تابعة لمشيئة الله، ولا تنافي بين ما يجري الله من الأسباب الكونية والدينية من بقاء الملك وسبب حصوله أو زواله، فكلها تابعة للقضاء والقدر، وفق شروط ذكرها الله عز وجل وعلى رأسها العدل، الذي ينصر الله به الأمة الكافرة إذا قامت به، ويخذل الأمة المسلمة إذا تركته، واستدل الشيخ بعد هذا بتأكيد وعد الله، بزوال الكافرين ونصر المؤمنين المتقين، وذلك بنصر نبيه وغلبته على أعدائه بما ورد في الآية السابقة، (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)) [سورة آل عمران 12]، وفي هذا بشارة وتسلية وتحقيق لسنة الله عز وجل في الملك والتمكين. وقد انفرد الشيخ بهذا الربط بين الآيات، وهذا ما يعرف في مسائل علوم القرآن بمسألة المناسبة بين الآيات بالاتصال. قال ابن جرير وتعز من تشاء، بإعطائه الملك والسلطان، وَبسط القدرة له وتذلّ من تشاء بسلبك ملكه، وتسليط عدوه عليه بيدك الخير، أي كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد، لأنك على كل شيء قديرٌ، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك
(2)
. قال البغوي وقوله تعالى وتعز من تشاء وتذل من تشاء، قال عطاء وتعز من تشاء المهاجرين والأنصار، وتذل من تشاء فارس والروم، وقيل تعز من تشاء محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها [قهرا على أهلها]، وتذل من تشاء أبا جهل وأصحابه، حتى جزت رؤوسهم وألقوا في القليب، وقيل تعز من تشاء بالإيمان والهداية [ودخول الجنة]
(3)
. قال ابن سعدي في قوله (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد، وقد فعل ولله الحمد، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع، قال الله تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور، وقال تعالى (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم) الآية وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 223).
(2)
جامع البيان (6/ 301).
(3)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 426).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 127).
[النكاح سنة الله وفطرته في خلقه من الناس]
قال تعالى (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)) [سورة آل عمران 39] قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله قال الرازي احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل، ونقول إن الآية ليست نصا ولا ظاهرة في ذلك، وإذا سلمنا أنها تدل عليه فلا نسلم أنها تدل على أن ترك التزوج أفضل مطلقا، وليس يحيى بأفضل من أبيه ولا من إبراهيم الخليل ولا من محمد خاتم النبيين والمرسلين، وسنة النكاح أفضل سنن الفطرة لأنها قوام هذه الحياة الدنيا، وسبب بقاء الإنسان الذي كرمه الله وخلقه في أحسن تقويم وجعله خليفة في الأرض إلى الأجل المسمى في علم الله
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة النكاح سنة الله وفطرته في خلقه من الناس، بمفهوم المخالفة. وجه الاستنباط الآية لم تتطرق لحكم النكاح وليس فيها تصريح أو تنصيص على فعله أو المنع منه، وإنما هذه صفة اختص الله بها نبيه يحيي عليه السلام، عن باقي الأنبياء، وإنما هي كفاية من الله ليحيى، فامتناعه عن وطء النساء كان تبتلا لله وعفة وزهدا إذ ليس في قلبه شهوة لهن، وليس فيها انتقاص أو إلحاق أذى به عليه السلام، والنكاح سنة الله في خلقه، وفطرة فطر الناس عليها، وفعلها الأنبياء من قبله ومن بعده، وهو شريعة ثابتة، تدور أحكامه بين الوجوب والاستحباب. وقد أجمع المفسرون على أن المقصود من الحصر هنا ليس لعجز بل هو امتناع عن الشهوات والملهيات للعفة والزهد
(2)
. وتنوعت عباراتهم في بيان المعنى المراد فقال ابن كثير قيل ليست له شهوة في النساء، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل، كيحيى عليه السلام، ثم هي حق من أقدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة علياء، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
(3)
. وقال البغوي الحصور بمعنى المحصور، يعني الممنوع من النساء، قال سعيد بن المسيب كان له مثل هدبة الثوب، وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره، وفيه قول آخر إن الحصور الممتنع من الوطء مع القدرة عليه، واختار قوم هذا القول لوجهين، أحدهما لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، والثاني أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء
(4)
، ومثله القرطبي
(5)
. ومما تقدم لم نجد من أشار لاستنباط الشيخ محمد رشيد إلا عبارة أبي حيان حيث قال وقد استدل بقوله وحصورا من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، وهو مذهب الجمهور خلافا لمذهب أبي حنيفة، فإنه بالعكس
(6)
. وقال ابن عاشور ذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إما أن يكون مدحا له، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرمة، بأصل الخلقة، ولعل ذلك لمراعاة براءته مما يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم، وقد كان اليهود في عصره في أشد البهتان والاختلاق، وإما ألا يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحا له لأن من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النساء فتعين أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاما لزكرياء بأن الله وهبه ولدا إجابة لدعوته
(7)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 245).
(2)
أنظر: جامع البيان في تأويل آي القرآن (6/ 376)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 360)، مفاتيح الغيب (8/ 212)، إرشارد العقل السليم لمزايا الكتاب العزيز (2/ 32)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 130).
(3)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 38)
(4)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 437).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 78).
(6)
البحر المحيط في التفسير (3/ 134).
(7)
التحرير والتنوير (3/ 241).
[تعبير القرآن بلفظة (خلق) عيسى رد على النصارى]
قال تعالى (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)) [سورة آل عمران 47] قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وعبر هنا بالخلق وفي بشارة زكريا بيحيى بالفعل، وكل منهما خلق وفعل، لكن لفظ الفعل يستعمل كثيرا فيما يجري على قانون الأسباب المعروفة، ولفظ الخلق يستعمل في الإبداع والإيجاد ولو بغير ما يعرف من الأسباب
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب إعجاز القرآن، في مسألة تعبير القرآن بلفظة (خلق) عيسى رد على النصارى، بدلالة اختلاف اللفظ. وجه الاستنباط كل معنى أتى في الموضع المناسب له، فلفظ الخلق لعيسى لأن خلقته من غير أب تعد إيجاد ولا قانون لها فهو على غير المعهود في التوالد؛ لأنه من أم غير زوج في الظاهر، فكان بالأمور المبتدأة بمحض القدرة أشبه، والتعبير عنه بالخلق أليق، وفيه أيضا رد على شبهة النصارى بالتصريح بأنه مخلوق فيكون قطعا لهم. قال ابن كثير وصرح هاهنا بقوله (يخلق) ولم يقل يفعل كما في قصة زكريا، بل نص هاهنا على أنه يخلق؛ لئلا يبقى شبهة، وأكد ذلك بقوله (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) أي فلا يتأخر شيئا، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة، كقوله تعالى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)[القمر 50] أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها، فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح بالبصر
(2)
. قال البيضاوي (قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ) القائل جبريل، أو الله تعالى وجبريل حكى لها قول الله تعالى، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجاً بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك
(3)
. وقال أبو السعود (كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء) الكلامُ في إعرابه كما مرَّ في قصَّةِ زكريا بعينه خلا أن إيراد يخلق ههنا مكانَ يفعلُ هناك لما أن ولادةَ العذراءِ من غير أن يمسَّها بشرٌ أبدعُ وأغربُ من ولادة عجوزٍ عاقرٍ من شيخ فان فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسبَ بهذا المقام من مطلق الفعل ولذلك عقّب ببيان كيفيته فقيل (إِذَا قَضَى أَمْرًا) من الأمور أي أراد شيئاً
(4)
. ومثله ابن عثيمين حيث قال عُبر في قصة مريم بالخلق وفي قصة زكريا بالفعل (يفعل)، فهل هناك نكتة أو أنه اختلاف تعبير؟ الجواب أن هناك نكتة، وهي من وجهين الوجه الأول مما قاله العلماء وهو صحيح أن عيسى عليه السلام خلق من غير ما جرت العادة به، خلق على وجه لم تجر العادة بمثله إطلاقاً، فناسب التعبير بالخلق الدال على الإبداع، ولهذا يقال خلق الله السماوات، ولا يقال فعل الله السماوات، مع أن الخلق فعله لكن الخلق فيه نوع من الإبداع ولذلك قال (خلق). الوجه الثاني الرد على شبهة النصارى الذين يقولون إن عيسى هو الله، والله ثالث ثلاثة، فيكون فيه التصريح بأنه مخلوق، ويكون هذا قطعاً لدابر قولهم فيه، إذن نكتة كونية ونكتة شرعية يعني حكمة كونية شرعية
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 253).
(2)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 44).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 17).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 37).
(5)
فوائد من تفسير سورتي آل عمران والنساء (1/ 280).
[عظمة الخالق وقصر عقول الخلق، وأن أفعاله لا تقاس بأفعالهم]
قال تعالى (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)) [سورة آل عمران 47] قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله إعلم أن الكافرين بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودا على العادات، وذهولا عن كيفية ابتداء خلق جميع المخلوقات، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين، ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة عظمة الخالق وقصر عقول الخلق، وأن أفعاله لا تقاس بأفعالهم، من دلالة المفهوم. وجه الاستنباط أفعال الله جل وعلا تكون وفق إرادته ومشيئته، لا يسأل عما يفعل، ولا يمكن معرفة كيفيتها بالعقل البشري القاصر عن إدراكها، ولذلك فإنكار المنكرين خلق عيسى من غير أب، اعتماد على العادات والأشياء المتعارف عليها، وقصور عن إدراك ومعرفة ما يليق بالخالق سبحانه، وذهول عن كيفية بدء خلق المخلوقات، وأنه لا دليل عقلي يؤيد ما ذهبوا إليه من مخالفة المعتاد، وهذه مسألة متقررة عند أهل السنة والجماعة. قال ابن جرير وقوله (سُبْحَانَهُ) يقول تنزيهًا لله وتبرئة له أن يكون له ما أضاف إليه الكافرون القائلون عيسى ابن الله، وقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يقول جل ثناؤه إنما ابتدأ الله خلق عيسى ابتداء، وأنشأه إنشاء من غير فحل افتحل أمه، ولكنه قال له (كُنْ فَيَكُونُ) لأنه كذلك يبتدع الأشياء ويخترعها، إنما يقول، إذا قضى خلق شيء أو إنشاءه كن فيكون موجودا حادثا، لا يعظم عليه خلقه، لأنه لا يخلقه بمعاناة وكلفة، ولا ينشئه بمعالجة وشدّة
(2)
. قال ابن عطية جاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا، يَخْلُقُ من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه
(3)
. قال ابن كثير في قوله تعالى (إن مثل عيسى عند الله) في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب (كمثل آدم) فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم، بل (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا، ولكن الرب عز وجل، أراد أن يظهر قدرته لخلقه، حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم (ولنجعله آية للناس)[مريم 21]
(4)
. قال أبو السعود أن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ فان فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل ولذلك عقب ببيان كيفيته فقيل (إذا قضى أمرا) من الأمور أي أراد شيئا كما في قوله تعالى (إنما أمره إذا أراد شيئا) وأصل القضاء الإحكام أطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بوجود الشئ لإيجابها إياه ألبتّه
(5)
. وبمثله قال الألوسي، وابن سعدي، وأبو زهرة
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 253).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (18/ 196).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 437).
(4)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 49).
(5)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 37).
(6)
روح المعاني (2/ 158)، تيسير الكريم الرحمن (ص: 131)، زهرة التفاسير (3/ 1219).
[الدين عند الله الإسلام وهو دين كل الرسل]
قال تعالى (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)) [سورة آل عمران 52] قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله في هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبي وإن اختلفوا في بعض صوره وأشكاله وأحكامه وأعماله
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الألوهية، في مسألة الدين عند الله الإسلام وهو دين كل الرسل، بدلالة اللفظ. وجه الاستنباط شهادة الحواريين لعيسى عليه السلام وإقرارهم له بالانقياد لأوامر الله ونواهيه دليل على أن الإسلام الذي يرتضيه الله عز وجل هو (الاستسلام لله) بالذل والخضوع لله تعالى، بإفراده بالربوبية، والخلق، والتدبير، وإفراده تعالى بالألوهية بجميع أنواع العبادة، فهو دين واحد من عهد آدم إلى قيام الساعة، وهو الذي خلق الخلق لأجله قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[سورة الذاريات 56]، أما الشرائع فقد اختلفت بين الأمم ووفق ما يحقق مصالحهم الدينية والدنيوية. وعلى هذا سار المفسرون ومنهم ابن جرير فقال هذا خبر من الله أن الإسلام دينه الذي بعث به عيسى والأنبياء من قبله لا النصرانية ولا اليهودية، وتبرئةٌ من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها، كما برّأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام
(2)
. وقال الرازي فيه قولان الأول المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك، والذب عنك، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه الثاني أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم
(3)
. وقال ابو حيان ودلّ ذلك على أن عيسى عليه السلام كان على دين الإسلام، برأه اللّه من سائر الأديان كما برأ إبراهيم بقوله (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[سورة آل عمران 67]
(4)
. وقال ابن سعدي وهذا من منة الله عليهم، وعلى عيسى، حيث ألهم هؤلاء الحواريين، الإيمان به، والانقياد لطاعته، والنصر لرسوله
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 258)
(2)
تفسير جامع البيان 6/ 451
(3)
مفاتيح الغيب (8/ 234).
(4)
البحر المحيط (3/ 174).
(5)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 967).
[رفع الله عيسى إلى السماء حيّا، رفعة لمكانته]
قال تعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)) [سورة آل عمران 55] قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله وأجاب هؤلاء عما يرد عليهم من مخالفة القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيبا، أقول وفاتهم أن مخالفة الترتيب في الذكر للترتيب في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع؛ إذ الرفع هو الأهم لما فيه من البشارة بالنجاة ورفعة المكانة
(1)
.
الدراسة
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان بالرسل، في مسألة رفع الله عيسى إلى السماء حيّا، رفعة لمكانته، بدلالة المنطوق. وجه الاستنباط في قصة عيسى عليه السلام، الرفع قبل الإماتة على ما تقرر عند المفسرين، وتقديم التوفي على الرفع في الآية، وعطفه بالواو لا تفيد ترتيبا، ورفعه عليه السلام هو الأهم، وهذا بشارة بنجاته من القتل والتمثيل به، ورفعة لمكانته. قال ابن جرير وقال آخرون معنى ذلك إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا، وقال هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم
(2)
. قال ابن كثير اختلف المفسرون في قوله (إني متوفيك ورافعك إلي) فقال قتادة وغيره هذا من المقدم والمؤخر، تقديره إني رافعك إلى ومتوفيك
(3)
، وكذا قال البغوي، والقرطبي
(4)
. قال الرازي واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها، والثاني فرض التقديم والتأخير فيها، والطريق الثاني وهو قول من قال لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، قالوا إن قوله ورافعك إلي يقتضي أنه رفعه حيا، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى أني رافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن. واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر والله أعلم
(5)
. وقال ابن عاشور وقد قيل في تأويله إن عطف ورافعك إلي على التقديم والتأخير إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إني رافعك إلي ثم متوفيك بعد ذلك، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أن في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فيمكث (أي عيسى) في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون))
(6)
، والوجه أن يحمل قوله تعالى:{إني متوفيك} على حقيقته، وهو الظاهر، وأن تؤول الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حي على معنى حياة كرامة عند الله، كحياة الشهداء وأقوى، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل، أن ذلك يقوم مقام البعض، وأن قوله- في حديث أبي هريرة- ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى، وهم جمع من الصحابة، والروايات مختلفة وغير صريحة. ولم يتعرض القرآن في عد مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان"
(7)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 260).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (6/ 458).
(3)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 46).
(4)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 447)، الجامع لأحكام القرآن (4/ 99).
(5)
مفاتيح الغيب (8/ 238 - 237).
(6)
رواه أبو داود: كتاب الملاحم، باب خروج الدجال، ح (4324)، [قال الشيخ الألباني: صحيح].
(7)
التحرير والتنوير (3/ 259).
[تذكير الله للناس جميعا أن المرجع إليه وهو الحكم فيما اختلفوا فيه]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب، وبذلك يشمل المسيح والمختلفين معه ويشتمل الاختلاف بين أتباعه والكافرين به، والله هو الذي يبين لهم جميعا يوم الحساب الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يزيل شبه المشتبهين ورياء الجاحدين"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة تذكير الله للناس جميعا أن المرجع إليه وهو الحكم فيما اختلفوا فيه، بدلالة الألفاظ.
وجه الاستنباط: بعد أن فرق الله بين أتباع عيسى وبين مخالفيه بالكفر والعناد، انتقل بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى مخاطبة جميع المكلفين من عهد عيسى عليه السلام إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ليبين لهم أن مآلكم جميعا أيها المختلفون في عيسى، أو من اختلفت مشاربهم في الكفر على مر الزمان، أن الله جامعكم ومحيط بكم في يوم المحاسبة والمجازاة على الأعمال، الحسنة بالإحسان والسيئة بالعذاب الأليم، فلا ينفع رياء ولا جحود في ذلك اليوم، وفي هذا رد كما أشار الشيخ على من له شبهة في هذا، كالدهريين من كفار مكة.
وممن قال بهذا ابن جرير: "وهذا من الكلام الذي صُرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، وذلك أن قوله: {ثم إليَّ مرجعكم}، إنما قُصد به الخبرُ عن متَّبعي عيسى والكافرين به"
(2)
.
قال البيضاوي: " {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} الضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام ومن تبعه ومن كفر به، وغلب المخاطبين على الغائبين"
(3)
.
وقال أبو حيان: " {وجاعل الذين اتبعوك} الكاف: ضمير عيسى كالكاف السابقة، وقيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو من تلوين الخطاب، انتهى هذا القول، ولا يظهر، ومعنى اتبعوك: أي في الدين والشريعة، وهم المسلمون، لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع، وقال الجمهور: بعموم المتبعين، فتدخل في ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نص عليه قتادة، وبعموم الكافرين"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 262).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (6/ 464).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 19).
(4)
البحر المحيط (3/ 178)
قال أبو السعود: " {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعكم بالبعث وثم للتراخي وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ المفيدِ لتأكيد الوعدِ والوعيد والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام وغيرِه من المتبعين له والكافرين به على تغليبُ المخاطَب على الغائبِ في ضمن الالتفاتِ فإنه أبلغُ في التبشير والإنذار"
(1)
.
وقال ابن عاشور: "والظاهر أن هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى، وأن ضمير مرجعكم، وما معه من ضمائر المخاطبين، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به، ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني"
(2)
.
[الفرق بين الإرادة والتكليف]
قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [سورة آل عمران: 59]
4.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وخطر لي الآن أنه يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع كن فيكون، والمعنى: ثم قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالا، ويظهر هذا في مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} [سورة الأنعام: 73] ولو كان القول للتكليف لم يظهر هذا؛ لأن قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة، ولعل من تأمله حق التأمل لا يجد عنه منصرفا، والعطف بـ (ثم) لبيان التكوين الآخر يفيد تراخيه وتأخره عن الخلق الأول"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة الفرق بين الإرادة والتكليف، بدلالة المفهوم والعطف.
وجه الاستنباط: دلت الآية على أن كلمة التكوين مجموع (كن فيكون)، وهي إرادة الله الكونية إلى الشيء ووجوده بها حالا، وليس للتكليف، ودلل على أن هذا القول ظاهر في قوله تعالى:{وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} .
قال ابن جرير: "هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا: "كتاب البيان عن أصول الأحكام". وإذ كان ذلك كذلك، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: (كن) في حال إرادته إياه مكوَّنا، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه، إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه، فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك"
(4)
.
(1)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 44).
(2)
التحرير والتنوير (3/ 260).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 263).
(4)
جامع البيان (2/ 547).
قال الشيخ حافظ حكمي
(1)
: "قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 83] فأخبر تعالى أن الخلق غير الأمر وأن القرآن من أمره لا من خلقه وقال: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40] فكن من كلامه الذي هو صفته ليس بمخلوق، والشيء المراد المقول له "كن" مخلوق، وقال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 9] فعيسى وآدم مخلوقان بكن و"كن" قول الله صفة من صفاته، وليس الشيء المخلوق هو كن، ولكنه كان بقول الله له كن"
(2)
.
قال ابن عاشور: "وقول كن تعبير عن تعلق القدرة بتكوينه حيا ذا روح ليعلم السامعون أن التكوين ليس بصنع يد، ولا نحت بآلة، ولكنه بإرادة وتعلق قدرة وتسخير الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد، حتى تلتئم وتندفع إلى إظهار المكون وكل ذلك عن توجه الإرادة بالتنجيز، فبتلك الكلمة كان آدم أيضا كلمة من الله ولكنه لم يوصف بذلك لأنه لم يقع احتياج إلى ذلك لفوات زمانه، وإنما قال: فيكون ولم يقل فكان لاستحضار صورة تكونه"
(3)
.
قال أبو زهرة: "قال في شأن خلق عيسى من غير أب: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، وبهذا يتبين أن الله سبحانه وتعالى خلقه بكلمة منه، وهو "كن"، كما خلق آدم، وكان عيسى بهذا كلمة الله لأنه خلقه بها، فقد خلق من غير بذر يبذر في رحم أمه، فما كان تكوينه نماء لبذر وجد، وللأسباب التي تجري بين الناس، بل كان السبب هو إرادة الله وحده، وكلمته "كن" وبذلك سُمِّيَ كلمة الله، وتعلق النصارى بأن كون عيسى كلمة الله دليل على ألوهيته، وما كانت الكلمة من الله إلهًا يعبد، فضلا عن أنه سمي بذلك؛ لأنه فعلا نشأ بكلمة، لَا بمنيِّ من الرجل يمنى، بل كلمته التكوين ألقاها (أي أوصلها) إلى مريم فكان التكوين لعيسى"
(4)
.
(1)
حافظ بن أحمد الحكمي، علم من أعلام المنطقة الجنوبية، والجزيرة العربية، ولد سنة 1342 هـ، اتسم بالذكاء والفطنة، التقى بالشيخ القرعاوي فتوسم فيه النجابة والاستعداد لتلقي العلم والمعرفة، عمل مدرسا ثم اسندت إليه إدارة المعهد العلمي بمدينة صامطة، توفي سننة 1377 هـ، له كتاب أرجوزة سلم الوصول إلى علم الأصول في توحيد الله واتباع الرسول الكريم، ومعارج القبول شرح سلم الوصول، انظر: التاريخ الأدبي لمنطقة جازان، (ج 3/ 1522 - 1523).
(2)
معارج القبول بشرح سلم الوصول (1/ 269).
(3)
التحرير والتنوير (3/ 273 - 264).
(4)
زهرة التفاسير (4/ 1980).
[من العدل مساواة النساء بالرجال في بعض الأمور العامة]
قال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} [سورة آل عمران: 61]
5.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية، وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا ما استثني منها، ككونها لا تباشر الحرب بنفسها بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداواة الجرحى، وقد علمنا مما تقدم أن الحكمة في الدعوة إلى المباهلة هي إظهار الثقة بالاعتقاد واليقين فيه، فلو لم يعلم الله أن المؤمنات على يقين في اعتقادهن كالمؤمنين لما أشركهن معهم في هذا الحكم، فأين هذا من حال نسائنا اليوم ومن اعتقاد جمهورنا فيما ينبغي أن يكن عليه؟ لا علم لهن بحقائق الدين ولا بما بيننا وبين غيرنا من الخلاف والوفاق، ولا مشاركة للرجال في عمل من الأعمال الدينية ولا الاجتماعية"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب العدل، في مسألة من العدل المساواة بين الرجال والنساء في بعض الأمور العامة، واستنباطا اجتماعيا، في مسألة وجوب تعليم النساء ما يحتاج له المجتمع من العلم، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: دلت الآية مشاركة النساء للرجال في بعض الأمور العامة وحضور المناظرات الدينية، وفيه دليل على مساواتهن بالرجال في أحكام شرعية، لا تتعارض مع أحكام شرعية أخرى، ومن هذا أخذ على الأمة واجب تعليمهن، وإفساح المجال لهن للإدلاء بآرائهن فيما يحيط بهن وبمجتمعاتهن من الأمور العامة، لتشارك فيها إما برأي أو بمساندة، وهذا حال النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا مما انفرد به الشيخ رحمه الله ولم أجد من أشار إلى هذا المعنى، إلا قول الزمخشري:"فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة، وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق، وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 266).
(2)
الكشاف عن غوامض التنزيل (1/ 369).
[مقصد الشريعة من حكم قتل المرتد]
قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} [سورة آل عمران: 72]
6.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ويظهر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه؛ لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فإنها قد تخدع الضعفاء الذين يدخلون في الإسلام لتفضيله على الوثنية في الجملة قبل أن تطمئن قلوبهم بالإيمان، كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم؛ وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له - فيما أرى - وقد أفتيت بذلك كما يظهر لي والله أعلم"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الحدود، في مسألة مقصد الشريعة من حكم قتل المرتد، وذلك بدلالة الجمع بين مفهوم الآية وفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وجه الاستنباط: بين الشيخ أن فعل اليهود ودخولهم في الإسلام وجه النهار والكفر آخره له مقصد خبيث وغاية خطيرة وهي صرف ضعفاء الناس عن الإسلام وردتهم عنه، ثم حصر الشيخ محمد رشيد حكم قتل المرتدين في تلك الفترة لصد هذه الغاية الخبيثة، ولحماية هذا الدين وحفظه، وحماية للمجتع، لأن التهاون في إقامة هذه الأحكام تعرض الجميع للخطر، وذلك أن المرتد لا يلبث أن يغرر بغيره ويزين لهم الكفر، وخاصة الضعفاء والبسطاء من الناس، مما يشكل خطرا على الأمة بأسرها، فتتحول فيما بعد إلى حروب تأكل الأخضر واليابس.
وهذا المعنى لم يشر إليه أحد من المفسرين، إلا أن ما ذهب إليه الشيخ محمد رشيد في حصر مقصد قتل المرتد في هذه الحكمة وإن كانت مقصدا شرعيا معتبرا، إلا أنه خالف النصوص الشرعية في حكم قتل المرتد والمقاصد المعتبرة في تلك النصوص في كلام العلماء.
فقَتلُ المُرْتَدِّ عن دِينه، المُفارِقِ لجماعة المسلمين هو حُكْمُ الله ورسوله، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوهُ))؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ
…
)) وذكر منها: ((التَّارِكُ لدِينه، المُفارِقُ للجماعة)).
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 275).
وقد اتَّفَقَ الفُقَهاءُ على: أنَّ مَنِ ارتَدَّ من المسلمين أُهدِرَ دَمُه، جاء في المغني:"وأجمع أهل العلم على وُجوبِ قَتْلِ المُرْتَدِّ، ورُوِيَ ذلك عن أبي بكر وعُمَرَ، وَعُثْمانَ وعلي، ومعاذٍ وأبي موسى، وابن عباس وخالد، وغيرهم، ولم يُنْكَر ذلك؛ فكان إجماعًا".
فالمرتد لا يقرُّ بعهد أو جِزْيَةٍ، وإنما يجبُ قَتْلُهُ؛ لأنَّه عَرَفَ فأَنْكَرَ، وأُبْصِرَ فعَمِيَ، وسواءٌ دخل الإسلامَ بالِغًا مُدْرِكًا، أم نَشَأَ فيه صغيرًا.
وإقامة الحَد على المُرتَد ليس لإكراهه على الدُّخول في الدِّين، وإنَّما عقوبة له على كفره برَبِّ العالمين، بعد أن اتَّضَحَت له سبيلُ الهُدى، واستَظلّ بظلِّ الإسلام، وأيقن سَماحَتِه وشموله وصلاحِيَتِه لكلِّ النَّاس، وعَلم أنَّه الدِّينُ الحقُّ المُنَزَّلُ من عند الله، والمنزه عن التحريف والتبديل.
والمرتد معلِنٌ حربًا على الله والإسلام، ورافَعٌ راية الضَّلال، ويدعو إليها المُنفَلتين من الشرائع؛ وهو بهذا مُحارِبٌ للمسلمينَ، يُؤْخَذُ بما يؤخذ به المُحارِبونَ لدِينِ الله
[الحسد والكراهية سبب لعدم الإيمان والكيد للمؤمنين]
قال تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)} [سورة آل عمران: 73]
7.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وعندي أن في الكلام لفا ونشرا مرتبا وهو أن كراهتهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا هو سبب كيدهم للمؤمنين ليرجعوا وكراهتهم أن يحاجهم بعض المؤمنين عند ربهم هو سبب كتمانهم ذلك عمن لم يتبع دينهم أو عدم الإيمان لهم إذا هم ادعوه، ويشهد لهذا الأخير قوله -تعالى -حكاية عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة: 76] هذا ما فتح الله علي به وله الحمد"
(1)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 278).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في بتب أعمال القلوب، في مسألة الحسد والكراهية سبب لعدم الإيمان والكيد للمؤمنين، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: دلت الآية على أن سبب عدم إيمان أهل الكتاب، وكتمانهم للحق الذي في كتبهم، وكيدهم للمؤمنين لصدهم عن سلوك الصراط المستقيم كان بسبب الحقد والكراهية في أن الله لم يخترهم لحمل هذا الدين القويم، وإلى هذا المعنى شواهد من القرآن الكريم، كما بينها الشيخ رحمه الله.
وما أشار إليه الشيخ من اللف والنشر، وذكر المتعدّدات مع ذكر ما يتعلّق بكلّ واحد منها
(1)
لم أجد من أشار إليه، وإنما كانت عباراتهم في بيان حال أهل الكتاب، ومن ذلك ما قاله ابن عطية:"والكلام على هذا التأويل يحتمل معاني: أحدها: ولا تصدقوا تصديقا صحيحا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم كراهة أو مخافة أو حذرا أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم، وحذرا أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر، مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم"
(2)
.
وقال البيضاوي: "ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تقروا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم، أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار لمن كان على دينكم فإن رجوعهم أرجي وأهم. قل إن الهدى هدى الله هو يهدي من يشاء إلى الإيمان ويثبته عليه. أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم متعلق بمحذوف أي دبرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد، والمعنى أن الحسد حملكم على ذلك أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأشياعكم، ولا تفشوه إلى المسلمين لئلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام"
(3)
ومثله النسفي، وأبو السعود
(4)
.
(1)
ذكر المتعدّدات، مع ذكر ما يتعلّق بكل واحدٍ منها، إمّا لفّ ونشر، وإما تقسيم؛ أمّا اللّفُّ والنّشر: فهو فَنٌّ في المتعدّدات التي يتعلّق بكلّ واحِدٍ منها أَمْرٌ لاحق، فاللّف يُشار به إلى المتعدّد الذي يؤتى به أوّلاً، والنشر يُشار به إلى المتعدّد اللاّحق الذي يتعلّق كلُّ واحد منه بواحد من السابق دون تعيين، أما ذكر المتعددات مع تعيين ما يتعلّق بكلّ واحد منها فهو التقسيم. فإذا أتى المتكلم بمتعدّدٍ، وبعده جاء بمتعدّد آخر يتعلّق كلّ فرد من أفراده بفرد من أفراد السابق بالتفصيل ودون تعيين سُمِّيَ صَنيعُه هذا "لفَّاً ونشراً". وإذا كان المتعدد مفصل وجاء وفق ترتيب اللف، سمي اللف والنشر المرتب. البلاغة العربية (2/ 403).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 454).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 23).
(4)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 265)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 50).
[العبودية العامة والعبودية الخاصة وما يتعلق بهما]
قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [سورة آل عمران: 83]
8.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "الظاهر أن ما يكون منهم من الانقياد لله - تعالى - بمقتضى الفطرة من قسم إسلام الطوع، وأما ما يقع منهم من التكليف بالاختيار فمنه ما يفعل طوعا وما يفعل كرها، وكذا ما يقع بهم منه ما يكونون كارهين له، ومنه ما يكونون راضين به، فإذا كان مرادا في الآية فالطوع فيه بمعنى الرضا"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة العبودية العامة والعبودية الخاصة وما يتعلق بهما، بدلالة المفهوم من الآية.
وجه الاستنباط: أن العبودية العامة القهرية لكل المخلوقات، والعبودية الخاصة الاختيارية فهي دين الإسلام، المبني على التكليف ثم التشريف لبني آدم، فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرها، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان.
قال ابن جرير: "وتأويل الكلام: يا معشرَ أهل الكتاب (أفغيرَ دين الله تبغون)، يقول: أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون، (وله أسلم من في السماوات والأرض)، يقول: وله خَشع من في السماوات والأرض، فخضع له بالعبودة، وأقرّ له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية (طوْعًا وكرهًا)، يقول أسلم لله طائعًا من كان إسلامه منهم له طائعًا، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين، فإنهم أسلموا لله طائعين (وكرهًا)، من كان منهم كارهًا"
(2)
.
وقال ابن كثير: " فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرها، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم"
(3)
.
وقال البغوي: "وله أسلم: خضع وانقاد، من في السماوات والأرض طوعا وكرها، فالطوع: الانقياد والاتباع بسهولة، والكره: ما كان بمشقة وإباء من النفس"
(4)
، ومثله البيضاوي، ابن عطية، وأبو حيان، والقرطبي
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 292).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (6/ 564).
(3)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 69).
(4)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 465).
(5)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 26)، المحرر الوجيز (1/ 466)، البحر المحيط (3/ 246)، الجامع لأحكام القرآن (4/ 127).
وقال الرازي: "وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون وفيه مسألتان: المسألة الأولى: الإسلام، هو الاستسلام والانقياد والخضوع، إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السموات والأرض لله وجوه، الأول: وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع.
المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله: الطوع الانقياد، يقال: طاعه يطوعه طوعا إذا انقاد له وخضع، وإذا مضى لأمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد طاوعه"
(1)
.
[الحل والحرمة في المطعومات خاضع لحكم الله وليس للعادات]
قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)} [سورة آل عمران: 93]
9.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والمتبادر عندي: أن المراد بما حرمه إسرائيل على نفسه ما امتنعوا عن أكله وحرموه على أنفسهم بحكم العادة والتقليد لا بحكم من الله، كما يعهد مثل ذلك في جميع الأمم، ومنه تحريم العرب للبحائر والسوائب وغير ذلك مما حكاه القرآن عنهم في سورتي المائدة والأنعام، وقيل: إن شبهتهم التي دفعتها الآية هي إنكار النسخ، فألزمهم بأن التوراة نفسها نسخت بعض ما كان عليه إبراهيم وإسرائيل، وهو إلزام لا يمكنهم التفصي منه؛ لأنه ثابت عندهم في التوراة وهو يدل على نبوة النبي على كل حال"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب التشريع، في مسألة الحل والحرمة في المطعومات خاضع لحكم الله وليس للعادات، بدلالة النص من الآية.
وجه الاستنباط: في الآية دلالة على أن التحريم الواقع من بني إسرائيل لأنواع من الطيبات لم يكن مستندا لدليل شرعي، وإنما كان منشأه العادات المنتشرة في ذلك الزمان، وبين أن هذا في كل الأمم، ويختلف من أمة إلى أمة في سبب هذا التحريم، فقد يكون في أمة بسبب العادات، وفي أمة بسبب إنكار النسخ
(3)
، لكن المنهج السليم هو عرض هذه الأحكام على الكتب المنزلة لمعرفة الحلال والحرام منها.
(1)
مفاتيح الغيب (8/ 280).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 5).
(3)
النسخ: هو رفع النص القرآني بنص من الكتاب والسنة، واليهود: ينكرونه لأنه يستلزم في زعمهم البَدَاء، وهو الظهور بعد الخفاء، وهم يعنون بذلك: أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة، وهذا عبث محال على الله، وإما أن يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البَدَاء وسبق الجهل، وهو محال على الله تعالى، انظر: مباحث في علوم القرآن (238 - 240)، علوم القرآن عند الصحابة والتابعين 617.
قال جمع من المفسرين: الآية محمولة على معنيين: الأول: أن المراد بالتحريم المنع، أي أنه منع على نفسه نوعا من الطعام دون اعتقاد تحريمه، فمجرد الامتناع يسمى تحريماً، وهو إنما فعله إما وفاء بالنذر وإما تداوياً، الثاني: أنه اجتهاد منه أقرّه الله عليه
(1)
.
قال ابن جرير: "أولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه، فإنه كان حرامًا عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم، من غير أن يحرمه الله عليهم في تنزيل ولا وحي قبل التوراة، حتى نزلت التوراةُ، فحرّم الله عليهم فيها ما شاءَ، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ. وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل"
(2)
.
قال ابن عطية: " وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية: الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء: إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة، فأكذبهم الله بهذه الآية، وأخبر أن جميع الطعام كان حلا لهم، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة، ولم يرد به ولده، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها"، وزاد:"وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد"
(3)
.
[التحذير من مخالفة أمر الله والحث على الثبات على شرعه]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [سورة آل عمران: 102]
10.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وهذا النهي مبني على قاعدة أن المرء يموت غالبا على ما عاش عليه، فإذا عاش على اليقين حق التقوى والاحتراس مما ينافي الإسلام مات على ذلك بفضل الله الذي كانت تلك القاعدة من سننه في خلقه"
(4)
.
(1)
أحكام القرآن الجصاص (2/ 19)، الإكليل في استنباط التنزيل (2/ 476)، الجامع لأحكام القرآن (4/ 135).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (6/ 10).
(3)
المحرر الوجيز (1/ 472).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 17).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة التحذير من مخالفة أمر الله والحث على الثبات على شرعه، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: في الآية تحذير من مخالفة أمر الله، والموت على ما لا يرضاه، وترغيب في المحافظة على أوامر الله بإقامة شرعه والثبات عليها في حال الصحة والسقم، فلا يرتضي عنه بديلا، لأن المرء يموت على ما عاش عليه، وهذا أسلوب تربوي ينبغي أن يربى عليه أبناء المسلمين، فيحافظون على الدين والأخلاق الفاضلة ويموتون عليها، وأن يحذروا من البدع والخرافات والأهواء فإنهم إن عاشوا عليها ماتوا عليها.
قال ابن كثير: "قوله: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فعياذا بالله من خلاف ذلك"
(1)
.
قال ابن عطية: "دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه، هكذا هو وجه الأمر في المعنى، وجاءت العبارة على هذا النظم الرائق الوجيز، ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم: لا أرينك هاهنا، وإنما المراد: لا تكن هاهنا فتكون رؤيتي لك، ومُسْلِمُونَ في هذه الآية، هو المعنى الجامع التصديق والأعمال، وهو الدين عند الله وهو الذي بني على خمس"
(2)
.
قال الزمخشري: "ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت"
(3)
، ومثله البيضاوي، وأبو حيان
(4)
قال الرازي: "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فلفظ النهي واقع على الموت، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم"
(5)
.
قال ابن عاشور: "فالنهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة، ولو كان المراد به معناه الأصلي"
(6)
.
(1)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 87)
(2)
المحرر الوجيز (1/ 483).
(3)
الكشاف عن غوامض التنزيل (1/ 394).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 31)، البحر المحيط (3/ 285).
(5)
مفاتيح الغيب (8/ 311).
(6)
التحرير والتنوير (4/ 31).
[رحمة الله تسبق غضبه]
قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)} [سورة آل عمران: 106]
11.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ومن مباحث اللفظ والنظم في الآيات أنه جعل النشر في آية يوم تبيض وجوه إلخ، على غير ترتيب اللف إذ ذكر في اللف الابيضاض قبل الاسوداد، وذكر في النشر حكم من اسودت وجوههم قبل حكم من ابيضت وجوههم، وليس اللف والنشر يسمونه المرتب أبلغ مما يسمونه المشوش"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الأسماء والصفات، في مسألة رحمة الله سبقت غضبه، بدلالة التقديم والتأخير.
وجه الاستنباط: ابتدأت الآية بلفظ البياض، وختمت بوصف لأهل هذا البياض تشريفا وإتماما للنعمة لأهل الإيمان، وهذا الأسلوب من أساليب البلاغة الفصيحة، ذلك أن الكلام الفصيح ينبغي أن يتفق مطلعه مع خاتمته بما يكون فيه سرور وانشراح، وفي هذه الآية وضحت البلاغة في أعلى مراتبها، فكان هذا الأسلوب بيان لرحمة الله التي سبقت غضبه، وبينت المكانة العظيمة لأهل الإيمان بالله وكتبه.
وقد أشار بعض أهل التفسير إلى هذا، ومنهم الرازي، حيث قال: "وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: أنه تعالى ذكر القسمين أولا فقال: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فقدم البياض على السواد في اللفظ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض. والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب.
وثانيها: أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب، قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن رب العزة سبحانه:«خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم» ، وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن، ثم ختم بذكرهم أيضا تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال:«سبقت رحمتي غضبي»
وثالثها: أن الفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئا يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم"
(2)
.
وقال أبو حيان: " وبدأ بالبياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى. وأسند الابيضاض والاسوداد إلى الوجوه وإن كان جميع الجسد أبيض أو أسود، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه، وهو أشرف أعضائه"
(3)
.
وقال ابن عاشور: " وقوله تعالى: فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم تفصيل للإجمال السابق، سلك فيه طريق النشر المعكوس، وفيه إيجاز لأن أصل الكلام، فأما الذين اسودت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخر: وأما الذين ابيضت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون، قدم عند وصف اليوم ذكر البياض، الذي هو شعار أهل النعيم، تشريفا لذلك اليوم بأنه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأن رحمة الله سبقت غضبه، ولأن في ذكر سمة أهل النعيم، عقب وعيد بالعذاب، حسرة عليهم، إذ يعلم السامع أن لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم، ثم قدم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلا بمساءتهم"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 46).
(2)
مفاتيح الغيب (8/ 319).
(3)
البحر المحيط (3/ 292).
(4)
التحرير والتنوير (4/ 44).
[الفرق بين الهداية العامة والخاصة]
قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} [سورة آل عمران: 138]
12.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وإيضاح النكتة في جعل البيان للناس كافة، والهدى والموعظة للمتقين خاصة هو بيان أن الإرشاد عام، وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة فهو أنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقيقة، ويتعظون بما ينطبق عليهم من الوقائع فيستقيمون على الطريقة، هم الذين تكمل لهم الفائدة والموعظة لأنهم يتجنبون ويتقون نتائج الإهمال التي يظهر لهم أن عاقبتها ضارة، فليزن مسلمو هذا الزمان إيمانهم وإسلامهم بهذه الآيات"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة الفرق بين الهداية العامة والخاصة (هداية الإرشاد وهداية التوفيق)، بدلالة الألفاظ.
وجه الاستنباط: دلت الآية على الفرق بين الهداية العامة وهي هداية الإرشاد والهداية الخاصة وهي هداية التوفيق، فكل بيان عام في الكتب السابقة وقع على سنة الله المطردة في إقامة الحجة على جميع الناس المؤمنين والكافرين، وأما الهداية الخاصة فإنها لا تتحقق إلا لمن سلك طريق المهتدين وانتفع بما حصل للمكذبين، وسار على نهج المتقين فاهتدى بهديهم إلى الطريق الصحيح.
وقد أشار إلى هذا بعض المفسرين منهم ابن عطية فقال: "وقال قتادة في تفسير الآية: هو هذا القرآن جعله الله بيانا للناس عامة وهدى وموعظة للمتقين خاصة، قال القاضي: كونه بيانا للناس ظاهر، وهو في ذاته أيضا هدى منصوب وموعظة، لكن من عمي بالكفر وضل وقسا قلبه لا يحسن أن يضاف إليه القرآن، وتحسن إضافته إلى (المتقين) الذين فيهم نفع وإياهم هدى"
(2)
.
قال الرازي: "ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة، لأن العطف يقتضي المغايرة فنقول فيه وجهان:
الوجه الأول: أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة، فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان، وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي، وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين، فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان: أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى، الثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 118).
(2)
المحرر الوجيز (1/ 512).
الوجه الثاني: أن البيان هو الدلالة، وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء، وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله: هدى للمتقين [البقرة: 2] في سورة البقرة.
المسألة الرابعة: في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان: أحدهما: أنهم هم المنتفعون به، فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة"
(1)
.
قال أبو زهرة: "هذا بيان للناس أجمعين، يدركه كل من له بصر يبصر به، وفهم يفهم به، وتحقق البيان لَا يقتضي تحقق أثره وهو المعرفة التي تهدي إلى الإيمان وتوجب الاتعاظ، إنما تكون الهداية من البيان والاتعاظ به للمتقين دون غيرهم، ولذلك جعل سبحانه البيان للناس جميعا، والهداية والموعظة للمتقين منهم فقط؛ إذ إن الهداية بالبيان تقتضي إشراقا روحيا، واستعدادا قلبيا، وإخلاصا في طلب الحقيقة، والموعظة وهي الاستفادة من العبر، تقتضي قلبا متفتحا لإدراك الحقائق والاتجاه إليها بقصد سليم، وذلك كله لَا يتوافر إلا للمتقين الذين أخلصوا أنفسهم لله، وطلبوا الحق، وسلكوا سبيله لَا يبغونه عوجا"
(2)
.
[الدعوة إلى بناء الكوادر الفعالة في شتى المجالات وعدم الاعتماد على الأفراد]
قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} [سورة آل عمران: 144]
13.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفي هذه الآية من الهداية والإرشاد أيضا أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب وعدمه متعلقا بوجود القائد بحيث إذا قتل ينهزم الجيش أو يستسلم للأعداء، وإن الأمة التي تقدر هذه الهداية حق قدرها تعد لكل علم تحتاج إليه ولكل عمل تقوم مصالحها به رجالا كثيرين، فلا تفقد معلما ولا مرشدا ولا حاكما ولا قائدا ولا رئيسا ولا زعيما إلا ويوجد فيها من يقوم مقامه ويؤدي لها من الخدمة ما كان يؤديه، فهي لا تحصر الاستعداد لشيء من الأشياء في فرد من الأفراد، ولا تقصر القيام بأمر من الأمور على نابغ واحد من النابغين"
(3)
.
(1)
مفاتيح الغيب (9/ 370).
(2)
زهرة التفاسير (3/ 1420).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 135).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب السياسة الشرعية، في مسألة الدعوة إلى بناء الكوادر الفعالة في شتى المجالات وعدم الاعتماد على الأفراد، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: أن هذه الآية بينت قاعدة مهمة للأمة وضرورة وأهمية بناء الكوادر الفعالة بالتعليم والتدريب في كل مجال، ولا تحصر القيادات في شخصيات معينة فإذا انهزمت في معركة أو ماتت تموت من بعدها الأمة، بل يكون هناك من يقوم بإكمال المعركة وإكمال المسير وإكمال النهضة.
قال أبوحيان: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل هذا استمرار في عتبهم آخر أن محمدا رسول كمن مضى من الرسل، بلغ عن الله كما بلغوا. وليس بقاء الرسل شرطا في بقاء شرائعهم، بل هم يموتون وتبقى شرائعهم يلتزمها أتباعهم. فكما مضت الرسل وانقضوا، فكذلك حكمهم هو في ذلك واحد"
(1)
.
قال الهرري: "في هذه الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب، أو عدم استمرارها، ذا صلة بوجود القائد إذا قتل أو أنهزم الجيش أو استسلم القائد، بل يجب أن تكون المصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء، ومن توابع هذا النظام أن تعد الأمة لكل أمر عدته، فتوجد لكل عمل رجالاً كثيرين حتى إذا فقد معلما أو مرشداً أو قائداً أو حكيماً أو رئيساً وجدت الكثير ممن يقوم مقامه ويؤدي لها من الخدمة ما كان يؤديه"
(2)
، ومثله الشيخ الدوسري
(3)
.
قال ابن سعدي: "وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه، فقدُ رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم"
(4)
.
[معنى زيادة الإيمان]
قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [سورة آل عمران: 173]
14.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وكان من قوة إيمانهم وزيادته أن أقدموا - وهم عدد قليل قد أثخنوا بالجراح - على محاربة الجيش الكبير، فالزيادة كانت في الإذعان النفسي، والشعور القلبي، وتبعها الزيادة في العمل، بعد ذلك القول الدال على ما انطوت عليه النفس من اليقين بوعد الله ووعيده، والشعور بعزته وسلطانه، ولولا ذلك لم يكن لهم حول ولا قوة على تلك الاستجابة والإقدام على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان، فمن يقول إن الإيمان النفسي لا يزيد ولا ينقص فقد نظر إلى الاصطلاحات اللفظية لا إلى نفسه في إدراكها وشعورها وقوتها في الإذعان وضعفها"
(5)
.
(1)
البحر المحيط في التفسير (3/ 362).
(2)
الهرري في حدائق الروح والريحان (5/ 163).
(3)
صفوة الآثار والمفاهيم (4/ 331).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 151).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 197).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة معنى زيادة الإيمان، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: دلت الآية على أن الزيادة في الإيمان لم تقتصر على الثبات في أرض المعركة بل كانت في صورة الإذعان النفسي والشعور القلبي بنصر الله، وتبعها الزيادة في العمل مهما حاول الأعداء صدهم عن ذلك، فالإيمان قول وعمل، وزيادته كذلك في القول والعمل، وهذا التفصيل لمعنى زيادة الإيمان وأنه لا يختص بالأعمال فقط بل يشمل أعمال القلوب، فيه رد على من يقول: إن الإيمان تصديق بالقلب فقط، ورد كذلك على من يقول إن الناس في التصديق سواء، وإعمالاً لقاعدة: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال ابن جرير: "يقول: فزادهم ذلك من تخويف من خوَّفهم أمرَ أبي سفيان وأصحابه من المشركين، يقينًا إلى يقينهم، وتصديقًا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه"
(1)
.
قال الرازي: "المراد بالزيادة في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا إليه، بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار، وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه ثقل ذلك أو خف، لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة، وكانوا محتاجين إلى المداواة، وحدث في قلوبهم وثوق بأن الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة"
(2)
.
قال البيضاوي: "وهو دليل على أن الإيمان يزيد وينقص"
(3)
، ومثله السيوطي في الإكليل
(4)
.
[الإيمان بالرسل متضمن للإيمان بالغيب]
15.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وعلى هذا يكون قوله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) متضمنا للإيمان بما أخبر به رسله من خبر الغيب وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم أي إن أنتم آمنتم بما جاءوا به من خبر الغيب "
(5)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (7/ 405).
(2)
مفاتيح الغيب (9/ 434).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 49).
(4)
الإكليل في استنباط التنزيل (2/ 943).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 209).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة الإيمان بالرسل متضمن للإيمان بالغيب، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: أن أمر الغيب لا يعلم به أحدٌ من البشر إلا من شاء الله اطلاعه عليه، ونحن مأمورون بالإيمان بهذا الغيب جملة وتفصيلا، ورسل الله هم السبيل لعلمنا عن الغيب، فهو من الدلائل على صدق نبوتهم، فلذا كان الإيمان بهم متضمنا للإيمان بالغيب.
قال الرازي: "فآمنوا بالله ورسله يعني لما دلت الدلائل على نبوته وهذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوته فقد أجبنا عنها، فلم يبق إلا أن تؤمنوا بالله ورسله، وإنما قال: ورسله ولم يقل: ورسوله لدقيقة، وهي أن الطريق الذي به يتوصل إلى الإقرار بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام ليس إلا المعجز وهو حاصل في حق محمد صلى الله عليه وسلم، فوجب الإقرار بنبوة كل واحد من الأنبياء"
(1)
.
قال القرطبي: "قوله: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} أي على من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم، (ولكن الله يجتبي) أي يختار (من رسله) لإطلاع غيبه (من يشاء) يقال: طلعت على كذا واطلعت [عليه]، وأطلعت عليه غيري، فهو لازم ومتعد"
(2)
.
قال البيضاوي: "وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان، ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات، أو ينصب له ما يدل عليها"
(3)
.
قال أبو السعود: " {فَآمِنُوا بالله ورسله} مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعارِ بأن ذلك مستلزِمٌ للإيمان بالكل لأنه مصدِّقٌ لما بين يديهِ من الرسل وهم شهداء بصحة نبوتِه عليه الصلاة والسلام والمأمورُ به الإيمانُ بكل ما جاءَ به عليه الصلاة والسلام فيدخُل فيه تصديقُه عليه السلام فيما أخبَر به من أحوال المنافقين دخولاً أولياً هذا هو الذي يقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ"
(4)
.
قال الشوكاني: "قوله: فآمنوا بالله ورسله أي: افعلوا الإيمان المطلوب منكم، ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه، وإن تؤمنوا بما ذكر وتتقوا فلكم عوضا عن ذلك أجر عظيم لا يعرف قدره، ولا يبلغ كنهه"
(5)
.
(1)
مفاتيح الغيب (9/ 442).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 289).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 51).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 119).
(5)
فتح القدير (1/ 463).
[علاقة الإيمان بالتقوى وأنها أثر له]
16.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وقرنتم بالإيمان تقوى الله - تعالى - بترك المنهيات، وفعل المأمورات بقدر الاستطاعة، فلكم أجر عظيم لا يقدر قدره لا يعرف كنهه، لز التقوى هاهنا مع الإيمان في قرن، وترتيب الأجر عليهما معا هو الموافق للآي الكثيرة في الذكر الحكيم، وهي أظهر، وأشهر، وأكثر من أن ينبه عليها بالشواهد كلما ذكر شيء منها"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة علاقة الإيمان بالتقوى وأنها أثر له، بدلالة الاقتران.
وجه الاستنباط: عطف التقوى على الإيمان بيان أنها أثر له، وأن هذا الأثر هو المطلوب لتحقق الأجر من الله، لأن الله رتب على اقترانهما الأجر والثواب العظيم، وبين الشيخ أن هذا الاقتران له شواهد كثيرة تدل على أهميته.
وقد تطرق بعض المفسرين إلى تفسير التقوى هاهنا وأغفلها آخرون، فممن ذكرها هنا الرازي فقال:"فمن أقر بنبوة واحد منهم لزمه الإقرار بنبوة الكل، ولما أمرهم بذلك قرن به الوعد بالثواب فقال: وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم وهو ظاهر"
(2)
.
قال البيضاوي: "وإن تؤمنوا حق الإيمان، وتتقوا النفاق، فلكم أجر عظيم لا يقادر قدره"
(3)
. ومثله النسفي، وأبو السعود
(4)
.
قال أبو حيان: " رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان، والمعنى: الإيمان السابق، وهو الإيمان بالله ورسله، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان، وكأنها مرادة في الجملة السابقة فكأنه قيل: فآمنوا بالله ورسله واتقوا الله"
(5)
.
قال ابن سعدي: "فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب، من أنواع الابتلاء والامتحان، فأرسل [الله] رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم"
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 209).
(2)
مفاتيح الغيب (9/ 442).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 51).
(4)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 315)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 120).
(5)
البحر المحيط (3/ 450).
(6)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 158).
[تعظيم القول على الله بغير علم]
17.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وقد ذهب وهم بعض الناس إلى أن الآية تدل على أن من اجتباهم الله من رسله يعلمون الغيب كله، واستثنى بعضهم علم الساعة لكثرة ما ورد من الآيات التي تنفي علمها عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وزعم بعضهم أن الله - تعالى - أطلعه على علم الساعة قبل وفاته، وكل ذلك من الجرأة على الله - تعالى - والقول عليه بغير علم "
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العلم، في مسألة تعظيم القول على الله بغير علم، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: أن الشيخ عد قول من زعم أن الله يخبر بخبر الساعة والغيب كله للرسل ولمن شاء، من الجرأة على الله والقول بغير علم، وأن في هذا خطر عظيم على الأمة وعلى القائل به، إذ إن القول على الله بغير علم ظلم وافتراء على الله، ولا يلجأ إليه إلا أصحاب الأهواء، فلذا يجب الحذر من خطورته.
ولم أجد من المفسرين من تطرق لهذا عند تفسير هذه الآية.
قال الشيخ عبد الرحمن الدوسري: "القول على الله بغير علم هو عديل للشرك، لأنه افتراء على الله، ولا أحد أظلم ممن أفترى على الله"
(2)
.
جاء في شرح العقيدة الطحاوية: "حرمة القول على الله بلا علم؛ سبق أن ذكرنا مسألة المحرمات، وقلنا: إنها رتبت على أربع مراتب، بدأ الله بأسهلها، ثم ثنى بما هو أعظم، ثم ثلث بما هو أعظم، ثم ربع بما هو أعظم، والثالث: هو الشرك، والرابع: هو القول على الله بلا علم، فيكون القول على الله بلا علم أعظم من الشرك، فما هو السبب في هذا؟
الجواب: أن القول على الله بغير علم يتضمن الشرك وزيادة، وقلنا: إن المؤلف أراد بهذا أن القول على الله في صفاته وفي أفعاله في خلقه وفي شرعه يتضمن الشرك وزيادة، فهو أعظم من الشرك، أما كونه يتضمن الشرك فلأن الذي يقول على الله بخلاف صفاته يكون معطلاً ما وصف به نفسه، ومن عطله فقد ألحقه بالناقصات، فيكون ممثلاً له من هذه الناحية، وهذا شرك لكونه شبه الله جل وعلا بالمخلوقات"
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 209).
(2)
الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة (ص: 43).
(3)
شرح العقيدة الواسطية، للغنيمان (4/ 11).
بل جاء هذا ذم لبعض الفرق: "ولقد جرأ أصحاب هذه الطريقة الصوفية على القول على الله بغير علم كما كذبوا وأكثروا على رسوله صلى الله عليه وسلم لتقوية مبادئهم الكثيرة وتأييدها وبالغوا في الكذب وزخرف القول"
(1)
.
[استيفاء شروط الجهاد]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [سورة آل عمران: 200]
18.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "المصابرة، والمرابطة، وهي الرباط بمعنى مباراة الأعداء، ومغالبتهم في الصبر، وفي ربط الخيل كما قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [سورة الأنفال: 60] على الأصل الذي قرره الإسلام من مقاتلتهم بمثل ما يقاتلوننا به، فيدخل في ذلك مباراتهم في هذا العصر بعمل البنادق، والمدافع، والسفن البحرية والبرية والهوائية، وغير ذلك من الفنون، والعدد العسكرية، ويتوقف ذلك كله على البراعة في العلوم الرياضية، والطبيعية، فهي واجبة على المسلمين في هذا العصر؛ لأن الواجب من الاستعداد العسكري لا يتم إلا بها"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الجهاد، في مسألة استيفاء شروط الجهاد، من دلالة الأمر.
وجه الاستنباط: الأمر بالمصابرة والمرابطة والاستعداد للقاء العدو واجب شرعي، ولكل عصر أدواته الخاصة به، فمثلا في العصر الحاضر تنوعت أسلحتهم بين البنادق والمدافع والصواريخ وغيرها من فنون العدد العسكرية، وتعلم هذه الأمور من واجبات الدين، بناء على القاعدة الأصولية: مالا يتم الواجب به فهو واجب.
وهذا مما تفرد به رحمه الله ولم أجد أحدا أشار إلى هذا المعنى، بل جل المفسرين كانت أقوالهم في بيان المعنى العام للمرابطة ولم يتطرقوا إلى أساليب القتال وأدواته، ومن ذلك ما قاله ابن جرير:"وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم ورابطوهم"
(3)
.
وقال ابن كثير: "وقيل: المراد بالمرابطة هاهنا مرابطة الغزو في نحور العدو، وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين، وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك، وذكر كثرة الثواب فيه، فروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)) "
(4)
(5)
، ومثله أبو حيان، والشوكاني
(6)
.
(1)
فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها (3/ 861).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 261).
(3)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (7/ 503).
(4)
رواه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، ح (2735).
(5)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 197).
(6)
البحر المحيط في التفسير (3/ 485)، فتح القدير (1/ 475).
وقال الزمخشري: "صبروا على الدين وتكاليفه وصابروا أعداء الله في الجهاد، أى غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا، والمصابرة: باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه، تخصيصا لشدته وصعوبته ورابطوا وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها، مترصدين مستعدين للغزو"
(1)
.
وقال ابن عطية: "والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا، واللفظة مأخوذة من الربط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية، والرباط اللغوي هو الأول، وهذا كقوله: ليس الشديد بالصرعة، كقوله: ليس المسكين بهذا الطواف إلى غير ذلك من الأمثلة، والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء: هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما"
(2)
ومثله القرطبي
(3)
.
(1)
الكشاف (1/ 460).
(2)
المحرر الوجيز (1/ 560).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 324).
استنباطات سورة النساء
[حكم تعدد الزوجات]
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} [سورة النساء: 3]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن الإفضاء بذلك إلى أكل أموال اليتامى قد جعل حجة على تقليل التزوج لظهور قبحه، وفي ذلك التعدد من المضرات الآن ما لم يكن مثله في عهد التنزيل"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب النكاح، في مسألة حكم التعدد، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: استدل على منع التعدد إلا للضرورة التي تحدد بشروط، من الحكمة من ترك التزوج باليتيمات لكونه مظنة الظلم وأكل حقوقهن بالباطل.
وللشيخ رأي في مسألة التعدد حيث قال: "التعدد خلاف الأصل وخلاف الكمال وينافي سكون النفس والمودة والرحمة التي هي أكان الحياة الزوجية، فلا ينبغي للمسلم أن يقدم على ذلك إلا للضرورة مع الثقة فيما اشترط الله فيه من العدل، ومرتبة العدل دون مرتبة سكون النفس والمودة والرحمة، وليس وراءه إلا ظلم المرء لنفسه وامرأته وولده وأمته، والله لا يحب الظالمين"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 283).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 303).
والشيخ محمد رشيد رضا في هذه المسألة أخذ برأي شيخه، كما استدل بصعوبة الأمر في الواقع المصري الذي غلب عليه التغريب، وكان المفترض أن يكون هذا استثناء خاضع لضوابط الفتوى وحاجة العصر والمصر.
والحق في المسألة أن الأصل في الزواج هو التعدد، لقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [سورة النساء: 3].
قال الشيخ ابن عثيمين: "أما من حيث تعدد الزوجات، فهل الأفضل التعدد، أو الأفضل الإفراد؟ في هذا للعلماء قولان مشهوران: القول الأول: أن الأفضل أن يقتصر على واحدة، وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد رحمه الله عند أصحابه المتأخرين، قالوا: يسن أن يتزوج نكاح واحدة، وعللوا ذلك: بأنه أبعد عن الجور، وأجمع للقلب، وأبعد عن التشويش، وقال آخرون: بل الأفضل أن يعدد؛ لأنه أكثر في تحصيل مصالح النكاح، والقول بالتعدد أقرب إلى الصواب من القول بالإفراد"
(1)
.
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير: "ويبقى أن الحكم العام مشروعية التعدد وهو الأصل؛ لأن الله قدمه على الواحدة، وهو استجابة لنبيه صلى الله عليه وسلم في كثرة النساء وكثرة الأولاد هذا مطلب شرعي"
(2)
.
[مدار الطاعة على البقاء في دائرة حدود الله]
قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [سورة النساء: 13 - 14]
2.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: " فمدار الطاعة على البقاء في دائرة هذه الحدود وهي الشريعة، ومدار العصيان على اعتدائها؛ ولذلك وصل هذه الجملة المبينة كون تلك الأحكام حدودا بذكر الجزاء على الطاعة والعصيان مطلقا"
(3)
.
(1)
اللقاء الشهري (76/ 12).
(2)
شرح عمدة الأحكام، عبد الكريم الخضير (40/ 5).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 350).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة مدار الطاعة على البقاء في دائرة حدود الله، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: الله رغب في إقامة شرعه بتطبيق أحكام شرعه في المواريث عامة وفي معاملة النساء خاصة، فتلك إشارة إلى ما سبق من أحكام في أحوال اليتامى والزوجات والوصايا والمواريث، وجعل الله هذه الشرائع حدودا، لأنها مؤقتة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتعدوها إلى غيرها، لأنها مظنة الظلم وعدم العدل ورتب عليها الثواب، فمن عمل بها فقد دخل في طاعة الله وبقي في دائرة حدود الله وإقامتها، ومن لم يطبقها فقد خرج من حدود ربه، وحق عليه وصف العصيان المطلق.
قال ابن عطية: "وهذه آيتا وعد ووعيد، وتقدم الإيجاز في ذلك، ورجّى الله تعالى على التزام هذه الحدود في قسمة الميراث، وتوعد على العصيان فيها بحسب إنكار العرب لهذه القسمة"
(1)
، ومثل ذلك قال الرازي، والبيضاوي
(2)
.
قال أبو حيان: "تلك حدود الله قيل: الإشارة بتلك إلى القسمة المتقدمة في المواريث، والأولى أن تكون إشارة إلى الأحكام السابقة في أحوال اليتامى والزوجات والوصايا والمواريث، وجعل هذه الشرائع حدودا، لأنها مؤقتة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتعدوها إلى غيرها، ولما أشار تعالى إلى حدوده التي حدها قسم الناس إلى عامل بها مطيع، وإلى غير عامل بها عاص. وبدأ بالمطيع لأن الغالب على من كان مؤمنا بالله تعالى الطاعة، إذ السورة مفتتحة بخطاب الناس عامة، ثم أردف بخطاب من يتصف بالإيمان إلى آخر المواريث، ولأن قسم الخير ينبغي أن يبتدأ به وأن يعتنى بتقديمه"
(3)
.
وقال ابن سعدي: "تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور عنها "
(4)
.
[الإصرار على صغار المعاصي يفضي إلى الكبائر]
قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [سورة النساء: 18]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن الإصرار على بعض أفراد الذنوب يغري صاحبه بأفراد أخرى من نوعها، أو جنسها، والشر داعية الشر، كما أن الخير داعية الخير"
(5)
.
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 21).
(2)
مفاتيح الغيب (9/ 525)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 64)
(3)
البحر المحيط في التفسير (3/ 550).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (170)
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 367).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الكبائر، في مسألة الإصرار على صغائر الذنوب يفضي إلى الكبائر، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: الإصرار على الذنوب يجر إلى ذنوب أخرى، وفي الآية تحذير من الاستمرار على صغائر الذنوب، وهي تتداعى فتقول السيئة أختي أختي، كما تقول الحسنة أختي أختي
(1)
، وفي هذا دعوة وحث على التوبة في وقتها، وتنبيه على التوبة التي لا تصح عند إقبال الموت.
قال أبو جعفر: "يعني بذلك جل ثناؤه: وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله"
(2)
.
قال البيضاوي: "إنما التوبة على الله أي إن قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته، للذين يعملون السوء بجهالة متلبسين بها سفها فإن ارتكاب الذنب سفه وتجاهل، ولذلك قيل من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته. ثم يتوبون من قريب من زمان قريب، أي قبل حضور الموت لقوله تعالى: حتى إذا حضر أحدهم الموت"
(3)
.
وقال أبو حيان: "وقيل: إنما التوبة على الله في الصغائر، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر، ولا الذين يموتون وهم كفار في الكفر"
(4)
.
قال القرطبي: "واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون)، وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه -خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب، ولا فرق بين معصية ومعصية- هذا مذهب أهل السنة"
(5)
.
قال السيوطي: "واستدل بعموم الآية على صحة التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، وبعد نقضها، وعلى صحة توبة المرتد"
(6)
.
قال ابن سعدي: "وأما بعد حضور الموت فلا يقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع، كما قال تعالى عن فرعون:{حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} الآية.
فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفات راسخة فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة، والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة"
(7)
.
(1)
من عبارات السلف، ابن باز رحمه الله، في موقعه http:// www.binbaz.org.sa/ node/ 19320.
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (8/ 98).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 65).
(4)
البحر المحيط في التفسير (3/ 567).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 90).
(6)
الإكليل في استنباط التنزيل (2/ 526).
(7)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 172).
[فساد القلوب واستمراء النفوس للمنكر المتفشي مع شناعته]
قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} [سورة النساء: 22]
4.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "قدم هذا النكاح على غيره، وجعله في آية خاصة، ولم يسرده مع سائر المحرمات في الآية الأخرى؛ لأنه على قبحه كان فاشيا في الجاهلية، ولذاك ذمه بمثل ما ذم به الزنا"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في كتاب النكاح، في مسألة فساد القلوب واستمراء النفوس للمنكر المتفشي مع شناعته، بدلالة التقديم.
وجه الاستنباط: لما كان هذا النوع من النكاح على قبحه وإنكار الفطر له، إلا أنه كان متفشيا في الجاهلية، فلذا قدم على سائر النساء المحرم نكاحهن، وجاء ذمه ووصفه بهذه الأوصاف للتنفير منه، فإن النفوس قد تألف معصية شديدة الحرمة، ثم تتمسك بها، ويغيب عنها قبحها.
قال أبو السعود: "شروعٌ في بيان من يحْرُم نكاحُها من النساء ومَنْ لا يحرُم وإنما خُصَّ هذا النكاحُ بالنهي ولم يُنْظَمْ في سلك نكاحِ المحرِّماتِ الآتيةِ مبالغةً في الزجر عنه حيث كانوا مُصِرِّين على تعاطيه"
(2)
.
قال ابن عطية: "هذه الآية مخاطبة للمؤمنين من العرب في مدة نزول الآية، ومعنى الآية والتحريم الذي بعدها مستقر على المؤمنين أجمع، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية: كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام، (وكانَ) في هذه الآية تقتضي الماضي والمستقبل"
(3)
، ومثله قال أبو حيان، والقرطبي، والشوكاني
(4)
.
قال الشوكاني: "ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال: إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا هذه الصفات الثلاث تدل: على أنه من أشد المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت"
(5)
.
[المهر من قبيل العدل والمساواة بين الرجل والمرأة]
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(4/ 379).
(2)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 159).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 30 - 31).
(4)
البحر المحيط في التفسير (3/ 576)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 103)، فتح القدير (1/ 508).
(5)
فتح القدير (1/ 508).
5.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن تسمية المهر هنا أجرا، أي ثوابا وجزاء لا ينافي ملاحظة ما في الزوجية من معنى سكون كل من الزوجين إلى الآخر وارتباطه معه برابطة المودة والرحمة، ولكنه لما جعل للرجل على المرأة مع هذه المساواة في الحقوق درجة هي درجة القيامة، ورياسة المنزل الذي يعمرانه، والعشيرة التي يكونانها بالاشتراك، وجعله بذلك هو فاعل الاستمتاع، أي الانتفاع، وهي القابلة له والمواتية فيه، فرض لها سبحانه في مقابلة هذا الامتياز الذي جعله للرجل جزاء وأجرا تطيب به نفسها، ويتم به العدل بينها وبين زوجها، فالمهر ليس ثمنا للبضع، ولا جزاء للزوجية نفسها، وإنما سره وحكمته ما ذكرناه، وهو واضح من معنى الآية مطابق للفظها جامع بينها وبين سائر الآيات، وقد فتح الله علي به الآن، ولم يكن خطر على بالي من قبل على وضوحه في نفسه"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب المقاصد، في مسألة المهر من قبيل العدل والمساواة بين الرجل والمرأة، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: بين الشيخ أن المهر ليس من باب العوض، ولا ثمنا للبضع، ولا جزاء للزوجية نفسها، وإنما هو من قبيل العدل والمساواة بين الرجل والمرأة، ولا ينافي معنى السكن والمودة والرحمة بين الزوجين، وإنما هو درجة مقابلة لدرجة القوامة والرياسة للرجل، فكان هذا تطييبا لنفس الزوجة وعدلا بينها وبين الرجل الذي هو فاعل الاستمتاع بالمرأة، وهذا المعنى مفهوم من معنى الآية وغيرها من الآيات في هذا.
وهذا المعنى يعطي معنى رائعا للعلاقة الزوجية وأنها ليست قائمة على مجرد العوض، وإنما هي مرتبطة بحقوق متبادلة تعطي كلا من الرجل والمرأة مكانته عند الآخر، وهذا لا ينافي كون المهر عوض وثمن للبضع، فقد أكدت الشريعة هذا المعنى.
وهذا المعنى لم يتطرق إليه المفسرون، ولم يسبق الشيخ رشيد إليه.
قال ابن جرير: "اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فما استمتعتم به منهن}، فقال بعضهم: معناه: فما نكحتم منهن فجامعتموهن، يعني من النساء {فآتوهن أجورهن فريضة} يعني: صدقاتهن فريضة معلومة، وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما تمتعتم به منهن بأجر تمتع اللذة، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بولي وشهود ومهر"
(2)
، وكذا نقل ابن عطية اختلاف المفسرين
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 10).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (6/ 586 - 585).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 36).
قال الزمخشري: " (فآتوهن) وأجورهن مهورهن لأن المهر ثواب على البضع فريضة حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد، أي فرض ذلك فريضة فيما تراضيتم به من بعد الفريضة فيما تحط عنه من المهر، أو تهب له من كله أو يزيد لها على مقداره"
(1)
.
وقال الرازي: "والمعنى أن إيتاءهن أجورهن ومهورهن فريضة لازمة وواجبة"
(2)
.
وخالف القرطبي فقال: "في قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة)، الاستمتاع التلذذ، والأجور المهور، وسمي المهر أجرا لأنه أجر الاستمتاع، وهذا نص على أن المهر يسمى أجرا، وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع، لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا"
(3)
، وكذا عند أبو حيان، والشوكاني، وابن سعدي
(4)
.
قال ابن عاشور: "الآية على هذا قررت دفع المهور وجعلته شرعا، فصار المهر ركنا من أركان النكاح في الإسلام، وقد تقرر في عدة آيات كقوله: فآتوهن أجورهن فريضة وغير ذلك، والمهر علامة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة، لكنهم في الجاهلية كان الزوج يعطي مالا لولي المرأة ويسمونه حلوانا -بضم الحاء- ولا تأخذ المرأة شيئا، فأبطل الله ذلك في الإسلام بأن جعل المال للمرأة بقوله: وآتوا النساء صدقاتهن"
(5)
.
قال أبو زهرة: "أصل فرضية المهر بما يفيد أنه عطاء، فقد قال تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) والجواب عن ذلك أن الآيات التي بينت أصل الوجوب تبين القصد من الشرعية، وهو كونه هدية واجبة لبيان شرف العلاقة بين الرجل والمرأة، وللمعاني التي شرع من أجلها المهر"
(6)
.
[الأمم المغلوبة أقرب إلى الجبت والطاغوت من الأمم الغالبة]
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 498).
(2)
مفاتيح الغيب (10/ 44).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 129).
(4)
البحر المحيط في التفسير (3/ 589)، فتح القدير (1/ 518)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 174).
(5)
التحرير والتنوير (4/ 230).
(6)
زهرة التفاسير (3/ 1641)
6.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وهذه الآية تدل على أن سبب لعن الله للأمم هو إيمانها بالخرافات والأباطيل والطغيان، وأنه تعالى إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلك، وتدل بطريق اللزوم على أن الأمم المغلوبة تكون أقرب إلى الجبت والطاغوت من الأمم الغالبة المنصورة، فليحاسب المسلمون أنفسهم بها وبما في معناها من الآيات"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة الأمم المغلوبة أقرب إلى الجبت والطاغوت من الأمم الغالبة، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: إيمان الأمم بالخرافات والأباطيل والتصديق بالجبت والطاغوت، كان سبب سخط الله وغضبه واستحقاق اللعن الشديد والبعد عن رحمته، والأمم المغلوبة تكون أقرب إلى الجبت والطاغوت من الأمم الغالبة، والغلبة والنصر من الله جارٍ وفق سنن الله الكونية، ولا يكون إلا بتحقيق الإيمان بالله واجتناب كل صور الشرك من اتباع الطواغيت وغيرهم.
قال أبو جعفر: "يعني جل ثناؤه بقوله: (أولئك)، هؤلاء الذين وصف صفتهم أنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب وهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، هم (الذين لعنهم الله)، يقول: أخزاهم الله فأبعدهم من رحمته، بإيمانهم بالجبت والطاغوت، وكفرهم بالله ورسوله عنادًا منهم لله ولرسوله، وبقولهم للذين كفروا: (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا)، (ومن يلعن الله)، يقول: ومن يخزه الله فيبعده من رحمته (فلن تجد له نصيرًا)، يقول: فلن تجد له يا محمد، ناصراً ينصره من عقوبة الله ولعنته التي تحلّ به، فيدفع ذلك عنه"
(2)
.
قال ابن كثير: "وهذا لعن لهم، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاؤوا معهم يوم الأحزاب، حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق، فكفى الله شرهم (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) "
(3)
.
قال ابن عطية: " (ولَعَنَهُمُ) معناه: أبعدهم من خيره ومقتهم، ومن يفعل الله ذلك به ويخذله فلا ناصر له من المخلوقين، وإن نصرته طائفة، فنصرتها كلا نصرة، إذ لا تغني عنه شيئا"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 129).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن ت شاكر (8/ 471).
(3)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 334).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 67).
قال الرازي: "واعلم أن القوم إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم يجري مجرى المكابرة، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله! ومن كان دينه الإقبال بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال والله، فبين أن اللعن من الله وهو الخذلان والإبعاد، وهو ضد ما للمؤمنين من القربة والزلفى، وأخبر بعده بأن من يلعنه الله فلا ناصر له، كما قال: (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) [الأحزاب: 61] فهذا اللعن حاضر، وما في الآخرة أعظم، وهو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، وفيه وعد للرسول صلى الله عليه وسلم بالنصرة وللمؤمنين بالتقوية، بالضد على الضد"
(1)
.
قال أبو حيان: "أولئك الذين لعنهم الله إشارة إلى من آمن بالجبت والطاغوت وقال تلك المقالة، أبعدهم الله تعالى ومقتهم"
(2)
.
قال أبو السعود: " {أولئك} إشارة إلى القائلين وما فيه من معنى البعد مع قربهم في الذكر للإشعار ببُعد منزلِتهم في الضلال وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى: {الذين لَعَنَهُمُ الله} أيْ أبعدهم عن رحمته وطردهم والجملةُ مستأنفةٌ لبيان حالِهم وإظهارِ مصيرِهم ومآلِهم {وَمَن يَلْعَنِ الله} أي يُبعده عن رحمته {فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يدفع عنه العذابَ دنيويا كان أو أخرويا لابشفاعة ولا بغيرها وفيه تنصيصٌ على حِرمانهم مما طلبوا من قريش وفي كلمة لن وتوجيهِ الخطابِ إلى كل أحد ممن يتسنى له الخطاب وتوحيد النصر مُنكّراً والتعبيرِ عن عدمه بعدم الوجدان المنبئ عن سبق الطلبِ مُسنداً إلى المخاطبَ العامِّ من الدِلالة على حِرمانهم الأبديِّ بالكلية ما لا يخفى"
(3)
. ومثله قال ابن سعدي
(4)
.
قال ابن عاشور: "وموقع اسم الإشارة هنا في نهاية الرشاقة، لأن من بلغ من وصف حاله هذا المبلغ صار كالمشاهد، فناسب بعد قوله ألم تر أن يشار إلى هذا الفريق المدعى أنه مرئي، فيقال: (أولئك)، وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيذكر من الحكم لأجل ما تقدم من أحوالهم"
(5)
.
(1)
مفاتيح الغيب (10/ 102).
(2)
البحر المحيط في التفسير (3/ 677).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 189).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 183).
(5)
التحرير والتنوير (5/ 87).
قال أبو زهرة: " (وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) استدراك مما كان ينبغي لهم، أي أنهم لم يفعلوا ما ينبغي؛ لأن الله تعالى لعنهم بأن طردهم من رحمته، فبعدوا عن الهداية بسبب إصرارهم على الكفر"
(1)
.
[علم حفظ الصحة من أداء الأمانة]
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [سورة النساء: 58]
7.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ومن ذلك الذي أجمله توقي الإنسان لأسباب الأمراض والأوبئة بحسب معرفته، وما يستفيده من الأطباء، وذلك يدل على أن رعاية هذا النوع من الأمانة يتوقف على تعلم ما يحتاج إليه من علم حفظ الصحة ولا سيما في أيام الأمراض الوبائية المنتشرة"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا علميا، في باب العلم، في مسألة علم حفظ الصحة من أداء الأمانة، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: الإنسان بكل جوارحه أمانة، ومن ثم يجب عليه الحفاظ عليها برعايتها وتعليمها ما ينفعها وتحصينها من أمراض البدن أو أمراض الروح لأنها من جملة الأمانة المؤتمن عليها، والمسؤول عنها يوم القيامة.
ولم يُسبق الشيخ إلى هذا المعنى، بل كانت عبارات المفسرين على عموم لفظ الأمانات، كما قال الرازي:"القسم الثالث: وهو أمانة الإنسان مع نفسه فهو ألا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا، وألا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، فقوله: يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها يدخل فيه الكل"
(3)
.
قال النسفي: "وقيل قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى"
(4)
.
(1)
زهرة التفاسير (4/ 1703).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 143).
(3)
مفاتيح الغيب (10/ 109).
(4)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 367).
[مسألة الفرق بين النبي والرسول]
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [سورة النساء: 64]
8.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "قوله تعالى: (مِنْ رَسُولٍ) أبلغ في استغراق النفي من أن يقال: "وما أرسلنا رسولا"، فكل رسول تجب طاعته، وإيجاب طاعة الرسول تشعر بأن الرسول أخص من النبي؛ فالرسول لا بد أن يكون مقيما لشريعة"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان بالرسل، في مسألة الفرق بين النبي والرسول، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: الرسول لا بد أن يقيم شريعة جديدة، وذلك من الجار والمجرور الذي أفاد الاستغراق، وأنه أخص من النبي، وهذا مما ذكره العلماء عند تفريقهم بين النبي والرسول، والأمر ليس كذلك، فإن من أدق ما وجدت من كلام العلماء في التفريق بين النبي والرسول قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال محقق كتاب النبوات: " وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فروقاً كثيرة بين النبيّ والرسول، وهذه الفروق مبنيّة على الكتاب والسنة؛ فخرج تفريقه بين النبيّ والرسول من أرجح التفريقات، ومن أسلمها من الانتقادات.
ويمكن تلخيص هذه الفروق فيما يلي:
(1)
النبيّ: هو من يُنبئ بما أنبأه الله به، ولا يُسمّى رسولاً عند الإطلاق؛ لأنه لم يُرسل إلى قوم بما لا يعرفونه، بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حقّ؛ كالعالم، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن العلماء:"العلماء ورثة الأنبياء"؛ إذ النبيّ يعمل بشريعة من قبله.
(2)
الرسول: هو من أنبأه الله وأرسله إلى من خالف أمره، ليبلغه رسالةً من الله إليه؛ فهو رسول، فالرسل: من أُرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، ولا بُدّ أن يُكذّب الرسلَ قومٌ؛ قال تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ، وقال تعالى:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} ؛ فإنّ الرسل ترسل إلى مخالفين، فيكذبهم بعضهم، والرسول يُسمّى رسولاً على الإطلاق؛ لأنّه يُرسل إلى قوم بما لا يعرفونه، وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة؛ فإنّ يوسف عليه السلام كان رسولاً، وكان على ملة إبراهيم عليه السلام، وداود وسليمان عليهما السلام كانا رسولين، وكانا على شريعة التوراة"
(2)
.
وقال الرازي: "الآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة ومتبوعا فيها، إذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع من كان قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعا، بل كان المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة، والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع"
(3)
، ونقل ذلك أبو حيان
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 189).
(2)
النبوات لابن تيمية، ت: عبد العزيز بن صالح الطويان (2/ 718).
(3)
مفاتيح الغيب (10/ 125).
(4)
البحر المحيط في التفسير (3/ 693).
[حكم أقوال وأفعال الأنبياء في غير الدعوة والتشريع]
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [سورة النساء: 64]
9.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "الآية تدل على وجوب طاعتهم فيما يأمرون أو يحكمون به، فالممتنع أن يحكموا أو يأمروا بخلاف ما أنزله الله تعالى عليهم، وأما أفعالهم التي لم يأمروا بها ولم يحكموا بها فلا تدل الآية على وجوب اتباعهم فيها، وإن كانت من أكبر الطاعات في نفسها"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب النبوات، في مسألة حكم أقوال وأفعال الأنبياء في غير الدعوة والتشريع، بدلالة المخالفة.
وجه الاستنباط: فرق الشيخ بين متى تجب طاعة الرسل ومتى لا تجب، فبين أن الآية توجب طاعتهم في الأوامر والنواهي وما يحكمون به، لأنه لا يتصور أنهم يحكمون بخلاف ما أمر الله، وبين أنه لا تجب طاعتهم في أفعالهم التي لم يأمروا بها.
ويتبين ذلك من تقسيم العلماء لأفعال وأقوال الأنبياء إلى أقوال وأفعال تشريعية وجبلية وعادية، وماكانت من خصائصهم دون غيرهم.
وقد وجه الباحث في استنباطات السعدي، كلام الشيخ رشيد، فقال:"وما ذهب إليه محمد رشيد هو الذي تدل عليه الآية، فإن الأمر بطاعتهم مطلقا لا يلزم منه عصمتهم في كل شيء، بل ربما يقع منهم ما هو خلاف ذلك ثم يأتي التنبيه عليه، بل ربما يقع العتاب عليهم من الله سبحانه وتعالى، والله أعلم"
(2)
.
وما ذكره المفسرون أن الآية أوجبت طاعتهم مطلقا، ومن ذلك ما قاله البغوي:" {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} أي: بأمر الله لأن طاعة الرسول وجبت بأمر الله، قال الزجاج: ليطاع بإذن الله لأن الله قد أذن فيه وأمر به، وقيل: إلا ليطاع كلام تام كاف، بإذن الله تعالى أي: بعلم الله وقضائه، أي: وقوع طاعته يكون بإذن الله"
(3)
.
وقال الرازي: "الآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن المعاصي والذنوب لأنها دلت على وجوب طاعتهم مطلقا، فلو أتوا بمعصية لوجب علينا الاقتداء بهم في تلك المعصية فتصير تلك المعصية واجبة علينا، وكونها معصية يوجب كونها محرمة علينا، فيلزم توارد الإيجاب والتحريم على الشيء الواحد وأنه محال"
(4)
، وكذا الهرري
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 189)
(2)
انظر: استنباطات السعدي (383).
(3)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 244).
(4)
مفاتيح الغيب (10/ 126).
(5)
تفسير حدائق الروح والريحان (6/ 178).
وقال ابن سعدي: "وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا"
(1)
.
[حقيقة الاستغفار ولوازمه]
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [سورة النساء: 64]
10.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "يعني أن ما اعتاده الناس من تحريك اللسان بلفظ: "أستغفر الله" لا يعد طلبا للمغفرة؛ لأن الطلب الحقيقي ينشأ عن الشعور بالحاجة إلى المطلوب، فلا بد أن يشعر القلب أولا بألم المعصية وسوء مغبتها، وبالحاجة إلى التزكي من دنسها، ولا يكون هذا إلا بما ذكر الأستاذ من التوجه القلبي إلى الله بالصدق والإخلاص والعزم القوي على اجتناب سبب هذا الدنس، وهو المعصية"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السلوك، في مسألة حقيقة الاستغفار ولوازمه، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: أن طلب الاستغفار ليس قولاً باللسان فقط وإنما لا بد أن يستشعر القلب عظم الذنب والحاجة إلى عفو الله ومغفرته، وعليه فلا بد من تطابق الحال والمقال، وهذا إرشاد منه إلى الكيفية الصحيحة للاستغفار ليحقق ثمراته من رضا الله وتوفيقه.
وقد أشار بعض المفسرين إلى المعنى العام للاستغفار، ولم يتطرقوا إلى ما أشار إليه الشيخ، فقال الزمخشري:"ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤك تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا فاستغفروا الله من ذلك بالإخلاص، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد قضائك، حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله ومستغفرا لوجدوا الله توابا لعلموه توابا، أى لتاب عليهم"
(3)
، ومثله قال البيضاوي، وأبو السعود
(4)
.
قال ابن سعدي: "ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} أي: معترفين بذنوبهم باخعين بها. {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها"
(5)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 184).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 191).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 528).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 81)، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 197).
(5)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 184).
[التقليد المحمود والتقليد المذموم]
قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [سورة النساء: 65]
11.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وتدل الآية بالأولى على بطلان التقليد، فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يتقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ولرسوله كما أمر الله عز وجل، وإذا قلنا: إن للعامي أن يتبع العلماء فليس المعنى أن يتخذهم شارعين، ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة، وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا في آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الاستدلال، في مسألة التقليد المحمود والتقليد المذموم، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: فرق الشيخ بين اتباع العلماء في الأحكام الشرعية، وبين التقليد بالتعصب للمذاهب، وأن تقديمها على حكم الله ورسوله هو سبب البعد عن طاعة الله وطاعة رسوله، لأن من مقتضى الإيمان التسليم لأمر الله وأمر رسوله، وعدم تقديم أي قول أو حكم على قولهما، سواء كان ذلك في العبادات أو في الأحكام، وأن التسليم لأمر الله ورسوله، بتلقي ذلك عن العلماء والاستعانة بهم في فهمها.
وهذا استنباط جيد للشيخ لم أجده في كلام المفسرين، الذين تحدثوا عن ربط الإيمان بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وأهمية ذلك، دون العدول إلى كلام غيره أيا كان، وهذا يتضمن ذم التقليد.
[فضل وشرف القتال في سبيل الله]
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [سورة النساء: 76]
12.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفي هذه الآية من العبرة أن القتال الديني أشرف من القتال المدني لأن القتال الديني في حكم الإسلام يقصد به الحق والعدل وحرية الدين، وهي المراد بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة: 193]، أي حتى لا يفتن أحد عن دينه ويكره على تركه، {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [سورة البقرة: 256]، وقال في وصف من أذن لهم بالقتال بعد ما بين إلجاء الضرورة إليه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة الحج: 41]، وتقدم شرح ذلك مرارا، وأما القتال المدني فإنما يقصد به الملك والعظمة، وتحكم الغالب القوي في المغلوب الضعيف، وإنما يذم أهل المدنية الحرب الدينية؛ لأنهم أولو قوة وأولو بأس شديد في الحروب المدنية، ولهم طمع في بلاد ليس لها مثل تلك القوة، وإنما لها بقية من قوة العقيدة، فهم يريدون القضاء على هذه البقية ويتهمونها باطلا بهذه التهمة"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 193).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 212).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب السياسة الشرعية، في مسألة فضل وشرف القتال في سبيل الله، بدلالة التلازم.
وجه الاستنباط: القتال الديني كما عبر الشيخ، دلت الآية على شرفه، لأنه قتال في سبيل الله، يهدف إلى إقامة التوحيد والحق والعدل، ولتحقيق الأمن الذي من خلاله تقام الشعائر والعبادات على الصورة التي يرتضيها الله، أما القتال المدني، كما ظهر في هذا العصر، فهو في سبيل الطاغوت وخاصة الطواغيت في هذا العصر، الذين يريدون فرض سيادتهم على الناس بالقهر والطغيان، ولا يهمهم إقامة شعائر الدين فهؤلاء لا يعد قتالهم في سبيل الله وإن كانوا مسلمين في ظاهرهم.
قال أبو جعفر: "يعني تعالى ذكره: الذين صدقوا الله ورسوله، وأيقنوا بموعود الله لأهل الإيمان به (يقاتلون في سبيل الله)، يقول: في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده، (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت)، يقول: والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم (يقاتلون في سبيل الطاغوت)، يعني: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله"
(1)
.
قال الرازي: "واعلم أنه تعالى لما بين وجوب الجهاد بين أنه لا عبرة بصورة الجهاد، بل العبرة بالقصد والداعي، فالمؤمنون يقاتلون لغرض نصرة دين الله وإعلاء كلمته، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت، وهذه الآية كالدلالة على أن كل من كان غرضه في فعله رضا غير الله فهو في سبيل الطاغوت، لأنه تعالى لما ذكر هذه القسمة وهي أن القتال إما أن يكون في سبيل الله، أو في سبيل الطاغوت، وجب أن يكون ما سوى الله طاغوتا، ثم إنه تعالى أمر المقاتلين في سبيل الله بأن يقاتلوا أولياء الشيطان، وبين أن كيد الشيطان كان ضعيفا، لأن الله ينصر أولياءه، والشيطان ينصر أولياءه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه، ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا حال حياتهم في غاية الفقر والذلة، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم"
(2)
.
وقال أبو زهرة: "إذا كان الكافرون يقاتلون في سبيل الطغيان، والظلم والسيطرة والفتنة في الدين، وإكراه الناس، حتى لَا يستمروا على إيمانهم، فإن على المؤمنين أن يقاتلوهم؛ لأنهم نصراء الشيطان، أو الذين دخلوا في ولايته"
(3)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (8/ 546).
(2)
مفاتيح الغيب (10/ 142).
(3)
زهرة التفاسير (4/ 1767).
[العلم لا يتحقق إلا بالفقة في الأقوال دون الاغترار بالظواهر]
13.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفيه أنه يجب على العاقل الرشيد أن يطلب فقه القول دون الظواهر الحرفية، فمن اعتاد الأخذ بما يطفو من الظواهر دون ما رسب في أعماق الكلام وما تغلغل في أنحائه وأحنائه يبقى جاهلا غبيا طول عمره"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب مقاصد الشريعة، في مسألة العلم لا يتحقق إلا بالفقة في الأقوال دون الاغترار بالظواهر، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: فضيلة العلم مرتبطة بتحقق مقصد هذا العلم، ولا يتأتى هذا إلا بمعرفة مقصد النص أو الدليل، دون الاغترار بظواهر المعلومات، وأن يؤخذ هذا العلم من أصوله المعتبرة، وفق قواعده المعتبرة كذلك، وهذا هو معنى الفقه في الدين مما يعمق العقيدة الصحيحة، ويرفع الجهل، ويبقي الإنسان عالما لا جاهلا، أما من قنع بالظواهر بقي في عِماية وظل طول دهره غرا جاهلا بما يحيط به من نظم هذا العالم فهو الجاهل الحقيقي.
قال ابن كثير: "قال تعالى منكرا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب وقلة فهم وعلم، وكثرة جهل وظلم: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} "
(2)
.
قال ابن عطية: "وبخهم بالاستفهام عن علة جهلهم، وقلة فهمهم وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق"
(3)
.
وقال البيضاوي: "فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا يوعظون به، وهو القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أن الكل من عند الله سبحانه وتعالى، أو حديثا ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثا من صروف الزمان فيفتكرون فيه فيعلمون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 217).
(2)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 362).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 81).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 85).
وقال أبو حيان: "هذا استفهام معناه التعجب من هذه المقالة، وكيف ينسب ما هو من عند الله لغير الله؟ أي أن هؤلاء كانوا ينبغي لهم أن يكونوا ممن يتفهم الأشياء، ويتوقفون عما يريدون أن يقولوا حتى يعرضوه على عقولهم، وبالغ تعالى في قلة فهمهم وتعقلهم، حتى نفى مقاربة الفقه، ونفي المقاربة أبلغ من نفي الفعل، وهذا النوع من الاستفهام يتضمن إنكار ما استفهم عن علته، وأنه ينبغي أن يوجد مقابله"
(1)
.
قال ابن سعدي: "وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم. وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله، والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك، من الإقبال على كلامهما وتدبره، وسلوك الطرق الموصلة إليه، فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره، لا يخرج منها شيء عن ذلك"
(2)
.
[الشريعة أصل العلوم وأساسها]
قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [سورة النساء: 79]
14.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "فهذه الآية أصل من أصول علم الاجتماع وعلم النفس فيها شفاء للناس من أوهام الوثنية، وتثبيت في مقام الإنسانية"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب كمال الشريعة، في مسألة الشريعة أصل العلوم وأساسها، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: الآية أصل من الأصول التي قام عليها علم الاجتماع وعلم النفس، وهي تربي الإنسان على معرفة نعم الله عز وجل عليه، وأن كل ما يصيبه من الحسنات هي فضل ونعمة من الله فيشكرها، وأن ما أصابه من المصائب فيعود إلى أسباب نفسية أو اجتماعية أو سلوكية، تحتاج إلى معالجة بالرجوع إلى الله ومعالجة هذه الأسباب وإيجاد حلوله لها، وأخذ علماء الاجتماع من هذا قاعدة محاسبة النفس عند أي مصيبة تصيب الإنسان، وفي هذا حفظ للإنسان من الانحراف إلى أوهام الوثنية والإلحاد.
وهذا مما تفرد به الشيخ ولم يسبق إليه كون هذه العلوم من العلوم التي نشأت واستقلت مؤخرا، وهذا يدل على مدى عناية الشيخ بهذه العلوم وأثرها على النفس والمجتمع.
(1)
البحر المحيط في التفسير (3/ 718).
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 188).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 220).
قال أبو جعفر: "يعني جل ثناؤه بقوله: "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، ما يصيبك، يا محمد، من رخاء ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل الله عليك، يتفضل به عليك إحسانًا منه إليك، وأما قوله: "وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، يعني: وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه "فمن نفسك"، يعني: بذنب استوجبتها به، اكتسبته نفسك"
(1)
.
قال ابن عطية: "والآية مضمنة الإخبار أن الحسنة من الله وبفضله، وتقدير ما بعده وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، على جهة الإنكار والتقرير"
(2)
.
قال البيضاوي: "ما أصابك يا إنسان من حسنة من نعمة فمن الله أي تفضلا منه، فإن كل ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود، فكيف يقتضي غيره، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:((ما من أحد يدخله عمله الجنة فقيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني ربي برحمة))
(3)
وما أصابك من سيئة من بلية فمن نفسك لأنها السبب فيها لاستجلابها بالمعاصي، وهو لا ينافي قوله سبحانه وتعالى: قل كل من عند الله فإن الكل منه إيجادا وإيصالا غير أن الحسنة إحسان وامتنان والسيئة مجازاة وانتقام"
(4)
، وبنحوه قال النسفي، والقاسمي
(5)
.
[طاعة الله غاية طاعة الرسل]
قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [سورة النساء: 80]
15.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "الآية تدل على أن الله - تعالى - هو الذي يطاع لذاته؛ لأنه رب الناس وإلههم وملكهم، وهم عبيده المغمورون بنعمه، وأن رسله إنما تجب طاعتهم فيما يبلغونه عنه من حيث إنهم رسله لا لذاتهم، ومثال ذلك الحاكم تجب طاعته في تنفيذ شريعة المملكة وقوانينها، وهو ما يعبرون عنه بالأوامر الرسمية، ولا تجب فيما عدا ذلك"
(6)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (8/ 558).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 82).
(3)
رواه مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى ح (2816).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 86).
(5)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 376)، محاسن التأويل (3/ 230).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 225).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب المقاصد، مسألة طاعة الله غاية طاعة الرسل، بدلالة التلازم.
وجه الاستنباط: من أطاع الرسول فهو مطيع لله عز وجل، فإن الغاية من طاعة الرسل المبلغين لدين الله هي طاعة الله، وإن طاعتهم لكونهم رسل لا لذاتهم، وهذا تأكيد لعدم الغلو في رسل الله وإنزالهم منزلتهم، وأما الحاكم الذي يحكم بما أنزل الله فتجب طاعته، لأن طاعته من طاعة الله، والحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله لا تجب طاعته، لأنها منافية لطاعة الله عز وجل.
وقد تكلم المفسرون في أصل المسألة، أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، وأنهم لا يأمرون إلا بأمر الله، ولم أجد من تطرق إلى ما أكده الشيخ في مسألة دلالة الآية على عدم الغلو في الأنبياء والرسل.
ولأبي السعود كلام مقارب لكلام الشيخ رشيد، حيث قال:" {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} بيانٌ لأحكام رسالته صلى الله عليه وسلم إثرَ بيانِ تحقّقِها وثبوتِها وإنما كان كذلك لأن الآمرَ والناهيَ في الحقيقةِ هُو الله تعالى وإنما هو صلى الله عليه وسلم مبلِّغٌ لأمره ونهيِه فمرجِعُ الطاعة وعدمها هو الله سبحانه، والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بالرسول دون الخطابِ للإيذان بأن مناطَ كونِ طاعتِه صلى الله عليه وسلم طاعةً له تعالى ليس خصوصية ذاته صلى الله عليه وسلم بل من حيثية رسالتِه وإظهار الجلالة لتربية المهابة وتأكيد وجوب الطاعةِ بذكر عنوانِ الألوهيةِ وحملُ الرسولِ على الجنس المنتظم له صلى الله عليه وسلم انتظاماً أولياً يأباه تخصيصُ الخطاب"
(1)
.
وقد جاء في شرح العقيدة الطحاوية: "دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، مالم يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]، كيف قال: وأطيعوا الرسول، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم؟ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، بل هو معصوم في ذلك، وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله"
(2)
.
قال صاحب كتاب محبة الرسول بين الاتباع والابتداع: "أمرنا الله بأن نتبع رسوله صلى الله عليه وسلم ونمتثل أمره ونهيه في كل ما جاءنا به، فقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ونقل قول ابن كثير: أي: (مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهي عن شر)
(3)
، وهذا الأمر من الله عام شامل لكل ما جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم سواء أكان منصوصا بعينه في القرآن أو لا؟ ذلك لأن النصوص الواردة في هذا الشأن كلها توجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم نجد ما قاله منصوصا بعينه في القرآن، ولأن الله لم يفرق بين طاعته سبحانه وبين طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل جعل طاعة نبيه طاعة له سبحانه فقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وغالب الآيات قرنت بين طاعته سبحانه وطاعة نبيه، ولأن ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص كتاب فإنما سنه بأمر الله ووحيه"
(4)
.
(1)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 206).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية، ط دار السلام (ص: 381).
(3)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (8/ 67).
(4)
محبة الرسول بين الاتباع والابتداع (ص: 114).
وقال أبو جعفر: "وهذا إعذارٌ من الله إلى خلقه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى ذكره لهم: من يطع منكم، أيها الناس، محمدًا فقد أطاعني بطاعته إياه، فاسمعوا قوله وأطيعوا أمرَه، فإنه مهما يأمركم به من شيء فمن أمري يأمركم، وما نهاكم عنه من شيء فمن نهيي"
(1)
.
وقال البغوي: "وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله» فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا، فأنزل الله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله"
(2)
.
وقال ابن عطية: "والمعنى أن الرسول إنما يأمر وينهى بيانا من الله وتبليغا، فإنما هي أوامر الله ونواهيه، وقالت فرقة: سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبني فقد أحب الله»، فاعترضت اليهود عليه في هذه المقالة، وقالوا: هذا محمد يأمر بعبادة الله وحده، وهو في هذا القول مدّع للربوبية، فنزلت هذه الآية تصديقا للرسول عليه السلام، وتبيينا لصورة التعلق بينه وبين فضل الله تعالى"
(3)
، وبمثله قال البيضاوي
(4)
.
[التوحيد كرامة المؤمن وبه ارتقاؤه وكماله]
قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [سورة النساء: 80]
16.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ويؤخذ من هذا أن المؤمن الموحد يكون أعز الناس نفسا، وأعظمهم كرامة، وأنه لا يقبل أن يستبد فيه حاكم، ولا أن يستعبده سلطان ظالم، وما قوي الاستبداد في المسلمين إلا بضعف التوحيد فيهم، فالتوحيد هو منتهى ما تصل إليه النفوس البشرية من الارتقاء والكمال"
(5)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب التوحيد، في مسألة التوحيد كرامة المؤمن وبه ارتقاؤه وكماله، بدلالة مفهوم المخالفة.
وجه الاستنباط: أهمية التوحيد في كرامة المؤمن وتقوية شخصيته، فإنه لا يقبل بالظلم ولا بالإهانة، حيث إن التوحيد هو تحرير للإنسان من كل عبودية إلا لله عز وجل، وتحرير لعقله من الخرافات والأوهام، وتحرير لحياته من تسلط الأرباب والمتألهين، فوجد به من يوجه حياته وغاياته، ويرسم له طريقا يتجه فيه في خلواته وجلواته وهو طريق الله جل جلاله، فبالتوحيد تمتلئ النفس أمناً وطمأنينة، فلا يجد خوفا على رزق أو أجل، فيعيش مطمئناً لأنه وجد في التوحيد مصدرا لقوة نفسه فامتلأت نفسه رجاء بالله وثقة به وتوكلا عليه ورضا بقضائه وصبرا على بلائه، فمن أطاع الله وأطاع رسوله فقد حقق التوحيد وحق على الله أن يكرمه على هذا.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (8/ 561).
(2)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 666).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 82).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 86).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 225).
قال ابن كثير: "وقوله: {ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا}، أي: لا عليك منه، إن عليك إلا البلاغ فمن تبعك سعد ونجا، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له، ومن تولى عنك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء، كما جاء في الحديث: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه"
(1)
.
وقال ابن عاشور: "ومن تولى أو أعرض واستمر على المكابرة فما أرسلناك عليهم حفيظا، أي حارسا لهم ومسؤولا عن إعراضهم، وهذا تعريض بهم وتهديد لهم بأن صرفه عن الاشتغال بهم، فيعلم أن الله سيتولى عقابهم"
(2)
.
[تدبر القرآن فرض على كل مكلف]
قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [سورة النساء: 82]
17.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفيه أن تدبر القرآن فرض على كل مكلف لا خاص بنفر يسمون المجتهدون يشترط فيهم شروط ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما الشرط الذي لا بد منه ولا غنى عنه، هو معرفة لغة القرآن مفرداتها وأساليبها"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العلم، في مسألة تدبر القرآن فرض على كل مكلف، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: الأمر بالتدبر أمر عام لكل مسلم لكي يهتدي لما أمر الله به في كتابه، وجعل الشيخ له شرطا واحدا هو معرفة لغة القرآن ومفرداتها وأساليبها، كل بحسب قدرته.
والشيخ هنا يقصد التدبر بالمعنى العام، أما التدبر بمعنى معرفة هدايات ومقاصد الآيات، فلا بد عند النظر في الآيات والاستدلال بها أن يكون عن علم وبصيرة ومعرفة بمعاني الآيات، ولذا قلل الشيخ هنا من شأن شروط المجتهد، التي ذكرها وحررها العلماء.
قال ابن كثير: "قال تعالى آمرا عباده بتدبر القرآن، وناهيا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضاد ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق"
(4)
.
قال البغوي: "قوله تعالى: أفلا يتدبرون القرآن، يعني: أفلا يتفكرون في القرآن، والتدبر هو النظر في آخر الأمر، ودبر كل شيء آخره، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، أي تفاوتا وتناقضا كثيرا، قاله ابن عباس"
(5)
، ومثله البيضاوي والنسفي وأبو السعود
(6)
.
(1)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 364).
(2)
التحرير والتنوير (5/ 135).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 240).
(4)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 364).
(5)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 667).
(6)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 86)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 378)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 207).
قال ابن عطية: "هذا أمر بالنظر والاستدلال، ثم عرف تعالى بمواقع الحجة، أي لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور، وظهر فيه التناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه، إذ ذلك موجود في كلام البشر، والقرآن منزه عنه، إذ هو كلام المحيط بكل شيء علما"
(1)
.
قال القرطبي: "دلت هذه الآية وقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه، فكان في هذا رد على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب"
(2)
، ومثله الشوكاني
(3)
.
[عظم مهمة الرسل وتأييد الله لهم بأسباب النصر]
قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)} [سورة النساء: 84]
18.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ويؤخذ من الآية أن الله - تعالى - كلف نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده، وهي تدل على أنه أعطاه من الشجاعة ما لم يعط أحدا من العالمين، وسيرته صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان بالرسل، في مسألة عظم مهمة الرسل وتأييد الله لهم بأسباب النصر، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: الأمر في الآية يدل على وجوب قتال من يقاوم دعوة الحق، لأن الله أيّد رسله بكل وسائل النصر، وأن هذا الأمر متضمن لوسائل القوة والشجاعة التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته في معاركه شاهدة على ذلك، ومن ذلك تحريض المؤمنين ودعوتهم لقتال أهل الباطل والضلال.
قال أبو جعفر: "يعني بقوله جل ثناؤه: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك)، فجاهد يا محمد، أعداء الله من أهل الشرك به (في سبيل الله)، يعني: في دينه الذي شرعه لك، وهو الإسلام، وقاتلهم فيه بنفسك، فأما قوله: (لا تكلف إلا نفسك) فإنه يعني: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوه وعدوك، إلا ما حمَّلك من ذلك دون ما حمَّل غيرك منه، أي: أنك إنما تُتَّبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كُلِّفته دون ما كُلِّفه غيرك"
(5)
.
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 83).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 290).
(3)
فتح القدير (1/ 567).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 248).
(5)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (8/ 579).
وقال ابن عطية: "هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي عليه السلام وحده، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدة ما، المعنى- والله أعلم- أنه خطاب للنبي عليه السلام في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي عليه السلام «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» وقول أبي بكر وقت الردة: «ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي»، وخلط قوم في تعلق الفاء من قوله فَقاتِلْ بما فيه بعد، والوجه أنها عاطفة جملة كلام على جملة، وهي دالة على اطراح غير ما أمر به، ثم خص النبي عليه السلام بالأمر بالتحريض، أي الحث على المؤمنين في القيام بالفرض الواجب عليهم"
(1)
، والقرطبي نقل ذلك عنه والشوكاني وأبو زهرة
(2)
.
وقال الرازي في مسائل الآية:
"المسألة الثانية: دلت الآية على أن الله تعالى أمره بالجهاد ولو وحده قبل دعاء الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد الرسول صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا، فنزلت هذه الآية، فخرج وما معه إلا سبعون رجلا ولم يلتفت إلى أحد، ولو لم يتبعوه لخرج وحده.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو صلى الله عليه وسلم موصوف بهذه الصفات، ولقد اقتدى به أبو بكر رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة، ومن علم أن الأمر كله بيد الله وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل ذلك عليه"
(3)
.
[موازنة الشريعة بين حق الله وكرامة المؤمن ورعاية حق المعاهد]
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 86).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 293)، فتح القدير (1/ 568)، زهرة التفاسير (4/ 1783).
(3)
مفاتيح الغيب (10/ 157).
19.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وقد قدم هنا ذكر الدية، وأخر ذكر الكفارة، وعكس في قتل المؤمن، ولعل النكتة في ذلك الإشعار بأن حق الله - تعالى - في معاملة المؤمنين مقدم على حقوق الناس، ولذلك استثنى هنالك في أمر الدية فقال: (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) لأن من شأن المؤمن العفو والسماح، والله يرغبهم فيما يليق بكرامتهم ومكارم أخلاقهم، ولم يستثن هنا؛ لأن من شأن المعاهدين المشاحة والتشديد في حقوقهم، وليسوا مذعنين لهداية الإسلام فيرغبهم كتابه في الفضائل والمكارم وثم نكتة أخرى وهو أن في سماح المعاهد للمؤمن بالدية منة عليه، والكتاب العزيز الذي وصف المؤمنين بالعزة لا يفتح لهم باب هذه المنة"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب المقاصد، في مسألة موازنة الشريعة بين حق الله وكرامة المؤمن ورعاية حق المعاهد، بدلالات المطابقة والتضمن واللزوم.
وجه الاستنباط: بالنظر إلى النظم البديع وترتيبه لحقوق الله وحقوق المسلم وواجباته، وحقوق المعاهدين وواجباتهم، فإن ذكر حق الله تعالى في المعاملة مع المؤمنين مقدم على حقوق الناس، لأن الحقوق بين الناس قائمة على التسامح والعفو فلذا يقدم حق الله، أما في ذكر حقوق المعاهدين فتقدم الديات أولا على حق الله، ترغيبا لهم، وحفاظا على مكانة المسلمين حتى لا يكون للمعاهدين عليهم منة وفضل، لأنه لا مكان لطلب العفو منهم لما في ذلك من مس لعزة وكرامة المؤمنين.
وانفرد الشيخ بهذا الاستنباط البديع، فلم أجد من المفسرين من ذكر ذلك.
قال القرطبي: " (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة، قاله ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي. واختاره الطبري قال: إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب، وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه"
(2)
. ومثله النسفي
(3)
.
وقال أبو حيان: "وقيد في الجملة الثانية بكونه من قوم معاهدين، والمعنى في النسب لا في الدين، لأنه مؤمن وهم كفار. فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييد الأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب، وهي من قتل مؤمنا خطأ كأنه قال: وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون. ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 273).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 325).
(3)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 385).
(4)
البحر المحيط في التفسير (4/ 26).
قال ابن سعدي: " {وإن كان} المقتول {من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق"
(1)
.
[تأثير تعريف الإجماع على الاستدلالات فيه]
قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [سورة النساء: 115]
20.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ومن مباحث الأصول في هذه الآية استدلال بعضهم بها على حجية الإجماع؛ لأن مخالفه متبع غير سبيل المؤمنين، وعبر بعضهم في بيان حجيته بأنه هو سبيل المؤمنين وقد علمت أن الإجماع الذي يعنونه هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها في أي عصر على أي أمر، والآية إنما نزلت في سبيل المؤمنين في عصره لا بعد عصره، وأتذكر أنني بينت عدم اتجاه الاستدلال بالآية على حجية الإجماع في المنار، وكذلك رده الأستاذ الإمام والإمام الشوكاني في إرشاد الفحول، والآية التي تدل على الإجماع الصحيح هي قوله - تعالى - في هذه السورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء: 59] "
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب الإجماع، في مسألة تأثير تعريف الإجماع على الاستدلالات فيه، بدلالة منطوق الآية.
وجه الاستنباط: بين الشيخ عدم حجية هذه الآية على الإجماع، وأن الآية إنما نزلت في سبيل المؤمنين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لا بعد عصره.
ورأي الشيخ في الإجماع أنه: "إجماع أولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجارة والصناعة والزراعة، وكذا رؤساء العمال والأحزاب، ومديرو الجرائد المحترمة، ورؤساء تحريرها، وطاعتهم حينئذ هي طاعة أولي الأمر"
(3)
.
بينما الإجماع الذي ذكره جمهور الأصوليين هو: "اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، في عصر من العصور على أمر من الأمور"
(4)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 193).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 340).
(3)
منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة (ص: 163).
(4)
كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (3/ 227)، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (1/ 194)، وانظر: أصول الفقه الميسر (1/ 262).
وبذلك يتبين أن الشيخ رشيد خالف في تعريف الإجماع وأهله، فخلط الإجماع بالمصالح المرسلة، وخلط أهل الإجماع بأهل الحل والعقد، فأخرج منه أهله، وأدخل فيه من ليس منهم.
أما مسألة دلالة الآية على الإجماع من عدمه، فهي من مسائل الخلاف بين علماء الأصول، فمنهم من يرى دلالة الآية على الإجماع، ومنهم من لا يرى ذلك.
وممن قال بعدم دلالة الآية على الإجماع، الإمام الشوكاني فقال:"وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله: ويتبع غير سبيل المؤمنين ولا حجة في ذلك عندي، لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا: هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره، كما يفيده اللفظ، ويشهد به السبب، فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام فأداه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين، وهو الدين القويم والملة الحنيفية ولم يتبع غير سبيلهم"
(1)
.
وقال ابن عاشور بعد أن أورد قول الإمام الشافعي في الاستدلال بهذه الآية على حجية الاجماع: "وقد قرر غيره الاستدلال بالآية على حجية الإجماع بطرق أخرى، وكلها على ما فيها من ضعف في التقريب، وهو استلزام الدليل للمدعي، قد أوردت عليها نقوض أشار إليها ابن الحاجب في «المختصر»، واتفقت كلمة المحققين: الغزالي، والإمام في «المعالم»، وابن الحاجب، على توهين الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع"
(2)
، وكذا قال أبوحيان، والألوسي
(3)
.
وقال جمع من المفسرين بحجية الإجماع من هذه الآية ومنهم: الرازي، قال في مسائل الآية:"المسألة الأولى: روي أن الشافعي رضي الله عنه سئل عن آية في كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية، وتقرير الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا، بيان المقدمة الأولى أنه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد، فلو لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجبا له لكان ذلك ضما لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقل باقتضاء ذلك الوعيد وأنه غير جائز، فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتباع سبيلهم واجبا، وذلك لأن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين، فإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما لزم أن يكون عدم اتباع سبيل المؤمنين حراما، وإذا كان عدم اتباعهم حراما كان اتباعهم واجبا، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض"
(4)
.
(1)
فتح القدير (1/ 594).
(2)
التحرير والتنوير (5/ 202).
(3)
البحر المحيط في التفسير (4/ 67)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (3/ 141).
(4)
مفاتيح الغيب (11/ 219)
وكذا قال الزمخشري، والبيضاوي، وابن كثير، والنسفي، وأبو السعود، وابن سعدي
(1)
.
[بناء الأفعال على اليقين لا على الظنون]
قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)} [سورة النساء: 128]
21.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا وترفعا عليها، أو إعراضا عنها، بأن ثبت لها ذلك، وتحقق ولم يكن وهما مجردا، أو وسواسا عارضا، يدل على ذلك جعل فعل الخوف المذكور، مفسرا لفعل محذوف، للاحتراس من بناء الحكم على أساس الوسوسة التي تكثر عند النساء، وهو من إيجاز القرآن البديع"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب البينة، في مسألة بناء الأفعال على اليقين لا على الظنون، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: من باب التثبت في الأمور والبعد عن الوساوس والظنون، وصيانة الحياة الزوجية، جعل خوف المرأة من نشوز زوجها مبنيا على علم وحقيقة، من خلال مسألة الإيجاز في الآية، بدلالة حذف الفعل للاحتراس، وهنا يتحقق الإصلاح المنشود، بعكس لو كان هذا الخوف مبنيا على وساوس وظنون، فإنه يؤدي إلى انهيار تلك العلاقة.
وقد انفرد الشيخ بذكر هذا فلم يشر أحد من المفسرين إلى معنى الاحتراس في الآية وما أفاده من معنى.
قال أبو جعفر: "يعني بذلك جل ثناؤه: وإن خافت امرأة من بعلها، يقول: علمت من زوجها نشوزًا، يعني: استعلاءً بنفسه عنها إلى غيرها"
(3)
.
قال الزمخشري: "خافت من بعلها توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأماراته"
(4)
.
وقال الرازي: "المسألة الثانية: قال بعضهم: خافت أي علمت، وقال آخرون: ظنت، وكل ذلك ترك للظاهر من غير حاجة، بل المراد نفس الخوف إلا أن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور الأمارات الدالة على وقوع الخوف"
(5)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 628)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 97)، تفسير القرآن العظيم (2/ 413)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 233)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 396)، السعدي تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 203).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 363).
(3)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (9/ 267).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 571).
(5)
مفاتيح الغيب (11/ 235).
وقال القرطبي: "و (خافت) بمعنى توقعت، وقول من قال: خافت تيقنت خطأ، قال الزجاج: المعنى وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز"
(1)
.
وقال البيضاوي، والنسفي:"وإن امرأة خافت من بعلها توقعت منه لما ظهر لها من المخايل، وامرأة فاعل فعل يفسره الظاهر"
(2)
.
وقال أبو حيان: "والخوف هنا على بابه، لكنه لا يحصل إلا بظهور أمارات ما تدل على وقوع الخوف، وقيل: معنى خافت علمت، وقيل: ظنت، ولا ينبغي أن يخرج عن الظاهر، إذ المعنى معه يصح"
(3)
.
[ثواب وسعادة الدارين مرهون بفضل الله ورحمته]
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [سورة النساء: 134]
22.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "الآية تدل على أن الإسلام يهدي أهله إلى سعادة الدارين، وأن يتذكروا أن كلا من ثواب الدنيا وثواب الآخرة من فضل الله ورحمته"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة ثواب وسعادة الدارين مرهون بفضل الله ورحمته، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: دلت الآية على أن الإنسان المسلم لا يقصد من أي عمل يعمله إلا الأجر من الله، فإذا عمل عملا تحققت له السعادة في الدنيا، ونال عليه الأجر العظيم في الآخرة، ومن قصد بعمله وإيمانه الجزاء في الدنيا فسينال ما أراد، ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:((من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة))
(5)
، فهذه الآية حض على أن يسمو الإنسان و يقصد بعمله ما عند الله من الأجر والثواب، وأن لا يقتصر على الثواب الدنيوي الزائل، مع أنه سيتحقق له كلا الثوابين، إذا أراد الله والدار الآخرة.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 403).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 101)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 401).
(3)
البحر المحيط في التفسير (4/ 86).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 370).
(5)
رواه ابن ماجه: كتاب الزهد باب الهم بالدنيا ح (4105)[قال الشيخ الألباني: صحيح]، ورواه الدارمي: كتاب المقدمة باب في فضل العلم والعالم ح (331) ورواه الإمام أحمد بن حنبل: حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم 5/ 182 ح (21630)[تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح].
قال البيضاوي: "من كان يريد ثواب الدنيا كالمجاهد يجاهد للغنيمة. فعند الله ثواب الدنيا والآخرة فما له يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، أو ليطلب الأشرف منهما، فإن من جاهد خالصا لله سبحانه وتعالى لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة، ما هي في جنبه كلا شيء، أو فعند الله ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية وكان الله سميعا بصيرا عالما بالأغراض فيجازي كلا بحسب قصده"
(1)
. ومثله أبو السعود
(2)
.
وقال أبو حيان: "والذي يظهر أن جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه، وليطلب الثوابين، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة. وقال الراغب: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة تبكيت للإنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كون المسئول مالكا للثوابين، وحث على أن يطلب منه تعالى ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه، فمن طلب خسيسا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسا فهو دنيء الهمة، قيل: والآية وعيد للمنافقين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة. وقيل: هي حض على الجهاد"
(3)
.
وقد أشار المفسرون إلى أن الآية في المنافقين والكفار، ومن ذلك ما قاله ابن جرير الطبري:"ممن أظهر الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق، الذين يستبطنون الكفر وهم مع ذلك يظهرون الإيمان {ثواب الدنيا} يعني: عرض الدنيا، بإظهار ما أظهر من الإيمان بلسانه، جزاؤه في الدنيا منها وثوابه فيها، هو ما يصيب من المغنم إذا شهد مع النبي مشهدا، وأمنه على نفسه وذريته وماله، وما أشبه ذلك، وأما ثوابه في الآخرة فنار جهنم"
(4)
.
وقال ابن عطية: "أي: من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أن ثم سواه، فليس هو كما ظن، بل عند الله تعالى ثواب الدارين، فمن قصد الآخرة أعطاه الله من ثواب الدنيا وأعطاه قصده، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له وكان له في الآخرة العذاب"
(5)
.
وقال القرطبي: "أي من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة آتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبا للدنيا آتاه بما كتب له في الدنيا وليس له في الآخرة من ثواب، لأنه عمل لغير الله كما قال تعالى: (وما له في الآخرة من نصيب). وقال تعالى: (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار). وهذا على أن يكون المراد بالآية المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري. وروي أن المشركين كانوا لا يؤمنون بالقيامة، وإنما يتقربون إلى الله تعالى ليوسع عليهم في الدنيا ويرفع عنهم مكروهها، فأنزل الله عز وجل (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا) أي يسمع ما يقولونه ويبصر ما يسرونه"
(6)
.
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 102).
(2)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 241).
(3)
البحر المحيط في التفسير (4/ 93).
(4)
جامع البيان في تأويل آي القرآن (7/ 583).
(5)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 122).
(6)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 410).
وقال ابن سعدي: " أخبر أن من كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له إرادة في الآخرة فإنه قد قصر سعيه ونظره، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كتب الله له منها، فإنه تعالى هو المالك لكل شيء الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة، فليطلبا منه ويستعان به عليهما، فإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدوام، وله الحكمة تعالى في توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله وفي عطائه ومنعه"
(1)
.
[فقه إنكار المنكر]
23.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "هذا تعليل للنهي، ولا يجتمع الإيمان بالشيء وإقرار الكفر والاستهزاء به، ويؤخذ من الآية أن إقرار الكفر بالاختيار كفر، ويؤخذ منه أن إقرار المنكر والسكوت عليه منكر، وهذا منصوص عليه أيضا، وأن إنكار الشيء يمنع فشوه بين من ينكرونه حتما، فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان "
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مسألة فقه إنكار المنكر، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: إقرار الكفر والاستهزاء بأي أمر من أمور الدين يستلزم عدم الإيمان، وعليه يجب مفارقة أماكن إقرار الكفر والاستهزاء بالدين، لأن من ثمرة ذلك تحقق الإيمان في القلب، كما أنه من المنكر إقرار المنكر والسكوت عليه، فأوجب الشرع إنكاره، لأن في القيام بهذه الشعيرة حداً من انتشار هذا المنكرات وفشوها، وهذه قاعدة شرعية نافعة للناس في كل زمان ومكان.
قال الطبري: "فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه"
(3)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 208).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 378).
(3)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (9/ 320).
وقال البغوي: "إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفار مثلهم، وإن خاضوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة، وقال الحسن: لا يجوز القعود معهم وإن خاضوا في حديث غيره"
(1)
.
قال الرازي: "قال أهل العلم: هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن لم يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشر بدليل أنه تعالى ذكر لفظ المثل هاهنا، هذا إذا كان الجالس راضيا بذلك الجلوس، فأما إذا كان ساخطا لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك، ولهذه الدقيقة قلنا بأن المنافقين الذين كانوا يجالسون اليهود، وكانوا يطعنون في القرآن والرسول كانوا كافرين مثل أولئك اليهود، والمسلمون الذين كانوا بالمدينة كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن فإنهم كانوا باقين على الإيمان، والفرق أن المنافقين كانوا يجالسون اليهود مع الاختيار، والمسلمين كانوا يجالسون الكفار عند الضرورة"
(2)
، ومثله الزمخشري والنسفي
(3)
قال القرطبي: "فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: (إنكم إذا مثلهم). فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية"
(4)
، وكذا البيضاوي، وابن كثير، وابن سعدي وأبو زهرة
(5)
.
[وصف النار للتحذير من الأسباب المؤدية إليها]
قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [سورة النساء: 145]
24.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "دل هذا على أن دار العذاب في الآخرة ذات دركات بعضها أسفل بعض، كما أن دار النعيم درجات بعضها أعلى من بعض، نسأل الله أن يجعلنا مع المقربين من أهلها فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى"
(6)
.
(1)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (1/ 714).
(2)
مفاتيح الغيب (11/ 247).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 578)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 406).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 418).
(5)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 104)، تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 435)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 210)، زهرة التفاسير (4/ 1911).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 384).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الأيمان باليوم الآخر، في مسألة وصف النار للتحذير من الأسباب المؤدية إليها، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: لما تقرر وصف النفاق وأهله والتحذير منه، بالغ في وصف عذاب أهله وأنهم وإن اجتمعوا مع الكفار وغيرهم ممن حق عليهم العذاب إلا أن هؤلاء بإبطانهم الكفر وإظهارهم الإيمان أشد منهم، ولذا كان عذابهم أشد، فهم في أسفل دركات النار، كما أن درجات المؤمنين في الجنة تختلف كل بحسب عمله، فهذا من فضل الله، وذاك من عدله.
قال ابن عطية: "أخبر تعالى عن المنافقين أنهم فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من نار جهنم، وهي أدراك بعضها فوق بعض طبقة على طبقة، أعلاها هي جهنم وقد يسمى جميعها باسم الطبقة العليا، فالمنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر هم في أسفل طبقة من النار، لأنهم أسوأ غوائل من الكفار وأشد تمكنا من أذى المسلمين"
(1)
.
قال الرازي: "وظاهره أن جهنم طبقات، والظاهر أن أشدها أسفلها، قال الضحاك: الدرج إذا كان بعضها فوق بعض، والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض"
(2)
.
وقال القرطبي: "والنار دركات سبعة، أي طبقات ومنازل، إلا أن استعمال العرب لكل ما تسافل أدراك، يقال: للبئر أدراك، ولما تعالى درج، فللجنة درج، وللنار أدراك، وقد تقدم هذا، فالمنافق في الدرك الأسفل وهي الهاوية، لغلظ كفره وكثرة غوائله وتمكنه من أذى المؤمنين، وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابها بمنه وكرمه"
(3)
.
وقال البيضاوي، والنسفي، وأبو حيان، وأبو السعود
(4)
: أنها دركات متتابعة بعضها تحت بعض.
[تعظيم شأن المؤمنين وأن العاقبة لهم وتخسيس حظ الكافرين]
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 128).
(2)
مفاتيح الغيب (11/ 251).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 425).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 105)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 408)، البحر المحيط في التفسير (4/ 112)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 247).
25.
قال الشيخ محمد رحمه الله: "والنكتة في التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من الله، وعن ظفر الكافرين بالنصيب هي إفادة أن العاقبة في القتال للمؤمنين، فهم الذين يكون لهم الفتح والاستيلاء على الأمم الكافرة، ولكن الحرب سجال قد يقع في أثنائها نصيب من الظفر للكافرين لا ينتهي إلى أن يكون فتحا يستولون به على المؤمنين، وذلك أن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر في مثل قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم: 47] "
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب ولاية الله للمؤمنين، في مسألة تعظيم شأن المؤمنين وأن العاقبة لهم وتخسيس حظ الكافرين، بدلالة لفظ الآية.
وجه الاستنباط: التعبير بالفتح في جانب المؤمنين أضاف معنى أن العاقبة والغلبة والنصر والغنيمة والفصل في القتال يكون للمؤمنين وهذا وعد من الله لا بد أن يتحقق، وهذا من عظيم ما منّ الله به عليهم، وقد يحدث ظفر للكافرين على المؤمنين، فيكون لهم دولة وظهور لكن لا يعد فتحا ولا نصرا، وإنما هذا من سنن الحروب، وهذا تقليل لما ظفروا به وتحقير لشأنهم.
قال الزمخشري: "فإن قلت: لم سمى ظفر المسلمين فتحا، وظفر الكافرين نصيبا؟، قلت: تعظيما لشأن المسلمين وتخسيسا لحظ الكافرين لأن ظفر المسلمين أمر عظيم
(2)
، تفتح لهم أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دنيء، ولمظة من الدنيا يصيبونها"
(3)
، ونقل ذلك الرازي ومثله عند أبو حيان
(4)
.
وقال ابن كثير: " {فإن كان لكم فتح من الله} أي: نصر وتأييد وظفر وغنيمة {قالوا ألم نكن معكم} أي: يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة {وإن كان للكافرين نصيب} أي: إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان، كما وقع يوم أحد، فإن الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(5/ 378).
(2)
قال صاحب حاشية الانتصاف فيما تضمنه الكشاف: قال محمود: «سمى ظفر المسلمين فتحا تعظيما لشأن المسلمين
…
الخ»، قال أحمد: وهذا من محاسن نكت أسرار القرآن، فان الذي كان يتفق للمسلمين فيه: استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤوها، وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا، فالتفريق بينهما مطابق أيضا للواقع، والله أعلم.
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 578).
(4)
مفاتيح الغيب (11/ 248)، البحر المحيط في التفسير (4/ 104).
(5)
تفسير القرآن العظيم (2/ 436).
قال ابن عاشور: "وجعل ما يحصل للمسلمين فتحا لأنه انتصار دائم، ونسب إلى الله لأنه مقدره ومريده بأسباب خفية ومعجزات بينة. والمراد بالكافرين هم المشركون من أهل مكة وغيرهم لا محالة، إذ لا حظ لليهود في الحرب، وجعل ما يحصل لهم من النصر نصيبا تحقيرا له، والمراد نصيب من الفوز في القتال"
(1)
.
قال أبو زهرة: "عبر عن النصر في جانب المؤمنين بأنه فتح؛ لأن الفتح فصل بين الحق والباطل، ولأنه من وراء نصر المؤمنين فتح الطريق لكي يدرك الناس الإسلام، ويدخل فيه من أراد، ولأن النصر للمؤمنين دائم، وقد عبر سبحانه عن الفتح أنه يجيء من الله وفي ذلك معنى الدوام؛ لأن الذي يجيء به هو الله القائم على كل شيء فهو باق ما بقيت الأسباب التي تتخذ للنصر"
(2)
.
[الوعد بالجزاء في كل آية على جميع ما ذكر فيها من أعمال]
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [سورة النساء: 149]
26.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وإنما ذهبنا إلى أن كلمة (قَدِيرًا) قد أفادت بوضعها هنا الدلالة على عظم الجزاء على العمل الذي رغبت فيه الآية، وعلى استحباب العفو مع القدرة، ولم نقصرها على الأمر الثاني وحده كما فعل بعضهم، لأن الأصل في الوعد بالجزاء أن يكون في كل آية أو سياق على جميع ما ذكر فيها من الأعمال، وفي هذه الآية ذكر إبداء الخير وإخفائه والعفو عن المسيء فلا يصح أن يكون الوعد خاصا بالأخير منها"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا في علوم القرآن، في باب علوم الآية، في مسألة الوعد بالجزاء في كل آية على جميع ما ذكر فيها من أعمال، بدلالة السياق.
وجه الاستنباط: في لفظ (قديرا) دلالة على عظم الجزاء على هذه الأعمال التي رغبت الآية فيها من إبداء الخير أو إخفائه والعفو عن المسيء، وذلك اعتمادا على الأصل في الوعد بالجزاء على جميع الأعمال، فلا يصح قصر معنى خاتمتها في الآية على بعض الأعمال الواردة في الآية.
وقد أشار جمع من المفسرين إلى معنى القصر للفظ قدير، ولم يتعرضوا للمعنى العام كما عبر عنه الشيخ ومن ذلك ما قال ابن جرير:" (قديرًا)، يقول: ذا قدرة على الانتقام منهم، وإنما يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إيّاه، يقول: فاعفوا، أنتم أيضًا، أيها الناس، عمن أتى إليكم ظلمًا، ولا تجهروا له بالسوء من القول، وإن قدرتم على الإساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره"
(4)
، ونحوه عند ابن كثير
(5)
.
(1)
التحرير والتنوير (5/ 237).
(2)
زهرة التفاسير (4/ 1913).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 7).
(4)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (9/ 351).
(5)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 444).
قال الزمخشري: "حث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، بعد ما أطلق الجهر به وجعله محبوبا، حثا على الأحب إليه والأفضل عنده والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيبا - تشبيها- للعفو، ثم عطفه عليهما اعتدادا به وتنبيها على منزلته، وأن له مكانا في باب الخير وسيطا، والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله فإن الله كان عفوا قديرا أى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله"
(1)
، ومثله البيضاوي، والنسفي، وأبو حيان
(2)
.
قال ابن عطية: "لما ذكر تعالى عذر المظلوم في أن يجهر بالسوء لظالمه، أتبع ذلك عرض إبداء الخير وإخفائه، والعفو عن السوء، ثم وعد عليه بقوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً وعدا خفيا تقتضيه البلاغة ورغب في العفو إذ ذكر أنها صفته مع القدرة على الانتقام"
(3)
ومثله القرطبي
(4)
.
وأوضح الرازي الوجوه في قوله (فإن الله كان عفوا قديرا) فقال: (الأول: أنه تعالى يعفو عن الجانبين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى.
الثاني: إن الله كان عفوا لمن عفا، قديرا على إيصال الثواب إليه.
الثالث: إن الله تعالى أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك)
(5)
، ومثله أبو السعود
(6)
.
[الكفر ملة واحدة فاستحقوا جزاءً واحدا]
قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)} [سورة النساء: 151]
27.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وأعتدنا للكافرين، منهم ومن غيرهم، وهذه هي نكتة وضع المظهر موضع الضمير؛ إذ قال: للكافرين ولم يقل "لهم" عذابا مهينا أي ذا إهانة تشملهم فيه المذلة والضعة"
(7)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 582).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 106)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 410)، البحر المحيط في التفسير (4/ 119).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 130).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 4).
(5)
مفاتيح الغيب (11/ 254) بتصرف.
(6)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 248).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 8).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الجزاء، في مسألة الكفر ملة واحدة فاستحقوا جزاءً واحدا، بدلالة العموم.
وجه الاستنباط: ذكر الشيخ أنه من خلال علم المعاني في مسألة الخروج على مقتضى الظاهر، جاء النص (وأعتدنا للكافرين) أي: جميع الكافرين منهم ومن غيرهم، مع أن مقتضى الظاهر أن يقال (لهم)، وفي هذا إشارة إلى شدة عذابهم المشتمل على الذلة والضعف، والعموم لكل من حاد عن الطريق المستقيم، وأن في إظهار المستحق للعذاب زيادة تمكن ما استخدم في الدلالة عليه الاسم الظاهر بدل المضمر، وتمكن المسند إليه وتقريره في نفس السامع
(1)
.
ولم أجد من أشار إلى هذه القاعدة من المفسرين إلا أبي السعود حيث قال: "وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ إشعاراً بأن مَنْ هذا شأنُه فهو كافرٌ بنعمة الله تعالى ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذابٌ يُهينُه كما أهان النعمةَ بالبخل والإخفاءِ"
(2)
.
(1)
انظر: البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها (ص: 399).
(2)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 176).
استنباطات سورة المائدة
[المؤمن يفي بكل العقود التي ارتبط بها]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} [سورة المائدة: 1]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وأساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة أوفوا بالعقود وهي تفيد أنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به، وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الشارع إلا ببينة منه"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب العقود، في مسألة المؤمن يفي بكل العقود التي ارتبط بها، بدلالة العموم.
وجه الاستنباط: دل الأمر في الآية على وجوب الوفاء بكل عقد التزم به المؤمن من العقود الخاصة بينه وبين خالقه من تحليل الحلال وتحريم الحرام، وبكل ما التزم به في معاملاته العامة بكل من ارتبط بهم، في كل حالات اليسر والعسر، لأن هذا من مقتضيات الإيمان الكامل، وهذا المعنى يحقق مقصدا شرعيا كليا، في كل جوانب الحياة، بين العبد وربه، ونفسه، ومن حوله.
ومن المفسرين من جعل الأمر عاما شاملا لكل عقد، ومنهم الزمخشري فقال:"وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف، وقيل: هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات ويتحالفون عليه ويتماسحون من المبايعات ونحوها، وأنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه وأنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل وهو قوله أحلت لكم وما بعده"
(2)
، ومثله الرازي، والنسفي، وابن كثير، وكذا أبو السعود
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 100).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 601).
(3)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 7)، مفاتيح الغيب (11/ 276)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 423)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 2).
وقال القرطبي: "قيل: هي عامة وهو الصحيح، فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب، لأن بينهم وبين الله عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم مأمورون بذلك في قوله: " أوفوا بالعقود" وغير موضع. قال ابن عباس: " أوفوا بالعقود" معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء"
(1)
، وممن قال بالعموم أيضا البيضاوي
(2)
.
قال ابن سعدي: "هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها، وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم، والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} بالتناصر على الحق، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع، فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها"
(3)
.
وقد قصر بعض المفسرين معنى الوفاء بالعقود على تكاليف الشرع وحدوده، ومنهم ابن جرير فقال: "وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبَهَا عليكم، وعقدها فيما أحلَّ لكم وحرم عليكم، وألزمكم فرضه، وبيَّن لكم حدوده.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل وعز أتبع ذلك البيانَ عما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أوجب عليهم من فرائضه. فكان معلومًا بذلك أن قوله:"أوفوا بالعقود"، أمرٌ منه عبادَه بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك، ونَهْيٌ منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه"
(4)
.
[المؤمن ينتصر للحق بالحق ولا ينتصر لنفسه من ظالمه بغير حق]
(1)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 33).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 113).
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 218).
(4)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (9/ 454).
2.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وأما الاعتداء على من تبغضونهم فلا يباح لكم وأنتم حل، كما أنه لا يباح لكم وأنتم حرم، وإن كانوا صدوكم عن المسجد الحرام من قبل، وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل، لأنه نهي عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق، وحينئذ لا يراعي المماثلة ولا يقف عند حدود العدل، ولم أر من نبه على هذا ولا من حرر هذا المبحث"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب العدل، في مسألة المؤمن ينتصر للحق بالحق ولا ينتصر لنفسه من ظالمه بغير حق، بدلالة مفهوم المخالفة.
وجه الاستنباط: الآية تأمر بإقامة العدل في المعاملة، حتى وإن كان هو المجني عليه، وأن يخلص نفسه مما قد يعلق فيها من البغض والحقد فتكون حاملة له على الاعتداء على الآخرين بما تثيره هذه المؤثرات في نفسه، بل يجعل الحق واتباع الدليل هو الحكم في معاملاته كلها.
قال الرازي: "قال القفال رحمه الله: هذا معطوف على قوله لا تحلوا شعائر الله إلى قوله ولا آمين البيت الحرام يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام، فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به، وليس للناس أن يعين بعضهم بعضا على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه، لكن الجواب أن يعين بعضهم بعضا على ما فيه البر والتقوى، فهذا هو المقصود من الآية"
(2)
.
وقال الزمخشري: "ومعنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام: منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، ومعنى الاعتداء: الانتقام منهم بإلحاق مكروه بهم وتعاونوا على البر والتقوى على العفو والإغضاء ولا تعاونوا على الإثم والعدوان على الانتقام والتشفي، ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى وكل إثم وعدوان، فيتناول بعمومه العفو والانتصار"
(3)
.
وقال ابن عطية: ": فأما من قرأ «شنآن» بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدوانا عليهم وظلما لهم، ويحتمل «الشنان» بفتح النون أن يكون وصفا فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا"
(4)
، وكذا البيضاوي، والنسفي، والقرطبي، وابن عاشور
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 107).
(2)
مفاتيح الغيب (11/ 282).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 603).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 149).
(5)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 114)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 425)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 46)، التحرير والتنوير (6/ 86)
وقال ابن سعدي: "لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم، حيث صدوكم عن المسجد، على الاعتداء عليهم، طلبا للاشتفاء منهم، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله، ويسلك طريق العدل، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه، أو يخون من خانه"
(1)
.
[أهمية التعاون على البر والتقوى بتقديم التحلية على التخلية]
قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [سورة المائدة: 2]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "أما الأمر بالتعاون على البر والتقوى فهو من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن؛ لأنه يوجب على الناس إيجابا دينيا أن يعين بعضهم بعضا على كل عمل من أعمال البر التي تنفع الناس أفرادا وأقواما في دينهم ودنياهم، وكل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم، فجمع بذلك بين التحلية والتخلية، ولكنه قدم التحلية بالبر، وأكد هذا الأمر بالنهي عن ضده؛ وهو التعاون على الإثم بالمعاصي وكل ما يعوق عن البر والخير"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب أعمال القلوب، في مسألة أهمية التعاون على البر والتقوى بتقديم التحلية على التخلية، بدلالة الاقتران.
وجه الاستنباط: الأمر في الآية بالتعاون في أمور البر والتقوى، وتأكد هذا الأمر بالنهي عن ضده، والقاعدة التربوية السلوكية المهمة أكدت على أهمية تخلية النفس من مفاسد الأقوال والأعمال ابتداءً، وفي الآية هنا تقديم للتحلية على التخلية، وهذا تأكيد على قيمة وأهمية التعاون على البر والتقوى، من خلال تقديمه على النهي عن التعاون على الإثم والعدوان.
وهذا مما انفرد الشيخ بذكره والتنويه إليه، فيما اطلعت عليه من كلام المفسرين.
[استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم شرط لحل صيدها]
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 219).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 108).
4.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ونكتة هذه الجملة [تُعَلِّمُونَهُنَّ] على القول بأنها حالية مراعاة استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم؛ لأن إغفالها ينسيها ما تعلمت، فتصطاد لنفسها ولا تمسك على صاحبها، وإمساكها عليه شرط لحل صيدها، نص عليه في الجملة التي بعد هذه، وهذا التعليل الذي ألهمنيه الله -تعالى- أظهر مما قالوه من أنه المبالغة في اشتراط التعليم"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الصيد، في مسألة استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم شرط لحل صيدها، بدلالة السياق.
وجه الاستنباط: تعليم الجوارح الصيد منصوص عليه في الآية التي بعدها {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [سورة المائدة: 4]، والمعنى الظاهر في الآية هو إفادة الجملة الحالية معنى وجوب استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم، وهو وجه من أوجه المبالغة في التعليم، لضمان بقاء قصد الصيد لصاحبها لا لنفسها، فإن هذا شرط في حل الصيد، وهذا أظهر من أن تكون الجملة للمبالغة في اشتراط التعلم.
وهو مما انفرد به الشيخ حيث إن ما وقفت عليه من تفاسير المفسرين بين أن المعنى أن يتخذ معلما حاذقا، مبالغة في اشتراط التعليم ولم يذكر تعاهد التعلم خوفا من نسيانه.
وأقرب من تكلم عن العناية بالتعليم الزمخشري من جانب اختيار المعلم الحاذق، فقال:"وانتصاب مكلبين على الحال من علمتم. فإن قلت ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه مدربا فيه، موصوفا بالتكليب، وتعلمونهن حال ثانية أو استئناف، وفيه فائدة جليلة، وهي أن على كل آخذ علما ألا يأخذه إلا من أقتل أهله علما وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذ عن غيره متقن، قد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله"
(2)
، ونقل ذلك عنه الرازي
(3)
، وزاد:"وتعلمونهن حال ثانية أو استئناف، والمقصود منه المبالغة في اشتراط التعليم".
وقال البيضاوي: "وانتصابه على الحال من علمتم وفائدتها المبالغة في التعليم"
(4)
، وكذا الألوسي
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 142).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 606).
(3)
مفاتيح الغيب (11/ 292).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 115).
(5)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (3/ 236).
قال ابن عاشور: "ومكلبين حال من ضمير علمتم مبينة لنوع التعليم وهو تعليم المكلب، وصف مشتق من الاسم الجامد، ولذلك فوقوعه حالا من ضمير علمتم ليس مخصصا للعموم الذي أفاده قوله: وما علمتم فهذا العموم يشمل غير الكلاب، وقوله: تعلمونهن مما علمكم الله حال ثانية، قصد بها الامتنان والعبرة والمواهب التي أودعها الله في الإنسان، إذ جعله معلما بالجبلة، والمواهب التي أودعها الله في بعض الحيوان، إذ جعله قابلا للتعلم، فباعتبار كون مفاد هذه الحال هو مفاد عاملها تتنزل منزلة الحال المؤكدة، وباعتبار كونها تضمنت معنى الامتنان فهي مؤسسة"
(1)
.
[مؤاكلة أهل الكتاب ونكاح نسائهم حلال ابتداءً]
قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [سورة المائدة: 5]
5.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والتعبير بقوله (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) إنشاء لحلها العام الدائم كما تقدم، ولكنه لم يقل مثل ذلك فيما بعده بل قال: (حِلٌّ لَكُمْ) وهو خبر مقرر للأصل في المسألتين: مسألة مؤاكلة أهل الكتاب، ومسألة نكاح نسائهم، فلم يكن شيء منهما محرما من قبل وأحل في ذلك اليوم، لا بتحريم من الله ولا بتحريم الناس على أنفسهم، كما حرموا بعض الطيبات، فهذا ما ظهر لنا من نكتة اختلاف التعبير، وسكت عنه الباحثون في نكت البلاغة الذين اطلعنا على كلامهم، وحكمة النص على هذا الحل قطع الطريق على الغلاة أن يحرموه باجتهادهم وأهوائهم"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب النكاح، في مسألة مؤاكلة أهل الكتاب ونكاح نسائهم حلال ابتداءً، بدلالة الألفاظ.
وجه الاستنباط: لفظة أحل لكم على الأصل العام في إباحة الطيبات، أي على قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، وهو المعنى الذي قررته الآية، أما لفظة حل لكم، فهو خبر مقرر للأصل في مسألة مؤاكلة أهل الكتاب، وكذا مسألة نكاح نسائهم فحكمها الحل على الأصل قبل هذه الآية، فهاتان المسألتان لم تكونا محرمات من قبل، وعند علماء البلاغة يسمى هذا النوع: بالعكس المعنوي: (اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ)" أي: يَحلُّ لَكُمْ أنْ تُطْعِمُوهُمْ من طعامِكُمْ، إذْ ليس هذا الحكم مُوجّهاً لأهل الكتاب الذين لا يؤمنونَ بالقرآن ولا بالإِسلام، إنما هو موجّه للمؤمنين، ويسمى هذا النوع عند علماء البلاغة العكس المعنوي - التبديل-"
(3)
.
(1)
التحرير والتنوير (6/ 114)(6/ 115).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 153).
(3)
البلاغة العربية (2/ 440).
ولم أجد من أشار إلى هذا المعنى الفقهي البلاغي غير الشيخ.
[سنة القرآن في النزاهة والكناية في الألفاظ]
6.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "الغائط: المكان المنخفض من الأرض، وهو كناية عن قضاء الحاجة من بول وغائط، وصار حقيقة شرعية في هذا الحدث، وعرفية في الرجيع الذي يخرج من الدبر، وملامسة النساء: هي المباشرة المشتركة بين الرجال وبينهن، وكل من التعبيرين كناية على سنة القرآن في النزاهة"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا سلوكيا، في باب الآداب، في مسألة سنة القرآن في النزاهة والكناية في الألفاظ، بدلالة معاني الألفاظ.
وجه الاستنباط: القرآن كتاب هداية ورإشاد وبيان للأحكام، ومن سنة الله في القرآن الكريم في بيان الأحكام أنه يكني عن الأمور الخاصة بالإنسان والتي يستحى من ذكرها، كمكان قضاء الحاجة، وعن حالات ملامسة النساء بالجماع وغيرها، فيكنى عنها بما يفيد من المعاني، وهذا أسلوب تأديب للإنسان في ألفاظه، وهو أسلوب من أساليب البلاغة العربية.
وأشار إلى هذا المعنى كثير من المفسرين، كابن جرير فقال: " (الغائط): ما اتسع من الأودية وتصوَّب، وجعل كناية عن قضاء حاجة الإنسان، لأن العرب كانت تختار قضاءَ حاجتها في الغِيطان، فكثر ذلك منها حتى غلب عليهم ذلك، فقيل لكل من قضى حاجته التي كانت تقضي في الغِيطان، حيثُ قضاها من الأرض: مُتَغَوِّط وجاء فلان من الغائط، يعني به: قضى حاجته التي كانت تقضى في الغائط من الأرض
(2)
. ومثله البيضاوي، والنسفي، والقرطبي، وغيرهم
(3)
.
وقال ابن كثير: "الغائط: هو المكان المطمئن من الأرض، كنى بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 209).
(2)
جامع البيان (8/ 388).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 76)، تفسير النسفي (1/ 431)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 104).
(4)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (2/ 314).
وقال أبو السعود: "هو المكان الغائر المطمئن والمجئ منه كناية عن الحدث لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس وإسناد المجئ منه إلى واحد منهم من المخاطبين دونهم للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز وجل: {أو لامستم النساء} على التصريح بالجماع"
(1)
.
قال ابن سعدي في بيان بعض أحكام هذه الآية: "استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به"
(2)
.
وقال ابن عاشور: "من الغائط كناية عن قضاء الحاجة البشرية، شاع في كلامهم التكني بذلك لبشاعة الصريح"
(3)
.
[تأكيد وتقرير وعد الله للمؤمنين وتشوّقهم له]
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)} [سورة المائدة: 9]
7.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وهذا التعبير أبلغ من تعلق الوعد بالموعود نفسه، كقوله تعالى في آخر سورة الفتح: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [سورة الفتح: 29] لأن ما هنالك خبر واحد، لا تأكيد فيه، ولا زيادة عناية بتقريره، وما هنا خبر فيه زيادة تأكيد أو تقرير للوعد، فقد وعد وعدا مجملا من شأنه أن تتوجه النفس للسؤال عن بيانه، فهذا خبر مستقل"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة تأكيد وتقرير وعد الله للمؤمنين وتشوّقهم له، بدلالة المقارنة.
وجه الاستنباط: استخدم الشيخ أسلوب المقارنة بين الآيتين، وبين أن في آية سورة المائدة إفادة تحقق الوعد وأكدته الجملة الخبرية، وهو أبلغ مما أفاده تحقيق الخبر بالموعود في سورة الفتح، وهذا يفيد عظم فضل الله، وأن جزاءه لعباده فضل زائد على أعمالهم، وليس جزاءً على أعمالهم فقط.
وأشار بعض المفسرين إلى ذلك كابن جرير فقال: "فإن قال قائل: إن الله جل ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولم يخبر بما وعدهم، فأين الخبر عن الموعود؟ قيل: بلى إنه قد أخبَر عن الموعود، والموعود هو قوله: "لهم مغفرة وأجر عظيم"، فإن قال: فإن قوله: "لهم مغفرة وأجر عظيم" خبرٌ مبتدأ، ولو كان هو الموعود لقيل: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرًا عظيمًا، ولم يدخل في ذلك "لهم"، وفي دخول ذلك فيه، دلالة على ابتداء الكلام، وانقضاء الخبر عن الوعد! قيل: إن ذلك وإن كان ظاهره ما ذكرتَ، فإنه مما اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام على ما بطن من معناه"
(5)
.
(1)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 180).
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 223).
(3)
التحرير والتنوير (5/ 66).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 228).
(5)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (10/ 98)(10/ 99).
وقال الزمخشري: "لهم مغفرة وأجر عظيم بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قال: قدم لهم وعدا فقيل: أى شيء وعده لهم؟ فقيل: لهم مغفرة وأجر عظيم، أو يكون على إرادة القول بمعنى وعدهم وقال لهم مغفرة، أو على إجراء وعد مجرى قال: لأنه ضرب من القول. أو يجعل وعد واقعا على الجملة التي هي لهم مغفرة"
(1)
، ونقل هذا أبو حيان
(2)
.
وقال الرازي: "وقوله لهم مغفرة وأجر عظيم فيه وجوه: الأول: أنه قال أولا وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات فكأنه قيل: وأي شيء وعدهم؟ فقال لهم مغفرة وأجر عظيم الثاني: التقدير كأنه قال: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال لهم مغفرة وأجر عظيم، والثالث: أجرى قوله وعد مجرى قال، والتقدير: قال الله في الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم، والرابع: أن يكون وعد واقعا على جملة لهم مغفرة وأجر عظيم أي وعدهم بهذا المجموع"
(3)
.
قال ابن عاشور: "وجملة لهم مغفرة مبينة لجملة وعد الله الذين آمنوا، فاستغني بالبيان عن المفعول، فصار التقدير: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما لهم، وإنما عدل عن هذا النظم لما في إثبات المغفرة لهم بطريق الجملة الاسمية من الدلالة على الثبات والتقرر"
(4)
.
[تجديد الدين بإنشاء وتعاقب الأجيال في الأمم]
قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)} [سورة المائدة: 26]
8.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة، فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها"
(5)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 613).
(2)
البحر المحيط (4/ 197).
(3)
مفاتيح الغيب (11/ 321).
(4)
التحرير والتنوير (6/ 136).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 279)
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن الإلهية، في مسألة تجديد الدين بإنشاء وتعاقب الأجيال في الأمم، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: من عاش في مهد الاستبداد والظلم والاضطهاد تفسد أخلاقه وتصير كالموروثات المكتسبة والغرائز الفطرية وعليه يصعب انتزاعها، ولما علم الله من نفوس هؤلاء عدم طاعة أمر الله، وأن ما وعد الله لن يتحقق إلا بفناء هذا الجيل وإيجاد جيل جديد، وفق سنة الله في الاجتماع البشري، يعيد صلاح الأمة بحرية واستقلال وعزة قائمة على معرفة الشريعة والعمل بفضائلها، ولذا منع الله عليهم دخول هذه القرية، وجعلهم في تيه حتى ماتوا جميعا، أما أبناؤهم فهم الذين تسلموا الراية وقاتلوا كما أمر الله ودخلوا تلك القرية.
وهو استنباط عميق بنى عليه علم الاجتماع قواعده وأسسه في دراسة المجتمعات وتغير الأجيال، فقد دلت لفظة (فإنها محرمة) على الحكمة من العذاب.
وقد أشار بعض المفسرين إلى بيان معنى التحريم هل هو عام للجميع، أم أن أبناءهم مستثنون من هذا، ولم يوضحوا سبب هذا الفناء: أن التحريم ليس تعبديا وإنما هو تحريم منع، لهؤلاء الأباء، أما أبناؤهم الذين لم يعملوا الشر فسيدخلون تلك القرية
(1)
قال البغوي: "ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قالوا: إنا لن ندخلها أبدا فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة، ونشأت النواشئ من ذراريهم ساروا إلى حرب الجبارين"
(2)
، ومثله الزمخشري وابن عطية
(3)
.
وأشار ابن سعدي للحكمة التي أوردها الشيخ محمد رشيد رضا، فقال:"ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة"
(4)
، ومثله الدوسري والهرري
(5)
.
وقد حمل كلام ابن خلدون تأصيلا واضحا لاستنباط الشيخ هنا، فقد قال:"ويظهر من مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب، ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم"
(6)
.
(1)
انظر: تفسير معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 35)، المحرر الوجيز (2/ 176)، مفاتيح الغيب (11/ 336)، أنوار التنزيل في تفسير القرآن (2/ 122)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 129).
(2)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 35).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 622)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 176).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 228).
(5)
صفوة الآثار والمفاهيم (8/ 370)، حدائق الروح (7/ 211).
(6)
في مقدمته (الفصل التاسع عشر 134).
[صراع النفس والاستجابة لدواعي المعصية أو دواعي الطاعة]
قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} [سورة المائدة: 30]
9.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن هذه الكلمة تدل على تدريج وتكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد الداعي إلى القتل، فولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله، وهو بين إقدام وإحجام، يفكر في كل كلمة من كلمات أخيه الحكمية، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة، يدعم ويؤيد ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة والهيبة، فكر الحسد من نفسه الأمارة على كل صارف في نفسه اللوامة، فلا يزالان يتنازعان ويتجاذبان حتى يغلب الحسد كلا منها ويجذبه إلى الطاعة، فإطاعة صوارف الفطرة وصوارف الموعظة لداعي الحسد هو التطوع الذي عناه الله تعالى"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السلوك، في مسألة صراع النفس والاستجابة لدواعي المعصية أو دواعي الطاعة، بدلالة الألفاظ.
وجه الاستنباط: لفظة (طوعت) حملت معنى مغايرا ومتباينا عن معاني الكلمات المرادفة لها التي استرسل المفسرون في ذكرها مثل: (شجعت، ووسعت، وسهلت، وزينت، ونحوها من الألفاظ)
(2)
، فلم يحدث ما ترتب على معنى هذه الكلمة إلا بعد مراحل من المنازعات النفسية، وبعد صراع كبير بين النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة، والذي انتهى بغلبة النفس الأمارة بالسوء، وهكذا في مواقف أخرى قد ينتهي الصراع بغلبة داعي الإيمان والخير والنفس اللوامة، فيسلم صاحبها من عواقب الأمور، وهذا كله يؤكد حقيقة الصراع بين دواعي المعصية والحسد، وبين دواعي الطاعة والفطرة.
وكذا في لسان العرب
(3)
، وإن كان كل منها يشير إلى حاصل المعنى في الجملة، والتي لا زالت كلمة طوعت تحمل معنى أعمق وأوسع منها، إذ كان من معناها التدرج والتكرار، وما لذلك من أثر نفسي في القاتل، وتصارع في نفسه بين أمر النفس اللوامة التي تأمره بالفطرة والعقل والقرابة، وبين أمر النفس الأمارة التي تصرفه عن الحق بداعي الحسد.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 285).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن ت شاكر (10/ 220)، معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 40)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 626)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 124)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 138).
(3)
لسان العرب (8/ 241).
والرازي فقال: "وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر، فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله، فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يطيعه بوجه البتة، فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلا عليه، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه"
(1)
.
وقال ابن حيان: "وطوعت: فعل من الطوع وهو الانقياد، كأن القتل كان ممتنعا عليه متعاصيا، وأصله: طاع له قتل أخيه أي انقاد له وسهل، ثم عدي بالتضعيف فصار الفاعل مفعولا والمعنى: أن القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس، فردته هذه النفس اللحوح الأمارة بالسوء طائعا منقادا حتى أوقعه صاحب هذه النفس"
(2)
.
وقال ابن عاشور: " (وطوع) معناه جعله طائعا، أي مكنه من المطوع، والطوع والطواعية: ضد الإكراه، والتطويع: محاولة الطوع، شبه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقل والخشية"
(3)
.
[الحدود الشرعية سبيل لحفظ وحدة البشر]
10.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "فالآية تعلمنا ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع، واتقائه ضرر كل فرد؛ لأن انتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع، والقيام بحق الفرد من حيث إنه عضو من النوع، وما قرر له من حقوق المساواة في الشرع، قيام بحق الجميع. وقد غفل عن هذا المعنى العالي من جعل التشبيه في الآية مشكلا يحتاج إلى التخريج والتأويل"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب الكليات الخمس، في مسألة الحدود الشرعية سبيل لحفظ وحدة البشر، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: الآية ترشد إلى المحافظة على حياة الناس والسعي في مساعدتهم والحفاظ على حياتهم، والبعد عن كل ما من شأنه المساس بحياتهم، وقد ربط الشيخ ربطاً جميلا بين هذا المعنى في الآية وبين قواعد علم الاجتماع في أسس بناء المجتمع، والحرص على وحدة الأمة والحفاظ على حياة الناس، فإن ذلك من مقاصد الشريعة على مستوى أمة الدعوة.
(1)
مفاتيح الغيب (11/ 340).
(2)
البحر المحيط في التفسير (4/ 232).
(3)
التحرير والتنوير (6/ 172).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 289).
وهذا المعنى لم يتطرق إليه أحد من المفسرين وإنما دار كلامهم حول القتل وأسبابه وحكم القصاص فيه.
قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت: لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على الله وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته وعلى العكس، فلا فرق إذا بين الواحد والجميع في ذلك. فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعا عظم ذلك عليه فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها، وعن مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم، وغضب الله، والعذاب العظيم، ولو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك"
(1)
.
وقال ابن عطية: "والذي أقول إن الشبه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات، لكن الشبه قد تحصل من ثلاث جهات، إحداها القود فإنه واحد، والثانية الوعيد، فقد توعد الله قاتل النفس بالخلود في النار، وتلك غاية العذاب، فإن فرضناه يخرج من النار بعد بسبب التوحيد فكذلك قاتل الجميع ان لو اتفق ذلك، والثالثة انتهاك الحرمة، فإن نفسا واحدة، في ذلك وجميع الأنفس سواء، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع
(2)
.
[إقامة العدل وتطبيق الحدود منوط بالدولة القوية المستقرة]
11.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "إن الآية تدل دلالة صريحة على أن هذا العقاب خاص بمن يفسدون في الأرض بالسلب والنهب، أو القتل، أو إهلاك الحرث والنسل، ومثل ذلك -أو منه- الاعتداء على الأعراض إذا كانوا محاربين لله ورسوله بقوة يمتنعون بها من الإذعان والخضوع لشرعه، ولا يتأتى ذلك إلا حيث يقام شرعه العادل من دار الإسلام"
(3)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 627).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 182).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 297).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب السياسة الشرعية، في مسألة إقامة العدل وتطبيق الحدود منوط بالدولة القوية المستقرة، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: تنفيذ حدود الله وإقامة العدل لا يتم إلا في حال قوة الدين وقيام دولته وشرعه، وهذا حق في المسألة، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم هذه الحدود إلا بعد قيام دولة المدينة، فإن مقصد إقامة هذه الحدود لا يتحقق إلا بدولة ذات سلطان، يتحقق من خلالها مقاصد الشريعة في تلك الحدود.
وهذا من الاستنباطات الرائعة للشيخ رشيد رضا التي انفرد بها عن المفسرين، وهي من المسائل التي اعتنت بها كتب ودراسات السياسة الشرعية.
وهذا استنباط لم يسبق إليه الشيخ، فيما بحثته من كتب التفسير.
[عداوة اليهود والنصارى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مبنية على الحمية للعرق لا الدين]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [سورة المائدة: 51]
12.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ونكتة التعبير عنهم باليهود والنصارى دون أهل الكتاب هي أن معاداتهم للنبي والمؤمنين إنما كانت بحسب جنسياتهم السياسية، لا من حيث أن كتابهم يأمرهم بذلك"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الولاء والبراء، في مسألة عداوة اليهود والنصارى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مبنية على الحمية للعرق لا الدين، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: استخدام لفظ أصل الانتماء العرقي بدلا من لفظ الانتماء الديني يدل على الحمية العرقية، وكيف أن سبب العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مبنية على الحمية العرقية عند اليهود والنصارى، وأن كتبهم بريئة من هذه الحمية الجاهلية، وهذه المسألة قد بينت العقيدة الإسلامية، في أصل الولاء والبراء، أن الحمية الشرعية تكون في الدين وللمؤمنين حسب إيمانهم وديانتهم، ولا تكون هذه الحمية لعرق أو جنس أو وطن أو غير ذلك من أصول الجاهلية.
وهذا استنباط جميل للشيخ لم أجد من المفسرين من تكلم عنه في ظل هذه الآية.
وهذه مسألة قد تقررت في مصادر العقيدة الإسلامية، في أصل الولاء والبراء ومعناه.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 352)
وقد اعتنت كتب العقيدة بهذه المسألة عناية تامة وأصلتها بالنصوص وأقوال العلماء، وقد لخص الإمام ابن تيمية مذهب أهل السنة والجماعة في هذا فقال:"الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعادة إنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان. قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فإن حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة: 55 - 56]، وقال: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [سورة المائدة: 51]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [سورة التوبة: 71]، ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي كما يقول الخوارج والمعتزلة"
(1)
(2)
.
[معصية العالم أعظم جرما من معصية الجاهل وأشد فتكا بالمجتمع]
قال تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [سورة المائدة: 62 - 63]
13.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والذي أفهمه أن معاصي العوام من قبيل ما يحصل بالطبع، لأنه اندفاع مع الشهوة بلا بصيرة، ومعصية العلماء بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف من قبيل الصناعة المتكلفة، لفائدة للصانع فيها يلتمسها ممن يصنع له، وما ترك العلماء النهي عن المنكر، وهم يعلمون ما أخذ الله عليهم من الميثاق، إلا تكلفا لإرضاء الناس، وتحاميا لتنفيرهم منهم، فهو إيثار لرضاهم على رضوان الله وثوابه، والأقرب أن يكون من الصنع، لا من الصناعة، وهو العمل الذي يقدمه المرء لغيره يرضيه به"
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (ص 108 - 201)، الطبعة الأولى سنة 1349 هـ مطبعة المنار بمصر.
(2)
للاستزادة، انظر: الولاء والبراء في الإسلام (ص: 138)، والمفيد في مهمات التوحيد (ص: 199)، وغيرها من كتب العقيدة.
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 373).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مسألة معصية العالم أعظم جرما من معصية الجاهل وأشد فتكا بالمجتمع، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: العوام يكون سبب معاصيهم الاندفاع وراء الشهوات بلا علم بأحكامها، وأما العلماء فإن معاصيهم بسبب تركهم للعمل بما أمر الله، وما أمرهم به من النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وفي هذا بيان لأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه سبب البركة في كل شيء، وفيه بيان خطر معصية العلماء، فإنه يتبعها تسهيل للمعصية، وإقرار للعاصي بالسكوت عنه.
قال الرازي: "والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي، وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين (على الإثم والعدوان وأكل السحت لبئس ما كانوا يعملون) [المائدة: 62]، وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر لبئس ما كانوا يصنعون والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا، فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا"
(1)
، وبنحوه عند الزمخشري
(2)
.
وقال القرطبي: "ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال: (لبئس ما كانوا يصنعون) كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله: "لبئس ما كانوا يعملون"، ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"
(3)
.
وقال البيضاوي: "لبئس ما كانوا يصنعون أبلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وترو وتحري إجادة، ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسبة أقبح من مواقعه المعصية، لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم"
(4)
، وبنحوه قال النسفي، وأبو حيان، وأبو السعود
(5)
.
(1)
مفاتيح الغيب (12/ 393).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 654)
(3)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 237).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 134).
(5)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 459)، البحر المحيط في التفسير (4/ 312)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 57)، التحرير والتنوير (6/ 248).
[توسيع الله وتقتيره على عباده في الرزق وفق ما يصلحهم]
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [سورة المائدة: 64]
14.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والنكتة في قوله: (كَيْفَ يَشَاءُ) بيان أن تقتير الرزاق على بعض العباد، الجاري على وفق الحكمة وسنن الله تعالى في الاجتماع لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق، بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة توسيع الله وتقتيره على عباده في الرزق وفق ما يصلحهم، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: دلت الآية على إثبات المشيئة لله عز وجل وأن تقتيره على بعض الناس وإغداقه على بعضهم، إنما هو جار على سنن الله الكونية، وليس تفضيلا لأحد على أحد، بل وفق حكمته وفضله وعدله، وبذلك استقامت السماوات والأرض، وفي هذا رد على المعتزلة ومن شاكلهم، ممن خلطوا بين المشيئة والإرادة وبين الحكمة والعدل، ولم يهتدوا إلى ما فيها من معان تليق بالله عز وجل.
قال الرازي: "واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة، وذلك لأنهم قالوا: يجب على الله تعالى إعطاء الثواب للمطيع، ويجب عليه أن لا يعاقبه، ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة، ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه، فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل، فهم في الحقيقة قائلون بأن يد الله مغلولة وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه، وليس لأحد عليه استحقاق، ولا لأحد عليه اعتراض كما قال قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [المائدة: 17]، فقوله سبحانه: بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم"
(2)
.
قال أبو السعود: " {بل يداه مبسوطتان} عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس كذلك بل هو في غاية ما يكون من الجود وإليه أشير بتثنية اليد فإن أقصى ما ينتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا ما يعطونه بكلتا يديهم وقيل التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة وقيل على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا {ينفق كيف يشاء} جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده وللتنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على تلك الكفرة العظيمة والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيق عليهم
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 377).
(2)
مفاتيح الغيب (12/ 396).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 58).
[سبب عداوة أهل الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه من غير جنسهم]
15.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وأما إسناد إنزاله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لإفادة أنه أوحي إليه فقط، بل يشعر مع ذلك بأن إنزاله إليه سبب لطغيانهم وكفرهم، وأنهم لم يكفروا به لأجل إنكارهم لعقائده وآدابه وشرائعه أو استقباحهم، بل لعداوة الرسول الذي أنزل إليه وعداوة قومه العرب"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان بالرسل، في مسألة سبب عداوة أهل الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه من غير جنسهم، بدلالة اللغة من إسناد الإنزال للرسول صلى الله عليه وسلم.
وجه الاستنباط: عداوة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليس لأنه جاء بوحي جديد وإنما كان بسبب خروجه من جنس غير جنسهم، مع أن كتبهم أشارت إليه وإلى صفاته صلى الله عليه وسلم وأمره لهم باتباعه، ولكن عداوتهم له وللعرب طغت على ما أمروا به فحلت عليهم لعنة الله وغضبه.
قال ابن عطية: "أخبر تعالى نبيه أنه سيطغى كثير منهم بسبب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويزيده نزول القرآن والشرع كفرا وحسدا، ثم سلاه عنهم وحقرهم بقوله {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} أي لا تحزن إذ لم يؤمنوا ولا تبال عنهم"
(2)
.
قال البيضاوي: " (حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقه والمعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له، والمراد إقامة أصولها وما لم ينسخ من فروعها"
(3)
.
وقال أبو السعود: "وقوله تعالى {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا} جملة مستأنفة مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولها والمراد بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 394).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 218).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 136).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 62).
قال أبو زهرة: "قد تكلمنا في معنى هذا النص الكريم، وما فيه من توكيد، وذكرنا أن القرآن المنصف لَا يحكم على الجميع بالشر، وفيهم أخيار، ولذلك كان حكمه على الكثرة لَا على القلة، وإن طغيانهم هو ظلمهم للحقائق، وإفراطهم فيما يطغون به على أهل الإيمان، وأشرنا إلى علة ذلك وهي حقدهم، وحسدهم، وأن النعمة تجيء إلى المحسود، فتزيد الحاسد حقدا وضغنا"
(1)
.
[شناعة وقبح جريمة القتل وأن قتل الأنبياء أشد شناعة وقبحا]
قال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)} [سورة المائدة: 70]
16.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والتعبير عن القتل بالمضارع مع كونه كالتكذيب وقع في الماضي نكتته تصوير جرم القتل الشنيع واستحضار هيئته المنكرة كأنه واقع في الحال للمبالغة في النعي عليهم والتوبيخ لهم. فقد أفادت الآية أنهم بلغوا من الفساد واتباع أهوائهم أخشن مركب وأشده تقحما بهم في الضلال حتى لم يعد يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل وهديهم، بل صار يغريهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة الأخيار
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الكفر، في مسألة شناعة وقبح جريمة القتل، وأن قتل الأنبياء أشد شناعة وقبحا، بدلالة الفعل المضارع.
وجه الاستنباط: تصوير القتل بالفعل المضارع مع وقوعه في الماضي أوقع في النعي عليهم والتوبيخ لهم والتشنيع بجريمة القتل التي شنع عليهم في حق غير الأنبياء فكيف بحالها مع الأنبياء، وبيان ما بلغوا فيه من الفساد واتباع الهوى، وفي هذا تحذير بليغ من معصية القتل وأثرها البالغ في الإفساد.
قال الزمخشري: "جيء يقتلون على حكاية لحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها"
(3)
. وكذا عند البيضاوي
(4)
.
وقال أبو حيان: "وأتى بفعل القتل مضارعا، إما لكونه حكيت أنه الحال الماضية، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه، ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي التي هي فواصل، وإما لكونه مستقبلا، لأنهم يرومون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك سحروه وسموه"
(5)
.
(1)
زهرة التفاسير (5/ 2292).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(6/ 398).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 663).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 93).
(5)
البحر المحيط في التفسير (1/ 483).
قال ابن عاشور: "وجاء في تقتلون بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم مع ما في صيغة تقتلون من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم"
(1)
.
قال الألوسي: "وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية واستحضارا لصورتها لفظاعتها واستعظامها، أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض"
(2)
.
[تحريم الطيبات تدينا خروج عن الفطرة والشريعة]
قال تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [سورة المائدة: 88]
17.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "الأمر ههنا للوجوب لا للإباحة، فهو ليس من الأمر بالشيء بعد النهي عنه المفيد للإباحة فقط، كقوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [سورة المائدة: 2] وإنما هو تصريح بأن امتثال النهي عن تحريم الطيبات لا يتحقق إلا بالانتفاع بها فعلا، إذ ليس المراد بتحريمها المنهي عنه تحريمها بمجرد القول أو بالاعتقاد، بل المراد به أولا وبالذات الامتناع منها عمدا تقربا إلى الله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها، أو إضعافها للجسد توهما أن إضعافه يقوي الروح، أو لغير ذلك من الأسباب والعلل، وحكمة النهي عن ذلك أن الله تعالى يحب من عباده أن يقبلوا نعمه ويستعملوها فيما أنعم بها لأجله ويشكروا له ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الفطرة التي فطرهم عليها، فيمنعوها حقوقها"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الفطرة، في مسألة تحريم الطيبات تدينا خروج عن الفطرة والشريعة، بدلالة التضمن.
وجه الاستباط: أمر الله بالأكل من الطبيبات تأكيدا على النهي عن تحريم هذه الطيبات وأن تحريمها لا يكون ديانة، وأن ذلك من الخطأ البين، وهذا خروج من وصف الأمة بأنها أمة وسط وعدل، فإن مقتضى ذلك الدوران مع الشريعة حيث أمرت وأحلت، وحيث نهت وحرمت، ففي ذلك كل الخير، ولا يمكن أن يكون الخير في تحريم ما أحلته وأباحته على النفس.
(1)
التحرير والتنوير (1/ 598).
(2)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (1/ 318).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 23 - 24).
وأقرب من وافقه ابن عاشور حيث قال: "وقوله: (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) تأكيد للنهي عن تحريم الطيبات وهو معطوف على قوله: لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم أي أن الله وسع عليكم بالحلال فلا تعتدوه إلى الحرام فتكفروا النعمة ولا تتركوه بالتحريم فتعرضوا عن النعمة"
(1)
.
قال الرازي: "المسألة الثانية: قوله حلالا طيبا يحتمل أن يكون متعلقا بالأكل، وأن يكون متعلقا بالمأكول، فعلى الأول يكون التقدير: كلوا حلالا طيبا مما رزقكم الله، وعلى التقدير الثاني: كلوا من الرزق الذي يكون حلالا طيبا، أما على التقدير الأول فإنه حجة المعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالا، وذلك لأن الآية على هذا التقدير دالة على الإذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن الله تعالى في أكل الحلال، فيلزم أن يكون كل ما كان رزقا كان حلالا، وأما على التقدير الثاني فإنه حجة لأصحابنا على أن الرزق قد يكون حراما لأنه تعالى خصص إذن الأكل بالرزق الذي يكون حلالا طيبا ولولا أن الرزق قد لا يكون حلالا وإلا لم يكن لهذا التخصيص والتقييد فائدة"
(2)
.
وقال ابن سعدي: "الله قد نهى عن الاعتداء فقال: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك، ثم أمر بضد ما عليه المشركون، الذين يحرمون ما أحل الله فقال: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} أي: كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم، بما يسره من الأسباب"
(3)
.
[حقيقة التقوى بحفظ حقوق الجسد والروح معا]
قال تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [سورة المائدة: 88]
18.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والأمر بالتقوى في هذا المقام أوسع معنى وأعم فائدة من النهي عن الإسراف في آية الأعراف التي أوردناها آنفا، فهو من باب الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد، وبه يدفع إشكال من عساه يقول: إن الدين شرع لتزكية النفس، والتمتع بالشهوات واللذات ينافي التزكية وإن اقتصر فيه على المباحات"
(4)
.
(1)
التحرير والتنوير (7/ 17).
(2)
مفاتيح الغيب (12/ 418).
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 242).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 25).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة حقيقة التقوى بحفظ حقوق الجسد والروح معا، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: الأمر بالتقوى أعم دلالة من النهي عن الإسراف، فالتقوى مطلب ومقصد شرعي من أجله خلق الله الخلق، ومنه النهي عن الإسراف تحقيقا للتقوى، وبذلك يتحقق الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد، فلا يعتقد معتقد أن التقوى تكون في تضييع حقوق الجسد، أو المبالغة في حقوق الروح بما لم يشرعه الله.
ومن خلال استعراض أقوال المفسرين، لم أجد من ذكر المعنى الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله.
قال الرازي: "أما قوله واتقوا الله فهو تأكيد للتوصية بما أمر به، زاده توكيدا بقوله تعالى: أنتم به مؤمنون لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه"
(1)
، وكذا قال النسفي، وأبو حيان، وأبو السعود
(2)
.
وقال ابن عاشور: "وقوله واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون جاء بالموصول للإيماء إلى علة الأمر بالتقوى، أي لأن شأن الإيمان أن يقتضي التقوى، فلما آمنتم بالله واهتديتم إلى الإيمان فكملوه بالتقوى"
(3)
.
[التمييز بين الخبيث والطيب قاعدة قامت عليها قضايا شرعية كلية]
قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} [سورة المائدة: 100]
19.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "فهذه الآية قاعدة في التشريع وبرهان للقياس الصحيح وأصل للأدب والتهذيب"
(4)
(5)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب القواعد الفقهية، في مسألة التمييز بين الخبيث والطيب قاعدة قامت عليها قضايا شرعية كلية، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: دلت الآية على قاعدة تشريعية، وهي التفاوت بين الخبيث والطيب وكونهما لا يستويان في الحكم كما أنهما لا يستويان في أنفسهما وفيما يترتب عليهما، فهي أصل من أصول التحليل والتحريم في الطعام وغيره
(6)
، كما دلت على إثبات القياس، ودلت كذلك على أصول أدب وتهذيب النفوس، فكانت الآية مقياسا ومعيارا شرعيا على أمور وقضايا كلية في الشريعة.
(1)
مفاتيح الغيب (12/ 418).
(2)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 471)، البحر المحيط في التفسير (4/ 350)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 74).
(3)
التحرير والتنوير (7/ 18).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 105).
(5)
هذه الجملة موجودة في نسخة تفسير المنار، ط: الهيئة المصرية العامة للكتاب، والتي نشرت عام 990 م.
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 229).
قال البيضاوي: "قل لا يستوي الخبيث والطيب حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها، رغب به في مصالح العمل وحلال المال، ولو أعجبك كثرة الخبيث فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير"
(1)
.
وقال أبو حيان: "والظاهر أن الخبيث والطيب عامان فيندرج تحتهما حلال المال وحرامه وصالح العمل وفاسده وجيد الناس ورديئهم وصحيح العقائد وفاسدها والخبيث من هذا كله لا يصلح ولا يحب ولا يحسن له عاقبة والطيب ولو قل نافع جيد العاقب"
(2)
.
وقال أبو السعود: "عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وبين جيدها قصد به الترغيب في جيد كل منها والتحذير عن رديئها"
(3)
.
وقال الشوكاني: "قيل: المراد بالخبيث والطيب: الحرام والحلال، وقيل: المؤمن والكافر، وقيل: العاصي والمطيع، وقيل: الرديء والجيد، والأولى أن الاعتبار بعموم اللفظ فيشمل هذه المذكورات وغيرها مما يتصف بوصف الخبث والطيب من الأشخاص والأعمال والأقوال، فالخبيث لا يساوي الطيب بحال من الأحوال"
(4)
.
قال ابن عاشور موضح لهذه القاعدة دون الإشارة إليها: "ومعنى لا يستوي نفي المساواة، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة، والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية، والمقام هو الذي يعين الفاضل من المفضول، فإن جعل أحدهما خبيثا والآخر طيبا يعين أن المراد تفضيل الطيب. ولما كان من المعلوم أن الخبيث لا يساوي الطيب وأن البون بينهما بعيد، علم السامع من هذا أن المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيب في كل ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أن ثمة خبيثا قد التف في لباس الحسن فتموه على الناظرين، ولذلك قال ولو أعجبك كثرة الخبيث، فكان الخبيث المقصود في الآية شيئا تلبس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته، ففتح أعينهم للتأمل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته"
(5)
، وأيضا أشار إلى هذه القاعدة أبو زهرة
(6)
.
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 145).
(2)
البحر المحيط في التفسير (4/ 375).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 83).
(4)
فتح القدير (2/ 92).
(5)
التحرير والتنوير (7/ 63).
(6)
زهرة التفاسير (5/ 2368 - 2369).
[النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر بيان شيء عن وقت الحاجة]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [سورة المائدة: 101]
20.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وهذه الآية تدل على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو على أنه لا يقع، وقد غفل جمهور الأصوليين عن الاستدلال بها، وبيان ذلك أن ما يسأل عنه إما أن يكون مما يطلب العلم به كالعقائد والأخبار، وإما أن يكون مما يطلب العمل به وهو الأحكام، وتأخير البيان - دع تركه وعدمه - يقتضي الإقرار على الاعتقاد الباطل، أو العمل بغير الوجه المراد للشارع، إلا أن يكون من شرعه تركه الاجتهاد للناس توسعة عليهم، ولا يدخل في هذا ولا ذاك السؤال عن الأمور الشخصية كسؤال من سأل عن ناقته، ولذلك جعلنا هذا النوع من السؤال غاية في خفاء دخوله في عموم: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا) فإن كان داخلا فيه فحكمته والله أعلم أن عدم إبداء الجواب للسائل المؤمن ربما كان مشككا له في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم "
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب التشريع، في مسألة النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر بيان شيء عن وقت الحاجة، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: دلت الآية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤخر بيان أي شيء عن وقت الحاجة إلى بيانه، واعتبر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فدلت الآية على هذا المعنى بمفهومها، ومن خلال النهي عن السؤال عما لا يعني، وما يترتب على ذلك من حصول السوء والألم، وإن رسول الله لن يؤخر عنكم بيانا عن وقت حاجته.
ولم أجد أحدا من المفسرين تطرق لهذا المعنى عند تفسير هذه الآية، فهو مما تفرد به الشيخ، إلا عبارة للإمام ابن جرير رحمه الله حيث قال:"وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ، كمسألة ابن حذافة إياه مَن أبوه، ومسألة سائله إذ قال: "الله فرض عليكم الحج"، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 114).
(2)
جامع البيان ت شاكر (11/ 112).
[نعيم المؤمنين في الجنة حسي ومعنوي]
قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [سورة المائدة: 119]
21.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والإشارة في قوله تعالى: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إلى كل من النعيمين الجثماني والروحاني اللذين يحصلان بعد النجاة من أهوال يوم القيامة، وقيل: إنه للثاني فقط، والأول أصح لأنه الأكمل ولأن مثل هذا الإطلاق ورد في إثر إطلاق الجزاء وفي إثر إطلاق الجزاء بالجنة مع النجاة من عذاب النار كما تراه في آخر سورة الدخان، وفي معناه ما في سورة المؤمن والحديد والصف والتغابن، فإن ذكر المغفرة فيها يتضمن معنى النجاة من عذاب النار بالجنة وحدها في آيتين من سورة التوبة غير الآية التي أوردناها آنفا"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الأيمان باليوم الآخر، في مسألة نعيم المؤمنين في الجنة حسي ومعنوي، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: من خلال استقراء النصوص ودلالاتها، قرر الشيخ أن النعيم المتحقق للمؤمنين يشمل نوعي النعيم الجسماني الجثماني والروحاني، اللذان يحصلان بعد النجاة من أهوال يوم القيامة، وأن دلالة اللفظ على كل معناه، ما لم ينحصر هذا المعنى بقرينة دلت على ذلك، وهذا يعطي النصوص كامل معناها وما يترتب عليها من عقائد وأحكام.
وذكر بعض المفسرين المعنى العام للفوز العظيم، ومنهم ابن جرير رحمه الله فقال:"ذلك الفوز العظيم" يقول: هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، مرضيًّا عنهم وراضين عن ربهم، هو الظفر العظيم بالطَّلِبة، وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا، ولها كانوا يعملون فيها، فنالوا ما طلبوا، وأدركوا ما أمَّلوا"
(2)
.
قال الشوكاني: "والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبدا، ورضوان الله عنهم، والفوز: الظفر بالمطلوب على أتم الأحوال"
(3)
.
قال أبو حيان: "ذلك الفوز العظيم ذلك إشارة إلى ما تقدم من كينونة الجنة لهم على التأييد وإلى رضوان الله عنهم، لأن الجنة بما فيها كالعدم بالنسبة إلى رضوان الله"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 229).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (11/ 245).
(3)
فتح القدير (2/ 109).
(4)
البحر المحيط التفسير (4/ 423).
قال أبو زهرة: "من كانت هذه حاله ينفعه صدقه؛ لأنه صدق القول والنفس والعمل، له جزاؤه في الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار، وفي ذلك النعيم خالد خلودا أبديا لا نهاية له، وفوق هذا الجزاء المادي الحسي، هناك جزاء معنوي وهو رضوان من الله، وهو أكبر من كل جزاء، ولذلك رضي الله عن الصادقين فهم مقربون إليه زلفى، وهم لَا يرضون بربهم بديلا ولا شريكا في عبادة أو قربى، أو استعانة أو استجابة، فالله ملء قلوبهم يعبدونه كأنهم يرونه، وإن ذلك هو الفوز العظيم الذي لَا فوز يماثله أو يقاربه"
(1)
.
(1)
زهرة التفاسير (5/ 2414).
استنباطات سورة الأنعام
[الشرك بالله أمر تنكره الفطرة والعقل]
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [سورة الأنعام: 1]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وقد عطفت بثم الدالة على بعد ما بين مدلولي المعطوف والمعطوف عليه، لإفادة استبعاد ما فعله الكافرون وكونه ضد ما كان يجب عليهم للإله الحقيق بجميع المحامد، لكونه هو الخالق لجميع الكون العلوي والسفلي وما فيه من الظلمات الحسية والمعنوية، والهادي لما فيه من النور الذي يهتدي به الموفقون في كل ظلمة منها، كأنه قال: وهم مع ذلك يعدلون به غيره أي يجعلونه عدلا له، أي عديلا مساويا له في كونه يعبد ويدعى لكشف الضر وجلب النفع، فهو بمعنى يشركون به، ويتخذون له أندادا"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الألوهية، في مسألة الشرك بالله أمر تنكره الفطرة والعقل، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: ابتدأ الله عز وجل السورة بالحمد والثناء على نفسه، وأنه الخالق المدبر لكل شيء، وأن ذلك لحكمة وغاية تتحقق بتوحيد الخلق له عز وجل، ثم كيف أن الكافرين بربهم أشركوا وعدلوا به غيره، وفي هذا تقبيح لما فعله هؤلاء المشركين، الذين جعلوا لله أندادا، يدعونهم من دون الله الخالق لجميع الكون العلوي والسفلي، فناسب أن يعطف بثم لاستلزامه معنى التوبيخ والتقريع عليهم، وإنكار أمر دلت عليه الفطرة قبل كل شيء.
وقد ذكر هذا المعنى جمع من المفسرين منهم ابن عطية فقال: "وقوله تعالى: ثُمَّ دالة على قبح فعل الَّذِينَ كَفَرُوا لأن المعنى أن خلقه (السموات والأرض) وغيرهما قد تقرر، وآياته قد سطعت، وأنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني، أي بعد مهلة من وقوع هذا كله، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 247).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 266).
وقال الزمخشري: "فإن قلت: فما معنى ثم؟ قلت: استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته، وكذلك ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم"
(1)
، ومثله الرازي والبيضاوي والنسفي
(2)
.
وقال أبو السعود: "وكلمة ثم لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه لا بعد بيانه بالآيات التنويلية والموصول عبارة عن طائفة الكفار جار مجرى الاسم لهام من غير أن يجعل كفرهم بما يجب أن يؤمن به كلا أو بعضا عنوانا للموضوع فإن ذلك مخل باستبعاد ما أسند إليهم من الإشراك"
(3)
، ومثله الشوكاني
(4)
، وممن قال بالاستبعاد، القاسمي وابن عاشور وأبو زهرة
(5)
.
وخالف في هذا ابن حيان فقال: "وهذا الاستبعاد لا يستفاد من العطف بثم، وإنما يستفاد من مجيء هذه الجمل ووقوعها بعد ما تقدم مما لا يقتضي وقوعها، ولأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر، فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابة إلى الله"
(6)
.
[الدعوة إلى إعمال العقل في إثبات التوحيد]
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} [سورة الأنعام: 2]
2.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "هذا كلام مستأنف جاء على الالتفات عن وصف الخالق تعالى بما دل على حمده وتوحيده إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة، يذكرهم به بما هو ألصق بهم من دلائل التوحيد والبعث، وهو خلقهم من الطين"
(7)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الألوهية، في مسألة الدعوة إلى إعمال العقل في إثبات التوحيد، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: استمر الخطاب العقلي للمشركين، وتوجيه الخطاب إليهم، استنكارا واستغرابا لما فعلوه من الشرك والعدل بالله، فإن العقل لا يدل ولا يشير إلى شركهم من قريب أو بعيد، وهذا أقوى تأثيرا، وتوبيخا، وتشنيعا لهم، وادعى للنظر في دلائل التوحيد والبعث.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 4).
(2)
مفاتيح الغيب (12/ 479)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 153)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 490).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 105).
(4)
فتح القدير (2/ 113).
(5)
محاسن التأويل (4/ 312)، التحرير والتنوير (7/ 128)، زهرة التفاسير (5/ 2432).
(6)
البحر المحيط في التفسير (1/ 422).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 247).
وقد وافق الشيخَ في ذلك أبو السعود حيث قال: "استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به إثر بيان بطلان إشراكهم به تعالى مع معاينتهم لموجبات توحيده وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث مع أن ما ذكر من خلق السموات والأرض من أوضحها وأظهرها"
(1)
، ونقل ذلك الألوسي
(2)
.
[إنزال الوحي وبعث الرسل وهداية الخلق من مقتضى توحيد الربوبية]
قال تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)} [سورة الأنعام: 4]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وإضافة الآيات إلى الرب تفيد أن إنزاله الوحي، وبعثه للرسل وتأييدهم، وهدايته للخلق بهم، كله من مقتضى ربوبيته، أي مقتضى كونه هو السيد المالك المربي لخلقه المدبر لأمورهم على الوجه الموافق للحكمة"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة إنزال الوحي وبعث الرسل وهداية الخلق من مقتضى توحيد الربوبية، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: من مقتضيات توحيد الربوبية، خلق الخلق، وهدايتهم لما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، بإنزال الوحي، وبعث الرسل، وفي أسلوب الإضافة هنا تفخيم وتشنيع وتسجيل العقوق على هؤلاء الذين كفروا بهذه الآيات المنزلة من عند الله وبما جاء به الرسل وما أيدوا به من معجزات الدلالة على أنه المبعود المستحق للعبادة وحده.
قال أبو السعود: "وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المتتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها والمراد بها إما الآيات التنزيلية فإتيانها نزولا والمعنى ما ينزل إليهم آية من الآيات القرآنية التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله عز وجل المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته تعالى على كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال الخلق وأعمالهم الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها"
(4)
.
وقال ابن عاشور: "وإضافة الرب إلى ضمير هم لقصد التسجيل عليهم بالعقوق لحق العبودية، لأن من حق العبد أن يقبل على ما يأتيه من ربه وعلى من يأتيه يقول له: إني مرسل إليك من ربك، ثم يتأمل وينظر، وليس من حقه أن يعرض عن ذلك إذ لعله يعرض عما إن تأمله علم أنه من عند ربه"
(5)
.
(1)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 106).
(2)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (4/ 83).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 252).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 109).
(5)
التحرير والتنوير (7/ 134).
قال الزمخشري: "من آيات ربهم للتبعيض، يعنى: وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار، إلا كانوا عنه معرضين: تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأسا، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب فقد كذبوا مردود على كلام محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها"
(1)
، وذكر ذلك الرازي والبيضاوي والنسفي وأبو حيان
(2)
.
[الاستهزاء سبب التكذيب بالحق وهو سبيل غير المؤمنين]
قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)} [سورة الأنعام: 5]
4.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وقد دلت الآية على ما جاء مصرحا به في سورة أخرى من استهزاء مشركي مكة والكلام فيهم بوعد الله ووعيده، وكذا بآياته ورسله، ولا حاجة إلى تقدير ذلك في الكلام، فهو وإن لم يقدر من بدائع إيجاز القرآن"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة الاستهزاء سبب التكذيب بالحق وهو سبيل غير المؤمنين، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: الاستهزاء سبب التكذيب بالحق وهو سبيل غير المؤمنين، كما دل على ذلك آيات عدة في القرآن، وعدم ذكر ما استهزأ به المشركون سواء وعد الله أو وعيده أو آياته ورسله، هو من باب الإيجاز وهذا من بلاغة القرآن، وهذا تفسير للقرآن بالقرآن، ويدل على صحة المقصود هنا صفة (بالحق)، وهو صيغة عموم وهذه قرينة على صحة ذلك التفسير، وهو ظاهر في الاستنباط هنا.
وقد ذكر بعض المفسرين بيان ما استهزئ به ولم يتعرضوا لمسألة الايجاز التي أشار إليها الشيخ، وهذا دليل عنايته بالبلاغة وفنونها، فهو مما تفرد به.
ومن هؤلاء المفسرين الذين تعرضوا لمعنى الاستهزاء، ابن جرير فقال:"يقول: سوف يأتيهم أخبارُ استهزائهم بما كانوا به يستهزئون من آياتي وأدلَّتي التي آتيتهم. ثم وفى لهم بوعيده لمّا تمادَوا في غيِّهم، وعَتْوا على ربهم، فقتلتهم يوم بدرٍ بالسَّيف"
(4)
، والبغوي
(5)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 5).
(2)
مفاتيح الغيب (12/ 483)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 154)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 490)، البحر المحيط في التفسير (4/ 436).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 253).
(4)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (11/ 262).
(5)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 110).
وقال الزمخشري: "وهو الحق لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه فسوف يأتيهم أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزؤن وهو القرآن، أي: أخباره وأحواله، بمعنى: سيعلمون بأي شيء استهزءوا، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته"
(1)
، ومثله البيضاوي، والنسفي، وأبو حيان
(2)
.
[الإسلام مبني على الدلائل والآيات المنافية للتقليد]
قال تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)} [سورة الأنعام: 4 - 5]
5.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفي هذه الآيات عبرة لنا في حال الذين أضاعوا الدين، من أهل التقليد الجامدين، وأهل التفرنج الملحدين، فهي تنادي بقبح التقليد وتصرح بوجوب النظر في الآيات والاستدلال بها، وبأن التكذيب بالحق والحرمان منه معلول للإعراض عنها، وتثبت أن الإسلام دين مبني على أساس الدليل والبرهان، لا كالأديان المبنية على وعث التقليد للأحبار والرهبان"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة الإسلام مبني على الدلائل والآيات المنافية للتقليد، بدلالة مفهوم الآية.
وجه الاستنباط: العبرة والعظة من الدلائل العقلية العظيمة من الأدلة الشرعية التي يتميز بها الحق عن الباطل، وقد دعت الشريعة إلى النظر والاعتبار كثيرا، فكانت هذه الآية خاصية للشريعة الإسلامية لم تتحقق في غيرها، وما يحصل من الإعراض عن الحق يكون لسببين؛ الأول: عدم النظر في الآيات والأدلة والبراهين، والثاني: تقليد الأحبار والرهبان، والآية تبين أساس الدين الإسلامي الداعي إلى طلب الدليل، وذم التقليد وأهله، وبهذا يكون الإسلام دينا وشريعة يصلح وتصلح لكل عصر وجيل.
قال الرازي: "اعلم أنه تعالى لما تكلم، أولا: في التوحيد، وثانيا: في المعاد، وثالثا: فيما يقرر هذين المطلوبين ذكر بعده ما يتعلق بتقرير النبوة وبدأ فيه بأن بين كون هؤلاء الكفار معرضين عن تأمل الدلائل، غير ملتفتين إليها وهذه الآية تدل على أن التقليد باطل. والتأمل في الدلائل واجب، ولولا ذلك لما ذم الله المعرضين عن الدلائل"
(4)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 6).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 154)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 491)، البحر المحيط في التفسير (4/ 437).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 254).
(4)
مفاتيح الغيب (12/ 483).
قال الزمخشري: "وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار، إلا كانوا عنه معرضين: تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأسا، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب"
(1)
، ومثله النسفي، والشوكاني
(2)
.
قال ابن عطية: "وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء الذين يعدلون بالله سواه بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم"
(3)
.
قال أبو زهرة: "أن قوله تعالى: (إِلَّا كانُوا عَنْهَا مُعْرِضينَ) فيه إثبات أن الإعراض عن الحق دأبهم وصفة ثابتة فيهم لَا يتخلون عنها، ودل على ذلك النفي والإثبات، ثم التعبير بـ " كانوا " الدالة على الدوام والاستمرار، ثم التعبير بالوصف والمعنى الجملي: لَا تأتيهم معجزة قاطعة في الإثبات من عند خالقهم إلا تلقوها معرضين عن مغزاها، تاركين مؤداها"
(4)
.
[تحذير الله للمشركين من عظم كفرهم مع ضعف تمكينهم ونقص حالهم]
6.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وكان الظاهر أن يقال: (مكناهم في الأرض) أي القرون (ما لم نمكنهم) أي الكفار المحكي عنهم المستفهم عن حالهم، فعدل عن ذلك بالالتفات عن الغيبة إلى الخطاب لما في إيراد الفعلين بضميري الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما وكون المثبت عين المنفي، فقيل: (مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ)، وإنما لم يقل: (ما لم نمكنكم) أو: (ومكنا لهم ما لم نمكن لكم) وهو مقتضى المطابقة لنكتة دقيقة لا يدركها إلا من فقه الفرق بين مكنه ومكن له، وقد غفل عنه جماهير أهل اللغة والتفسير والتحقيق أن معنى مكنه في الأرض أو في الشيء: جعله متمكنا من التصرف تام الاستقلال فيه"
(5)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 5).
(2)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 491)، فتح القدير (2/ 115).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 268).
(4)
زهرة التفاسير (5/ 2436).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 256).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الدعوة، في مسألة تحذير الله للمشركين من عظم كفرهم مع ضعف تمكينهم ونقص حالهم، بدلالة الاقتضاء ودلالة الألفاظ أيضا.
وجه الاستنباط: إيراد الفعلين بضمير الغيبة يوهم اتحاد مرجعمها، وكون المثبت عين المنفي، لكن الفرق يتضح في المعنى بين (مكنه، ومكن له)، فإن المعنى التام للتمكين يظهر في (مكن له)، وهذا إشارة لهؤلاء للعبرة بمن سبق، وكيف أن الله مكن لهم غاية التمكين، ومع ذلك لم ينفعهم هذا التمكين التام لما كذبوا رسله، فيصدقوا رسول الله محمدا وما جاء به، وأن هذا من باب تحذير الله للمشركين من عظم كفرهم وضعف تمكنهم وتمكينهم ونقص حالهم، وقد ذكر الشيخ أن هذا المعنى مما غفل عنه أهل التفسير.
وبعد استقراء كتب التفسير تبيّن عدم صحة اتهام الشيخ للمفسرين وأهل اللغة، حيث إن المفسرين ذكروا أن أسلوب الآية اختلف من الغيبة إلى الخطاب.
ومن ذلك، ما جاء في تفسير ابن جرير:"يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ألم يرَ هؤلاء المكذبون بآياتي، الجاحدون نبوّتك، كثرةَ من أهلكت من قبلهم من القُرون، وهم الأمم، الذين وطَّأت لهم البلادَ والأرض توطئة لم أوطِّئها لهم، وأعطيتهم فيها ما لم أعطهم، فإن قال قائل: فما وجهُ قوله: "مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم"، ومن المخاطب بذلك؟ فقد ابتدأ الخبر في أول الآية عن قوم غيب بقوله: "ألم يروا كم أهلكنا من قَبَلهم من قرن"؟ قيل: إن المخاطب بقوله: "ما لم نمكن لكم"، هو المخبر عنهم بقوله: "ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن"، ولكن في الخبر معنى القول ومعناه: قُلْ، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين كذبوا بالحقِّ لما جاءهم: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قَرْن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، والعرب إذا أخبرت خبرًا عن غائبٍ، وأدخلت فيه "قولا"، فعلت ذلك، فوجهت الخبرَ أحيانًا إلى الخبر عن الغائب، وأحيانًا إلى الخطاب، فتقول: "قلت لعبد الله: ما أكرمه"، و"قلت لعبد الله: ما أكرمك"، وتخبر عنه أحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، ثم تعود إلى الخطاب، وتخبر على وجه الخطاب له، ثم تعود إلى الخبر عن الغائب، وذلك في كلامها وأشعارها كثيرٌ فاشٍ"
(1)
. ومثله البغوي، وابن عطية
(2)
.
قال الزمخشري: "مكن له في الأرض: جعل له مكانا فيها. ونحوه: أرض له. ومنه قوله إنا مكنا له في الأرض أولم نمكن لهم وأما مكنته في الأرض فأثبته فيها. ومنه قوله ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا"
(3)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (11/ 264).
(2)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 110)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 269).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 6).
وقال النسفي: " {فِي الأرض ما لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} التمكين في البلاد إعطاء المكنة والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم من البسطة"
(1)
. ومثله البيضاوي
(2)
.
وقال القرطبي: " (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) خروج من الغيبة إلى الخطاب، عكسه وقال أهل البصرة: أخبر عنهم بقوله "ألم يروا"، وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه، ثم خاطبهم معهم، والعرب تقول: قلت لعبد الله ما أكرمه: وقلت لعبد الله ما أكرمك، ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال: ما لم نمكن لهم"
(3)
.
وقال أبو حيان: "وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم الهلاك، فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم"
(4)
.
وقال ابن عاشور: "والخطاب في قوله: لكم التفات موجه إلى الذين كفروا لأنهم الممكنون في الأرض وقت نزول الآية، وليس للمسلمين يومئذ تمكين"
(5)
، ومثله الألوسي
(6)
.
[استخدام أسلوب السؤال والجواب للدعوة وتقرير الحجة]
قال تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)} [سورة الأنعام: 12]
7.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ثم قفى سبحانه على ذلك بتلقينه في هذه الآيات أسلوبا آخر من إقامة الحجج على قومه، وهو أسلوب السؤال والجواب، في موضع فصل الخطاب وإن كان تكرارا لمعنى سبق أو اشتمل على التكرار، وحكمة ذلك أن التنويع في الاحتجاج والتفنن في أساليبه من ضروريات الدعوة إلى الدين وإلى غير الدين من المقاصد البشرية أيضا لأن التزام دليل واحد على المطلوب الذي لا بد من تكرار ذكره، أو إيراد عدة أدلة بأسلوب واحد قد يفضي إلى سآمة الداعي من التكرار على رغبته في الدعوة وتفانيه في نشرها وإثباتها، فكيف يكون تأثيره في المدعوين الكارهين له ولها، إذا لم يعقلوا الدليل الأول أو لم تتوجه قلوبهم إلى تدبر الأسلوب الواحد المشتمل على عدة أدلة"
(7)
.
(1)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 491).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 154).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 392).
(4)
البحر المحيط في التفسير (4/ 438).
(5)
التحرير والتنوير (7/ 138).
(6)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (4/ 90).
(7)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 271).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الدعوة، في مسألة استخدام أسلوب السؤال والجواب في الدعوة لتقرير الحجة، بدلالة السياق.
وجه الاستنباط: هذه الآية في معرض محاجة المشركين، وإبطال معتقداتهم، وإلجائهم إلى الإقرار بتوحيد الله جل وعلا، وهو أسلوب امتلأت به سورة الأنعام في تقرير التوحيد بالأدلة العقلية، فجاءت بأنواع من الأدلة العقلية على تقرير التوحيد، ثم جاءت بالتبكيت لهم عند إعراضهم، وجاءت بالقطع والبرهان الدامغ الذي قطع عليهم الطريق وبينه بأفضل بيان، بهذا الأسلوب من باب التنوع في أساليب الاحتجاج.
قال ابن عاشور فقال: "والاستفهام مستعمل مجازا في التقرير، والتقرير هنا مراد به لازم معناه، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يفضي إلى إبطال معتقدهم الشرك، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح، والمقصود هو المعنى الكنائي. ولكونه مرادا به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسئول محققا لا محيص عنه، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة، فلذلك لم ينتظر السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله: لله تبكيتا لهم، لأن الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجة مقدرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية، وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلم واحد، فهؤلاء القوم المقدر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقروا حقية الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجة، وهذا أسلوب متبع في القرآن، فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا، وكما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد: 16]، وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوبا إليهم أنهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتب عليه من توبيخ ونحوه"
(1)
.
وقال ابن عطية: "أمر الله عز وجل محمدا عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه، وجاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والوجه في المحاجّة إذا سأل الإنسان خصمه، بأمر لا يدافعه الخصم فيه، أن يسبقه بعد التقرير إليه مبادرة إلى الحجة، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه، كيف قال الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه"
(2)
، وبنحوه قال الرزاي، والبيضاوي، وأبو حيان، والشوكاني
(3)
.
(1)
التحرير والتنوير (7/ 150).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 271).
(3)
مفاتيح الغيب (12/ 488)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 155)، البحر المحيط في التفسير (4/ 446)، فتح القدير (2/ 118).
[نفي الشر المحض عن الله]
قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [سورة الأنعام: 17]
8.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة تحري الحقائق بأوجز العبارات وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفة بعضها في بادي الرأي لما هو الأصل في التعبير كالمقابلة هنا بين الضر والخير، وإنما مقابل الضر النفع، ومقابل الخير الشر، فنكتة المقابلة أن الضر من الله تعالى ليس شرا في الحقيقة، بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وآدابا وعلما وخبرة، وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله، كما أن صرف العذاب في الآخرة مقدم على النعيم فيها"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب القدر، في مسالة نفي الشر المحض عن الله، بدلالة أسلوب المقابلة
(2)
.
وجه الاستنباط: لما كان الخير والشر والنفع والضر بقضاء الله وقدره، ولا راد لهم إلا ما كتب الله، جاء هنا بألفاظ تبين رحمة الله، فقابل بين الخير والضر، مع أن الخير مقابل الشر لكن عدل عنه وجاء بلفظ أخص وهو الضر مقابل لفظ عام وهو الخير، تغليبا لجهة رحمة الله، وأن فيه تربية واختبارا للإنسان، وفيه نفي الشر المحض عن الله عز وجل، وهذه المسألة؛ نفي الشر المحض عن الله عز وجل، مسألة تقررت عند أهل السنة والجماعة في كتب العقائد.
وقد انفرد الشيخ بهذا الاستنباط، فلم يذكره أحد من المفسرين.
جاء في اعتقاد أئمة السلف: "قالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء خالق الشر أو يا مقدر الشر وإن كان هو الخالق والمقدر لهم جميعاً، والخير والشر كلاهما مخلوقان مقدران لله تعالى، لا يكون شيء منهما إلا بإذنه، فهو خالقهما جميعاً، وهذا قول أهل السنة، غير أن الشر لا يضاف إليه على انفراد لما فيه من توهم النقص والعيب"
(3)
، وزاد بتفصيل هذه المسألة فقال:"ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخير والشر والنفع والضر والحلو والمر بقضاء الله تعالى وقدره لا مرد لهما ولا محيص ولا محيد عنهما ولا يصيب المرء إلا ما كتبه له ربه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يصدوه بما لم يقض الله عليه لم يقدروا، قال الله عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس 107] "
(4)
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 279).
(2)
المقابلة: هي طباق متعدد عناصر الفريقين المتقابلين، وفيها يؤتى بمعنيين فأكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على سبيل الترتيب، علوم البلاغة البيان، المعاني، البديع (ص: 322).
(3)
اعتقاد أئمة السلف أهل الحديث (ص: 246).
(4)
الموسوعة العقدية، الدرر السنية (5/ 328).
(5)
اعتقاد أئمة السلف أهل الحديث (ص: 246).
أما المقابلة فقد قال بها جمع من المفسرين منهم ابن عطية فقال: " «الضّر» بضم الضاد سوء الحال في الجسم وغيره، «والضّر» بفتح الضاد ضد النفع، وناب الضر في هذه الآية مناب الشر وإن كان الشر أعم منه فقابل الخير، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة"
(1)
.
وقال أبو حيان: "والذي يقابل الخير هو الشر وناب عنه هنا الضر وعدل عن الشر، لأن الشر أعم من الضر فأتي بلفظ الضر الذي هو أخص وبلفظ الخير الذي هو عام مقابل لعام تغليبا لجهة الرحمة"
(2)
.
وقال ابن عاشور: "قابل قوله: وإن يمسسك الله بضر بقوله: وإن يمسسك بخير مقابلة بالأعم، لأن الخير يشمل النفع وهو الملائم ويشمل السلامة من المنافر، للإشارة إلى أن المراد من الضر ما هو أعم، فكأنه قيل: إن يمسسك بضر وشر وإن يمسسك بنفع وخير، ففي الآية احتباك"
(3)
.
[العمل بالعلم هي الطريقة المثلى لإقامة الناس على الحق والفضيلة]
قال تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [سورة الأنعام: 28]
9.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ويستنبط من الآية أن الطريقة المثلى لإقامة الناس على صراط الحق والفضيلة إنما هي حملهم على ذلك بالعمل والتعويد، مع التعليم وحسن التلقين، كما يربى الأطفال في الصغر، وكما يمرن الرجال على أعمال العسكر، وأن من أكبر الخطأ أن يسمح للأحداث بطاعة شهواتهم، واتباع أهوائهم، بشبهة تربيتهم على الحرية والاستقلال، الذي يهديهم إلى الحق والفضيلة بما يفيدهم العلم في سن الرشد من الاقتناع بطرق الاستدلال"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب التوحيد، في مسألة العمل بالعلم هي الطريقة المثلى لإقامة الناس على الحق والفضيلة، بدلالة اقتران العمل بالعلم.
وجه الاستنباط: أن العمل والتعويد والعلم والتلقين، من أنجع الطرق لحمل الناس على العقيدة الصحيحة فإنه لا يوجد من الناس من يتبع هواه وشهوته في الصغر ثم يرجع عنها في الكبر إلا القليل النادر، إذا تبين له بالدليل والعمل أنها مخالفة للفطرة ولما أمر الله، وهذا واضح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من أول دعوته، فقد روي عن عائشة
(5)
رضي الله عنها أنها قالت: ((إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا))
(6)
.
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 274).
(2)
البحر المحيط في التفسير (4/ 455).
(3)
التحرير والتنوير (7/ 163).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 297).
(5)
عائشة بنت الإمام الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة، التيمية، المكية، النبوية، أم المؤمنين، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أفقه نساء الأمة على الإطلاق، تزوجها نبي الله قبل الهجرة، ودخل بها بعد غزوة بدر، وهي ابنة تسع، روت عنه: علما كثيرا، طيبا، مباركا فيه، كانت عائشة أفقه الناس، وأعلمهم، وروى عنها جمع من الصحابة والتابعين، توفيت سنة 58 هـ، سير أعلام النبلاء (2/ 200 - 135) الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 235).
(6)
رواه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، ح (4707).
ثم قرن الشيخ ذلك الأسلوب الرباني في التربية بأساليب العصر القائمة على الباطل والضلال، كدعوى تربية المتجتمعات على الحرية والاستقلال بلا خطام ولا زمام، وخطورة ذلك ونتيجته على عقائد المجتمعات وتوحيدها لربها، فإذا كان ذلك الحال في أول الدعوة فمن باب أولى اتخاذ هذه الطريقة في عصرنا، فإن أثر العادة على المرء قوي، فينبغي تربية الصغار وتعويدهم على فضائل الاخلاق شيئا فشيئا، وهذا حام لهم من الفتن المحيطة بهم.
ووافقه على هذا المعنى ابن عاشور فقال: "قوله: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ارتقاء في إبطال قولهم حتى يكون بمنزلة التسليم الجدلي في المناظرة، أي لو أجيبت أمنيتهم وردوا إلى الدنيا لعادوا للأمر الذي كان النبيء ينهاهم عنه، وهو التكذيب وإنكار البعث، وذلك لأن نفوسهم التي كذبت فيما مضى تكذيب مكابرة بعد إتيان الآيات البينات، هي النفوس التي أرجعت إليهم يوم البعث فالعقل العقل والتفكير التفكير، وإنما تمنوا ما تمنوا من شدة الهول فتوهموا التخلص منه بهذا التمني فلو تحقق تمنيهم وردوا واستراحوا من ذلك الهول لغلبت أهواؤهم رشدهم فنسوا ما حل بهم ورجعوا إلى ما ألفوا من التكذيب والمكابرة. وفي هذا دليل على أن الخواطر الناشئة عن عوامل الحس دون النظر والدليل لا قرار لها في النفس ولا تسير على مقتضاها إلا ريثما يدوم ذلك الإحساس فإذا زال زال أثره، فالانفعال به يشبه انفعال العجماوات من الزجر والسوط ونحوهما، ويزول بزواله حتى يعاوده مثله"
(1)
.
وقد اقتصر جل المفسرين على بيان أن هؤلاء الكفار لو عادوا مرة أخرى إلى الدنيا فإنهم لن ينتفعوا من النظر في الأدلة والبراهين بل يعودوا لما كان متأصل فيهم من عادة الكفر والبعد عن الله.
ومن هؤلاء، ابن جرير فقال:"يقول: لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك، من جحود آيات الله، والكفر به، والعمل بما يسخط عليهم ربِّهم "إنهم لكاذبون"، في قيلهم: "لو رددنا لم نكذب بآيات ربّنا وكنا من المؤمنين"، لأنهم قالوه حين قالوه خشية العذاب، لا إيمانًا بالله"
(2)
.
وقال الرازي: "قال تعالى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان، بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر والتكذيب"
(3)
، ومثله البيضاوي، القرطبي
(4)
.
(1)
التحرير والتنوير (7/ 186).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (11/ 322).
(3)
مفاتيح الغيب (12/ 510).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 159)، الجامع لأحكام القرآن (6/ 410).
[نصر الله للمؤمنين سنة لا تتخلف عمن حقق أسبابها منهم]
قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [سورة الأنعام: 34]
10.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ومن العبرة في الآية أن الله تعالى وعد المؤمنين ما وعد المرسلين من النصر، فقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [سورة غافر: 51]، وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [سورة الروم: 47]، وهي نص في تعليل النصر بالإيمان، ولكننا نرى كثيرا من الذين يدعون الإيمان في هذه القرون الأخيرة غير منصورين، فلا بد أن يكونوا في دعوى الإيمان غير صادقين، أو يكونوا ظالمين غير مظلومين، ولأهوائهم لا لله ناصرين، ولسننه في أسباب النصر غير متبعين، وإن الله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه، وإنما ينصر المؤمن الصادق وهو من يقصد نصر الله وإعلاء كلمته، ويتحرى الحق والعدل في حربه لا الظالم الباغي على ذي الحق والعدل من خلقه"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة نصر الله للمؤمنين سنة لا تتخلف عمن حقق أسبابها منهم، بدلالة جمع الآيات.
وجه الاستنباط: من سنن الله لأهل الإيمان الصحيح أن عاقبة صبرهم على التكذيب وأصناف الأذى أن يتحقق لهم نصر الله، وأن هذا وعد لا بد أن يتحقق، وبين أن سبب عدم نصر الذين يدعون الإيمان في عصرنا الحاضر هو أنهم غير صادقين في إيمانهم، وأن نصر الله حق لمن قصد نصر الله وإعلاء كلمته وتحرى العدل والصدق والحق في كل أفعاله، فيدعوهم إلى مراجعة إيمانهم وتقويته.
قال البيضاوي: "حتى أتاهم نصرنا فيه إيماء بوعد النصر للصابرين، ولا مبدل لكلمات الله لمواعيده من قوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين الآيات"
(2)
، ومثله النسفي
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 317).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 160).
(3)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 501).
قال أبو السعود: "وقوله تعالى {ولا مبدل لكلمات الله} اعتراض مقرر لما قبله من إتيان نصره إياهم والمراد بكلماته تعالى ما ينبئ عنه قوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وقوله تعالى كتب الله لاغلبن أنا ورسلى من المواعيد السابقة للرسل عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصرة رسول الله أيضا لا نفس الآيات المذكورة ونظائرها فإن الإخبار بعدم تبدلها إنما يفيد عدم تبدل المواعيد الواردة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة المواعيد السابقة للرسل عليهم الصلاة والسلام "
(1)
.
وقال أبو زهرة: "هذا تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وحث على الصبر، والانتظار لما وعد من النصر المؤزر، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه ليس أول المكذبين، بل سبق إلى ذلك الرسل الصادقون الداعون، ولقد أكد الله سبحانه وتعالى الخبرب (اللام) وبـ (قد) لتأكيد التسلية، ولتأكيد طلب الصبر، وتأكيد الوعد بالنصر"
(2)
، ومثله القاسمي
(3)
.
[البأس والضر رحمة وصلاح للمؤمن وعذاب وفساد للكافر]
قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} [سورة الأنعام: 43]
11.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والآية تفيد أن البأساء والضراء، وما يقابلهما من السراء والنعماء مما يتربى ويتهذب به الموفقون من الناس، وإلا كانت النعم أشد وبالا عليهم من النقم وهذا ثابت بالاختبار، فلا خلاف في أن الشدائد مصلحة للفساد، وأجدر الناس بالاستفادة من الحوادث المؤمن"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة البأس والضر رحمة وصلاح للمؤمن وعذاب وفساد للكافر، بدلالة مفهوم الآية.
وجه الاستنباط: من أساليب التربية والتهذيب حمل المتربين على حسن التعامل مع ما يصيبهم من البأساء والنعماء، فكلها من عند الله، ولكل منها أسلوب يناسبها، فالبأس ينصرف بالاستكانه لأمر الله والتضرع له، والنعماء بشكر المنعم جل وعلا عليها، شريطة ألا تكون قلوبهم قد قست، واستولى عليها الشيطان، فإن الموفق من خرج من بلائه بصبر وشكر لله، بعكس من أفسدته النعم بالبطر والكفر بما أنعم الله عليه به، بعكس من أفسدته النعم بالبطر والكفر بما أنعم الله عليه به، وقد ثبت في السنة أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يخشى على أمته من الغنى والنعم أكثر مما يخشى عليها من الفقر والبلاء.
(1)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 128)
(2)
زهرة التفاسير (5/ 2485).
(3)
محاسن التأويل (4/ 347).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 347).
قال ابن جرير: "فتأويل الكلام إذًا: فهلا إذ جاء بأسنا هؤلاء الأمم المكذبة رسلَها، الذين لم يتضرعوا عند أخذِناهم بالبأساء والضراء "تضرعوا"، فاستكانوا لربهم، وخضعوا لطاعته، فيصرف ربهم عنهم بأسه، وهو عذابه
(1)
.
قال الزمخشري: "جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم فلما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء: أى تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الصحة والسعة وصنوف النعمة، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، كما يفعل الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى، طلبا لصلاحه حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر، من غير انتداب لشكر ولا تصد لتوبة واعتذار أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون واجمون"
(2)
.
قال الرازي: "والمعنى: إنما أرسلنا الرسل إليهم وإنما سلطنا البأساء والضراء عليهم لأجل أن يتضرعوا، ومعنى التضرع التخشع وهو عبارة عن الانقياد وترك التمرد، وأصله من الضراعة وهي الذلة، يقال ضرع الرجل يضرع ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف، والمعنى أنه تعالى أعلم نبيه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا، والمقصود منه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم "
(3)
.
قال القرطبي: "وهذا عتاب على ترك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب، ويجوز أن يكونوا تضرعوا تضرع من لم يخلص، أو تضرعوا حين لابسهم العذاب، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع، والدعاء مأمور به حال الرخاء والشدة "
(4)
، وبنحوه قال أبو حيان، وأبو السعود، والشوكاني
(5)
.
[الظلم أعظم الذنوب وسبب إهلاك الظالمين]
قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [سورة الأنعام: 45].
12.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ووضع المظهر الموصوف بالموصول موضع المضمر؛ للإشعار بعلة الإهلاك وسببه وهو الظلم، ولا بد من زهوق الباطل فظهور الحق"
(6)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (11/ 356).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 23).
(3)
مفاتيح الغيب (12/ 533).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 425).
(5)
البحر المحيط في التفسير (4/ 514)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 133)، فتح القدير (2/ 132).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 348).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة الظلم أعظم الذنوب وسبب إهلاك الظالمين، بدلالة التلازم.
وجه الاستنباط: لما كان الظلم هو أعظم الذنوب، وسبب للهلاك، وأن عذاب الاستئصال الذي حل بهؤلاء كان بسبب الظلم ناسب أن يبين هذا، فلذا وضع المظهر موضع المضمر، والظلم في الآية شامل للشرك أصلا ولغيره تبعا، ولشؤم الشرك وظلم النفس به وقع عليهم وعيد الله عز وجل بإهلاكهم وقطع دابرهم، ولا عاقبة حسنة لهم إلا بالعدل وأوله التوحيد.
قال أبو السعود: " {فقطع دابر القوم الذين ظلموا} أي آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبرا ودبورا أي تبعه ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم فإن هلاكهم بسبب ظلمهم الذي هو وضع الكفر موضع الشكر وإقامة المعاصي مقام الطاعات"
(1)
.
قال أبو حيان: " فقطع دابر القوم الذين ظلموا عبارة عن استئصالهم بالهلاك والمعنى: فقطع دابرهم ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم، وهو هنا الكفر والدابر التابع للشيء من خلفه يقال: دبر الوالد الولد يدبره، وفلان دبر القوم دبورا ودبرا إذا كان آخرهم"
(2)
.
وقال القرطبي: "وتضمنت هذه الآية الحجة على وجوب ترك الظلم، لما يعقب من قطع الدابر، إلى العذاب الدائم، مع استحقاق القاطع الحمد من كل حامد"
(3)
.
قال الألوسي: "الدابر الأصل ومنه قطع الله دابره أي أصله وأيّا ما كان فالمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم"
(4)
.
قال أبو زهرة: " أي قطع الذين ظلموا عن آخرهم، وذلك بسبب ظلمهم، وظلمهم كان لأنهم أشركوا بالله تعالى: (
…
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، ومن كان يشرك برب العباد لابد أن يظلم العباد، فمن الذي يتقوه من بعده. وظلموا أنفسهم؛ لأنه سبقت العظات والمعاملات ولم يعتبروا فاستحقوا ما نزل بهم"
(5)
.
(1)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 134).
(2)
البحر المحيط في التفسير (4/ 515).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 427).
(4)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (4/ 144).
(5)
زهرة التفاسير (5/ 2502)
[العلماء ورثة الأنبياء مهمتهم هداية الناس لا استعبادهم]
قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} [سورة الأنعام: 52]
13.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والآية تدل على نفي الرياسة الدينية المعهودة في الملل الأخرى، وهي سيطرة رؤساء الدين على أهل دينهم في عقائدهم وعباداتهم ومحاسبتهم عليها، وعقاب من يرون عقابه منهم حتى بالطرد من الدين والحرمان من حقوقه، ويجب في بعض تلك الملل أن يعترف كل مكلف من ذكر وأنثى للرئيس الديني بأعماله النفسية والبدنية، وللرئيس أن يغفر له ما يعترف به من المعاصي، ويعتقدون أن مغفرة الله تعالى تتبع مغفرته"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الألوهية، في مسألة العلماء ورثة الأنبياء مهمتهم هداية الناس لا استعبادهم، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: امتازت الشريعة الإسلامية بنفي العصمة عن العلماء من أهل الدين، وأن طاعتهم تكون في المعروف، وليس لهم الحق في معرفة ذنوب أحد من الناس، ولا يصرحون لأحد بالغفران، وكلهم خاضعون لله لا فرق بينهم وبين العامة، بخلاف الأمم السابقة فقد كان لأهل الدين عندهم منزلة خاصة، استغلها بعضهم في بث سلطته الدينية على أهل هذه الملة، وعلى شعوبهم، فلا يكون لهم تصرف إلا بعد الرجوع لهؤلاء الرؤساء والنظر فيما يحكمون له، وفي هذا من تحقيق التوحيد ما هو ظاهر، فتتعلق القلوب بالله عز وجل، وتخضع له وتباشره في حبها وخوفها ورجائها، ومن دون حاجة إلى واسطة أو شفيع.
وقد انفرد الشيخ بهذا الاستنباط، فلم يذكره أحد من المفسرين فيما وقفت عليه، إلا عبارة للإمام الألوسي قال فيها:"وَلا تَطْرُدِ أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال بِالْغَداةِ أي وقت تجلي الجمال وَالْعَشِيِّ أي وقت تجلي العظمة والجلال يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عز وجل لقلوبهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 369).
(2)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (4/ 157).
[تأديب العالم للمتعلم لحبه لا لبغضه ولهدايته لا لإضلاله]
قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} [سورة الأنعام: 52]
14.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ويستنبط من الآية ألا يجوز لرؤساء المدارس الدينية ولا ينبغي لغيرهم عقاب أحد من طلاب العلم بالحرمان من بعض الدروس فضلا عن طرده من المدرسة، وحرمانه من تلقي الدين والعلم ألبته، ولكن قد يجوز ذلك بمقتضى نظام لا لأجل الانتقام، وقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم تأليف قلوب ضعفاء الإيمان حتى بعد قوة الإيمان واعزازه، بل كان يعامل المنافقين بما يقتضيه ظاهر إسلامهم، عملا بقاعدة بناء الأحكام على الظواهر، وأن الله هو الذي يتولى السرائر"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا سلوكيا، في باب التربية والتزكية، في مسألة تأديب العالم للمتعلم لحبه لا لبغضه ولهدايته لا لإضلاله، بدلالة لفظ الأمر في الآية.
وجه الاستنباط: لا ينبغي لمعلم أو أي جهة علمية منع وطرد أي طالب للعلم، وهذا كان واضحا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يطرد المنافقين الذين آذوه في نفسه وفي زوجه، وينبغي أن يكون التأديب بوسيلة أخرى غير المنع والطرد، فإن في هذا فسادا وأثرا ضارا يربو على المصلحة المتوقعة من الطرد والإبعاد، ولا يكون الطرد والإبعاد إلا لمصلحة رجحت في حالٍ تيقنت، ومحكومة بأنظمة معينة إذا خولفت تم على إثرها العقاب المنصوص عليه.
ولم أجد من المفسرين من ذكر هذا المعنى، فهذا استنباط مهم لكل من تبوّأ تعليم الناس أن يربي نفسه على البعد عن حظوظ النفس وعلى اتباع الأنظمة والتعاليم التي تترقى بالتعليم وأهله.
[الاستشهاد بالآيات على النوازل]
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)} [سورة الأنعام: 65]
15.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ومثال ما عبر القرآن عنه مما يشمل ما لم يكن في زمن تنزيله ولا فيما قبله بحسب ما يعلم البشر هذه الآية التي ظهر تفسيرها في هذا الزمان بهذه الحرب الأوربية التي لم يسبق لها نظير؛ فقد أرسل الله على الأمم عذابا من فوقها بما تقذفه الطيارات والمناطيد من المقذوفات النارية والسموم البخارية والغازية التي لم تعرف قبل هذه الحرب فوق مقذوفات المدافع وغيرها مما كان معروفا قبلها، ولكن بعد تنزيل الآية، وعذابا من تحتها بما يتفجر من الألغام النارية، وبما ترسله المراكب الغواصة في البحر التي اخترعت في هذا العصر، ولبسها شيعا متعادية، وأذاق بعضها بأس بعض، فحل بها من التقتيل والتخريب ما لم يعهد له نظير في الأرض، ولا شك في أن دلالة الآية على هذه المخترعات مراد، لأن الله تعالى منزل القرآن هو علام الغيوب"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 369).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 410).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا علميا، في باب التفسير، مسألة الاستشهاد بالآيات على النوازل، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: أنواع الأسلحة المستخدمة في الحروب الآن من صواريخ وغواصات وغيرها هي المفهومة من هذه الآية، والآية دلت عليها، واستدل عليه بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم قال:((في هذه الآية {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها))
(1)
.
وبعد استقراء أقوال المفسرين حول الآية وجدت ذكر هذا المعنى في أقوالهم كانت تدور حول أن الرجم والطوفان والصواعق والريح وما أشبهه هي من العذاب النازل من فوقهم، وأن الخسف والغرق والزلازل وما أشبهه من العذاب السفلي.
وممن ذكر ذلك الإمام ابن جرير حيث قال: "وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: عنى بالعذاب من فوقهم، الرجمَ أو الطوفان وما أشبه ذلك مما ينزل عليهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم، الخسفَ وما أشبهه، وذلك أن المعروف في كلام العرب من معنى"فوق" و"تحت" الأرجل، هو ذلك، دون غيره، وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك وجه صحيح، غير أن الكلام إذا تُنُوزع في تأويله، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها"
(2)
، ومثله ابن عطية، والرازي، والنسفي والقرطبي، وأبو حيان وأبو السعود، والألوسي، وابن سعدي، وابن عاشور، وأبو زهرة
(3)
، وغيرهم.
(1)
رواه الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة الأنعام، ح (3066)، [قال الشيخ الألباني: ضعيف الإسناد]، ورواه الإمام أحمد بن حنبل: مسند أبى إسحاق سعد بن أبى وقاص رضى الله تعالى عنه 1/ 170 ح (1466)، [تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف].
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (11/ 418).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 302)، مفاتيح الغيب (13/ 20)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 512)، الجامع لأحكام القرآن (7/ 9)، البحر المحيط في التفسير (4/ 543)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 146)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (4/ 170)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 260)، التحرير والتنوير (7/ 284)، زهرة التفاسير (5/ 2534).
[عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للعالمين]
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [سورة الأنعام: 90]
16.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "الضمير راجع إلى القرآن كما رجعنا، أي ما هو إلا تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة، لا لكم خاصة، وهو نص في عموم البعثة"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان بالرسل، في مسألة عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للعالمين، بدلالة التنصيص من الآية.
وجه الاستنباط: القرآن وما فيه من هدايات ودلالات، ومواعظ وإرشاد، رحمة للعالمين كافة من الله جل وعلا، وفيه كل ما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم، وليس خاص بالمؤمنين، وهذا دليل على عموم بعثة صلى الله عليه وسلم للعالمين.
قال الرازي: " (لا أسئلكم عليه أجرا) ولا أطلب منكم مالا ولا جعلا (إن هو) يعني القرآن (إلا ذكرى للعالمين) يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم، وقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم"
(2)
.
وقال القرطبي: " (إن هو) أي القرآن (إلا ذكرى للعالمين) أي هو موعظة للخلق، وأضاف الهداية إليهم فقال: "فبهداهم اقتده" لوقوع الهداية بهم. وقال: "ذلك هدى الله" لأنه الخالق للهداية"
(3)
.
قال الألوسي: " (إِنْ هُوَ أي القرآن إِلَّا ذِكْرى) أي تذكير فهو مصدر، وحمله على ضمير القرآن للمبالغة ولا حاجة لتأويله بمذكر لِلْعالَمِينَ كافة فلا يختص به قوم دون آخرين واستدل بالآية على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم "
(4)
.
وبعض المفسرين قال بعموم التبليغ والقرآن كالبيضاوي فقال: "قل لا أسئلكم عليه أي على التبليغ أو القرآن أجرا جعل من جهتكم، كما لم يسأل من قبلي من النبيين، وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه، إن هو أي التبليغ أو القرآن أو الغرض إلا ذكرى للعالمين إلا تذكيرا وموعظة لهم"
(5)
، وكذا ابن عطية، والنسفي
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 508).
(2)
مفاتيح الغيب (13/ 58).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 36).
(4)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (4/ 206).
(5)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 172).
(6)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 320)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 520).
وبعضهم قصره على القرآن ولم يذكر التنصيص على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كأبي السعود فقال: " {إن هو} أي ما القرآن {إلا ذكرى للعالمين} أي عظة وتذكير لهم كافة من جهته سبحانه فلا يختص بقوم دون آخرين"
(1)
.
وكذا قال الشوكاني: "قوله: قل لا أسئلكم عليه أجرا أمره الله بأن يخبرهم بأنه لا يسألهم أجرا على القرآن، وأن يقول لهم: ما هو إلا ذكرى يعني القرآن للعالمين أي موعظة وتذكير للخلق كافة الموجودين عند نزوله ومن سيوجد من بعد"
(2)
، وكذا ابن عاشور، وأبو زهرة
(3)
.
[التفسير الموضوعي ينمّي ملكة التفسير والتأمل والتفكر في آيات الله]
قال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [سورة الأنعام: 96]
17.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ويدل على ذلك ذكر الآية الثانية بفائدتها، وهي آية الليل يجعله الله سكنا، فهذا المذكور يدل على مقابلة المحذوف، وهو جعل النهار وقتا للحركة بالسعي للمعاش، والعمل الصالح للمعاد، وقد صرح بنوعي الفائدتين في آيات كقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة القصص: 73] فهذه الآية على إيجازها جامعة للفوائد الدنيوية والدينية، وفيها اللف والنشر، أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا الرزق من فضل الله في النهار، وليعدكم لشكر نعمه عليكم بهما، وبمنافعكم في كل منهما، ومن الآيات المصرحة بذكرهما ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدنيوية فقط كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [سورة النبأ: 10 - 11]، ومنها ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدينية فقط كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [سورة الفرقان: 62]، فيا لله من إيجاز القرآن وبلاغته، في اختلاف عبارته! "
(4)
.
(1)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 160).
(2)
فتح القدير (2/ 157).
(3)
التحرير والتنوير (7/ 361)، زهرة التفاسير (5/ 2584).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 528).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا علميا، في باب التفسير، في مسألة التفسير الموضوعي ينمّي ملكة التفسير والتأمل والتفكر في آيات الله، بدلالة جمع الآيات.
وجه الاستنباط: في ذكر آية الليل وفائدته، دليل على ما حذف من آية النهار وأنه وقت للحركة والسعي لكسب العيش، وبين أن هذا مفهوم من آيات أخر ذكرها، وكل آية لها تفسيرها الخاص بها، وهذا نوع من أنواع التفسير يعرف بالتفسير الموضوعي، وهو أحد أنواع أساليب التفسير
(1)
، الذي يعنى بتنمية ملكة التفسير والتأمل والتفكر في آيات الله، للخروج منها بفوائد دينية ودنيوية تقوم بها حياة المسلم.
ولم أجد من المفسرين من تطرق لهذه المعاني وهذا الأسلوب عند تفسيره لهذه الآية، مما يبين عناية الشيخ بالتفسير وتطور أساليبه للاستفادة منه في استخراج العظات والعبر التي تفيد في الحياة.
[الله لا شريك له من أحد من خلقه في شيء مما اختص به]
قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)} [سورة الأنعام: 100]
18.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: " (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) أي وجعل هؤلاء المشركون لله سبحانه شركاء - وفسر هؤلاء الشركاء بالجن على طريق البدل النحوي - ولم يقل وجعلوا الجن شركاء لله، بل قدم وأخر في النظم لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء لا مطلق وجود الشركاء، ثم كون الشركاء من الجن، فقدم الأهم فالمهم، ولو قال وجعلوا الجن شركاء لله لأفاد أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا، وليس الأمر كذلك، بل المنكر أن يكون لله شريك من أي جنس كان"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الألوهية، في مسألة الله لا شريك له من أحد من خلقه في شيء مما اختص به، بدلالة الألفاظ.
وجه الاستنباط: بين الشيخ أن أسلوب النظم في التقديم والتأخير جاء لاستنكار ما فعله هؤلاء المشركون من اتخاذهم أحد مخلوقات الله وهم الجن، وجعلهم عدولا لله الخالق لهم جميعاً، وبين أن اتخاذ الشركاء لله هو الذي يجب أن ينكر على من فعله، لا جنس الشركاء.
وقد سار على هذا جمع من المفسرين؛ فقال ابن جرير: "فتأويل الكلام إذًا: وجعلوا لله الجنَّ شركاءَ في عبادتهم إياه، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير"وخرقوا له بنين وبنات"، يقول: وتخرَّصوا لله كذبًا، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلا بالله وبعظمته، وأنه لا ينبعي لمن كان إلهًا أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريك"
(3)
.
(1)
انظر: بحوث في أصول التفسير ومناهجه، د. فهد الرومي 62، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ونماذج منه (ص: 12)
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 538).
(3)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (11/ 10).
وقال الزمخشري: "فإن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكا أو جنيا أو إنسيا أو غير ذلك. ولذلك قدم اسم الله على الشركاء"
(1)
، ومثله الرازي، والنسفي، وأبو حيان
(2)
.
وقال ابن عطية: "وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن الجن تعلم الغيب العابدين للجن، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا"
(3)
.
قال ابن كثير: "هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، وأشركوا في عبادة الله أن عبدوا الجن، فجعلوهم شركاء الله في العبادة، تعالى الله عن شركهم وكفرهم"
(4)
.
قال ابن سعدي: "يخبر تعالى: أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم، بآياته البينات، وحججه الواضحات -أن المشركين به، من قريش وغيرهم، جعلوا له شركاء، يدعونهم، ويعبدونهم، من الجن والملائكة، الذين هم خلق من خلق الله، ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، فجعلوها شركاء لمن له الخلق والأمر، وهو المنعم بسائر أصناف النعم، الدافع لجميع النقم"
(5)
.
[من عدل الله في عباده تزيين أفعالهم لهم التي استحسنوها وجرت عادتهم عليها]
قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [سورة الأنعام: 108]
19.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه، وليس المراد به أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر، وفي قلوب بعضها تزيينا للإيمان والخير خلقا ابتدائيا، من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك"
(6)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 52).
(2)
مفاتيح الغيب (13/ 90)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 526)، البحر المحيط في التفسير (4/ 602).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 329).
(4)
تفسير ابن كثير (3/ 307).
(5)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 267).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(7/ 557).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة من عدل الله في عباده تزيين أفعالهم لهم التي استحسنوها وجرت عادتهم عليها، بدلالة معنى اللفظ.
وجه الاستنباط: أن في لفظ التزيين تنبيه وأثر وبيان ونتيجة لما استحسنه هؤلاء، فكان نتيجة لأعمالهم الاختيارية، وليس فرضا ابتدائيا من الله على البشر، وقد مضت سنة الله في أخلاق البشر وشئونهم أن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه مما كان عليه آباؤهم، أو مما استحدثوه بأنفسهم، إذا صار يسند وينسب إليهم، سواء كانوا على تقليد وجهل، أم على بينة وعلم، وفي هذا رد على الجبرية القائلين بأن الله خلق في قلوب هؤلاء الكفر ومنعهم من الإيمان.
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثَانَ والأصنام، عبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان بخذلاننا إيّاهم عن طاعة الرحمن، كذلك زيَّنا لكل جماعةٍ اجتمعت على عملٍ من الأعمال من طاعة الله ومعصيته، عملَهم الذي هم عليه مجتمعون"
(1)
.
قال ابن عطية: "قوله تعالى: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ) إشارة إلى ما زين الله لهؤلاء عبدة الأصنام من التمسك بأصنامهم والذب عنها وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير والشر والاتباع لطرقه، وتزيين الشيطان هو بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء"
(2)
.
قال الشوكاني: "كذلك زينا لكل أمة عملهم أي مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم من الخير والشر يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها، ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم، وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم"
(3)
.
قال ابن عاشور: "وحقيقة تزيين الله لهم ذلك أنه خلقهم بعقول يحسن لديها مثل ذلك الفعل، على نحو ما تقدم في قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) [الأنعام: 108]، وذلك هو القانون في نظائره، والتزيين تفعيل من الزين، وهو الحسن أو من الزينة، وهي ما يتحسن به الشيء، فالتزيين جعل الشيء ذا زينة أو إظهاره زينا أو نسبته إلى الزين، وهو هنا بمعنى إظهاره في صورة الزين وإن لم يكن كذلك، فالتفعيل فيه للنسبة مثل التفسيق، وفي قوله: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) [الحجرات: 7] بمعنى جعله زينا، فالتفعيل للجعل لأنه حسن في ذاته"
(4)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (12/ 37).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 332).
(3)
فتح القدير (2/ 172).
(4)
التحرير والتنوير (7/ 433).
[العاقبة للتقوى سنة شرعية قام عليها علم الاجتماع]
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [سورة الأنعام: 112]
20.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وحكمة عداوة الأشرار للأخيار هي ما يعبر عنه في عرف علماء الاجتماع البشري بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تفضي بالجهاد والتمحيص إلى ما يسمونه (سنة الانتخاب الطبيعي) أي انتصار الحق وبقاء الأمثل"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة العاقبة للتقوى سنة شرعية قام عليها علم الاجتماع، بدلالة الإقتضاء.
وجه الاستنباط: أن العداوة فيما بين البشر قائمة على تصارع بين كوامن الخير وكوامن الشر في النفوس، وهذا التصارع خير في مآله على الحق وأهله، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة: 251]، ودائما ما ينتصر الخير على الشر، وهذا ما يعبر عنه في علم الاجتماع، بالتنازع من أجل البقاء بين المتقابلات أو سنة الانتخاب الطبيعي.
وهنا يثبت الشيخ أن القرآن مصدر للعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع، وأن هذه العلوم لا تستغني عن العلوم الشرعية.
وقد أشار جمع من المفسرين أن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، تبين له أن هذه سنة الله في الرسل من قبله، فقد كانت العداوة فيما بينهم واضحة، ولكنهم صبروا على قلتهم وعداوتهم فنصرهم الله بالحق الذي بين أيديهم.
فقال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مسلِّيَه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله، وحاثًّا له على الصبر على ما نال فيه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا)، يقول: وكما ابتليناك، يا محمد، بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطينَ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليصدُّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربّك، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسّل، بأن جعلنا لهم أعداءً من قومهم يؤذُونهم بالجدال والخصومات، يقول: فهذا الذي امتحنتك به، لم تخصص به من بينهم وحدك، بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم، مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم، فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 6).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (12/ 50 - 51).
وقال البغوي: " (كذلك جعلنا لكل نبي عدوا)، أي: أعداء، فيه تعزية النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: كما ابتليناك بهؤلاء القوم، فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك أعداء، ثم فسرهم فقال: شياطين الإنس والجن"
(1)
.
وكذلك قال ابن عطية، والبيضاوي، والنسفي، وأبو حيان، والقرطبي، وابن سعدي
(2)
.
ولكن لم نجد من أشار إلى أن هذا المعنى المستنبط من أساسيات علم الاجتماع الحديث، مما يدل على عناية الشيخ بالعلوم الاجتماعية.
[خطاب الله لنبيه بربوبيته لبيان رعايته له، وخطاب الله للمشركين بألوهيته لبيان حقه عليهم]
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)} [سورة الأنعام: 107] وقال جل جلاله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [سورة الأنعام: 112].
21.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "ومن مباحث البلاغة نكتة الفرق بين قوله تعالى في الآية (112) من هذه الآيات: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)، وقوله في الآية (107) من آيات قبلها في السورة: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا)، وهي أن المشيئة أسندت إلى اسم الجلالة في مقام إظهار الحقائق في شئون المشركين وما يجب على الرسول وما ليس له، وأسندت إلى اسم الرب مضافا إلى الرسول في مقام تسليته وبيان سنته تعالى في أعداء الرسل قبله، فكأنه يقول: هذا ما اقتضته مشيئة ربك الكافل لك بحسن تربيته وعنايته نصرك على أعدائك، وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك من المؤمنين"
(3)
.
(1)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 152).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 335)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 178)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 530)، البحر المحيط في التفسير (4/ 623)، الجامع لأحكام القرآن (7/ 67)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 269).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 9).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الدعوة، في مسألة خطاب الله لنبيه بربوبيته لبيان رعايته له وخطاب الله للمشركين بألوهيته لبيان حقه عليهم، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: ذكر الفرق بين الاسناد في كلمة (ولو شاء الله، ولو شاء ربك) وأن كل منهما جاءت في مقامها المناسب، فالإسناد لاسم الجلالة في مقام إظهار الحقائق وما كان الواجب على المشركين تجاه هذه الحقائق، فناسب وصف الألوهية في خطابهم للقيام بحق الله عليهم، وجاء الاسناد الثاني في بيان أن هذا ما اقتضته مشيئة الله لك من حسن تربيتك والعناية بك ونصرك على أعدائك، فناسب وصف الربوبية في خطاب نبيه ورعاية الله له.
وهذا المعنى الذي ذكره الشيخ، لم يتطرق إليه المفسرون فيما وقفت عليه.
[تمام كلمة الله القدرية والشرعية من تمام فضله وعدله]
قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [سورة الأنعام: 115].
22.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "أما تمامها صدقا فهو وقوع مضمونها من حيث كونها خبرا، وأما تمامها عدلا فمن حيث كونها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون، وللمؤمنين المهتدين بما يستحقون، وإن كانوا بمقتضى الفضل يزادون، وإذا كانت هذه الآية نزلت بمكة قبل نصر الله تعالى نبيه على طغاة قومه في بدر وغيرها، فالفعل الماضي فيها "تمت" بمعنى المستقبل، فهو لتحقق وقوعه كأنه وقع، وهذا من ضروب المبالغة البليغة"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في توحيد الربوبية، في مسألة تمام كلمة الله القدرية والشرعية من تمام فضله وعدله، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: دلت الآية على وقوعها صدقا بأنها خبر، ووصف العدالة فيها أفاد أنها ما يجازى عليه المؤمنون والكافرون كل بعمله، فكأن هذه الآية بمعناها الماضي تدل على معنى مستقبل فيه البشرى بالنصر على الأعداء وتحقيق وعد الله كما في هذه الآية.
وأن كلمة (تمت) في الآية بمعنى استمرت وصحت، لا بمعنى كملت بعد نقص، فإن هذا يستحيل على كلمة الله عز وجل التي هي من صفاته ولها أكمل المعنى وأتمه وأحسنه.
قال الزمخشري: "تَمَّتْ في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقا وعدلا، وليس بتمام من نقص"
(2)
.
قال أبو حيان: "وقيل: فيما تضمن من خبر وحكم أو فيما كان وما يكون، أو فيما أمر وما نهى أو في الترغيب والترهيب أو فيما قال: هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار أو في الثواب والعقاب أو في نصرة أوليائه وخذلان أعدائه، أو في نصرة الرسول ببدر وإهلاك أعدائه أو في الإرشاد والإضلال أو في الغفران والتعذيب، أو في الفضل والمنع أو في توسيع الرزق وتقتيره أو في إعطائه وبلائه وهذه الأقوال أول القول فسر به الصدق والمعطوف فسر به العدل "
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 11).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 337).
(3)
البحر المحيط في التفسير (4/ 628).
وقال ابن عاشور: "والمراد بالتمام معنى مجازي: إما بمعنى بلوغ الشيء إلى أحسن ما يبلغه مما يراد منه، فإن التمام حقيقته كون الشيء وافرا أجزاؤه، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه، فيستعار لوفرة الصفات التي تراد من نوعه وإما بمعنى التحقق فقد يطلق التمام على حصول المنتظر وتحققه، يقال: تم ما أخبر به فلان، ويقال: أتم وعده، أي حققه"
(1)
.
[تغيّر أحكام العادات بتغيّر النيات]
قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} [سورة الأنعام: 118]
23.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وحكمة الاهتمام بهذه المسألة وقرنها بمسائل العقائد هو أن مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل جعلوا الذبائح من أمور العبادات، بل نظموها في سلك أصول الدين والاعتقادات، فصاروا يتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم ومن قدسوا من رجال الدين، ويهلون لهم بها عند ذبحها وهذا شرك بالله. ثم قال: وقد غفل عن هذا المعنى بعض كبار المفسرين"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب النية، في مسألة تغيّر أحكام العادات بتغيّر النيات، مفهوم المخالفة.
وجه الاستنباط: دلت الآية على تحريم الأكل من الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها، وقد نصت الآية التالية في هذه السورة على هذا الحكم، وخص الذبح بالتحريم عن باقي أصناف الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه، لأن المشركين وغيرهم جعلوا الذبح من أمور العبادات التي يتقرب بها إلى آلهتهم، لذا جاء الأمر بحل الأكل من ذبائح المؤمنين التي ذكر اسم الله عليها تقربا إلى الله على الوجه الذي شرعه كالأضحية والعقيقة وغيرها، ومما ذبحه أهل الكتاب، دون ما ذبحه المشركون من أهل الأوثان ومَنْ لا كتاب له كالمجوس.
قال البغوي: "كلوا مما ذبح على اسم الله، إن كنتم بآياته مؤمنين، وذلك أنهم كانوا يحرمون أصنافا من النعم ويحلون الأموات، فقيل لهم: أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله"
(3)
.
قال الزمخشري: "فكلوا مسبب عن إنكار اتباع المضلين، الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال. وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه خاصة دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه"
(4)
.
(1)
التحرير والتنوير (8 - أ/ 18).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 15).
(3)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 154).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 61).
قال ابن عطية: "القصد بهذه الآية النهي عما ذبح للنصب وغيرها وعن الميتة وأنواعها، فجاءت العبارة أمرا بما يضاد ما قصد النهي عنه، ولا قصد في الآية إلى ما نسي فيه المؤمن التسمية أو تعمدها بالترك، وقال عطاء: هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والطعام والذبح وكل مطعوم، وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم بأحكامه وأوامره آخذين، فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها "
(1)
.
قال الرازي: " (الفاء) في قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) يقتضي تعلقا بما تقدم فما ذلك الشيء؟ والجواب قوله فكلوا مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحللون الحرام ويحرمون الحلال وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم فقال الله للمسلمين إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله"
(2)
، ومثله قال البيضاوي والنسفي
(3)
.
قال ابن عاشور: "وعلم من ذلك أيضا النهي عن أكل الميتة ونحوها، مما لم تقصد ذكاته، لأن ذكر اسم الله أو اسم غيره إنما يكون عند إرادة ذبح الحيوان، كما هو معروف لديهم، فدلت هذه الجملة على تعيين أكل ما ذكي دون الميتة، بناء على عرف المسلمين لأن النهي موجه إليهم، وقوله: إن كنتم بآياته مؤمنين تقييد للاقتصار المفهوم: من فعل الإباحة، وتعليق المجرور به، وهو تحريض على التزام ذلك، وعدم التساهل فيه، حتى جعل من علامات كون فاعله مؤمنا، وذلك حيث كان شعار أهل الشرك ذكر اسم غير الله على معظم الذبائح"
(4)
.
قال الألوسي: "والمعنى على ما ذهب إليه غير واحد كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره خاصة أو مع اسمه عز اسمه أو مات حتف أنفه، والحصر -كما قيل- مستفاد من عدم اتباع المضلين ومن الشرط، ولولا ذلك لكان هذا الكلام متعرضا لما لا يحتاج إليه ساكتا عما يحتاج إليه، وادعى بعضهم أن لا حصر واستفادة عدم حل ما مات حتف أنفه من صريح النظم"
(5)
.
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 338).
(2)
مفاتيح الغيب (13/ 128).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 180)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 532).
(4)
التحرير والتنوير (8 - أ/ 32).
(5)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (4/ 258).
[أهل الأهواء يَضلون في أنفسهم ويُضلون غيرهم لزاما]
قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} [سورة الأنعام: 119]
24.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: " (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قرأ الجمهور يضلون (بضم الياء) وقرأ ابن كثير
(1)
وأبو عمرو
(2)
ويعقوب
(3)
بفتح الياء والأولى أبلغ، وفائدة القراءتين بيان وقوع الأمرين بالإيجاز العجيب، والمعنى أن من الثابت القطعي أن كثيرا من الناس يضلون غيرهم كما ضلوا في مثل أكل ما أهل به لغير الله بذكر اسم ذلك الغير من نبي أو صالح أو وثن وضع لتعظيمه والتذكير به، كما أن كثيرا منهم يضل في ذلك من تلقاء نفسه أو بإضلال غيره ولا يتصدى لإضلال أحد فيه للعجز عن الإضلال أو لفقد الداعية، وكل من ذلك الضلال والإضلال واقع بأهواء أهله لا بعلم مقتبس من الوحي، ولا مستنبط بحجج العقل
(4)
.
(1)
عبد الله بن كثير، مولى عمرو بن علقمة الكناني، ويقال له الداري، وكان مقدما في عصره، قرأ على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقرأ ابن عباس على أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه، إليه انتهت القراءة بمكة، أجمع أهل مكة على قراءته، توفي سنة 120 هـ، السبعة في القراءات (ص: 64 - 66)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب (2/ 89).
(2)
أبو عمرو بن العلاء بن عمّار التميميّ المازنيّ البصريّ، كان مقدما في عصره عالما بالقراءة ووجوهها قدوة في العلم باللغة، إمام الناس في العربية وفقهه، قرأ على مجاهد وسعيد بن جبير، أحد القراء السبعة، توفي سنة 154 هـ، السبعة في القراءات (ص: 79)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب (2/ 248).
(3)
أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن إسحاق الحضرمي، قرأ على يونس بن عبيد النحوي، من أهل القرآن، ومن كبار الأئمة في القراء، القارئ التاسع من القراء العشرة، توفي سنة 205 هـ، طبقات القراء السبعة وذكر مناقبهم وقراءاتهم (ص: 99) شذرات الذهب في أخبار من ذهب (3/ 30).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 17)
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة أهل الأهواء يَضلون في أنفسهم ويُضلون غيرهم لزاما، بدلالة الجمع.
وجه الاستنباط: بيّن من خلال الجمع بين القراءات أن أمر الاضلال متحقق بالقراءتين الفتح والضم، وهذا من إيجاز القرآن العجيب، فالضلال في أنفسهم والإضلال لغيرهم واقع بهؤلاء لا محالة، وهو من أنفسهم وليس من وحي مقتبس، ولا حجة مستنبطة.
وقد ذكر فائدة القراءتين ابن عاشور فقال: "وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب: ليضلون - بفتح الياء- على أنهم ضالون في أنفسهم، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف - بضم الياء- على معنى أنهم يضللون الناس، والمعنى واحد، لأن الضال من شأنه أن يضل غيره، ولأن المضل لا يكون في الغالب إلا ضالا، إلا إذا قصد التغرير بغيره، والمقصود التحذير منهم وذلك حاصل على القراءتين"
(1)
(2)
.
قال أبو جعفر: "وأَولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ)، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبرَ نبيه صلى الله عليه وسلم عن إضلالهم من تبعهم، ونهاه عن طاعتهم واتباعهم إلى ما يدعونه إليه، فقال: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، ثم أخبر أصحابه عنهم بمثل الذي أخبره عنهم، ونهاهم من قبول قولهم عن مثل الذي نهاه عنه، فقال لهم: وإن كثيرًا منهم ليضلونكم بأهوائهم بغير علم، نظيرَ الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) "
(3)
.
وقال ابن عطية: "وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلون» بفتح الياء على معنى إسناد الضلال إليهم في هذه السورة وفي يونس رَبَّنا لِيُضِلُّوا [الآية: 88] وفي سورة إبراهيم أَنْداداً لِيُضِلُّوا [الآية: 30] وفي الحج ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ [الآية: 9]، وفي لقمان لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية: 6] وفي الزمر أَنْداداً لِيُضِلَّ [الزمر: 8]، وقرأ نافع وابن عامر كذلك في هذه وفي يونس وفي الأربعة التي بعد هذه يضمان الياء على معنى إسناد إضلال غيرهم إليهم، وهذه أبلغ في ذمهم لأن كل مضل ضال وليس كل ضال مضلا، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي في المواضع الستة «ليضلون» بضم الياء على معنى إسناد إضلال غيرهم إليهم"
(4)
، ومثله الرازي وأبو حيان
(5)
.
(1)
التحرير والتنوير (8 - أ/ 35).
(2)
السبعة في القراءات (ص: 267)، شرح طيبة النشر لابن الجزري (ص: 228)، الحجة في القراءات السبع (ص: 148)، الوافي في شرح الشاطبية (ص: 265).
(3)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (12/ 72).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 339).
(5)
مفاتيح الغيب (13/ 129)، البحر المحيط في التفسير (4/ 631).
وهناك من المفسرين من ذكر القراءتين ولم يرجح او يبيّن فائدة هذه القراءات.
ومنهم البغوي حيث قال: "وإن كثيرا ليضلون، قرأ أهل الكوفة بضم الياء وكذلك قوله: ليضلوا [يونس: 88] في سورة يونس لقوله تعالى: يضلوك عن سبيل الله، وقيل: أراد به عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين الذين اتخذوا البحائر والسوائب، وقرأ الآخرون بالفتح لقوله: من يضل
(1)
، والبيضاوي
(2)
.
[جعل الله أكابر القرى محاربين للرسل تذكيرا للمؤمنين وتحذيرا للمشركين]
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)} [سورة الأنعام: 123]
25.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ونقول في العبرة بالآية بما يناسب حال هذا العصر: إن سنة الله تعالى في الاجتماع البشري قد مضت بأن يكون في كل عاصمة لشعب أو أمة أو كل قرية وبلدة بعث فيها رسول أو مطلقا رؤساء وزعماء مجرمون يمكرون فيها بالرسل، أو بأن يكون أكابرها المجرمون ماكرين فيها بالرسل في عهدهم، وبسائر المصلحين من بعدهم"، وقال:"وهذا العموم في الآية صحيح واقع يعرفه أهل البصيرة والعلم بشئون الاجتماع والعمران، ولا تظهر صحة العموم في القرى والأكابر جميعا بجعل جميع الأكابر المجرمين ماكرين في جميع القرى، أو بجعل جميع المجرمين فيها أكابر أهلها، بحيث يكون الإجرام هو سبب كونهم أكابرها، بل قد يتحقق بكون أكثر الأكابر الزعماء مجرمين ماكرين ولا سيما في القرى التي استحقت الهلاك بحسب سنة الاجتماع المبينة في قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [سورة الإسراء: 16] "
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة جعل الله أكابر القرى محاربين للرسل تذكيرا للمؤمنين وتحذيرا للمشركين، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: سنة الله في الاجتماع البشري ماضية في أن كل شعب أو قوم في بلد ما لا تخلو من مفسدين يفسدون فيها بشتى الصور، ويمكرون بمن يريد الإصلاح سواء كانوا رسل أو دعاة إصلاح، فجعل الله أكابر القرى محاربين للرسل تذكيرا للمؤمنين وتحذيرا للمشركين، وذلك تأكيد لمكر الأكابر بالأنبياء والمصلحين، وربط ذلك بعلم الاجتماع، وأن المجتمعات لا تخلو من مصحلين ومفسدين.
(1)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 154).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 180).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 29)
وقد أشار جمع من المفسرين إلى معنى العموم ولم يتطرق أحد منهم أنها قضية اجتماعية كما أشار إليها الشيخ محمد رشيد، فقال ابن جرير:"وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها، يعني أهل الشرك بالله والمعصية له (ليمكروا فيها)، بغرور من القول أو بباطل من الفعل، بدين الله وأنبيائه (وما يمكرون): أي ما يحيق مكرهم ذلك، إلا بأنفسهم، لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله"
(1)
.
وقال البغوي: "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها، أي: كما أن فساق مكة أكابرها، كذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها، أي: عظماءها، جمع أكبر، مثل أفضل وأفاضل، وأسود وأساود، وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم، كما قال في قصة نوح عليه السلام: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) [الشعراء: 111]، وجعل فساقهم أكابرهم، ليمكروا فيها، وذلك أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، يقولون لكل من يقدم: إياك وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب. وما يمكرون إلا بأنفسهم، لأن وبال مكرهم يعود عليه. وما يشعرون، أنه كذلك"
(2)
.
وقال القرطبي: "وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد. والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة، أصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها. قال مجاهد: كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم. (وما يمكرون إلا بأنفسهم) أي وبال مكرهم راجع إليهم. وهو من الله عز وجل الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم. (وما يشعرون) في الحال، لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم"
(3)
. ومثله البيضاوي، والنسفي، وأبو حيان
(4)
.
وقال ابن سعدي: " وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم، يناضلون هؤلاء المجرمين، ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله، ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك، ويعينهم الله ويسدد رأيهم، ويثبت أقدامهم، ويداول الأيام بينهم وبين أعدائهم، حتى يدول الأمر في عاقبته بنصرهم وظهورهم، والعاقبة للمتقين"
(5)
.
(1)
جامع البيان (12/ 93).
(2)
معالم التنزيل في التفسير القرآن (2/ 157).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 79).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 181)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 534)، البحر المحيط في التفسير (4/ 635).
(5)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 272).
وقال ابن عاشور: "وكذلك جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كل قرية مثلهم، وإنما عمم الخبر لقصد تذكير المشركين في مكة بما حل بالقرى من قبلها، مثل قرية: الحجر، وسبأ، والرس، كقوله: تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا [الأعراف: 101]، ولقصد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ليس ببدع من الرسل في تكذيب قومه إياه ومكرهم به ووعده بالنصر"
(1)
.
[القرآن الكريم منبع قواعد وأصول علم الاجتماع]
قال تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} [سورة الأنعام: 131].
26.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: " إن هذه الآية وما في معناها من الآيات - كآية هود - من قواعد علم الاجتماع البشري الذي لا يزال في طور الوضع والتدوين، وهو العلم بسنن الله تعالى في قوة الأمم والشعوب وضعفها وعزها وذلها وغناها وفقرها وبداوتها وحضارتها وأعمالها ونحو ذلك، وفائدة هذا العلم في الأمم كفائدة علم النحو والبيان في حفظ اللغة، وفي القرآن الحكيم أهم قواعده وأصوله"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا علميا، في باب تضمن الشريعة لأمور الدين والدنيا، في مسألة القرآن الكريم منبع قواعد وأصول علم الاجتماع، بدلالة المفهوم والتضمن.
وجه الاستنباط: من سنن الله عز وجل، ألا يهلك قوما وهم غافلون، حتى تبلغهم البينة وتقوم عليهم الحجة، وهذا من حفظ الله للأمم والمجتمعات، وفي هذا تأصيل وبناء لعلم الاجتماع، وهذا تأصيل من الشيخ رحمه الله لهذا العلم وبيان لأهميته، وأن فائدته في الأمم كفائدة علم النحو والبيان في حفظ اللغة، وأن أسسه وقواعده وأصوله منبثقة من القرآن الحكيم.
وهذا مما انفرد به الشيخ رحمه الله، فلم يذكره أحد من المفسرين فيما اطلعت عليه، خاصة أنه في تأصيل علم مستقل حادث.
[الكفر مكانات متفاوتة لتعدد الباطل والحق صورة واحدة لوحدة الحق]
قال تعالى: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)} [سورة الأنعام: 135]
27.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "قرأ أبو بكر
(3)
عن عاصم
(4)
(مكاناتكم) بالجمع في كل القرآن والباقون بالإفراد، والأصل في المكانة ألا تجمع لأنها مصدر، ونكتة جمعها في هذه القراءة إفادة أن للكفار مكانات متفاوتة، لتعدد الباطل ووحدة الحق"
(5)
.
(1)
التحرير والتنوير (8 - أ/ 49).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 96).
(3)
أبو بكر بن عيّاش الأسديّ مولاهم، الكوفيّ الحنّاط، المقرء الفقيه المحدث،، كان أجلّ أصحاب عاصم. توفي سنة 193 هـ، سير أعلام النبلاء (8/ 495)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب (2/ 430).
(4)
أبو بكر عاصم بن أبي النجود، أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن، كان مقدما في زمانه مشهورا بالفصاحة معروفا بالإتقان، أحد القراء السبعة، توفي سنة 128 هـ، السبعة في القراءات (ص: 69 - 71)، طبقات القراء السبعة وذكر مناقبهم وقراءاتهم (ص: 84).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 105).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الدعوة، في مسألة الكفر مكانات متفاوتة لتعدد الباطل، والحق صورة واحدة، لوحدة الحق، بدلالة اللغة.
وجه الاستنباط: من خلال قراءة كلمة (مكاناتكم) في علم القراءات، وأصل هذه الكلمة لا يجمع، لكن لنكتة جمعت، وهي أن الكفر مكانات متفاوتة لتعدد الباطل، والحق صورة واحدة، لوحدة الحق، وفي الحديث ((خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا ثم خط وسطه خطا ثم خط حوله خطوطا وخط خطا خارجا من الخط فقال هذا الإنسان للخط الأوسط وهذا الأجل محيط به وهذه الأعراض للخطوط فإذا أخطأه واحد نهشه الآخر وهذا الأمل للخط الخارج))
(1)
.
قال صاحب حجة القراءة: "قرأ أبو بكر (اعملوا على مكاناتكم) على الجمع في كل القرآن، وقرأ الباقون {على مكانتكم} أي على تمكنكم وأمركم وحالكم والتوحيد هو الاختيار لأن الواحد ينوب عن الجمع ولا ينوب الجمع عن الواحد قوله {مكانتكم} وزنه مفعلة من الكون والميم زائدة والألف منقلبة عن الواو من كان يكون مفعلة وقال قوم وزنه فعال مثل ذهاب والألف زائدة والميم أصلية والدليل على ذلك أن فعالا تجمعه على أفعلة تقول أمكنة ولو كان مفعلا لم يجمع على أفعلة"
(2)
.
وقال ابن جرير: "وقرأ ذلك بعض الكوفيين: "عَلَى مَكَانَاتِكُمْ"، على جمع"المكانة"، قال أبو جعفر: والذي عليه قراء الأمصار: (عَلَى مَكَانَتِكُمْ)، على التوحيد"
(3)
.
وقال ابن عطية: "وعَلى مَكانَتِكُمْ معناه على حالكم وطريقتكم، وقرأ أبو بكر عن عاصم «على مكاناتكم» بجمع المكانة في كل القرآن، وقرأ الجميع بالإفراد في كل القرآن"
(4)
.
وقال الرازي: "قرأ أبو بكر عن عاصم: مكاناتكم بالألف على الجمع في كل القرآن والباقون مكانتكم قال الواحدي: والوجه الإفراد لأنه مصدر والمصادر في أكثر الأمر مفردة وقد تجمع أيضا في بعض الأحوال إلا أن الغالب هو الأول"
(5)
.
وقال القرطبي: "وقرأ أبو بكر بالجمع "مكاناتكم"، والمكانة الطريقة، والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه فأنا أثبت على ما أنا عليه"
(6)
، ومثله البيضاوي
(7)
.
(1)
رواه الدارمي: من كتاب الرقاق باب في الأمل والأجل ح (2729).
(2)
حجة القراءات (ص: 272).
(3)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (12/ 129).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 348).
(5)
مفاتيح الغيب (13/ 156).
(6)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 89).
(7)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 183).
وقال أبو حيان: "قرأ أبو بكر على مكاناتكم على الجمع حيث وقع فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع ومن أفرد فعلى الجنس والمكانة، مصدر مكن فالميم أصلية وبمعنى المكان، ويقال: المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون فالميم زائدة فيحتمل أن يكون المعنى على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، قال معناه الزجاج، ويحتمل أن يكون المعنى على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، يقال: على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه"
(1)
.
[الجزاء عين العمل نكاية بهم وأن هلاكهم في قولهم وفعلهم]
قال تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)} [سورة الأنعام: 139].
28.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وجعل الجزاء عين العمل قد تكرر في سورة أخرى وقدروا له كلمة جزاء أو ثواب وعقاب بناء على أن العمل هو ما يجازى عليه لا ما يجازى به، ولكن تعبير الكتاب لا يكون إلا لنكتة عالية في البلاغة، وهي عندنا الإيذان بأن الجزاء لما كان أثرا لما يحدثه العمل في النفس من تزكية أو تدسية كان كأنه عين العمل، فإن النفس تنعم أو تعذب بالصفة التي تطبعها فيها الأعمال"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان باليوم الآخر، في مسألة الجزاء عين العمل نكاية بهم، وأن هلاكهم في قولهم وفعلهم، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: اقتضاء الجزاء قائم على العمل، ومن جعل الجزاء عين العمل بناء على أن العمل هو ما يجازى عليه لا ما يجازى به، وذلك لما كان للجزاء أثر في النفس لتتزكى به، ومن هنا كان الجزاء عين العمل والنفس تنعم وتتطبع فيها الأعمال.
وهذا معنى أضافه الشيخ، فإن الجزاء يكون من جنس العمل أي مثله في الوصف مع ما فيه من عقوبة، وأما الجزاء بنفس العمل فهو أن العمل الذي اختاروه وقرروه هو العقوبة التي وقعت عليهم، وهذا نكاية بهم، وبيان أنهم ضالون غارقون، لا يعلمون أن هلاكهم في قولهم وفعلهم.
قال البيضاوي: "سيجزيهم وصفهم أي جزاء وصفهم الكذب على الله سبحانه وتعالى في التحريم والتحليل من قوله: وتصف ألسنتهم الكذب إنه حكيم عليم"
(3)
، ومثله النسفي وأبو السعود والشوكاني
(4)
.
(1)
البحر المحيط في التفسير (4/ 652 - 653).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 113).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 185).
(4)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 542)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم الكريم (3/ 191)، فتح القدير للشوكاني (2/ 190).
قال ابن سعدي: " {سيجزيهم} الله {وصفهم} حين وصفوا ما أحله الله بأنه حرام، ووصفوا الحرام بالحلال، فناقضوا شرع الله وخالفوه، ونسبوا ذلك إلى الله، {إنه حكيم} حيث أمهل لهم، ومكنهم مما هم فيه من الضلال"
(1)
.
قال ابن عاشور: "وجزاؤهم عنه هو جزاء سوء بقرينة المقام، لأنه سمى مزاعمهم السابقة افتراء على الله، وجعل الجزاء متعديا للوصف بنفسه على تقدير مضاف، أي: سيجزيهم جزاء وصفهم، ضمن سيجزيهم معنى يعطيهم، أي جزاء وفاقا له"
(2)
.
[الأصل في المطعومات الحل إلا ما نص الدليل على تحريمه]
29.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "الآية وردت بصيغة الحصر القطعي، فهي نص قطعي في حل ما عدا الأنواع الأربعة التي حصر التحريم بها فيها"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الأطعمة، في مسألة الأصل في المطعومات الحل إلا ما نص الدليل على تحريمه، بدلالة مفهوم المخالفة.
وجه الاستنباط: دلت الآية على حصر المحرمات في هذه الأنواع الأربع، وعليه إباحة ما عداها من الأنواع، وهذا الأسلوب يتناسب مع وقت نزول القرآن، حيث إن هذه الآية نزلت بمكة في وقت يحتاج فيه لبيان الحلال والحرام فقط، ثم شرع في آية المائدة المدنية إلى مزيد من التفصيل في الأطعمة من حيث الحل والحرمة.
وجاء في شرح الآية للشيخ مقارنتها بآية سورة النحل التي سردت فيها النعم ثم ما أنزل الله في سورة البقرة المؤكد لما في سورة النحل، حيث عبر في كل منهما عن الحصر (بإنما) على القاعدة لأن هذا الحصر كان معروفا ومقررا بآية الأنعام، وأنها هي أصل الشريعة المحكم فيما يحل ويحرم من الطعام، وهذا المعنى الذي قال به ابن عباس وغيره
(4)
.
وأشار الإمام ابن جرير والبيضاوي، والنسفي والقرطبي، وابن سعدي إلى أن هذه الآية إعلام من الله للمشركين الذين جادلوا في تحريم الميتة وغيرها أن هذا بيد الله وهو وحده الذي يحلل ويحرم وليس بمجرد الهوى
(5)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 276).
(2)
التحرير والتنوير (8 - أ/ 112).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 131).
(4)
تفسير المنار (8/ 141 - 147).
(5)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (12/ 191)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 186)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 544)، الجامع لأحكام القرآن (7/ 115)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 277).
قال الرازي: "إعلم أن هذه السورة مكية فبين تعالى في هذه السورة المكية أنه لا محرم إلا هذه الأربعة ثم أكد ذلك بأن قال في سورة النحل: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) [النحل: 115] وكلمة (إنما) تفيد الحصر فقد حصلت لنا آيتان مكيتان يدلان على حصر المحرمات في هذه الأربعة فبين في سورة البقرة وهي مدنية أيضا أنه لا محرم إلا هذه الأربعة فقال: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) [البقرة: 173] وكلمة (إنما) تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة لتلك الآية المكية لأن كلمة: (إنما) تفيد الحصر فكلمة إنما في الآية المدنية مطابقة لقوله: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما إلا كذا وكذا في الآية المكية ثم ذكر تعالى في سورة المائدة قوله تعالى: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) [المائدة: 1] وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله: إلا ما يتلى عليكم هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل وهو قوله: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم) [المائدة: 3] وكل هذه الأشياء أقسام الميتة وأنه تعالى إنما أعادها بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر"
(1)
.
وقال السيوطي: "احتج به كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور"
(2)
.
قال الشوكاني: "أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرما غير هذه المذكورات، فدل ذلك على انحصار المحرمات فيها لولا أنها مكية"
(3)
.
قال ابن عاشور: "والحصر المستفاد من النفي والاستثناء حقيقي بحسب وقت نزول هذه الآية. فلم يكن يومئذ من محرمات الأكل غير هذه المذكورات لأن الآية مكية ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة فزيد في المحرمات"
(4)
.
[الفقر الواقع والفقر المتوقع علة للنهي ولتقديم ضمان الكاسب]
(1)
مفاتيح الغيب (13/ 168).
(2)
الإكليل في استنباط التنزيل (2/ 721).
(3)
فتح القدير (2/ 196).
(4)
التحرير والتنوير (8 - أ/ 138).
30.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "سيأتي في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [سورة الإسراء: 31] فقدم رزق الأولاد هنالك على رزق الوالدين - عكس ما هنا - لأنه متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل الذي يكون الأولاد فيه كبارا كاسبين، وقد يصير الوالدون في حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر، ففرق في تعليل النهي في الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع، فقدم في كل منهما ضمان الكاسب للإشارة إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق خلافا لمن يزهدونهم في العمل بشبه كفالته تعالى لرزقهم"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة الفقر الواقع والفقر المتوقع علة للنهي ولتقديم ضمان الكاسب، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: بعد أن أمر الله ببر الوالدين والإحسان إليهما، عطف عليه النهي عن قتل الولد خشية الفقر الواقع من جهة الوالدين، وأنه لايسوغ لهما قتل ولدهما لأن الله هو الرزاق لكم ولهم، وأن النهي في سورة الإسراء متعلق بالفقر المتوقع في المستقبل، وأنه لا مبرر له لأن هؤلاء الأبناء يكونون في المستقبل أهلا للعمل والتكسب، فالقتل لهذه العلة منتفٍ، وفي كلا الأمرين إقرار بإفراد الله بالرزق والمجازاة عليه.
وهذا المعنى لم يشر إليه أحد، بل كانت عباراتهم في بيان النهي عن القتل، وسببه وأن رزق العباد على مولاهم وخالقهم.
ومن ذلك ما قاله ابن جرير: "يعني تعالى ذكره بقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)، ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم، فإن الله هو رازقكم وإياهم، ليس عليكم رزقهم، فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجزَ عن أرزاقهم وأقواتهم"
(2)
، ومثله البغوي، والقرطبي
(3)
.
وقال الرازي: "قوله: ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد وقوله: ولا تقتلوا أولادكم من إملاق أي من خوف الفقر وقد صرح بذكر الخوف في قوله: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [الإسراء: 31]، والمراد منه النهي عن الواد إذا كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم خوف الفقر وهو السبب الغالب فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله: نحن نرزقكم وإياهم لأنه تعالى إذا كان متكفلا برزق الوالد والولد فكما وجب على الوالدين تبقية النفس والاتكال في رزقها على الله فكذلك القول في حال الولد"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 164).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (12/ 217).
(3)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (3/ 203)، الجامع لأحكام القرآن (7/ 132).
(4)
مفاتيح الغيب (13/ 178).
قال البيضاوي: " (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) من أجل فقر ومن خشيته، كقوله: خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه"
(1)
.
قال أبو حيان: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم من هنا سببية أي من فقر لقوله خشية إملاق، وقتل الولد حرام إلا بحقه وإنما ذكر هذا السبب لأنه كان العلة في قتل الولد عندهم، وبين تعالى أنه هو الرازق لهم ولأولادهم وإذا كان هو الرازق فكما لا تقتل نفسك كذلك لا تقتل ولدك. ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين نهى عن الإساءة إلى الأولاد ونبه على أعظم الإساءة للأولاد هو إعدام حياتهم بالقتل خوف الفقر، وجاء التركيب هنا نحن نرزقكم وإياهم، وفي الإسراء نحن نرزقهم وإياكم، فيمكن أن يكون ذلك من التفنن في الكلام ويمكن أن يقال في هذه الآية جاء من إملاق فظاهره حصول الإملاق للوالد لا توقعه، وخشيته وإن كان واجدا للمال فبدأ أولا بقوله: نحن نرزقكم خطابا للآباء وتبشيرا لهم بزوال الإملاق وإحالة الرزق على الخلاق الرزاق، ثم عطف عليهم الأولاد. وأما في الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون وأن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإملاق والخشية منه فبدئ فيه بقوله: نحن نرزقهم إخبارا بتكفله تعالى برزقهم فلستم أنتم رازقيهم وعطف عليهم الآباء وصارت الآيتان مفيدتان معنيين. أحدهما: أن الآباء نهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم. والآخر: أنهم نهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين لتوقع الإملاق وخشيته وحمل الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد"
(2)
. ومثله عند ابن كثير وزاد عليه: "بدأ برزقهم للاهتمام بهم، أي: لا تخافوا من فقركم بسببهم، فرزقهم على الله. وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلا قال: {نحن نرزقكم وإياهم}؛ لأنه الأهم هاهنا"
(3)
.
وقال ابن سعدي: " {ولا تقتلوا أولادكم} من ذكور وإناث {من إملاق} أي: بسبب الفقر وضيقكم من رزقهم، كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة، وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال، وهم أولادهم، فنهيهم عن قتلهم لغير موجب، أو قتل أولاد غيرهم، من باب أولى وأحرى، {نحن نرزقكم وإياهم} أي: قد تكفلنا برزق الجميع، فلستم الذين ترزقون أولادكم، بل ولا أنفسكم، فليس عليكم منهم ضيق"
(4)
.
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 188).
(2)
البحر المحيط في التفسير (4/ 687).
(3)
تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 362).
(4)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 279).
[الوصايا الخمس مصالح مؤكدة بالنظر العقلي]
31.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: " (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الإشارة إلى الوصايا الخمس التي تليت في هذه الآية، واللام فيها للدلالة على بعد مدى ما تدل عليه الوصايا المشار إليها من الحكم والأحكام والمصالح الدنيوية والأخروية أو بعدها عن متناول أوضاع الجهل والجاهلية ولا سيما مع الأمية، أي وصاكم الله بذلك لما فيه من إعدادكم وباعث الرجاء في أنفسكم لأن تعقلوا ما فيه الخير والمنفعة في ترك ما نهى عنه وفعل ما أمر به؛ فإن ذلك مما تدركه العقول الصحيحة بأدنى تأمل، وفيه دليل على الحسن الذاتي وإدراك العقول له بنظرها، وإذا هي عقلت ذلك كان عاقلا لها ومانعا من المخالفة، وفيه تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها، مما لا تعقل له فائدة، ولا تظهر للأنظار الصحيحة فيه مصلحة"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب الاستدلال، في مسألة إعمال العقل، والنظر في هذه الوصايا الخمس وما تفضي إليه من المصالح الدينية والدنيوية، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: الناظر لهذه الوصايا الخمس في الآية بنظر العقل المجرد الصحيح، لتفهم وعقل الغايات والمصالح الدنيوية والدينية منها، وأكد ذلك المعنى بالتعريض بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم ما أحل الله اتباعا لشياطينهم، وإغفالهم لعقولهم، فهم بهذا فقدوا عقولهم في هذه الأعمال فحرموا ما أحل الله لهم بأمر من الشياطين.
قال الرازي: "فقال: ذلكم وصاكم به لما في هذه اللفظة من اللطف والرأفة وكل ذلك ليكون المكلف أقرب إلى القبول ثم أتبعه بقوله: لعلكم تعقلون أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 166).
(2)
مفاتيح الغيب (13/ 179).
قال البيضاوي: "وصاكم به بحفظه، لعلكم تعقلون ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد"
(1)
.
قال أبو حيان: "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون أشار إلى جميع ما تقدم وفي لفظ وصاكم من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان، ولما كان العقل مناط التكليف قال تعالى: لعلكم تعقلون أي فوائد هذا التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والوصاة الأمر المؤكد المقرر"
(2)
.
قال أبو السعود: " {ذلكم} إشارة إلى ما ذكر من التكاليف الخمسة وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بعلو طبقاتها من بين التكاليف الشرعية وهو مبتدأ وقوله تعالى {وصاكم به} أي أمركم به ربكم أمرا مؤكدا خبره والجملة استئناف جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجا بالمحافزظة على ما كلفوه ولما كانت الأمور المنهي عنها مما تقضي بديهة العقول بقبيحها فصلت الآية الكريمة بقوله تعالى {لعلكم تعقلون} أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المذكورة"
(3)
، ومثله ابن عاشور
(4)
وزاد: "وقوله: لعلكم تعقلون رجاء أن يعقلوا، أي يصيروا ذوي عقول لأن ملابسة بعض هذه المحرمات ينبئ عن خساسة عقل، بحيث ينزل ملابسوها منزلة من لا يعقل، فلذلك رجي أن يعقلوا".
قال السعدي: " {ذَلِكُمْ} المذكور {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} عن الله وصيته، ثم تحفظونها، ثم تراعونها وتقومون بها. ودلت الآية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله به"
(5)
.
وجاء في بحث استنباطات السعدي: "أن الله بعد أن بين هذه المحرمات بين أن العقل يدل على النفور منها وأن في استخدام العقل كفاية في بيان حرمتها وعدم الوقوع فيها لتمييز العقل بين الضار والنافع، فأخذ من عموم المعنى ان المتمثل لأمر الله صاحب عقل وعلى قدر امتثاله يكون عقله"
(6)
.
[النهي عن قرب مال اليتيم قطعٌ لشبهات المتأولين والطامعين فيه]
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 189).
(2)
البحر المحيط في التفسير (4/ 688).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 199).
(4)
التحرير والتنوير (8 - أ/ 162).
(5)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 279).
(6)
انظر: استنباطات السعدي (518).
32.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والنهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه، لأنه يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل التي تؤدي إليه وتوقع فيه، وعن الشبهات التي تحتمل التأويل فيه، فيحذرها التقي إذ يعدها هضما لحق اليتيم، ويقتحمها الطامع إذ يراها بالتأويل مما يحل له لعدم ضررها باليتيم، أو لرجحان نفعها له على ضررها، كأن يأكل من ماله شيئا بوسيلة له فيه ربح من جهة أخرى في عمل لولاه لم يربح ولم يخسر"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب حفظ المال، في مسألة النهي عن قرب مال اليتيم قطعٌ لشبهات المتأولين والطامعين فيه، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: دلالة لفظ النهي عن الاقتراب من مال اليتيم أولى من النهي عن أكله، إلا ما فيه تثميره وصلاحه، فهي دافعه لشبهات المتأولين أو الطامعين فيه.
وأشار بعض المفسرين إلى هذا فقال ابن عطية: "هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو التثمير والسعي في نمائه، قال مجاهد: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ التجارة فيه ممن كان من الناظرين له مال يعيش به، فالأحسن إذا ثمر مال يتيم ألا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها من كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له"
(2)
، ومثله أبو حيان
(3)
.
قال أبو السعود: " {ولا تقربوا مال اليتيم} توجيه النهي إلى قربانه لما مر من المبالغة في النهي عن أكله ولإخراج القربان النافع عن حكم النهي بطريق الاستثناء أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه"
(4)
.
[التوحيد والعدل قاعدةٌ أساس في الإصلاح البشري وفي هدم الوثنية]
قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} [سورة الأنعام: 164]
33.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وهي قاعدة من أصول دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله كما قال في سورة النجم: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [سورة النجم: 36 - 39]، وهي من أعظم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم، لأنها هادمة لأساس الوثنية، وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 167).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 362).
(3)
البحر المحيط في التفسير (4/ 688).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 199).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 217).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب مقاصد الشريعة، في مسألة التوحيد والعدل قاعدةٌ أساس في الإصلاح البشري وفي هدم الوثنية، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: هذه الآية قاعدة من أصول الدين، ومن أعظم أركان الإصلاح للبشر، لأنها قائمة على العدل وليس فيها ظلم وجور، وهو بهذا يوظف القواعد الشرعية توظيفا اجتماعيا، وهذا مطالب به حتى يصلح حال المجتمع.
قال ابن جرير: " (ولا تكسب كل نفس إلا عليها)، يقول: ولا تجترح نفس إثمًا إلا عليها، أي: لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى، وركبت من الخطيئة، سواها، بل كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه والمأخوذ بذنبه (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها، ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب، دون إثم أخرى غيرها.
وإنما يعني بذلك المشركين الذين أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لهم. يقول: قل لهم: إنا لسنا مأخوذين بآثامكم، وعليكم عقوبة إجرامكم، ولنا جزاء أعمالنا"
(1)
.
قال القرطبي: "قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها"
(2)
، ومثله أبو حيان
(3)
.
وقال أبو السعود: "كانوا يقولون للمسلمين اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا، فهذا رد له بالمعنى الأول أي لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر حتى يتأتى ما ذكرتم وقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} رد له بالمعنى الثاني أي لا تحمل يومئذ نفس حاملة حمل نفس أخرى حتى يصح قولكم"
(4)
، وذكر ذلك القاسمي
(5)
، ثم أضاف تنبيها، فقال:"تنبيه: قال السيوطي في (الإكليل): هذه الآية أصل في أنه لا يؤاخذ أحد بفعل أحد".
قال الشوكاني: "قوله: ولا تكسب كل نفس إلا عليها أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها، فكل كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها
(6)
، وبنحوه قال ابن سعدي
(7)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن ت شاكر (12/ 286).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 157)
(3)
البحر المحيط في التفسير (4/ 704).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 207)
(5)
محاسن التأويل (4/ 556).
(6)
فتح القدير (2/ 211)
(7)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 282).
[هلاك الأمم وخلافتهم لبعض وتمييز الله لهم بالنعم سنن مقررة للتوحيد وهادمة لقواعد الشرك]
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [سورة الأنعام: 165]
34.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "هذه الآية مبينة لبعض أحوال البشر التي نعبر عنها في عرف هذا العصر بالسنن الاجتماعية"، وزاد:"فهذه الهداية الاجتماعية مقررة لعقيدة التوحيد وهادمة لقواعد الشرك التي اعتادها الناس"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة سنن الله الكونية، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: من دلائل قدرة الله الكونية وسننه، إهلاكه للأمم السابقة وإحلاله فئات من الناس خلفا وخلقا جديدا، وتمييزهم بالنعم للابتلاء والتمحيص.
وأشار رحمه الله إلى دلالة التوحيد على قواعد علم الاجتماع، وأن هذا مبني على قاعدة توحيد الله وهادم للشرك بكل صوره، فهذه الهداية الاجتماعية مقررة لعقيدة التوحيد وهادمة لقواعد الشرك، التي هي عبارة عن اتكال الناس واعتمادهم على ما اتخذوا بينهم وبين ربهم من الوسطاء ليقربوهم إليه ويشفعوا لهم عنده فيما يطلبون من نفع ودفع ضر كما تقدم شرحه; ولهذا ترى هؤلاء المشركين من حيث يشعرون أو لا يشعرون أشقى الناس وأبعدهم عن نيل مآربهم، وترى خصومهم دائما ظافرين بهم"
(2)
.
وهذا مما تفرد به رحمه الله فيما وقفت عليه، حيث أن جل المفسرين بينوا المعنى العام لمعنى الاستخلاف، كما قال ابن جرير:"قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: والله الذي جعلكم، أيها الناس، (خلائفَ الأرض)، بأن أهلك مَنْ كان قبلكم من القرون والأمم الخالية، واستخلفكم، فجعلكم خلائف منهم في الأرض، تخلفونهم فيها، وتعمرُونها بعدَهم"
(3)
، ومثله البغوي
(4)
.
وقال الزمخشري: "جعلكم خلائف الأرض لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فحلفت أمته سائر الأمم. أو جعلهم يخلف بعضهم بعضا. أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الشرف والرزق ليبلوكم في ما آتاكم من نعمة المال والجاه، كيف تشكرون تلك النعمة، وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والحر بالعبد، والغنى بالفقير إن ربك سريع العقاب لمن كفر نعمته وإنه لغفور رحيم لمن قام يشكرها"
(5)
، ومثله الرازي، والبيضاوي، والنسفي، والقرطبي
(6)
وغيرهم.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 220).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 221).
(3)
جامع البيان ت شاكر (12/ 287).
(4)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 179).
(5)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 84).
(6)
مفاتيح الغيب (14/ 192)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 192)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 553)، الجامع لأحكام القرآن (7/ 158).
استنباطات سورة الأعراف
[السكن حق على الرجل والمرأة تابعة له فيه وبهذا تحقق القوامة]
قال تعالى: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)} [سورة الأعراف: 19]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والآية ترشد إلى أن المرأة تابعة للرجل في السكنى والمعيشة باقتضاء الفطرة، وهو الحق الواقع الذي يعد ما خالفه شذوذا"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب النكاح، في مسألة السكن حق على الرجل والمرأة تابعة له فيه وبهذا تحقق القوامة، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: أرشدت الآية إلى أن المرأة تابعة لزوجها في مكان إقامته، ومن خلاله يتمكن من أداء واجبه في القوامة عليها، وهذا حق كفلته الشريعة الإسلامية للمرأة المسلمة، وهو من مقتضيات الفطر السليمة، ولا ينادي بخلافه إلا منتكس الفطرة، صاحب الهوى والشذوذ.
وقد أشار بعض المفسرين إلى معنى السكن ولم يتطرقوا إلى أنه حق على الرجل وأن المرأة تابعة له فيه، وممن قال بذلك البيضاوي حيث قال:" (قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) السكنى من السكون لأنها استقرار ولبث، وأنت تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه، وإنما لم يخاطبهما أولا تنبيها على أنه المقصود بالحكم والمعطوف عليه تبع له"
(2)
.
وقال أبو السعود: " {اسكن أنت وزوجك الجنة} هو من السكن الذي هو عبارة عن اللبث والاستقرار والإقامة لا من السكون الذي هو ضد الحركة وأنت ضمير أكد به المستكن ليصح العطف عليه والفاء في قوله تعالى {فكلا من حيث شئتما} لبيان المراد مما في سورة البقرة من قوله تعالى وكلا منها رغدا حيث شئتما من أن ذلك كان جمعا مع الترتيب وقوله تعالى من حيث شئتما في معنى منها حيث شئتما ولم يذكر ههنا رغدا ثقة بما ذكر هناك وتوجيه الخطاب إليهما لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه السلام في حق الأكل بخلاف السكن فإنها تابعة له فيه ولتعليق النهي بها صريحا في قوله تعالى {ولا تقربا هذه الشجرة} "
(3)
.
بينما قال ابن عطية: "اسْكُنْ معناه لازم الإقامة، ولفظه لفظ الأمر ومعناه الإذن، وأَنْتَ تأكيد للضمير الذي في اسْكُنْ، وَزَوْجُكَ عطف عليه والزوج امرأة الرجل وهذا أشهر من زوجة"
(4)
، ومثله القرطبي
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 308).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 72).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 220).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 126).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 298).
وزاد الألوسي: "والأمر يحتمل أن يكون للإباحة (كاصطادوا) وأن يكون للوجوب كما أن النهي فيما بعد للتحريم وإيثاره على (اسكنا) للتنبيه على أنه عليه السلام المقصد بالحكم في جميع الأوامر وهي تبع له كما أنها في الخلقة كذلك"
(1)
.
[عدم اجتناب ما نهى الله عنه يورث إلفه وحبه والتعلق به]
قال تعالى: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)} [سورة الأعراف: 19]
2.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "عند قوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، النهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه كما بيناه في تفسير: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) [سورة البقرة: 187]، فهو يقتضي البعد عن موارد الشبهات التي تغري به وتفضي إليه ورعا واحتياطا"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب صيغ النهي، في مسألة عدم اجتناب ما نهى الله عنه يورث إلفه وحبه والتعلق به، بدلالة صيغة المبالغة.
وجه الاستنباط: دل النهي عن الاقتراب من المنهي عنه على المبالغة في تحريم الأكل، ووجوب اجتناب ما نهى الله عنه، وأن هذا القرب قد يفضي إلى الألفة والمحبة والإعتياد، فيجر إلى الانسياق في الشبهات، فمن باب سد الذرائع نهى عن مجرد الاقتراب فما بالك بالوقوع في الأمر المنهي عنه.
قال ابن عطية: "قوله تعالى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ معناه لا تقرباها بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت. قال بعض الحذاق: «إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظة تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب»، قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مثال بين في سد الذرائع"
(3)
، ومثله ابن عاشور
(4)
، ونقل قول ابن عطية القرطبي
(5)
، وزاد البيضاوي فقال:"فينبغي أن لا يحوما حول ما حرم الله عليهما مخافة أن يقعا فيه، وجعله سببا لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي، أو بنقص حظهما بالإتيان بما يخل بالكرامة والنعيم"
(6)
.
(1)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (1/ 234).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 308).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 127).
(4)
التحرير والتنوير (1/ 432).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 304).
(6)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 72).
قال الرازي: "قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة) يفيد بفحواه النهي عن الأكل، وهذا ضعيف لأن النهي عن القرب لا يفيد النهي عن الأكل إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليه لجاز له أكله، بل هذا الظاهر يتناول النهي عن القرب، وأما النهي عن الأكل فإنما عرف بدلائل أخرى، وهي قوله تعالى في غير هذا الموضع: (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما) [الأعراف: 22] ولأنه صدر الكلام في باب الإباحة بالأكل فقال: (وكلا منها رغدا حيث شئتما) فصار ذلك كالدلالة على أنه تعالى نهاهما عن أكل ثمرة تلك الشجرة لكن النهي عن ذلك بهذا القول يعم الأكل وسائر الانتفاعات ولو نص على الأكل ما كان يعم كل ذلك ففيه مزيد فائدة"
(1)
.
قال الألوسي: " (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ظاهر هذا النهي التحريم، والمنهي عنه الأكل من الشجرة، إلا أنه سبحانه نهى عن قربانها مبالغة، ولهذا جعل جل شأنه العصيان المرتب على الأكل مرتبا عليه، وعدل عن فتأثما إلى التعبير بالظلم الذي يطلق على الكبائر، ولم يكتف بأن يقول: ظالمين، بل قال: مِنَ الظَّالِمِينَ بناء على ما ذكروا أن قولك: زيد من العالمين، أبلغ من زيد عالم لجعله غريقا في العلم أبا عن جد، وإن قلنا بأن فَتَكُونا دالة على الدوام ازدادت المبالغة، ومن الناس من قال: لا تقرب -بفتح الراء- نهي عن التلبس بالشيء -وبضمها- بمعنى لا تدن منه"
(2)
.
قال القاسمي: "وإنما علق النهي بالقربان منها، مبالغة في تحريم الأكل، ووجوب الاجتناب عنه، لأن القرب من الشيء مقتضى الألفة، والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء تعمي وتصم، فلا يرى قبيحا، ولا يسمع نهيا، فيقع، والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به، وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان» لما كان النظر داعيا إلى الألفة، والألفة إلى المحبة، وذلك مفض لارتكابه، فصار النظر مبدأ الزنا، وعلى هذا قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنى) [الإسراء: 32]، ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن"
(3)
.
قال ابن عثيمين: "إن الله تعالى قد يمتحن العبد، فينهاه عن شيء قد تتعلق به نفسه؛ لقوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة}؛ ووجه ذلك أنه لولا أن النفس تتعلق بها ما احتيج إلى النهي عن قربانها، أنه قد يُنهى عن قربان الشيء والمراد النهي عن فعله؛ للمبالغة في التحذير منه؛ فإن قوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة}، المراد: لا تأكلا منها، لكن لما كان القرب منها قد يؤدي إلى الأكل نُهي عن قربها"
(4)
.
(1)
مفاتيح الغيب (3/ 454 - 453)
(2)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (1/ 236).
(3)
محاسن التأويل (1/ 292).
(4)
تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (1/ 130 - 131).
[دلالة النقل والعقل على التحسين والتقبيح العقلي]
قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} [سورة الأعراف: 28]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "فهذا القول تكذيب لهم من طريقي العقل والنقل، أما الأول فتقريره أن هذا الفعل لا خلاف بينكم وبيننا في أنه من الفحشاء أي أقبح القبائح، والله تعالى منزه بكماله المطلق الذي لا شائبة للنقص فيه أن يأمر بالفحشاء، وإنما الذي يأمر بها هو الشيطان الذي هو مجمع النقائص كما قال تعالى في آية أخرى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [سورة البقرة: 268] وهذا حجة على من ينكر الحسن والقبح العقلي في الأحكام الشرعية لأجل مخالفة من توسعوا في تحكيم العقل في ذلك، وأما طريق النقل فهو أن ما يسند إلى الله تعالى من أمر ونهي لا يثبت بمجرد الدعوى بل يجب أن يعلم بوحي منه تعالى إلى رسول من عنده ثبتت رسالته بتأييده تعالى له بالآيات البينات"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب طرق الاستدلال، في مسألة دلالة النقل والعقل على التحسين والتقبيح العقلي، بدلالة النص.
وجه الاستنباط: دلت الآية على الطريقة الصحيحة لتفنيد كذب وافتراءات وأدلة أصحاب الفواحش وادعاءاتهم الباطلة، وذلك بطريقي دلالة العقل والنقل؛ فالعقل يستحيل عليه أن يستحسن أن الله يأمر بالفحشاء أو يقبل بها، لأن الله منزه بكماله المطلق ولا يمكن أن يأمر بهذا الأمر القبيح، وأيضا ليس لديهم دليل نقلي معتمد على الكتاب أو السنة يعتمدون عليه، وإنما هو مجرد تقليد لآبائهم في فعل هذه الفواحش، وفي هذا رد على من أنكر التحسين والتقبيح العقلي.
وقد ذكر بعض المفسرين المعنى العام للآية، وأنهم لا دليل لهم، ولم يتطرقوا لدلالة العقل والنقل عليها، ومنم ابن جرير حيث قال:"يقول الله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل)، يا محمد، لهم: (إن الله لا يأمر بالفحشاء)، يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها (أتقولون) أيها الناس، (على الله ما لا تعلمون)، يقول: أتروون على الله أنه أمركم بالتعرِّي والتجرد من الثياب واللباس للطواف، وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 333).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (12/ 379).
قال البيضاوي: "وإذا فعلوا فاحشة فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف، قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها! اعتذروا واحتجوا بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه وتعالى، فأعرض عن الأول لظهور فساده، ورد الثاني بقوله: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال، والحث على مكارم الخصال، ولا دلالة عليه على أن قبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه آجلا عقلي، فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم، وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها: لم فعلتم؟ فقالوا: وجدنا عليها آباءنا، فقيل ومن أين أخذ آباؤكم؟ فقالوا: الله أمرنا بها، وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقا، أتقولون على الله ما لا تعلمون إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى"
(1)
، ومثله أبو السعود
(2)
.
قال الزمخشري: "إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم وبأن الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها، وكلاهما باطل من العذر، لأن أحدهما تقليد والتقليد ليس بطريق العلم، والثاني افتراء على الله وإلحاد في صفاته، كانوا يقولون: لو كره الله منا ما نفعله لنقلنا عنه، وقيل: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله، وتصديقه قول الله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء لأن فعل القبيح مستحيل عليه لعدم الداعي ووجود الصارف، فكيف يأمر بفعله أتقولون على الله ما لا تعلمون إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط"
(3)
، ومثله الرازي
(4)
.
قال القرطبي: " (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) بين أنهم متحكمون، ولا دليل لهم على أن الله أمرهم بما ادعوا، وقد مضى ذم التقليد وذم كثير من جهالاتهم، وهذا منها"
(5)
، ومثله النسفي وأبو حيان
(6)
.
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 10).
(2)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 223).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 99).
(4)
تفسير الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (14/ 225).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 187)
(6)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 563)، البحر المحيط في التفسير (5/ 34).
[اللباس مقصد شرعي زينة وسترا في الصلاة وغيرها]
قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [سورة الأعراف: 31]
4.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "هذا الأمر بالزينة عند كل مسجد -لا المسجد الحرام وحده- أصل من أصول الإصلاح الدينية والمدنية يعرف بعض قيمته مما روي في سبب نزول هذه الآيات، وإنما يعرفها حق المعرفة من قرأ تواريخ الأمم والملل، وعلم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات والغابات أفرادا وجماعات يأوون إلى الكهوف والمغارات، والقبائل الكثيرة في بعض جزائر البحار وجبال إفريقية، كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء ورجالا، وأن الإسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا وعلمهم لبس الثياب بإيجابه للستر وللزينة إيجابا شرعيا"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب اللباس والزينة، في مسألة اللباس مقصد شرعي زينة وسترا في الصلاة وغيرها، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: أخذ من الأمر بالزينة عند المساجد، الأمر بالزينة في كل نواحي الحياة، وأن هذا من باب الرقي والستر والزينة سواء كان في الصلاة أو في غيرها، وهذا أصل من أصول علم الاجتماع، ومن علامات الرقي، ومقصد أساسي للإصلاح الاجتماعي.
وقد وافق ابن سعدي الشيخ رشيد في أن اللباس زينة للبدن حيث قال: " {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}، أي: استروا عوراتكم عند الصلاة كلها، فرضها ونفلها، فإن سترها زينة للبدن، كما أن كشفها يدع البدن قبيحا مشوها"
(2)
.
وقد أشار معظم المفسرين إلى حكم اللباس وخاصة عند الصلاة أو العبادات، ومن ذلك قول الإمام البغوي:"قال أهل التفسير: كانت بنو عامر يطوفون بالبيت عراة، فأنزل الله عز وجل: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، يعني: الثياب، قال مجاهد: ما يواري عورتك ولو عباءة، قال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد لطواف وصلاة"
(3)
.
وقال الرازي: "قوله: خذوا زينتكم عند كل مسجد يقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة لأن اللبس التام هو الزينة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعا فبقي الباقي داخلا تحت اللفظ وإذا ثبت أن ستر العورة واجب في الصلاة وجب أن تفسد الصلاة عند تركه لأن تركه يوجب ترك المأمور به وترك المأمور به معصية والمعصية توجب العقاب على ما شرحنا هذه الطريقة في الأصول"
(4)
، ومثله أبو حيان
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 340 - 341)
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 287).
(3)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 188).
(4)
مفاتيح الغيب (14/ 229).
(5)
البحر المحيط في التفسير (5/ 40).
وقال أبو السعود: " {يا بني آدم خذوا زينتكم} أي ثيابكم لمواراة عورتكم {عند كل مسجد} أي طواف أو صلاة ومن السنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة وفيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة"
(1)
، وكذا الشوكاني
(2)
.
[النهي عن الاسراف دعوة إلى الاعتدال في أمور الحياة]
قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [سورة الأعراف: 31]
5.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: " (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) وهذا الأمر المقيد بما عطف عليه من النهي إرشاد عال أيضا فيه صلاح للبشر في دينهم ومعاشهم ومعادهم، لا يستغنون عنه في وقت من الأوقات ولا عصر من الأعصار"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب القصد في الأمور، في مسألة النهي عن الاسراف دعوة إلى الاعتدال في أمور الحياة، بدلالة صريح الأمر والإباحة والتقييد والنهي.
وجه الاستنباط: الأمر في الآية للإباحة، وعطف عليه النهي المقيد بعدم الإسراف، ليبين أن الاعتدال في المأكل والمشرب وعدم الإسراف فيهما، أنه من أسباب الصلاح والرقي الاجتماعي، وأن الاقتصاد والاعتدال في كل أمور الحياة دخل تحت هذه القاعدة المصلحة للبشرية في كل عصر.
قال ابن عطية: "يريد في الحلال القصد، واللفظ يقتضي النهي عن السرف مطلقا فمن تلبس بفعل حرام فتأول تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه، ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن، وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضا من المسرفين وتوجه النهي عليه"
(4)
، ونقل ذلك أبو حيان
(5)
.
وقال البيضاوي: "ولا تسرفوا بتحريم الحلال، أو بالتعدي إلى الحرام، أو بإفراط الطعام والشره عليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة، وقال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب في نصف آية فقال: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) "
(6)
ونقل عن البغوي مثله
(7)
، وكذا الزمخشري، والنسفي، والقرطبي
(8)
، وبنحوه عند ابن سعدي
(9)
..
(1)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 224).
(2)
فتح القدير (2/ 228).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 341).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 393).
(5)
البحر المحيط في التفسير (5/ 42).
(6)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 11).
(7)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 189).
(8)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 100)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 564)، الجامع لأحكام القرآن (7/ 191).
(9)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 287).
وقال ابن عاشور: "وقد قيل إن هذه الآية جمعت أصول حفظ الصحة من جانب الغذاء، فالنهي عن السرف نهي إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاحقة في قوله: (قل من حرم زينة الله) إلى قوله (والطيبات من الرزق) [الأعراف: 32]، ولأن مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلق به التكليف، ولكن يوكل إلى تدبير الناس مصالحهم، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقا: (قل أمر ربي بالقسط) [الأعراف: 29] فإن ترك السرف من معنى العدل"
(1)
.
[تحقق دخول الجنة بالتعبير بالماضي عن المستقبل لدلالة تحقق الوقوع]
قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)} [سورة الأعراف: 44].
6.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "التعبير بالماضي عن المستقبل معهود في الأساليب العربية البليغة، وأشهر نكته جعل المستقبل في تحقق وقوعه كالذي وقع بالفعل"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان باليوم الآخر، في مسألة تحقق دخول الجنة بالتعبير بالماضي عن المستقبل لدلالة تحقق الوقوع، بدلالة السياق.
وجه الاستنباط: دلت الآية على أمر غيبي مستقبل وهو دخول الجنة، والتعبير عنه بصيغة الماضي لبيان تحقق وقوع السعادة الكاملة لأهل الجنة، وإيقاع الحزن في قلوب أعدائهم، واجتماع أصحاب الجنة في الجنة وأصحاب النار في النار، وحدوث هذا الحوار بينهم، وهذا فيه ترغيب وترهيب.
وممن أشار إلى هذا ابن عطية حيث قال: "هذا إخبار من الله عز وجل عما يكون منهم، وعبر عن معان مستقبلة بصيغة ماضية وهذا حسن فيما يحقق وقوعه"
(3)
، وكذا أبو حيان
(4)
.
وقال الرازي: "فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العقاب حقا؟ والغرض من هذا السؤال إظهار أنه وصل إلى السعادات الكاملة وإيقاع الحزن في قلب العدو"
(5)
.
وقال أبو السعود عند تفسير قوله تعالى: {قالوا لا علم لنا} ، قال:" {قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا يقول الرسل عليهم السلام هنالك فقيل يقولون {لا علم لنا} وصيغة الماضي للدلالة على التقرر والتحقق كما في قوله تعالى ونادى أصحاب الجنة أصحاب الأعراف"
(6)
.
(1)
التحرير والتنوير (8 - ب/ 95).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 378).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 402).
(4)
البحر المحيط في التفسير (5/ 55).
(5)
مفاتيح الغيب (14/ 245).
(6)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 93).
[الكفر باليوم الآخر أصل كفرهم وعتوهم وصدهم عن سبيل الله]
قال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)} [سورة الأعراف: 45]
7.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وتقديم الجار والمجرور (بالآخرة) على متعلقه للاهتمام به فإن أصل كفرهم قد علم مما قبله وهذا النوع منه له تأثير خاص في إصرارهم على ما أسند إليهم، وقد غفل عن هذا من قال إن التقديم لأجل رعاية الفاصلة"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الألوهية، في مسألة الكفر باليوم الآخر أصل كفرهم وعتوهم وصدهم عن سبيل الله، بدلالة التقديم.
وجه الاستنباط: تقديم (بالآخرة) دليل على إصرارهم على ما هم عليه من الكفر وخاصة الكفر باليوم الآخر وما فيه من البعث والجزاء والحساب، وأصل كفرهم قد علم ولكن الصد عنه له تأثير خاص في إصرارهم على الكفر، وفيه إشارة على عتوهم وقوة صدهم عن سبيل الله، وأنه لن تنفع معهم موعظة غالبا.
قال ابن عاشور: "وورد وصفهم بالكفر بطريق الجملة الاسمية في قوله: وهم بالآخرة كافرون للدلالة على ثبات الكفر فيهم وتمكنه منهم، لأن الكفر من الاعتقادات العقلية التي لا يناسبها التكرر، فلذلك خولف بينه وبين وصفهم بالصد عن سبيل الله وبغي إظهار العوج فيها، لأن ذينك من الأفعال القابلة للتكرير، بخلاف الكفر فإنه ليس من الأفعال، ولكنه من الانفعالات"
(2)
.
ووافقه في ذلك أبو زهرة فقال: "وقد أكد سبحانه وتعالى كفرهم باليوم الآخر، وهو يبتدئ من البعث إلى أن توفى كل نفس ما كسبت بأن تنال جزاءها من النعيم أو الجحيم، أكد كفرهم بعدة مؤكدات أولها: ذكر ضمير الفصل "هم"، فذلك يؤكد الحكم، وثانيها: تقديم الجار والمجرور، وهو قوله تعالى: (بِالآخِرَةِ) على (كافِرُونَ) ففي ذلك تأكيد لكفرهم به، وثالثها: التعبير بالجملة الاسمية، فإنها تدل على استمرارهم على هذا الكفر، وأنهم جاحدون جحدا (لا مثنوية فيه) "
(3)
.
وأشار الألوسي إلى أن التقديم لمراعاة الفواصل فقال: " (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) أي غير معترفين بالقيامة وما فيها، والجار متعلق بما بعده، والتقديم لرعاية الفواصل، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الدوام والثبات إشارة إلى رسوخ الكفر فيهم"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 382).
(2)
التحرير والتنوير (8 - ب/ 140).
(3)
زهرة التفاسير (6/ 2846).
(4)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (4/ 363).
[من لم يتخلق بالخوف والرجاء تحققت فيه مقومات الإفساد والمفسدين]
قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [سورة الأعراف: 56]
8.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: " (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) أعاد الأمر بالدعاء بقيد آخر بعد أن وسط بينهما النهي عن الإفساد، للإيذان بأن من لا يعرف نفسه بالحاجة والافتقار إلى رحمة ربه الغني القدير وفضله وإحسانه، ولا يدعوه تضرعا وخفية ولا خوفا من عقابه وطمعا في غفرانه، فإنه يكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح، إلا أن يعجز"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العبودية، في مسألة من لم يتخلق بالخوف والرجاء تحققت فيه مقومات الإفساد والمفسدين، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: الإنسان مهما بلغ من قوة ونفوذ لا بد أن يجمع بين جانبي الرجاء والخوف من الله عز وجل، وألا يغلب جانبا على آخر، فإن تغليب أحدهما يكون سببا للانسياق في الفساد وأبعد عن طريق الصلاح، ولذا عليه أن يظهر فقره وحاجته لله عز وجل في كل وقت وعلى أية حالة، والدعاء والتضرع إلى الله مما يظهر فقر الإنسان وحاجته، ولذا أعاد الله الأمر به في هذه الآية، فإن من لا يدعو الله تضرعا وخفية ولا خوفا من عقابه ولا طمعا في غفرانه، فإنه تتحقق فيه مقومات الإفساد والمفسدين.
قال ابن عطية: "أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتحزن وتأميل لله عز وجل حتى يكون الرجاء والخوف كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء، وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير، وهذا كله احتياط"
(2)
.
قال الرازي: "أن الداعي لا يكون داعيا إلا إذا كان كذلك فقوله: خوفا وطمعا أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم، ويتأكد هذا بقوله: يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة [المؤمنون: 60] "
(3)
.
قال أبو حيان: "لما كان الدعاء من الله بمكان كرره فقال أولا ادعوا ربكم تضرعا وخفية وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوت ليست من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين فبدأ أولا بأفعال الجوارح ثم ثانيا بأفعال القلوب وانتصب خوفا وطمعا على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين ليكونا للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة فإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، وقد قال كثير من العلماء: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة فإذا جاء الموت غلب الرجاء ورأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب"
(4)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 410).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 411).
(3)
مفاتيح الغيب (14/ 285).
(4)
البحر المحيط في التفسير (5/ 70).
قال القاسمي: "قال في (اللباب): إن قلت: قال في أول الآية ادعوا ربكم تضرعا وخفية وقال هنا وادعوه، وهذا هو عطف الشيء على نفسه، فما فائدة ذلك؟ قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى: ادعوا ربكم أي: ليكن الدعاء مقرونا بالتضرع والإخبات، وقوله وادعوه خوفا وطمعا أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء، وقيل: معناه كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء، وإن اجتهدتم فيهما"
(1)
.
وقال ابن سعدي: " {وادعوه خوفا وطمعا} أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها، وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاه"
(2)
.
[القصد من النصيحة صلاح المنصوح له لا الناصح]
قال تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} [سورة الأعراف: 62]
9.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "فعلم منه أن الأصل في النصيحة أن يقصد بها صلاح المنصوح له لا الناصح، فإن كان له فائدة منها وجاءت تبعا فلا بأس، وإلا لم تكن النصيحة خالصة"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب الأمور بمقاصدها، في مسألة القصد من النصيحة صلاح المنصوح له لا الناصح، بدلالة النص.
وجه الاستنباط: الناصح إذا قصد بنصيحته إصلاح من حوله تحقق له ما أراد، وهذا مطلب اجتماعي تربوي، في باب النصيحة، وفي هذا تربية للدعاة والمربين أن يقصدوا بنصحهم صلاح من حولهم ولا ينتظروا أن يعود عليهم ذلك النصح بنفع دنيوي أو معنوي.
وقد عرفت النصيحة بأنها: "كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلا"
(4)
.
وأشار الإمام البغوي، إلى هذا فقال:"وأنصح لكم، يقال: نصحته ونصحت له، والنصح أن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه"
(5)
.
وكذا الزمخشري، قال:"وأنصح لكم يقال نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت خالصة للمنصوح له مقصودا بها جانبه لا غير، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعا ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله عليهم السلام"
(6)
، ومثله الرازي، والنسفي، وأبو السعود
(7)
.
(1)
محاسن التأويل (5/ 105).
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 292).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 438).
(4)
صيانة صحيح مسلم (ص: 221)
(5)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 202).
(6)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 115).
(7)
مفاتيح الغيب (14/ 297)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 576)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 236).
وقال الألوسي: " (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناء على أن النصح تحري ذلك قولا أو فعلا"
(1)
.
[إذا كان الداعي من قومه كان ألين جانبا وكان أدعى لقبولهم دعوته]
قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)} [سورة الأعراف: 65]
10.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والآية دليل على جواز تسمية القريب أو الوطني الكافر أخا وحكمته كون رسول القوم منهم، أن يفهمهم ويفهم منهم"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان بالرسل، في مسألة إذا كان الداعي من قومه كان ألين جانبا وكان أدعى لقبولهم دعوته، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: الأخوة المقصودة هنا هي أخوة النسب، وذلك أن هودا عليه السلام كان أخا لهم وقريبا لهم في النسب، وقد انتشر في القرآن استعمال ألفاظ التقريب مثل "أخ""يا قوم""يا أبت" وغيرها من ألفاظ، وهدف القرآن منها تقريب الداعي من المدعو وتحسين الألفاظ له، وفيه نصيحة للداعي ألا يكون جلفا غليظ القلب حتى لا ينفضّ الناس من حوله، وذكر الشيخ محمد رشيد رضا أن الأخوة في هذه الآيات أخوة النسب ثم قال:"كما يقال في أخوة الجنس كله"، وقال:"وللدين أخوة روحية كأخوة الجنس القومية والوطنية"
(3)
ويفهم من كلام الشيخ محمد رشيد أن كون الرسول من نفس القوم أدعى إلى قبول دعوته وأنجح وأفضل لأنه يفهمهم ويفهمون منه فيسهل عليه دعوتهم.
وأشار البغوي إلى أن الأخوة في النسب لا في الدين فقال: "قوله تعالى: {وإلى عاد}، أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، في النسب لا في الدين"
(4)
، ومثله الشوكاني، وابن سعدي
(5)
.
وقال الزمخشري: " أخاهم واحدا منهم من قولك: يا أخا العرب، للواحد منهم. وإنما جعل واحدا منهم، لأنهم أفهم عن رجل منهم وأعرف بحاله في صدقه وأمانته"
(6)
، ومثله البيضاوي
(7)
. وزاد القرطبي: "كان من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا"
(8)
.
(1)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (4/ 391).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(8/ 441).
(3)
انظر: بحث الأخوة الإنسانية بين الجواز والمنع عند الإطلاق، يونس عبد الرب الطلول، تاريخ 24 جماد الأول 1427 هـ، http:// www.ye 1.org/ forum/ threads/ 207080/
(4)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 452).
(5)
فتح القدير للشوكاني (2/ 249)، تيسير الكريم الرحمن (ص: 293).
(6)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 116).
(7)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 18).
(8)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 236).
وقال الرازي: "اتفقوا على أن هودا ما كان أخا لهم في الدين، واختلفوا في أنه هل كان أخا قرابة قريبة أم لا؟ قال الكلبي: إنه كان واحدا من تلك القبيلة، وقال آخرون: إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة فكفى هذا القدر في تسمية هذه الأخوة والمعنى أنا بعثنا إلى عاد واحدا من جنسهم وهو البشر ليكون ألفهم والأنس بكلامه وأفعاله أكمل وما بعثنا إليهم شخصا من غير جنسهم مثل ملك أو جني
(1)
. وزاد النسفي: " {أخاهم} واحدا ممنهم من قولكم يا أخا العرب للواحد منهم وإنما تجعل واحداً منهم لأنهم عن رجل منهم أفهم فكانت الججة عليهم الزم"
(2)
.
وكذا القاسمي: "وإنما أرسل منهم، لأنهم أفهم لقوله من قول غيره، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله، وأرغب في اقتفائه"
(3)
.
وقال ابن عاشور: "والأخ هنا مستعمل في مطلق القريب، على وجه المجاز المرسل ومنه قولهم يا أخا العرب، وقد كان هود من بني عاد، وقيل: كان ابن عم إرم، ويطلق الأخ مجازا أيضا على المصاحب الملازم، كقولهم: هو أخو الحرب، ومنه (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) [الإسراء: 27]- وقوله- (وإخوانهم يمدونهم في الغي) [الأعراف: 202]. فالمراد أن هودا كان من ذوي نسب قومه عاد"
(4)
.
[الموقن بالله لا يحل له أن يعود في ملة الكافرين وهذا أمر بيد الله وحده]
11.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والتعبير يدل على نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الفعل؛ لأنه نفي له بالدليل، وهو كونه غير مستطاع ولا جار على سنن الله في الاجتماع، والمعنى: ليس من شأننا أن نعود فيها في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله ربنا المتصرف في جميع شئوننا، فهو وحده القادر على ذلك لا يقدر عليه غيره لا أنتم ولا نحن أيضا؛ لأننا موقنون بأن ملتكم باطلة ضارة مفسدة، وملتنا هي الحق التي بها صلاح الناس وعمران الأرض، والموقن لا يستطيع إزالة يقينه ولا تغييره"
(5)
.
(1)
مفاتيح الغيب (14/ 299).
(2)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 577).
(3)
محاسن التأويل (5/ 114).
(4)
التحرير والتنوير (8 - ب/ 201).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 6).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة الموقن بالله لا يحل له أن يعود في ملة الكافرين، وهذا أمر بيد الله وحده، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: الموقن بالله حق اليقين الذي عرف الله وعرف شرعه كما يجب، يعلم يقينا أنه لا يحل له أن يترك ملته وشريعته الحق التي وفقه الله إليها، ثم يعود في ملة الكافرين الضالين، وأن هذا أمر بيد الله وحده، فهو الأعلم بحال عباده، وهو عز وجل من يقلب القلوب، فيثبت من يشاء على الحق بفضله، ويصرف من يشاء إلى الباطل بعدله وعلمه، ولا شك أن هذا كله بيد الله عز وجل، ومما يوجب تعلق القلوب بالله وحده دون سواه.
وإلى هذا أشار ابن جرير، فقال:"وما يكون لنا أن نرجع فيها فندين بها، ونترك الحق الذي نحن عليه (إلا أن يشاء الله ربنا) إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنّا نعود فيها، فيمضي فينا حينئذ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا (وسع ربنا كل شيء علما)، يقول: فإن علم ربنا وسع كل شيء فأحاط به، فلا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن، فإن يكن سبق لنا في علمه أنّا نعود في ملتكم، ولا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن، فلا بد من أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فإنا غير عائدين في ملّتكم"
(1)
.
وكذا قال البغوي: "وما يكون لنا أن نعود فيها، بعد إذ أنقذنا الله منها، إلا أن يشاء الله ربنا، يقول إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله ومشيئته أنا نعود فيها، فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا"
(2)
.
قال أبو السعود: " {إلا أن يشاء الله} أي إلا حال مشيئة الله تعالى أو وقت مشيئته تعالى لعودنا فيها وذلك مما لا يكاد يكون كما ينبئ عنه قوله تعالى {ربنا} فإن التعرض لعنوان لاربوبيته تعالى لهم مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعا وكذا قوله تعالى بعد إذ نجانا الله منها فإن تنجيته تعالى لهم منها من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها وقيل معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا وقيل فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى وأيا ما كان فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيز الإمكان وخطر الوقوع بناء على كون مشيئته تعالى كذلك بل بيان استحالة وقوعها كأنه قيل وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وهيهات ذلك بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له"
(3)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (12/ 562).
(2)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 215).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 251).
وقال ابن سعدي: "وأما من حيث النظر إلى مشيئة الله وإرادته النافذة في خلقه، التي لا خروج لأحد عنها، ولو تواترت الأسباب وتوافقت القوى، فإنهم لا يحكمون على أنفسهم أنهم سيفعلون شيئا أو يتركونه، ولهذا استثنى {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} أي: فلا يمكننا ولا غيرنا، الخروج عن مشيئته التابعة لعلمه وحكمته"
(1)
.
[التسلية بأن العاقبة للتقوى والبشارة بزوال الظالمين]
قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)} [سورة الأعراف: 139]
12.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وهذا يتضمن البشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض، وكذلك كان"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة التسلية بأن العاقبة للتقوى والبشارة بزوال الظالمين، بدلالة مفهوم التضمن.
وجه الاستنباط: الحكم على عمل هؤلاء بالبتر والقطع، دليل على زوالهم وزوال ظلمهم وعليه ستصبح الغلبة والنصر والعاقبة لمن اتقى الله، وفي هذا بشارة وتسلية لنبي الله موسى ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
ولم يشر أحد من المفسرين، فيما اطلعت عليه، إلى معنى البشارة في هذه الآية.
بل جاءت عباراتهم في بيان معنى أن الله مهلك وقاطع خبر هؤلاء الظالمين، ومن ذلك ما قاله ابن جرير:"وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل موسى لقومه من بني إسرائيل، يقول تعالى ذكره: قال لهم موسى: إن هؤلاء العُكوف على هذه الأصنام، الله مُهْلِكٌ ما هم فيه من العمل ومفسده، ومخسرهم فيه، بإثابته إياهم عليه العذاب المهين، "وباطل ما كانوا يعملون"، من عبادتهم إياها، فمضمحلّ، لأنه غير نافعهم عند مجيء أمر الله وحلوله بساحتهم، ولا مدافع عنهم بأسَ الله إذا نزل بهم، ولا منقذهم من عذابه إذا عذبهم في القيامة، فهو في معنى ما لم يكن"
(3)
.
وقال البغوي: "إن هؤلاء متبر، مهلك، ما هم فيه، والتتبير الإهلاك، وباطل مضمحل وزائل، ما كانوا يعملون"
(4)
، وبنحوه قال ابن عطية
(5)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 297)
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 97).
(3)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (13/ 83).
(4)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 227).
(5)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 448).
وقال البيضاوي: "وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا لأن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة، وأن الإحباط الكلي لازم لما مضى عنهم تنفيرا وتحذيرا عما طلبوا"
(1)
، وكذا النسفي، وأبو حيان
(2)
.
قال ابن عاشور: "وجملة إن هؤلاء متبر ما هم فيه بمعنى التعليل لمضمون جملة إنكم قوم تجهلون فلذلك فصلت عنها وقد أكدت وجعلت إسمية لمثل الأغراض التي ذكرت في أختها، وقد عرف المسند إليه بالإشارة لتمييزهم بتلك الحالة التي هم متلبسون بها أكمل تمييز، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعد اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم متبرا أمرهم وباطلا عملهم، وقدم المسند وهو متبر على المسند إليه وهو ما هم فيه ليفيد تخصيصه بالمسند إليه أي: هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب، ولا يصح أن يجعل متبر مسندا إليه لأن المقصود بالإخبار هو ما هم فيه"
(3)
.
[لا يكون الإله الحق إلا متكلما هاديا عباده سبيل الرشاد]
قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)} [سورة الأعراف: 148]
13.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "فعلم بهذا أن من شأن الرب الإله الحق أن يكون متكلما، وأن يكلم عباده، ويهديهم سبيل الرشاد باختصاصه من شاء منهم وإعداده لسماع كلامه، وتلقي وحيه، وتبليغ أحكامه "
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة لا يكون الإله الحق إلا متكلما هاديا عباده سبيل الرشاد، بدلالة التلازم.
وجه الاستنباط: أنكر الله عز وجل على قوم موسى اتخاذهم العجل، وبين لهم الأمور التي لا يستحق العجل الألوهية بسببها، وأنه لا يكون الإله الحق إلا متكلما هاديا عباده سبيل الرشاد، فدل على أن صفة الكلام من خصائص الألوهية لزوما، والله سبحانه وتعالى كلم موسى، وهذا ما أجمع عليه جمهور المفسرين، والقرآن يخاطب العقول، وفي هذه المسالة رد على منكري صفة الكلام لله عز وجل
(5)
.
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 32).
(2)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 600)، البحر المحيط في التفسير (5/ 158).
(3)
التحرير والتنوير (9/ 82).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 174).
(5)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 173، ومجموع فتاوى ابن تيمية (12/ 162).
قال ابن جرير: "وذلك أن الرب جل جلاله الذي له ملك السموات والأرض، ومدبر ذلك، لا يجوز أن يكون جسدًا له خوار، لا يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير"
(1)
.
وقال ابن عطية: "بين الله تعالى سوء فطرهم وقرر فساد اعتقادهم بقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} الآية، وذلك أن الصامت الجماد لا يتصف بالإلهية والذي لا يرشد إلى خير ولا يكشف غما كذلك"
(2)
.
وقال الرازي أيضا: "واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا المذهب والمقالة احتج على فساد كون ذلك العجل إلها بقوله: {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين}، وتقرير هذا الدليل أن هذا العجل لا يمكنه أن يكلمهم ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد، وكل من كان كذلك كان إما جمادا وإما حيوانا عاجزا وعلى التقديرين فإنه لا يصلح للإلهية، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن من لا يكون متكلما ولا هاديا الى السبيل لم يكن إلها لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي، وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلما، فمن لا يكون تكلما لم يصح منه الأمر والنهي، والعجل عاجز عن الأمر والنهي فلم يكن إلها"
(3)
، ووفقهم أيضا القرطبي، وأبو السعود، وابن عاشور، وابن سعدي
(4)
.
[لشدة فتنة المال ومشقة بذله جعل الله الزكاة سببا عظيما لتحصيل رحمته]
قال تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [سورة الأعراف: 156]
14.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وخص الزكاة بالذكر دون الصلاة، وما دونها من الطاعات؛ لأن فتنة حب المال تقتضي بنظر العقل والاختبار بالفعل أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين لغيرها من الفرائض، وفيه إشارة إلى شدة حب اليهود للدنيا وافتتانهم بجمع المال ومنع بذله في سبيل الله"
(5)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن ت شاكر (13/ 117).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 455).
(3)
مفاتيح الغيب (15/ 368).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 285)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 273)، التحرير والتنوير (9/ 110)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 303)، واستنباطات السعدي رقم 526.
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 193).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الفتن، في مسألة لشدة فتنة المال ومشقة بذله جعل الله الزكاة سببا عظيما لتحصيل رحمته، بدلالة التخصيص.
وجه الاستنباط: أهم أسباب تحصيل رحمة الله هو بذل المال، خاصة في فريضة الزكاة، ولما كان افتتان بني إسرائيل في المال وأنه يشق عليهم بذله، بين لهم أن هذه الفريضة هي الطريقة التي تعكس مفهوم الرحمة بكل معانيها، وتشمل كل أنواع السلوك الفاضل في التعامل مع البشر ومع سائر الكائنات، فلذا جاء التخصيص بها لتحصيل رحمة الله عز وجل.
قال ابن عطية: "قوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} الظاهر من قوله يُؤْتُونَ أنها الزكاة المختصة بالمال وخصها هنا بالذكر تشريفا لها وجعلها مثالا لجميع الطاعات، وقال ابن عباس فيما روي عنه: ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم"
(1)
.
قال البيضاوي: "ويؤتون الزكاة خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم، والذين هم بآياتنا يؤمنون فلا يكفرون بشيء منها"
(2)
.
وقال أبو حيان: "ويؤتون الزكاة، الظاهر أنها زكاة المال، وبه قال ابن عباس وروي عنه: ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم، وقال الحسن: تزكية الأعمال بالإخلاص انتهى، ولما كانت التكاليف ترجع إلى قسمين تروك وأفعال والأفعال قسمان راجعة إلى المال وراجعة إلى نفس الإنسان وهذان قسمان علم وعمل فالعلم المعرفة والعمل إقرار باللسان، وعمل بالأركان فأشار بالاتقاء إلى التروك وبالفعل الراجح إلى المال بالزكاة وأشار إلى ما بقي بقوله: {والذين هم بآياتنا يؤمنون} وهذه شبيهة بقوله {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} "
(3)
.
[ضرب الأمثال يثمر التفكر مبدأ العلم وطريق الحق وهو أقوى من الدلائل والحجج]
15.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والآية تدل على تعظيم شأن ضرب الأمثال في تأثير الكلام، وكونه أقوى من سوق الدلائل والحجج المجردة، ويدل على تعظيم شأن التفكر، وكونه مبدأ العلم وطريق الحق"
(4)
.
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 461).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 37).
(3)
البحر المحيط في التفسير (5/ 192).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 342).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الدعوة، في مسألة ضرب الأمثال يثمر التفكر مبدأ العلم وطريق الحق وهو أقوى من الدلائل والحجج، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: ضرب الأمثال وتقريب المعاني في صور محسوسة أقرب إلى الفهم، وأقوى في التأثير من سوق الدلائل والحجج المجردة، وثمرته التفكرالذي هو مبدأ العلم وطريق الحق، وقد نوّع الله سبحانه وتعالى في أساليب ضرب المثال في القرآن بثلاثة أنواع من الأمثال، الصريحة والمرسلة والكامنة
(1)
، كما امتلأت السنة المطهرة بضرب الأمثلة والتربية بها.
وأشار إلى ذلك جمع من المفسرين كالزمخشري، والنسفي وابن عطية والقرطبي، والشوكاني
(2)
، فقالوا: إن في ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني.
وقال الرازي: "أن المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقا للعقل وذلك في نهاية الإيضاح"
(3)
، وذكر في موضع آخر:"إعلم أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول".
وقال أبو السعود: "دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإنه ألطف ذريعة إلى تفهيم القلوب الغبية وأقوى وسيلة إلى تسخير النفوس الأبية كيف لا وهو تصوير للمعقول بصورة المحسوس وإبراز لأوابد المعاني في هيئة المأنوس فأي دعوة أولى منه بالاستجابة والقبول"
(4)
.
وجمع ابن سعدي فوائد ضرب الأمثال في القرآن، فقال يستفاد منه أمور:"التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس، بحيث يكون نسبته للعقل، كنسبة المحسوس إلى الحس، وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر، وإبطال أمر"
(5)
.
(1)
للإستزادة انظر: البرهان في علوم القرآن (1/ 486)، الإتقان في علوم القرآن (4/ 44) وغيرها من كتب علوم القرآن.
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 553)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (2/ 172)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (4/ 185)، الجامع لأحكام القرآن (12/ 259)، فتح القدير (3/ 128)، زهرة التفاسير (1/ 174).
(3)
مفاتيح الغيب (2/ 312 - 362).
(4)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (5/ 15).
(5)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 34)
وكذا ابن عثيمين، قال:"من فوائد الآية: ضرب الأمثال؛ وهو تشبيه المعقول بالمحسوس؛ لأن ذلك أقرب إلى الفهم"
(1)
.
[العرف وأهميته وحجيته في الأحكام الشرعية]
قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [سورة الأعراف: 199]
16.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والقول الجامع: أن العرب تطلق المعروف على ضد المنكر وعلى ضد المجهول، والمنكر هو المستقبح عند الناس الذي ينفرون منه لقبحه أو ضرره، ويذمونه ويذمون أهله، والأمر به في هذه السورة المكية التي نزلت في أصول الدين وكليات التشريع، يثبت لنا أن العرف أو المعروف أحد هذه الأركان للآداب الدينية والتشريع الإسلامي، وهو مبني على اعتبار عادات الأمة الحسنة، وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة في مصالحها"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب أصول الاستدلال، في مسألة العرف
(3)
وأهميته وحجيته في الأحكام الشرعية، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: العرف أحد الأدلة الشرعية المعتبرة في الأحكام، ودلل الشيخ على مشروعيته، فقال:"إن كتاب الله عز وجل قد قيد طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعروف في عقد مبايعته صلى الله عليه وسلم للنساء قال عز وجل في سورة الممتحنة: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم} (60: 12) ومن المعلوم أن عقد المبايعة أعظم العقود في الأمم والدول، فتقييد طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بالمعروف دليل على أن التزام المعروف من أعظم أركان هذا الدين وشرعه، ومن المعلوم في السنة أن مبايعته صلى الله عليه وسلم للرجال كانت مبنية على أصل مبايعته للنساء المنصوص في هذه الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: إنما الطاعة في المعروف وهو في مواضع من الصحيح"
(4)
.
قال أبو جعفر: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بالعرف وهو المعروف في كلام العرب، مصدر في معنى: "المعروف"، وكل ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه، فهو من العرف، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فالحق فيه أن يقال: قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف كله، لا ببعض معانيه دون بعض"
(5)
.
(1)
تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (3/ 309).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 446).
(3)
وهو: ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول، التعريفات (ص: 149).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 446).
(5)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (13/ 331).
وقال ابن عطية: "وقوله وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ معناه بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ما هذا العرف الذي أمرت به، قال: لا أدري حتى أسأل العالم، فرجع إلى ربه فسأله ثم جاءه فقال له: يا محمد هو أن تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك.
قال القاضي أبو محمد: فهذا نصب غايات والمراد فما دون هذا من فعل الخير"
(1)
.
قال البيضاوي: "وأمر بالعرف المعروف المستحسن من الأفعال"
(2)
، وكذا قال أبو السعود
(3)
، وزاد النسفي:"هو كل خصلة يرتضيها العقل ويقبلها الشرع"
(4)
.
قال ابن سعدي: " {وأمر بالعرف} أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو بر والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية"
(5)
.
وقال أبو زهرة: " (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)، هذا النص الكريم يدل قطعا على أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وجاء به القرآن أمر متفق مع ما تأتي به العقول، وما أمر به هو حسن في ذاته، وما نهى عنه قبيح في ذاته، وقال بعض العلماء: إن ما كان حسنا في ذاته فهو من أمر الله، وما كان قبيحا في العقل فقد نهى الله عنه"
(6)
.
وقال السيوطي: " قال ابن الفرس: المعنى اقض بكل ما عرفته النفوس مما لا يرده الشرع، وهذا أصل للقاعدة الفقهية في اعتبار العرف، وعلق الباحث:
ورد الباحث هذا الاستنباط من وجهين: الأول أن العرف هنا ليس معناه ما تعارف عليه الناس من العادات، والثاني: العرف بمعنى العوائد والتقاليد لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مصدرا تشريعيا"
(7)
.
استنباطات سورة الأنفال
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 491).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 46).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 308).
(4)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 626).
(5)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 313).
(6)
زهرة التفاسير (6/ 3043).
(7)
الأكليل في استنباط التنزيل (2/ 770).
[تقوية قلوب المؤمنين وطمأنينتها مقصد من مقاصد الدعاء]
قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [سورة الأنفال: 9]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "يصح أن يكون من مقاصده صلى الله عليه وسلم من الدعاء يومئذ تقوية قلوب أصحابه، وهو ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالقوة المعنوية، ولا خلاف بين العقلاء حتى اليوم في أنها أحد أسباب النصر والظفر، ولكن لا يصح أن يكون علم باستجابة الله له لما وجد أبو بكر في نفسه القوة والطمأنينة، فعلمه صلى الله عليه وسلم بربه وبوقت استجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه استنباطا من حال أبي بكر رضي الله عنه"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب أعمال القلوب، في مسألة تقوية قلوب المؤمنين وطمأنينتها مقصد من مقاصد الدعاء، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: حال النبي صلى الله عليه وسلم وما يتصف به من الإيمان بالله والتوكل عليه والثقة بنصره، بحيث إن علمه بربه وبوقت استجابته له وطمأنينة قلبه به، لا تخفى عليه حتى يدركها من موقف أبي بكر وثقته بربه وطمأنينته به، وبهذا يتحقق ما يعرف بالمعنى العصري المتداول (بالقوة المعنوية)، وهذا ربط قيم وسليم ولا خلاف أنه أحد أسباب الظفر والنصر، وهذا معنى دقيق لم يتطرق إليه المفسرون، بل اقتصرت عباراتهم على بيان معنى الاستغاثة.
والاستغاثة: طلب الغوث، وهو الإعانة على رفع الشدة والمشقة ولما كانوا يومئذ في شدة ودعوا بطلب النصر على العدو القوي كان دعاؤهم استغاثة، فاستجاب لكم أي وعدكم بالإغاثة"
(2)
.
قال الرازي: "في قوله: إذ تستغيثون قولان: القول الأول: أن هذه الاستغاثة كانت من الرسول عليه السلام. قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، استقبل القبلة ومد يده وهو يقول:«اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر ثم التزمه ثم قال: كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فنزلت هذه الآية ولما اصطفت القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور.
القول الثاني: أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلا فيهم، بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول، فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته، ولم ينقل دعاء القوم، فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب. "
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 503).
(2)
التحرير والتنوير (9/ 274).
(3)
مفاتيح الغيب (15/ 459).
وقال أبو حيان: "استغاث طلب الغوث لما علموا أنه لا بد من القتال شرعوا في طلب الغوث من الله تعالى والدعاء بالنصرة والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله وإذ يعدكم وتودون "
(1)
.
قال ابن عاشور بعد أن قال أن هذه الآية إشارة إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وإيراده حديث عمر بن الخطاب: "وعلى هذه الرواية يكون ضمير تستغيثون مرادا به النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بضمير الجماعة لأن كان يدعو لأجلهم، ولأنه كان معلنا بدعائه وهم يسمعونه، فهم بحال من يدعون.
[التولي من الزحف كبيرة إلا لغاية ومقصد شرعي]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [سورة الأنفال: 15 - 16]
2.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: " والآية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي"، ثم قال:"وهذا لا ينافي كون التولي حراما ومن الكبائر، ولا يقتضي أن يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير، بل قد يكون دون ذلك، ويتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتي تفصيله قريبا"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الجهاد، في مسألة التولي من الزحف كبيرة إلا لغاية ومقصد شرعي، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: حرر الشيخ مسألة التولي من الزحف وجمع الأدلة، وخرج منها أن هناك أسبابا لا تعد من التولي من الزحف ولا تعد من الكبائر، منها ما ذكر في الآية، وهذه الطريقة من أساسيات العلم التي يجب أن يسير عليها طلاب العلم في تأصيلهم.
وذهب الشيخ إلى أن التولي من الزحف من غير سبب كبيرة تستوجب غضب الله جل وعلا، مثله مثل جمع من المفسرين، كابن كثير حيث قال:"فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر"
(3)
، وابن العربي
(4)
.
(1)
البحر المحيط في التفسير (5/ 278).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 514 - 515).
(3)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (4/ 28).
(4)
أحكام القرآن لابن العربي، ط العلمية (2/ 386).
وقال الشهاب الخفاجي
(1)
: "والفرار عن الزحف بغير نية الكر، والإنحياز إلى فئة المسلمين كبيرة ما لم يكن الجيش قليلاً لا يقدر على المقاومة"
(2)
، ومثله الألوسي
(3)
.
قال ابن عطية: "وأمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب الله عز وجل: وهذا قول جمهور الأمة، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة: يراعى أيضا الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة، لأنها بشعة على الفار ذامة له"
(4)
ومثله القرطبي
(5)
.
وقال الرازي: " ثم إنه تعالى لما نهى عن هذا الانهزام بين أن هذا الانهزام محرم إلا في حالتين:
إحداهما: أن يكون متحرفا للقتال، والمراد منه أن يخيل إلى عدوه أنه منهزم. ثم ينعطف عليه، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها، يقال: تحرف وانحرف إذا زال عن جهة الاستواء. والثانية: قوله: أو متحيزا إلى فئة قال أبو عبيدة: التحيز التنحي وفيه لغتان: التحيز والتحوز. قال الواحدي: وأصل هذا الحوز، وهو الجمع. يقال: حزته فانحاز وتحوز وتحيز إذا انضم واجتمع، ثم سمي التنحي تحيزا، لأن المتنحي عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره.
إذا عرفت هذا فنقول: الفئة الجماعة، فإذا كان هذا المتحيز كالمنفرد، وفي الكفار كثرة، وغلب على ظن ذلك المنفرد أنه إن ثبت قتل من غير فائدة، وإن تحيز إلى جمع كان راجيا للخلاص، وطامعا في العدو بالكثرة، فربما وجب عليه التحيز إلى هذه الفئة فضلا عن أن يكون ذلك جائزا والحاصل أن الانهزام من العدو حرام إلا في هاتين الحالتين"
(6)
.
(1)
أحمد بن محمد بن عمر، شهاب الدين الخفاجي المصري: قاضي القضاة وصاحب التصانيف في الأدب واللغة. نسبته إلى قبيلة خفاجة. ولد سنة 977 هـ، ونشأ بمصر، وفيها توفي سنة 1069 هـ. من مصنفاته:(ريحانة الألبا)، و (عناية القاضي وكفاية الراضي) حاشية على تفسير البيضاوي، ثماني مجلدات، الأعلام للزركلي (1/ 238).
(2)
حاشيه الشهاب علي أنوار التنزيل وأسرار التأويل، عنايه القاضي وكفاية الراضي (4/ 260).
(3)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (5/ 170).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 510).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 380).
(6)
مفاتيح الغيب (15/ 465).
وهناك من خصص هذه الآية وجعلها خاصة بيوم بدر وعليه فإن التولي من الزحف بعدها لا يدخل في هذا الحكم ومنهم ابن الفرس
(1)
في أحكام القرآن
(2)
.
[مجرى الأقوال والأفعال والأقدار في الكون وفق علم الله وعدله وفضله]
قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنفال: 23]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والآية نص في أنه تعالى لم يسمعهم، أي لم يوفقهم للسماع النافع، لأن الباعث عليه هو ما في الفطرة من نور الحق المحبب للنفس في الخير، وقد فقدوا ذلك بإفسادهم لفطرتهم، وإطفائهم لنور الاستعداد للحق والخير الذي يذكيه سماع الحكمة والموعظة الحسنة"، وقال:"أمثال هذه الآيات تحثو التراب في من يزعم أن الآية تدل على الجبر وعدم اختيار العبد في كفره وإيمانه، كما أنها تسجل الجهل باللغة على من يزعم أن فيها إشكالا في النظم بجواز تقدير: ولو أسمعهم لعلمه بأن فيهم خيرا لتولوا وهم معرضون عن الإيمان والهدى، ونقول: إن تقديره هذا هو الباطل؛ لأنه نقيض ما أفادته (لو) "
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان بالقدر، في مسألة مجرى الأقوال والأفعال والأقدار في الكون وفق علم الله وعدله وفضله، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: الله لم يوفق الكافرين لسماع النافع وذلك لوجود أسباب في أنفسهم منعتهم، وأن جبلتهم لا تقبل دعوة الخير والهداية والكمال
(4)
، فلذلك انتفى عنهم الانتفاع بما يسمعون من الحكمة والموعظة والإرشاد، لأنه "لا فهم ولا قصد لهم صحيح، لو فرض أن لهم فهما، لأفهمهم، ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم؛ لأنه يعلم أنه لو أفهمهم لتولوا عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك"
(5)
.
قال ابن جرير: "تأويل الآية: ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرًا، لأسمعهم مواعظ القرآن وعِبَره، حتى يعقلوا عن الله عز وجل حججه منه، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون، ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا، لتولوا عن الله وعن رسوله، وهم معرضون عن الإيمان بما دلَّهم على صحته مواعظُ الله وعبره وحججه، معاندون للحق بعد العلم به"
(6)
، وبنحوه قال الألوسي، وأبو السعود، وابن سعدي
(7)
.
(1)
ابن الفرس عبد المنعم بن محمد الأنصاري، الشيخ، الإمام، شيخ المالكية بغرناطة في زمانه، أبو محمد ابن الفرس، ألف في أحكام القرآن كتابا من أحسن ما وضع في ذلك، توفي سنة 597 هـ، سير أعلام النبلاء ط الرسالة (21/ 364)، الوافي بالوفيات (19/ 151).
(2)
أحكام القرآن ابن الفرس (3/ 79).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 522).
(4)
التحرير والتنوير (9/ 307).
(5)
انظر: تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (4/ 34)، زهرة التفاسير (6/ 3096).
(6)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (13/ 462).
(7)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (5/ 194)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 15)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 318).
ونقل أبو حيان أقوال بعض المفسرين فقال: "ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون قال ابن عطية: أخبر تعالى بأن عدم سماعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم والمراد لأسمعهم إسماع تفهم وهدى ثم ابتدأ عز وجل الخبر عنهم بما هو عليه من ختمه عليهم بالكفر، فقال: ولو أسمعهم أي ولو فهمهم لتولوا وهم معرضون بالقضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى، وقال الزمخشري: ولو علم الله في هؤلاء الصم البكم خيرا أي انتفاعا باللطف لأسمعهم اللطف بهم حتى سمعوا سماع المصدقين ثم قال ولو أسمعهم لتولوا يعني ولو لطف بهم لما نفعهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه أي ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا، وقال الزجاج: لأسمعهم جواب كلما سألوا، وحكى ابن الجوزي: لأسمعهم كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
[السعادة في الإسلام والعاقبة للمتقين سنة كونية وأساس لعلوم الإنسانية]
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [سورة الأنفال: 26]
4.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ومن العبرة في الآيات أنها حجج تاريخية اجتماعية على كون الإسلام إصلاحا أورث ويورث من اهتدى به سعادة الدنيا والسيادة والسلطان فيها قبل الآخرة، ولكن أعداءه - الجاحدين لهذا على علم - قد شوهوا تاريخه، وصدوا الناس عنه بالباطل"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب سنن الله الكونية، في مسألة السعادة في الإسلام والعاقبة للمتقين سنة كونية وأساس لعلوم الإنسانية، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: يتضح هنا كيف وظف الشيخ محمد رشيد هذا الاستنباط في الاستدلال بالسنن في وضع أسس علم التاريخ، وأنه مرآة الأمم ويجسد ماضيها ويعكس شخصيات شعوبها من حيث العقيدة والثقافة والحركة الاقتصادية والاجتماعية، وتستلهم منه الدروس لمستقبلها، فإن من يطلع على تاريخ من سبقه يأخذ منهم العظة والعبرة ويجد الطريق الصحيح للنهوض بالأمة من خلال تصحيح أخطاء من سبق.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 532).
وقد انفرد الشيخ بهذا الاستنباط، فلم يذكره غيره من المفسرين فيما اطلعت عليه.
[الخيانة خلق ينافي الإيمان وهو أشد خطر على وحدة الأمة وتكاتفها]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [سورة الأنفال: 27]
5.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والمراد أن فيها تعريضا بفعلة المنافق الذي يدعي الإيمان بأن عمله خيانة تنافيه"، ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم لزوجة أبي لبابة
(1)
، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي لبابة: ((أيصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة؟ فقالت: إنه ليصوم ويصلي ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله))، والمراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم شك في إيمانه حتى إنه سأل امرأته: هل يقوم في بيته بواجبات الإسلام؟ فأجابته بصيغة التأكيد التي يجاب بها من أظهر شكه، وفيه عبرة لمنافقي هذا الزمان الذين يخلصون الخدمة، ويسدون النصيحة إلى أعداء ملتهم وأوطانهم فيما يمكن لهم السلطان في بلادهم، والسيادة على أمتهم"، وقال: "ومهما يكن سبب النزول فالآية عامة تشتمل كل خيانة"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب السياسة الشرعية، في مسألة الخيانة خلق ينافي الإيمان وهو أشد خطر على وحدة الأمة وتكاتفها، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: أكدت الآية نهي وزجر المؤمنين عن خيانة الله ورسوله، وهذا المعنى تأكيد على وحدة اللحمة الداخلية للمجتمع المسلم، وإن تلك الخيانة لا تكون إلا من النفاق والمنافقين، وهم أشد خطرا على الأمة، ولذا جاء التحذير الشديد منهم لأنهم يدعون الإيمان والإخلاص لدينهم وأنهم يدافعون عن حقوق هذه الأمة المسلوبة، وخاصة في هذا الزمان الذي اغتر فيه المنافقون بما عند الأعداء من أدوات يظنون أنهم إذا قدموا لهم الخدمة بخيانة الدين والأمة أنهم سينالون بها السيادة والسلطان على أمتهم، "وقد أسقطت الخيانة دولة كانت أعظم دول الأرض قوة وبأسا بارتكاب رجالها الرشوة من أهلها، ومن الأجانب حتى مسخت فصارت دويلة صغيرة فقيرة، ولكن الخلف المغرور لذلك السلف المخرب يدعون أنها إنما أسقطها تعاليم الإسلام القويمة، لأنها صارت قديمة، ولو أنهم أقاموا واجبا واحدا أو أدبا واحدا من آداب القرآن، لكان كافيا لوقايتها من الزوال"
(3)
.
(1)
بشير بن عبد المنذرـ أبو لبابة، صحابي، وأحد النقباء ليلة العقبة، شهد أحدا وسائر المشاهد، وروى عدد من الأحاديث، توفي في خلافة عثمان، سير أعلام النبلاء (راشدون/ 221).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 534).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 537).
وهذا المعنى لم يتعرض له المفسرون، وإنما أشار بعضهم إلى المعنى العام لخيانة المنافقين.
ومنهم: الزمخشري فقال: "لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به، وأماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعنى أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو"
(1)
.
وزاد عليه أبو السعود: "لا تخونوهما بتعطيل الفرائض والسنن أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون أو في الغلول في الغنائم"
(2)
.
[تمييز الخبيث من الطيب سنة ربانية وأساس لعلوم الاجتماع]
قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)} [سورة الأنفال: 37]
6.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وهذا التمييز الإلهي بين الأمرين في الاجتماع البشري يوافق ما يسمى في عرف هذا العصر بسنة الانتخاب الطبيعي، وبقاء أمثل الأمرين المتقابلين وأصلحهما"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة تمييز الخبيث من الطيب سنة ربانية وأساس لعلوم الاجتماع، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: بين الشيخ أن التمايز بالفصل بين المجتمعين الخبيث والطيب، وجعل كل فريق مع ما يخصه سواء كان في الأعمال أو الأموال أو الأشخاص، أن هذا من سنن الله عز وجل، وهو قائم على سنة ثابته وهي بقاء الأمثل والأصلح، وأن هذه قاعدة من قواعد علم الاجتماع، تعرف بسنة الانتخاب الطبيعي.
وقد أشار جمع من المفسرين إلى المعنى العام لهذا التمايز وحكمته، ولكن لم يشيروا إلى أنه سنة اجتماعية، ومن ذلك ما قاله ابن جرير:"يقول تعالى ذكره: يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم، وينفقون أموالهم للصدّ عن سبيل الله، إلى جهنم، ليفرق بينهم، وهم أهل الخبث، كما قال وسماهم "الخبيث"وبين المؤمنين بالله وبرسوله، وهم "الطيبون"، كما سماهم جل ثناؤه. فميَّز جل ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جناته، وأنزل أهل الكفر نارَه"
(4)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 213).
(2)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 17).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 551).
(4)
جامع البيان ت شاكر (13/ 534).
قال ابن عطية: "الكفار ينفقون أموالهم فتكون عليهم حسرة ثم يغلبون مع نفقتها، وذلك ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبيث وينصر أهل الطيب"
(1)
، وكذا قال البيضاوي، وأبو السعود والقاسمي
(2)
.
وقال القرطبي: " (ليميز الله الخبيث من الطيب) أي المؤمن من الكافر، وقيل: هو عام في كل شيء، من الأعمال والنفقات وغير ذلك"
(3)
.
قال ابن سعدي: "والله تعالى يريد أن يميز الخبيث من الطيب، ويجعل كل واحدة على حدة، وفي دار تخصه، فيجعل الخبيث بعضه على بعض، من الأعمال والأموال والأشخاص"
(4)
.
وقال ابن عاشور: "ليميز متعلق ب يحشرون لبيان أن من حكمة حشرهم إلى جهنم أن يتميز الفريق الخبيث من الناس من الفريق الطيب في يوم الحشر، لأن العلة غير المؤثرة تكون متعددة، فتمييز الخبيث من الطيب من جملة الحكم لحشر الكافرين إلى جهنم"
(5)
.
[(الله يحول بين العبد وقلبه) أمر حوى من المعاني والحقائق ما لا يمكن حصره وإدراك آثاره]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [سورة الأنفال: 24]
7.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "من سنة الله في البشر الحيلولة بين المرء وبين قلبه، فهذه الجملة أعجب جمل القرآن، ولعلها أبلغها في التعبير، وأجمعها لحقائق علم النفس البشرية، وعلم الصفات الربانية، وعلم التربية الدينية، التي تعرف دقائقها بما تثمره من الخوف والرجاء"، ثم قال:"فتذكير الله تعالى إيانا بهذا الشأن من شئون الإنسان، وهذه السنة القلبية من سنن الله تعالى في الإرادات والأعمال، وأمره إيانا بأن نعلمها علم إيقان وإذعان، يفيدنا فائدتين لا يكمل بدونهما الإيمان، وهما ألا يأمن الطائع المشمر من مكر الله فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه، وألا ييأس العاصي والمقصر في الطاعة من روح الله، فيسترسل في اتباع هواه، حتى تحيط به خطاياه"
(6)
.
(1)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 526).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 59)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 21)، محاسن التأويل (5/ 291).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 401).
(4)
يسير الكريم الرحمن (ص: 321).
(5)
التحرير والتنوير (9/ 342).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(9/ 527 - 528).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الربوبية، في مسألة (الله يحول بين العبد وقلبه) أمر حوى من المعاني والحقائق ما لا يمكن حصره وإدراك آثاره، وفيه رد على الجبرية، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: لفظة (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) جمعت مكنونات النفس البشرية، وقدراتها ورغباتها وعجزها عن تلبيتها رغباتها، لأنها تحت قدرة الله عز وجل، وهي بين فضل الله وعدله، ولم يجبرهم على الضلال من دون سبب منهم، بل إن اتباعهم لأهوائهم هو سبب ضلالهم، وهذا المعنى فيه بناء للمعتقد الصحيح في اختيار العبد لسبيله في الحياة، وفيه تعلق لقلب العبد بربه وإحسانه الظن به، وعدم الأمن منمكر الله، وعدماليأس من رحمته، وفيه رد على الجبرية في دعاويهم الباطلة في هذا الباب.
قال ابن جرير: "أن ذلك خبرٌ من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يُدرك به شيئًا من إيمان أو كفر، أو أن يَعِي به شيئًا، أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته، وذلك أن "الحول بين الشيء والشيء"، إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبَه إدراكَه سبيلٌ"
(1)
.
قال الزمخشري: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه يعنى أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله"
(2)
، وذكر هذا القرطبي
(3)
.
وقال ابن عطية: "فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة، وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يحتمل وجوها، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات، ويلتئم مع هذا التأويل قوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر، ومنها أن يقصد بقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه، قال القاضي أبو محمد: فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر"
(4)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (13/ 472).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 210).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 391).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 514).
قال البيضاوي: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره"
(1)
، وبنحوه قال أبو حيان، وأبو السعود
(2)
.
قال ابن سعدي: "حذر عن عدم الاستجابة لله وللرسول فقال: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} فإياكم أن تردوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء. فليكثر العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك"
(3)
.
[أعطى الله على بذل الأسباب أضعافها وحرم على منعها كذلك]
8.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وهذا التقييد لإعداد المستطاع من القوة ومن رباط الخيل بقصد إرهاب الأعداء المجاهرين والأعداء المستخفين وغير المعروفين، دليل على تفضيل جعله سببا لمنع الحرب على جعله سببا لإيقاذ نارها، فهو يقول: استعدوا لها ليرهبكم الأعداء عسى أن يمتنعوا عن الإقدام على قتالكم، وهذا عين ما يسمى في عرف دول هذه الأيام بالسلام المسلح، بناء على أن الضعف يغري الأقوياء بالتعدي على الضعفاء، ولكن الدول الاستعمارية تدعي هذا بألسنتها وهي كاذبة في دعواها أنها تقصد بالاستعداد للحرب حفظ السلم العام"
(4)
.
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 55).
(2)
البحر المحيط في التفسير (5/ 302)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 16).
(3)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 318).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 57).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة أعطى الله على بذل الأسباب أضعافها وحرم على منعها كذلك، بدلالة التقييد.
وجه الاستنباط: الهدف من الاستعداد للحرب بالعدة والعتاد، ليس لأجل الحروب وإيقادها، وإنما هو من باب أخذ الحيطة والحذر وذلك أن الأمم إذا أحست أن من هو دونها في قوة وعزة كفت عن التعدي على حقوقه، واستشهد بواقع الدول التي خضعت للاستعمار وقد أورد مصطلحا من مصطلحات الحرب في هذا العصر، وهو ما يعرف بالسلام المسلح.
ولم يتعرض المفسرون لهذا المعنى، بل اقتصرت عباراتهم على لفظ العموم من الآية.
ومن ذلك ما قاله القرطبي: "قوله تعالى: "وأعدوا لهم" أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى، فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ، وكلما تعده لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عدتك، قال ابن عباس: القوة هاهنا السلاح والقسي"
(1)
.
وقال أبو حيان: "لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلة ولا عدة وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد للناقضين كان ذلك سبيلا للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه فأمره تعالى للمؤمنين بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد والإعداد الإرصاد وعلق ذلك بالاستطاعة لطفا منه تعالى والمخاطبون هم المؤمنون والضمير في لهم عائد على الكفار المتقدمي الذكر وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت ويعم من بعده"
(2)
، وكذا القاسمي
(3)
.
وقال ابن سعدي: " {ما استطعتم من قوة} أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة، ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأي: والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتعلم الرمي، والشجاعة والتدبير. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ((ألا إن القوة الرمي))
(4)
ومن ذلك: الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال، ولهذا قال تعالى:{ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته"
(5)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 35).
(2)
البحر المحيط في التفسير (5/ 343).
(3)
محاسن التأويل (5/ 315).
(4)
رواه مسلم: كتاب الإمارة باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه ح (1917).
(5)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 324).
قال أبو زهرة: " (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قوَّة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) هذا أمر تكليفي وهو فرض كفاية على الأمة الإسلامية يجب على الأمة كلها أن تتعاون في إعداد هذه القوة، بالدربة، والتعليم والرمي، وكل ما يربي الجند القوي، فلا بد من التربية على الجندية، وإعداد عدة القتال، وذلك بالمستطاع بل بأقصى ما يستطاع، ومن هنا بيانية في قوله (مِّن قُوَّةٍ) وهي تدل على عموم القوى، فأعدوا كل ما يمكن أن يكون قوة في الحرب من دربة على الرمي بالسهام، فكل قوة مستطاعة يجب على الأمة أن تتضافر على إيجادها، وإلا أثمت كلها، ولم ينج من الإثم فقيرها وغنيها ولا قويها أو ضعيفها، فالقادر بقدرته، والضعيف بلسانه"
(1)
.
[الحرب والجهاد مقصود لإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل لا لذاته]
قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [سورة الأنفال: 61]
9.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: بعد أن ساق دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية))
(2)
، قال:"وهذا يؤيد ما دلت عليه الآية من أن الحرب ليست محبوبة عند الله، ولا عند رسوله لذاتها، ولا لما فيها من مجد الدنيا، وإنما هي ضرورة اجتماعية يقصد بها منع البغي والعدوان، وإعلاء كلمة الحق والإيمان، ودحض الباطل، واكتفاء شر عمله، بناء على سنة: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [سورة الرعد: 17]، وتسمى في عرف عصرنا سنة الانتخاب الطبيعي"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا أصوليا، في باب الأمور بمقاصدها، في مسألة الحرب والجهاد مقصود لإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل لا لذاته، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: الحرب وما تخلفه ليست محبوبة لذاتها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنها ضرورة اجتماعية إذا قصد منها منع البغي والعدوان وكان الهدف إعلاء كلمة الحق والإيمان، ودحض الباطل فلما يُطلب السلم فالمسلم الحق يجنح لهذا السلم، لأنه الأفضل لمن معه ولمن حوله، وفي هذا رسم للخطوط العريضة للجهاد وغاياته.
(1)
زهرة التفاسير (6/ 3174).
(2)
رواه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء العدو، ح (2861).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 44).
وقد أشار بعض المفسرين إلى مفهوم هذا المعنى كما قال ابن جرير: " (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحربَ، إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح (فاجنح لها)، يقول: فمل إليها، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه"
(1)
، ومثله البغوي
(2)
.
وقال الرازي: "واعلم أنه لما بين ما يرهب به العدو من القوة والاستظهار، بين بعده أنهم عند الإرهاب إذا جنحوا أي مالوا إلى الصلح، فالحكم قبول الصلح، قال النضر: جنح الرجل إلى فلان، وأجنح له إذا تابعه وخضع له، والمعنى: إن مالوا إلى الصلح فمل إليه"
(3)
، وكذا قال البيضاوي، والنسفي، والقرطبي
(4)
، وابن سعدي، وابن عاشور
(5)
.
[بشارة المؤمنين بنصر الله لإيمانهم وصبرهم وفقههم فضلا منه لا ثمنا لجهادهم]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)} [سورة الأنفال: 65]
10.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ونكتة إيراد هذا الحكم بلفظ الخبر، الإشارة إلى جعله بشارة بأن المؤمنين الصابرين الفقهاء يكونون كذلك فعلا، وكذلك كانوا، كما ترى بيانه في تفسير الآية التالية"
(6)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباط عقديا، في باب السنن، في مسألة بشارة المؤمنين بنصر الله لإيمانهم وصبرهم وفقههم فضلا منه لا ثمنا لجهادهم، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: إيراد الحكم بلفظ الخبر، يزيده يقينا وتحقيقا، فكان في الحكم بشارة للمؤمنين الذين صدقوا وصبروا ووفقوا، وهذا وعد وبشارة كذلك للمجاهدين في عصور هذه الأمة المتتابعة، فإن النصر من عند الله كما وعد، بعد تحقق شروطه الواجب استيفاؤها على المجاهدين، وقد تقرر أن نصر الله عز وجل فضل منه على عباده المجاهدين، وأن تحقيقهم لأسبابه سبب لتحققه وليس ثمنا لجهدهم في تحقيق أسبابه.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (14/ 40).
(2)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 307).
(3)
مفاتيح الغيب (15/ 500).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 65)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 654)، الجامع لأحكام القرآن (8/ 39).
(5)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 325)، التحرير والتنوير (10/ 58).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 66).
ووافق الشيخ رشيد على استنباطه ابن سعدي حيث قال: "إن في إتيانه بلفظ الخبر، نكتة بديعة لا توجد فيه إذا كان بلفظ الأمر، وهي تقوية قلوب المؤمنين، والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين"
(1)
.
وإلى ذلك أيضا أشار الزمخشري فقال: "وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده، ثم قال بأنهم قوم لا يفقهون أى بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى"
(2)
.
قال أبو بكر الجصاص: "أن قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} وإن كان لفظه لفظ الخبر فمعناه الأمر كقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة: 233]، وقوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة: 228]، وليس هو إخبارا بوقوع ذلك وإنما هو أمر بأن لا يفر الواحد من العشرة ولو كان هذا خبرا لما كان لقوله {الآن خفف الله عنكم} معنى لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به لا في المخبر عنه ومعلوم أيضا أن القوم الذين كانوا مأمورين بأن يقاوم الواحد منهم العشرة من المشركين داخلون في قوله: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} فلا محالة قد وقع النسخ عنهم فيما كانوا تعبدوا به من ذلك ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم ولا قل صبرهم وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم"
(3)
، وكذا أشار شهاب الدين الخفاجي في حاشيته على البيضاوي
(4)
.
[وجوب العلم وعلو شأن أهله في كل الميادين]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)} [سورة الأنفال: 65]
11.
قال الشيخ رحمه الله: "والآية تدل على أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين، وأفقه بكل علم وفن يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، وأن حرمان الكفار من هذا العلم هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين"
(5)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 326).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 235).
(3)
أحكام القرآن للجصاص، ط العلمية (3/ 92).
(4)
حاشيه الشهاب علي أنوار التنزيل وأسرار التأويل، عنايه القاضي وكفاية الراضي (4/ 289).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 67).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب العلم، في مسألة وجوب العلم وعلو شأن أهله في كل الميادين، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: اصطفاء الله للمؤمنين وجعلهم أفقه في كل فن ومجال يتعلق بحياتهم، وحرمان الكفار من هذا العلم هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين، ولذا كان ما وصل إليه حال المؤمنين في القرون الأولى إنما كان بسبب هداية دينهم، وأنهم عندما فسدوا وتركوا الهداية زال عنهم ذلك المجد والسؤدد.
وذكر ابن جرير معنى عام للتفقه فقال: (بأنهم قوم لا يفقهون)، يقول: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب، ولا لطلب أجر ولا احتساب، لأنهم لم يفقهوا أن الله مُوجبٌ لمن قاتل احتسابًا، وطلب موعود الله في الميعاد، ما وعد المجاهدين في سبيله، فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء، خشية أن يُقتلوا فتذهب دنياهم
(1)
، ومثله البغوي
(2)
.
وقال الزمخشري: "ثم قال بأنهم قوم لا يفقهون أى بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى"
(3)
، وبنحوه قال البيضاوي، والنسفي، وأبو حيان، والألوسي، وأبو السعود، وابن سعدي
(4)
.
وقال ابن عطية: "قوله لا يَفْقَهُونَ معناه لا يفهمون مراشدهم ولا مقصد قتالهم لا يريدون به إلا الغلبة الدنياوية، فهم يخافون إذا صبر لهم، ومن يقاتل ليغلب أو يستشهد فيصير إلى الجنة أثبت قدما لا محالة"
(5)
.
وقال الرازي: "وهناك وجه لا يعرفه إلا أصحاب الرياضات والمكاشفات، وهو أن كل قلب اختص بالعلم والمعرفة كان صاحبه مهيبا عند الخلق، ولذلك إذا حضر الرجل العالم عند عالم من الناس الأقوياء الجهال الأشداء، فإن أولئك الأقوياء الأشداء الجهال يهابون ذلك العالم ويحترمونه ويخدمونه، بل نقول: إن السباع القوية إذا رأت الآدمي هابته وانحرفت عنه، وما ذاك إلا أن الآدمي بسبب ما فيه من نور العقل يكون مهيبا، وأيضا الرجل الحكيم إذا استولى على قلبه نور معرفة الله تعالى، فإنه تقوى أعضاؤه وتشتد جوارحه، وربما قوي عند ظهور التجلي في قلبه على أعمال يعجز عنها قبل ذلك الوقت، إذا عرفت هذا فالمؤمن إذا أقدم على الجهاد فكأنه بذل نفسه وماله في طلب رضوان الله"
(6)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (14/ 51).
(2)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (3/ 375).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 235).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 66)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 655)، البحر المحيط في التفسير (5/ 350)، الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (5/ 227)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 34)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 326).
(5)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 551).
(6)
مفاتيح الغيب (15/ 505).
استنباطات سورة التوبة
[أصل الدين مبني على علم يقيني لا على ظن أو تقليد]
قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)} [سورة التوبة: 6]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وتدل الآية على أن الاعتقاد بأصل الدين يجب أن يكون علما يقينيا لا شك فيه ولا احتمال، وإن لم يكن منطقيا، ولا يكتفى فيه بالظن الراجح كالفروع العلمية، ولا بالتقليد؛ لأنه ليس بعلم"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الألوهية، في مسألة شروط لا إله إلا الله، في مسألة شرط العلم واليقين، وأنهما أساس الدين وعمادة، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: المقصود من إجارة المشرك هو تحقيق العلم عنده بالدين وأصله، فإن ذلك هو أساس هذا الدين المبني على العلم اليقيني وليس العلم الظني، وقد أكد هذا المعنى خاتمة الآية (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ)، وهذا فرق بين الأمور الاعتقادية والأمور الفرعية العلمية، وهذا الاستنباط وإن كان واضح الدلالة النصية إلا أنه جميل في بعده ومعناه.
وقد أجمع المفسرون على أن المراد بالإجارة هي إعطاؤه الأمان حتى يتسنى له سماع القرآن وما فيه من الحجج والبراهين، فإنهم لم يكونوا يعلمون ما فيه، لذا أمر بالإجارة ومن ثم إقامة الحجة عليه وبعدها ينظر في حاله إن آمن فخير وإن لم يؤمن فأبلغه مأمنه.
ومن ذلك ما قاله ابن جرير: "تفعل ذلك بهم، من إعطائك إياهم الأمان ليسمعوا القرآن، وردِّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوِزْر والإثم بتركهم الإيمان بالله"
(2)
، ومثله البغوي
(3)
.
قال ابن عطية: "وقوله سبحانه: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} يعني القرآن، والمعنى ويفهم أحكامه وأوامره ونواهيه، فذكر السماع بالأذان إذ هو الطريق إلى الفهم وقد يجيء السماع في كلام العرب مستعملا بمعنى الفهم كما تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك أنت لم تسمع قولي تريد لم تفهمه"
(4)
، ومثله ابن كثير
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 162).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (14/ 138).
(3)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 319).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 9).
(5)
تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (4/ 113).
وقال البيضاوي: "حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر، ثم أبلغه مأمنه موضع أمنه إن لم يسلم، بأنهم قوم لا يعلمون ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلا بد من أمانهم ريثما يسمعون ويتدبرون"
(1)
، ومثله النسفي وأبو حيان والقرطبي، وأبو السعود
(2)
.
[أخوة الدين أصل عظيم يقوم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة]
قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)} [سورة التوبة: 11]
2.
قال الشيخ رحمه الله: "وهو نص في أن أخوة الدين تثبت بهذين الركنين، ولا تثبت بغيرهما من دونهما، والثاني مقيد بشرطه وهو ملك النصاب مدة الحول، والكلام في جملة المشركين، وفيهم الغني والفقير، وهل يتعارف الإخوان في الدين إلا بإقامة الصلوات في المساجد وسائر المعاهد، وبأداء الصدقات للمواساة بينهم"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الولاء والبراء، في مسألة أخوة الدين أصل عظيم يقوم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بدلالة النص.
وجه الاستنباط: أخوة الدين لا تقوم إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهي بهذا حققت أصل وأساس الأخوة في الدين، ولو جمعت غيرهما بدونهما لم تتحقق أخوة الدين، فالصلاة تجمع الإخوان وتربطهم بحق الله عليهم، والزكاة تربط المؤمنين بحق إخوانهم الفقراء، فإذا اجتمعا تحققت الأخوة في الدين.
وأشار إلى هذا المعنى ابن عطية فقال: "قرن تعالى بإيمانهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة، وقال ابن زيد: قرن الله الصلاة بالزكاة ولم يرض بإحداهما دون الأخرى.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا مر أبو بكر رضي الله عنه وقت الردة، و «الأخوة في الدين» هي أخوة الإسلام"
(4)
.
وقال الرازي: "المواخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعا، فإن الله تعالى شرطها في إثبات المواخاة، ومن لم يكن أهلا لوجوب الزكاة عليه، وجب عليه أن يقر بحكمها، فإذا أقر بهذا الحكم دخل في الشرط الذي به تجب الأخوة، وكان ابن مسعود يقول رحم الله أبا بكر ما أفقهه في الدين، أراد به ما ذكره أبو بكر في حق مانعي الزكاة"
(5)
.
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 72).
(2)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 665)، البحر المحيط في التفسير (5/ 374)، الجامع لأحكام القرآن (8/ 75)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 44).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 169).
(4)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 11).
(5)
مفاتيح الغيب (15/ 534).
وقال أبو زهرة: "وقد قرن إقامة الصلاة وأداء الزكاة؛ لأنها أمارات الإيمان العملية، ولكي يخرج الكافر مما كان عليه لَا بد من مظهر عملي دال على الخروج مما كان عليه، فكانت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة دليلا على انخلاعه من دينه القديم، وأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تثبت الإيمان، وبيان الإذعان الكامل لما أمر الله تعالى به، ونهى عنه.
وجواب الشرط (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) هو قوله تعالى: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فقد دخلوا في الإسلام، وصاروا إخوانكم، وعبَر بقوله تعالى:(فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) للإشارة إلى أنهم دخلوا في الأخوة الإسلامية، وهي عهد الله الجامع الذي لَا تفرق فيه، ولا تتجافى القلوب بل تتواد وتتراحم بعرى الإيمان الوثيقة"
(1)
.
[الإيمان الصحيح يحقق خشية الله في قلب المؤمن وقوته وشجاعته]
قال تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)} [سورة التوبة: 13]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وفيه دليل على أن المؤمن حق الإيمان يكون أشجع الناس وأعلاهم همة؛ لأنه لا يخشى إلا الله عز وجل "
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الإيمان، في مسألة الإيمان الصحيح يحقق خشية الله في قلب المؤمن وقوته وشجاعته، بدلالة لفظة الخشية.
وجه الاستنباط: المؤمن إذا حقق الإيمان الصحيح كانت نتيجته قيام خشية الله في قلبه، فيستقر في قلبه عدم الخوف إلا من الله وعلى هذا يكون أقوى وأشجع، لأنه يعلم أن الله أقوى من كل شيء، وأن هؤلاء لن يضروه شيئا.
قال ابن جرير: "يقول: أتخافونهم على أنفسكم فتتركوا قتالهم خوفًا على أنفسكم منهم (فالله أحق أن تخشوه)، يقول: فالله أولى بكم أن تخافوا عقوبته بترككم جهادهم، وتحذروا سخطه عليكم، من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا إلا بإذن الله، (إن كنتم مؤمنين)، يقول: إن كنتم مقرِّين أن خشية الله لكم أولى من خشية هؤلاء المشركين على أنفسكم"
(3)
.
قال الزمخشري: "أتخشونهم تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها فالله أحق أن تخشوه فتقاتلوا أعداءه إن كنتم مؤمنين يعنى أن قضية الإيمان الصحيح ألا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه، كقوله تعالى ولا يخشون أحدا إلا الله"
(4)
، ونقل ذلك أبو حيان
(5)
.
(1)
زهرة التفاسير (6/ 3240).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 177).
(3)
جامع البيان ت شاكر (14/ 158).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 252).
(5)
البحر المحيط في التفسير (5/ 382).
قال البيضاوي: " فاخشوه أي إن قضية الإيمان الكامل ألا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه"
(1)
، ومثله النسفي، وأبو السعود
(2)
.
وقال ابن عاشور: "فالله الذي أمركم بقتالهم أحق أن تخشوه إذا خطر في نفوسكم خاطر عدم الامتثال لأمره، إن كنتم مؤمنين، لأن الإيمان يقتضي الخشية من الله وعدم التردد في نجاح الامتثال له"
(3)
.
[إعلام المؤمنين بأن الأيام دول مع الكفار وبشارتهم أن العاقبة لهم]
قال تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة: 27]
4.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ونكتة التعبير عن هذه التوبة، وما يتلوها من المغفرة والرحمة، بصيغة الفعل المستقبل "يتوب" إعلام المؤمنين بأن ما وقع في حنين من إيمان أكثر من بقي من الذين غلبوا وعذبوا بنصر المؤمنين عليهم، سيقع مثله لكل الذين يقدمون على قتال المؤمنين بعد عودة حال الحرب بينهم، فإن من سنة الله في الاجتماع البشري أن يميز الخبيث من الطيب بمثل ذلك، وما من حرب من حروب المسلمين الدينية الصحيحة إلا وكان عاقبتها كذلك، ولما صار الإسلام جنسية، وحروب أهله أهواء دنيوية فقدوا ذلك"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة إعلام المؤمنين بأن الأيام دول مع الكفار وبشارتهم أن العاقبة لهم، بدلالة التضمن.
وجه الاستنباط: ما وقع للمسلمين يوم حنين، سيقع مثله فيما يستقبل من الزمن، وما من حرب من حروب المسلمين الدينية الصحيحة إلا وكان عاقبتها للمؤمنين، فعند قتال الكافرين للمؤمنين بعد عودة الحرب بينهم، ستكون العاقبة للمتقين، ثم الله غفور لعباده الذين عادوا الله في الاجتماع البشري، وإن الله بتلك السنة يميز الخبيث من الطيب، وإن حروب أهل الإسلام نصرة للدين ووفق سنة الله، وحروب غيرهم حروب أهواء دنيوية.
قال أبو جعفر: "يقول تعالى ذكره: ثم يتفضل الله بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه، من بعد عذابه الذي به عذَّب من هلك منهم قتلا بالسيف (على من يشاء)، أي يتوب الله على من يشاء من الأحياء، يُقْبِل به إلى طاعته"
(5)
.
(1)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 74).
(2)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 668)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 49).
(3)
التحرير والتنوير (10/ 134).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 221).
(5)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (14/ 190).
وقال أبو حيان: "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم إخبار بأن الله يتوب على من يشاء فيهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإسلام، ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن ومن أسلم معه من قومه"
(1)
.
وقال الشوكاني: "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء أي: من بعد هذا التعذيب على من يشاء ممن هداه منهم إلى الإسلام والله غفور يغفر لمن أذنب فتاب رحيم بعباده يتفضل عليهم بالمغفرة لما اقترفوه"
(2)
.
وقال ابن سعدي: " {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} فتاب الله على كثير ممن كانت الوقعة عليهم، وأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين تائبين، فرد عليهم نساءهم، وأولادهم {والله غفور رحيم}، أي: ذو مغفرة واسعة، ورحمة عامة، يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة والطاعة، والصفح عن جرائمهم، وقبول توباتهم، فلا ييأسن أحد من مغفرته ورحمته، ولو فعل من الذنوب والإجرام ما فعل"
(3)
.
وقال ابن عاشور: "والمعنى: ثم تاب الله عليهم، أي على الذين أسلموا منهم فقوله: يتوب الله من بعد ذلك دليل المعطوف بثم ولذلك أتي بالمضارع في قوله: يتوب الله دون الفعل الماضي: لأن المقصود ما يشمل توبة هوازن وتوبة غيرهم، للإشارة إلى إفادة تجدد التوبة على كل من تاب إلى الله لا يختص بها هوازن فتوبته على هوازن قد عرفها المسلمون، فأعلموا بأن الله يعامل بمثل ذلك كل من ندم وتاب، فالمعنى: ثم تاب الله عليهم ويتوب الله على من يشاء"
(4)
.
[الخزن والخوف منهي عنهما ومنافيان لمراد الله من المؤمن]
5.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "الحزن انفعال نفسي اضطراري يراد بالنهي عنه مجاهدته، وعدم توطين النفس عليه، والنهي عن الحزن وهو تألم النفس مما وقع، يستلزم النهي عن الخوف مما يتوقع"، "وأما الخوف فهو انفعال النفس من أمر متوقع، وقد نهى الله رسوليه - موسى وهارون- عنه قبل وقوع سببه وهو لقاء فرعون ودعوته إلى ما أمرهما به، والنهي عن الحزن يستلزم النهي عن الخوف، كما تقدم، وقد كان الصديق خائفا وحزنا كما تدل عليه الروايات، وهو مقتضى طبع الإنسان"
(5)
.
(1)
البحر المحيط في التفسير (5/ 395).
(2)
فتح القدير (2/ 397).
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 333).
(4)
التحرير والتنوير (10/ 159).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 369 - 370)
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب أعمال القلوب، في مسألة الخزن والخوف منهي عنهما ومنافيان لمراد الله من المؤمن، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: دل لفظ الحزن على طبيعة البشر التي لا تخلو منها حياتهم، وما يتضمنه من آثار ومفاسد تستحق التنبيه عليها والتحذير منها، ثم فرق بين الحزن والخوف، في صفتهما وآثارهما، مع اتفاقهما في ضررهما ومفاسدهما على أعمال القلوب، وفضيلة السلامة منهما وإمكانية ذلك، وأنهما طبيعة بشرية، والحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، والأولى بالعبد إذا نزل به أن يسعى في ذهابه عنه، فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة، وهذا منفي في حق أبي بكر.
وممن أشار إلى هذا البغوي، فقال:"وقوله عز وجل: لا تحزن إن الله معنا، لم يكن حزن أبي بكر جبنا منه، وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(1)
.
وكذا الرازي فقال: "أن قوله: لا تحزن نهي عن الحزن مطلقا، والنهي يوجب الدوام والتكرار، وذلك يقتضي ألا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة، قبل الموت وعند الموت وبعد الموت"
(2)
.
وقال الألوسي: "وألا تَحْزَنْ، ليس المقصود منه حقيقة النهي عن الحزن فإنه من الأمور التي لا تدخل تحت التكليف بل المقصود منه التسلية للصديق رضي الله تعالى عنه أو نحوها"
(3)
.
وزاد ابن سعدي: "أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه، فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة"
(4)
، وهذا منفي في حق أبي بكر.
[الفرق بين الطعن في أمور الرسالة والطعن في أمور العادات في حق النبي صلى الله عليه وسلم
-]
قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)} [سورة التوبة: 61]
6.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "الآية وما في معناها دليل على أن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، إذا كان فيما يتعلق بصفة الرسالة؛ فإن إيذاءه في رسالته، ينافي صدق الإيمان بطبيعته، وأما الإيذاء الخفيف فيما يتعلق بالعادات والشئون البشرية فهو حرام، لا كفر"
(5)
.
(1)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 349).
(2)
مفاتيح الغيب (16/ 52).
(3)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (5/ 292).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 338).
(5)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 449).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب النفاق، في مسألة الفرق بين الطعن في أمور الرسالة والطعن في أمور العادات في حق النبي صلى الله عليه وسلم، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: اللمز والهمز على النبي صلى الله عليه وسلم يستلزم الطعن في نبوته، وفرق بين إيذائه فيما يتعلق بصفة الرسالة، وما يتعلق بالعادات والشئون البشرية، فالأول كفر، لأنه طعن في أصل الدين، وهو ما عناه المنافقون في طعنهم في هذه الآية، والثاني حرام لا كفر، فقد يقع من غير طعن في الدين، كما حدث ممن طعن في النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعدل.
قال أبو جعفر: "يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه (ويقولون هو أذن) سامعةٌ، يسمع من كل أحدٍ ما يقول فيقبله ويصدِّقه"
(1)
، ومثله البغوي، وابن كثير، والزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والقرطبي
(2)
، وغيرهم، فقد ذكروا تفسير هذه اللفظة، ولم يتطرقوا إلى معنى الكفر في إيذائه صلى الله عليه وسلم وأن هذا النوع كفر برسالته صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لقد أكثر الله في سورة براءة من صفات المنافقين، ولهذا سميت هذه السورة: الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، وتسمى المبعثرة؛ لأنها بعثرتهم، فلم تزل تذكر: ومنهم ومنهم ومنهم ومنهم حتى خاف المنافقون أن يسموا بأعيانهم، وذكر منها هذه الآية"
(3)
، ثم قال:"فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله ولرسوله لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً، ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها"
(4)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (14/ 324).
(2)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 364)، تفسير القرآن العظيم، ت سلامة (4/ 170)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 284)، مفاتيح الغيب (16/ 90)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 86)، الجامع لأحكام القرآن (8/ 192).
(3)
شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية، الراجحي (6/ 6).
(4)
الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 27).
[العذاب لأهل النفاق والكفر في الدنيا حسي وفي الآخرة حسي ومعنوي]
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [سورة التوبة: 68].
7.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "والظاهر من العطف أنه نوع من العذاب نفسي معنوي غير عذاب جهنم الحسي الخاص بها بنوعيه الظاهر والباطن"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب النفاق، في مسألة العذاب لأهل النفاق والكفر في الدنيا حسي وفي الآخرة حسي ومعنوي، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: العطف في قوله (وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) بعد قوله: (نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) جاء على أن الأصل في العطف المغايرة، ففهمنا أن العذاب المقيم بعد النار يختلف عن عذاب النار بنوعيه الحسي والمعنوي؛ وأنه نوع آخر، وهو ما يجدونه في الدنيا من العذاب النفسي.
وقد تعرض بعض من المفسرين للعذاب المعنوي ولكن لم يذكروا العطف والمعنى الذي أفاده.
منهم الزمخشري فقال: "ولهم عذاب مقيم ولهم نوع من العذاب سوى الصلى بالنار، مقيم دائم كعذاب النار، هو ما يقاسونه من تعب النفاق الذي هم منه في بلية دائمة لا يأمنون ساعة من خوف الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع عن أسرارهم"
(2)
ومثله الرازي، وأبو السعود
(3)
.
وقال ابن عاشور: "وإن كان المراد به عذابا آخر تعين أنه عذاب في الدنيا وهو عذاب الخزي والمذلة بين الناس"
(4)
.
وقال الألوسي: "وقيل: إن الأول عذاب الآخرة وهذا عذاب ما يقاسونه في الدنيا من التعب والخوف من الفضيحة والقتل ونحوه"
(5)
.
[تقرير حكم الجهاد وبيان مراتبه]
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [سورة التوبة: 123]
8.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "اعلم أن هذه الآية قاعدة من قواعد القتال الذي نزلت أهم قواعده وأحكامه في هذه السورة والتي قبلها، وإنما وضعت هاهنا على سنة القرآن في تفريق الموضوع الواحد الكثير الأحكام في مواضع متفرقة"
(6)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(10/ 462).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 287).
(3)
مفاتيح الغيب (16/ 98)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 81).
(4)
التحرير والتنوير (10/ 146)
(5)
روح المعانى (5/ 323).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 65).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا فقهيا، في باب الجهاد، في مسألة تقرير حكم الجهاد وبيان مراتبه، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: هذه الآية تصلح أن تكون قاعدة من قواعد الجهاد، فهي إرشاد إلى الاستمرار في القتال، خاصة بعد استقرار الإسلام فيها، فينطلق إلى البلاد المجاورة، سعيا لنشر الإسلام، وإقامة شرع الله فيه، وهذا ما ماسار عليه الخلفاء الراشدون عليهم رضوان الله.
وقد أشار جمهور العلماء إلى هذه المرتبة من الجهاد ولكن لم ينصوا على أنها قاعدة تصلح لكل ما يماثلها، ومنهم: الإمام أبو جعفر حيث قال: "يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: "يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بَعُد منهم، يقول لهم: ابدأوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارًا، دون الأبعد فالأبعد، وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ، الروم، لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق، فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية، قتالُ من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم، ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام، فإن اضطروا إليهم، لزمهم عونهم ونصرهم، لأن المسلمين يدٌ على من سواهم"
(1)
، ومثله الزمخشري
(2)
.
قال ابن عطية: "قيل هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام، قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يضعفه هذه الآية من آخر ما نزل، وقالت فرقة: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوما من الكفار غازيا لقوم آخرين أبعد منهم، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة، وقالت فرقة: الآية مبينة صورة القتال كافة وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة، ومعناها أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يصاقبه من الكفرة، وهذا هو القتال لكلمة الله ورد الناس إلى الإسلام، وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المسلمين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد"
(3)
.
قال القرطبي: "فيه مسألة واحدة، وهو أنه سبحانه عرفهم كيفية الجهاد وأن الابتداء بالأقرب فالأقرب من العدو ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرب، فلما فرغ قصد الروم وكانوا بالشام، وقال الحسن: نزلت قبل أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين، فهي من التدريج الذي كان قبل الإسلام"
(4)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (14/ 575 - 574).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 324)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 112).
(3)
البحر المحيط في التفسير (5/ 527).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 297).
وقال ابن سعدي: "وهذا أيضا إرشاد آخر، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال، أرشدهم إلى أنهم يبدأون بالأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم، والشدة في القتال، والشجاعة والثبات"
(1)
.
وقال ابن عاشور: "هذه الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلما استقر بلد للإسلام وكان تجاوره بلاد كفر كان حقا على المسلمين غزو البلاد المجاورة، ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس"
(2)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 356).
(2)
التحرير والتنوير (11/ 63).
استنباطات سورة يونس
[ذكر ما ينفع بيانه وتقريره والإعراض عن سخيف القول منهج قرآني]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "في الآية التفات عن خطاب هؤلاء الموعوظين إلى الغيبة عنهم، وتوجيه له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسلوب الالتفات في القرآن كثير جدا، ويظهر في هذه الآية أن نكتة حكاية هذا الاقتراح السخيف بأسلوب الإخبار عن قوم غائبين إفادة أمرين: (أحدهما) إظهار الإعراض عنهم كأنهم غير حاضرين؛ لأنهم لا يستحقون الخطاب به من الله تعالى، (ثانيهما) تلقينه صلى الله عليه وسلم الجواب عنه بما ترى من العبارة البليغة التأثير"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الدعوة، في مسألة ذكر ما ينفع بيانه وتقريره والإعراض عن سخيف القول منهج قرآني، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: في تصوير هذا المشهد والانتقال من أسلوب إلى أسلوب في الخطاب له دلالة، وخاصة على هؤلاء المنكرين لأن فيه توبيخاً وتحقيراً لشأنهم كأنهم غير حاضرين هذه المجادلة، وهذا أسلوب من أقوى أساليب التوبيخ، وفيه انتقال إلى ما ينفع ذكره ويفيد بيانه وتقريره، بدلا من سخيف القول والإسفاف الذي جادلوا به.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 261).
وأشار إلى هذا الاستنباط أبو السعود فقال: "التفات من خطابهم إلى الغيبة، إعراضا عنهم، وتوجيها لخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالاستخلاف من تكذيب الرسول والكفر بالآيات البينات وغير ذلك، كدأب من قبلهم من القرون المهلكة وصيغة المضارع للدلالة على تجدد جوابهم الآتي حسب تجدد التلاوة"
(1)
، والألوسي
(2)
.
وقال أبو حيان: "خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة، وقفه بها توقيفا رادا على أقوالهم، ومبطلا لها"
(3)
.
[الاختلاف في كتاب الله شقاق وعدوان]
قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)} [سورة يونس: 19]
2.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والآية تتضمن الوعيد على اختلاف الناس المفضي إلى الشقاق والعدوان، ولا سيما الاختلاف في كتاب الله الذي أنزله لإزالة الشقاق بحكمه، وإدالة الوحدة والوفاق منه"
(4)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الاعتصام، في مسألة الاختلاف في كتاب الله شقاق وعدوان، بدلالة المخالفة.
وجه الاستنباط: في الآية وعيد من الله لمن كان الشقاق والعدوان منهجه، وأن الاختلاف في كتاب الله شقاق وفرقة خطيرة المآل، وهو سبب لاختلاف الناس، وأن هذا الخلاف ليس من الخلاف المتبع لكتاب الله الذي أزال الشقاق بحكمه ودلهم إلى الوحدة والوفاق، فإن وحدة الكتاب سبب لوحدة الكلمة.
قال الرازي: "أنه تعالى قال: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ولا شك أن هذا وعيد، وصرف هذا الوعيد إلى أقرب الأشياء المذكورة أولى، والأقرب هو ذكر الاختلاف، فوجب صرف هذا الوعيد إلى هذا الاختلاف، لا إلى ما سبق من كون الناس أمة واحدة، وإذا كان كذلك، وجب أن يقال: كانوا أمة واحدة في الإسلام لا في الكفر، لأنهم لو كانوا أمة واحدة في الكفر لكان اختلافهم بسبب الإيمان، ولا يجوز أن يكون الاختلاف الحاصل بسبب الإيمان سببا لحصول الوعيد. أما لو كانوا أمة واحدة في الإيمان لكان اختلافهم بسبب الكفر، وحينئذ يصح جعل ذلك الاختلاف سببا للوعيد"
(5)
.
(1)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 128).
(2)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (6/ 79).
(3)
البحر المحيط في التفسير (6/ 128).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 269).
(5)
مفاتيح الغيب (17/ 229).
قال أبو حيان: "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون: لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس، والظاهر عموم الناس"
(1)
.
قال ابن عاشور: "وجملة: ولولا كلمة سبقت من ربك إخبار بأن الحق واحد، وأن ذلك الاختلاف مذموم، وأنه لولا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستيصال المبطل وإبقاء المحق، وهذه الكلمة أجملت هنا وأشير إليها في سورة الشورى [14] بقوله: ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم"
(2)
.
[الحق والباطل ضدان لا يجتمعان وعلى هذا فروع الدين والعلم]
قال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [سورة يونس: 32]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رحمه الله: "وفي الجملة إدماج بما يسمونه الاحتباك"، ثم قال:"وفي الآية من قواعد العقائد الدينية وأصول التشريع والعلم، أن الحق والباطل فيهما ضدان لا يجتمعان، وأن الهدى والضلال ضدان لا يجتمعان، ولهذا الأصل فروع كثيرة في الدين والعلم العقلي، وفيها من حسنات الإيجاز في التعبير ما يسميه علماء البديع بالاحتباك، وهو أن يحذف من كل من المتقابلين ما يدل عليه مقابله في الآخر، وهو ظاهر في الآية أتم الظهور، وإن غفل عنه الجمهور"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الاعتصام، في مسألة الحق والباطل ضدان لا يجتمعان وعلى هذا فروع الدين والعلم، بدلالة اللزوم.
وجه الاستنباط: الحق والباطل ضدان لا يجتمعان، ولهذا الأصل فروع كثيرة في الدين والعلم، وفي الحذف من كل من المتقابلين ما يدل على المعنى الآخر، فحذف من الحق الهدى بدلالة الحق عليه، وحذف من الضلال الباطل لدلالته عليه، وفي هذا الحذف ما يفيد معنى الاستغراق والشمول لكل المعاني العظيمة المتضمن لها معنى الحق والباطل والهدى والضلال، وفي هذا إيجاز بليغ.
وقد تفرد الشيخ بهذا الاستنباط فلم يذكره أحد من المفسرين.
قال القرطبي: "قوله تعالى: "فذلكم الله ربكم الحق"، أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق، لا ما أشركتم معه، "فماذا بعد الحق"، "ذا" صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال، وقال بعض المتقدمين: ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال، لأن أولها: " فذلكم الله ربكم الحق"، وآخرها: "فماذا بعد الحق إلا الضلال"، فهذا في الإيمان والكفر، وليس في الأعمال، وقال بعضهم: إن الكفر تغطية الحق، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى، فالحرام ضلال والمباح هدى، فإن الله هو المبيح والمحرم، والصحيح الأول"
(4)
.
(1)
البحر المحيط في التفسير (6/ 28).
(2)
التحرير والتنوير (11/ 129).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 294 - 293).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 335).
قال ابن سعدي: "وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها، وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه، وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه"
(1)
.
[الشهادة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مبلغ للقرآن عن الله جل جلاله
-
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [سورة يونس: 59]
4.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "هاتان الآيتان في إقامة الحجة على منكري الوحي من المشركين بفعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون فيه، تعزيزا لما تقدم من أنواع الحجج العقلية على إثباته، ودفع شبهاتهم عليه وهذه الحجة مبنية على قاعدة كون التشريع العملي في التحريم والتحليل هو حق الله تعالى وحده، وقاعدة كون الأصل في الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الخلق الإباحة، وقاعدة كون انتحال العبيد حق التشريع الخاص بربهم افتراء عليه وكفرا به، يستحق فاعلوه أشد عقابه، وهو يتضمن الشهادة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كونه مبلغا لهذا القرآن عنه تعالى"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب النبوة، في مسألة الشهادة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مبلغ للقرآن عن الله جل جلاله، بدلالة التلازم.
وجه الاستنباط: قرر إقامة الحجة على منكري الوحي من أفعالهم، وأن ذلك موافق للحجج العقلية على إثباته، ودفع شبهاتهم عليه وهذه الحجة مبنية على قاعدة كون التشريع العملي في التحريم والتحليل هو حق الله تعالى وحده، فذكر أن التحليل والتحريم حق لله وحده، وبين أن الأصل في الأرزاق وسائر ما ينتفع به الخلق الإباحة، وأخذ هذا من فحوى الآية، وبين أن قاعدة انتحال العبيد حق التشريع الخاص بربهم افتراء وكفرا به، يستوجب العقوبة منه.
قال ابن العربي: "وهي دليل على أن التحريم والتحليل لا يكونان عقلا ولا تشهيا؛ وإنما المحرم والمحلل هو الله حسبما تقدم في سورة الأنعام في مثل هذه الآية"
(3)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 133).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 334 - 335).
(3)
أحكام القرآن لابن العربي (4/ 488).
قال السيوطي: "استدل به نفاة القياس، وفيه دليل على أنه لا حكم للعقل استقلالا، وأما مع الوحي فله عمل في مجالات واسعة وهذا في أمور الدين خلافا للمعتزلة الذين يجعلون للعقل حكما مستقلا"
(1)
.
قال أبو جعفر: "يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين: (أرأيتم) أيها الناس (ما أنزل الله لكم من رزق)، يقول: ما خلق الله لكم من الرزق فخَوَّلكموه، وذلك ما تتغذون به من الأطعمة (فجعلتم منه حرامًا وحلالا)، يقول: فحللتم بعضَ ذلك لأنفسكم، وحرمتم بعضه عليها، وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرِّمونه من حُروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم، كما وصفهم الله به فقال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) [سورة الأنعام: 136]، ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك، مما قدّمناه فيما مضى من كتابنا هذا، يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد (آلله أذن لكم) بأن تحرِّموا ما حرَّمتم منه (أم على الله تفترون)، أي تقولون الباطل وتكذبون؟ "
(2)
، وبنحوه قال البغوي
(3)
.
قال الزمخشري: "والمعنى: أخبرونى الله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه، ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، وأم منقطعة بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريرا للافتراء، وكفى بهذه الآية زاجرة زجرا بليغا عن التجوز فيما يُسأل عنه من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وألا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله يوم القيامة منصوب بالظن"
(4)
.
قال الرازي: "لما ذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه وبين فساد سؤالاتهم وشبهاتهم في إنكارها، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم وبين أن التمييز بين هذه الأشياء بالحل والحرمة، مع أنه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل طريق باطل ومنهج فاسد، والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم، وأنهم ليسوا على شيء في باب من الأبواب"
(5)
.
(1)
الإكليل في استنباط التنزيل (2/ 848).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (15/ 111).
(3)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 423).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 354).
(5)
مفاتيح الغيب (17/ 271).
قال ابن سعدي: "قال تعالى منكرا على المشركين، الذين ابتدعوا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق} يعني أنواع الحيوانات المحللة، التي جعلها الله رزقا لهم ورحمة في حقهم، {فجعلتم منه حراما وحلالا} قل لهم - موبخا على هذا القول الفاسد-: {آلله أذن لكم أم على الله تفترون} ومن المعلوم أن الله لم يأذن لهم، فعلم أنهم مفترون"
(1)
.
[إحاطة علم الله بكل صغيرة وكبيرة]
5.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "قدم ذكر الأصغر لأنه هو الأهم في سياق العلم بالخفي، وعطف عليه الأكبر لإفادة الإحاطة وكون الأكبر لا يكبر عليه كما أن الأصغر لا يعزب عنه {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة يونس: 61] أي إلا وهو معلوم ومحصي عنده ومرقوم في كتاب عظيم الشأن تام البيان"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الأسماء والصفات، في مسألة إحاطة علم الله بكل صغيرة وكبيرة، بدلالة التقديم والتأخير.
وجه الاستنباط: تقديم الأصغر وعطف الأكبر عليه أفاد إحاطة الله بكل شيء صغيره وكبيره، لا يغيب عن علمه أدق شيء، فكل ما في الكون خاضع لرقابته محفوظ برعايته.
قال ابن عطية: "ويحتمل أن يريد تحصيل الكتبة، ويكون القصد ذكر الأعمال المذكورة قبل، وتقديم «الأصغر» في الترتيب جرى على قولهم: القمرين والعمرين، ومنه قوله تعالى: {لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} [الكهف: 49]، والقصد بذلك تنبيه، الأقل وأن الحكم المقصود إذا وقع على الأقل فأحرى أن يقع على الأعظم، وأَلا استفتاح وتنبيه، وأَوْلِياءَ اللَّهِ هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة، وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله"
(3)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 367).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 340).
(3)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 128).
قال أبو حيان: "ولما ذكر تعالى أنه لا يغيب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهدها، ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك، ثم أتى بقوله: ولا أكبر، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء، ومعلوم أنّ من علم أدق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقا بأكبر الأشياء وأظهرها"
(1)
.
قال ابن سعدي: " {وما يعزب عن ربك} أي: ما يغيب عن علمه، وسمعه، وبصره ومشاهدته {من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} أي: قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه، وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر، كثيرا ما يقرن الله بينهما، وهما: العلم المحيط بجميع الأشياء، وكتابته المحيطة بجميع الحوادث، كقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير} "
(2)
.
[نصر المؤمنين ورعايتهم سنة كونية شرعية]
قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)} [سورة يونس: 103]
6.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "هذا التعبير من أعجب إيجاز القرآن المعجز الذي انفرد به في العطف على محذوف، وهو ذكر شيء يدل دلالة واضحة على أمر عام كسنة اجتماعية تستنبط من قصة أو قصص واقعة، ثم يأتي بجملة معطوفة لا يصح عطفها على ما قبلها من الجمل، فيتبادر إلى الذهن وجوب عطفها على ذلك الأمر العام، بحرف العطف المناسب للمقام، بحيث يستغنى به عن ذكره"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة نصر المؤمنين ورعايتهم سنة كونية شرعية، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: في الآية عطف على محذوف، من قوله (إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم)، وهذا الأسلوب من أعجب إيجاز القرآن المعجز، وهو ما يسمى عند أهل العربية إيجاز الحذف، وهذا يتضمن من المعاني أكملها وأشملها لما تدل عليه الآية من معنى في سنن الله عز وجل في نصر المؤمنين ورعايتهم.
وإلى هذا أشار جمع من المفسرين منهم، الزمخشري فقال:"ثم ننجي رسلنا معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله {إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم}، كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا، على حكاية الأحوال الماضية والذين آمنوا ومن آمن معهم، كذلك ننج المؤمنين مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين"
(4)
، ومثله البيضاوي والنسفي، والرازي، وأبو حيان، وأبو السعود
(5)
، وغيرهم
(6)
.
(1)
البحر المحيط (6/ 79).
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 368).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(11/ 397).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 373).
(5)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 125)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (2/ 43)، مفاتيح الغيب (17/ 307)، البحر المحيط في التفسير (6/ 110)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 178).
(6)
انظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (6/ 183)، فتح القدير (2/ 541)، التحرير والتنوير (11/ 299)، زهرة التفاسير (7/ 3641).
استنباطات سورة هود
[نجاة الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال]
قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)} [سورة هود: 3]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب السنن، في مسألة نجاة الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: النجاة لا تتحقق إلا برحمة من الله، بإقامة التوحيد الذي ارتضاه الله، ذلك أن الله يمتعكم متاعا حسنا مرضيا ممتدا إلى أجل مسمى عنده وهو العمر المقدر لكم في علمه، المكتوب فلا يقطعه إهلاككم بعذاب الاستئصال ولا بفساد العمران وسلب الاستقلال، ولا ينغصه كل ما ينغص حياة الكفار، وأن هذه الأسباب ترجع إلى الإصرار على الكفر والذنوب المحرمة، وهذا ما تحقق به نجاة الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي حل بكل الأمم وأقوام الرسل الذين أصروا على الكفر والظلم والفساد.
قال أبو جعفر: "يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات: {استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}، فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت"
(2)
، وبنحوه قال أبو حيان وأبو السعود
(3)
.
وقال الرازي: "واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة، ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين، لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة، أما المنافع الدنيوية: فهي المراد من قوله: يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال"
(4)
.
قال البيضاوي: "يمتعكم متاعا حسنا: يعيشكم في أمن ودعة إلى أجل مسمى هو آخر أعماركم المقدرة، أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال والأرزاق والآجال، وإن كانت متعلقة بالأعمار لكنها مسماة بالإضافة إلى كل أحد فلا تتغير"
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 8).
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (15/ 229).
(3)
البحر المحيط في التفسير (6/ 121)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 184).
(4)
مفاتيح الغيب (17/ 315).
(5)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 127).
وزاد القرطبي: "هذه ثمرة الاستغفار والتوبة، أي يمتعكم بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم"
(1)
.
[جزاء الآخرة غير جزاء الدنيا في وفائه وبخسه]
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)} [سورة هود: 15]
2.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وكرر لفظ (فيها) للتأكيد والإعلام بأن الآخرة ليست كالدنيا في وفاء كيل الجزاء وفي بخسه، فإنه فيها منوط بأمرين: كسب الإنسان، ونظام الأقدار، وقد يتعارضان، وأما جزاء الآخرة فهو بفعل الله - تعالى - مباشرة: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [سورة الكهف: 49] "
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الأيمان باليوم الآخر، في مسألة جزاء الآخرة غير جزاء الدنيا في وفائه وبخسه، بدلالة الإشارة.
وجه الاستنباط: دل تكرار اللفظ على تأكيد المعنى والإعلام بأن جزاء الآخرة غير جزاء الدنيا، فهو خاضع لمشيئة الله وإرادته، فهو الملك والمالك لذلك الموقف، بينما جزاء الدنيا قد جعله الله نتيجة لبذل الإنسان وقدر الله العدل في ذلك، ولا يتأتي بيان ذلك بمثل تكرار اللفظ فيها.
وباستقراء أقوال المفسرين، تبين أنهم لم يتعرضوا لمسألة التكرار وإنما فسروا الجزاء فيها بأقوال منها:
ما قاله البيضاوي: "وهم فيها لا يبخسون لا ينقصون شيئا من أجورهم"
(3)
.
وقال النسفي: "نوصل إليهم أجور أعمالهم وافيه كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما يرزقون فيها من الصحة الرزق وهم الكفار أو المنافقون"
(4)
، وبنحوه قال الشوكاني
(5)
.
وقال الألوسي: " {وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ} أي لا ينقصون، والظاهر أن الضمير المجرور -للحياة الدنيا- وقيل: الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارا بلا فائدة، وردّ بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق"
(6)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (9/ 4).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 41).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 130).
(4)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (2/ 51).
(5)
فتح القدير (2/ 553).
(6)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (6/ 225).
وقال ابن سعدي: " {وهم فيها لا يبخسون} أي: لا ينقصون شيئا مما قدر لهم، ولكن هذا منتهى نعيمهم"
(1)
.
قال ابن عاشور: "وقوله: {وهم فيها لا يبخسون} أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجا لهم وإمهالا، فهذا كالتكملة لمعنى جملة نوف إليهم أعمالهم فيها، إذ البخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلما"
(2)
.
[خطورة الظلم والشرك أعظم الظلم]
قال تعالى: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)} [سورة هود: 44]
3.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ولكنك ترى في هذه الآية من تأثير تقبيح الظلم والوعيد عليه نوعا لا تجده في غيرها، لأن حادثة الطوفان أكبر ما حدث في الأرض من مظاهر سخط الله - تعالى - على الظالمين، وقد علم من أول القصة أنها عقاب للظالمين، بيد أن إعادته في هذه الآية عقب تصوير حادثة الطوفان بارزة في أشد مظاهر هولها، وإشعار القلوب عظمة الجبار العزيز الحكيم في الفصل فيها، بما تتلاقى فيها نهايتها ببدايتها، والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد والطرد الذي يحتمل عدة معان مذمومة شرها الطرد من رحمة الله - تعالى -، يمثل لك هؤلاء الظالمين من قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس، لا ترى مثله في أمثالهم من أقوام الأنبياء، على ما تراه في التعبير عنها بالعبارات الرائعة في البلاغة وعلو الأسباب"
(3)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الشرك، في مسألة خطورة الظلم، والشرك أعظم الظلم، بدلالة اللفظ.
وجه الاستنباط: الظلم والشرك من الأمور العظيمة التي لا تكون إلا عن قصد من فاعلها، فكان التعبير بهذه الصورة لبيان خطورته، وتنبيها وتعريضا بسالكيه، وربط صورة من صور أشد العذاب بهذا الشرك والظلم، فهو عام وليس خاصاً بقوم نوح، ولكن هذا الوصف بين قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس بسبب الظلم الذي تأصل فيهم.
قال الزمخشري: "وقيل بعدا يقال بعد بعدا وبعدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبنى للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأن فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى، ولا أن يقضى ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره"
(4)
، ومثله قال البيضاوي
(5)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 379).
(2)
التحرير والتنوير (12/ 24).
(3)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 68).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 398).
(5)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 136).
وقال الرازي: "قوله تعالى: {وقيل بعدا للقوم الظالمين} ففيه وجهان: الأول: أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد، والثاني: أن يكون ذلك من كلام نوح عليه السلام وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق"
(1)
.
قال أبو حيان: "ومعنى بعدا هلاكا يقال: بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك، واللام في للقوم من صلة المصدر، وقيل: تتعلق بقوله: وقيل، والتقدير وقيل لأجل الظالمين، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز"
(2)
.
قال أبو السعود: " {وقيل بعدا للقوم الظالمين}، أي هلاكا لهم والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكيره ما سبق من قوله تعالى: {ولا تخاطبني فى الذين ظلموا إنهم مغرقون} "
(3)
، وكذا قال الألوسي والشوكاني
(4)
.
وزاد ابن عاشور فقال: "ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة إنما كانت لظلمهم"
(5)
.
[تحريم سؤال الله جل جلاله ما هو محرم أو مخالف لسنن الله القطعية]
قال تعالى: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} [سورة هود: 46].
4.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وسمى دعاءه سؤالا؛ لأنه تضمن ذكر الوعد بنجاة أهله وما رتبه عليه من طلب نجاة ولده"، ثم قال:"وهذا النهي يدل على أنه يشترط في الدعاء أن يكون بما هو جائز في شرع الله وسننه في خلقه، فلا يجوز سؤال ما هو محرم وما هو مخالف لسنن الله القطعية بما يقتضي تبديلها، ولا تحويلها وقلب نظام الكون لأجل الداعي، ولكن يجوز الدعاء بتسخير الأسباب، وتوفيق الأقدار للأقدار"
(6)
.
(1)
مفاتيح الغيب (17/ 354).
(2)
البحر المحيط في التفسير (6/ 161).
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 211).
(4)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (6/ 260)، فتح القدير (2/ 568).
(5)
التحرير والتنوير (12/ 81).
(6)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 71).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الألوهية، في مسألة تحريم سؤال الله جل جلاله ما هو محرم أو مخالف لسنن الله القطعية، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: بين أن دلالة النهي في قوله (فَلَا تَسْأَلْنِ) إضافة معنى أنه يشترط في الدعاء أن يكون بما هو جائز في شرع الله وسننه في خلقه، وما كان مخالفا لسنن الله القطعية فإنه لا يجوز طلبه، ولذا قال الشيخ: وإنما اقترن النهي هنا بالوعظ لأن عاطفة الرحمة الوالدية حملته على سؤال ما ليس له به علم اعتمادا على استنباط اجتهادي غير صحيح، ورحمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم كانت أعم وأشمل، وغاية ما تشير إليه الآية أنه تمنى ولكنه لم يسأل، ولو سأل لسأل آية يهتدي بها الضال من قومه، لا نجاة الكافر من أهله، فاكتفى في إرشاده بالنهي، وفي إرشاد نوح التصريح بالوعظ.
وإلى هذا أشار جمع من المفسرين منهم، ابن جرير فقال:"قوله: {فلا تسألن ما ليس لك به علم}، نهيٌ من الله تعالى ذكرهُ نبيه نوحًا أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر، يقول له تعالى ذكره: إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته، فلا تسألن بعدها عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي، وليس لك به علم "إني أعظك أن تكون من الجاهلين" في مسألتك إياي عن ذلك"
(1)
.
وقال ابن عطية: "ومعنى قوله: {فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي إذ وعدتك فاعلم يقينا أنه لا خلف في الوعد فإذ رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك هو بحق واجب واجب عند الله، قال القاضي أبو محمد: ولكن نوحا عليه السلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير، وعلى هذا القدر وقع عتابه"
(2)
، ونقل ذلك أيضا أبو حيان
(3)
.
وقال ابن عاشور: "ثم إن كان نوح عليه السلام لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم، نهي تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤلا لا يعلم إجابته"
(4)
.
(1)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (15/ 350).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 177).
(3)
البحر المحيط في التفسير (6/ 163).
(4)
التحرير والتنوير (12/ 87).
[أبلغ البلاغ بالوعيد على الظلم والوعد على العدل]
قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [سورة هود: 90].
5.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "وهذا وعد قفي به على الوعيد الذي قبله، وترك لهم الخيار فيما يرجحونه منهما بعد إقامة الحجة عليهم، والآية دليل على أن الندم على فعل الفساد والظلم بالتوبة واستغفار الرب - تعالى - من أسباب خير الدنيا والآخرة، كما تقدم نظيره مكررا في هذه السورة، وكذلك يقتضيان فعل العدل والصلاح اللذين هما سبب العمران والخير في الدنيا، ومغفرة الله ومثوبته في الآخرة، وقد عبر عنهما هنا بما يدل عليهما من صفاته - تعالى - وهي الرحمة والمودة، وارجع إلى ما عبر به عن فائدة الاستغفار والتوبة في الآية الثالثة و 52 و 61 وتأمل هذه البلاغة والتفنن في بيان المعنى الواحد "
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الأسماء والصفات، في مسألة أبلغ البلاغ بالوعيد على الظلم والوعد على العدل، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: المتأمل في خطاب شعيب لقومه يلحظ أسلوب الإقناع الرائع والرأفة والرحمة على قومه، فقد حذرهم من سبل الوعيد للظلم المنتشرة فيهم، وفتح لهم بابا لسلوك سبل الهدى والرشاد بالتوبة والاستغفار والأمل بأن الله رحيم ودود.
وذكر الاستغفار والتوبة بعد وعيد سابق وختم الآية بأن الله رحيم ودود وترك الاختيار للعبد بيان لقيمة الاستغفار والتوبة، وأن الندم على فعل الفساد والظلم بالتوبة والاستغفار أنه من أسباب خير الدنيا والآخرة، وبين أنه سبب لشيوع العدل والصلاح الذي يكون سبب العمران والخير في الدنيا والمغفرة والمثوبة في الآخرة، وقد تضمنت السورة ثمارا عظيمة للتوبة والاستغفار في حياة الأفراد والأمم بأسلوب بليغ متنوع.
قال أبو جعفر: "يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (استغفروا ربكم)، أيها القوم من ذنوبكم بينكم وبين ربكم التي أنتم عليها مقيمون، من عبادة الآلهة والأصنام، وبَخْس الناس حقوقهم في المكاييل والموازين، (ثم توبوا إليه)، يقول: ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه (إن ربي رحيم)، يقول: هو رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة. (ودود)، يقول: ذو محبة لمن أناب وتاب إليه، يودُّه ويحبُّه"
(2)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 121)
(2)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (15/ 456).
قال الرازي: "ثم إنه لما صحح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولا، وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثم بين لهم أن سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطاعة لأنه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان والتوبة من الكافر والفاسق لأن رحمته وحبه لهم يوجب ذلك، وهذا التقرير في غاية الكمال"
(1)
.
وقال البيضاوي: "واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه عما أنتم عليه، إن ربي رحيم عظيم الرحمة للتائبين، ودود فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار"
(2)
.
وقال الشيخ ابن سعدي: " {واستغفروا ربكم} عما اقترفتم من الذنوب {ثم توبوا إليه} فيما يستقبل من أعماركم، بالتوبة النصوح، والإنابة إليه بطاعته، وترك مخالفته، {إن ربي رحيم ودود} لمن تاب وأناب، يرحمه فيغفر له، ويتقبل توبته ويحبه، ومعنى الودود، من أسمائه تعالى، أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه"
(3)
.
[التحذير مما وقعت فيه الأمم من مواقعة المعاصي والمحرمات]
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)} [سورة هود: 94]
6.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ومن دقيق نكت البلاغة في الآيات قوله -تعالى- في إهلاك مدين هنا: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} [سورة هود: 94] إلخ، فعطف "لما" على ما قبلها بالواو، ومثله في قوم هود، ولكنه عطفها بالفاء في قصة ثمود (66) وقصة قوم لوط، ووجه هذا الأخير أن الآيتين جاءتا عقب الإنذار بالعذاب واستحقاقه وحلول موعده فعطفتا بالفاء الدالة على التعقيب، وأما عطف مثلهما في قوم هود وقوم شعيب فليس كذلك، فعطف بالواو على الأصل في العطف المطلق، وأما الأول فظاهر لأنه ليس قبل الآية وعيد بالعذاب، وأما الثاني ففيه وعيد مسوف فيه مقرون بالارتقاب لا الاقتراب، فلا يناسب العطف عليه الفاء التي تفيد التعقيب بدون انفصال، فهل تصادف مثل هذه الدقائق اللغوية في غير القرآن؟ "
(4)
.
(1)
مفاتيح الغيب (18/ 390).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 146).
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 388).
(4)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 124).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الدعوة، في مسألة التحذير مما وقعت فيه الأمم من مواقعة المعاصي والمحرمات، بدلالة اختلاف التعبير.
وجه الاستنباط: سبب اختلاف حرف العطف في قصتي ثمود وقوم لوط التي عطفت بالفاء أنها جاءت عقب الإنذار بالعذاب واستحقاقه، لأنهم قد وقعوا في المعصية الموجبة لذلك، وبين قصة قوم شعيب وهود التي عطفت بالواو على أنه وعيد مسوف فيه مقرون بالارتقاب لا الاقتراب، وهذا تحذير لهم مما وقع فيه غيرهم من الأمم من مواقعة المعاصي والمحرمات.
ولم يشر إلى هذا المعنى إلا ابن عاشور حيث قال: "عطف لما جاء أمرنا هنا وفي قوله في قصة عاد {ولما جاء أمرنا نجينا هودا} [هود: 59] بالواو فيهما وعطف نظيراهما في قصة ثمود فلما جاء أمرنا نجينا صالحا [هود: 66]، وفي قصة قوم لوط {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها} [هود: 82]، لأن قصتي ثمود وقوم لوط كان فيهما تعيين أجل العذاب الذي توعد به النبيئان قومهما ففي قصة ثمود فقال: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} [هود: 65]، وفي قصة قوم لوط {إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} [هود: 81]، فكان المقام مقتضيا ترقب السامع لما حل بهم عند ذلك الموعد فكان الموقع للفاء لتفريع ما حل بهم على الوعيد به"
(1)
.
[إهلاك المصلحين ظلم ينزه الله جل جلاله عنه]
قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [سورة هود: 117]
7.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والآية تدل على أن إهلاك المصلحين ظلم فلذلك يتنزه الله عنه"
(2)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب الظلم، في مسألة إهلاك المصلحين ظلم ينزه الله عنه، بدلالة المخالفة.
وجه الاستنباط: بعد أن ساق المعاني في هلاك الظالمين بين أن الله لا يهلك الصالحين المصلحين لأنه ظلم ينزه عنه الله جل في علاه، وإن كان في تلك القرى المهلكة أناس صالحين وعمهم العذاب فهو ليس من باب ظلمهم وإنما هو جارٍ على سنة الله في الهلاك، من أن الهلاك للظالمين يعم والنجاة للمصلحين يخص.
وإلى هذا أشار أبو جعفر فقال: "يقول تعالى ذكره: وما كان ربك، يا محمد، ليهلك القرى، التي أهلكها، التي قَصَّ عليك نبأها، ظُلمًا وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربّهم، ظلمًا، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله وتماديهم في غيِّهم، وتكذيبهم رُسُلهم، وركوبهم السيئات"
(3)
، ومثله قال البغوي
(4)
، ونقل ذلك الألوسي وأبو حيان
(5)
.
(1)
التحرير والتنوير (12/ 154 - 153).
(2)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 159).
(3)
جامع البيان في تأويل آي القرآن، ت شاكر (15/ 530).
(4)
معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 472).
(5)
روح المعاني (6/ 356)، البحر المحيط في التفسير (6/ 226).
وقال الزمخشري: "واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وأهلها قوم مصلحون تنزيها لذاته عن الظلم، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظلم"
(1)
.
وزاد النسفي: " {وَأَهْلُهَا} قوم {مُصْلِحُونَ} تنزيهًا لذاته عن الظلم وقيل الظلم الشرك أي لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فساد آخر"
(2)
، ومثله البيضاوي
(3)
.
قال القرطبي: "قوله تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى) أي أهل القرى، (بظلم) أي بشرك وكفر، (وأهلها مصلحون) أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق، أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط، ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب"
(4)
، ونقل مثل ذلك الشوكاني
(5)
.
قال ابن سعدي: "وما كان الله ليهلك أهل القرى بظلم منه لهم، والحال أنهم مصلحون، أي: مقيمون على الصلاح، مستمرون عليه، فما كان الله ليهلكهم، إلا إذا ظلموا، وقامت عليهم حجة الله. ويحتمل، أن المعنى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق، إذا رجعوا وأصلحوا عملهم، فإن الله يعفو عنهم، ويمحو ما تقدم من ظلمهم"
(6)
.
(1)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 438).
(2)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (2/ 90).
(3)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 152).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (9/ 114).
(5)
فتح القدير (2/ 605).
(6)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 392).
استنباطات سورة يوسف
[الصدق في الدعاء يحقق سرعة الإجابة]
قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} [سورة يوسف: 34]
1.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "فاستجاب له ربه ما دعاه به وطلبه منه، الذي دل عليه هذا الابتهال والالتجاء إليه وطوى ذكره إيجازا فصرف عنه كيدهن فلم يصب إليهن، فيحتاج إلى جهاد نفسه لكفها عن الاستمتاع بهن، وعصمه أن يكون {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [سورة يوسف: 33]، باتباع هواهن {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة يوسف: 34] لمن أخلص له الدعاء، جامعا بين مقامي الخوف والرجاء، العليم بصدق إيمانهم، وما يصلح من أحوالهم، فعطف استجابة ربه له، وصرف كيدهن عنه بالفاء الدالة على التعقيب، وتعليلها بأنها مقتضى كمال صفتي السمع والعلم، دليل على أن ربه عز وجل لم يتخل عن عنايته بتربيته، أقصر زمن يهتم فيه بأمر نفسه ومجاهدته، ومؤيد لقوله - تعالى - في أول سياق هذه الفتنة: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [سورة يوسف: 21] "
(1)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 247).
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الأسماء والصفات، في مسألة الصدق في الدعاء يحقق سرعة الإجابة، بدلالة الاقتضاء.
وجه الاستنباط: دلت الآية على سرعة استجابة الله لدعاء نبيه يوسف، بما دلل عليه في الآية من العطف بالفاء في الاستجابة والصرف، وبختمها باسمين جامعين لمعنى الخوف والرجاء، فكان هذا دليلا على إحاطة علم الله برسله وبالخلق أجمعين، يسعهم بعلمه وسمعه، وهذا ألصق بالمعنى الذي تولى الله فيه يوسف عليه السلام.
وإلى هذا أشار ابن عاشور فقال: "وعطف جملة فاستجاب بفاء التعقيب إشارة إلى أن الله عجل إجابة دعائه الذي تضمنه قوله: وإلا تصرف عني كيدهن، واستجاب: مبالغة في أجاب، كما تقدم في قوله: (فاستعصم)، وصرف كيدهن عنه صرف أثره، وذلك بأن ثبته على العصمة فلم ينخدع لكيدها ولا لكيد خلائلها في أضيق الأوقات، وجملة إنه هو السميع العليم في موضع العلة فاستجاب المعطوف بفاء التعقيب، أي أجاب دعاءه بدون مهلة لأنه سريع الإجابة وعليم بالضمائر الخالصة، فالسمع مستعمل في إجابة المطلوب، يقال: سمع الله لمن حمده. وتأكيده بضمير الفصل لتحقيق ذلك المعنى"
(1)
.
وقال ابن عطية: "وقوله: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} صفتان لائقتان بقوله: فَاسْتَجابَ"
(2)
.
وقال الزمخشري: "وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدم الدعاء، لأن قوله وإلا تصرف عني فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف السميع لدعوات الملتجئين إليه العليم بأحوالهم وما يصلحهم"
(3)
، وكذا والبيضاوي، والنسفي، وأبو السعود، وأبو حيان، والألوسي، والشوكاني
(4)
.
وقال ابن سعدي: "وصرف الله عنه كيدها، {إنه هو السميع} لدعاء الداعي {العليم} بنيته الصالحة، وبنيته الضعيفة المقتضية لإمداده بمعونته ولطفه"
(5)
.
[الحكم لله وحده على اختلاف الأزمنة والأمكنة]
(1)
التحرير والتنوير (12/ 267).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 242).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 467).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 163)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل (2/ 109)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 274)، البحر المحيط في التفسير (6/ 273)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (6/ 427)، فتح القدير (3/ 29).
(5)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 397).
2.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ما الحكم الحق في الربوبية، والعقائد والعبادات الدينية إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله - تعالى - على ألسنة جميع رسله، لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة"
(1)
.
الدراسة:
استنبط الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله استنباطا عقديا، في باب توحيد الأوهية، في مسألة الحكم لله وحده على اختلاف الأزمنة والأمكنة، بدلالة المفهوم.
وجه الاستنباط: دعوة يوسف عليه السلام لصاحبي السجن إلى توحيد الله الحق في ربوبيته وألوهيته، وأن تحكيم شرعه هو الحق والعدل في العقائد والعبادات، والمعاملات والعادات، وأنها لا تختلف باختلاف أزمنتهم أو تغير أماكنهم، وفي هذا رد على النصارى المدّعين ربوبية عيسى عليه السلام وذلك بتحكيمهم لعقولهم واجتهادهم الخاطئ.
قال ابن عطية: "وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أي ليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء، أي فما بالها إذن؟ ويحتمل أن يريد الرد على حكمهم في نصبهم آلهة دون الله تعالى وليس لهم تعدي أمر الله في ألا يعبد غيره، والْقَيِّمُ معناه: المستقيم. و {أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} لجهالتهم وغلبة الكفر"
(2)
.
وقال النسفي: " {مَا تَعْبُدُونَ} خطاب لهما ولمن كان على دينهما من أهل مصر {مِن دُونِهِ} من دون الله {إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} أى سميتم مالا يستحق الألوهية آلهة ثم طفقتم تعبدونها فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء لا مسميات لها، {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا} بتسميتها {من سلطان} حجة {إِنِ الحكم} في أمر العبادة والدين {إلَا لِلَّهِ}، ثم بين ما حكم به فقال {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم} الثابت الذي دلت عليه البراهين {ولكن أَكْثَرَ الناس لَا يَعْلَمُونَ} وهذا يدل على أن العقوبة تلزم العبد وإن جهل إذا أمكن له العلم بطريقه"
(3)
.
وقال أبو حيان: "لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيف تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام، فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتتمخض فيه النصيحة، إن الحكم إلا لله أي: ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، ومعنى القيم: الثابت الذي دلت عليه البراهين، لا يعلمون بجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم"
(4)
، وبمثله قال أبو السعود
(5)
.
(1)
تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(12/ 254).
(2)
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 246).
(3)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (2/ 112 - 111).
(4)
البحر المحيط في التفسير (6/ 278).
(5)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/ 278).
قال ابن سعدي: " {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} أي: كسوتموها أسماء، سميتموها آلهة، وهي لا شيء، ولا فيها من صفات الألوهية شيء، {ما أنزل الله بها من سلطان} بل أنزل الله السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلانها، وإذا لم ينزل الله بها سلطانا، لم يكن طريق ولا وسيلة ولا دليل لها، لأن الحكم لله وحده، فهو الذي يأمر وينهى، ويشرع الشرائع، ويسن الأحكام، وهو الذي أمركم {أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم} أي: المستقيم الموصل إلى كل خير، وما سواه من الأديان، فإنها غير مستقيمة، بل معوجة توصل إلى كل شر"
(1)
.
وقال ابن عاشور: "وجملة إن الحكم إلا لله إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها، وجملة أمر ألا تعبدوا إلا إياه انتقال من أدلة إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه، لأن ذلك نتيجة إثبات الإلهية والوحدانية له، فهي بيان لجملة إن الحكم إلا لله من حيث ما فيها من معنى الحكم، وجملة ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون خلاصة لما تقدم من الاستدلال، أي ذلك الدين لا غيره مما أنتم عليه وغيركم"
(2)
، ومثله قال أبو زهرة
(3)
.
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، على ما منّ به عليّ، من إتمام هذا البحث الذي عشت معه سنوات، تعلمت وأفدت منه الشيء الكثير.
و
من أبرز نتائج هذا البحث:
1.
التعرف على شخصية علمية فذة، سخرت نفسها لخدمة الإسلام والمسلمين، ألا وهو الشيخ محمد رشيد رضا الحسيني رحمه الله تعالى، الذي حمل على عاتقة لواء الإصلاح في كل مكان، والتعرف على مراحل حياته والمدارس التي أثرت فيه.
2.
من خلال هذا البحث تبين منهج الشيخ محمد رشيد رضا العقدي، وذلك من خلال محاربته للبدع والانحرافات العقدية المنتشرة في وقته.
3.
نبوغ الشيخ محمد رشيد رضا في علوم مختلفة أثرت عليه وعلى مؤلفاته، كعلوم الفقه وأصوله، وعلوم اللغة، وغيرها من العلوم.
4.
اهتمامه بالعلوم الحديثة كعلم الاجتماع وعلم التاريخ وغيرها من العلوم التي استحدثت ولها أهمية كبرى في التقدم والتطور.
5.
من خلال البحث تبين أن تفسير المنار مر بمرحلتين:
ـ مرحلة التلقي؛ من الشيخ محمد عبده ثم التحرير والكتابة من الشيخ محمد رشيد رضا وإضافة بعض التعليقات منه.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 398).
(2)
التحرير والتنوير (12/ 277).
(3)
زهرة التفاسير (7/ 3825).
ـ مرحلة الاستقلال؛ استقلال الشيخ محمد رشيد رضا بالتفسير، وفي هذه المرحلة تميز التفسير بالاستفادة من التفاسير بالمأثور في غالبها، لدرجة أنه في الأجزاء الأخيرة من التفسير قلّت استنباطاته، وقلّ التفسير العقلي السائد في أول أجزائه.
6.
وصل الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره إلى سورة يوسف إلا أن استنباطاته فاقت المئتين ونيّف.
7.
تنوعت موضوعات الاستنباط عند الشيخ محمد رشيد رضا، فشملت: الاستنباطات العقدية، واستنباطات علوم القرآن، والاستنباطات الأصولية والفقهية، والاستنباطات اللغوية والبلاغية، والاستنباطات التربوية والسلوكية، والاستنباطات الاجتماعية والاستنباطات في السياسة الشرعية.
8.
برع الشيخ محمد رشيد رضا في استخراج المعاني المستنبطة من النص سواء كان ظاهرا أو خفيا.
9.
سلك في بيان الاستنباطات الاعتبارات المعتبرة إفرادا وتركيبا.
10.
اعتمد الشيخ محمد رشيد رضا في استنباطاته على الطرق والدلالات المعتبرة في الاستنباط عند العلماء، كالاستنباط بدلالة النص، والاستنباط بدلالة المفهوم، والاستنباط بدلالة الالتزام، والاستنباط بدلالة التضمن، والاستنباط بدلالة الاقتران، والاستنباط بدلالة المطرد من أساليب القرآن.
11.
تأثر الشيخ محمد رشيد رضا باستنباطات من قبله من الصحابة والتابعين والمفسرين قبله، وكان يصرح أحيانا باستنباطاتهم وأحيانا لا يصرح.
12.
تميزت استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا بميزات مهمة، منها:
أ - انفرد الشيخ محمد رشيد رضا بأربعة وعشرين استنباطا التي لم يشر إليها أحد من المفسرين قبله فيما اطلعت عليه.
ب - تميزت استنباطاته بأصالتها، وشمولها لكثير من العلوم المعتبرة.
ت - استخدام الشيخ محمد رشيد رضا لجل الدلالات والطرق التي اعتمدها العلماء في الاستنباط للوصول للمعاني المنشودة.
من توصيات البحث:
• يوصي البحث بإفراد بحث بعنوان: علوم القرآن عند الشيخ محمد رشيد رضا، حيث حوى كتابه بعض العلوم الخاصة بعلوم القرآن، كرسم المصحف، وآداب التلاوة والتغني بالقرآن، ومبحث خاص عن ترجمة القرآن، والقصص، وإعجاز القرآن وله عناية بالقراءات وتوجيهها، وغير ذلك من الموضوعات.
• يوصي البحث بإفراد اختيارات الشيخ محمد رشيد رضا وترجيحاته الفقهية فهي جديرة بالبحث خاصة وأنه يعد من الأصوليين.
• يوصي البحث بإفراد بحث مصادر الشيخ رشيد رضا في التفسير.
• يوصي البحث بإعادة بحث منهج الشيخ محمد رشيد رضا في التفسير، حيث إني لم أقف على منهجه، لأن بحث "منهج محمد رشيد رضا في التفسير" لحسيب السامرائي، قُدم قديما في الأزهر (عام 1970 م)، ولم يطبع.
ختاما:
أرجو أن أكون قد وفقت في هذا البحث، وأسأل الله العلي القدير أن يتقبله قبولا حسناً، فما كان فيه من خير فبفضل منه ورحمة، وما كان فيه من خلل وزلل فمن نفسي والشيطان، فأسأله أن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وأساتذتنا ولمن له حق علينا، وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
وصلى اللهم وسلم على نبيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ملخص الرسالة
العنوان: استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا (1354 هـ) في تفسيره جمعاً ودراسة.
الدرجة: رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في القرآن وعلومه.
اسم الباحثة: رقية بنت محمد بن سالم باقيس.
موضوع الرسالة: تفسير القرآن الكريم وعلومه.
هدف الدراسة: تأصيل علم الاستنباط، وبيان أقسامه وطرقه ودلالاته، من خلال دراسة نصوص الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره، مع إبراز طريقته في عرض وتحليل المعاني المستنبطة من الآيات.
خطة البحث ومنهجه:
تتكون خطة البحث من مقدمة وتمهيد لبيان معنى الاستنباط والتفسير والعلاقة بينهما، وينقسم البحث إلى قسمين: القسم الأول نظري؛ وفيه أربعة فصول: الأول: التعريف بتفسير الشيخ محمد رشيد رضا ومنهجه فيه، الثاني: أقسام الاستنباط عنده، الثالث: طرق دلالات الاستنباط عند الشيخ في تفسيره، الرابع: القيمة العلمية لاستنباطات الشيخ محمد رشيد رضا. والقسم الثاني تطبيقي: جُمع فيه استنباطات الشيخ محمد رشيد رضا ودرستها حسب ترتيب سور المصحف وآياته، من بداية سورة الفاتحة إلى الآية 52 من سورة يوسف، والتي جاوزت 200 استنباط.
وقد جمعت لتحقيق ذلك بين المنهج الوصفي التحليلي في القسم الأول، والمنهج الاستقرائي التحليلي في القسم الثاني.
وقد ظهر جليا تميز الشيخ محمد رشيد رضا وسعة علمه وقدرته على عرض المسائل وتحليلها والاستنباط منها في مختلف العلوم، العقدية، والأصولية والفقهية، وما يتعلق بعلوم القرآن، والعلوم اللغوية والبلاغية، والتربوية، والاجتماعية، والسياسية. وسلك في عرضها جل الطرق والدلالات لبيانها، فجاءت استنباطاته علمية ودقيقة، وتفرد بعدد من الاستنباطات الدقيقة خاصة في علم العقيدة، وأصول الفقه، والتاريخ وعلم الاجتماع، وأوصى البحث بعدد من التوصيات المهمة.
وختمت البحث بفهارس فنية (فهرس الآيات القرآنية، والأحاديث، والأعلام المترجم لهم، وثبت المصادر والمراجع، وفهرس المعاني المستنبطة، وفهرس الموضوعات).
ثبت المصادر والمراجع
م
…
المصدر
1
…
أبجد العلوم تأليف/ أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى/ 1307 هـ) الناشر/ دار ابن حزم الطبعة/ الطبعة الأولى 1423 هـ- 2002 م
2
…
أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها تأليف/ محمد حامد الفقىالمحقق/ * الناشر/ * الطبعة/ 1354
3
…
الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة تأليف/ عبد الرحمن بن محمد بن خلف بن عبد الله الدوسري (المتوفى/ 1399 هـ) الناشر/ مكتبة دار الأرقم الكويت الطبعة/ الأولى 1402 هـ - 1982 م
4
…
أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، 1405 هـ، دار إحياء التراث، بيروت
5
…
أحكام القرآن لابن العربي تحقيق محمد عبد القادر عطاء طبع دار الفكر ببيروت الطبعة الأولى (1408 هـ - 1988 م)
6
…
إحياء علوم الدين تأليف/ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى/ 505 هـ) الناشر/ دار المعرفة - بيروت
7
…
اختصار علوم الحديث تأليف/ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى/ 774 هـ) تحقيق/ أحمد محمد شاكر الناشر/ دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة/ الثانية
8
…
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود العمادي نشر دار إحياء التراث ببيروت
9
…
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للإمام محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) تحقيق الدكتور شعبان محمد إسماعيل دار الكتب العلمية دب ط 1، 1413 هـ - 1992 م
10
…
إرشاد الفحول للشوكاني تحقيق محمد البدري الطبعة الأولى 1412 هـ دار الفكر بيروت
11
…
إرشاد الفحول محمد بن علي الشوكاني تحقيق محمد حسن محمد الشافعي دار الكتب العلمية بيروت ط 1، 1419 هـ
12
…
الأزمنة محمد بن المستنير قطرب
13
…
الأزمنة والأمكنة المؤلف/ أبو على أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني (المتوفى/ 421 هـ) الناشر/ دار الكتب العلمية بيروت الطبعة/ الأولى 1417
14
…
أسباب النزول أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري تحقيق د السيد الجميلي دار الكتاب العربي ط السابعة 1419 هـ
15
…
أسباب النزول الواحدي ط مصر 1388 هـ
16
…
أسد الغابة تأليف/ أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري عز الدين ابن الأثير (المتوفى/ 630 هـ) الناشر/ دار الفكر - بيروت عام النشر/ 1409 هـ - 1989 م
17
…
اسم الله الأعظم تأليف الدكتور عبدالله بن عمر الدميجي دار الوطن للنشر الرياض الطبعة الأولى 1419 هـ
18
…
أسماء الله الحسنى لابن القيم تحقيق يوسف بديوي أيمن الشوا دار الكلم الطيب دمشق (ط 2) 1419 هـ
19
…
أسماء الله الحسنى لعبدا لله بن صالح بن عبدالعزيز الغصن دار الوطن ط 2، 1420 هـ 1999 م
20
…
الأشباه والنظائر تأليف/ تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (المتوفى/ 771 هـ) الناشر/ دار الكتب العلمية الطبعة/ الأولى 1411 هـ- 1991 م
21
…
الأشباه والنظائر للسيوطي طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع
22
…
الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني المتوفى سنة (852 هـ) تحقيق علي محمد البجاوي دار الجيل بيروت الطبعة الأولى 1412 هـ
23
…
أصول البزدوي، لعلي بن محمد البزدوي، مطبعة جاوند، كراتشي
24
…
أصول التفسير، لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ط 1، 1419 هـ، مكتبة السنة، القاهرة
25
…
أصول التفسير لمحمد بن صالح العثيمين طمكتبة السنة القاهرة الطبعة الأولى 1419 هـ
26
…
أصول التفسير ومناهجه دمصطفى عبد الفتاح أحمد عامر ط الأمانة شبرا مصر 1419 هـ 1998 م
27
…
أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي المتوفى سنة 429 هـ طبع دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الثالثة سنة 1401 هـ- 1981 م
28
…
أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد السرخسي، نشر دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ
29
…
أصول الفقه محمد الخضري بك ط 1، 1423 هـ المكتبة العصرية بيروت
30
…
أصول في التفسير تأليف/ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى/ 1421 هـ) أشرف على تحقيقه/ قسم التحقيق بالمكتبة الإسلامية الناشر/ المكتبة الإسلامية الطبعة/ الأولى 1422 هـ - 2001 م
31
…
اعتقاد أئمة السلف أهل الحديث تأليف/ محمد بن عبد الرحمن الخميس الناشر/ دار إيلاف الدولية الكويت الطبعة/ الأولى 1420 هـ 1999 م
32
…
إعجاز القرآن لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني تحقيق السيد أحمد صفرط 5 دار المعارف مصر 1997 م
33
…
إعلام الموقعين، لأبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية، ط 1388 هـ، شركة الطباعة الفنية المتحدة
34
…
إعلام الموقعين عن رب العالمين شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيِّم الجوزية تحقيق محمد عبد السلام هارون دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1417 هـ
35
…
الأعلام للزركلي نشر دار العلم للملايين ببيروت الطبعة الخامسة 1980 م
36
…
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ل ابن قيم الجوزية ت محمد حامد الفقي دار المعرفة بيروت 2 - 1395 هـ
37
…
اقتضاء الصراط المستقيملابن تيميةتحقيق دناصر العقلتوزيع وزارة الشؤون الإسلاميةط السابعة 1419 هـ
38
…
الإكليل في استنباط التنزيل تأليف/ عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (المتوفى/ 911 هـ) تحقيق/ سيف الدين عبد القادر الكاتب دار النشر/ دار الكتب العلمية - بيروت 1401 هـ - 1981 م
39
…
أم القرى تأليف/ عبد الرحمن بن أحمد بن مسعود الكَوَاكِبي يلقب بالسيد الفراتي (المتوفى/ 1320 هـ) الناشر/ دار الرائد العربي - لبنان بيروت الطبعة/ الثانية 1402 هـ - 1982 م
40
…
الإيمان الأوسط تأليف/ شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية تحقيق/ محمود أبو سن الناشر/ دار طيبة للنشر - الرياض الطبعة/ الأولى 1422 هـ مصدر موقع الإسلام
41
…
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث إسماعيل بن كثير أحمد محمد شاكر موسسة الكتب الثقافية الطبعة الثالثة 1408 هـ
42
…
البحر المحيط (تفسير أبي حيان) أبو حيان محمد ابن يوسف الأندلسي (ت 745 هـ) دار الكتب العلمية بيروت ط 1، 1413 هـ 1993 م
43
…
البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، تحقيق محمد محمد تامر، ط 1، 1421 هدار الكتب العلمية، بيروت
44
…
البحر المحيط في التفسير تأليف/ أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (المتوفى/ 745 هـ) تحقيق/ صدقي محمد جميل الناشر/ دار الفكر - بيروت الطبعة/ 1420 هـ
45
…
بحوث في أصول التفسير دمحمد لطفي الصباغ طالمكتب الإسلامي بيروت الطبعة الأولى 1408 هـ
46
…
بحوث في أصول التفسير ومناهجه، فهد بن عبدالرحمن الرومي، ط 5، 1420 هـ، مكتبة التوبة، الرياض
47
…
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع تأليف/ محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى/ 1250 هـ) الناشر/ دار المعرفة - بيروت
48
…
البرهان في أصول الفقه، لعبد الملك بن يوسف الجويني، تحقيق عبد العظيم محمدو اديب ط 4، 1418 هـ، دار الوفاء، مصر
49
…
البرهان في علوم القرآن، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، 1425 هـ، المكتبة العصرية، بيروت
50
…
البعث والنشور ل أحمد بن الحسين البيهقي ت/ عامر أحمد حيدر مركز الخدمات والأبحاث الثقافية بيروت 1 - 1406 هـ
51
…
بغية الوعاة، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ط 1419 هـ، المكتبة العصرية، بيروت
52
…
البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها لعبدالرحمن حبنكة الميداني طدار القلم دمشق الطبعة الأولى 1416 هـ
53
…
البلاغة العربية تأليف/ عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (المتوفى/ 1425 هـ) الناشر/ دار القلم دمشق الدار الشامية بيروت الطبعة/ الأولى 1416 هـ - 1996 م
54
…
بلاغة القرآن لمحمد الخضر حسين أشرف على طبعه ونشره/ علي التونسي 1391 هـ 1971 م
55
…
تاج العروس محمد مرتضى الحسيني الزبيدي مجموعة من تحقيقين دار الهداية 0
56
…
تاج العروس من جواهر القاموس، لمحب الدين السيد محمد مرتضى الزبيدي، ط 1، 1306 هـ، المطبعة الخيرية، مصر
57
…
التبيان في أقسام القرآن، لأبي عبد الله بن محمد بن القيم الجوزية، دار الفكر، بيروت
58
…
التحرير والتنوير (تفسير ابن عاشور) محمد الطاهر بن عاشور طبع دار التونسية (1404 هـ)
59
…
ترجمة القرآن لحسين سامي مجلة الهداية الإسلامية القاهرة ج 4 مج 5 رمضان 1351 هـ
60
…
تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) / للإمام الجليل الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المكتبة العصرية 1422 هـ 2002 م
61
…
تفسير أبي السعود محمد بن محمد العمادي ط 2 دار إحياء التراث العربي 1411 هـ
62
…
تفسير البيضاوي البيضاوي (ت 791)؛ تحقيق عبدالقادرعرفات العشا حسونة بيروت/ دار الفكر 1416 هـ 1996 م 5 أجزاء
63
…
تفسير البيضاوي/ أنوار التنزيل وأسرار التأويل لأبي سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي دار الكتب العلمية - بيروت - 1 - 1408 هـ
64
…
تفسير الجلالين تأليف/ جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى/ 864 هـ) وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى/ 911 هـ) الناشر/ دار الحديث - القاهرة الطبعة/ الأولى
65
…
التفسير الحديث لمحمد عزة دروزة دار الغرب الإسلامي بيروت (ط/ 2) 1421 هـ
66
…
تفسير الرازي للفخر الرازي ط دار الكتب العلمية طهران
67
…
تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) لعبد الرحمن ابن ناصر السِّعدي المتوفى سنة 1376 هـ تصحيح/ محمد زهير النجار طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية الرياض 1404 هـ
68
…
تفسير السمعاني (تفسير القرآن) لأبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار المتوفى سنة 489 هـ تحقيق/ ياسر إبراهيم غنيم عباس طبع دار الوطن بالرياض الطبعة الأولى سنة 1418 هـ 1997 م
69
…
تفسير الصحابة د عبد الله بدر دار ابن حزم بيروت الطبعة الأولى عام 1421
70
…
تفسير الطبري، تحقيق د عبدالله التركي، ط 1، 1422 هـ، دار هجر، القاهرة
71
…
تفسير الفاتحة تأليف شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبدالوهاب تحقيق الدكتور/ فهد بن عبدالرحمن الرومي مكتبة الحرمين الرياض الطبعة الأولى 1407 هـ
72
…
تفسير القران العظيم إسماعيل ابن كثير القرشي دار الأفكار الدوليةتحقيق/ حسان الجبالي
73
…
تفسير القرآن الكريم أصوله وضوابطه أدعلي العبيد طمكتبة التوبة الرياض الطبعة الأولى 1418 هـ
74
…
تفسير القرآن بالقرآن لأحمد القاسم
75
…
التفسير الكبير (تفسير الرازي) لفخر الدين محمد بن عمر البكري الرازي دار إحياء التراث العربي بيروت الطبعة الرابعة 1422 هـ
76
…
التفسير اللغوي د مساعد بن سليمان الطيار دار ابن الجوزي الدمام الطبعة الأولى عام 1422
77
…
تفسير المنار (تفسير القرآن العظيم) لمحمد رشيد رضا دار إحياء التراث العربي بيروت ط 1، 1423 هـ
78
…
تفسير النسفي لأبي البركات عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي
79
…
تفسير معالم التنزيل تأليف/ الإمام محيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي تحقيق/ خالد عبدالرحمن العك دار المعرفة بيروت
80
…
التفسير والمفسرون، لمحمد بن حسين الذهبي، ط 2، 1396 هـ، دار الكتب الحديثة، مصر
81
…
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق تأليف/ أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه (المتوفى/ 421 هـ) حققه وشرح غريبه/ ابن الخطيب الناشر/ مكتبة الثقافة الدينية الطبعة/ الأولى
82
…
تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق إبراهيم الابياري، ط 1967 هـ، دار الكاتب العربي
83
…
تهذيب اللغة للأزهري تحقيق عبد السلام هارون مراجعة محمد علي البخاري المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر الدار المصرية للتأليف والترجمة دار القومية العربية للطباعة (1384 هـ 1964 م)
84
…
التوكل على الله للحافظ ابن أبي الدنيا شرح وتحقيق/ سالم أحمد عبدالهادي مكتبة التراث الإسلامي القاهرة
85
…
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السَّعدي المُتوفَّى سنة 1376 هـ تحقيق الدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق مؤسسة الرسالة بيروت لبنان
86
…
جامع البيان تأليف/ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ط 3 مكتب ومطبعة مصطفى البابي الحلبي
87
…
جامع البيان عن تأويل أي القرآن محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري أبو جعفر (224310) بيروت/ دار الفكر 1405 هـ 30 جزءًا
88
…
جامع البيان في تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ط دار الكتب العلمية الطبعة الثانية 1418 هـ 1997 م
89
…
الجنة والنار تأليف/ عمر بن سليمان بن عبد الله الأشقر العتيبي الناشر/ دار النفائس للنشر والتوزيع الأردن الطبعة/ السابعة 1418 هـ - 1998 م
90
…
خلق أفعال العباد تأليف/ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبد الله (المتوفى/ 256 هـ) المحقق/ د عبد الرحمن عميرة الناشر/ دار المعارف السعودية - الرياض
91
…
الدر المنثور تأليف/ عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (المتوفى/ 911 هـ) الناشر/ دار الفكر - بيروت
92
…
الدر المنثور في التفسير بالمأثور جلال الدين السيوطي تحقيق/ د عبدالله بن عبدالمحسن التركي بالتعاون مع مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية القاهرة ط 1، 1424 هـ
93
…
دلالة الألفاظ لإبراهيم أنيس مكتبة الأنجلو المصرية بدون تاريخ
94
…
ذيل طبقات الحفاظ للسيوطي الطبعة الأولى 1403 هـ دار الكتب العلمية بيروت
95
…
رسالة التوحيد تأليف/ محمد عبده بن حسن خير الله (المتوفى/ 1323 هـ) الناشر/ دار الكتاب العربي
96
…
رسالة في تحقيق معنى النظم والصياغة تأليف/ أحمد بن سليمان بن كمال باشا شمس الدين (المتوفى/ 940 هـ) تأليف/ حامد قنيبي الناشر/ الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة العددان 71 - 72 السنة 18 رجب-ذو الحجة 1406 هـ
97
…
روح البيان تأليف/ إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي، المولى أبو الفداء (المتوفى/ 1127 هـ) الناشر/ دار الفكر - بيروت
98
…
روح المعاني تأليف/ أبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسي تعليق علي عطية ط 1 دار الكتب العلمية بيروت لبنان سنة 1422 هـ 2001 م
99
…
روضة الناظر لابن قدامة المطبوع مع نزهة الخاطر العاطر بيروت/ دار الكتب العلمية توزيع دار الباز بمكة المكرمة
100
…
زاد المعاد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي ت 751 هـ تحقيق/ شعيب الأرنؤوط و عبد القادر الأرنؤوط مؤسسة الرسالة مكتبة المنار الإسلامية بيروت الكويت الطبعة السابعة والعشرون 1414 هـ
101
…
زهرة التفاسير تأليف/ محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى/ 1394 هـ) دار النشر/ دار الفكر العربي 0 [ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
102
…
سلاسل الذهب لبدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (ت 794 هـ) تحقيق/ محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي مكتبة ابن تيمية القاهرة ط 1، 1411 هـ - 1990 م
103
…
سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي السلمي، تحقيق أحمد شاكر وآخرون دار إحياء التراث بيروت
104
…
سورة يوسف دراسة تحليلية للدكتور أحمد نوفل
105
…
السيد رشيد رضا وإخاء أربعين سنة لشكيب أرسلان مطبعة ابن زيدون دمشق 1356 هـ 1937 م
106
…
سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، أشرف على تحقيقه وخرج أحاديثه شعيب الارناؤوط، ط 1، 1410 هـ، مؤسسة الرسالة بيروت
107
…
شذرات الذهب ابن العماد الحنبلي طبعة جديدة بيروت دار إحياء التراث العربي
108
…
شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي تحقيق عبدالقادر الأرنؤوط و محمود الأرنؤوط ط 1 دار ابن كثير بيروت 1406 هـ
109
…
شرح الأربعين النووية تأليف/ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى/ 1421 هـ) الناشر/ دار الثريا للنشر
110
…
شرح العقيدة الطحاوية، لصدر الدين محمد بن أبي العز الحنفي، تحقيق د عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط، ط 3، 1419 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت
111
…
شرح العقيدة الواسطية تأليف/ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى/ 1421 هـ) تحقيق/ سعد فواز الصميل الناشر/ دار ابن الجوزي الرياض المملكة العربية السعودية الطبعة/ الخامسة 1419 هـ
112
…
شرح القواعد الفقهية، أحمد بن محمد الزرقاء، تحقيق مصطفى الزرقا، ط 2، 1409 هـ، دار القلم، دمشق
113
…
الشرح الكبير لشمس الدين عبد الرحمن بن محمد المقدسي تحقيق د عبد الله بن عبد المحسن التركي دار عالم الكتب الرياض 1426 هـ
114
…
شرح طيبة النشر أحمد بن محمد بن محمد بن الجزري أنس مهرة دار الكتب العلمية الطبعة الثانية 1420 هـ
115
…
شرح كتاب التوحيد (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد) لسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب مكتبة الرياض الحديثة الرياض دط دت
116
…
شرح مختصر الروضة، لسليمان بن عبد القوي الطوفي، تحقيق عبد الله التركي، ط 1، 1410 هـ، ط 2، 1419 هـ، مؤسسة الرسالة
117
…
شروط لا إله إلا الله تأليف/ د عواد بن عبد الله المعتق الناشر/ الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة/ السنة السادسة والعشرون - العددان (101 - 102) 1414 - 1415 هـ
118
…
شفاء العليل ابن القيم تحقيق ودراسة أحمد بن صالح بن علي الصمعاني إشراف عبدالرحمن البراك كلية أصول الدين الرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1414 هـ رسالة دكتوراه
119
…
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر
120
…
الشمائل المحمدية تأليف/ محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك الترمذي أبو عيسى (المتوفى/ 279 هـ) الناشر/ دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة/ -
121
…
صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق د مصطفى ديب البغا، ط 3، 1407 هـ، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت
122
…
صحيح مسلم، لمسلم بن حجاج القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقيدار إحياء التراث، بيروت
123
…
صفات المنافقين تأليف/ محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى/ 751 هـ) الناشر/ الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات عام النشر/ 1410 هـ
124
…
صلاة الجماعة تأليف/ محمد ضياء الرحمن الأعظمي الناشر/ مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
125
…
طبقات الحفاظ تأليف/ عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (المتوفى/ 911 هـ) الناشر/ دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة/ الأولى 1403
126
…
طبقات الشافعية الكبرى للسبكي تحقيق د عبد الفتاح الحلو و د محمود الطناحي الطبعة الثانية 1413 هـ دار هجر للطباعة القاهرة
127
…
طبقات القراء لشمس الدين الذهبي تحقيق د أحمد خان نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الرياض ط (1) 1418 هـ 1998 م
128
…
طبقات المفسري لجلال الدين السيوطي مكتبة وهبة القاهرة الأولى 1396 هـ 1976 م تحقيق علي محمد عمر
129
…
طبقات المفسرين - أحمد محمد الأدنه وي تحقيق د سليمان بن صالح الخزي مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة ط 1،1417 هـ
130
…
طبقات المفسرين للأدنه وي لأحمد بن محمد الأدنة وي تحقيق سليمان صالح الخزي مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة الطبعة الأولى 1417 هـ
131
…
طبقات المفسرين للداودي تحقيق علي عمر ط الأولى 1392 هـ مكتبة وهبة - القاهرة
132
…
العباب الزاخر واللباب الفاخر؛ للحسن بن محمد الصاغاني تحقيق محمد حسن آل ياسين دار الرشيد بغداد
133
…
العربية وآدابها جامعة أم القرى 1420 هـ
134
…
عصمة الأنبياء لمحمد بن عمر بن الحسن الرازي دار الكتب العلمية ط 2، 1409 هـ
135
…
العقيدة الواسطية أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الرئاسة العامة لإدارات البحوث والإفتاء الرياض السعودية 1412 هـ ط الثانية تحقيق محمد بن عبد العزيز بن مانع
136
…
علم أصول الفقه تأليف/ عبد الوهاب خلاف (المتوفى/ 1375 هـ) الناشر/ مكتبة الدعوة - شباب الأزهر (عن الطبعة الثامنة لدار القلم) الطبعة/ عن الطبعة الثامنة لدار القلم
137
…
علم البديع، د عبد العزيز عتيق ط، 1985 م، دار النهضة، بيروت
138
…
علم القراءات للدكتور نبيل بن محمد آل إسماعيل ط 1 مكتبة التوبة الرياض 1421 هـ
139
…
علم اللغة تأليف/ علي عبد الواحد وافي رحمه الله الناشر/ نهضة مصر للطباعة والنشر الطبعة/ الأولى
140
…
علم المعاني، د عبد العزيز عتيق، 1985 م، دار النهضة بيروت
141
…
علماء نجد لعبد الله بن عبد الرحمن البسام ط 1 مكتبة النهضة الحديثة مكة المكرمة 1398 هـ
142
…
علوم الحديث لأبي عمرو عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوري تحقيق نور الدين علي دار الفكر بدمشق تصوير 1406 هـ 1986 م
143
…
علوم القرآن، تأليف د عدنان زرزور، بدون طبعة
144
…
علوم القرآن الكريم تأليف/ نور الدين محمد عتر الحلبي الناشر/ مطبعة الصباح - دمشق الطبعة/ الأولى 1414 هـ - 1993 م
145
…
غريب القرآن لأبي بكر محمد بن عزيز السجستاني المتوفى سنة 330 هـ تحقيق محمد أديب عبد الواحد جمران دار قتيبة 1416 هـ= 1995 م
146
…
الفاصلة القرآنية للدكتور عبدالفتاح لاشين دار المريخ 1402 هـ 1982 م
147
…
فتح الباري، لأحمد بن علي ين حجر العسقلاني، تحقيق محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت
148
…
فتح البيان صديق حسن خان تحقيق عبدالله الأنصاري المكتبة العصرية بيروت 1412 هـ
149
…
فتح القدير - ابن الهمام كمال الدين محمد بن عبدالواحد السيواسي
150
…
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ تحقيق محمد حامد الفقي مكتبة السنة المحمدية
151
…
الفرق بين الفرق لعبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي ط 1 دار الكتب العلمية بيروت 1405 هـ
152
…
فرق معاصرة لغالب بن علي العواجي مكتبة لينه للنشر والتوزيع ط 1، 1414 هـ 1993 م
153
…
فهم القرآن للحارث بن أسد المحاسبي (ت 243 هـ) تحقيق حسين القوتلي دار الكندي ودار الفكر بيروت ط 2، 1398 هـ
154
…
فوائد من شرح كتاب التوحيد تأليف/ عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان الناشر/ دار المسلم للنشر والتوزيع
155
…
في علوم القرآن لسليمان المعرفي، نشر مجلس النشر العلمي بجامعة الكويت، 2003 م
156
…
القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت
157
…
القراءات القرآنية لعبد الحليم بن محمد الهادي قابة إشراف ومراجعة وتقديم الأستاذ الدكتور مصطفى سعيد الخن دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى 1999 م
158
…
القرآن العظيم هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين محمد صادق عرجون
159
…
القرآن الكريم المصحف المضبوط على رواية حفص عن عاصم طبع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة
160
…
القرآن وعلومه الحديث وعلومه
161
…
قواعد الترجيح عند المفسرين، حسين بن علي الحربي، راجعه الشيخ مناع القطان، ط 1، 1417 هـ، دار القاسم
162
…
قواعد التفسير للدكتور خالد بن عثمان السبت ط 1 دار ابن عفان الخبر 1417 هـ
163
…
قواعد العقائد تأليف/ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى/ 505 هـ) تحقيق/ موسى محمد علي الناشر/ عالم الكتب - لبنان الطبعة/ الثانية 1405 هـ - 1985 م
164
…
القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين ل عبد المجيد جمعة الجزائري دار ابن القيم الدمام 1 - 1421 هـ
165
…
القواعد الفقهية ل علي أحمد الندوي دار القلم دمشق 3 - 1414 هـ
166
…
القول المفيد على كتاب التوحيد شرح الشيخ محمد بن عثيمين جمعه وخرجه د سليمان أبا الخيل و د خالد المشيقح ط 1 دار ابن الجوزي 1418 هـ
167
…
كتاب الإيمان تأليف/ أبو بكر بن أبي شيبة عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى/ 235 هـ) تحقيق/ محمد ناصر الدين الألباني الناشر/ المكتب الإسلامي الطبعة/ الثانية 1983 م
168
…
كتاب العلم تأليف/ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى/ 1421 هـ) تحقيق/ صلاح الدين محمود الناشر/ مكتبة نور الهدى
169
…
كتاب العين تأليف/ أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (المتوفى/ 170 هـ) تحقيق/ د مهدي المخزومي د إبراهيم السامرائي الناشر/ دار ومكتبة الهلال
170
…
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل تأليف/ أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري جار الله (المتوفى/ 538 هـ) الناشر/ دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة/ الثالثة - 1407 هـ
171
…
كشف الأسرار، علاء الدين عبد العزيز البخاري، تحقيق عبدالله محمود عمر، ط 1418 هـ، دار الكتب العلمية بيروت
172
…
كشف الأسرار شرح أصول البزدوي تأليف/ عبد العزيز بن أحمد بن محمد علاء الدين البخاري الحنفي (المتوفى/ 730 هـ) الناشر/ دار الكتاب الإسلامي الطبعة/ بدون طبعة وبدون تاريخ
173
…
لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور، ط 1، دار صادر، بيروت
174
…
لسان العرب لابن منظور اعتنى به أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي الطبعة الأولى 1416 هـ نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت
175
…
لسان العرب محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري دار صادر بيروت لبنان 1374 هـ ط الأولى
176
…
مباحث في علوم القرآن، د مناع القطان، ط 2، 1417 هـ نشر مكتبة المعارف، الرياض
177
…
مجلة الحكمة العدد 22 محرم 1422 هـ
178
…
مجلة المنار منشئها محمد رشيد رضا مصر إدارة مجلة المنار عدد (6) مجلد (6) 1321 هـ
179
…
محاسن التأويل (تفسير القاسمي) لمحمد جمال الدين القاسمي تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي المكتبة الفيصلية بمكة المكرمة دار إحياء الكتب العربية
180
…
محبة الرسول بين الاتباع والابتداع تأليف/ عبد الرءوف محمد عثمان الناشر/ رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إدارة الطبع والترجمة - الرياض الطبعة/ الأولى 1414 هـ
181
…
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير ابن عطية) لابن عطية أبي محمد عبدالحق بن غالب بن عطية الأندلسي تحقيق عبدالله الأنصاري والسدي عبدالعال إبراهيم ط دار الكتاب الإسلامي ط 2
182
…
المحرر الوجيز لابن عطية ط 1 بيروت لبنان دار الكتب العلمية 1413 هـ
183
…
المحيط في اللغة الصاحب ابن عباد إسماعيل عالم الكتب محمد حسن آل ياسين
184
…
مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، ط 1986 هـ،، مكتبة لبنان
185
…
مدارج السالكين ابن القيم تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي دار الكتاب العربي بيروت لبنان ط السابعة 1423 هـ
186
…
مدارك التنزيل وحقائق التأويل لعبدالله بن أحمد النسفي، مؤسسة الرسالة، بدون تاريخ
187
…
مذكرة في أصول الفقه لمحمد الأمين الشنقيطي ط 3 مكتبة ابن تيمية القاهرة 1416 هـ
188
…
مشاهير علماء نجدلعبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخدار اليمامة للبحث والترجمة والنشرالرياض
189
…
المصباح المنير، للعلامة أحمد بن محمد بن علي الفيومي، ط 1987، مكتبة لبنان + ط 1425 هـ، المكتبة العصرية، بيروت
190
…
مصطلح الحديث تأليف/ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى/ 1421 هـ) الناشر/ مكتبة العلم القاهرة الطبعة/ الأولى 1415 هـ - 1994 م
191
…
معارج القبول حافظ بن أحمد الحكمي تحقيق عمر بن محمود أبو عمر دار ابن القيم الدمام الطبعة الأولى 1410 هـ 1990 م
192
…
معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد بن حسين الجيزاني ط 2 دار ابن الجوزي 1419 هـ
193
…
معالم التنزيل (تفسير البغوي) للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي تحقيق مجموعة من تأليفين دار طيبة للنشر والتوزيع الرياض الطبعة الرابعة 1417 هـ
194
…
معاني القرآن، لأبي جعفر أحمد بن محمد النحاس، تحقيق محمد بن علي الصابوني، ط 1، 1409 هـ نشر جامعة أم القرى، مكة المكرمة
195
…
معاني القرآن الكريم لأبي جعفر أحمد النحاس تحقيق محمد الصابوني طبع جامعة أم القرى ط 1، 1409 هـ
196
…
معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق عبد السلام هارون، ط 2، 1389 هـ، مطبعة البابي الحلبي، مصر
197
…
معنى لا إله إلا الله للإمام بدر الدين الزركشي تحقيق علي محي الدين علي القره داغي ط 3 دار البشائر الإسلامية بيروت 1406 هـ
198
…
مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1411 هـ 1990 م
199
…
مفاتيح الغيب فخر الدين الرازي دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 1411 هـ 1990 م
200
…
مفردات ألفاظ القرآن، لأبي القاسم، الحسن بن محمد المعروف، بالراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان عدنان داودي، ط 1، 1412 هـ، دار العَلم، بيروت
201
…
المفردات في غريب القرآن الراغب الأصفهاني ضبطه وراجعه محمد خليل عيتاني دار المعرفة بيروت لبنان ط الثانية 1420 هـ
202
…
المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات لمحمد بن عبدالرحمن المغراوي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1420 هـ
203
…
مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر د مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار ط 1 دار ابن الجوزي المملكة العربية السعودية 1423 هـ
204
…
المفيد في مهمات التوحيد تأليف/ الدكتور عبد القادر بن محمد عطا صوفي الناشر/ دار الاعلام الطبعة/ الأولى 1422 هـ- 1423 هـ
205
…
مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر بن عاشور تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي دار النفائس للنشر والتوزيع الأردن الطبعة الثانية 1421 هـ
206
…
مقاييس اللغة أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا دار الجيل بيروت لبنان 1420 هـ 1999 م ط الثانية تحقيق عبد السلام محمد هارون
207
…
مقاييس اللغة لابن فارس أبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا اعتنى به دمحمد عوض مرعب الآنسة فاطمة محمد أصلان دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان الطبعة الأولى 1422 هـ 2001 م
208
…
مقدمة ابن خلدون لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي دار القلم بيروت ط 5، 1984 م
209
…
من علوم القرآن، دفؤاد علي رضا، ط 1، 1402 هـ، دار إقرأ، بيروت
210
…
مناهج المفسرين صالح بن عبد العزيز آل الشيخ دروس مفرغة من دورة علمية في التفسير نسخة إلكترونية
211
…
مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني خرَّج أحاديثه ووضع حواشيه أحمد شمس الدين دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1409 هـ =1988 م
212
…
منهج الاستنباط من القرآن الكريم فهد بن مبارك بن عبدالله الوهبي مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بعهد الإمام الشاطبي الطبعة الأولى 1428 هـ 2007 م
213
…
منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة تأليف/ تامر محمد محمود متولي الناشر/ دار ماجد عسيري الطبعة/ الأولى 1425 هـ-2004 م
214
…
منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير للدكتور فهد بن عبدالرحمن الرومي مؤسسة الرسالة بيروت ط 4، 1414 هـ
215
…
المهذب في علم أصول الفقه المقارن أد عبدالكريم بن علي النملة ط مكتبة الرشد الرياض الطبعة الأولى 1420 هـ
216
…
المولد النبوي هل نحتفل؟ تأليف/ شحاتة محمد صقر الناشر/ دار الخلفاء الراشدين - الإسكندرية دار الفتح الإسلامي - الإسكندرية (مصر)
217
…
النبوات لابن تيمية 1386 هـ المطبعة السلفية القاهرة
218
…
نقض أصول العقلانيين، المؤلف: سليمان بن صالح الخراشي، دار علوم السنة، مكتبة صيد الفوائد www.saaid.net
219
…
نهاية السول شرح منهاج الوصول تأليف/ عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعيّ أبو محمد جمال الدين (المتوفى/ 772 هـ) الناشر/ دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان الطبعة/ الأولى 1420 هـ- 1999 م
220
…
نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار لمحمد بن علي الشوكاني تحقيق/ طارق بن عوض الله طدار ابن القيم الطبعة الأولى 1426 هـ
221
…
الوافي بالوفيات تأليف صلاح الدين الصفدي تحقيق إحسان عباس دار فرانز شتايز بقيسبادن 1389 هـ
222
…
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن جزي تحقيق صفوان عدنان داوودي ط 1 دمشق بيروت دار القلم الدار الشامية 1415 هـ 2 ج
223
…
الوحدة الإسلامية تأليف/ محمد المبارك الناشر/ الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة/ السنة العاشرة العدد الرابع
224
…
الوصول إلى علم الأصول لأحمد بن علي البغدادي تحقيق د عبدالحميد علي أبو زنيد ط مكتبة المعارف الرياض الطبعة الأولى 1403 هـ
225
…
الولاء والبراء في الإسلام تأليف/ أبو عاصم الشحات شعبان محمود عبد القادر البركاتي المصري الناشر/ دار الدعوة الإسلامية الطبعة/ الأولى 1433 هـ - 2012 م