الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ـ[حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة]ـ
المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)
المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه - مصر
الطبعة: الأولى 1387 هـ - 1967 م
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي، وأضيفت تراجمه لخدمة التراجم]
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير:
يعتبر دخول العرب مصر سنة 20 من الهجرة على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص مولد تاريخ جديد لهذه البلاد، ذات الماضي البعيد، فلم يكد يتم الفتح، وتستقر الأحوال بها بعد الوقائع الحربية المعروفة، حتى أخذ سكانها يدخلون في دين الله أفواجًا، وتنشرح صدورهم للقرآن الكريم، وتصطنع ألسنتهم اللسان العربي المبين؛ وتصبح العربي لغة الدواوين. ثم يرحل إليها أعيان الصحابة وجلة التابعين، ويهوي نحوها الفقهاء والقراء وحفاظ الحديث ورواة اللغة والأدب والشعر، وتبنى فيها المساجد؛ لإقامة شعائر العبادات. ومدارسة علوم الدين، وللفصل في ساحتها بين الناس، كما أنشئت فيها المدارس لتلقي العلوم والمعارف، وألحقت به خزائن الكتب؛ لجذب العلماء من شتى الجهات؛ مما ارتفع به شأن العلم، وازدهرت الفنون والآداب.
وتولى مقاليد الحكم فيها على مر العصور من الولاة والخلفاء والملوك والسلاطين؛ من فتحوا أبوابهم للعافين، والوافدين، واستمعوا إلى الشعراء والمادحين، وأجازوا على التأليف والتصنيف، وقاموا في بناء الحضارة الإسلامية بأوفى نصيب.
بل إن مصر كانت -وما زالت- حمية الملة والدين، وراعية الإسلام والمسلمين، وقاهرة الغزاة والمعتدين؛ مما جعلها أعز مكان في الوطن العربي الكبير.
فكان من حق هذا الإقليم أن يشغل مكانه في التاريخ، وأن يخص بعناية العلماء والمؤرخين، وأن تفرد لوصف ملامحه المؤلفات، وأن يُتدارس تاريخه في كل مكان
وزمان
…
وكذلك الأمر والحمد لله كان، فقد نبغ من العلماء القدامى والمحدثين مَنْ وضعوا في تاريخ مصر المصنفات تختلف طولًا وقصرًا، وتتباين طريقة ومنهاجا؛ منهم ابن عبد الحكم وأبو عمر الكندي وابن ميسر والمسبحي والقضاعي وابن دقماق وابن زولاق والأدفوي والعماد الأصبهاني وابن حجر والمقريزي والسيوطي والجبرتي وأبو السرور البكري وابن تغري بردي وابن إياس.
وكتاب حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، الذي صنفه الجلال السيوطي من أنفس الكتب التي صدرت عن هؤلاء الأعلام، وأعذبها موردًا، وأصفاها منهلًا، وأسدها منهجًا، وأوضحها فصولًا وأبوابًا، وأوفاها استيعابًا وشمولًا، سلك فيه طريقًا قصدًا، ليس بالطويل المستطرد المشوش، ولا بالمقتضب الخالي من النفع والجدوى، بدأه بذكر ما ورد في شأن مصر من الآثار في القرآن الكريم والحديث الشريف، ثم ثناه بذكر تاريخ مصر في عهدها القديم، عهد الفراعنة وبناة الأهرام، على حسب ما وقع لديه من المعارف، وعلى حسب ما كان شائعًا في عصره، ثم وصف الفتح الإسلامي وما صحبه من وقائع وأحداث، وما تم من امتزاج المصريين بالعرب تحت راية الإسلام، ثم ذكر الوافدين على مصر ومن نبغ فيها من أصحاب المذاهب، ومن عاش بها من الحفاظ والمؤرخين والقراء والقصاص والشعرء والمتطيبين وغيرهم؛ مع ذكر نُبذ من حياتهم وتاريخ موالدهم ووفاياتهم. ولم يخل كتابه من تاريخ الولاة الذين تعاقبوا عليها، والقضاة الذين حكموا فيها، والحكومات التي قامت بها، وما بُني فيها من المساجد والمدارس والخانقاهات.
ومن أمتع ما ورد فيها تلك الفصول التي عقدها في ذكر عادات المصريين ومواسمهم وأعيادهم والأسباب الدائرة بينهم؛ وما كان فيها من أندية الأدب ومجالس الشعر والسمر، على منهج طريف أخاذ.
وكان سبيله في كل ما أورده من هذا الكتاب النقل عن الكتب المتخصصة في هذا الشأن، مضافًا إليها ما وقع له من المشاهدة، أو ما نقله سماعًا من علماء عصره، من الشيوخ والأقران والتلاميذ.
وللسيوطي منهج معروف يذكره في مقدمات بعض كتبه -وخاصة المطولة منها- أن يورد مصادره من الكتب التي اعتمد عليها وأسماء مؤلفيها؛ فعل ذلك في كتاب بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، وكتاب الإتقان في علوم القرآن؛ وفعل ذلك أيضًا في هذا الكتاب، قال:"وقد طالعت على هذا الكتاب كتبًا شتى، منها فتوح مصر لابن عبد الحكم، وفضائل مصر لأبي عمر الكندي، وتاريخ مصر لابن زولاق، والخطط للقضاعي، وتاريخ مصر لابن ميسر، وإيقاظ المتغفل وإيعاظ المتأمل لتاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوج الزبيري، والخطط للمقريزي، والمسالك لابن فضل الله العمري، ومختصره للشيخ تقي الدين الكرماني، ومناهج الفكر ومناهج العبر لمحمد بن عبد لله الأنصاري، وعنوان السير لمحمد بن عبد لله الهمذاني، وتاريخ الصحابة الذين نزلوا مصر لمحمد بن الربيع الجيزي، والتجريد في الصحابة للذهبي، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، ورجال الكتب العشرة للحسيني، وطبقات الحفاظ للذهبي، وطبقات القراء له، وطبقات الشافعية للسبكي، وللإسنوي، وطبقات المالكية لابن فرحون، وطبقات الحنفية لابن دقماق، ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي، وتاريخ الإسلام لابن حجر، والطالع السعيد في أخبار الصعيد للأدفوي، وسجع الهديل في أخبار النيل لأحمد بن يوسف التيفاشي، والسكردان لابن أبي حجلة، وثمار الأوراق لابن حجة". هذا غير ما ذكره في تضاعيف الكتاب من المراجع الأخرى.
وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، يشيع في معظمها التصحيف والتحريف والخطأ؛
طُبع طبع حجر بمصر سنة 1860م، وطبع في مطبعة الوطن، سنة 1299هـ، وطبع بمطبعة الموسوعات سنة 1324هـ، وطبع بمطبعة السعادة سنة 1324هـ، وطبع بالمطبعة الشرقية سنة 1327هـ، وطبع منه جزء صغير مع ترجمة لاتينية سنة 1834م، كما أودع دور الكتب في العالم شرقًا وغربًا كثير من نسخة المخطوطة.
وحينما شرعت في تحقيق هذا الكتاب رجعت إلى نسخة مخطوطة بالمكتبة التيمورية بدار لكتب برقم 2394 تاريخ - تيمور، تمت كتابتها في رجب سنة 977هـ، تقع في 465 صحفة، في كل صفحة 35 سطرًا تقريبًا، وفي كل سطر
حوالي 20 كلمة، كتبت بخط معتاد يجنح إلى الصحة الإتقان والضبط القليل، ووضعت العنوانات بخط أغلظ، وفي حواشيها ما يشير إلى قراءتها ومقابلتها، وقد اتخذت هذه النسخة أصلًا في التحقيق.
كما أني تخيرت مما طبع نسختين قريبتين من الصحة: النسخة المطبوعة في مطبعة الوطن، ورمزت إليها بالحرف "ط"، والنسخة المطبوعة بمصر على الحجر وقد رمزت إليه بالحرف "ح".
ثم رجعت إلى ما يتسر لي الحصول عليه من المصادر التي ذكرها، وما اقتضاه الأمر من الرجوع إلى الكتب الأخرى في التفسير، والحديث والأدب ودواوين الشعر ومعاجم اللغة.
هذا، وقد جعلت من منهجي في هذا الكتاب ألا أسرف في التعليق، أو أستطرد في الشرح والتفسير، إلا بالقدر الذي يعين على فهم النص وبه تستقيم العبارات، محاولًا أن يبدو الكتاب في أقرب صورة من نسخة المؤلف، وأن أقوم في آخر الكتاب بعمل الفهارس المتنوعة التي تقرب نفعة، وتدني جناه.
وتصدر هذه الطبعة في جزأين، ينتهي الأول منهما بذكر أخبار الخلفاء الفاطميين أو كما سماهم المؤلف:"أمراء مصر من بني عبيد". ويبدأ الجزء الثاني بذكر أمراء مصر من حين ملكها بنو أيوب، وينتهي بالفصل الذي عقده في حبوب مصر وخضرواتها وبقولها.
وأما الجلال السيوطي المؤلف، فقد عقد لنفسه فصلًا في هذا الكتاب (1) تحدث فيه عن
(1) حسن المحاضرة1: 335-344 "طبعة الحلبي".
نسبه وأجداده، وذكر أن مولده كان:"بعد المغرب مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة"، كما ذكر الكتب التي درسها، والشيوخ الذين تلقى عنهم، والبلاد التي رحل إليها، والعلوم التي حذقها، والكتب التي ألفها، مما يعد وثيقة تاريخية في حياة هذا العالم الجليل.
وقد ظل السيوطي طوال حياته مشغوفًا بالدرس مشتغلًا بالعلم، يتلقاه عن شيوخه أو يبذله لتلاميذه، أو يذيعه فتيًا، أو يحرره في الكتب والأسفار؛ وحينما
تقدم به العمر، وأحس من نفسه الضعف، خلا بنفسه في منزله بروضة المقياس، واعتزل الناس، وتجرد للعبادة والتصنيف، وألف كتابه:"التنفيس في الاعتذار عن الفتيا والتدريس".
وكان رحمه الله في حياته الخاصة على أحسن ما يكون عليها العلماء ورجال الفضل والدين، عفيفًا كريمًا، غني النفس، متباعدًا عن ذوي الجاه والسلطان، لا يقف بباب أمير أو وزير؛ قانعًا برزقة من خانقاه شيخو، لا يطمع فيما سواه.
وكان الأمراء والوزراء يأتون لزيارته ويعرضون عليه أعطياتهم فيردها. ورُوي أن السلطان الغوري أرسل إليه مرة خصيًا وألف دينار، فرد الدنانير، وأخذ الخصي ثم أعتقه، وجعله حارسًا في الحجرة النبوية، وقال لرسول السلطان: لا تعد تأتينا قط بهدية؛ فإن الله أغنانًا عن ذلك.
وأما كتبه فقد أحصى السيوطي منها في كتابه نحوًا من ثلاثمائة؛ في التفسير وتعلقاته والقراءات، والحديث وتعلقاته، والفقه وتعلقاته، وفن العربية وتعلقاته، وفن الأصول والبيان والتصوف، وفن التاريخ والأدب، والأجزاء المفردة، ما بين كبير في مجلد أو مجلدات، وصغير في كراريس أو أوراق. وذكر تلميذه الداودي المالكي أنها أنافت على خمسمائة مؤلف. وقال ابن إياس في تاريخه "حوادث 911": إنها بلغت ستمائة مؤلف.
وتقع هذه الكتب في مجلد أو مجلدات؛ كالمزهر والإتقان والأشباه والنظائر وبغية الوعاة والدر المنثور في التفسير بالمأثور، والجامع الصغير والجامع الكبير وأمثالها، أو في أوارق أو صفحات؛ كهذه الرسائل التي طبعت باسم الحاوي في الفتاوي؛ في مجلد يحوي ثمانية وسبعين كتابًا في معظم الفنون. وقد تدارس العلماء هذه الكتب في كل مكان،
وانتشرت في حياة السيوطي وبعده، وعمرت بها المدارس والمعاهد ودور الكتب، وكاتبه المستفتون في شتى الجهات؛ مما أثار عليه فريقًا من أقرانه ومعاصريه من العلماء، وتحاملوا عليه، ورموه بما هو منه براء؛ وكان من أشد الناس خصومة عليه، وكثرهم تجريجًا وتشهيرًا، المؤرخ شمس الدين السخاوي، صاحب كتاب الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع؛ فقد ترجم له في هذا الكتاب، ونال من علمه وخلقه؛ مما يقع مثله بين النظراء والأنداد.
وانتصر السيوطي لنفسه في مقامة اسمها: الكاوي على تاريخ السخاوي، كما انتصر له فريق من تلاميذه وفريق من العلماء ممن جاء بعده، منهم الشوكاني صاحب البدر الطالع؛ قال في ترجمته للسيوطي بعد أن لخص مطاعن السخاوي فيه، ورد هذه المطاعن عنه:"على كل حال فهو غير مقبول عليه لما عرفت من قول أئمة الجرح والتعديل، بعدم قبول قول الأقران بعضهم في بعض؛ مع ظهور أدنى منافسة؛ فكيف لمثل هذه المنافسة بين هذين الرجلين التي أفضت إلى تأليف بعضهم في بعض! فإن أقل من هذا يوجب عدم القبول. والسخاوي رحمه الله وإن كان إمامًا غير مدفوع؛ لكنه كثير التحامل على أكابر أقرانه".
وكانت وفاة السيوطي على ما ذكره ابن إياس في الخميس تاسع شهري جمادى الأولى سنة 911هـ، ودفن بجوار خانقاه قوصون (1) خارج باب القرافة، بعد أن ملأ الدنيا علمًا، وشهرة وذكرًا (2) . رحمة الله عيه.
يناير سنة 1968م.
محمد أبو الفضل إبراهيم.
(1) وضع العلامة أحمد تيمور بحثًا في قبر السيوطي وتحقيق موضعه، ونشر بالمكتبة السلفية بمصر سنة 1346هـ. وفي العام الماضي قمت مع صديقي العلامة الأديب الشاعر المتفنن الأستاذ سيد إبراهيم الخطاط بزيارة قبر السيوطي، في ضوء ما حققه تيمور؛ فوجدناه مقاما على مسجد؛ يكاد لا يُعرف بعد أن كانت -كما أخبرنا بعض من لقيناه هناك- الصلوات تقام فيه؛ وتؤدى الشعائر. ولعل القائمين بأمر المساجد في القاهرة يعنون بهذا المسجد وإعادة إحياء الشعائر فيه، تقديرًا لذكرى العالم الجليل.
(2)
انظر مقدمتنا لكل من كتابي بغية الوعاة في أخبار النحاة، والإتقان في علوم القرآن للمؤلف.