المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حقوق الإنسان في الإسلام بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي محاضر بكلية الحديث الحلقة - حقوق الإنسان في الإسلام لعبد الفتاح عشماوي - ٥٠ - ٥١

[عبد الفتاح بن سليمان عشماوي]

فهرس الكتاب

حقوق الإنسان في الإسلام

بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي

محاضر بكلية الحديث

الحلقة الثالثة

أمَّا عن الحرية الدينية التي ذكرها إعلان حقوق الإنسان فكان عليهم أن يتواروا خجلا من أن يذكروا شيئا عنها، لقد لقي المسلمون منهم أفظع ما لقي أهل دين من اضطهاد وإبادة، وزاد سعيرها اليوم بما هو صارخ في كل مكان يحتوى على أقلية إسلامية، إن اليهودية والنصرانية والشيوعية والهندوسية والبوذية ليس لهم جميعا اليوم إلا عدو واحد، هو الإسلام وأهله، وأصبح اليوم أرخص دمّ في العالم دمّ المسلم، في مدنية القرن العشرين وهيئة الأمم المختلفة ومجلس خوفها الحامي حمى الأمان والسلام على الأرض، إلا المسلمين فلا أمان لهم عندهم ولا سلام، وكل ذنبهم أنهم قالوا ربنا الله.

ونحن ماذا فعلنا لما هيمنا وحكمنا، وعاشوا أَقليات مصانة محفوظة في ظل شريعتنا السمحة، لقد قال في ذلك قائل هذين البيتين:

حكمنا فكان العفو منا سجية

فلما حكمتم سال بالدم أبطح

وحسبكمو هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح

إننا لم نتمشق الحسام ولم نخرج سيوفنا من أغمادها إلا عندما نفذ الصبر وفاض الإناء، وَوصِفْنا من الحكم العدل بأننا ظلمنا، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، وإذا كان علينا أن ندفع عن أنفسنا وأن نؤدب عدونا وأن نريه أن صبرنا ما كان إلا بأمر ربنا، فلما أمرنا كان شعارنا الخالد قوله تعالى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَاّ إِحْدَى

ص: 221

الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} ، ومنذ نزول هذه الآيات على رسولنا صلى الله عليه وسلم ونحن على هذا الصراط السوي نسير، فلا نعتدي على أحد ولا نقبل أن يعتدي علينا أحد، وتركنا لغيرنا حرية اختيار ما يعتقده والدين الذي يعتنقه وإثمه على نفسه، إن فرعون قال لقومه:{مَا أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} فلما أدركه العقاب المؤقت لإثمه في الدنيا بالإغراق، قال وهو على وشك الغوص في الماء:{وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، بل تركنا غيرنا يتعصب لنبي معين لا يعتقد بنبوة سواه، كما فعل اليهود والنصارى، ولم نعاملهم بالمثل لما كفروا بنبينا صلى الله عليه وسلم، بل أمنا بأنبيائهم وبكل نبي رسول من لدن نوح عليه السلام إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ، ولا نعتبر مؤمنين على الإطلاق إذا أنكرنا واحدا منهم، ومبشروهم يجوبون الآن خلال الأرض في ظل إعلان حقوق الإنسان، ليخرجوا الناس من دينهم ويحملوهم على الإيمان بنبيهم فقط، وبوسائل تخلو من كل إنسانية، ثم يأتوا ليعتموا على الناس اعتدائهم على الأديان بليِّ ألسنتهم بكلمة (الحرية الدينية) وهم ألذ أعدائها، وحصيلة الحديث أن الإسلام يأبى بترفع أن يتطفل على أحد ليعتنقه، لأن المعتنق له هو المستفيد وحده، ومنزله سبحانه لا يناله نفع ولا ضر {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} ، بل حتى الذي يدخل في الإسلام لا يرضينا منه إلا أن يكون مقتنعا به عاملا بالأوامر مجتنبا للنواهي، يقول في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده:-

"إن التقليد بغير عقل ولا هداية شأن الكافرين، فإن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، فمن رُبي على التسليم بغير عقل، وعلى العمل- ولو صالحا- بغير فقه، فهو غير مؤمن، فليس القصد من الإيمان أن يذَلَّلَ الإنسان للخير كما يُذَلَّلَ الحيوان، بل القصد أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم، فيعمل الخير وهو يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر وهو يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته".

فإذا كان هذا حالنا مع من يعتنق الإسلام أصلا، فهل نرغم الناس على أن يعتنقوه؟ أم أن الذين "وضعوا حقوق الإنسان" أحسّوا بأنهم يفعلون ذلك كما بينا آنفا، فراحوا يصرفون النظر عنهم. بحقوق متكلفة متصنعة؟.

أما عن الفقرة الخاصة في حقوقهم التي وضعوها، بحرية ترك ما عليه من دين والانتقال كما يشاء من دين إلى آخر، فنحن نقر ذلك تماما إذا انتقل من النصرانية إلى اليهودية إلى الشيوعية إلي البوذية إلى الهندوسية إلى آخر قائمة الكفر الطويلة؛ لأن الصورة

ص: 222

عندنا واحدة وهى أنه ترك حقا ليس سواه، وهو الله، واعتنق باطلا يتردى في نتن أنواعه المتعددة، لا يترك واحدا منها إلا ليذهب إلى ما هو مثيله في الضلال والوبال، فلا مفاضلة بين الباطل مهما تفاحشت أنواعه وأعداده وأوساخه.

أما بالنسبة لديننا الذي نسبه الله إلى نفسه {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} أيّ دين الله هذا؟ {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه} {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، والآية الأخيرة أنهت الجواب بأعظم حسم لمن يريد أن يدْخل الإسلام في تلون الحرباء والتقلب في دناءة الهوى، فالمسلم يوم أن أسلم قطع مع الله عهدا هائلا، ووضع يده في يده سبحانه لتكون هي العليا، فلا تسمح له بأن ينفض يد البيعة ببساطة متى عنَّ له ميله، دون أن يذوق وبال أمره {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِه} ، فليست كل بيعة تقوض بسهولة، وليس كل عهد يلعب به، وكان الطرف الأقوى هو خالق المعاهد ورب المبايع، ثم يترك هكذا سُدًى طليقا، وإنما كما قال الأجلُّ الأعزّ {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} ، وقبل هذا الأمر الرهيب الذي ينتظره في الآخرة بما ذكرت الآيات، فلا بد أن نجعل منه نحن زاجرا مخيفا لمن يتلاعب بدين الديان، الذي ما أقر دينا سواه ليبقي على الأرض، حتى يرث هو أرضه ومن عليها.

(الباب الخامس)

ونتناول الحديث في هذا الباب عن مادة واحدة من مواد إعلان حقوق الإنسان وهى المادة السادسة عشرة، ومع أنها مادة واحدة فسيكون الكلام عنها هو أطول ما قيل في الأبواب العشرة؛ ذلك لأن هذه المادة تختص بالمرأة، والحديث عن المرأة متشعب ومشكل، وشائك أيضا، وقد يكون ذلك هو السبب في أن المرأة كثيرة الكلام لا تنتهي لها ثرثرة، وعلى أي حال سنبدأ الحديث عنها في هذا الباب بالصورة التي رتبناها منذ البداية، وهى نقل حرفية المادة المذكورة فيما زعموا (حقوق الإنسان)، وهى:-

(المادة السادسة عشرة)

أ- للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسس أسرة، دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج، وأثناء قيامه، وعند انحلاله.

ص: 223

ب- لا يبرم عقد الزواج إلا برضا الطرفين الراغبين في الزواج، رضا كاملا لا إكراه فيه.

ج- الأسرة هي الوحدة الطبيعية للمجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع وحماية الدولة.

على أنني سأبدأ الحديث أولاً عن المرأة بتناول بعض ما اتخذه الحانقون على الإسلام قصة من قصص الترديد المتبدلة، والتقطها منهم الناعقون المحسوبون علينا عروبة ودينا، قالوا: لماذا يبيح الإسلام الزواج بأكثر من واحدة إلى أربع، بل ولماذا تزوج نبي الإسلام صلوات الله عليه بأكثر من أربع، تزوج بتسع؟ وظنوا أنهم بهذا التهجم الوقح على خير دين وأكرم رسول قد وجدوا ضالتهم، عسى أن ينالوا بذلك النيل الذي يريدونه، فراحوا يبثونه في أوساطنا الإسلامية، بل وشاركهم في ذلك أبناؤنا الذين ترسلهم حكوماتنا إلى الخارج ليتعلموا، فيسقونهم هناك من الكأس المعدّ لهم، وننتظر نحن عودتهم بعد أن تعلموا، وإذا بهم عادوا ليتهجموا، أما نحن فنرد قائلين، آخذين أساس ردنا من القرآن الكريم إن شاء الله، ..... سنبدأ أولا بما هو لعامة المسلمين، ثم حسن التثنية والثناء بما هو خاص بنبي المسلمين صلى الله عليه وسلم.

أما عن إباحة الزواج بأكثر من واحدة إلى أربع، فنقرأ بعضا من الآية الخاصة بذلك ثم نتناولها بالتوضيح، يقول تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة} ، وقد اكتفينا بهذا الجزء من الآية وصولا إلى أساس الموضوع وتجنبا للإطالة، فالأمر هنا {فَانْكِحُوا} ، ليس للإلزام وإنما للتخيير، بدليل قوله تعالى بعد ذلك {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة} ، لأن القاعدة أنه لا تخيير بعد الإلزام، وما وجه الإباحة إذا؟ لقد علم الله فينا شدة الميل إلى النساء، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء} ، فهن أوّل قائمة الشهوات المذكورة في الآية بعد ذلك، وأنه بعد زواج الواحدة، وبعد قضاء المأرب منها زمنا ما، فقد ينظر إلى أخرى على أنها قد تكون أحسن من التي معه، فهذه الثانية التي أعجبته، بدل أن يعمل على نيل ما يريد منها بالفاضح المشين، فليتوجها بالواضح المبين وبنفس الإحساس مع الأولى الذي جعله يأتي بالثانية، بدأ يحس به بالنظر إلى ثالثة، فقد يكون فيها ما ليس في السابقتين، فلا مانع بالعلنية وليس بالسرية، لم يقنع بعد الثلاث بأن الطعم واحد، فطابت في عينه رابعة، وإلى هنا يكون الأمر قاطعا لديه بأنه وجدهن جميعا في الخلوة شيئا واحدا، فلا يبحث عن خامسة ليزني بها، حيث لن يجد فيها جديدا بعد أن تأكد من أربع، وهنا يقدم الإسلام للمجتمع أمرًا من أعظم الأمور المبعدة للفسق والمشككة في النسب.

ص: 224

ثم إن الآية خَوَّفتْ بعد السماح بالزواج إلى أربع من شيء هو مستحيل، وهو العدل بين الزوجات {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} ، فإذا أمكن العدل بما هو ظاهر فلا يمكن العدل بما هو باطن، وهو القلب الذي لا يقلبه إلا فاطره سبحانه، وخوفتنا الآية بلفظ الخوف الصريح {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، أي الأحسن أن تكتفوا بواحدة لعدم استطاعة العدل بينهن، وأن الذي يضطر إلى الزواج بأكثر من واحدة يكون لغير الميل الغريزي، وإنما لأسباب قد يصبح التعدد فيها خيرا من الاكتفاء بواحدة.

نقول ذلك وقد أصبح الذين يعيبون على الإسلام إباحة التعدد يطالبون حكوماتهم أن تبيح لهم ذلك، لما كثرت الفواحش، وأهلكت الحربان العالميتان من الرجال ما أهلكت، بالإضافة للحروب الجانبية المنتشرة في كل أرجاء الأرض ولا تنقطع سنة واحدة، حتى زاد عدد النساء على الرجال أضعافا، وأصبحت المرأة لا تتزوج سرًّا بأربعة رجال فقطع، بل بما يحلو لها وتريد، وبعدد غير محدود، فالحمد لله على سماحة هذا الدين ودقة تشريعه. فهل لازال منا من يسأل، لماذا أباح الإسلام تعدد الزوجات؟ .

أما عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فما أحلى الكلام في ذلك دحضا لقذر ما قالوا.

فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتزوج بتسع كما قال هؤلاء وكما اشتهر على ألسن الكثير من الناس، وإنما لنزيد في غيظهم نقرر أنه صلوات الله عليه تزوج بأكثر من تسع، تزوج بإحدى عشرة، ونقصد بالزواج هنا من دخل بهن، عليهن رضوان الله، فالثابت وقوع العقد منه على غير الإحدى عشرة ولم يبن بهن، وإنما التسع اللواتي عرفهن الناس من مات عنهن وعشْنَ بعده، وهذه أسماء الإحدى عشرة كرمهن الله.

(1)

خديجة بنت خويلد (2) عائشة بنت الصديق (3) حفصة بنت عمر

(4)

أم حبيبة (رملة) بنت أبي سفيان (5) أم سلمة (هند) المخزومية (6) سودة بنت زمعة (7) زينب بنت جحش (8) زينب بنت خزيمة (9) جويرية بنت الحارث (10) ميمونة الهلالية (11) صفية بنت حُيَىّ.

مات منهن في حياته صلى الله عليه وسلم اثنتان، خديجة، وزينب بنت خزيمة، المعروفة بـ (أم المساكين) ، والتسع الباقيات بقين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أعمارا مختلفة، رضي الله عنهن من أمهات للمؤمنين.

ص: 225

وقد جمعهن أحد العلماء في الأبيات الثلاثة الآتية:-

توفى رسول الله عن تسع نسوة

إليهن تعزى المكرمات وتنسب

فعائشة ميمونة وصفية حفصة

تتلوهن هند، وزينب

جويرية مع رملة ثم سودة

ثلاث وست ذكرهن مهذب

ويلاحظ لمجرد ذكر أسمائهن وأنسابهن، أنهن يجمعن باقة أشهر القبائل العربية وأقواها، لهذا كان اختيار هن وسيلة من وسائل شد هذه القبائل بصاحب الرسالة صلوات الله عليه، ليكون ذلك صورة من صور التبليغ عندما تقع المصاهرة، وهى من أهم وشائج الصلات عند العرب. وأظهرها وقوع التواصل والتلاقي، وترديد اسم مشهور لخير من زاوج وصاهر، وهو اسم محمد الذي هزّ مجتمعهم كله من أساسه، ولذا ثبت بسبب هذا التصاهر دخول كثير منهم في الإسلام، ممن لم يسبق لهم الدخول فيه قبل المصاهرة.

ثانيا: وهو الأخطر شأنا، أن هذه الباقة النابهة من الزوجات، وقد اخترن من الله لرسوله، فقد قال له بعد ذلك {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاج} ، كان عليهن مهمة تبليغ الرسالة للنصف البشرى الذي يقيده الحياء؛ وهن: النساء، خاصة ما يتصل بتشريع الأنوثة، ولهذا لا تكاد بيوتهن تخلو من أفواج النساء ليتلقين منهن عاطر الوحي الخاص بهن، والدليل بأن هذا تكليف لنساء الرسول وليس مجرد تطوع بالخير منهن هو قوله تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ، وخص هذا الأمر مباشرة بهن، فالكلمة {وَاذْكُرْنَ} تكليف بِمَعَانٍ ثلاثة، اذكرن بمعنى احفظن ما أنزله على زوجكن الرسول، اذكرن ذلك في ذوات أنفسكن؛ بمعنى: العمل والتنفيذ لأنكن القدوات لغيركن، وثالث المعاني اذكرن ذلك بين النساء تبليغا وتعليما.

فلما كانت الرسالة بهذا الاتساع والتعاظم، ونصيب المرأة منها كبير، أصبح كثرة المعلمات المتصلات بِسر النبوة شيئا يزيد في كمية العلم المبلَّغ وسعة انتشاره، وعودا إلى كتب الإسلام على اختلاف أنواعها وكثرتها، نجد عائشة وزميلاتها قد أضأن هذه الكتب بما أخرجن من التشريع والعلم، من داخل حجرات النبوة، ليس عن النساء فقط ولكن عن الرجال أيضا، فقمن بتنفيذ الأمر كاملا، فذكرن حفظا وتطبيقا وتبليغا، وهكذا زوجه سبحانه بعدد من النسوة وخاطبهن بالجمع {وَاذْكُرْنَ} لعلمه بما زوج به نبيه، وأن من مهمتهن مساعدة رسوله في تبليغ رسالته الثقيلة ولهذا كُنَّ جديرات بأن يجعلهن أمهات المؤمنين وكأنهن وَلَدْنَ

ص: 226

جميع أمة زوجهن العظيم، صلى الله عليه وسلم، فكل أمّ يمكن أن تلد، ولكن ليس كل أم يمكن أن تعلم وتربي أبناءها، وهذا هو خير ما في الأم، فأعطاهن الله هذه الصفة كاملة وليس مجرد تشبيه، فلم يقل سبحانه: وأزواجه كأمهاتهم، إنما قال:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، حتى إن كبار الصحابة كانوا يرجعون إلى أمهاتهم هؤلاء في كل معضل من الشريعة، ثم إن نبينا عليه الصلوات، لم يكن بدعا من الرسل حين تزوج بهذا العدد المحدود، وهو كثير عند الأعداء والجاهلين، والذي كان لحكمة عظيمة أوضحنا منها ما ذكرنا، والذي تخرج هذه البغضاء من أفواههم، يعلمون يقينا أن أكثر من نبي كريم من أنبيائهم كسليمان عليه السلام، تزوج بتسعين امرأة كما هو ثابت في الحديث الصحيح، فيتركون التسعين ويتكلمون عن التسع، وذلك لحاجة في نفس يعقوب لم يقضها.

وإنه والله زيادة في الكفر، حينما يعترض أحد على من له التصرف في ملكه بما يشاء.. فما دخْلُ الخلق في عمل الخالق؟، حيث الرجال عباده والنساء إماؤه، زوج من يشاء بالعدد الذي يشاء {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَه} ، إن الواحد منا لا يقبل من غيره التدخل في شؤونه، فكيف بالتدخل في شأن من له الشأن كله؟، والرسل هم أحبابه وصفوته، يميزهم بما يشاء، ويدخل في ذلك بما يعجز عنه غيرهم، فسبحان من أتم عليهم نعمته خَلْقا وخلقا، وبعد ذلك. أفنحن نسمع الصّم ولو كانوا لا يعقلون.

ثم قال الأعداء وردد أدعياء الإسلام قولهم: إنكم أيها المسلمون تمزقون ما أحكمته أواصر الزواج بتشريد الزوجة وأطفالها بمجرد كلمة طلاق تخرج من فم أحدكم، أما غيركم فلا يطلق إلا بدعوى أمام القاضي ليحكم بالطلاق أو عدمه، وجوابنا من كتاب الله أيضا، فإذا كان بعض الرعناء والحمقى قد أساءوا استعمال كلمة الطلاق فقد خالفوا صميم تعاليم دينهم، ومكنوا عدونا من اصطياد التي ضدنا، وإلى قرآننا وهو نبعنا الذي لا يغور فراته، لنأخذ منه ما نرد به الكيد، ولنرى كيف يعالج الأمر منذ أوّل بادرة شر بين الزوجين، وبصورة ترفع من هام المسلم بهذا التشريع الرفيع، يقول عزّ من قائل:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} .

ص: 227

أما القوامة وما يتصل بها، فسأعود إليها في فاصل آخر يأتي بعد إن شاء الله، وسأبدأ الآن من قوله تعالى:

{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} ، أي مطيعات حافظات لغيب الزوج في عرضه وولده وماله {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} ، يعني حقها الذي أمر الله زوجها أن يفي لها به مقابل حفظها له، فإذا قام الرجل بما عليه- فليس غير القائم محل حديثنا- وإن كنا لن نغفله ولو بقليل؛ لأن حديثنا الآن حول المرأة؛ ولأن الآية التي نحن بصددها مختصة بها أيضا، فإذا لم تعد مطيعة لزوجها حافظة لغيبه، وبدأ (النشوز) وهو التمرد والمعصية، فهل تخرج طلقات الطلاق كما يطلق المدفع الرشاش، لتقتل أسرة بأكملها ولتصبح مشردة تعسة في هذه الحياة؟ ، تباعد بين زوجين عزيزين أفضيا إلى بعضهما، وتحكم باليتم المحزن على أطفال برآء لم يمت أبواهما، لمجرد لحظات من تعكير صفو، كما يفعل الآن الكثير من المتهورين والمندفعين.

ولننظر كيف يكون من القرآن وقتئذ، فقد جعل الطلاق آخر مرحلة من خمس مراحل، بعد أربع لا بد أن تسبق خامستها، وهي مرحلة الفراق.

الأولى: مرحلة الكلام الهادىء، المرهب أو المرغب، وهو المعبر عنه بقوله تعالى:{فَعِظُوهُنَّ} ، ولا يكتفي بذلك بيوم ولا بأيام، وإنما بمدة تكفى للتفكر والتبصر، ولو طال هذا النصح سنة أو أكثر، فإن انتهى النشوز، وإلا فالمرحلة الثانية، وهي الابتعاد عن فراشها، فلا يمسها بمدة تشغل بالها، بنحو الخوف من أن يتجه إلى غيرها، وهو المعبر عنه بقوله تعالى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} ، والغيرة عند المرأة معروفة، فإذا طال الأمر ولم تقلع، فتأتي المرحلة الثالثة وهي الضرب، ولكم أسيء إلى هذه الكلمة إساءة بالغة، سواء ممن لم يفهمها من المسلمين، أو ممن سمعها منا أعداء الإسلام المتربصين، فقالوا إن دينكم يأمر بضرب المرأة، وربما قطعت هذه الجملة من الآية بتعمد لئيم مقصود، ورددتها كثيرات من المتعلمات التعليم المعروف الذي لا صلة له بالإسلام، فلم تذكر الآية بكاملها، وإنما على طريقة {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} و {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فمع أن كلمة الضرب لم تأت إلا في ثالث مرحلة قد تكون بعد سنوات يهب الوعظ والهجر، فإنها ليست بالأمر اللازم التنفيذ، بمعنى أن الزوج إذا رأى أن الجرم الذي وقع منها يوجب ضربها، ولكنه تنازل عنه ولم يضرب، فهل عليه من إثم؟، لم يقل أحد بذلك أبدا، ودليل أنه ثبت عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعمل هذه الرخصة أبدا، فلم يضرب واحدة من زوجاته قط طول حياته، رغم أنهن أغضبنه لأكثر من مرة كما نعلم، ثم إن معنى الضرب هنا بما أجمع عليه المفسرون أخذاً من

ص: 228

تفسير النبي صلى ولله عليه وسلم بنفسه، بأنه ضرب غير مبرح، أي الذي لا يسيل الدم، ولا يكسر العظم، بل ولا شديد الألم، فلا يكثر من ضرب الزوجة إلا الزوج الضعيف الشخصية، حتى إن أبا حنيفة رحمه الله لا يجيز الضرب بأكبر من حجم السواك غلظا وطولا، ولعله رحمه الله أخذ هذا الحكم من قول نسب إلى ابن عباس رضي الله عنه، ومنع اللطم على الوجه أو باليد مقبوضة لأنها قد تكسر بل قد تقتل، وإنما بعود رفيع يؤلم ولا يحطم، بنحو ما ذكر الفقهاء، ولكم أصلح هذا الضرب بصورته هذه معوجات كثيرات وناشزات، شريرات، وقد ورد أن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال، يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال:"أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه، ولا تضرب" رواه أحمد، وكلمة (لا تضرب) أي بمعنى الضرب الغير جائز وهو المبرح، مع الابتعاد عن الوجه على أي حال.

أبعْد ذلك يقال إن الإسلام أمر بضرب المرأة وكفى؟ وأن يعصى الكثير منا أمر القرآن وحديث الرسول وسيرته مع أهله، فيغالي في الضرب بما نرى ونعلم؟ وبما يتخذه الخصوم سببا للتشويش والتشهير، مع أن ضربهم للنساء في الخارج بوحشية أصبح أمرا مألوفا عندهم.

نعود إلى الآية لما لم يجد التخويف بالضرب، فتكون المرحلة الرابعة عندما يتحول الأمر إلى شقاق {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} ، واشترطت الآية الحَكَم الذي لا يميل مع هوى القرابة {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، فإرادة الإصلاح ونيته لا بدّ أن توجد عند الحكمين، ولو وجداه في الانفصال بعد محاولة الوصال أولاً فلا بأس باعتباره آخر مرحلة. وقيل إن عمر رضى الله عنه أرسل حكمين إلى زوجين، فعادا ولم يصهل ولم يفصلا، فضربهما بالدرة قائلا: إنكما لم تريدا إصلاحا كما قال الله، ولو أردتماه لأصلح الله بكما.

وأخيرا إذا لم يفد ذلك كله يأتي خامس المراحل وهو الطلاق، وعندئذ يكون أبغض الحلال ويغن الله كلا عن الآخر من سعته {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} ، هذا هو الطلاق عندنا، فإذا فعل أحدنا غير ذلك، فهل يكون من تقصير الدين أم تقصير الجاهلين.

ص: 229

إلى الإسلام

لقد اضطلعت الجزائر بدور الريادة خلال تاريخها الطويل.. فكانت ثورتها التحريرية قدوة للشعوب المستعمرة.. كما كافحا معركتها في البناء- بعد الاستقلال- نموذجا للشعوب السائرة؟ في طريق النمو، بفضل سياستها الرشيدة، ومبادراتها الشجاعة المشرفة، في خدمة الإنسانية وقضايا العدل، لكن الجزائر اليوم، ينتظر منها دور أعظم، هو تقديم النموذج الحي للمجتمع السليم المعافى، في عالم مريض، أختل توازن إنسانه؛ لأنه يطلب السعادة في التقدم الصناعي التكنولوجي وحده، وتجاهل الجانب الروحي في الوجود الإنساني.

إن ناقوس الخطر، الذي يهدد الكيان الحضاري بالانهيار يدقه أبناء هذه الحضارة نفسها، الذين يغارون عليها، فما أكثر الصيحات التي أطلقها المفكرون الواعون الذين نادوا بضرورة العودة إلى الإسلام، عقيدة ومنهاج حياة، وأنه لمن العجب، أن يقتنع غيرنا بالإسلام منقذا لإنسان الذرة وغزو الفضاء، بينما يظل بعض أبنائه شاكين تائهين، أو معرضين متنكرين لصلاحية مبادئه وقيمه!

((جوهر الإسلام التونسية))

ص: 230