الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(1)
(2)
(3)
.
(1)
آل عمران: (102).
(2)
النساء: (1)
(3)
الأحزاب: (70 - 71).
وحديث خطبة الحاجة أخرجه أبو داود في السنن (2/ 238) 2118، وابن ماجه في السنن (1/ 609) 1893، والترمذي في السنن (3/ 413) 1105، والنسائي في المجتبى (6/ 89) 3277 وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
قال الترمذي: «حديث عبد الله حديث حسن، رواه الأعمش عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، وأبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم «وأصله في صحيح مسلم (2/ 593).
وأفرد الألباني رحمه الله رسالة في تخريج الحديث وسمّها: (خطبة الحاجة).
أما بعد:
فإن من أعظم ما اشتغل به البشر من القضايا الاجتماعية في القديم الماضي، وفي الحديث الحاضر، وما سيشغلهم في المستقبل القادم -على ما أعتقد- قضية المرأة، وقد تخبط البشر في معالجتها؛ لأنهم كانوا بمعزل عن شرع الله القويم، فجاءت أحكامهم مشوبة بالظلم، مغلفة بهوى النفس، وكانت المرأة الضحية في تلك الاجتهادات البشرية
…
وتوالت العصور، وعُرِضت «قضية المرأة» ولا تزال تعرض على مأدبة شعارها «الحرية» ، وذروة سنامها «المساواة» وكأن الداعين لهذه الشعارات أُناسٌ مردوا على حب الفاحشة، والسطو على الأعراض، وهتك الحرمات، وتضخيم الأرصدة
…
وقد نجحوا في حملتهم الماكرة حتى آل الأمر في دول الغرب إلى تفكك الأسر، وتقوضت دعائم الفضيلة، وراج سوق الرذيلة، وكثر اللقطاء، وأمراض لم تعرف فيمن سبق، وأنذر الناصحون منهم بني جلدتهم من غب فعلتهم؛ ولكن هيهات بعد أن غرق القوم في مستنقع الرذيلة.
وأمّا في بلاد المسلمين -حماها الله- فإن الأمر لم يصل إلى ما وصل إليه في بلاد الغرب، إلا أن بداية الشرر تطايرت إلى بعض أجزائه، بل وأحرقت الأجزاء الأخرى، وكانت هذه المجالات تثار في وقت مضى، واحدة تلو الأخرى بعد زمن، ويقضي عليها العلماء في مهدها، ويصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرمون في آثارهم بالشهب، وفي أيامنا هذه كفأ الجُنَاة المِكْتل مملوءًا بهذه الرذائل بكل قوة وجرأة واندفاع، ومن خبيث مكرهم تحين الإلقاء بما في أحوال العسر والمكره، وزحمة الأحداث.
وهذه الدعوات الوافدة المستوفدة قد جمعت أنواع التناقضات ذاتًا، وموضوعًا، وشكلًا.
فإذا نظرت إلى كاتبيها وجدتهم يحملون أسماءً إسلاميةً، وإذا نظرت إلى المضمون والإعداد، وجدته معول هدم في الإسلام، لا يحمله إلا مستغرب مُسَيَّر، أشرب قلبه الهوى والتفرنج، وإذا نظرت إلى الصياغة وجدت الألفاظ المولّدة، والتراكيب الركيكة، واللحن الفاحش، وتصيّد عبارات صحفية تقمش من هنا وهناك على جادة «القص واللزق» طريقة العجزة الذين قعدت بهم قدراتهم عن أن يكونوا كُتابًا، وقد آذوا من له في لسان العرب والذوق البياني أدنى نصيب.
وهكذا من جَهِل لسان العرب، والقرآن والسنة أتي بمثل هذه العجائب!.
وساعدهم ويساعدهم في سعيهم غير المشكور غفلة المسلمين، وضعف العلم الشرعي، وخطر الحملات التغريبية عند الرجال والنساء على حد سواء.
وانقسم الناس حيال قضية المرأة إلى قسمين: غال في مطالباته، متجاوز في أطروحاته، لا يعي خطورة ما يكتبه، ولا ما يدعو إليه، (وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد)
(1)
يخطو آثار كل مستغرب، ويخترق سد الذرائع إلى الرذائل، ويتقحم الفضائل، وانبسط لسانه بالسوء، وجرى قلمه بالسُّوء، باسم المساواة والحرية.
والثاني: جاف في شأن المرأة، يرى أنها نالت الحق، وتربعت عرش الفضل، وأن لا ظلم عليها، ولا خوف عليها، ويكذب مقاله حاله، وواقع نساء عصره.
والعاقل من يرى أن في مجتمع النسوة حقوقًا مسلوبة، سُلبت منها على يد رجل جاهل بالشرع، يقيم حروف الكتاب لا حدوده، يحكّم العادة والتقليد على الكتاب والسنة، أو على يد مستغرب أرادها سلعة تباع وتشترى، وتستأجر وتكترى، يتباكى على حقوقها، وفي دخيلة نفسه س عي لإشباع شهواته، وإطفاء نزواته، مقتطعًا من
(1)
الصارم المسلول لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 735).
النصوص الشرعية ما يوافق هواه، لاويًا عنق النص تطويعًا لمبتغاه.
والحق المبين، والطريق القويم سلوك طريق الكتاب والسنة، وإعطاء المرأة ما أعطاها الله من حق، وتكليفها بما عليها من واجب، في ضوء الكتاب وصحيح السنة على فهم السلف الصالح، فإن الله سبحانه قد حث على الاتباع، وذم التكلف والاختراع، يقول تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
(1)
.
وفي ضوء ما تقدم أحببت أن أضرب بسهمي في هذا الموضوع بالإضافة إلى ما يأتي:
1 -
بيان تحرير الإسلام الحقيقي للمرأة، ورفعه لمكانتها، وتعزيزه لشأنها.
2 -
الحاجة الماسة للتأصيل الشرعي لحقوق المرأة، وتخليصها من مطالبات التغريبيين، وتمديدات التقليديين.
3 -
الإسهام في تثقيف المرأة المسلمة بما لها من حقوق في ضوء الكتاب وصحيح السنة، وتقديم الآليات للحصول عليها.
4 -
تفنيد الشبهات المثارة حول الإسلام من قبل أعدائه أو أتباعهم حسدًا من عند أنفسهم.
5 -
تحقيق القول في قضايا المرأة المعاصرة، وبيان الراجح منها بناء على الدليل والتعليل.
6 -
كشف عوار وسوءات الحضارة الغربية، والمؤتمرات الدولية، وما ألحقته بالمرأة من أذى وحيرة.
واخترت دراسة «حقوق المرأة فِي ضَوْءِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ» لأن الله قد هيَّأ للوحيين الشريفين حفاظًا، ولشرعه حراسًا، من أوعية العلم والأمانة في النقل،
(1)
النساء: (115).
فأُخِذ أول هذا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة وكتابةً لم يشبه لبس ولا شبهة، ثم نقله العدول عن العدول من غير تحامل ولا ميل، ثم الكافة عن الكافة، أخذ كف بكف، وتمسك خلف بسلف كالحروف يتلو بعضها بعضًا، ويتسق آخرها على أولها وصفًا ونظمًا
(1)
، فأحببت أن أعرض القضية في ضوء هذا الحفظ المكين، وأسهم في خدمة السنة النبوية، والأسوة المحمدية على صاحبها ما يستحق من الصلاة والسلام؛ إذ إنها المنبع الثاني مع كتاب الله الذي تتفجر منه ينابيع حياة العالم الإسلامي، وسعادة المجتمع البشري.
(1)
ينظر: اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي (1/ 23).
موضوعات البحث:
يشتمل البحث على مقدمة، وتمهيد، وأربعة أبواب، وخاتمة.
المقدمة: وضمنتها:
1 -
أهمية البحث.
2 -
أسباب اختياره.
3 -
موضوعات البحث.
4 -
منهج البحث.
التمهيد: ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مكانة المرأة في بعض الحضارات القديمة والأديان الأخرى.
المبحث الثاني: المرأة العربية في العصر الجاهلي. وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: مكانة المرأة عندهم.
المطلب الثاني: وأد البنات.
المطلب الثالث: زواج المرأة عندهم.
المطلب الرابع: طلاق المرأة، ونظام عدها عندهم.
المطلب الخامس: حقوق المرأة المالية.
المبحث الثالث: تأصيل معنى «حقوق المرأة» . وفيه مطالبان:
المطلب الأول: تقسيمات الحق.
المطلب الثاني: التنوع في الحقوق والواجبات بين النساء والرجال.
الباب الأول
حقوق المرأة الشرعية
وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: أهلية التكليف. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: دلالة القرآن والسنة على أهلية المرأة للتكليف.
المبحث الثاني: المساواة بين المرأة والرجل في الحدود. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حد السرقة.
المطلب الثاني: حد القذف.
المطلب الثالث: حق اللعان.
المطلب الرابع: حد الزنى.
المبحث الثالث: المساواة بين المرأة والرجل في جزاء الآخرة.
الفصل الثاني: حق المرأة في العبادات. وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: الطهارة. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: التخفيف عن المرأة في نقض الشعر عند الغسل.
المطلب الثاني: وضوء وغسل الرجل مع امرأته.
المطلب الثالث: أحكام تتعلق بالحائض. وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: مباشرة الحائض.
المسألة الثانية: طهارة ذات الحائض.
المسألة الثالثة: التخفيف عن الحائض.
المطلب الرابع: أحكام تتعلق بالمستحاضة. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: حق المرأة في العبادة.
المسألة الثانية: مباشرة المستحاضة.
المبحث الثاني: الصلاة. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: خروجها للصلاة في المسجد.
المطلب الثاني: إمامة النساء، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: جماعة النساء.
المسألة الثانية: إمامة المرأة الرجال.
المطلب الثالث: شهود المرأة لصلاة العيدين.
المطلب الرابع: شهود المرأة لصلاة الكسوف.
المبحث الثالث: الزكاة والصدقة. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: دفع المرأة زكاة أو صدقة أموالها بدون إذن زوجها.
المطلب الثاني: أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة.
المبحث الرابع: حق المرأة في المبادرة إلى قضاء رمضان.
المبحث الخامس: الاعتكاف.
المبحث السادس: الحج. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حج الفريضة.
المطلب الثاني: تعجل الدفع من مزدلفة.
الفصل الثالث: حق المرأة في الهجرة.
الفصل الرابع: حق المرأة في التعليم. وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: الأحاديث النبوية في تعليم المرأة.
المبحث الثاني: بعض المسائل العلمية من النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث: عناية السلف الصالح بتعليم النساء.
المبحث الرابع: صور مشرقة للمرأة في طلب العلم
المبحث الخامس: حكم تعليم المرأة.
الفصل الخامس: حق المرأة في الفتوى.
الفصل السادس: حق المرأة في الدعوة.
الفصل السابع: تفنيد الشبهات المثارة حول النصوص الشرعية.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: شبهات حول النصوص القرآنية.
المبحث الثاني: شبهات حول الأحاديث النبوية. وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: شبهة شؤم المرأة.
المطلب الثاني: شبهة نقصان عقل المرأة ودينها.
المطلب الثالث: شبهة حول شهادة المرأة.
المطلب الرابع: شبهة المرأة والشيطان في الحديث النبوي.
المطلب الخامس: شبهة خلق المرأة من ضلع أعوج.
المطلب السادس: شبهة اقتران المرأة بالحمار والكلب الأسود في الحديث النبوي.
المطلب السابع: شبهة الغسل من بول الجارية، والرش من بول الغلام.
الباب الثاني
حقوق المرأة السياسية
وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: البيعة. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أنواع البيعة للنساء في ضوء السنة النبوية.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: البيعة على الإسلام.
المطلب الثاني: بيعة الامتحان.
المطلب الثالث: بيعة النساء. وفيه خمس مسائل:
المسألة الأولى: وقت البيعة.
المسألة الثانية: أدلة البيعة.
المسألة الثالثة: حكم البيعة.
المسألة الرابعة: أركان البيعة.
المسألة الخامسة: كيفية البيعة.
المطلب الرابع: بيعة النصرة والمنعة.
المبحث الثاني: البيعة لولي الأمر.
الفصل الثاني: حق المرأة في الاحتساب على أصحاب السلطة.
الفصل الثالث: حق المرأة في الأمان والإجارة.
الفصل الرابع: المرأة والجهاد. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: جهاد الكفاية. وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الأدلة على جواز خروج المرأة لجهاد الكفاية.
المسألة الثانية: شروط خروج المرأة الجهاد الكفاية.
المسألة الثالثة: أعمال المرأة في الجهاد.
المطلب الثاني: الجهاد العيني.
الفصل الخامس: المرأة والقضاء.
الفصل السادس: المرأة والولايات العامة. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أقسام الولايات العامة.
المبحث الثاني: حكم تولي المرأة الولايات العامة.
الفصل السابع: مجلس الشورى. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف أهل الشورى.
المبحث الثاني: وظائف مجلس الشورى.
المبحث الثالث: حكم عضوية المرأة في مجلس الشورى.
الباب الثالث
حقوق المرأة المالية
وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: حق المرأة في الصداق. وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: أدلة مشروعية الصداق.
المبحث الثاني: مقدار الصداق.
المبحث الثالث: استحقاق الزوجة كامل الصداق.
المبحث الرابع: استحقاق الزوجة نصف الصداق.
المبحث الخامس: متعة المطلقات. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مقدار المتعة.
المطلب الثاني: مذاهب العلماء في حكمها.
المبحث السادس: حكم تحديد ولي الأمر للصداق، وإلزام الناس به.
الفصل الثاني: حق المرأة في النفقة. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف النفقة.
المبحث الثاني: أقسام النفقة. وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: نفقة القرابة.
المطلب الثاني: نفقة الملك.
المطلب الثالث: النفقة الزوجية. وفيه عشر مسائل:
المسألة الأولى: أدلة وجوب النفقة الزوجية.
المسألة الثانية: سبب وجوب النفقة الزوجية.
المسألة الثالثة: مقدار النفقة الزوجية.
المسألة الرابعة: توابع النفقة الزوجية، وفيها: نفقة خادم الزوجة، علاج الزوجة، جَهاز الزوجة.
المسألة الخامسة: امتناع الزوج عن الإنفاق.
المسألة السادسة: نفقة زوجة الغائب.
المسألة السابعة: نفقة الزوجة المريضة.
المسألة الثامنة: نفقة الزوجة الموظفة.
المسألة التاسعة: نفقة الناشز.
المسألة العاشرة: نفقة المعتدات من طلاق.
الفصل الثالث: حق المرأة في الإرث. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ميراث المرأة في الكتاب والسنة.
المبحث الثاني: شبهة حول ميراث المرأة والرد عليها.
الفصل الرابع: حق المرأة في التعاقدات المالية.
الفصل الخامس: المرأة والغنيمة.
الفصل السادس: المرأة والدية.
الباب الرابع
حقوق المرأة الاجتماعية
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: حق المرأة أما.
الفصل الثاني: حق المرأة بنتا. وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: الأمر بالإحسان للبنات.
المبحث الثاني: تسوية البنت مع الذكر في العطية.
المبحث الثالث: حرية البنت في اختيار الزوج.
المبحث الرابع: تحريم العَضْل.
الفصل الثالث: حق المرأة زوجةً. وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: لزوم الإحسان والعشرة بالمعروف.
المبحث الثاني: حقوق المرأة الجنسية. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حق المرأة في الجماع.
المطلب الثاني: أوقات الوطء وهيئاته.
المطلب الثالث: حكم العزل.
المطلب الرابع: حفظ الأسرار الخاصة بين الزوجين.
المبحث الثالث: حفظها من الأنكحة الفاسدة. وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: نكاح المتعة.
المطلب الثاني: نكاح الشغار.
المطلب الثالث: نكاح المحلِّل.
المطلب الرابع: النكاح العرفي.
المبحث الرابع: حق المرأة في الحضانة. وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أجرة الحضانة.
المطلب الثاني: مدة الحضانة.
المبحث الخامس: حقوق المرأة المعنوية.
الفصل الرابع: حق المرأة في العمل. وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عمل المرأة الحقيقي في الإسلام.
المبحث الثاني: حق المرأة في العمل خارج المنزل.
المبحث الثالث: ضوابط عمل المرأة في الإسلام.
الفصل الخامس: شبهات حول قضايا المرأة الاجتماعية. وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: القوامة.
المبحث الثاني: ضرب المرأة.
المبحث الثالث: التعدد.
المبحث الرابع: الطلاق.
الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج، والتوصيات.
الفهارس:
1 -
فهرس الآيات.
2 -
فهرس الأحاديث النبوية.
3 -
فهرس المصادر والمراجع.
4 -
فهرس الموضوعات.
منهج البحث
وقد اتبعت في البحث المنهج الآتي:
1 -
جمعت المسائل المتعلقة بحقوق المرأة في الكتاب والسنة النبوية.
2 -
إن كان الحق متفقًا عليه صدرت عنوان الفصل بـ «حق المرأة في
…
» وإن كان مختلفًا فيه صدرته بـ «المرأة و
…
».
3 -
جمعت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على إثبات ما رأيته حقًا، وكلام المفسرين والمحدثين حول الآي والحديث، ووقائع التاريخ، التي تشهد لكونه حقًا.
4 -
ذكرت مذاهب العلماء في الحق المختلف فيه، مع بيان أدلتهم وتعليلاتهم، ومناقشتها، وتوثيقها من مصادرها.
5 -
حرصت على جمع قضايا العصر المتعلقة بحقوق المرأة، وأقوال العلماء المعاصرين فيها، وأدلتهم، وتعليلاتهم، ومناقشتها.
6 -
التزمت الترجيح بين الآراء المختلفة مبينة سبب الترجيح.
7 -
أوردت الأحكام الشرعية التي رجحت التخفيف في جانب النساء، مع إيراد الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم على ما أذكر.
8 -
تتبعت الشبهات المثارة حول الإسلام فيما يتعلق بقضايا المرأة، وأفردها بفصل في نهاية كل باب، ما لم ترتبط بحق للمرأة فإني أوردها خلفه، مع تفنيد الشبه عن طريق بيان مورد النص، ومفهومه، وكلام العلماء حوله.
9 -
أوردت نقولات عن علماء ومفكرين غربيين، وإحصاءات لحال المرأة في الغرب تدليلًا على نقض الحقوق المزعومة الناعق بهما أذناب المستشرقين.
10 -
أدخلت كل فصل تحت أنسب الأبواب إليه، وراعيت في الأحكام الشرعية تبويبات المحدثين في مؤلفاتهم.
11 -
عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها من كتاب الله تعالى مبنية رقم الآية، واسم السورة.
12 -
تجنبت ذكر الحديث الضعيف ما استطعت - ولم أورده إلا إن كان دليلًا المذهب عالم، والتزمت بيان ضعفه.
13 -
التزمت تخريج الأحاديث النبوية، فإن كانت في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بالعزو لهما لتلقي الأمة لهما بالقبول، وإن تكرر الحديث في صحيح البخاري اخترت أقرب الألفاظ الدالة على المسألة، وأحلت على اسم الكتاب، والباب، ورقم الجزء، والصفحة، والحديث، وغالبًا ما أوردها في الحاشية إلا إن ترجحت مصلحة لذكرها في الأصل.
وإن كان الحديث في غير الصحيحين اجتهدت في عزوه المصادر السنة المختلفة مبينة رقم الجزء، والصفحة، والحديث، ثم درست إسناده، ونقلت أقوال الأئمة المتقدمين في الحكم عليه إن وجد، وإن كان في إسناده ضعف وله متابعات وشواهد يرتقي بها أشرت إليها، والتزمت الحكم على إسناد كل حديث أورده.
12 -
حررّت القول في بعض رجال الأسانيد لاسيما المختلف فيهم.
13 -
بينت غريب الحديث واللغة محيلة على كتبهما.
14 -
ختمت هذا البحث بخاتمة بينت فيها أهم نتائج البحث وتوصياته.
د. نوال العيد
التمهيد
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مكانة المرأة في بعض الحضارات القديمة، والأديان الأخرى.
المبحث الثاني: المرأة العربية في العصر الجاهلي.
المبحث الثالث: تأصيل معنى «حقوق المرأة» .
المبحث الأول مكانة المرأة في بعض الحضارات القديمة والأديان الأخرى
على مر التاريخ، وتعاقب الأمم والحضارات كانت المرأة ممسوخة الهوية، فاقدة الأهلية، منزوعة الحرية، لا قيمة لها تذكر أو شأنًا يعتبر.
بل كانت تقاسي في عامة أحوالها باستثناء عصور الرسالات الإلهية- ألوانًا من الظلم والذل، والقهر والشقاء، صاغتها أهواء ضالة، أو عقائد فاسدة.
• فهي في مجتمع الصين متاع يباع ويشترى، بل كانت مسلوبة الحقوق الحسية والمعنوية، وكانوا يعتبرون ولادتها شؤمًا وسوءًا، وكانت طوال حياتها خاضعة لطاعات ثلاث: الأب، والزوج، والأخ البكر في حال غياب الأب، أو الابن في حال غياب الزوج، يقول «ول ديورانت»: فهي تابعة للرجل تقضي عمرها في طاعته، كما كانت محرومة من كافة حقوقها الاجتماعية والمالية. فهي عندهم قاصرة لا تملك من أمرها شيئًا. بل إن الرجل هو الوصي عليها في كل ذلك- كما لا تستحق تعليمًا ولا تثقيفًا
…
(1)
» وكانت المرأة إذا تزوجت انتقلت إلى بيت زوجها وسميت باسمه، وكانت المرأة المتزوجة تسمى (فو) ومعناها (خضوع) دلالة على خضوعها التام لزوجها، وإذا مات الزوج كان على أرملته ألّا تتزوج بعده، وكان يطلب
(1)
قصة الحضارة ج 4، م 1، ص:272.
إليها في بداية الأمر أن تحرق نفسها تكريمًا له.
وإليك ملخص ما كانت تقاسيه (لقد سميت المرأة في كتب الصين القديمة «بالمياه المؤلمة» التي تفسد المجتمع أو تكنسه من السعادة والمال، فهي شر يستبقيه الرجل بمحض إرادته، ويتخلص منه بالطريقة التي يرتضيها ولو بيعًا -كبيع الرقيق والمتاع، حتى كان بالصين زهاء ثلاثة ملايين جارية سنة 1937 م وقد يعضلون المرأة عن الزواج إذا مات زوجها فتبقى حيوان يخدم في البيت دون حق إنساني- تمامًا كالحمير والبغال)
(1)
.
• وأما أختها في الهند فليست بأحسن حالًا منها، بل إن الكتب المقدسة عندهم جعلت المرأة دون الرجل منذ الخلق الأول. ففي أساطير مَنو قوله:«عندما خلق النساء فرض عليهن حب الفراش، والمقاعد والزينة، والشهوات الدنسة، والغضب، والتجرد من الشرف وسوء السلوك، فالنساء دنسات كالباطل نفسه وهذه قاعدة ثابتة»
(2)
.
ومن هنا يتبين أن المرأة في معتقدهم هي رمز غواية، وعنوان شر، ومصدر بنجاسة، وهذه نظرة ظالمة ليس لها ما يبررها، ألبسها الهنود ثوبًا دينيًّا حتى صارت عقيدة يتربى عليها الناس.
ومما يدعو للعجب أن الهنود الذين عدُّوا المرأة مصدرًا للرذائل يجب إبعاده، حولوا معابدهم إلى مراكز للدعارة، مما يوجب التناقض في المفاهيم الهندية ففي كل معبد في «تامل» مجموعة من النساء المقدسات اللاتي يستخدمهن المعبد أول الأمر في الرقص والغناء أمام الأوثان ثم من الجائز أن يستخدمن بعد ذلك في
(1)
المرأة في التصور الإسلامي، لعبد المتعال الجبري (156 - 157).
(2)
المرأة في التاريخ والشريعة، لأسعد الحمراني (25).
إمتاع الكهنة البراهمة
(1)
.
أمّا نظرة بوذا للمرأة فإنها لا تختلف كثيرًا عن نظرة منو للمرأة، فقد اعتبر «بودا» المرأة خطرًا على دعوته (لذلك تجد بوذا يتردد كثيرًا في قبولها لتكون من أتباعه، وقد سأله مرة أحد خاصته، وهو ابن عمه آئندا: كيف تعامل النساء أيها السيد؟ فأجاب: لا تنظر إليهن.
ولكن إذا اضطررنا إلى النظر إليهن؟ لا تُخاطبْهن. ولكن إذا خاطبنا؟ إذًا كُنْ على حذر تام منهن)
(2)
.
كما أوجبت شرائع الهند على الزوجة أن تتفانى في حب زوجها وطاعته، والصبر على المكاره معه، وأوجبت عليها أن تخدم زوجها كما لو كان إلهًا.
(ولم يكن للمرأة حق في الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعًا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها، وهي قاصرة طيلة حياتها، ولم يكن لها الحق في الحياة بعد وفاة زوجها بل يجب أن تموت يوم موت زوجها، وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد. واستمرت هذه العادة حتى القرن السابع عشر حيث أبطلت على كره من رجال الدين الهنود)
(3)
.
• ولما كان الفرس أمة حربية كانوا يفضلون الذكور على الإناث؛ لأن الذكور عماد الجيش في الحرب، وأما البنات فإنهن ينشأن لغيرهم، ويستفيد منهن غير آبائهن.
وخضعت المرأة الفارسية القديمة للتيارات الدينية الثلاثة، فمن الزرادشتية
(1)
المرجع السابق (27).
(2)
أديان الهند الكبرى، لأحمد شلبي (74).
(3)
المرأة في الفقه والقانون، لمصطفى السباعي (17).
إلى المانوية، إلى المزدكية، وقد تركت كل ديانة من هذه الديانات بصماتها الواضحة على كيان الأسرة والمجتمع، ويكفي أن نعرف ما عند المزدكية، فقد ظهر مزدك سنة 487 م ودعا إلى المنهج ذاته الذي سلكه زرادشت من القول بالثنائية في العالم، وأنه نشأ من أصلين: النور والظلمة، ولكنه خلع على النور والظلمة مفهومًا آخر غير مفهوم (ماني وزرادشت) فكان يرى في النور والظلام أنما أخوة، ومن ثم يرى أن الناس جميعًا سواسية، وما داموا كذلك فليعيشوا في حالة مساواة، وأهم ما تحب المساواة فيه هو: المال والنساء.
وفي ذلك يقول الشهرستاني: «وكان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك بسبب النساء والأموال، فقد أحل النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والهواء»
(1)
ويقول الطبري: «لقد ذهب مزدك وأصحابه إلى أن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتأسي، ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أهم يأخذون للفقراء، من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين. وأن من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى من غيره، فارتضي السفلة ذلك واغتنموه، وكاتفوا (مزدك) وأصحابه وشايعوهم، فابتلي الناس بهم، وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، وحملوا (قباذ) على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئًا
…
»
(2)
واستمر الوضع كذلك حتى قضى عليه كسرى أنو شروان.
(1)
الملل والنحل (2/ 86).
(2)
تاريخ الأمم والملوك (2/ 98).
وكانت النساء تحت سلطة الرجل المطلقة الذي كان يحق له أن يحكم عليها بالموت، أو ينعم عليها بالحياة طبقًا لما يراه وتطيب له نفسه، فكانت كالسلعة بين يديه.
كما كانت المرأة عندهم بخسة في الأدوار الطبيعية «كالحيض والنفاس» يُبْعدن في وقته عن المنازل، ويقمن في خيام صغيرة تضرب لهن في ضواحي المدينة أو البلدة، ولا يجوز مخالطتهن قطعًا، بل كانوا يعتقدون أنهم يتنحسون إذا مسوهم أو مسوا الخيام أو الأشياء المحيطة بهن
(1)
.
• أمّا الرومان فقد ابتدأوا حياهم بالمحافظة على نظام الأسرة وعلى معايير الشرف تمشيًا مع مستوى الأخلاق الذي كان مسيطرًا في بادئ أمرهم، وكانت الأم موضع تقدير واحترام، ولم تكن البغايا ومن يعاشرهن موضع تقدير، على الرغم من انتشارهن نسبيًّا في كبريات المدن، ولما توغل الرومان في الحضارة رقت أخلاقهم تدريجيًّا، وأصبح الاختلاط وغشيان المنتديات والحفلات منطلقًا لإبراز محاسن الأنثى، والتنافس في إرضائها أو إغوائها حتى كثر الفحش بين كبار العائلات، بعد أن كان تفاخر الأسر بحرص فتياها على العفاف.
ولم يعد لعقد الزواج عندهم معني سِوى أنه عقد مدني، يتوقف استمراره على رضا المتعاقدين، لذلك كان انفصام عرى الزوجية يتم لأتفه الأسباب.
ونتيجة لهذا التفلت من القيود التي كانت تحافظ عليها الأسرة الرومانية، تغيرت نظرهم إلى العلاقة غير الشرعية، فكثر الزين وانتشر الخنا.
وقد كان القانون الروماني يعتبر الأنثى سببًا من أسباب انعدام الأهلية
(1)
انظر: المرأة بين القديم والحديث لعمر رضا كحالة (1/ 132).
كحداثة السن والجنون، ولم تكن لها أي أهلية أو شخصية قانونية.
وكانت سلطة رب الأسرة على أبنائه وبناته تمتد حتى وفاته مهما بلغ سن الأبناء والبنات، كما كانت له سلطة -أيضًا- على زوجته وزوجات أبنائه وأبناء أبنائه، وكانت هذه السلطة تشمل البيع والنفي والتعذيب والقتل، وكان رب الأسرة هو مالك كل أموالها، فليس لفرد فيها حق التملك.
وعرف الرومان نوعًا من أنواع الزواج اسمه «الزواج بالسيادة» وبه تدخل المرأة في سيادة زوجها، وتصير في حكم ابنته، وتنقطع صلتها بأسرتها الأولى، ولقد بلغ من سيادة زوجها عليها، أن كانت تحال إليه إذا ما اتهمت بجريمة، ليحاكمها ويعاقبها بنفسه وكان له أن يحكم عليها بالإعدام في بعض التهم كالخيانة مثلًا، وكان إذا توفي عنها زوجها دخلت تحت وصاية أبنائه الذكور، أو إخوان زوجها أو أعمامه
(1)
.
وبذلك يتضح أن المرأة في الحضارة الرومانية مسلوبة الأهلية الإنسانية والقانونية.
• وعلى الرغم من أن اليونان من أرقى الأمم القديمة حضارة إلا أن المرأة عندهم كانت أنموذجًا يمثل مصدر مصائب الإنسان وآلامه حتى أسموها رجسًا من عمل الشيطان، مسلوبة العقل ليس لها حق التعليم.
يقول أرسطو: «إن الطبيعة لم تزود المرأة بأي استعداد عقلي يعتد به، ولذلك يجب أن تقتصر تربيتها على شؤون التدبير المنزلي والأمومة والحضانة وما إلى ذلك
…
ثم يقول: ثلاث ليس لهم التصرف في أنفسهم: العبد ليس له إرادة، والطفل له
(1)
انظر: الإسلام وقضايا المرأة، للبهي الخولي (11 - 12)، والمرأة بين الفقه والقانون، لمصطفى السباعي (15).
إرادة ناقصة، والمرأة لها إرادة وهي عاجزة»
(1)
.
وإذا انتقلنا إلى أفلاطون رائد المدرسة العقلية لم نجده أحسن فكرًا منه (فقد كان يضع النساء في مرتبة الأطفال والخدم ويرى أن الرجال هم أرقى منزلة من النساء، بينما يلاحظ «أيروبيد» أن النساء غير قادرات، ولا من أهل للعمل الصالح، بل هن آلات للشر وبث السوء في المجتمع)
(2)
.
ولذا فقد اقتصرت النساء في «أثينا» على الأعمال المنزلية وخدمة البيت، وإن كن في «إسبارطة» قد أعطين شيئا من الحقوق المدنية، فما ذلك عن سماحة منهم واعترافٍ بأهلية المرأة، وإنما كان ذلك لحاجة المجتمع الحربي للقوة فكانوا يدربون الفتاة الإسبارطية على الرياضة البدنية والمصارعة وقذف القرص والحربة وما إلى ذلك.
وقد جرد القانون اليوناني المرأة من حقوقها المدنية ووضعها تحت السيطرة المطلقة للرجل في مختلف مراحل حياتها بل يعتبرها من ممتلكات ولي أمرها قبل زواجها، ومن ممتلكات الزوج بعد الزواج، فكانت كسقط المتاع تباع وتشترى، ولم يعطوها حقًا في الميراث
(3)
.
وبعد استعراض سريع للحضارات القديمة أترك للقارئ فرصة التأمل ومعايشة أنواع الظلم والإهانة التي قاستها حواء في مجتمعات منزوعة الرحمة، مستعبِدة الضعفاء. ثم أنتقل إلى حال المرأة في ظل الأديان السابقة المحرفة التي قضت المرأة حياتها فيها في متاهات الذل والاحتقار، وأهدرت آدميتها بسبب تحريف الديانات السماوية عن موضعها، فاليهود عدُّوها سبب الخطيئة الأولى، والنصارى
(1)
المرأة من خلال الآيات القرآنية، لعصمة الدين كركر (27).
(2)
المرأة في القديم والحديث، لعمر رضا كحالة (170).
(3)
انظر: المرأة في التصور القرآني، لسوسن الحوّال (29).
عدُّوها البعد عن المرأة أساس دخول ملكوت السماوات.
• كانت النظم اليهودية مصطبغة بسمات صحراوية، وما برحت عاداتهم البدوية غلّابة على أجيالهم المتعاقبة، وفي التوراة إشارة إلى أصلهن الصحراوي، فقد جاء في سفر التثنية: «أن قسم الرب هو شعبة يعقوب حبل ونصبه، وجده في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب وإلى أن قال - أركبه على مرتفعات الأرض، فأكل ثمار الصحراء وأرضعه عسلًا من حجر وزيتًا من صوان الصخر)
(1)
ويؤكد هذا ما جاء على لسان يوسف عليه السلام حين ذكر نعم الله عليه وعلى أبويه حين جاء بهم من البدو
…
قال تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}
(2)
ولهذا قامت شريعة إسرائيل على ما يقتضيه نظام الأمة الحربية من خضوع المرأة للرجل، والرغبة في كثرة النسل، الذي هو ضرورة من ضرورات الحرب التي لا تغني فيها النساء شيئًا.
ويعدُّ اليهودُ المرأةَ لعنة، وأنها أغوت آدم، وأوقعته في شراك المعصية، لقد جاء عندهم في التوراة أن الرب سال آدم:(هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها. قال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت)
(3)
.
ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، فالموقف من المرأة عند اليهود هو موقف يتهمها منذ البداية، فقد ورد في العهد القديم عن المرأة ما يلي: «درت أنا وقلبي لأعلم ولأبحث وأطلب حكمة وعقلًا، ولأعرف الشر أنه جهالة، والحماقة
(1)
الكتاب المقدس، الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر التثنية، فقرة (9 - 13) ص:232.
(2)
يوسف: 100.
(3)
سفر التكوين، الإصحاح الثالث، الفقرتان: 11 - 12.
أنها جنون، فوجدت أمر من الموت: المرأة التي هي شباك، وقلبها إشراك، ويداها قيود»
(1)
.
كما أن شرعة اليهود تحرد المرأة من معظم حقوقها المدنية في مختلف مراحل حياتها، وتجعلها تحت وصاية أبيها وأهلها قبل الزواج، وتحت زواجها بعد الزواج، وتنزلها في كلا الحالتين منزلة الرقيق، بل إنها تبيح للوالد المعسر أن يبيع ابنته بيع الرقيق. يؤكد ذلك ما جاء في سفر الخروج ما نصه:«وإذا باع رجل ابنته أمة لا تخرج كما يخرج العبيد»
(2)
أي لا تعتق بل تظل أمة مدى الحياة.
والمتأمل لحال المرأة في المجتمع اليهودي يجدها لا تختلف عن المجتمعات البدائية فهي مملوكة لأبيها قبل الزواج، ثم تشترى منه عند نكاحها؛ لأن المهر كان يدفع لأبيها أو لأخيها على أنه من شراء، وبذلك تصبح مملوكة لزوجها، وهو سيدها المطلق، إذ إن العقد في شريعتهم «عقد سيادة» لا عقد زواج»
(3)
.
والمرأة في الشريعة اليهودية تورث كجزء من تركة الميت، فإذا مات زوجها ورثها وارثه مع بقية المتروكات وله أن يبيعها أو يعضلها، ومن ذلك ما جاء في العهد القديم في سفر التثنية:«إذا سكن أخوة معًا ومات واحد منهم، وليس له ابن فلا تصر امرأة الميت إلى خارج الرجل أجنبي. أخو زوجها يدخل عليها ويتخذها لنفسه زوجة، ويقوم لها بواجب أخ الزوج»
(4)
فبمجرد موت الزوج تصبح أرملته
(1)
سفر الجامعة، الإصحاح السابع، الفقرتان: 25 - 26، وسيأتي موقف الإسلام من أكل آدم وحواء من الشجرة، ص:(375).
(2)
الإصحاح الثالث: الفقرة: 8.
(3)
انظر: حقوق المرأة وواجباتها في ضوء الكتاب والسنة لفاطمة نصيف (34).
(4)
الإصحاح الخامس والعشرون، فقرة (5)، ص (318).
المسماة عند اليهود (يا باماه) زوجة تلقائيا لشقيق زوجها أو أخيه لأبيه، ولاسيما إذا لم تنجب لزوجها الأول ابنًا، سواءٌ أرضيت بذلك أم كرهت، ولا تحل لأحد غيره ما دام حيا إلا إذا تبرأ منها.
وبدهي أن المرأة التي تورث كالمتاع لا حق لها في الميراث، فالقاعدة أن الرجل إذا مات وليس له أبناء ورثه إخوته أو بنو عشيرته، أمّا النساء فلا نصيب لهن مما ترك الرجل بل كن يورثن، ثم بعد فترة ورثت التوراة البنت، إذا لم يكن للأب أبناء ذكور على أن تتزوج رجلًا من عشيرته كما جاء ذلك في سفر العدد:«وكل بنت ورثت نصيبًا من أسباط بني إسرائيل كل واحد نصيب أبنائه»
(1)
.
(ثم إن المرأة عندهم غير طاهرة من اليوم الذي تبدأ فيه بالشعور بأن عادها الشهرية قد اقتربت، وحتى إذا لم يكن هناك أثر ظاهر، وعلى الزوج عدم ملامستها ولا حتى بأصبعه الصغير ولا يسمح له بمناولتها أي شيء، ولا حتى شيئًا طويلًا، ولا أن يأخذ منها شيئًا من يده إليها أو العكس غير مسموح به أيضًا، ولا يسمح له بالأكل معها على نفس المائدة. إلا إذا فرق شيء بين طبقه وطبقها، ولا يسمح له بشرب ما تفضل منها في الكوب ولا يسمح لهما بالمبيت في السرير نفسه، ولا بالركوب معه في عربة واحدة أو قارب واحد، وإذا عملا في مكان واحد فيشترط ألّا يتلامسا، وإذا مرض زوجها ولم يكن هناك من يقوم عليه غيرها، فإنه مسموح لها بذلك ما دامت لا تلامسه ملامسة مباشرة، أما إذا مرضت المرأة فإن زوجها غير مسموح له بأن يقوم عليها حتى وإن لم يلمسها)
(2)
.
ومن هنا يظهر أن المرأة في اليهودية المحرّفة شَرٌّ لا بد منه، وآفة مرغوب
(1)
الإصحاح السادس والثلاثون، فقرة (8)، ص (376).
(2)
مجموعة من القوانين اليهودية والعادات، بقلم الحاخام أبي سلمان جاز فرايد (22).
فيها، محبوبة فتاكة.
• ولم تكن المرأة في النصرانية المحرّفة بأحسن حالًا من المرأة اليهودية. فقد عُّدوها أصل الخطيئة ورأس الشر؛ لأنها سبب كل الفساد وسبب خروج آدم من الجنة، وفي ذلك يقول صاحب كتاب المرأة في مختلف العصور:«كان لقصة آدم وحواء أشد الأثر في الإساءة إلى المرأة في بعض عصور المسيحية. فرجال مثل «ترتليان» قد ذهبوا إلى أن المرأة عون الشيطان في الأرض، أليست هي التي أطاعت الشيطان وعصت كلام الله؟ وهذه النظرة التي أسرف في شرحها «ترتليان» وبسط نتائجها، أثرت في تاريخ المرأة المسيحية، وكانت من أهم ما حال بينها وبين التقدم في كثير من العصور»
(1)
.
فكانت المرأة نتيجة لذلك مطالبة بنوع من سلوك معين حتى وهي داخل الكنيسة فقد أصدر بولس أوامر صارمة لأتباعه وكما يقول صاحب كتاب قصة الحضارة: «لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذونًا لهن أن يتكلمن، ولكن إذا كن يردن أن يتعلمن شيئًا فليسألن رجالهن في البيت؛ لأنه قبيح بالنساء أن تتكلم في الكنيسة»
(2)
.
ولقد تسربت إلى المسيحية فكرة الخوف من المرأة فقال «كريستوه» : «المرأة شر لا بد منه، وإغواء طبيعي، وكارثة لازمة، وخطر منزلي، وفتنة مهلكة، وشر عليه طلاء»
(3)
.
(1)
المرأة في مختلف العصور، للدكتور أحمد خاكي (33).
(2)
قصة الحضارة، «لول ديورانت» (3/ 278).
(3)
نقلته عنه د. فاطمة نصيف في حقوق المرأة وواجباتها (37).
وقد وصمت الكنيسة العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة بالنجاسة، ولذا يجب أن تجتنب، ولو كانت عن طريق نكاح مشروع، ومن هذه النظرة انتشرت الرهبانية لدى كثير من الرجال، وامتنعوا عن الزواج، كما انتشرت نظرت الازدراء لمن يكشف عن زواجه
…
؛ لأن علاقة الزواج مبنية على أمر نجس
(1)
.
وقد حرمت الكنيسة الطلاق، مهما بلغ التباغض بين الزوجين مداه، وأقصى ما يمكن اتخاذه في مثل هذه الحال، أن يفرق بينهما جسدية مع امتناع كل منهما عن الزواج حتى يفرق بينهما الموت
(2)
.
وفي عام 581 م عقد مجمع «ماكون» المشهور مؤتمرًا، ليبحث فيه بعض اللاهوتيين عن أصل المرأة وجنسها؟ وهل هي جسد ذو روح يناط بها الخلاص والهلاك أو لا؟ وهل لها أن تعبد الله كما يعبده الرجل؟!
(3)
.
ومن هنا يعلم ما عانته المرأة في ظل حكم البشر، وما طالها من الذل والاحتقار، وأنواع الصَّغار حتى انجلى الليل بظلمته، وتنفس نور الصباح ليغطي الكون لحجته، ونالت المرأة في الشرعة المحمدية، والملة الإسلامية ما حرمها البشر إياه، فأصبحت بحقٍّ شقيقةَ الرجل، فلله الحمد من قبل ومن بعد.
(1)
مقام المرأة في الإسلام، لمحمود بايللي (37).
(2)
المرجع السابق.
(3)
ينظر المرأة في التصور القرآني، لسوسن الحوّال (41)، حقوق المرأة وواجباتها.
ينظر: المزيد في أحوال المرأة في الحضارات القديمة والأديان السابقة إلى: المرأة بين الفقه والقانون (13 - 18)، المرأة في التصور القرآني، لسوسن الحوّال (27 - 42)، حقوق المرأة وواجباتها في ضوء الكتاب والسنة، لفاطمة نصيف (8 - 38)، مقام المرأة في الإسلام، لمحمود محمد بابللي (25 - 38)، الإسلام ومكانة المرأة، لمحمد عبد العليم (21 - 46).
المبحث الثاني المرأة العربية في العصر الجاهلي
لقد تكلم القرآن والسنة عن حال المرأة قبل بزوغ شمس الإسلام، تذكيرًا للنساء بمنة التحرير من قيود الذل والإهانة، وما أضفى إليهن من مكارم ومكانة فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه.
وإليك هذه الجوانب التي تبين وضع المرأة وواقعها في ذلك العصر من خلال النص.
ويشتمل هذا المبحث على خمسة مطالب:
المطلب الأول: مكانة المرأة.
المطلب الثاني: وأد البنات.
المطلب الثالث: زواج المرأة.
المطلب الرابع: طلاق المرأة، ونظام عدها.
المطلب الخامس: حقوق المرأة المالية.
المطلب الأول: مكانة المرأة
لقد أبغض العرب البنات، وكان أحدهم إذا بشر بمولوده أنثى علا وجهه السواد كآبة، وامتلأ قلبه حزنًا، ثم فكّر في مصير تلك الأنثى أيمسكه على هون، أم يدسه في التراب؟ يقول الله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
(1)
.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات الكريمة من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم، ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال:
إني وإن سيق إلىّ المهرُ
(1)
النحل: 57 - 59.
ألفٌ وعبدان وذود عشرُ
أحب أصهاري إلىّ القبر
(1)
.
ويروى لعبد الله بن طاهر قوله:
لكل أبِ بنت يراعي شؤونها
…
ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها
…
وقبر يواريها وخيرهم القبر
فكانوا يؤثرون موت البنت على حياتها وزواجها، مهما عظم الزوج، وكثر المهر. وكانوا يقولون لمن يولد له بنت: أمنكم الله عاركم، وكفاكم مؤنتها، وصهرت القبر
(2)
.
يقول الرازي في تفسيره: «أما قوله {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} فالمعنى أنه يصير متغيرًا تغير مغتم، ويقال لمن لقي مكروهًا: قد أسود وجهه غمًّا وحزنًا، وأقول: إنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم؛ وذلك لأن الإنسان إذا قوي فرحه، انشرح صدره، وانبسط روح قلبه من داخل القلب، ووصل إلى الأطراف ولا سيما إلى الوجه؛ لما بينهما من التعلق الشديد، وإذا وصل الفرح إلى ظاهر الوجه، أشرق الوجه، وتلألأ، واستنار، وأمّا إذا قوي غم الإنسان احتقن الروح في باطن القلب، ولم يبق منه أثر قوي في ظاهر الوجه، فلا جرم يَرْبدُّ الوجه، ويصفرَّ، ويسودُّ، ويظهر فيه أثر الأرضية والكثافة، فثبت أن من لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه، ومن
(1)
ينظر: المرأة في الشعر الجاهلي، لأحمد محمد الحوفي (291).
(2)
المرأة في الشعر الجاهلي (290).
لوازم الغم كمودة الوجه، وغيرته وسواده
…
ولهذا المعين قال: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} أي: ممتلئ غما وحزنًا»
(1)
.
وتأمل في الآية موقف الجاهليين من الإناث:
1 -
امتلاء القلب حزنًا وغيظًا، واسوداد الوجه؛ لسوء ما بشر به.
2 -
اختفاؤه من صحبه من سوء ما بشر به، لئلا يروا ما هو فيه من الحزن والكآبة؛ أو لئلا يشمتوا به ويعيروه
(2)
.
3 -
التفكير في مآل ذاك الإنسان، واتخاذ قرار يصادم إنسانية الأب والطفلة {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} فهو بين أمرين: إمّا أن يُمْسكه على هون، والضمير الظاهر في «يُمْسكه» يعود على «ما» في قوله {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} فهو إمّا أن يبقي المولودة على هوان وذل لها -والهون بمعنى الهوان لغة لقريش
(3)
- أو يدفنها حية في التراب فيئدها.
ففكره بين أمرين: إمّا حياة ذل، أو موت وأد -فلا حول ولا قوة إلا بالله- ثم ختم الرب -جل وعلا- آياته بسوء حكمهم، إذ نسبوا له ما يكرهون سبحانه، واختاروا لأنفسهم ما يشتهون.
- وكذا قال سبحانه: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}
(4)
.
(1)
التفسير الكبير (20/ 45).
(2)
انظر: الكشاف، للزمخشري (2/ 572)، أضواء البيان، للشنقيطي (2/ 387).
(3)
انظر: تفسير الطبري (13/ 124).
(4)
النحل: (62).
واتفق المفسرون على تأويل قوله: {مَا يَكْرَهُونَ} بالبنات
(1)
، واختلفوا في قوله:{الْحُسْنَى} :
1 -
(2)
فانظر إلى التبرير الفاسد في وأد البنت، ونسبتها للرب، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
2 -
قال ابن كثير: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسين في الدنيا، وإن كان ثم معاد ففيه -أيضًا- لهم الحسني، وإخبار عن ما قال بعضهم كقوله:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}
(3)
(4)
…
»
(5)
.
وعلى كل فأقوال المفسرين اختلفت اختلاف تنوع لا تضاد، فلا مانع من حمل الآية على كلا المعنيين.
(1)
انظر: تفسير الطبري (14/ 126)، الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (10/ 120)، الدر المنثور (5/ 141)، تفسير ابن كثير (2/ 574).
(2)
التفسير (14/ 126).
(3)
هود: 10.
(4)
فصلت: 50.
(5)
التفسير (2/ 574).
كما قال تعالى ينكر عليهم قسمتهم الضيزي: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
(1)
(2)
.
وقال: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}
(3)
.
بل كان أهل الجاهلية يستأثرون بالطيب الأعلى، ويشركون نساءهم في الخبيث قال تعالى:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
(4)
.
قال ابن عباس: هو اللبن كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربه ذكراهم، وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثي تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء فنهى الله عن ذلك، وكذا قال السدي.
وقال الشعبي: البحيرة
(5)
لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء، وكذا قال عكرمة، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن سلم
(6)
.
(1)
الصافات: 151 - 154.
(2)
الزخرف: 15 - 19.
(3)
النجم: 21 - 22.
(4)
الأنعام: 139.
(5)
البحيرة هي: الناقة إذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها وتركت.
(6)
عزى الأقوال إليهم الطبري في تفسيره (8/ 48)، وابن كثير في التفسير (2/ 181)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 365).
وعلى هذا فإن ما في بطون الأنعام دائر بين الألبان أو الأجنة.
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أُنِّثتْ الخالصة، فقال بعض نحويّي البصرة، وبعض الكوفيين: أُنِّثتْ لتحقيق الخلوص؛ لأنه لما حقق لهم الخلوص أشبه الكثرة، فجرى مجرى راوية ونسابة.
وقال بعض نحويّي الكوفة: أُنِّثتْ لتأنيث الأنعام؛ لأن ما في بطونها مثلها، فأُنِّثت لتأنيثها.
ورجحّ الطبري الأول من الأقوال؛ وأريد بذلك المبالغة في خلوص ما في بطون الأنعام التي كانوا حرموا ما في بطوها على أزواجهم فجعلوها لذكورهم دون إناثهم
(1)
.
فانظر إلى قسمتهم الضيزى، بل ونسبتهم هذه الشرعة الجائرة إلى الله، تعالى الله عن قولهم.
ولا غرو في هذه القسمة، وذاك التفضيل، لأن قراره الأول حال ولادتها:
{أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} ، فما اتخذه من قسمة جرى فيه على قراره الأول.
المطلب الثاني: وأد البنات
معنى الوأد:
لقد حرم الجاهليون المرأة حقها في الحياة إنسانًا، فقتلوها بطريقة بشعة، تدل على الهمجية، وغياب الرحمة والإنسانية، وذلك بوأد البنت وهي أن تدفن حية في التراب حتى تموت
(2)
، وفيه تناسب متسق بين وأد البنت والمعنى اللغوي؛ إذ أن أصل الوأد
(1)
ينظر: تفسير الطبري (8/ 49)، التفسير الكبير، للرازي (13/ 171).
(2)
انظر: النهاية (5/ 142)، لسان العرب (3/ 443)، مادة (و أ د).
الشدة، ومنه سمّي الصوت العالي الشديد وئيدًا، وشدة الوطء على الأرض وئيدًا
(1)
، وفي قتل الطفلة حية من الشدة ما لا يخفى سواءٌ من جهة الأب غائب القلب، أو الشدة على المظلومة، وما يتبعه من صوت عال شديد مستنجد بالمحرم القاتل، أو الشدة في طريقة إزهاق الروح، وقتل النفس بغير الحق.
طريقة الوأد:
(2)
.
أسباب الوأد:
1 -
كراهيتهم لجنس الإناث
(3)
، وقد ذكر الرب هذا السبب في كتابه فقال:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
(4)
. ولذا جاء بعد هذه الآيات: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}
(5)
.
(1)
ينظر: اللسان (3/ 443)، مادة (و أ د).
(2)
الكشاف (4/ 708).
(3)
ينظر: الفتح (10/ 406).
(4)
النحل: 58 - 59.
(5)
النحل: 62.
2 -
خوفًا عليهن من السبي والعار، فقتلهن حمية وغيرة، ويقال إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، حين أغار عليه النعمان بن المنذر بعد أن منعته تميم الإتاوة فحاربهم، وسبي نساءهم، وأسر بنته فاتخذها لنفسه، ثم حصل بينهم صلح، فخير ابنته فاختارت زوجها، فآلى على نفسه ألا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك
(1)
، وروي أن قيسًا وأد بضع عشرة بنتًا
(2)
.
3 -
وكان من العرب فريق ثان، يقتلون أولادهم مطلقًا؛ إمّا نَفَاسةً منه على ما ينقصه من ماله، وإمّا من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكرهم الله في القرآن فقال:{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}
(3)
(4)
، والآيتان وإن كانتا على العموم في النهي عن قتل الأولاد ذكرانًا وإناثًا، إلا أن الإناث يدخلن دخولًا أوّليًّا لما عُرِف من عادات العرب في الجاهلية من وأدهم البنات. ولذا قال الرازي في تفسيره عند تفسير سورة الأنعام:«والمراد منه النهي عن الوأد؛ إذ كانوا يدفنون البنات أحياء: بعضهم للغيرة، وبعضهم خوف الفقر وهو السبب الغالب»
(5)
.
وممن جعل آية الإسراء في وأد البنات قتادة، والبغوي، والزمخشري، والقرطبي، والبيضاوي، وابن كثير
(6)
وغيرهم، وليس معنى هذا أنهم لم يقتلوا الابن
(1)
ينظر: الفتح (10/ 406).
(2)
ينظر: بلوغ الأرب، لشكري الألوسي (3/ 43).
(3)
الأنعام: 151.
(4)
الإسراء: 31.
(5)
التفسير الكبير (13/ 190).
(6)
عزاه لقتادة السيوطي في الدر المنثور (3/ 383). وانظر: معالم التنزيل (3/ 113)، والكشاف (2/ 62)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 132)، وأنوار التنزيل (3/ 443)، وتفسير ابن كثير (3/ 39).
من الفقر؛ لكن غالب القتل وقع على الأنثى.
وتأمل -رحمك الله- تقديم ضمير الأولاد على المخاطبين في سورة الإسراء على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إفاضة الرزق؛ أو لأن الباعث على القتل هناك الإملاق الناجز ولذلك قيل: «من إملاق» وهاهنا الإملاق المتوقع، ولذلك قيل «خشية إملاق»
(1)
.
فهم يزهقون الأنفس البريئة سواءٌ عايشوا الفقر أو خافوا معايشته، وجاء في الحديث الذي أخرجه البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» قلت: إن ذلك لعظيم. قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟: قال: «أن تزني بحليلة جارك» . واللفظ للبخاري.
فلم يحرم الإسلام قتل الولد مخافة الفقر فحسب، بل عده من أعظم الذنوب عند الله.
أعلام استنقذوا البنات مِنْ الوأد:
ولم تخل المجتمعات من أصحاب القلوب الرحيمة، والمواقف العظيمة الذين دفعوا أموالهم لشراء الأرواح، واستنقاذ البنات، فماتوا وما زال ذكرهم حيًا، يفوح مسكًا جليًّا، وممن خلد التاريخ اسمه: زيد بن عمرو بن نفيل، قال
(1)
ينظر: تفسير أبي السعود (5/ 169).
(2)
في صحيحه في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {? ? ?? ? ? ?} البقرة: 22 (4/ 1626)4207.
(3)
في صحيحه في كتاب الإيمان، باب: كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده (1/ 90)86.
البخاري في صحيحه
(1)
: وقال الليث: كتب إليّ هشام، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائمًا مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموءودة، ويقول للرجل: إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها.
ووصله النسائي في السنن الكبرى
(2)
، والمحاملي في أماليه
(3)
، والحاكم في المستدرك
(4)
ثلاثتهم من طريق أبي أسامة، والطبراني في المعجم الكبير
(5)
، من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، والحافظ في تغليق التعليق
(6)
من طريق الليث كلهم عن هشام بن عروة به بنحوه.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
قلت: وهو كما قالا.
كما اشتهر -أيضًا- صعصعة بن ناجية بإحياء الموءودات، وامتدحه بذلك حفيده الفرزدق فقال:
(1)
كتاب فضائل الصحابة، باب: حديث زيد بن عمور بن نفيل (3/ 1391)3616.
(2)
(5/ 54)8187.
(3)
11.
(4)
(3/ 498)5859.
(5)
(24/ 82)216.
(6)
(4/ 84) 3828، وانظر: الفتح (7/ 145).
ومنّا الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأدِ
(1)
.
وحق للفرزدق أن يفخر به، فنعم الرجل هو
(2)
-وقد كانت له صحبة- ونعم المكرمة مكرمته.
أخرج ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(3)
، والعقيلي في الضعفاء
(4)
، والطبراني في الكبير
(5)
ثلاثتهم من طريق طفيل بن عمرو، عن صعصعة بن ناجية: قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليّ الإسلام، فأسلمت، وعلمني آيات من القرآن، فقلت: يا رسول الله إني عملت أعمالًا في الجاهلية فهل لي فيها من أجر؟ قال: «وما عملت؟» فقلت: ضلت ناقتان لي عشراوان، فخرجت أبتغيهما على جمل لي، فرفع لي بنيان في فضاء من الأرض، فقصدت قصدها، فوجدت في أحدهما شيخًا كبيرًا، فقلت: هل احتسستم ناقتين عشراوين، قال: وما ناراهما؟
(6)
قلت: ميسم بن دارم. قال: قد أصبنا ناقتيك، ونتجناهما، وقد نعش الله مما أهل بيت من قومك من العرب من مضر، فبينما هو يخاطبني إذ نادت امرأة من البيت الآخر قد ولدت. قال: وما
(1)
بيت من قصيدة له، من البحر المتقارب، عدد أبياتها واحد وأربعون، ومطلعها:
عرفت المنازل من مَهدَدِ
…
كوَحي الزبور لدى الغرقد
ديوان الفرزدق (82).
(2)
انظر ترجمته في: الاستيعاب (2/ 718) 1213، أسد الغابة (3/ 102) 1102، الإصابة (3/ 429)4072.
(3)
(2/ 402)1197.
(4)
(2/ 228) ترجمة الطفيل: 775.
(5)
(8/ 76)7412.
(6)
ما ناراهما أي: ما سمتهما التي وسمتا بها، والسمة العلامة. ينظر: غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 440)، لسان العرب (5/ 243) مادة (ن و ر).
ولدت إن كان غلامًا فقد شركنا في قومنا، وإن كانت جارية فادفناها. فقالت: جارية. فقلت: وما هذه الموءودة؟ فقال: ابنة لي. فقلت: إني اشتريها منك. قال: يا أخا بني تميم، أتقول أتبيع ابنتك، وقد أخبرتك أني رجل من العرب من مضر. فقلت: إني لا أشتري منك رقبتها، إنما أشتري روحها ألا تقتلها. قال: بم تشتريها؟ قال: بناقتَّي هاتين وولديهما. قال: وتزيدني بعيرك هذا؟ فقلت: نعم، على أن ترسل معي رسولًا؟ فإذا بلغت أهلي رددت إليك البعير، ففعل، فلما بلغت أهلي، رددت إليه البعير. فلما كان في بعض الليل فكرت في نفسي، فقلت: إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، وظهر الإسلام، وقد أحييت ثلاث مائة وستين من الموءودة، أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا باب من البر، ولك أجره إذ مَنَّ الله عليك بالإسلام» قال عباد (أحد رواة الحديث): مصداق قول صعصعة -ؤضي الله عنه- قول الفرزدق:
وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يؤادِ
(1)
.
واللفظ للطبراني.
قال البخاري بعد إيراده الحديث
(2)
: «فيه نظر» وقال في ترجمة طفيل
(3)
: «لم يصح حديثه» .
قال الهيثمي في المجمع: «رواه الطبراني في الكبير والبزار، وفيه الطفيل بن عمرو التميمي، قال البخاري: «لا يصح حديثه» (كذا في
(1)
تقدم تخريجه ص (44).
(2)
التاريخ الكبير (4/ 319) ترجمة صعصعة: (2978).
(3)
المصدر السابق (4/ 319) ترجمة: 364.
المجمع). وقال العقيلي
(1)
: «لا يتابع عليه)
(2)
. ولم أقف عليه في المطبوع من مسند البزار.
وإسناد الحديث ضعيف؛ لضعف طفيل بن عمرو.
قال الحافظ في الإصابة: «ويقال: إنه (أي: صعصعة) أول من فعل ذلك أي: أحيا الموءودة) قلت: وقد ثبت أن زيد بن عمرو بن نفيل كان يفعل ذلك، فيحتمل أوّليّة صعصعة على خصوص تميم ونحوهم، وأوّليّة زيد على خصوص قريش»
(3)
.
ولم يكتمل إحياء الموءودات إلا بعد بزوغ شمس البعثة المحمدية؛ الذي ضمن للمرأة حقها في الحياة، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
المطلب الثالث: زواج المرأة
• لا تتعجب كثيرًا وأنت ترى المرأة عندهم مهانة منذ نعومة أظافرها وحتى تكبر؛ لأن هذا يتفق مع أصل الجاهلي الفاسد الذي علق بقاء المرأة به:
(4)
.
أخرج البخاري
(5)
من طريق عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم،
(1)
لفظ العقيلي: لا يتابع على حديثه. (2/ 228) ترجمة (775).
(2)
(1/ 95).
(3)
(3/ 430) ترجمة: (4072).
(4)
النحل: 59.
(5)
في صحيحه في كتاب النكاح، باب: من قال لا نكاح إلا بولي (5/ 1970)4834. وانظر شرح مستوفى في: إرشاد الساري (6/ 108)، فتح الباري (9/ 188).
يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نيابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت، ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل، ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم».
وتأمل -رحمك الله- الصور الثلاث الأخيرة للنكاح ترى مدى التدني في الأخلاق والتصورات والقيم، والحياة البهيمية التي عوملت بها المرأة، ويكفي أن تتصور الرجل يرسل امرأته إلى آخر لتأتيه بولد نجيب، كما ترسل الناقة إلى الفحل ليضربها، وما ذاك إلا إساءة بالغة لإنسانيتها، فأبطل الإسلام هذه الأنكحة الفاسدة، وأقرّ الصالح منها.
• بل كان الواحد منهم يرسل أمته لتزني، ويجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى عن ذلك
(1)
، وأنزل الله سبحانه:
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 289).
(1)
وسبب نزول الآية ما أخرجه مسلم
(2)
من حديث جابر أن جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزني، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل:{تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} ولم يقتصر في القرآن عن الإكراه على الزنى فحسب، بل يعم جميع صوره سواءٌ كانت الفتاة مكرهة أم لا، وأمّا قوله تعالى:{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} فليس شرطًا؛ وإنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة؛ لأن ذلك هو الذي يصدق عليه الإكراه، فأما إذا كانت راغبة في الزنى فإنها بغي تمنع
(3)
.
وقال ابن كثير: «{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} هذا خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له»
(4)
.
وفيه من زيادة تقبيح حالهم، وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ما لا يخفى، فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه فضلًا عن أمرهن به، أو إكراههن عليه ولا سيما مع إرادتهن من التعفف.
ومن هنا يظهر ظلم النساء حرائر كُنَّ أم إماء.
• بل نال ظلمهم يتامى النساء، فإن الرجل تكون عنده اليتيمة إن أعجبه حسنها نكحها بعد أن يبخسها حقها، وإن لم تعجبه عضلها ليأخذ مالها.
(1)
النور: 33.
(2)
في صحيحه في كتاب التفسير، باب: في قوله تعالى: {? ? ? ? ?} (4/ 2320)3029.
(3)
ينظر: تفسير البغوي (3/ 344)، الكشاف (3/ 245)، تفسير القرطبي (12/ 254)، تفسير البيضاوي (4/ 186)، تفسير السعدي (1/ 568).
(4)
التفسير (3/ 290).
أخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}
(3)
فقالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشاركه في مالها، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا من أعلى سننهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن
…
، واللفظ للبخاري.
وأخرج البخاري
(4)
، ومسلم
(5)
من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكم فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}
(6)
قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها، فأشركته في ماله حتى في العَذْق
(7)
، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلًا فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها، فنزلت هذه الآية. واللفظ للبخاري.
فاليتيمة عندهم مظلومة سواءٌ رغب في نكاحها أو عنه.
(1)
في صحيحه في كتاب الشركة، باب: شركة اليتيم وأهل الميراث (2/ 883)2362.
(2)
في صحيحه في كتاب التفسير، باب:(4/ 2313)3018.
(3)
النساء: 3.
(4)
في صحيحه في كتاب التفسير، باب: في قوله تعالى: {? ? ?? ? ? ? ?} النساء: 127.
(5)
في صحيحه في كتاب التفسير: (4/ 23015) 3018 - 3019.
(6)
النساء: 127.
(7)
قال في الفتح (8/ 239): «بفتح العين المهملة، وسكون المعجمة، النخلة» وانظر: النهاية (3/ 199) مادة (ع ذ ق).
• وأما تعدد الزوجات، فقد كان محل فخر عندهم، ولم يكن محدودًا بحد، ولا مقيدًا بعدد.
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه
(1)
، وأحمد في المسند
(2)
، وابن ماجه في السنن
(3)
، والترمذي في السنن
(4)
، والدراقطني في السنن
(5)
، وابن حبان في صحيحه
(6)
، والحاكم في المستدرك
(7)
، والبيهقي في السنن
(8)
كلهم من طرق عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: أسلم غيلان بن سلمة، وتحته عشر نسوة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «خذ منهن أربعًا
…
» واللفظ لابن ماجه.
والحديث بمجموع طرقه وشواهده صحيح
(9)
.
وله شاهد من حديث قيس بن الحارث قال: «أسلمت وعندي ثمان نسوة
(1)
(4/ 3)17182.
(2)
(8/ 221)4609.
(3)
(1/ 628)1953.
(4)
(3/ 435)1128.
(5)
(3/ 269)95.
(6)
(9/ 465)4157.
(7)
(2/ 209)2779.
(8)
(7/ 181)13819.
(9)
تتبعت طرق الحديث، والخلاف في وصله وإرساله، ووهم معمر فيه، ولولا خوف الإطالة؛ لأوردت ما ذكر من كلام أهل العلم فيه، وبما أنه ليس من الأحاديث التي يدور الموضوع حولها، فقد آثرت الاختصار، وأحيل القارئ للاستزادة في الحكم على الحديث على: التلخيص الحبير (3/ 168)، إرواء الغليل (6/ 292) 1883، مسند الإمام أحمد، بإشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط على التحقيق (8/ 221)4609.
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اختر منهن أربعًا» أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه
(1)
، وأبو داود في سننه
(2)
، وابن ماجه في السنن
(3)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(4)
، والبيهقي في السنن
(5)
. واللفظ لابن ماجه. وفي رواية أبي داود والبيهقي:
«عن الحارث بن قيس» وقال: «الصواب قيس بن الحارث» وحسنه الألباني
(6)
.
• بل ربما جمع الرجل عندهم بين الأختين، متناسيًا مشاعر الغيرة عند الأنثى، وما يجر من هجر وقطيعة رحم، أخرج الإمام أحمد في المسند
(7)
، وأبو داود في سننه
(8)
، وابن ماجه في سننه
(9)
، والترمذي في جامعه
(10)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(11)
، والطحاوي في شرح مشكل الآثار
(12)
، وابن حبان في
(1)
(4/ 3)17184.
(2)
(2/ 272)2241.
(3)
(1/ 628)1952.
(4)
(2/ 292)1054.
(5)
(7/ 149)13624.
(6)
إرواء الغليل (6/ 292)1885.
(7)
(29/ 574)18040.
(8)
(2/ 272)2243.
(9)
(1/ 627)1951.
(10)
(3/ 436) 1129، 1130.
(11)
(5/ 311)2847.
(12)
(4/ 227).
صحيحه
(1)
، والدارقطني في السنن
(2)
، والطبراني في الكبير
(3)
، والبيهقي في السنن الكبرى
(4)
، والمزي في تهذيب الكمال
(5)
من حديث الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أسلمت وتحتي أختان. قال: «اختر أيتهما شئت» واللفظ للترمذي. وقال: حديث حسن، وصححه ابن حبان، والدارقطني كما في تهذيب التهذيب
(6)
، والبيهقي في المعرفة
(7)
، وحسنه الألباني
(8)
.
ومن هنا يرى القارئ الكريم ما عانته المرأة في ظل جاهلية العرب من أنكحة باطلة، وظلم للحرائر والإماء، وأكل مال اليتيمة، وتعدد الزوجات لم يضبط بعدد، ولم يقيد بشرع، حتى جاء الإسلام، وبزغت شمس العدالة فرفع الظلم عن النساء.
المطلب الرابع: طلاق المرأة، ونظام عدتها
طلاق أهل الجاهلية:
وما زلنا نتأمل قول الله تعالى في حال أهل الجاهلية مع الأنثى: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} فلا تعجب حين ترى ظلمًا للمرأة في زواجها، وفراقها، فكما نالها ظلمه حين العقد، لحقها ظلمه عند الفسخ.
(1)
(9/ 462)4155.
(2)
(3/ 274)106.
(3)
(18/ 328)843.
(4)
(7/ 184)13836.
(5)
(13/ 278) ترجمة: (2925).
(6)
(4/ 394) ترجمة: (790).
(7)
(4/ 101).
(8)
صحيح سنن أبي داود «الأم» (7/ 12)1940.
أخرج أبو داود في سننه
(1)
، والنسائي في المجتبي
(2)
، والبيهقي في الكبري
(3)
، من طريق عكرمة عن ابن عباس قال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}
(4)
وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك وقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}
(5)
.
يقول القرطبي في قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} : «ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام برهةً، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أُؤيك ولا أدعك تحلين. قالت: وكيف؟ قال: أطلقك، فإذا دنا مُضي عدتك راجعتك، فشكت المرأة ذلك إلى عائشة. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانًا لعدد الطلاق
…
».
والحديث الذي أشار إليه القرطبي أخرجه الشافعي في المسند
(6)
، والترمذي في السنن
(7)
، والحاكم في المستدرك
(8)
.
قال الترمذي: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن هشام بن
(1)
(2/ 259)2195.
(2)
(6/ 212)3554.
(3)
(7/ 237)14752.
(4)
البقرة: 228.
(5)
البقرة: 229.
(6)
(1/ 192).
(7)
(3/ 497)1192.
(8)
(2/ 307)3106.
عروة، عن أبيه نحو هذا الحديث بمعناه، ولم يذكر فيه عن عائشة وهذا أصح من حديث يعلى بن شبيب.
قلت: المرسل أصح من الموصول؛ لأن الموصول من رواية يعلى بن شبيب وهو لين الحديث كما قال الحافظ
(1)
، وأمّا المرسل فمن رواية عبد الله بن إدريس وهو ثقة أخرج له الجماعة
(2)
.
ومن قراءة ما ورد في الطلاق في الجاهلية، يظهر ما لحق المرأة من ضرر، وما كانت تلقاه من ظلم وتعنت حتى أصبحت ألعوبة في يد الرجل، يطلقها مني شاء كيفما شاء، حتى رفع الإسلام ظلم الرجل لها، وتسلطه عليها.
نظام العدة:
كما عانت المرأة الظلم من انفصال زوجها عنها في حياته، فكذلك طالها ظلم مجتمعه بعد وفاته.
أخرج البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من طريق حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة أخبرته بحديث طويل، فيه:«سمعت أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا. مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول لا» ، ثم قال
(1)
التقريب (1090) ترجمة: (7896).
(2)
التقريب (491)3224.
(3)
في صحيحه كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا
…
(5/ 2041)5024.
(4)
في صحيحه كتاب الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيّام (2/ 1123)1486.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبَعرة على رأس الحول» قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حِفْشًا، ولبست شر ثيابها، ولم تمسَّ طيبًا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة -حمار أو شاة أو طائر- فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة، فترمي. ثم تراجع بعدُ ما شاءت من طيب أو غيره. سئل مالك: ما تفتض به؟ قال: تمسَحُ به جلدها. واللفظ للبخاري.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: «معناه لا تستكثرن العدة، ومنع الاكتحال فيها فإنها مدة قليلة، وقد خففت عنكن، وصارت أربعة أشهر وعشرا بعد أن كانت سنة، وفي هذا تصريح بنسخ الاعتداد سنة، المذكور في سورة البقرة في الآية الثانية
(1)
، وأما رميها بالبعرة على رأس الحول فقد فسره في الحديث. قال بعض العلماء: معناه: أنها رمت العدة، وخرجت منها كانفصالها من هذه البعرة، ورميها بها.
وقال بعضهم: هو إشارة إلى أن الذي فعلته، وصبرت عليه من الاعتداد سنة، ولبسها شر ثيابها، ولزومها بيتًا صغيرًا هين بالنسبة إلى حق الزوج، وما يستحقه من المراعاة كما يهون الرمي بالبعرة، قوله (دخلت حِفشا) هو بكسر الحاء المهملة، وإسكان الفاء، وبالشين المعجمة -أي: بيتًا صغيرًا حقيرًا قريب السُمك، قوله:(ثم تؤتى بدابة -حمار أو شاة أو طير- فتفتض به) هكذا هو في جميع النسخ، فتفتض، بالفاء والضاد، قال ابن قتيبة: سألت الحجازيين عن معن الافتضاض فذكروا أن
(1)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} البقرة: 240.
المعتدة كانت لا تغتسل، ولا تمس ماء، ولا تقلم ظفرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض أي: تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها، وتنبذه، فلا يكاد يعيش ما تفتض به
…
»
(1)
.
فهل رأيت عدة تظلم المرأة كهذه العدة، تعيش فيها المرأة في حِفْش، وتلبس شر الثياب، ولا تمس ماء، ولا تقلم ظفرًا، فجمعت بين قبح المسكن والملبس بل والمخرج، فإذا خرجت رميت بالبعرة بعد حول من العذاب، وافتضت بطير، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
المطلب الخامس: حقوق المرأة المالية
لم يعد مستغربًا أن ترى المرأة مسلوبة الحقوق المالية، كيف لا وهي التي أُهدرت آدميتها، وأُلغيت إنسانيتها من قبل جاهليين لا يحكمون شرعًا ولا عقلًا.
أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث طويل لعمر بن الخطاب، فيه إيلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا قول عمر:«والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم» .
وجاءت روايات أخرى للحديث تبين مكانة النساء، قال الحافظ: «قوله:
(1)
(10/ 115).
(2)
في صحيحه في كتاب التفسير، باب:{تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} التحريم: 1. (4/ 1866) 4629.
(3)
في صحيحه في كتاب الطلاق، باب: في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهم وقوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} والتحريم: 4 (2/ 1105)1479.
وكنا معشر قريش نغلب النساء»
(1)
أي نحكم عليهن، ولا يحكمن علينا بخلاف الأنصار، فكانوا بالعكس من ذلك، وفي رواية يزيد بن رومان «كنا ونحن مكة لا يكلم أحد امرأته إلا إذا كانت له حاجة، قضى منها حاجته» وفي رواية عبيد بن حنين «ما نعد للنساء أمرًا» وفي رواية الطيالسي «كنا لا نعتد بالنساء، ولا ندخلهن في أمورنا»
(2)
.
ومن الأثر يظهر أن المرأة لم يقسم لها حق معنوي ولا مادي، أمّا المعنوي فيؤيده روايات الحديث التي أوردها الحافظ، ومن سلبت حقوقه المعنوية فحقوقه المالية من باب أولى، ويشهد لهذا -أيضًا- قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}
(3)
.
وأخرج البخاري
(4)
عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك.
يقول الرازي: «
…
واعلمْ أن أهل الجاهلية كانوا يؤذون النساء بأنواع كثيرة من الإيذاء، ويظلمونهن بضروب من الظلم، فالله تعالى نهاهم عنها في هذه الآيات.
(1)
صحيح البخاري كتاب النكاح، باب: موعظة الرجل ابنته لحال زوجها (5/ 1991)4895.
(2)
الفتح (9/ 1281).
(3)
النساء: 19.
(4)
في صحيحه في كتاب التفسير، باب:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (4/ 1670)4303.
فالنوع الأول: قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: كان الرجل في الجاهلية إذا مات، وكانت له زوجة، جاء ابنه من غيرها، أو بعض أقاربه، فألقى ثوبه على المرأة، وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله، فصار أحق بها من سائر الناس، ومن نفسها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من إنسان آخر، وأخذ صداقها، ولم يعطها شيئًا. فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبيّن أن ذلك حرام، وأن الرجل لا يرث امرأة الميت منه، فعلى هذا القول المراد بقوله:{أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ} عين النساء، وأنهن لا يورثن من الميت
(1)
.
والقول الثاني: أن الوراثة تعود إلى المال، وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج حتى تموت، فيرثها مالها، فقال تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا} أموالهن وهن كارهات.
المسألة الثانية:
…
{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} العضل المنع، ومنه الداء العضال، واختلف في المخاطب في قوله {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} على أقوال:
الأول: أن الرجل منهم قد كان يَكْره زوجته، ويريد مفارقتها، فكان يسيء العشرة معها، ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها. وهذا القول
(1)
انظر: الآثار الدالة على ذلك في: العجاب في بيان الأسباب، لابن حجر (2/ 850)؛ الدر المنثور (2/ 462 - 464).
اختيار أكثر المفسرين
(1)
.
الثاني: أنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوج بمن شاءت وأرادت كما كان يفعله أهل الجاهلية وقوله: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} معناه: أهم كانوا يحبسون امرأة الميت، وغرضهم أن تبذل المرأة ما أخذت من ميراث الميت.
الثالث: أنه خطاب للأولياء، ونهي لهم عن عضل المرأة.
الرابع: أنه خطاب للأزواج، فإنهم في الجاهلية كانوا يطلقون المرأة، وكانوا يعضلوهن عن التزوج، ويضيقون الأمر عليهن؛ لغرض أن يأخذوا منهن شيئًا.
الخامس: أنه عام في الكل
(2)
.
وهكذا استمر الاستيلاء على ذات المرأة ومالها حتى أشرقت نور العدالة، وجاء الإسلام لإبطال عمل الجاهليين، أخرج النسائي في الكبرى
(3)
، والطبري في التفسير
(4)
من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فأنزل الله {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} وحسن إسناده الحافظ
(5)
.
وليس المعنى من هذا كله أنه لم يكن في العرب من يعطي المرأة حقها، بل
(1)
ينظر: تفسير الطبري (4/ 305)، تفسير البغوي (1/ 408)، تفسير البيضاوي (2/ 162)، تفسير ابن كثير (1/ 466).
(2)
التفسير الكبير (10/ 10).
(3)
(6/ 321)11095.
(4)
(4/ 305).
(5)
الفتح (8/ 247).
ويفخر بها، لكن هذا على قلة، والقليل لا حكم له، والعبرة بالغالب الكثير، وإلا فإن قبائل من العرب كانت نسب إلى امرأة، كباهلة نسبة إلى أمهم باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة
(1)
.
وخِنْدَف
(2)
نسبة إلى أمهم خِنْدَف لقب ليلى بنت حلدان من قضاعة زوجة إلياس بن مضر.
ومن الآباء من كُنوا بأسماء بناهم، كأبي أمامة النابغة الذبياني
(3)
، وأبي الخنساء قيس بن مسعود الشيباني
(4)
، وأبي سلمى ربيعة بن رباح
(5)
، وقد ظل منهم في الإسلام كثير حيث نجد في باب الكن من طبقات الصحابة -رضوان الله عليهم- عشرات منهم كُنوا ببناتهم، وآخرين نُسبوا إلى أمهاتهم.
كما أن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها كان لها تجارة تتجرها، وتستأجر الرجال عليها
(6)
.
لكن ما ذُكِر لا يلغي قاعدة كثرة النساء المغلوبات على أمرهن، المسلوبة حقوقهن التي أرجعها الإسلام إليهن، وأتي بالعدل والميزان.
(1)
ينظر: الأنساب (1/ 102)، جمهرة أسماء النساء وأعلامهن (71).
(2)
قال الجزري في اللباب في تهذيب الأنساب (1/ 465): «وكان سبب تلقيبها بذلك أن إلياس خرج منتجعًا فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها فسمي مدركة، وأخذها عامر فطبخها فسمي طابخة، وانقمع عمير في الخباء فسمي قمعة، وخرجت أمهم تمشي الخندفة وهو ضرب من المشي فيه تبختر، فقال لها الناس: أين تخندفين؟ فسميت خندف: فيقال لكلٍ من ولدها خندفي» .
(3)
ينظر: تكملة الإكمال، لأبي بكر البغدادي (2/ 671).
(4)
ينظر: الطبقات، لابن خياط (1/ 277).
(5)
ينظر: تهذيب الأسماء، للنووي (2/ 376).
(6)
ينظر: الاستيعاب (4/ 1818)، الإصابة (7/ 600).
المبحث الثالث: تأصيل معنى «حقوق المرأة»
ويحسن قبل البدء في بيان «حقوق المرأة في الكتاب والسنة» التنبيه على معنى الحق، وتقسيماته، والتنوع في الحقوق والواجبات بين النساء والرجال.
تعريف الحق:
الحق لغة: ضد الباطل، ومنه الحديث «من رآني فقد رأى الحق»
(1)
ووردت كلمة الحق في اللغة لعدة معان، منها: الثبوت، والوجوب، والصدق، واليقين، والأمر المقضي، والعدل والصحيح، والمستقيم والواجب، والعمل الذي يحدث حتمًا
(2)
.
وعرّف الجرجاني الحق بأنه: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره
(3)
.
وفي الاصطلاح: عرفه الفقهاء والأصوليون بتعريفات لا تخرج عن معانيها اللغوية، التي تنبئ عن كون الشيء موجودًا أو ثابتًا.
وله عندهم معنيان:
الأول: ما كان من الحكم مطابقًا للواقع، فنقول: هذا الدين حق، وهذا كلام
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 2568) 6596، ومسلم في صحيحه (4/ 1776) 2256 من حديث أبي قتادة.
(2)
ينظر: المفردات (125)، النهاية (1/ 413)، لسان العرب (10/ 49) قاموس القرآن الكريم، للدامغاني (139) مادة (ح ق ق).
(3)
التعريفات (89).
حق، وعكسه الباطل.
الثاني: ما كان بمعنى الواجب الثابت، فنقول: هذا حق الله، وهذا حق العباد
(1)
.
ويشتمل هذا المبحث على مطلبين:
المطلب الأول: تقسيمات الحق.
المطلب الثاني: التنوع في الحقوق والواجبات بين النساء والرجال.
المطلب الأول: تقسيمات الحق
ويقسم الأصوليون الحق إلى تقسيمات متعددة، مدارها على قسمين:
الأول: تقسيم الحق باعتبار صاحبه.
الثاني: تقسيم الحق باعتبار محله.
الأول: تقسيم الحق باعتبار صاحبه.
وينقسم الحق باعتبار صاحبه إلى أربعة أقسام
(2)
:
الأول: حق الله عز وجل الخالص وذلك كحقه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يقول تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
(3)
وكل ما كان من باب تحريم الحرام، وتحليل الحلال فهو من حق الله تعالى المحض، لا يجوز لأحد أن يتدخل فيه، يقول تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}
(4)
.
(1)
ينظر: المحصول للرازي (1/ 395)، إرشاد الفحول (1/ 439)، المدخل الفقهي العام، للزرقاء (3/ 9).
(2)
ينظر: شرح التلويح على التوضيح، للتفتازاني (2/ 151).
(3)
الحج: (30).
(4)
يوسف: (67).
الثاني: حق العباد الخالص: وهو ما كان نفعه مختصًا بشيء معين، كحق الإنسان في ملكه الخاص، وحق الزوجة في النفقة
(1)
.
والفرق بين حق الله تعالى الخالص، وحق العبد الخالص أنه لا يجوز لأحد أن يتنازل عن حقوق الله تعالى، فليس لأحد أن يحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله، وأما حق العبد، فله أن يتنازل عنه إذا شاء.
الثالث: ما اجتمع فيه الحقان، وحق الله فيه غالب: كحد القذف بعد رفع الأمر إلى الحاكم، إذ يجتمع فيه حينئذ حقان: حق العبد؛ لأنه المعتدى عليه بمساس عرضه، وحق الله لكون القاذف عصى الله، وأشاع الفاحشة، وكحق الزوجة في وجود المهر في النكاح فهو حق للمرأة ثابت بإيجاب الله تعالى.
ويظهر أثر تغليب حق الله على العبد في عدم جواز العفو من قبل المقذوف أو الصلح على إسقاطه، وعدم إمكانية نفي المهر ابتداء، بحيث لو اتفق طرفا العقد على عقد النكاح بغير مهر، وجب مهر المثل.
الرابع: ما اجتمع فيه الحقان، وحق العبد فيه غالب: كحق الزوجة في العدل في القسم، إذ هو حق ثابت لها بإيجاب الشرع، يقول تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
(2)
إلا أن حقها غالب هنا فلها أن تطالب بنصيبها في القَسْم، أو تتنازل عنه إن شاءت، كما فعلت أم المؤمنين سودة رضي الله عنها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:«أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله لا يقسم لعائشة بيومها، ويوم سودة»
(3)
وذاك حين كبرت سودة.
(1)
ينظر: الموافقات، للشاطبي (2/ 378).
(2)
المائدة: (8).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح، باب: المرأة تحب يومها من زوجها لضرتها، وكيف يقسم ذلك، واللفظ له (5/ 1999) 4914، ومسلم في صحيحه في كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها (2/ 1085)1463.
هذا وكل حق للزوجة، فلله حق فيه من حيث إنه الآمر بأداء الحقوق.
الثاني: تقسيم الحق باعتبار محله:
فإنه ينقسم إلى قسمين
(1)
:
القسم الأول: حق مالي.
والقسم الثاني: حق غير مالي.
وينقسم الحق المالي باعتبار ما يتعلق به إلى قسمين:
الأول: حق مالي يتعلق بالأموال ويمكن الاستعاضة عنه بمال، كالأعيان المالية إذ لا يمكن بيعها، والاستعاضة عنها.
والثاني: حق مالي لا يتعلق بالأموال كحق الزوجة في المهر والنفقة فكلاهما حق مالي لا يتعلق بالمال، وإنما يتعلق الأول بالزواج والدخول، ويتعلق الثاني بحبس الزوجة نفسها لمصلحة الزوج.
والقسم الثاني: حق غير مالي:
وهو ما كان الحق فيه متعلقا بغير المال، كتعلق الإنسان بالعزة والكرامة، والسير في البر والبحر، الثابت بقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}
(2)
وكتعلق حق الزوجة بالمعاشرة الحسنة الثابتة بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(3)
.
- ومما تقدم يتبين أن الله سبحانه هو منشئ الحقوق، ومانحها للإنسان، ولولا ذلك ما ثبت للإنسان حق، قال الشاطبي رحمه الله: «لأن ما هو حق للعبد إنما
(1)
ينظر: المدخل الفقهي العام، للزرقاء (3/ 15) وما بعدها.
(2)
الإسراء: (70).
(3)
النساء: (19).
ثبت كونه حقًا له بإثبات الشرع ذلك له؛ لا بكونه مستحقًا لذلك بحكم الأصل»
(1)
.
- وما دامتْ هذه الحقوق من عند الله فإن سبل معرفتها هي: معرفة الأدلة من الكتاب وصحيح السنة وما اشتملت عليه من دلائل وأحكام، في ضوء استنباط ترجيحات العلماء الربانيين الذين أمر الله بالرجوع إليهم فقال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(2)
.
- وليعلم أن الحقوق والواجبات تسهم في تحصيل المصالح للإنسان، ودرء المفاسد والأضرار عنه؛ لأنها من جملة أحكام الشريعة الإسلامية، وأحكام الشريعة جميعًا بدون استثناء شرعت لمصلحة العباد، ودرء الشرور، والفساد عنهم في العاجل والآجل، وهذا ما دلّ عليه استقراء نصوص الشرع، وصرح به علماء الإسلام، يقول العز بن عبد السلام:«إن الشريعة كلها مصالح، إمّا درء مفاسد، أو جلب مصالح»
(3)
ويقول شيخ الإسلام: «إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها»
(4)
.
- ولهذا قرر الشرع حماية هذه الحقوق؛ إذ لا معنى لحقٍّ لا حماية له من الشرع، فألزم الكافة باحترامها، وعدم التعرض لها بمنع صاحبها من التمتع بها، أو بحرمانه منها، أو بانتقاصها، ورتب العقوبات على من يفعل ذلك.
- وما دامتْ هذه الحقوق من الله فيجب استعمالها وفقًا لما شرعه الله، فيقف
(1)
الموافقات (2/ 377).
(2)
النحل: (43).
(3)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 25).
(4)
منهاج السنة النبوية (2/ 31).
عند حدود ما شرعه الله له من الواجبات، وما منحه من الحقوق فلا يبتدع أشياء لم يوجبها الله فيجعلها من الواجبات، ولا أن يُحْدِث لنفسه حقوقًا لم يقررها الله تعالى؛ لأن الحقوق والواجبات من جملة ما شرعه الله، فلا يجوز الإحداث والابتداع في أصلها.
المطلب الثاني التنوع في الحقوق والواجبات بين النساء والرجال
تثار في مثل هذه الأيام قضية «المساواة بين الجنسين» وتسعى المؤتمرات العالمية في شأن المرأة إلى المساواة بينهما، وفي تقرير المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان (1413 هـ - 1993 م) جاء ما نصه:«تشكل حقوق الإنسان للمرأة وللطفل جزءًا من حقوق الإنسان العالمية، لا ينفصل ولا يقبل التصرف ولا التجزئة، وإن مشاركة المرأة مشاركة كاملة وعلى قدم المساواة في الحياة السياسية، والمدنية والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي، والقضاء على جميع أشكال التمييز على أساس الجنس، هما من أهداف المجتمع الدولي ذات الأولوية»
(1)
.
- وسؤال يطرح نفسه: تريدون مساواة المرأة بالرجل في أي شيء في الخلق والتكوين، أم في الحقوق والواجبات؟
والعاقل يدرك التناقض؛ لأن خصائص الخلق والتكوين أساس الحقوق
(1)
تقرير المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان (30).
وانظر نقولات أخرى عن التوصيات الصادرة عن المؤتمرات العالمية المعنية بالمرأة في رسالة الدكتوراه للدكتور: فؤاد العبد الكريم في «قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية دراسة نقدية في ضوء الإسلام» (200 - 213).
والواجبات، فهذه مشتقة من تلك، مبنية عليها، فأي مساواة لا تراعي التمايز والفروق في الخلق، وما يتبعه من قدرات واحتياجات، تخرج عن العدل الذي يقوم عليه الإسلام إلى الظلم الذي يحاربه الإسلام.
والمساواة التي تنادي بإلغاء كل الفوارق بين الرجل والمرأة غير مقبولة علميًّا وعمليًّا، فقد أثبت العلم الصحيح، وواقع الحال أن المرأة تختلف عن الرجل في كل شيء: من الصورة والسمة والأعضاء الخارجية إلى خلايا الجسم البروتينية، وتخالفها كذلك في الوظائف العضوية كالحيض، والحمل، والوضع، والرضاعة
(1)
، وهناك اختلاف بينهما في النواحي النفسية، فكيف يساوى بينهما في الحقوق والواجبات؟!!.
وهذا العالم الدكتور (ألكسيس كاريل) يؤكد الفرق بين الرجل والمرأة في كتابه «الإنسان ذلك المجهول» فيقول: «إن الأمور التي تفرق بين الرجل والمرأة لا تتحدد في الأشكال الخاصة بأعضائها الجنسية والرحم والحمل، وهي لا تحدد -أيضًا- في اختلاف طرق تعليمها، بل إن هذه الفوارق ذات طبيعة أساسية نابعة من اختلاف نوع الأنسجة في جسم كل منهما، كما أن المرأة تختلف عن الرجل كليا في المادة الكيماوية التي تفرز من الرحم داخل جسمها، فكل خلية في جسمها تحمل طابعًا أنثويًّا
…
» ثم يوجه هذا العالم الغربي الانتقادات إلى مَنْ ينادي بمساواة المرأة والرجل دون الالتفات إلى الاختلافات الخِلْقية: «ولقد أدى الجهل بهذه الحقائق الجوهرية بالمدافعين عن الأنوثة إلى الاعتقاد بأنه يجب أن يتلقى الجنسان تعليمًا واحدًا، أو يمنحا سلطات واحدة، ومسؤوليات متشابهة، والحقيقة أن المرأة تختلف
(1)
ينظر في تفصيل الاختلافات بين الرجل والمرأة من حيث الخِلْقة في: الرجل والمرأة في الإسلام، للدكتور محمد وصفي بكلية الطب البشري بمصر (19)، عمل المرأة في الميزان، للدكتور عليّ الباز (64).
عن الرجل اختلافًا كبيرًا، فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها، والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائها، وفوق كل شيء بالنسبة لجهازها العصبي، فالقوانين البيولوجية غير قابلة للتغيير -شأنها شأن قوانين العالم الكوكبي- فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها، ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها. فعلى النساء أن ينمين أهليتهن تبعًا لطبيعتهن دون أن يحاولن تقليد الذكور، فإن دورهن في تقدم الحضارة أسمي من دور الرجال، فيجب عليهن ألا يتخلين عن وظائفهن المحددة»
(1)
.
وأما رئيسة الجمعية النسائية الفرنسية فتقول: «إن المطالبة بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة تصل بهما إلى مرحلة الضياع، حيث لا يحصل أحد من الطرفين على حقوقه»
(2)
.
وأجرت مجلة «ماري مكير» الباريسية استفتاء للفتيات الفرنسيات من جميع الأعمار والمستويات الاجتماعية والثقافية شمل 2. 5 مليون فتاة عن رأيهن في الزواج من العرب، وكانت إجابة 90% منهن: نعم، والأسباب -كما أفادت نتيجة الاستفتاء- هي:
- مللت المساواة بالرجل.
- مللت حالة التوتر الدائم ليل نهار.
- مللت الاستيقاظ عند الفجر، والجري وراء المترو.
- مللت الاستيقاظ للعمل حتى السادسة مساء في المكتب والمصنع
(3)
.
- يقول الشيخ بكر أبو زيد -حفظه الله-: «
…
إن هذه المطالب المنحرفة
(1)
نقلًا عن كتاب «وظيفة المرأة في المجتمع» ، لعلي القاضي (14). وانظر للاستزادة: عمل المرأة في الميزان، لمحمد البار (64)، والمرأة بين الدين والمجتمع (486).
(2)
نقلًا من «وظيفة المرأة في المجتمع» ، (163).
(3)
نقلًا عن «قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية» ، دراسة نقدية، للدكتور فؤاد العبد الكريم (321).
تساق باسم «تحرير المرأة» في إطار نظريتين هما: «حرية المرأة» و «المساواة بين المرأة والرجل» وهما نظريتان غربيتان باطلتان شرعًا وعقلًا، لا عهد للمسلمين هما، وهما استجرار لجادة الأخسرين عملًا، الذين بغوا من قبل في أقطار العالم الإسلامي الأخرى، فسعوا تحت إطارهما في فتنة المؤمنات في دينهن، وإشاعة الفاحشة بينهن
…
»
(1)
.
• ولذا فإن الشريعة الإسلامية تضْمن المساواة بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالنواحي الإنسانية، وتساوي بينهما في الحقوق والواجبات فيما يتساويان فيه في مناط الحكم، مراعية الفروق الخلقية لكل منهما.
أخرج أحمد في المسند
(2)
، وأبو داود في السنن
(3)
، والترمذي في السنن
(4)
وابن الجارود في المنتقى
(5)
، وأبو يعلى في المسند
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
من طرق عن حماد بن خالد، عن عبد الله، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلامًا، قال: يغتسل، وعن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد البلل، قال:«لا غسل عليه» فقالت: أم سليم: المرأة ترى ذلك، أعليها غسل؟ قال:«نعم، إنما النساء شقائق الرجال» واللفظ لأبي داود.
(1)
حراسة الفضيلة (162).
(2)
(43/ 264)26195.
(3)
(1/ 61)236.
(4)
(1/ 190)113.
(5)
33.
(6)
(8/ 149)4694.
(7)
(1/ 168)767.
قال الترمذي: «
…
وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه» قلت: إسناده ضعيف؛ لضعف عبد الله بن عمر العَمري
(1)
، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين؛ لكن للحديث شاهد من حديث أم سليم أخرجه أحمد في المسند
(2)
، وقال الهيثمي في المجمع
(3)
: «هو في الصحيح باختصار، وإسحاق لم يسمع من أم سليم» وإسحاق هو ابن عبد الله بن أبي طلحة لم يسمع من جدته، فالإسناد ضعيف لانقطاعه.
وأصل الحديث عند مسلم
(4)
دون قوله «هنّ شقائق الرجال» وقد رواه بهذه الزيادة موصولًا الدارمي
(5)
من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عمه أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سليم، وعنده أم سلمة
…
وهذا الإسناد متصل غير أن في طريقه محمد بن كثير، وهو الصنعاني الدمشقي، قال الحافظ عنه:«صدوق كثير الغلط»
(6)
.
والحديث بمجموع هذه الطرق يرتقي للحسن، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة
(7)
.
فالشريعة الإسلامية في أحكامها تجري وفقًا لقانون التساوي والاختلاف، فتساوي في الأحكام بين المتماثلين في مناطها، وتخالف في الأحكام بين المختلفين في
(1)
ينظر: تهذيب التهذيب (5/ 285) 564، التقريب (528)3513.
(2)
(6/ 377)27162.
(3)
(1/ 268).
(4)
(1/ 251)313.
(5)
(1/ 215)764.
(6)
التقريب (891)6291.
(7)
(6/ 860)2863.
مناط هذا الحكم، وهذا النهج القويم هو الذي يحقق المساواة الحقيقية بين المكلفين، وهو مقتضى العدل، وسنة الله في التشريع كما هي سنته في الثواب والعقاب.
(1)
.
وبناء على قانون التساوي والاختلاف نلاحظ أن الشريعة الإسلامية ساوت بين الرجل والمرأة في واجبات الإيمان، والعبادات: كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة لاشتراكهما في مناط التكليف.
كما أنها ساوت بين الرجل والمرأة في حق التملك والتمليك؛ لأن مناط هذا الحق الذمة المالية، والأهلية، وكلاهما ثابت للمرأة كما هو ثابت للرجل.
- وقد يكون الاختلاف في الحقوق بين المرأة والرجل مرده ما قد يؤديه
(1)
إعلام الموقعين (2/ 75).
التساوي بينهما من مفاسد وأضرار، فتنطبق عليه قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، كمنع سفر المرأة من غير محرم.
- وقد يكون الاختلاف في التمتع بحق معين؛ لكون أحدهما أقدر من الآخر على القيام به، كإعطاء المرأة حق الحضانة، والرجل حق الجهاد.
- وقد يكون الاختلاف مرّده توزيع الواجبات بما يلائم طبيعة كل منهما، ويحقق العدالة، والمصلحة لهما، ومن أمثلة ذلك وجوب النفقة على الرجل لزوجته، ووجوب رعاية البيت على المرأة، والمتأمل لما سبق، وما س يأتي من تفصيل لأحكام هذا المبحث سيرى أن الإسلام ملّك المرأة حقوقًا أكثر من الرجل من حيث الجملة، وعليها واجبات أقل من الرجل من حيث الحملة، فلله الحمد والمنة.
الباب الأول
حقوق المرأة الشرعية
وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: أهلية التكليف.
الفصل الثاني: حق المرأة في العبادات.
الفصل الثالث: حق المرأة في الهجرة.
الفصل الرابع: حق المرأة في التعليم.
الفصل الخامس: حق المرأة في الفتوى.
الفصل السادس: حق المرأة في الدعوة.
الفصل السابع: تفنيد الشبهات المثارة حول النصوص الشرعية.
قد تقدم أن النساء شقائق الرجال
(1)
، وأن كل ما ثبت في حق الرجل ثبت مثله تمامًا للمرأة إلا ما بينت النصوص الشرعية اختصاصه بأحدهما، فهو الذي يستثن من القاعدة المستصحبة أصلًا، ومن هنا فإن كل خطاب للرجل في الكتاب والسنة فهو خطاب للمرأة إلا ما دل الدليل على اختصاصه بأحدهما، وفي هذا الباب -إن شاء الله- سأنبه على حقوق شرعية للمرأة خصها الشرع بها، وغفل الناس عنها، أو سلبت الحق فيها.
(1)
ص (72).
وسأتناوله في سبعة فصول.
الفصل الأول
أهلية التكليف
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: دلالة القرآن والسنة على أهلية المرأة للتكليف.
المبحث الثاني: المساواة بين المرأة والرجل في الحدود.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: حد السرقة.
المطلب الثاني: حد القذف.
المطلب الثالث: حق اللعان.
المطلب الرابع: حد الزين.
المبحث الثالث: المساواة بين المرأة والرجل في جزاء الآخرة.
المبحث الأول
دلالة القرآن والسنة على أهلية المرأة للتكليف
وذلك واضح من خلال الآتي:
1 - خطاب القرآن للنساء:
خطاب القرآن يدل على المساواة بين الذكر والأنثى في التكليف ويتكرر النداء في القرآن مخاطبًا جميع الناس بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} وقوله «يا بني آدم» على اختلاف أجناسهم، وألسنتهم، وألوانهم دون فرق بين ذكر وأنثى، وأبيض وأسود، كما يتكرر النداء بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ومخاطبًا الذين آمنوا بمحمد نساء ورجالًا، لا فرق بين ذكر وأنثى.
وتأمل قول الله تعالى في بداية سورة النساء: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}
(1)
وقد اشتملت على أنواع كثيرة من التكاليف من العطف على الأولاد، والنساء، والأيتام والرأفة بهم، وإيصال حقوقهم إليهم، وحفظ أموالهم عليهم، والأمر بالطهارة، والصلاة وغيرها بـ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} الذي يشمل الرجال والنساء، وما تفيده «أل» من الاستغراق لعموم الجنس.
• بل إن أول تكليف إلهي لآدم وحواء كان على حد سواء، يقول تعالى:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}
(2)
وحين أنكر سبحانه وتعالى ما كان من مخالفة أمره، وجه الإنكار إليهما معًا فقال تعالى:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}
(3)
.
(1)
النساء: 1.
(2)
البقرة: 35.
(3)
الأعراف: 22.
• وقد ينص القرآن على ذكر النساء بعد الرجال للتنبيه على المساواة في التكليف، ومن ذلك:
1 -
ما أخرج الحميدي في المسند
(1)
، والترمذي في السنن
(2)
، وأبو يعلى في المسند
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
، والحاكم في المستدرك
(5)
من حديث أم سلمة قالت: يا رسول الله، لا أسمعُ الله ذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله تعالى:{أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} . واللفظ للترمذي.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي وصححه الألباني
(6)
. قلت: وهو كما قالوا.
2 -
وما أخرجه الإمام أحمد في المسند
(7)
، والنسائي في الكبرى
(8)
، والطبري في التفسير
(9)
، والطبراني في الكبير
(10)
، من طريق عبد الرحمن بن شيبة، قال: سمعت أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، ما لنا لا ذكر في القرآن كما يذكر الرِّجال؟ قالت: فلم يَرُعني منه يومًا إلا ونداؤه على المنبر: (يا أيها الناس)،
(1)
(1/ 144)301.
(2)
(5/ 237)3023.
(3)
(12/ 391)6958.
(4)
(23/ 294)651.
(5)
(2/ 328)3174.
(6)
صحيح سنن الترمذي (5/ 237)3023.
(7)
(44/ 199)26575.
(8)
(6/ 431)11405.
(9)
(22/ 10).
(10)
(23/ 293)650.
قالت: وأنا أُسَرِّح رأسي، فلففت شعري، ثم دنوت من الباب، فجعلت سمعي عند الجَريد، فسمعته يقول: إن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية
(1)
. وإسناده صحيح.
وفي الباب شاهد من حديث أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء؛ فنزلت:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} أخرجه الترمذي في السنن
(2)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(3)
. وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الألباني: صحيح لغيره
(4)
.
• وهكذا يتوالى الخطاب في القرآن، ويُنَص على المرأة؛ لإعطائها مكانها إلى جانب الرجل فيما هما فيه سواء من العلاقة بالله، وأن أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار، موجب للامتثال، لكلا الجنسين، يقول تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}
(5)
.
أخرج الطبراني في الكبير
(6)
، والدارقطني في السنن
(7)
، وأبو نعيم في الحلية
(8)
،
(1)
الأحزاب: (35).
(2)
(5/ 354)3211.
(3)
(6/ 172)3400.
(4)
صحيح سنن الترمذي (5/ 354)3211.
(5)
الأحزاب: 36.
(6)
(24/ 39)109.
(7)
(3/ 301)206.
(8)
(2/ 51) عند ترجمة زينب.
والبيهقي في الكبرى
(1)
، وابن عساكر في تاريخ دمشق
(2)
من طرق عن حفص بن سليمان، عن الكميت بن زيد الأسدي، قال: حدثني مذكور مولى زينب بنت جحش، عن زينب بنت جحش قالت: خطبني عدة من قريش، فأرسلتُ أختي حمنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستشيره، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين هي ممن يعلمها كتاب ربها، وسنة نبيها؟ قالت: ومن هو يا رسول الله؟ قال: زيد بن حارثة. قال: فغضبت حمنة غضبًا شديدًا، وقالت: يا رسول الله أَتُزَوِّجُ بنت عمتك مولاك؟ قالت: جاءتني فأعلمتني، فغضبت أشد من غضبها، وقلت أشد من قولها، فأنزل الله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} الحديث.
وإسناده ضعيف جدًّا، فيه حفص بن سليمان الأسدي، متروك الحديث مع إمامته في القراءة. قاله الحافظ
(3)
.
وله شاهد مرسل رجاله ثقات، أخرجه الطبراني في الكبير
(4)
من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}
(5)
قال: نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش، وكانت بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضيت، وظنت أنه يخطبها على نفسه، فلما علمت أنه يخطبها على زيد بن حارثة أبت، وأنكرت فأنزل الله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} .
(1)
(7/ 136)13560.
(2)
(50/ 230).
(3)
التقريب (257)1414.
(4)
(24/ 45)123.
(5)
الأحزاب: 36.
قال الهيثمي في المجمع
(1)
: «رواه الطبراني بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح» .
وعلى كل فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
• وبعد أن نهي الله الرجال في سورة الحجرات من سخرية بعضهم من بعض، عطف بنهي النساء، وأكد أن مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال، ولا الأوضاع والأطوار التي عليها دور أمر السخرية غالبًا، بل إنما هو بالأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه لما نيط به الخيرية عند الله تعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله، والاستهانة من عظمه الله تعالى
(2)
(3)
.
• بل ولتأكيد مسؤولية المرأة أمام الله عز وجل مسؤولية مستقلة عن الرجل كانت بيعة النساء خاصة من دون بيعة الرجال، أخرج البخاري
(4)
، ومسلم
(5)
من حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ
(1)
(7/ 92).
(2)
ينظر: تفسير أبي السعود (8/ 121).
(3)
الحجرات: 11.
(4)
في صحيحه في كتاب المغازي: باب: غزوة الحديبية (4/ 1533)3946.
(5)
في صحيحه في كتاب الإمارة، باب: كيفية بيعة النساء (3/ 1489)1866.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
. واللفظ للبخاري.
وتأمل بيعته للرجال التي تعرف بـ «بيعة النساء» ترى أنا عين البيعة التي بايعها للنساء، أخرج البخاري
(2)
من حديث عبادة بن الصامت قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس: «تبايعوني على ألّا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه» فبايعناه على ذلك.
• وهكذا تتوالى آيات القرآن في حث الرجال والنساء على التزام الأوامر، يقول تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
(3)
.
2 - توافرُ شروط التكليف في المرأة:
أجمع الفقهاء على أن شروط التكليف الأساسية هي:
الإسلام- البلوغ- العقل. بلا تفرقة بين ذكر وأنثى
(4)
.
ويؤكد هذا الإجماع ما تقدم من آي الكتاب وصحيح السنة.
(1)
الممتحنة: 12. وسيأتي مزيد بحث لبيعة النساء في حقوق المرأة السياسية ص (410).
(2)
في صحيحه في كتاب الأحكام، باب: بيعة النساء (6/ 2637) 6787، وانظر شرحه مستوفى في الفتح (1/ 66).
(3)
النور: 30 - 31.
(4)
ينظر: شرح العمدة (4/ 34)، الثمر الداني (1/ 14)، كفاية الطالب (1/ 18)، إرشاد النقاد (1/ 88).
المبحث الثاني
المساواة بين المرأة والرجل في الحدود
الإسلام دين العدل، فكما تساوت المرأة مع الرجل في التكليف، فإنهما سواء في العقوبة، وتطبيق الحدود في الدنيا، يتبين ذلك من خلال أربعة مطالب:
المطلب الأول: حد السرقة.
المطلب الثاني: حد القذف.
المطلب الثالث: حد اللعان.
المطلب الرابع: حد الزنى.
المطلب الأول: حد السرقة
لقد ماثل الله تعالى في حد السرقة بين الرجل والمرأة، وذكر ذلك في قوله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
.
وأخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث عائشة أن قريشًا أهمهم شأن المرأة
(1)
المائدة: 38 - 39.
(2)
في صحيحه كتاب الأنبياء، باب: حديث الغار (3/ 1282)3288.
(3)
في صحيحه كتاب الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود (3/ 1315)1688.
المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب. ثم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» واللفظ للبخاري. زاد مسلم: قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانظر إلى قمة العدل حين لا يفرق بين شريف ولا وضيع، ولا ذكر أو أنثى، فإن المرأة كانت من بني مخزوم أشرف بيوت قريش، ومع ذلك لم يشفع لها نسبها إذ أخطأت بفعلها، وتأتي كلمة المساواة في إقامة العقوبات بقوله صلى الله عليه وسلم «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .
ولِمَّ خص ابنته بضرب المثل؟ لأنها أعز أهله عنده؛ ولم يبق من بناته حينئذ غيرها؛ فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحد على كل مكلف، وترك المحاباة في ذلك، وقال شراح الحديث أيضًا: لأن اسم السارقة قد وافق اسمها عليها السلام، فناسب أن يضرب المثل بها
(1)
.
ولما تابت المرأة من خطيئتها، وحسنت توبتها، صار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجتها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والحدود كفارة لأصحابها.
(1)
الفتح: (12/ 95).
المطلب الثاني: حد القذف
كل المؤمن على المؤمن حرام دمه وماله وعرضه، فإذا اعتدي على الدم كان القصاص، وإن اعتدي على المال كان قطع اليد، وإن اعتدي على العرض كان القذف أو حد الزنى. وكل ما مضى الذكر والأنثى فيه سواء، ولا يترك الإسلام الألسنة تلقي التهم النكراء على كل برئ وبريئة، ثم يمضي آمنًا، فتصبح الجماعة وتمسي وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة، وإذا كل فرد فيها متهم، أو مهدد بالاتهام. وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الأذى النفسي، شرع الله حد القذف في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
(1)
.
وتأمل تعبيره عن الرامين بـ «الذين» وفي جانب المرمي بصيغة المؤنث «المحصنات» من باب التغليب، فلا فرق بين الذكر والأنثى؛ لأن أكثر ما توجه هذه التهمة الشنيعة للمرأة.
(2)
.
وفي حادثة الإفك لمّا خاضت حمنة بنت جحش رضي الله عنها مع من
(1)
النور: 4.
(2)
الجامع لأحكام القرآن (12/ 172).
خاض، حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حد الرجال، أخرج أحمد في المسند
(1)
، وأبو داود في سننه
(2)
، وابن ماجه في السنن
(3)
، والترمذي في سننه
(4)
، والنسائي في الكبرى
(5)
، والطبراني في الكبير
(6)
، والمحاملي في أماليه
(7)
، والبيهقي في الكبرى
(8)
، والدلائل
(9)
من طرق عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية التي نزل بها عذري على الناس، نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر برجلين (هما: حسان ومسطح) وامرأة ممن كان باء بالفاحشة في عائشة فجُلدوا الحد، قال (أي: عبد الله بن أبي بكر) وكان رماها عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش رموها بصفوان بن معطل السلمي. واللفظ للبيهقي، وتحرف اسم «عمرة» في مطبوع الترمذي إلى «عروة» والتصحيح من التحفة.
قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق.
قلت: إسناده حسن، فيه محمد بن إسحاق بن يسار المطلي، صدوق
(10)
،
(1)
(45/ 76)24066.
(2)
(4/ 162)4474.
(3)
(2/ 857)2567.
(4)
(5/ 336)3181.
(5)
(4/ 325)7351.
(6)
(23/ 163)263.
(7)
(1/ 136)99.
(8)
(8/ 250)16909.
(9)
(4/ 74).
(10)
التقريب (825)5762.
وانتفى تدليسه لأنه صرح بالتحديث عند البيهقي، وحسن الحديث الألباني في صحيح سنن أبي داود
(1)
.
بل تكلم أهل العلم على طريقة حد المرأة، قال في المغني:«وتضرب المرأة جالسة، وتمسك يداها لئلا تنكشف، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ومالك»
(2)
.
المطلب الثالث: حد اللعان
وحينما يكون المتهِم الزوج، والمتهَمة الزوجة، يعيش البيت المسلم حالة قلق واضطراب، فتأتي هذه الآية الكريمة وفيها فرج للأزواج، وزيادة مخرج، إذا قذف أحدهم زوجته، وتعسر عليه إقامة البينة أن يلاعنها كما أمر الله عز وجل.
فالله سبحانه بما شرع من اللعان خلص الرجل من أزمة جسيمة، وهم عظيم، فأقام شهادته مقام شهوده، ولم يهمل التشريع المرأة فقد يكون الزوج، سيئ الظن أو يغار في غير ريبة، والمرأة بريئة مما أُلصِق بها من تهمة شنيعة، فخلصها الله بشهادات تقابل شهاداته، وتسقط الحد عنها. ولا تجد في أي قانون ولا عرف ولا تقليد ما يحمي المرأة هذه الحماية، ولا تزال المرأة تُظْلم، ويجعل للرجل الحق في قتلها في الحال إذا وجدها في هذا الوضع الفاضح، بينما لا يسمح لها بأن تحتج بمجرد الاحتجاج إذا ما رأته يأتي الفاحشة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ
(1)
(4/ 162)4474.
(2)
(9/ 143).
اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}
(1)
.
واختلف في سبب نزولها، هل نزلت في هلال بن أمية أو عويمر العجلاني.
• أما حديث هلال بن أمية فأخرجه البخاري
(2)
من طريق عكرمة، عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة أو حد في ظهرك» فقال يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«البينة وإلا حد في ظهرك» فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، وأنزل عليه:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟»
ثم قامت، فشهدت، فلما كانت عند الخامسة، وقفوها، وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكأت، ونكصت حتى ظننا أنها ترجع. ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين
(3)
، خدلج الساقين
(4)
، فهو لشريك بن سحماء» فجاءت به كذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا ما مضى من
(1)
النور: 6 - 10.
(2)
في صحيحه كتاب التفسير، باب:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (4/ 1772)4469.
(3)
سابغ الأليتين أي: كثير لحمهما. ينظر: غريب الحديث، لابن الجوزي (1/ 458)، هدي الساري:129.
(4)
خدلج الساقين -بفتحتين وتشديد اللام- أي: ممتلئ الساقين. ينظر: النهاية (2/ 15) مادة (خ د ل ج)، هدي الساري:110.
كتاب الله لكان لي ولها شأن».
وأخرجه مسلم
(1)
من طريق محمد بن سيرين عن أنس بن مالك بنحوه.
• وحديث عويمر العجلاني: أخرجه البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من طريق سهل بن سعد أخبره أن عويمرًا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري، فقال له: يا عاصم أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكره رسول الله المسائل وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عويمر، فقال: يا عاصم، ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها. فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس. فقال: يا رسول الله أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أُنْزِل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بما» قال سهل: فتلاعنا، وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا من تلاعنهما. قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. واللفظ للبخاري.
واختلف الأئمة في هذا الموضع، فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر -أيضًا- فنزلت في شأنهما معًا في وقت واحد،
(1)
في صحيحه كتاب اللعان (2/ 1134)1496.
(2)
في صحيحه كتاب الطلاق، باب: اللعان ومن طلق بعد اللعان (5/ 2033)5002.
(3)
في صحيحه كتاب اللعان (2/ 1129)1492.
وقد جنح النووي إلى هذا
(1)
.
ويؤيد قول من قال: إن أول من لاعن هلال، ما أخرج ابن أبي عاصم في الأوائل
(2)
بسند صحيح من طريق ابن سيرين، عن أنس بن مالك قال: إن أول لعان كان في الإسلام أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بامرأته. وجنح القرطبي إلى تحويز نزول الآية مرتين
(3)
.
وجمع الحافظ بين حديث هلال بن أمية وعويمر العجلاني فقال: «
…
وظهر لي الآن احتمال أن يكون عاصم سأل قبل النزول، ثم جاء هلال بعده فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمر في المرة الثانية التي قال فيها «إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به» فوجد الآية نزلت في شأن هلال، فأعلمه صلى الله عليه وسلم بأنها نزلت فيه يعني أنها نزلت في كل من وقع له ذلك؛ لأن ذلك لا يختص بهلال
…
»
(4)
.
وإن قلت: لِمَّ خص الله الرجل باللعن، والمرأة بالغضب في الشهادة الخامسة؟ فالجواب:
أ- قال الحافظ: «خصت المرأة بلفظ الغضب؛ لعظم الذنب بالنسبة إليها؛ لأن الرجل إذا كان كاذبًا لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم؛ لما فيه من تلويث الفراش، والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به، فتنتشر
(1)
شرح مسلم (10/ 120).
(2)
92.
(3)
المفهم (5/ 102).
(4)
فتح الباري (9/ 450) وأورد الأدلة على ما ذهب إليه، وقد بحث المسألة أيضًا في الفتح (8/ 450).
المحرمية وتثبت الولاية والميراث لمن لا يستحقهما
…
»
(1)
.
(2)
.
ج- قال أبو السعود: «وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها
…
؛ ولأن النساء كثيرًا ما يستعملن اللعن، فربما يجترئن على التفوه به؛ لسقوط وقعه عن قلوبهن بخلاف غضبه تعالى»
(3)
.
المطلب الرابع: حد الزنى
وكما مضى ذكره فإن الإسلام دين العدل، فمن زنى من ذكر وأنثى حُدَّ بشرع الله، قال تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
(4)
.
وتأمل -رحمك الله- حدَّ الزاني والزانية البكر جلد مائة، وفي المؤمنين عن الرأفة، وأمر بشهود الطائفة للتشهير، وأوجب كون تلك الطائفة من المؤمنين؛ لأن الفاسق من صلحاء قومه أخجل
(5)
، وأما الزاني المحصن فحده الرجم.
(1)
الفتح (9/ 440).
(2)
التفسير (3/ 266).
(3)
التفسير (6/ 159).
(4)
النور: 2.
(5)
ينظر: التفسير الكبير (23/ 115).
وفي حد الزنى مسائل:
1 -
في الآية قدم الله الزانية على الزاني؛ لأنها الأصل في الفعل؛ ولكونها الداعية إليه، ولولا تمكينها منه لم يقع
(1)
.
2 -
حد الزاني والزانية البكر، اتفقوا على جلد كل منهما مائة، ونقل النووي
(2)
الإجماع على ذلك، واختلفوا هل يغرَّب سنة مع جلده مائة أو لا؟ وذهب جمهور أهل العلم إلى أن البكر يغرَّب سنة مع الجلد على خلاف بينهم في مسافة التغريب، قال ابن قدامة:«ويجب مع الجلد تغريبه عامًا في قول جمهور العلماء»
(3)
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: لا يجب التغريب؛ لأن عليًّا رضي الله عنه قال: حسبهما من الفتنة أن ينفيا
(4)
. قال ابن قدامة: «
…
وما رووه عن عليّ لا يثبت لضعف رواته، وإرساله»
(5)
.
والحجة مع الجمهور؛ لحديث أخرجه البخاري
(6)
، ومسلم
(7)
من طريق
(1)
ينظر: تفسير البيضاوي (4/ 172)، تفسير أبي السعود (6/ 156).
(2)
شرح مسلم (11/ 189)، وانظر: تفسير القرطبي (5/ 88)، أضواء البيان (5/ 408).
(3)
المغني (9/ 45).
(4)
ينظر: المبسوط للسرخسي (9/ 36)، شرح فتح القدير (1/ 241)، حاشية ابن عابدين (1/ 259).
(5)
المغني (9/ 45).
(6)
في صحيحه كتاب الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود (2/ 959)2549.
(7)
في صحيحه كتاب الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى (3/ 1318)1697.
عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني قالا: جاء أعرابي، فقال: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، فقام خصمه، فقال صدق يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزني بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابي منه بمائة من الغنم، ووليدة. ثم سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة، وتغريب عام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لأقضين بينكما بكتاب الله، أمّا الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأمّا أنت يا أنيس -لرجل- فاغْدُ على امرأة هذا فارجمها، فغدا عليها أنيس فرجمها»
…
واللفظ للبخاري
(1)
.
• ولما أخرج مسلم
(2)
من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
• قال ابن قدامة: «
…
ولأن التغريب فعله الخلفاء الراشدون، ولا نعرف لهم في الصحابة مخالفًا فكان إجماعًا».
• واختلف أهل العلم في تغريب المرأة:
فذهب الشافعية
(3)
والحنابلة
(4)
إلى أن المرأة تغرَّب سنة؛ لعموم أدلة التغريب، وظاهرها يشمل الأنثى. ثم اختلفوا فذهب الشافعية إلى تغريبها مسافة القصر، ويلزم المحرم بالخروج معها، وعليها أجرته، فإن لم يكن لها مال فمن بيت
(1)
سيأتي بحث فوائد الحديث في ص (100).
(2)
في صحيحه كتاب الحدود، باب: حد الزنى (3/ 1316)1690.
(3)
ينظر: الوسيط (6/ 37)، شرح مسلم للنووي (11/ 189)، حواشي الشرواني (9/ 111).
(4)
ينظر: المغني (9/ 46)، المبدع (9/ 62).
مال المسلمين؛ فإن لم يكن لها محرم غُرِّبت وتغريها كسفرها للهجرة والحج.
وذهب الإمام أحمد
(1)
أنها تغرَّب مسافة القصر كالرجل إذا خرج معها محرمها، وإن لم يخرج معها محرمها تغرب إلى دون مسافة القصر، ولا يُلْزم؛ لأنه لا ذنب له.
وذهب مالك
(2)
، والأوزاعي
(3)
إلى عدم تغريب المرأة؛ لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة؛ ولأنها لا تخلو من التغريب، إمّا بمحرم أو غيره، والأحاديث مانعة من سفرها بغير محرم؛ وفي تغريها بغير محرم إغراء لها؛ وتضييع، وإن غرِّبت محرم أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي من لا ذنب له، وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به.
(4)
.
3 -
وإن زنت امرأة عاقلة حرة محصنة فعليها الرجم؛ لا خلاف بين العلماء في
(1)
ينظر: المغني (9/ 46)، المبدع (9/ 62).
(2)
ينظر: التلقين (2/ 498)، التمهيد (9/ 89)، تفسير القرطبي (5/ 89)، الثمر الداني (592).
(3)
ينظر: فقه الأوزاعي (285).
(4)
أضواء البيان (5/ 413).
ذلك
(1)
، شأنها في الحكم شأن الرجل، قال ابن قدامة: «
…
وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلًا كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفًا إلا الخوارج، فإنهم قالوا الجلد للبكر والثيب»
(2)
وأدلة الجمهور ما يأتي:
1 -
ما تقدم
(3)
في حديث زيد بن خالد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» .
2 -
ما أخرجه مسلم
(4)
من طريق سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فرده، فلما كان من الغد أتاه. فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فقال: أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وافي العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضًا، فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به، فرحم، قال: فجاءت الغامدية
(5)
، فقالت: يا رسول
(1)
ينظر: المهذب (2/ 267)، الإنصاف (10/ 170)، البحر الرائق (5/ 8)، شرح فتح القدير (5/ 224).
(2)
المغني (9/ 39). وانظر: شرح ابن بطال لصحيح البخاري (7/ 142)، الفتح (12/ 117).
(3)
ص: (98).
(4)
في صحيحه كتاب الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى (3/ 1323)1695.
(5)
جاء في رواية مسلم من حديث عمران بن حصين أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث (1696) وعدّها بعض المحدثين امرأتين إحداهما الغامدية، والأخرى الجهنية. والراجح أنهما امرأة واحدة، قال أبو داود: قال الغساني: جهينة، وغامد، وبارق واحد. سنن أبي داود (4443). وإليه ذهب النووي في شرحه (11/ 205).
الله إني قد زنيت، فطهرني. وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله لِمَّ تردي؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فو الله إني لحبلى. قال:«أما لا فاذهبي حتى تلدي» فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته. قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام. فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إيّاها. فقال:«مهلًا يا خالد فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تاها صاحب مكس لغُفِر له» ثم أمر بها، فصلى عليها، ودفنت.
وفي الحديث رجم ماعز والغامدية.
3 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال: إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما تجدون في التوراة في شأن الرجم» قالوا: نفضحهم ويجلدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. قالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة.
(1)
في صحيحه كتاب الحدود، باب: أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام (6/ 2509)6449.
(2)
في صحيحه كتاب الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (3/ 1326)1699.
4 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. واللفظ المسلم، وهو عند البخاري بأتم من هذا السياق.
والآية التي ذكرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بينتها رواية ابن ماجه
(3)
، حيث أخرج بسند صحيح من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمر وفي آخره «وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة».
5 -
حديث عبادة المتقدم
(4)
وفيه: «الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم»
(5)
.
ومن هنا يظهر كيف ساوى الإسلام بين النساء والرجال في الحدود مما يدل على المساواة بينهما في التكليف.
(1)
في صحيحه كتاب الحدود، باب: رجم الحبلى في الزنى إذا أحصنت (6/ 2503)6442.
(2)
في صحيحه كتاب الحدود، باب: رجم الثيب في الزنى (3/ 1317)1691.
(3)
في السنن كتاب الحدود، باب: الرجم (2/ 853)2553.
(4)
ص: (98).
(5)
اختلف أهل العلم في الجمع بين الجلد والرجم، وأرجحهما أنه يرجم ولا يجلد، وإليه ذهب الجمهور.
ينظر: التمهيد (9/ 181)، المغني (9/ 40)، الفتح (12/ 120)، مجموع الفتاوى (5/ 295)، زاد المعاد (5/ 32)، أضواء البيان (5/ 398).
المبحث الثالث
المساواة بين المرأة والرجل في جزاء الآخرة
لاشك أن كل مكلف يترقب ثوابه إن كان صالحًا، والعقاب الأليم ينتظره إن كان زائغًا، وتأتي آيات الكتاب لتقرير الثواب والعقاب للذكر والأنثى على حد سواء، يقول تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}
(1)
(2)
(3)
(4)
(5)
(6)
.
(1)
آل عمران: 195.
(2)
النساء: 124.
(3)
التوبة: 72.
(4)
النحل: 97.
(5)
الأحزاب: 73.
(6)
الفتح: 5 - 6.
بل أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات يقول تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}
(1)
.
• وتأتي الأحاديث المنبثقة من مشكاة النبوة لتؤكد أحقية المرأة الصالحة بالانضمام لزمر أهل الجنة، وتحذر المرأة الفاسقة المنحرفة من دخول النار، أعاذني الله وإيّاكم منها.
تأمل -رحمك الله- ما أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث أبي هريرة قال: أتي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومني، وبشرها بيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» واللفظ لمسلم.
وتأمل -رحمك الله- في الحديث تقف على بشائر لأم المؤمنين خديجة إحدى نساء الدنيا رضي الله عنها:
البشارة الأولى: «فاقرأ عليها السلام من ربها ومني» سلام الله وجبريل على خديجة يبين ما تبوأته المرأة المسلمة المضحية في شريعة الإسلام.
البشارة الثانية: «بيت في الجنة» وتكلم شرّاح الحديث في مناسبة التعبير بـ «بيت» دون القصر، فقال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف؛ لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث، ثم صارت ربة بيت في الإسلام منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض
(1)
محمد: 19.
(2)
في صحيحه في كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} الفتح: 15 (6/ 2723)7054.
(3)
في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل خديجة أم المؤمنين (4/ 1886)2432.
في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضًا غيرها، وجزاء الفعل يذكر غالبًا بلفظه، وإن كان أشرف منه؛ فلهذا جاء في الحديث بلفظ «البيت» دون القصر
(1)
.
وأبدى الحافظ لطيفة مفيدة فقال: «وفي ذكر البيت معنى آخر؛ لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها؛ لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}
(2)
قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة، وعليًّا، والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال:«اللهم هؤلاء أهل بيتي» الحديث أخرجه الترمذي
(3)
وغيره، ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة؛ لأن الحسنين من فاطمة، وفاطمة بنتها، وعليّ نشأ في بيت خديجة وهو صغير، ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها»
(4)
.
البشارة الثالثة: «من قصب» -بفتح القاف والمهملة- لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، والقصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف
(5)
.
والمناسبة في قوله «من قصب» ولم يقل «من لؤلؤ» لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتهما إلى الإيمان دون غيرها. قاله السهيلي
(6)
.
(1)
ينظر: الروض الأنف (1/ 416) بتصرف.
(2)
الأحزاب: 33.
(3)
(5/ 663)3787.
(4)
الفتح (7/ 138).
(5)
ينظر: غريب الحديث، للخطابي (1/ 495)، مشارق الأنوار (2/ 187)، النهاية (4/ 67) مادة (ق ص ب).
(6)
ينظر: الروض الأنف (1/ 416) بتصرف.
(1)
.
البشارة الرابعة: «لا صخب فيه، ولا نصب» الصخب -بفتح المهملة، والمعجمة، بعدها موحدة- الصياح والمنازعة برفع الصوت
(2)
. والنصب -بفتح النون والمهملة-، بعدها موحدة: التعب والإعياء
(3)
.
قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين أعني المنازعة والتعب، أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعًا، فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها
(4)
.
فهل بعد هذه البشارة لهذه المرأة العظيمة من بشارة.
• بل إن لنساء أهل الجنة سيدة من نساء الدنيا وهي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج البخاري
(5)
، ومسلم
(6)
من حديث عائشة الطويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة في مرض موته: «يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة - أو نساء المؤمنين» واللفظ للبخاري.
(1)
الفتح (7/ 138).
(2)
ينظر: مشارق الأنوار (2/ 40)، النهاية (3/ 14) مادة (ص خ ب).
(3)
ينظر: مشارق الأنوار (2/ 14)، النهاية (5/ 61) مادة (ن ص ب).
(4)
ينظر: الروض الأنف (1/ 417).
(5)
في صحيحه كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام (3/ 1326)3426.
(6)
في صحيحه كتاب الفضائل، باب: فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام (4/ 1092)2450.
وعلل الحافظ رحمه الله كوْن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة بقوله: «
…
إنما رضي الله عنها رزئت بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها من بناته، فإنهن متن في حياته، فكن في صحيفته، ومات هو في حياتها، فكان في صحيفتها، وكنت أقول ذلك استنباطًا إلى أن وجدته منصوصًا، قال أبو جعفر الطبري في تفسير آل عمران من التفسير الكبير
(1)
من طريق فاطمة بنت الحسين بن علي أن جدتها فاطمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، وأنا عند عائشة، فناجاني فبكيت، ثم ناجاني فضحكت
…
وأنه قال: «أحسب أني ميت في عامي هذا، وأنه لم ترزأ امرأة من نساء العالمين مثل ما رزئت، فلا تكوني دون امرأة منهن صبرًا» فبكيت، فقال:«أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم فضحكت»
(2)
قلت: إسناد الطبري ضعيف، للانقطاع بين فاطمة بنت الحسين، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
• وأخرج أحمد في المسند
(4)
، وعبد بن حميد في مسنده
(5)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(6)
، والنسائي في الكبرى
(7)
، وأبو يعلي في المسند
(8)
، والطبراني في الكبير
(9)
، وابن حبان في صحيحه
(10)
، والحاكم في المستدرك
(11)
من طريق
(1)
(3/ 264).
(2)
الفتح (7/ 105).
(3)
ينظر: تهذيب الكمال (35/ 255).
(4)
(4/ 409)2668.
(5)
597.
(6)
(5/ 364)2962.
(7)
(5/ 93)8355.
(8)
(5/ 110)2722.
(9)
(11/ 336)11928.
(10)
(7/ 206).
(11)
(3/ 205)4852.
عكرمة، عن ابن عباس قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط، قال:«تدرون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مُزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران» قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه هذه السياقة. ووافقه الذهبي. قلت: وهو كما قالا.
• بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشّر امرأة سوداء في عصره بالجنة، أخرج البخاري
(1)
ومسلم
(2)
من طريق عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف فادع الله لي. قال:«إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك» . قالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله لي ألّا أتكشف، فدعا لها. ثم أخرج من طريق ابن جريج عن عطاء: أنه رأى أم زُفَر تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة. واللفظ للبخاري.
وفي الحديث فضل من يُصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وحرص الصحابيات على الستر والأجر. جمعنا الله بأم زفر في الجنة
(3)
.
• كما وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذكر أعمال نساء أهل الجنة، وما امتزن به من رفيع الأخلاق، وكريم الشمائل، فالمرأة المسلمة الراضية بقضاء الله، الصابرة على قدره، إن احتسبت اثنين من ولدها فلذتي كبدها، كانا لها حجابًا من
(1)
في صحيحه كتاب المرضى، باب: فضل من يصرع من الريح (5/ 2140)5328.
(2)
في صحيحه كتاب البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (4/ 1994)2576.
(3)
انظر: بقية فوائده في: الفتح (10/ 115).
النار، أخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث أبي سعيد الخدري: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك، فواعدهن يومًا لقيهن فيه، فوعظهن، وأمرهن، فكان فيما قال لهن» ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابًا من النار» وأخرج مسلم
(3)
من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: «لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبه إلا دخلت الجنة» فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: أو «اثنين» .
وفي الجمع بين روايات «حجابا من النار» ورواية «دخلت الجنة» أبدى الحافظ معنى لطيفًا فقال: «ويجمع بينها بأن يقال الدخول لا يستلزم الحجب، ففي ذكر الحجب فائدة زائدة؛ لأنها تستلزم الدخول من أول وهلة»
(4)
.
• والمرأة المسلمة مميزة في تعاملها مع زوجها؛ المكمل لها، والقائم بحقوقها، والراعي لمصلحتها، لذا كافأها الله بحسن تبعلها بالجنة.
أخرج النسائي في الكبرى
(5)
، والطبراني في الكبير
(6)
، وتمام في فوائده
(7)
، والبيهقي في الشعب
(8)
، وابن قدامة في المتحابين في الله
(9)
من طرق عن خلف بن
(1)
في صحيحه كتاب العلم، باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم (1/ 50)101.
(2)
في صحيحه كتاب، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه (4/ 2028)2633.
(3)
المصدر السابق، حديث رقم (2632).
(4)
الفتح (3/ 119).
(5)
(5/ 361)9139.
(6)
(12/ 59)12468.
(7)
(2/ 120)11311.
(8)
(6/ 418)8732.
(9)
(1/ 35)21.
خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟: الودود، الولود، العؤود
(1)
على زوجها، التي إذا آذت أو أوذيت جاءت حتى تأخذ بيد زوجها، ثم تقول: والله لا أذوق غمضًا حتى ترضى» واللفظ للنسائي.
وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم، غير أن خلف بن خليفة وهو من شيوخ أحمد كان اختلط في الآخر
(2)
، ولا ندري أحدث به قبل الاختلاط فيكون صحيحًا، أو بعده فيكون ضعيفًا، لكن للحديث شواهد يتقوى بها، والإسناد صالح في الشواهد، والله أعلم.
وقال ابن حزم بعد إيراد هذه الطريق في المحلى: «وهذا خبر لا بأس به»
(3)
وقال الدمياطي في المتجر الرابح: «رواه الطبراني، وإسناده جيد إن شاء الله، وله شواهد، فهو حديث صالح في الشواهد»
(4)
وصححه الألباني
(5)
.
وقد تابع خلف بن خليفة عمرو بن خالد، كما أخرج الطبراني في الكبير
(6)
، وابن عدي في الكامل
(7)
، والمقدسي في المختارة
(8)
من طريق عمرو بن خالد
(1)
قال المناوي في فيض القدير (3/ 106): «العؤود -بفتح العين المهملة- أي التي تعود على زوجها بالنفع» .
(2)
ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 130) ترجمة: 289، الكواكب النيرات (29) ترجمة:20.
(3)
(10/ 334).
(4)
(5)
السلسلة الصحيحة (1/ 578)287.
(6)
(12/ 59)12467.
(7)
(5/ 124) ترجمة عمرو بن خالد: (1289).
(8)
(10/ 403)425.
عن أبي هاشم به بمثله. لكنها متابعة تالفة.
قال الهيثمي في المجمع
(1)
: «رواه الطبراني، وفيه عمرو بن خالد الواسطي وهو كذاب» وله شاهد من حديث كعب بن عجرة، أخرجه الطبراني في الأوسط
(2)
والكبير
(3)
، وعزاه الحافظ في المطالب العالية
(4)
لأبي يعلى ولم أجده في المطبوع منه، فلعله في الكبير بنحو حديث ابن عباس.
قال الهيثمي في المجمع: «رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه السري بن
إسماعيل وهو متروك»
(5)
.
وشاهد من حديث أنس، أخرجه الطبراني في الأوسط
(6)
، والصغير
(7)
بنحوه مطولًا، وقال في الأوسط:«لم يروه عن أبي حازم إلا إبراهيم هذا، ولا يروى عن أنس إلا من هذا الوجه» . وقال المنذري في الترغيب والترهيب: «رواه الطبراني، ورواته محتج بهم في الصحيح إلا إبراهيم بن زياد القرشي فإني لم أقف فيه على جرح ولا تعديل، وقد روي في هذا المتن من حديث ابن عباس»
(8)
.
وقال الهيثمي في المجمع: «رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه
(1)
(4/ 312).
(2)
(6/ 11)5648.
(3)
(19/ 140)307.
(4)
(8/ 247)1632.
(5)
(4/ 312).
(6)
(6/ 206)1743.
(7)
(1/ 89)118.
(8)
(3/ 37).
إبراهيم بن زياد القرشي. قال البخاري: لا يصح حديثه
(1)
. فإن أراد تضعيفه فلا كلام، وإن أراد حديثًا مخصوصًا فلم يذكره، وأما بقية رجاله فهم رجال الصحيح»
(2)
وإبراهيم بن زياد هو القرشي أورده العقيلي في الضعفاء
(3)
، وروي عن البخاري أنه قال: لم يصح إسناده، ثم ذكر ما يشعر بسوء حفظه فقال: شيخ يحدث عن الزهري، وعن هشام بن عروة، فيجعل حديث الزهري عن هشام بن عروة، وحديث هشام بن عروة، عن الزهري، ويأتي أيضًا مع هذا عنهما بما لا يحفظ
• والمرأة المسلمة تدعى من أي أبواب الجنة شاءت إذا راعت أوامر ربها، وحافظت على شرائعه، أخرج ابن حبان في صحيحه
(4)
، والطبراني في الأوسط
(5)
، من طريق داهر بن نوح الأهوازي، ثنا محمد بن الزبرقان، ثنا هدبة بن المنهال، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت» قال أبو حاتم: تفرد بهذا الحديث عبد الملك بن عمير من حديث أبي سلمة، وما رواه عن عبد الملك إلا هدبة بن المنهال وهو شيخ أهوازي.
وفي إسناده داهر بن نوح قال الدارقطني في العلل: «ليس بقوي في الحديث»
(6)
.
(1)
قال البخاري في التاريخ الكبير (1/ 287): «لم يصح إسناده» .
(2)
(3/ 73).
(3)
(1/ 53) ترجمة (42).
(4)
(9/ 471)4163.
(5)
(5/ 34)4598.
(6)
(1/ 174).
وذكره ابن حبان في الثقات وقال: «ربما أخطأ»
(1)
، وأخرج مع ذلك حديثه في صحيحه، وهدبة بن المنهال روى عنه محمد الزبرقان والربيع بن ص بيح، وذكره البخاري
(2)
، وابن أبي حاتم
(3)
ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وأورده ابن حبان في الثقات
(4)
فهو مجهول حال، وباقي رجاله رجال الصحيح.
وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير
(5)
من هذه الطريق. وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه الإمام أحمد في المسند
(6)
، والطبراني في الأوسط
(7)
بنحو حديث أبي هريرة. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة.
قال المنذري: «رواه أحمد والطبراني، ورواته رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات»
(8)
.
وقال الهيثمي في المجمع: «رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح»
(9)
.
(1)
(8/ 238)13209.
(2)
التاريخ الكبير (8/ 248)2885.
(3)
الجرح والتعديل (9/ 114) ترجمة: 482.
(4)
(7/ 588) ترجمة: 11608.
(5)
(6)
(3/ 199)1661.
(7)
(8/ 340)8805.
(8)
(3/ 34).
(9)
(4/ 306).
قلت: إسناده ضعيف؛ لضعف ابن لهيعة
(1)
، لكن ما قبله شاهد له، فالحديث بمجموع طرقه حسن، قال الألباني عنه في صحيح الترغيب والترهيب «حسن لغيره»
(2)
.
• وبما أن المرأة تشترك مع الرجل في الأجر، فإنها أيضًا شريكته في الوزر في الدور الثلاث: الدنيا، والبرزخ، والنار، إن هي تجرأت على نواهي الله، وضيعت أوامره.
ومن صور عذابها في البرزخ ما أخرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب الطويل وفيه: «فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، فإذا فيه لغط وأصوات. قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم. فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا
…
» وبعد أن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عنهم قال: «وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور؛ فإنهم الزناة والزواني» .
وإنما كان عقاب الزناة والزواني تعريهم؛ لاستحقاقهم أن يفضحوا بما استمتعوا به، والجزاء من جنس العمل؛ والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم، كوْن جنايتهم من أعضائهم السفلي
(3)
.
• بل إن أكثر ساكن النار النساء، أخرج البخاري
(4)
ومسلم
(5)
من حديث
(1)
انظر ترجمته في: التاريخ الكبير (5/ 182) 574، الكامل (4/ 144) 977، تهذيب الكمال (15/ 487) 3513، الميزان (4/ 166)4535.
(2)
(2/ 226)1932.
(3)
ينظر: الفتح (12/ 445).
(4)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: ترك الحائض الصوم (1/ 116)298.
(5)
في صحيحه كتاب الإيمان، باب: بيان نقصان بنقص الطاعات (1/ 86)79.
ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت: امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب الذي لب منكن» قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال:«أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين» واللفظ لمسلم.
• بل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه ما يجب على المرأة المسلمة الحذر منه لعاقبته الوخيمة، وعقابه الشديد.
أخرج مسلم
(1)
من حديث أبي هريرة مرفوعًا «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» .
وهذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع هذان الصنفان، وهما موجودان
(2)
، وتأمل -رحمك الله- الجمع بين ما تسبب في دخول الرجل والمرأة النار، أمّا الأول منهما فهم غلمان والي الشرطة، الذين يحملون في أيديهم السياط لضرب الناس في غير حد وإنما ظلمًا وعدوانًا
(3)
. وأمّا النساء فقد تسبب في دخولهن النار موجبات عدة:
(1)
في صحيحه كتاب اللبس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات (3/ 1680)2128.
(2)
ينظر: شرح مسلم، للنووي (14/ 109).
(3)
ينظر: شرح مسلم، للنووي (17/ 190)، فيض القدير (4/ 208).
1 -
«كاسيات عاريات» واختلف في معناها على أوجه:
أ- كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغن، عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا.
ب - كاسية بالثياب؛ لكنها شفافة لا تستر عورتها، فتعاقب في الآخرة بالعري، جزاء على ذلك.
ج - كاسية من نعم الله، عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب.
د- كاسية جسدها، لكنها تشد خمارها من ورائها فيبدو صدرها، فتصير عارية فتعاقب في الآخرة.
هـ- كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الآخرة من العمل، فلا ينفعها صلاح زوجها
(1)
.
2 -
«مائلات مميلات» واختلف في تفسيرها على أوجه:
أ- مائلات عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه، مميلات يعلمن غيرهن فعلهن المذموم.
ب- مائلات يمشين متبخترات مميلات لأكتافهن، مميلات قلوب الرجال إليهن.
(1)
ذكر ما تقدم الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث أم سلمة وفيه «رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» (12/ 23).
ج- مائلات يمشطن المشطة المائلة، مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة
(1)
.
3 -
«رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة» يكبرها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها
(2)
. قال القرطبي: «البخت» -بضم الموحدة وسكون المعجمة ثم مثناة جمع بخيتة- وهي ضرب من الإبل عظام الأسنمة، والأسنمة بالنون جمع سنام وهو أعلى ما في ظهر الجمل، شبه رؤوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن تزينًا وتصنعًا، وقد يفعلن ذلك بما يكثر به شعورهن».
(3)
(1)
ينظر: التمهيد لابن عبر البر (3/ 204)، مشارق الأنوار (1/ 392)، شرح مسلم للنووي (14/ 110)، لسان العرب (11/ 368) مادة (م ي ل)، شرح الموطأ للزرقاني (4/ 341)، فيض القدير (1/ 361).
(2)
ينظر: شرح مسلم للنووي (14/ 110).
(3)
ينظر: المفهم (5/ 450).
الفصل الثاني
واجبات المرأة الشرعية المشتملة على بعض حقوقها
وفي هذا الفصل ستة مباحث:
المبحث الأول: الطهارة.
المبحث الثاني: الصلاة.
المبحث الثالث: الزكاة والصدقة.
المبحث الرابع: حق المرأة في المبادرة إلى قضاء رمضان.
المبحث الخامس: الاعتكاف.
المبحث السادس: الحج.
لما كانت سلعة الله غالية، كان مهرها غاليًا أيضًا؛ فلن يدخل أحد الجنة إلا مفتاح، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان؛ فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح
(1)
، وقد فرض الله تعالى على عباده فرائض محددة من صلاة وزكاة وصيام وحج، ولم يفرق بين المرأة والرجل فيها، والأصل أن النساء شقائق الرجال، وكل ما ورد في حق الرجال ورد في حق النساء إلا ما دل الدليل على تخصيصه، وسأورد في هذه المباحث ما خص الله به النساء، أو حقًا أعطاه لهن، ولم يُعرف إمّا للجهل أو لغلبة الهوى. والله المستعان.
(1)
جزء من أثر أخرجه البخاري تعليقًا عن وهب بن منبه في صحيحه في كتاب الجنائز، باب: في الجنائز (1/ 417).
المبحث الأول: الطهارة
المطلع على الأحكام الواردة في هذا المبحث يرى ترجيح الإسلام لجانب اليسر والسهولة فيما تختص به النساء عن الرجال.
وإليك -رحمك الله- هذه المطالب:
المطلب الأول: التخفيف عن المرأة في نقض الشعر عند الغسل.
المطلب الثاني: وضوء وغسل الرجل مع امرأته.
المطلب الثالث: أحكام تتعلق بالحائض.
المطلب الرابع: أحكام تتعلق بالمستحاضة.
المطلب الأول
التخفيف عن المرأة في نقض الشعر عند الغسل
اختلف أهل العلم في المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس على المرأة نقض شعرها في الاغتسال من الحيض والجنابة، إلا إذا لم يصل الماء إلى بشرة الرأس إلا بالنقض. وقد ثبت هذا عن عائشة، وأم سلمة
(1)
، وقال به عطاء، والحكم، والزهري
(2)
، وذهب إليه مالك
(3)
، والشافعي
(4)
،
(1)
سيأتي حديثهما ص (124 - 125).
(2)
عزاه لمن تقدم ابن المنذر في الأوسط (2/ 132).
(3)
ينظر: المدونة الكبرى (1/ 28)، الاستذكار (1/ 338)، الثمر الداني (63).
(4)
ينظر: الأم (1/ 40)، شرح السنة (2/ 18)، المجموع (2/ 215).
والحنفية في ظاهر المذهب
(1)
.
واستدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1 -
ما أخرجه مسلم
(2)
من طريق عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض. فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتهما، فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء
…
» إلى أن قالت: وسألته عن غسل الجنابة، فقال: «تأخذ ماءً فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء
…
» الحديث.
ولو كان النقض واجبا لذكره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
2 -
ما أخرجه مسلم
(3)
من حديث أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة قال:«لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين» وأخرج
(4)
من طريق عبد الرزاق عن سفيان به وفيه «فأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: لا» .
قال ابن قدامة: «وهذه زيادة يجب قبولها، وهذا صريح في نفي الوجوب»
(5)
(1)
ينظر: المبسوط للسرخسي (1/ 45)، شرح فتح القدير (1/ 58)، البحر الرائق (1/ 52).
(2)
في صحيحه كتاب الحيض، باب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك من موضع الدم (1/ 260)332.
(3)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: حكم ضفائر المغتسلة (1/ 259)330.
(4)
المصدر السابق.
(5)
المغني (1/ 143).
وهذا الحديث صريح في عدم وجوب نقض الشعر للغسل من الحيض والجنابة، لكن أجاب الموجبون بأن لفظة «للحيضة» شاذة، قال ابن القيم:«فقد اتفق ابن عيينة، وروح بن القاسم، عن أيوب فاقتصر على الجنابة، واختلف فيه عن الثوري، فقال يزيد بن هارون عنه كما قال ابن عيينة وروح، وقال عبد الرزاق عنه «أفأنقضه للحيضة والجنابة» ورواية الجماعة أولى بالصواب، فلو أن الثوري لم يختلف عليه لترجحت رواية ابن عيينة وروح، فكيف وقد روي عن يزيد بن هارون مثل رواية الجماعة؟ ومن أعطى النظر حقه، علم أن هذه اللفظة ليست محفوظة»
(1)
.
3 -
ما أخرجه مسلم
(2)
من طريق عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن. فقالت: يا عجبًا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
وفي الحديث إنكار أم المؤمنين عائشة على عبد الله بن عمرو أمر النساء أن ينقضن رؤوسهن عند الغسل.
4 -
ما أخرجه أبو داود
(3)
عن محمد بن عوف، قال: قرأت في أصل إسماعيل بن عياش، قال ابن عوف: وثنا محمد بن إسماعيل، عن أبيه، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، قال أفتاني جبير بن نفير عن الغسل من الجنابة أن ثوبان حدثهم أهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال: «أما الرجل فلينشر رأسه، فليغسله حتى
(1)
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (1/ 295).
(2)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: حكم ضفائر المغتسلة (1/ 260)331.
(3)
كتاب الطهارة، باب نقض المرأة شعرها للغسل (1/ 66)250.
يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها ألا تنقضه التعرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها». وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين
(1)
من طريق محمد بن إسماعيل به بلفظه.
قال المنذري: «في إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش وأبوه وفيهما مقال»
(2)
وردّ عليه ابن القيم فقال: «وهذا إسناد شامي، وأكثر أئمة الحديث، يقولون: حديث إسماعيل بن عياش عن الشاميين صحيح، ونص عليه أحمد بن حنبل»
(3)
. وقال الشوكاني: «وأكثر ما علل به! أن في إسناده إسماعيل بن عياش، والحديث من روايته عن الشاميين، وهو قوي فيهم، فيقبل»
(4)
.
قلت: إسناده صحيح، ومحمد بن إسماعيل وإن تكلموا في سماعه من أبيه، قال ابن أبي حاتم:«لم يسمع من أبيه شيئا، حملوه على أن يحدث عنه فحدث»
(5)
وقال الحافظ: «عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع»
(6)
.
لكن تصحيح الإسناد بناء على قول محمد بن عوف «قرأت في أصل إسماعيل ابن عياش» وهذه وجادة صحيحة من ثقة في أصل ثقة، وهي حجة على المعتمد
(7)
. وصحح إسناده الألباني
(8)
.
(1)
(2/ 415)1686.
(2)
مختصر سنن أبي داود (1/ 169)248.
(3)
تهذيب السنن مع العون (1/ 433).
(4)
النيل (1/ 217).
(5)
الجرح والتعديل (7/ 189)1078.
(6)
التقريب (826)5772.
(7)
ينظر: مقدمة ابن الصلاح (169).
(8)
صحيح سنن أبي داود (2/ 7)250.
القول الثاني: يجب على المرأة نقض شعر رأسها في الحيض دون الجنابة، وإليه ذهب الحسن وطاووس
(1)
، وأبو محمد بن حزم
(2)
، وهو صحيح مذهب الإمام أحمد
(3)
ومن مفرداته واختاره ابن القيم
(4)
. قال الناظم:
والضفر في غسل المحيض ينقض
…
في النص والشيخان هذا نقضوا
(5)
وصحح ابن قدامة
(6)
، والمجد بن تيمية
(7)
بأن نقض شعر المرأة الحائض مستحب وليس بواجب، قال الحكمي:
وتنقض الحائض دون الجنب شعرًا وصح أنه لم يجب
(8)
واستدلوا لما ذهبوا إليه بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(9)
، ومسلم
(10)
من حديث عائشة قالت: خرجنا موافين هلال ذي الحجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يُهِل بعمرة فليهلل
…
وفيه: وكنت أنا من أهل بعمرة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت إلى
(1)
عزاه لهما ابن قدامة في المغني (1/ 143)، والنووي في شرح صحيح مسلم (4/ 12)، والحافظ في الفتح (1/ 550).
(2)
المحلى (2/ 38).
(3)
ينظر: المغني (1/ 143)، الإنصاف (1/ 256)، الفروع (1/ 205).
(4)
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (1/ 293).
(5)
النظم المفيد (15).
(6)
المغني (1/ 143).
(7)
عزاه له المرداوي في الإنصاف (1/ 256).
(8)
السبل السوية (9).
(9)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض (1/ 120)310.
(10)
في صحيحه كتاب الحج، باب: بيان وجوه الإحرام (2/ 870)1211.
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بحج» وفي سنن ابن ماجه
(1)
قال ابن حزم: والأصل في الغسل الاستيعاب لجميع الشعر، وإيصال الماء إلى البشرة بيقين بخلاف المسح، فلا يسقط ذلك إلا حيث أسقطه النص، وليس ذلك إلا في الجنابة فقط
(2)
.
وأجيب عن هذا الاستدلال بأنه ليس في اللفظ الوارد في الصحيحين أمر بالغسل، وبالنظر إلى ما في ابن ماجه من الأمر بالغسل، فإنه لا حجة فيه؛ لأن ذلك ليس هو غسل الحيض، وإنما أمرت بالغسل في حال الحيض للإحرام بالحج؛ فإنها قالت:«أدركني يوم عرفة، وأنا حائض، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي» . وأجيب بأن الأمر هنا للاستحباب، ومما يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمرها بالامتشاط، وليس بواجب كما لا يخفى
(3)
.
وبعضهم جمع بين حديث عائشة وحديث أم سلمة بأن من لا يصل إليها الماء إلا بالنقض فيلزم، أو لا
(4)
.
2 -
ما أخرجه الطبراني في الكبير
(5)
، والبيهقي في الكبرى
(6)
، والمقدسي في المختارة
(7)
كلهم من طرق عن سلمة بن صبيح اليحمدي، عن حماد بن سلمة،
(1)
كتاب الطهارة، باب: في الحائض كيف يغتسل (11/ 210)641.
(2)
المحلى (2/ 38).
(3)
المغني (1/ 143).
(4)
ينظر: الفتح (1/ 550)، سبل السلام (1/ 91).
(5)
(1/ 260)755.
(6)
(1/ 182)828.
(7)
(5/ 68)1693.
عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها، وغسلته بخطمي وأشنان، وإذا اغتسلت من جنابة صبت على رأسها الماء وعصرته» واللفظ للطبراني، وعند البيهقي عن «مسلم بين صبيح» .
قال الهيثمي: «وفيه سلمة بن صبيح، ولم أجد من ذكره»
(1)
.
قال الشوكاني: «وأما ما أخرجه الدارقطني في الأفراد، والخطيب في التلخيص، والطبراني في الكبير، والبيهقي من حديث أنس مرفوعًا
…
ففي إسناده مسلم بن صبيح اليحمدي، وهو مجهول، وهو غير أبي الضحى مسلم بن صبيح المعروف فإنه أخرج له الجماعة كلهم»
(2)
.
ومما يؤكد أن مسلم بن صبيح اليحمدي غير أبي الضحى مسلم بن ص بيح الهمداني، أن الأول متأخر من طبقة شيوخ أحمد، أمّا أبو الضحى فتابعي يروي عن ابن عباس وغيره
(3)
. وضعف الحديث الألباني في السلسلة الضعيفة
(4)
.
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهر في عدم النقض على المرأة الحائض، لكن الحديث لم يصح كما ذُكِر فلا يصلح للاستدلال.
3 -
وذكروا أن الحيض لا يتكرر، فلا يشق إيجاب نقضه، بخلاف الجنابة.
القول الثالث: يجب على المرأة نقض شعرها في غسل الحيض والجنابة، وإليه ذهب عبد الله
(1)
(1/ 273).
(2)
السيل الجرار (1/ 115).
(3)
ينظر: تهذيب الكمال (27/ 520)5931.
(4)
(2/ 342)937.
بن عمرو
(1)
، وحذيفة، وإبراهيم النخعي
(2)
. قال ابن القيم: ولا يعلم لهما (أي: عبد الله والنخعي) موافق
(3)
. قلت: وقد روي عن حذيفة.
(4)
.
• وبالنظر في الأدلة يترجح أنه ليس على المرأة أن تنقض ضفائرها في غسل الجنابة بخلاف غسل الحيض والنفاس فإنه يتأكد لها على سبيل الاستحباب نقضه، وذلك لما يأتي:
1 -
الأحاديث التي فيها تصريح بعدم وجوب نقض الضفائر في الغسل كلها في الجنابة، إلا الرواية التي تقدمت في حديث أم سلمة «أفأنقضه للحيضة والجنابة» وحكم ابن القيم بشذوذ «للحيضة» .
2 -
في سؤال أسماء رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض والجنابة، فرّق في الحكم، ففي غسل الحيض قال:«تأخذ إحداكن ماءها وسدرهما، فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء» وفي غسل الجنابة قال «ثم تصب على رأسها، فتدلكه حتى
(1)
مضى دليله ص (124)، وستأتي الإجابة عليه.
(2)
عزاه لهما ابن المنذر في الأوسط (2/ 134)، والشوكاني في النيل (1/ 248).
(3)
حاشية ابن القيم على السنن (1/ 292).
(4)
شرح مسلم (4/ 12).
تبلغ شؤون رأسها».
فزاد في غسل الحيض: السدر، والسدر يدخل بين الشعر مع الغسل، وإخراجه من الرأس والشعر مضفور فيه صعوبة، فهذا يدل على أنه ينقض والحالة هذه. وزاد أيضًا «تدلكه دلكًا شديدًا» ولم يقل «شديدًا» في غسل الجنابة؛ فجعل غسل الحيض آكد
(1)
.
ومع ذلك فإن هذا الدليل غير كاف لإيجاب نقض شعر المرأة في غسل الحيض؛ لأن السدر غير واجب في الغسل على الحائض، ولو نقضت المرأة شعر رأسها في الحيض لكان أحوط وأبرأ للذمة، ولخرجت من العهدة بيقين.
وبعد هذا الاستعراض السريع لأدلة وأقوال نقض المرأة شعرها في الغسل، تحد ترجيح الإسلام لجانب التخفيف على المرأة المسلمة، وحفظ حقها في ضفر رأسها، فكيف بما هو أعظم. فلله الحمد والمنة.
المطلب الثاني: وضوء وغسل الرجل مع امرأته
أوردت هذه المسألة تحت هذا المطلب، اقتداء بمن سبقني من علماء الحديث وأهله، حيث بوّب البخاري في صحيحه في كتاب الوضوء «باب وضوء الرجل مع امرأته»
(2)
وفي كتاب الغسل «باب غسل الرجل مع امرأته»
(3)
وبوّب عليها النووي في صحيح مسلم في كتاب الحيض باب: «القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد في حالة واحدة، وغسل أحدهما بفضل
(1)
ينظر: حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (1/ 293).
(2)
(1/ 82).
(3)
(1/ 100).
الآخر»
(1)
وبوّب عليها أبو داود في سننه في كتاب الطهارة «باب: الوضوء بفضل وضوء المرأة»
(2)
وبوّب عليها ابن ماجه في كتاب الطهارة: «باب الرجل والمرأة يغتسلان من إناء واحد»
(3)
وبوّب عليها الترمذي في كتاب الطهارة «باب ما جاء في وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد»
(4)
فسننت سنتهم، واقتفيت أثرهم بإيراد هذا المطلب في هذا المبحث.
وستأتي الأحاديث التي تدل على جواز اغتسال أو وضوء الزوجين من إناء واحد، يغترفان منه جميعًا، وقد نقل الإجماع على ذلك أربعة من الأئمة، ومن الطريف أنهم يمثلون المذاهب الأربعة، فقد نقل الإجماع الطحاوي الحنفي في شرح معاني الآثار
(5)
، والقرطبي المالكي في المفهم
(6)
، والنووي الشافعي في المجموع
(7)
، وابن تيمية الحنبلي في مجموع الفتاوي
(8)
، وإن كان يعكر على هذا الإجماع، ما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان يكرهه
(9)
، وما حكاه ابن عبد البر في التمهيد
(10)
عن طائفة أهم قالوا: لا يجوز أن يغترف الرجل والمرأة في إناء واحد.
(1)
(1/ 255).
(2)
(1/ 20).
(3)
(1/ 133).
(4)
(1/ 91).
(5)
(1/ 26).
(6)
(2/ 688).
(7)
(1/ 190).
(8)
(21/ 53).
(9)
الأوسط (1/ 291).
(10)
(14/ 164).
أدلة المسألة:
1 -
ما أخرجه البخاري
(1)
من حديث ابن عمر أنه قال: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا.
وقد وقع التصريح بوحدة الإناء في مسند أحمد
(2)
من حديث ابن عمر قال: رأيت الرجال والنساء يتوضؤون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا من إناء واحد. وفي صحيح ابن خزيمة
(3)
، وابن حبان
(4)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون، والنساء معهم من إناء واحد، كلهم يتطهر منه.
وأجاب شراح الحديث على قول ابن عمر: (يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا) بأجوبة عدة:
1 -
حكى ابن التين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعًا في موضع واحد، هؤلاء على حدة، وهؤلاء على حدة. والزيادة المتقدمة في قوله «من إناء واحد» ترد عليه.
2 -
وأجاب ابن التين عنه بما حكاه عن سحنون أن معناه: كان الرجال يتوضؤون، ويذهبون، ثم تأتي النساء فيتوضؤون. وهو خلاف الظاهر من قوله «جميعًا» .
3 -
قال الحافظ: والأولى في الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم
(5)
.
(1)
في صحيحه كتاب الوضوء، باب: وضوء الرجل مع امرأته (1/ 82)190.
(2)
(8/ 60)4481.
(3)
(1/ 63)120.
(4)
(4/ 74)1263.
(5)
ذكر ما تقدم الحافظ في الفتح (1/ 300).
ومن المعلوم أن المرأة في مجتمع المدينة المسلم كانت منعزلة عن الرجال في الصلاة، وهو متواتر، كما كانت منعزلة عنهم في التعليم، وخير صفوف النساء ما كان أبعد عن الرجال، وغير هذا من القيود والضوابط والتحفظات في حال أداء الشعائر الدينية، فالتزام هذا الضابط في غيرها أولى وأجدر بالعناية وبخاصة حال الوضوء، حيث يظهر من المرأة ما هو واجب الستر عن الأجانب بالإجماع كالذراعين وشعر الرأس.
2 -
ما أخرجه البخاري
(1)
من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد.
3 -
ما أخرجه البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث عائشة قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة» واللفظ المسلم، وزاد مسلم من طريق عاصم الأحول، عن معاذة، عن عائشة «فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي»
(4)
.
4 -
ما أخرجه البخاري
(5)
، ومسلم
(6)
من حديث ميمونة أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد. واللفظ لمسلم.
(1)
في صحيحه كتاب الغسل، باب: هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يده قذر (1/ 103)261.
(2)
في صحيحه كتاب الغسل، باب: غسل الرجل مع امرأته (1/ 100)247.
(3)
في صحيحه كتاب الحيض، بابك القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد (1/ 255)321.
(4)
المصدر السابق.
(5)
في صحيحه كتاب الغسل، باب: الغسل بالصاع ونحوه (1/ 100)250.
(6)
(1/ 257)322.
5 -
ما أخرجه مسلم
(1)
من طريق زينب بنت أم سلمة، أن أم سلمة حدثتها قالت: كانت هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسلان في الإناء الواحد من الجنابة.
فهذه الأحاديث تدل على أن من حق المرأة على زوجها أن يلاطفها كما لاطف رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاته في تطهره، فاغتسل معهن من إناء واحد، ثم تأمل روايات الحديث «تختلف أيدينا» ورواية «فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي» ومعنى «فيبادرني» أي يعاجلني ويسابقني
(2)
. وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لكل عبد مؤمن في تعامله مع أهل بيته؛ إن اغتساله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته يُظهر قدر لطفه ودعابته، وكريم شمائله، وعظيم أخلاقه، ثم ما صحب ذاك الاغتسال من المسابقة في اغتراف الماء، واختلاف الأيدي، فهل من مشمر لهديه، فقد أُمرنا بالاقتداء به
(3)
.
المطلب الثالث: أحكام تتعلق بالحائض
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: مباشرة الحائض.
المسألة الثانية: طهارة الحائض.
المسألة الثالثة: التخفيف عن الحائض.
المسألة الأولى: مباشرة الحائض
مرّ بنا فيما مضى
(4)
تعامل اليهود وأهل الجاهلية مع المرأة وقت حيضها
(1)
(1/ 257)324.
(2)
ينظر: اللسان (4/ 48)، القاموس المحيط (1/ 443) مادة (ب د ر).
(3)
سيأتي مزيد بحث للحقوق المعنوية للمرأة ص (851).
(4)
ص (28).
وإخراجها من بيتها، وعدم مؤاكلتها أو مجالستها، متناسين حاجاتها الإنسانية ولاسيما مع الاضطرابات النفسية التي تحدث لها في تلك الفترة الزمنية، فجاء الإسلام لإنقاذها من ظلم العباد، فأعطاها حقها كأنثى، وجاءت تبويبات المحدثين في كتبهم في كتاب الحيض بـ «باب: مباشرة الحائض»
(1)
…
و «باب: النوم مع الحائض، وهي في ثيابها»
(2)
و «باب: ما جاء في مؤاكلة الحائض وسؤرها»
(3)
مخالفًا الإسلام في ذلك عادات الجاهليين، واليهود.
أخرج مسلم
(4)
من طريق ثابت، عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
(5)
إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما».
(1)
صحيح البخاري (1/ 115)، صحيح مسلم (1/ 242)، سنن الترمذي (1/ 240).
(2)
صحيح البخاري (1/ 122)، وانظر: صحيح مسلم (1/ 243).
(3)
سنن ابن ماجه (1/ 211).
(4)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه (1/ 246)302.
(5)
البقرة: 222.
ومن هنا أجمع العلماء على حرمة الوطء في الفرج؛ لأن التحريم للأذى، والفرج محله، كما أجمعوا على جواز الاستمتاع من الحائض فيما فوق السرة ودون الركبة
(1)
، واختلفوا في الاستمتاع بما بينهما:
فذهب إلى التحريم مطلقًا في الاستمتاع بما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر أكثر العلماء منهم سعيد بن المسيب، وشريح، وطاووس، وعطاء، وسليمان بن يسار، وقتادة
(2)
، وأبو حنيفة
(3)
، ومالك
(4)
، وهو أصح الأوجه عند الشافعية، ومنصوص الشافعي في الأم
(5)
والبويطي
(6)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(7)
ومسلم
(8)
من طريق الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تتزر فور حيضتها، ثم يباشرها. قالت: وأيكم يملك إربه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه. واللفظ لمسلم.
وفي الحديث أمره صلى الله عليه وسلم لنسائه بالاتزار عند المباشرة، والأمر للوجوب، وكانت
(1)
نقل الإجماع ابن المنذر في الأوسط (2/ 208)، وابن قدامة في المغني (1/ 203)، وحكاه النووي عن أبي حامد الاسفرائيني في شرح صحيح مسلم (3/ 205).
(2)
عزاه لمن تقدم النووي في شرح صحيح مسلم (3/ 205).
(3)
ينظر: شرح معاني الآثار (3/ 36)، البحر الرائق (1/ 209).
(4)
ينظر: التمهيد (3/ 174)، حاشية العدوي (2/ 543).
(5)
(5/ 173).
(6)
ينظر: المجموع (2/ 365).
(7)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: مباشرة الحائض (1/ 115)256.
(8)
في صحيحه كتاب الحائض، باب: مباشرة الحائض فوق الإزار (1/ 242)293.
المباشرة لها «فَوْر حيضتها» ومعنى فور حيضتها أي: معظمها، ووقت كثرتها
(1)
.
ووجه الدلالة من الحديث أمره صلى الله عليه وسلم للمرأة من نسائه بالاتزار، مع ملكه لإربه، وما ذاك إلا تشريع لغيره ممن ليس معصوم، وحدد الفقهاء حد الإزار ما بين السرة والركبة عملًا بالعرف الغالب
(2)
.
2 -
ما أخرجه مسلم
(3)
من طريق عبد الله بن شداد، عن ميمونة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار، وهن حيض.
وأخرج
(4)
من طريق كريب مولى ابن عباس، قال: سمعت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يضطجع معي، وأنا حائض، وبيني وبينه ثوب.
وقد بينت الروايات عن ميمونة حدود الإزار الذي كن يلبسنه، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف
(5)
، وأحمد في المسند
(6)
، والدارمي في السنن
(7)
، والنسائي في المجتبى
(8)
، وأبو يعلى في المسند
(9)
، والطحاوي في شرح معاني الآثار
(10)
، وابن حبان في صحيحه
(11)
، والبيهقي في الكبرى
(12)
، كلهم من طرق عن الليث
(1)
ينظر: مشارق الأنوار (1/ 136)، شرح صحيح مسلم (3/ 203)، فتح الباري (1/ 404).
(2)
ينظر: الفتح (1/ 404).
(3)
في صحيحه في كتاب الحيض، باب: مباشرة الحائض فوق الإزرار (1/ 243)294.
(4)
حديث رقم (295).
(5)
(3/ 531)16832.
(6)
(6/ 335)26893.
(7)
(1/ 262)1057.
(8)
(1/ 151)287.
(9)
(13/ 21)7104.
(10)
(3/ 36).
(11)
(4/ 200)1365.
(12)
(1/ 313)1397.
بن سعد، عن ابن شهاب، عن حبيب مولى عروة، عن ندبة مولاة ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر المرأة من نسائه، وهي حائض، إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخدين أو الركبتين تحتجز به.
وإسناد رجاله كلهم ثقات، غير ندبة بضم أولها، ويقال: بفتحها، وسكون الدال، بعدها موحدة، ويقال: موحدة أولها مع التصغير- روت عن مولاتها ميمونة، وعنها حبيب الأعور مولى عروة بن الزبير
(1)
، ذكرها ابن حبان في الثقات
(2)
، قال الحافظ: مقبولة، ويقال: إن لها صحبة، كذا في «التقريب»
(3)
وفي «التهذيب» : «ذكرها ابن منده، وأبو نعيم في الصحابة»
(4)
.
وأمّا ابن حزم فقال في المحلى
(5)
: «وهي مجهولة لا تعرف» . ورد عليه ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود
(6)
فقال: «فأما تعليله حديث ندبة بكونها مجهولة فإنها مدنية، روت عن مولاتها ميمونة، وروى عنها حبيب، ولم يعلم أحد جرحها، والراوي إذا كانت هذه حاله إنما يخشى من تفرده بما لا يتابع عليه، فأما إذا روى ما رواه الناس، وكانت لروايته شواهد ومتابعات، فإن أئمة الحديث يقبلون حديثًا مثل هذا، ولا يردونه، ولا يعللونه بالجهالة، فإذا صاروا إلى معارضة ما رواه بما هو أثبت منه، وأشهر، علاوة بمثل هذه الجهالة، وبالتفرد، ومن تأمل كلام الأئمة رأي فيه ذلك، فيظن أن ذلك تناقض منهم، وهو بمحض العلم والذوق، والوزن المستقيم،
(1)
ينظر: تهذيب الكمال (35/ 315)7939.
(2)
(5/ 487)5861.
(3)
8790.
(4)
(12/ 482)2902.
(5)
(2/ 179).
(6)
(1/ 309).
فيجب التنبه لهذه النكتة، فكثيرًا ما تمر في الأحاديث ويقع الغلط بسببها. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(1)
.
3 -
واستدلوا بأن الأمر بالاتزار سد الذريعة الوقوع في النكاح، وقد كان صلى الله عليه وسلم أملك الناس لإربه، ولا يخشى عليه ما يخشى على غيره من أن يحوم حول الحمى، ومع ذلك فكان يباشر فوق الإزار تشريعًا لغيره.
القول الثاني: وذهب عكرمة، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والحكم، والثوري، والأوزاعي، وأصبغ من المالكية
(2)
، ومحمد بن الحسن
(3)
، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود
(4)
، وابن المنذر
(5)
، وأحمد بن حنبل
(6)
إلى جواز الاستمتاع بما بين السرة والركبة غير الفرج. قال النووي: هذا المذهب أقوى دليلًا
(7)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه مسلم من حديث أنس مطولًا ومنه: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»
(8)
، والحديث في مقام تعليم وبيان حكم قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} ، ولم يحرم على المسلمين إلا الفرج، وتأخير البيان عن وقت
(1)
(2/ 25)260.
(2)
عزاه لمن تقدم النووي في شرح مسلم (3/ 205)، وعزاه لبعضهم ابن قدامة في المغني (1/ 203) والحافظ في الفتح (1/ 404).
(3)
ينظر: شرح معاني الآثار (3/ 39).
(4)
عزاه لمن تقدم النووي في شرح صحيح مسلم (3/ 205)، وانظر: المحلى (2/ 182).
(5)
الأوسط (2/ 207).
(6)
ينظر: المغني (1/ 203)، كشاف القناع (1/ 200).
(7)
شرح صحيح مسلم (3/ 205).
(8)
تقدم تخريجه ص (138).
الحاجة لا يصح.
2 -
ما أخرجه أبو داود في سننه
(1)
، ومن طريقه ابن حزم في المحلي
(2)
، والبيهقي في الكبرى
(3)
، من طريق عكرمة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئًا، ألقى على فرجها ثوبًا.
قال الحافظ: «إسناده قوي»
(4)
وصحح إسناده العيني في عمدة القارئ
(5)
، وابن عبد الهادي
(6)
، والألباني في صحيح سنن أبي داود
(7)
.
قلت: إسناده صحيح على شرط مسلم.
3 -
استدل الطحاوي على الجواز بأن المباشرة تحت الإزار دون الفرج لا توجب حدًا ولا غسلًا، فأشبهت المباشرة فوق الإزار
(8)
.
• وأجابوا عن أحاديث أصحاب القول الأول بأنها مجرد فعل، وليس فيها
ما يقتضي منع ما تحت الإزار
(9)
.
• والراجح القول الثاني لقوة أدلته، وبعضهم فرق بين من يملك أربه ومن لا يملكه قال النووي: «الوجه الثالث: إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج، ويثق
(1)
(1/ 71)272.
(2)
(2/ 182).
(3)
(1/ 314)1401.
(4)
(1/ 404).
(5)
(3/ 269).
(6)
نقله عنه المناوي في فيض القدير (5/ 95).
(7)
(2/ 92)263.
(8)
ينظر: شرح معاني الآثار (3/ 39).
(9)
ينظر: الفتح (1/ 404).
من نفسه باجتنابه إمّا لضعف شهوته، وإمّا لشدة ورعه جاز (أي المباشرة ما بين السرة والركبة) وإلا فلا. وهذا الوجه حسن»
(1)
.
ولا تعارض بين أدلة الفريقين، فأدلة الأمر بالاتزار تحمل على الاستحباب جمعًا بين الأدلة، أو أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا مرة وهذا مرة، وفي ذلك إباحة كلا الحالتين
(2)
.
المسألة الثانية: طهارة الحائض، وثيابها ما لم تلحقها النجاسة:
وفي ذلك أحاديث منها:
1 -
ما أخرجه البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من طريق هشام، عن عروة أنه سئل: أتخدمي الحائض، أو تدنو مني المرأة وهي جنب؟ فقال عروة: كل ذلك عليّ هين، وكل ذلك تخدمي، وليس على أحد في ذلك بأس، أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل -تعني رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ مجاور في المسجد، يدين لها رأسه، وهي في حجرتها، فترجله وهي حائض. واللفظ للبخاري.
وعليه بوّب البخاري باب: «غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله» وبوّب عليه في كتاب الاعتكاف، باب:«الحائض ترجل المعتكف»
(5)
.
قال الحافظ: «
…
وهو دال على أن ذات الحائض طاهرة، وعلى أن حيضها
(1)
شرح صحيح مسلم (3/ 205).
(2)
ينظر: شرح معاني الآثار (3/ 37)، الفتح (1/ 404).
(3)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: غسل الحائض رأس زوجها وترجيله (1/ 114)292.
(4)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها
…
(1/ 224)297.
(5)
(2/ 714).
لا يمنع ملامستها»
(1)
قلت: بل مباشرتها فيما دون الفرج كما مرّ، وكما أن المرأة تخدم زوجها قبل الحيض، فكذلك الحال أثناءه خلافًا لما كان عليه أهل الجاهلية، بل إن لها خدمته أثناء اعتكافه في مسجده.
2 -
بل تأتي السنة النبوية بجواز قراءة القرآن في حجر الحائض، أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من طريق صفية، أن عائشة حدثتها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن.
وبوّب عليه البخاري: باب «قراءة الرجل في حجْر امرأته، وهي حائض. وكان أبو وائل يُرسل خادِمَه وهي حائض إلى أبي رزَين، فتأتيه بالمصحف، فتمسكه بعلاقته» .
ومن الحديث أخذ الفقهاء: جواز استناد المريض في صلاته إلى الحائض إذا كانت أثوابها طاهرة
(4)
.
3 -
ويصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وقع ثوبه على ميمونة وهي حائض، ولا يضره ذلك، وما ذاك إلا دلالة على طهارة عين الحائض، أخرج البخاري
(5)
، ومسلم
(6)
من طريق عبد الله بن شداد قال: سمعت خالي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تكون حائضًا لا تصلي، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي على خمرته،
(1)
الفتح (1/ 401).
(2)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: قراءة الرجل في حجر امرأته، وهي حائض (1/ 114)293.
(3)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرتها
…
(1/ 244)301.
(4)
ينظر: المفهم (1/ 104)، الفتح (2/ 402).
(5)
في صحيحه كتاب الحيض، باب (1/ 126).
(6)
في صحيحه كتاب الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي (1/ 367)513.
إذا سجد أصابني بعض ثوبه.
فتأمل -يرحمك الله- هذا الحديث وما قبله، يتبين حرصه صلى الله عليه وسلم على محاربة الوسواس، فيصلي، وثوبه على زوجه الحائض، ويقرأ في حجرها، ويُخْرِج رأسه صلى الله عليه وسلم من معتكفه لزوجه الحائض لترجله، ثم انظر إلى وافر عطفه، وعظيم حنوه، وكريم سجاياه وتربيته لأهل بيته على العبادات، فقربه من زوجه في حال قراءته وصلاته، وإشراكه لها في تمشيط شعره أثناء اعتكافه، يعطيك حرصه على التربية بالقدوة، فهلا يا معشر الرجال من مشمر؛ فإن لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
4 -
وبلغ من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وحنوه أنه كان يتبع موضع فم عائشة التي شربت أو أكلت منه، فيشرب منه ويأكل، أثناء حيضتها، أخرج مسلم
(1)
من حديث عائشة قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي، فيضع فاه على موضع في.
وفي الحديث كرمه صلى الله عليه وسلم حيث قدم عائشة في الشرب والأكل عليه، وتواضعه حيث تحري موضع فمها في الأكل والشرب، ومردود ذلك النفسي على زوجته الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها حيث حبرت، وحدثت به.
وفي الحديث أيضًا دلالة على طهارة سور الحائض، ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك
(2)
.
5 -
بل إن الحيض لا يمنع من الاضطجاع معها في لحاف واحد، أخرج
(1)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها، وقراءة القرآن فيه (1/ 245)300.
(2)
الأوسط (1/ 299).
البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق زينب بنت أم سلمة، أن أم سلمة حدثتها قالت: بينما أنا مضطجعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة؛ إذ حضت فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني، فاضطجعت معه في الخميلة. قالت: وكانت هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسلان في الإناء الواحد من الجنابة. واللفظ لمسلم.
بل أنكرت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها على ابن عباس عزل فراشه عن فراش زوجه وقت حيضتها، أخرج البيهقي في الكبرى
(3)
من طريق نَدْبة مولاة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن ميمونة أرسلتها إلى عبد الله بن عباس في رسالة، فدخلت عليه، فإذا فراشه معزول عن فراش امرأته، فرجعت إلى ميمونة فبلغتها رسالتها، ثم ذكرت ذلك. فقالت لها ميمونة: ارجعي إلى امرأته، فسليها عن ذلك، فرجعت إليها، فسألتها عن ذلك، فأخبرتها أنها إذا طمثت عزل عبد الله فراشه عنها، فأرسلت ميمونة إلى عبد الله بن عباس فتغيظت عليه، وقالت: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله إن كانت المرأة من أزواجه لتأتزر بالثوب ما يبلغ أنصاف فخذيها، ثم يباشرها بسائر جسدها
(4)
.
المسألة الثالثة: التخفيف عن الحائض:
أجمع العلماء على أن الحائض لا تصلي ولا تصوم أثناء حيضتها، وأنها تقضي الصوم دون الصلاة
(5)
، ذلك لأن الصلاة تتكرر فلم يجب قضاؤها للحرج،
(1)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: النوم مع الحائض وهي في ثيابها (1/ 122)316.
(2)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد (1/ 243)295.
(3)
(1/ 313)1398.
(4)
تقدم الحكم على إسناده ص (107).
(5)
نقل الإجماع ابن المنذر في الأوسط (2/ 203)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 107)، والنووي في شرح صحيح مسلم (4/ 26)، وانظر: الفتح (1/ 422).
بخلاف الصيام
(1)
.
أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث معاذة قالت: سألت عائشة، فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة. فقالت: أحرورية
(4)
أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. واللفظ لمسلم.
وفهمت عائشة من معاذة طلب الدليل فاقتصرت في الجواب عنه دون التعليل
(5)
.
وفي الحديث عدل الإسلام حيث وازن بين التخفيف والتكليف، فأسقط ما يشق قضاؤه، وأبقى ما لا كلفة على العبد في قضائه، فلله الحمد والمنة.
وما يقال في حق الحائض يقال مثله في النفساء؛ لأن كليهما دم فاسد.
(1)
ينظر: شرح النووي (4/ 26)، الفتح (1/ 422).
(2)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة (1/ 122)315.
(3)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (1/ 265)335.
(4)
الحروري نسبة إلى حَرُوراء بلدة على ميلين من الكوفة، والأشهر أنها بالمد، يقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حروري؛ لأن أول فرقة منهم خرجوا على علي بالبلدة المذكورة، فاشتهروا بالنسبة إليها، ومن أصولهم المتفق عليها الأخذ بما دل عليه القرآن، ورد السنة مطلقًا.
ينظر: مشارق الأنوار (1/ 187)، معجم البلدان (2/ 245)، الفتح (1/ 423).
(5)
الفتح (1/ 423).
المطلب الرابع: أحكام تتعلق بالمستعاضة
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: حق المرأة في العبادات.
المسألة الثانية: مباشرة المستحاضة.
المسألة الأولى: حق المرأة في العبادات:
أمّا المستحاضة وهي التي يجري معها الدم في غير أوانه فحكمها حكم الطاهرات لها أن تصلي، وتصوم، وتعتكف، وتقرأ القرآن، وتمس المصحف، وتحمله، وتفعل كل العبادات، وقد أجمع على هذا العلماء
(1)
.
ودليل ذلك ما أخرجه البخاري
(2)
من طريق عكرمة عن عائشة قالت: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم والصفرة، والطست تحتها، وهي تصلي.
واختلف في تسمية زوجة النبي صلى الله عليه وسلم التي استحاضت، فُذِكر أنها زينب بنت جحش، أو سودة بنت زمعة، أو أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان
(3)
، ورجح الحافظ أنها أم سلمة لرواية سعيد بن منصور، حيث أخرج من طريق عكرمة، أن أم سلمة كانت عاكفة وهي مستحاضة، وربما جعلت الطست تحتها، قال الحافظ: «وهذا
(1)
حكى الإجماع ابن جرير فيما نقله عنه النووي في المجموع (2/ 501)، وسيد سابق في فقه السنة (1/ 67).
(2)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: الاعتكاف للمستحاضة (1/ 118)304.
(3)
ينظر: فتح الباري (1/ 412)، عمدة القارئ (3/ 278).
أولى ما فسرت به هذه المرأة لاتحاد المخرج»
(1)
.
وفي الحديث جواز مكث المستحاضة في المسجد، وصحة اعتكافها، وصلاتها، وقراءتها، وجواز حدثها في المسجد عند أمن التلويث
(2)
.
وذهب الجمهور من السلف والخلف أنه لا يجب عليها الغسل لشيء من الصلاة، ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة، حينما ينقطع حيضها
(3)
، ودليل ذلك ما أخرج البخاري
(4)
، ومسلم
(5)
من حديث عائشة أن فاطمة بنت أبي حُبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي».
واختلف أهل العلم هل تتوضأ لكل صلاة؟
فذهب الشافعي
(6)
وأحمد
(7)
إلا أن عليها الوضوء عند كل صلاة بعد غسل محل الحدث، وشده، والتحرز من خروج الحدث بما يمكنه، وألا تتوضأ قبل دخول الوقت إذ طهارتها ضرورية، فليس لها تقديمها قبل وقت الحاجة، ولا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية، ومن أدلتهم ما أخرجه البخاري
(8)
من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة
(1)
الفتح (1/ 412).
(2)
(المصدر السابق).
(3)
ينظر: الاستذكار (1/ 342)، المجموع (2/ 498) بداية المجتهد (1/ 43).
(4)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: إذا حاضت في شهر ثلاث حيض (1/ 122)314.
(5)
في صحيحه كتاب الحيض، باب: المستحاضة، وغسلها، وصلاتها (1/ 262)333.
(6)
ينظر: الأم (1/ 61)، المجموع (2/ 492).
(7)
ينظر: المغني (1/ 206)، الفروع (1/ 242).
(8)
في صحيحه كتاب الوضوء، باب: غسل الدم (1/ 91)226.
بنت أبي حُبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر
…
الحديث وفي آخره. وقال أبي: «ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» قال الحافظ: قوله (قال) أي: هشام بن عروة (وقال أبي) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة أي عروة بن الزبير، وادعى بعضهم أن هذا معلق، وليس بصواب، بل هو بالإسناد المذكور عن محمد، عن أبي معاوية، عن هشام وقد بين ذلك الترمذي في روايته. وادعى آخر أن قوله «ثم توضئي» من كلام عروة، موقوفًا عليه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان كلامه، لقال:«ثم تتوضأ» بصيغة الإخبار؛ فلما أتى به بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في المرفوع وهو قوله «فاغسلي»
(1)
.
وذهب الأحناف
(2)
إلى أن الوضوء متعلق بوقت الصلاة؛ فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة وما شاءت من الفوائت، ما لم يخرج وقت الحاضرة، وعلى قولهم المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:«وتوضئي لكل صلاة» أي: لوقت كل صلاة. قال الحافظ: «ففيه مجاز الحذف، ويحتاج إلى دليل»
(3)
.
ومن أدلتهم:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش «توضئي لوقت كل صلاة»
(4)
قال
النووي: «وهذا حديث باطل لا يعرف»
(5)
.
(1)
الفتح (1/ 441).
(2)
ينظر: الجامع الصغير (1/ 74) شرح معاني الآثار (1/ 116)، شرح فتح القدير (1/ 180).
(3)
الفتح (1/ 539).
(4)
انظر: شرح فتح القدير (1/ 180).
(5)
المجموع (2/ 494).
2 -
قالوا: إن الطهارات تنتقض بأحداث منها الغائط والبول، وطهارات تنتقض بخروج أوقات، وهي الطهارة بالمسح على الخفين ينقضها خروج وقت المسافر أو المقيم، وهذه الطهارات المتفق عليها لم نجد فيما ينقضها صلاة، إنما ينقضها حدث أو خروج وقت، ولم نجد الفراغ من الصلاة حدثًا، فثبت بذلك قول من ذهب إلى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة
(1)
.
قلت: ولا مانع من إضافة الفراغ من الصلاة حدثًا للمستحاضة؛ لوجود الدليل «ثم توضئي لكل صلاة» .
وذهب المالكية
(2)
إلى أنه يستحب لها الوضوء لكل صلاة، ولا يجب إلا بحدث آخر، واستدلوا بحديث فاطمة بنت أبي حُبيش وفيه «ثم اغتسلي وصلي» ولم يقل «توضئي لكل صلاة» . وقد مضى زيادة عروة بن الزبير «ثم توضئي لكل صلاة»
(3)
.
وبالنظر في الأقوال يترجح القول الأول؛ لقوة أدلته؛ ولأنه الأبرأ للذمة.
المسألة الثانية: مباشرة المستحاضة:
ذهب جمهور العلماء أبو حنيفة
(4)
، ومالك
(5)
، والشافعي
(6)
، وأحمد في رواية عنه
(7)
إلى جواز وطء المستحاضة.
(1)
ينظر: شرح معاني الآثار (1/ 106).
(2)
ينظر: التمهيد (22/ 109)، حاشية الدسوقي (1/ 169).
(3)
مضى تخريجهما ص (150).
(4)
ينظر: تحفة الفقهاء (1/ 34)، حاشية ابن عابدين (1/ 298).
(5)
ينظر: التمهيد (16/ 70)، بداية المجتهد (1/ 45).
(6)
ينظر: المجموع (2/ 372)، حواشي الشرواني (1/ 398).
(7)
ينظر: المغني (1/ 205)، الإنصاف (1/ 382).
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه أبو داود في سننه
(1)
، ومن طريقه البيهقي في الكبرى
(2)
، من طريق عكرمة، عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها.
وإسناده صحيح، قال الحافظ «هو حديث صحيح، إن كان عكرمة سمع منها»
(3)
ولا أدري ما مستنده في ذلك؟ ولم يذكره أحد ممن ترجم لأم حبيبة وعكرمة! ولعل وجهه أن عكرمة وهو أبو عبد الله المدني البربري، مولى ابن عباس، تابعي مات سنة (107 هـ)
(4)
، وهو غير معروف بالتدليس، فروايته محمولة على السماع إلا إذا وجد ما يدل على الانقطاع، وليس لدينا شيء من ذلك؛ فالشك المذكور خلاف الأصل. وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود
(5)
.
2 -
ما أخرجه البخاري تعليقًا في باب: إذا رأت المستحاضة الطهر
(6)
قال: «قال ابن عباس: تغتسل وتصلي ولو ساعة
…
ويأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم».
قال الحافظ: «قوله «الصلاة أعظم» أي من الجماع، والظاهر أن هذا بحث من البخاري أراد به بيان الملازمة، أي إذا جازت الصلاة فجواز الوطء أولى؛ لأن أمر الصلاة أعظم من أمر الجماع»
(7)
.
(1)
(1/ 83)310.
(2)
(1/ 329)1459.
(3)
الفتح (1/ 4291).
(4)
ينظر: تهذيب التهذيب (7/ 236)476.
(5)
(2/ 116)328.
(6)
كتاب الحيض (1/ 125)، وانظر في وصله تغليق التعليق (1/ 148)، والفتح (1/ 429).
(7)
الفتح (1/ 429).
3 -
أنه لم يرد دليل بتحريم جماعها.
ومما سبق يتبين إنصاف الإسلام للمرأة في طارئ يمر عليها، فيبقى حكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات وجواز الوطء.
المبحث الثاني: الصلاة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: خروجها للصلاة في المسجد.
المطلب الثاني: إمامة النساء.
المطلب الثالث: شهود المرأة لصلاة العيدين.
المطلب الرابع: شهود المرأة لصلاة الكسوف.
المطلب الأول: خروجها للصلاة في المسجد
وستقف في هذا المطلب على أن للمرأة حقًا في الخروج من بيتها للصلاة في المسجد ليلًا أو نهارًا فرضًا أو نافلة، وبيان أنه ليس لوليها منعها من ذلك، إذا لم يترتب على خروجها فتنة أو مفسدة.
ذهب المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
، والظاهرية
(4)
إلى أنه يكره لولي المرأة منعها من المسجد عند أمن الفتنة، على اختلاف بينهم في فروع المسألة، وأمّا الأحناف فأذنوا للعجوز دون الشابة
(5)
، وقيدوا الحديث بما لم يرد فيه.
(1)
ينظر: التمهيد (23/ 402)، الفواكه الدواني (1/ 207).
(2)
ينظر: المجموع (4/ 171)، حواشي الشرواني (2/ 101).
(3)
ينظر: المغني (2/ 181)، المبدع (2/ 57).
(4)
ينظر: المحلى (3/ 129).
(5)
ينظر: البحر الرائق (1/ 380).
ومن أدلة الجمهور:
1 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن» واللفظ للبخاري.
وأمره صلى الله عليه وسلم محمول على الندب لا الوجوب، لأنه لو كان واجبًا لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذَن مخيرًا في الإجابة أو الرد
(3)
.
وقيد في رواية البخاري «بالليل» لأنه إذا أذن لهن بالليل مع أنه مظنة الريبة، فالأذن بالنهار بطريق الأولى
(4)
؛ ولأجل ذلك قال ابن عبد الله بن عمر: «لا نأذن لهن يتخذنه دغلًا» كما أخرج ذلك مسلم
(5)
من طريق مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل» فقال ابن لعبد الله بن عمر: لا ندعهن يخرجن، فيتخذنه دغلًا
(6)
: قال: فزبره ابن عمر. وقال: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول «لا ندعهن» وكأن ابن عمر قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحملته على ذلك الغيرة، وأنكر عليه ابن عمر؛ لتصريحه بمخالفة النص النبوي.
2 -
ما أخرجه البخاري
(7)
من طريق نافع، عن ابن عمر قال: كانت امرأة
(1)
كتاب الأذان، باب: خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس (1/ 327)442.
(2)
كتاب الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة (1/ 326)442.
(3)
ينظر: الفتح (2/ 347).
(4)
ينظر: الفتح (2/ 383).
(5)
كتاب الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة (1/ 327)442.
(6)
الدَغل: بفتح المهملة ثم المعجنة، أصله الشجر الملتف، ثم استعمل في المخادعة، لكون المخادع يلف في ضميره أمرًا، ويظهر غيره.
ينظر: النهاية (2/ 123) مادة (د غ ل)، شرح النووي (4/ 162)، الفتح (2/ 348).
(7)
كتاب الجمعة، باب: هل على من لا يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟ (1/ 305)858.
العمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين، وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: فما يمنعه أن ينهاني؟ قال: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» .
• بل كان صلى الله عليه وسلم يخفف صلاته أحيانًا؛ لأنه يدرك شدة وجد الأم المأمومة عند بكاء صبيها، فيكون من حق المرأة المأمومة إذا حضرت الصلاة أن يراعي الإمام حالها، أخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه» واللفظ للبخاري.
• بل ومن حقها -أيضًا- إذا حضرت الجماعة أن يتأخر الرجل، ويثبت في المسجد حتى تنصرف، أخرج البخاري
(3)
من طريق هند بنت الحارث أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لا أخبرتهما: أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صلي من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال.
وأخرج من طريق الزهري عن هند بنت الحارث، عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم يمكث في مكانه يسيرًا. قال ابن شهاب: فنرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء.
وأخرج من طريق جعفر بن ربيعة، أن ابن شهاب كتب إليه قال: حدثتني هند ابنة الحارث الفراسية، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت من صواحباتها.
(1)
كتاب الأذان، باب: من أخف الصلاة عند بكاء الصبي (1/ 205)678.
(2)
كتاب الصلاة، باب: أمر الأئمة بتحفيف الصلاة في تمام (1/ 343)470.
(3)
كتاب الأذان، باب: خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس (1/ 295)828.
قالت: كان يسلم فينصرف النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وفي الأحاديث السابقة اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلًا عن البيوت، وتغير الأحوال بعد زمان النبوة، فنظرة الأبواب المساجد -اليوم- بعد صلاة التراويح تقتل قلبك كمدًا؛ لما تراه من اختلاط الرجال بالنساء، فهل يا معاشر الرجال من متبع للسنة، حريص عليها، ماكث في مصلاه حتى تعود إماء الله إلى رواحلهن أو بيوتهن.
• بل ومن حق النساء على الإمام أن يترك أبوابًا خاصة بهن، اقتداءً بالهدي النبوي، أخرج أبو داود في السنن
(2)
، وابن حزم في المحلى
(3)
من طريق عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركنا هذا الباب للنساء» قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. وقال غير عبد الوارث: قال عمر، وهو أصح.
قال الألباني: «وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وأعله المصنف بأن غير عبد الوارث رواه موقوفًا على عمر. ثم أخرجه من طريق إسماعيل، عن أيوب، عن نافع قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمعناه، قال: «وهو أصح» . ثم رواه من طريق بكير، عن نافع قال: إن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يُدْخَل من باب النساء.
قلت: عبد الوارث -وهو ابن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم- ثقة ثبت، وقد رواه مرفوعًا عن ابن عمر؛ فهي زيادة منه يجب قبولها، ورواية غيره عن عمر لا
(1)
كتاب الأذان، باب: مكث الإمام في مصلاه بعد السلام (1/ 290) 811 - 812.
(2)
(1/ 126)462.
(3)
(3/ 131).
يعله؛ بل لنافع روايتان: الأولى: عن ابن عمر مرفوعًا، وهي هذه. والأخرى: عن عمر موقوفًا، وهي رواية إسماعيل، عن أيوب، وبكير، عن نافع. ولذلك قال في عون المعبود»
(1)
: «والأشبه أن يكون الحديث مرفوعًا وموقوفًا، وعبد الوارث ثقة تقبل زيادته» والله أعلم
(2)
.
ومن هنا يتبين احترام رسول الله صلى الله عليه وسلم لحضور النساء جماعة المسلمين، وتخصيص باب لهن للدخول معه، وامتثال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات.
ورواية عمر الموقوفة؛ إسنادها ضعيف؛ قال الإمام أحمد: «نافع عن عمر منقطع»
(3)
. وبهذا أعله المنذري في مختصره
(4)
.
• لكن على المرأة التي تخرج للمسجد أن تحافظ على الستر والعفاف، وتبتعد عن التبرج والسفور، وإلا كان لوليها منعها، وكان في خروجها مأثم، لما يترتب عليه من الفتنة، ومخالفة أوامر الشارع، ودليل هذا ما أخرجه مسلم
(5)
من حديث زينب امرأة عبد الله، قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا» .
وأخرج
(6)
-أيضًا- من حديث أبي هريرة مرفوعًا «أيما امرأة أصابت بخورًا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» .
(1)
(2/ 92).
(2)
صحيح سنن أبي داود (2/ 360)483.
(3)
ينظر: تهذيب التهذيب (10/ 369).
(4)
(1/ 102)462.
(5)
كتاب الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة (1/ 327)443.
(6)
حديث رقم: 444.
وما أخرج الشافعي في المسند
(1)
، وفي السنن المأثورة
(2)
، وعبد الرزاق في المصنف
(3)
، وابن أبي شيبة في المصنف
(4)
، وأحمد في المسند
(5)
، وأبو داود في السنن
(6)
، وابن الجارود في المنتقى
(7)
، وابن خزيمة في صحيحه
(8)
، وابن حبان في صحيحه
(9)
، والبيهقي في الكبرى
(10)
، والبغوي في شرح السنة
(11)
من طرق عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات»
(12)
.
وإسناده حسن، فيه محمد بن عمرو بن علقمة، قال الحافظ عنه «صدوق، له أوهام»
(13)
وباقي رجال الإسناد ثقات؛ لكن الحديث صحيح. مجموع متابعاته وشواهده.
(1)
(1/ 102).
(2)
(1/ 244)190.
(3)
(3/ 151)5121.
(4)
(2/ 156)7609.
(5)
(15/ 405)9645.
(6)
(1/ 155)565.
(7)
(1/ 91)332.
(8)
(3/ 90)1679.
(9)
(5/ 592)2214.
(10)
(3/ 134)5160.
(11)
(2/ 98)860.
(12)
تفلات أي: تاركات للطيب.
ينظر: غريب الحديث لابن سلام (1/ 264)، مشارق الأنوار (1/ 123)، النهاية (1/ 191) مادة (ت ف ل).
(13)
التقريب (884)6228.
وقد تقدم حديث أبي هريرة في الباب، وحديث زينب زوجة عبد الله بن مسعود
(1)
.
وقد التزمت نساء المؤمنين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجن للمسجد متلفعات بمروطهن لا يعرفن، أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث عائشة قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن
(4)
ما يعرفن من الغلس. واللفظ للبخاري.
فعلى هذا ينبغي للمسلمة إذا خرجت للمسجد أو غيره أن تحافظ على سترها وحجابها، وأن تحذر أن تفتن المسلمين، فتخرج مبتغية الأجر ولا تنال إلا الوزر؛ لشنيع فعلتها؛ ومخالفتها أوامر نبيها صلى الله عليه وسلم.
• وأمّا ما أخرجه البخاري
(5)
، ومسلم
(6)
من طريق عمرة، عن عائشة قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما مُنِعت نساء بني إسرائيل. قلت لعمرة: أو مُنِعْن؟ قالت: نعم. واللفظ للبخاري.
وقد تمسك بقول عائشة رضي الله عنها قوم منعوا النساء مطلقًا، وفيه نظر؛ إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم؛ لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن
(1)
وانظر شواهد أخرى أوردها محققو مسند الإمام أحمد (15/ 405)9645.
(2)
كتاب الأذان، باب: خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس (1/ 296)829.
(3)
كتاب الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها (1/ 445)645.
(4)
متلفعات بمروطهن أي: متلفعات بأكسيتهن.
ينظر: مشارق الأنوار (1/ 361)، النهاية (4/ 261) مادة (ل ف ع)، شرح النووي (5/ 134)، فتح الباري (2/ 55).
(5)
كتاب الأذان، باب: خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس (1/ 296)831.
(6)
كتاب الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة (1/ 327)445.
ظنته، فقالت:«لو رأى لمنع» فيقال عليه: لم يرَ، ولم يمنع، فاستمر الحكم، حتى إن عائشة لم تصرح بالمنع، وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع.
وأيضًا فقد علم الله ما سيحدثن فما أوحي إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى.
وأيضًا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت، والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب؛ لإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك منع التطيب والزينة
(1)
.
• ويجدر التنبيه هنا على أن بعض الأولياء يتعسف في تطبيق ولايته التي أعطاه إياها الشارع الحكيم، فيضيق على نسائه ولو كن ممتثلات لأوامر الشرع عند خروجهن للمسجد، فحري بمثل هؤلاء أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فعله صحابته من بعده، فعمر رضي الله عنه مع شدته في الحق لم يمنع زوجته الخروج للجماعة مع كراهته لخروجها، واستشهد في صلاة الفجر وهي في المسجد
(2)
، وعبد الله بن عمر سب ابنه سبًا شديدًا لما جاهر برغبته في منع النساء من المساجد، مع ملاحظة أن ابنه احتج بما احتج به كثير من الفقهاء من خوف الفتنة بقوله:«إذن يتخذنه دغلًا» فلا ينبغي للولي أن يمنع المرأة من الخروج للجماعة، اتباعًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، أمّا إذا شاهد منها عملًا يخالف الشرع الحكيم كالتبرج والتطيب ونحوها، فعليه أن يمنعها لا من مطلق الخروج بل من الخروج بالحال المذكورة.
وفي هذه المسألة يتبين نظرة الشارع الحكيم للمرأة إذ أنه لم يفرق بينها وبين الرجل في أحكامه إلا فيما لها خصوصية فيه، فالمرأة تحتاج بين آونة وأخرى إلى ما
(1)
الفتح (2/ 350).
(2)
ينظر: الفتح (2/ 383).
يحملها بعيدًا عن رتابة الحياة التي تثقلها بمسؤوليات منوعة تستهلك طاقتها، وتربطها بالدنيا أكثر مما تربطها بالآخرة، فأباح لها الشارع الحكيم التردد إلى المسجد الحضور الجماعة، ومجالس الذكر والعلم إلا أنه لم يوجب عليها ذلك عند من يجعل صلاة الجماعة واجبة في حق الرجال، مراعاة لاحتياجها إلى القرار في بيتها في أكثر الأحيان لتباشر ما استرعاها الله من رعية، ولابد أن تلحظ أن صلاها في بيتها خير لها، وإن خرجت للمسجد لا بد أن تأتي بشروط الخروج.
المطلب الثاني: إمامة النساء
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: جماعة النساء.
المسألة الثانية: إمامة المرأة للرجال.
المسألة الأولى: جماعة النساء
اختلف أهل العلم في حكم صلاة النساء وحدهن جماعة تؤمهن امرأة على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
يستحب للنساء أن يصلين جماعة منفردات، وهذا مروي عن عائشة وأم سلمة وعطاء والثوري والأوزاعي وأبي ثور
(1)
، وهو مذهب الشافعية
(2)
والحنابلة في الصحيح من مذهبهم
(3)
، وروى ابن أيمن عن مالك أنه يجوز له ن الصلاة جماعة، وبه قال اللخمي من المالكية
(4)
، وهو قول ابن حزم
(5)
، واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه أحمد في المسند
(6)
، وأبو داود في السنن
(7)
، وابن أبي عاصم في
(1)
عزاه لمن تقدم ابن قدامة في المغني (2/ 7)، والنووي في المجموع (4/ 172).
(2)
ينظر: المجموع (4/ 198)، مغني المحتاج (1/ 229).
(3)
ينظر: المغني (4/ 170)، الإنصاف (2/ 212).
(4)
ينظر: تفسير القرطبي (1/ 356)، بداية المجتهد (1/ 105).
(5)
المحلى (4/ 219).
(6)
(45/ 253)27282.
(7)
(1/ 161)591.
الآحاد والمثاني
(1)
، وابن الجارود في المنتقى
(2)
، والطبراني في الكبير
(3)
، والحاكم في المستدرك
(4)
، والبيهقي في الكبرى
(5)
من طرق عن الوليد بن جُمَيع، عن جدته ليلى بنت مالك، وعبد الرحمن بن خلاد الأنصاري، عن أم ورقة بنت نوفل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا بدرًا، قالت: قلت له يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك أمرض مرضاكم، لعل الله أن يرزقني شهادة. قال:«قري في بيتك؛ فإن الله تعالى يرزقك الشهادة» قال: فكانت تسمى الشهيدة. قال: وكانت قد قرأت القرآن، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تتخذ في دارها مؤذنًا، فأذن لها. قال: وكانت دبرت غلامًا لها وجارية، فقاما إليها بالليل، فغماها بقطيفة لها حتى ماتت، وذهبا، فأصبح عمر، فقام في الناس فقال: من كان عنده من هـ ذين علم، أو من رآهما فليجيء بهما. فأمر بهما فصلبا، فكانا أول مصلوب بالمدينة. واللفظ لأبي داود. ولفظ الحاكم:«وأمر أن يؤذن لها، ويقام، وتؤم أهل دارها في الفرائض» .
قال الحاكم: «قد احتج مسلم بالوليد بن جُمَيع، وهذه سنة غريبة لا أعرف في الباب حديثًا مسندًا غير هذا» .
وضعف إسناده ابن القطان
(6)
، لجهالة عبد الرحمن بن خلاد، وجدّة الوليد
(1)
(6/ 139)3366.
(2)
333.
(3)
(25/ 134)327.
(4)
(1/ 320)730.
(5)
(1/ 406)1768.
(6)
الوهم والإيهام (5/ 23)2258.
بن عبد الله بن جُمَيع. وأمّا المنذري في مختصره
(1)
فأعله بقوله: «فيه الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري والكوفي، وفيه مقال، وقد أخرج له مسلم» .
وقال ابن حجر: «في إسناده عبد الرحمن بن خلاد، وفيه جهالة»
(2)
.
قلت: أمّا الوليد بن عبد الله فهو من رجال مسلم، وحديثه لا يسقط عن درجة الحسن، ووثقه ابن معين، وابن سعد والعجلي، وقال أحمد وأبو داود: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: لا بأس به
(3)
. وقال الحافظ: «صدوق يهم»
(4)
وأمّا عبد الرحمن بن خلاد قال الحافظ عنه: «مجهول الحال»
(5)
وقال عن ليلى بنت مالك: «لا تعرف»
(6)
.
قلت: لكن رواية أحدهما يقوي رواية الآخر؛ ولا سيما أن الذهبي قال في «فصل النساء المجهولات» في ميزان الاعتدال: «وما علمت في النساء من اقمت ولا من تركوها»
(7)
.
وحسن إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود
(8)
.
ووجه الدلالة من الحديث أن أم ورقة أمت أهل دارها
(9)
.
(1)
(1/ 307).
(2)
التلخيص الحبير (2/ 27).
(3)
ينظر: العلل لأحمد (2/ 101) 2368، تهذيب الكمال (9/)، 7307.
(4)
التقريب (1039)7482.
(5)
التقريب (577)3880.
(6)
التقريب (1395)8908.
(7)
(7/ 465).
(8)
(2/ 142)605.
(9)
سيأتي مزيد حديث عنه في حكم إمامة المرأة لجماعة الرجال ص (175).
2 -
ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
(1)
، وابن سعد في الطبقات
(2)
، والدارقطني في السنن
(3)
من طرق عن الثوري، عن ميسرة بن حبيب النهدي، عن ريطة الحنفية أن عائشة أمتهن، وقامت بينهن في صلاة مكتوبة. واللفظ العبد الرزاق، وصحح إسناده النووي في المجموع
(4)
، والخلاصة
(5)
. قلت: وهو كما قال.
3 -
ما أخرجه الشافعي في الأم
(6)
، والمسند
(7)
، وابن أبي شيبة في مصنفه
(8)
كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن عمار الدُّهني؛ عن حجيرة بنت حصين قالت: أمتنا أم سلمة قائمة في وسط النساء. واللفظ لابن أبي شيبة.
وأخرجه الدارقطني في السنن
(9)
من طريق سفيان به ولفظه: «أمّتنا أم سلمة في صلاة العصر، فقامت بيننا» .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري، عن عمار به. كذا في المطبوع. وعزاه له ابن حزم في المحلى
(10)
فقال: وعن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عمار الدهني وذكره.
(1)
(3/ 141)5086.
(2)
(8/ 483).
(3)
(1/ 404).
(4)
(4/ 172).
(5)
نقله عنه الزيلعي في نصب الراية (2/ 31).
(6)
(1/ 164).
(7)
(1/ 53).
(8)
(1/ 430)4952.
(9)
(1/ 405)3.
(10)
(3/ 127).
وأمّا الزيلعي في نصب الراية
(1)
، وتبعه على ذلك الحافظ في التلخيص
(2)
فقد قالا بعد أن ذكرا أثر أم سلمة: «الشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق ثلاثتهم عن ابن عيينة» وعلى كل فلا يضير الخلاف فيهما، فكلاهما ثقة حجة يروي عن عمار الدهني.
وصحح إسناده النووي في المجموع
(3)
. قلت: وهو كما قال.
القول الثاني:
لا تصلي النساء جماعة، فعند الحنفية يكره لهن الصلاة جماعة كراهة تحريم
(4)
، ورجح الكمال بن الهمام أنها كراهة تنزيه، فإن صلين جماعة صحت صلاتهن
(5)
، والقول بالكراهة رواية عن الإمام أحمد
(6)
.
وعند المالكية في المشهور يحرم على النساء أن يصلين جماعة
(7)
، وهو قول الحسن البصري وسليمان بن يسار
(8)
، فإن فعلن بطلت صلاة المأمومات.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(9)
من حديث أبي بكرة وفيه «لن يفلح قوم ولوا
(1)
(2/ 31).
(2)
(2/ 42).
(3)
(4/ 172) وانظر: آثارًا دالة على جواز إمامتهن في: مصنف عبد الرزاق (3/ 140)، مصنف ابن أبي شيبة (1/ 430)، المحلى (3/ 127).
(4)
ينظر: الهداية شرح البداية (1/ 56)، البحر الرائق (1/ 372).
(5)
ينظر: شرح فتح القدير (1/ 352).
(6)
ينظر: الإنصاف (2/ 212)، المحرر (1/ 92).
(7)
ينظر: الرسالة وشرحها تنوير المقالة (/ 205)، الفواكه الدواني (1/ 238).
(8)
عزاه لهما ابن قدامة في المغني (2/ 107)، والنووي في المجموع (4/ 172).
(9)
كتاب المغازي، باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر (4/ 1610)4163.
أمرهم امرأة» فإذا صلى النساء جماعة تؤمهن امرأة فقد وليت ولاية من ولايات الدين المهمة.
2 -
لا تصلي النساء جماعة تؤمهن امرأة قياسا على الإمامة الكبرى
(1)
.
3 -
أن جماعة النساء لا تخلو من نقص واجب، أو مندوب فإنه يكره لهن الأذان والإقامة، ويقدم الإمام عليهن
(2)
.
4 -
إنها لو كانت تنعقد من جماعة لما شرع لهن شهود جماعة الرجال لا سيما في الليل
(3)
.
وأما دليلهم الأول فوارد في الإمامة العظمى، ولا يصح قياس غيرها عليها، ثم إن قائل «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» هو الذي أذن لأم ورقة رضي الله عنها أن تؤم أهل دارها، فبان بذلك أن إمامة الصلاة لا تقاس عليها.
وأمّا الأدلة العقلية فهي في مقابل نص فلا تقبل.
القول الثالث:
يجوز للنساء أن يصلين جماعة في التطوع دون المكتوبة، قال به الشعبي، والنخعي، وقتادة
(4)
، وهو رواية في مذهب أحمد
(5)
.
ولم أقف على دليل ما ذهبوا إليه، ولعلها بلغتهم الآثار الدالة على ج واز صلاة النساء جماعة في النافلة، ولم تبلغهم في الفريضة، أو لعلهم رأوا التسامح في النفل أكثر
(1)
تنوير المقالة (2/ 206).
(2)
الاختيار (1/ 59).
(3)
تنوير المقالة (2/ 206).
(4)
عزاه لمن تقدم ابن قدامة في المغني (2/ 202)، والنووي في المجموع (4/ 199).
(5)
ينظر: الإنصاف (2/ 212).
من الفرض، فأخذوا بالآثار الواردة في جواز صلاة النساء جماعة في النفل، ولم يقولوا بجوازها في الفرض؛ لكونه لم ينقل في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديث أم ورقة وبعضهم تكلم فيه.
والراجح جواز صلاة النساء جماعة في الفرض والنفل على السواء؛ لقوة الأدلة، وسلامتها من المعارض.
المسألة الثانية: إمامة المرأة للرجال
اختلف أهل العلم فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
لا تجوز إمامة المرأة للجماعات التي فيها رجال، ولا تجوز صلاة الرجل خلفها، يستوي في ذلك الفرض والنفل، هذا مذهب جماهير أهل العلم من الخلف والسلف، وهو مروي عن الفقهاء السبعة
(1)
، وبه قال الأحناف
(2)
والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
، وداود
(6)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف
(7)
، وأحمد في المسند
(8)
، وأبو داود في
(1)
ينظر: المحلى (4/ 219)، المغني (2/ 198)، المجموع (4/ 255).
(2)
ينظر: المبسوط للسرخسي (1/ 180)، شرح فتح القدير (1/ 357)، البحر الرائق (1/ 359).
(3)
ينظر: بداية المجتهد (1/ 145)، الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 593).
(4)
ينظر: الأم (1/ 164)، المجموع (4/ 255)، مغني المحتاج (1/ 240).
(5)
ينظر: المغني (2/ 198)، الإنصاف (2/ 263)، المحرر (1/ 103).
(6)
ينظر: المحلى (4/ 219).
(7)
(2/ 32)6119.
(8)
(19/ 286)632.
السنن
(1)
، والترمذي في السنن
(2)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
من طرق عن بديل بن ميسرة العقيلي، عن رجل منهم يكن أبا عطية، قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا في مصلانا يتحدث، قال: فحضرت الصلاة يومًا فقلنا: تقدم. فقال: لا؛ ليتقدم بعضكم حتى أحدثكم لم لا أتقدم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من زار قوما فلا يؤمهم، وليومهم رجل منهم» واللفظ لأحمد.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: إسناده ضعيف؛ فيه أبو عطية مولى بني عُقيل؛ قال أبو حاتم: «لا يعرف ولا يسمى»
(5)
وقال أبو الحسن القطان: «مجهول»
(6)
وقال الذهبي: «لا يُدرى من هو؟!»
(7)
وقال الحافظ «مقبول»
(8)
وعلى اصطلاحه عند المتابعة وإلا فلين الحديث، ويشهد له ما في الحديث الآتي بعده من حديث أبي مسعود الأنصاري» ولا يَؤُمَّن الرجلُ الرجلَ في سلطانه».
ووجه الدلالة من الحديث أنه لا حق للنساء في إمامة الرجال.
(1)
(1/ 162)596.
(2)
(2/ 187)356.
(3)
(2/ 181)924.
(4)
(9/ 286)632.
(5)
الجرح والتعديل (9/ 414)2019.
(6)
الوهم والإيهام (4/ 102).
(7)
الميزان (7/ 401)10433.
(8)
التقريب (1179)8318.
2 -
ما أخرجه مسلم
(1)
من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا، ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته
(2)
إلا بإذنه».
ووجه الدلالة منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصّ الرجال بالكلام عندما بين مراتب الأئمة؛ ولم يجعل للنساء فيها نصيبًا؛ لذا لا يجوز لهن إمامة الرجال.
وإن قيل إن كلمة «قوم» تدخل فيها النساء، وليست خاصة بالرجال عند جمع من أهل اللغة والأصول
(3)
.
فالجواب من وجهين:
أ- أن كثيرًا من أهل اللغة والأصول حملوا كلمة «قوم» على الرجال خاصة، وأدخلوا النساء فيها تبعًا، ودليل ذلك قوله تعالى:{لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}
(4)
.
وقول زهير:
(1)
كتاب المساجد، باب: من أحق بالإمامة (1/ 465)673.
(2)
التكرمة: الموضع الخاص لجلوس الرجل من فراش أو سرير مما يعد لإكرامه؛ وهي تفعلة من الكرامة.
ينظر: مشارق الأنوار (1/ 339)، النهاية (4/ 168)، مادة (ك ر م).
(3)
ينظر: شرح الكوكب المنير (3/ 234)، مذكرة أصول الفقه (18).
(4)
الحجرات: 11.
وما أدري وسوف إخال أدري
…
أقوم آل حصن أو نساء
(1)
ب- أن في آخر الحديث «ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ إلا بإذنه» تفسير لأوله.
3 -
ما أخرجه ابن ماجه في السنن
(2)
، والعقيلي في الضعفاء
(3)
، وابن عدي في الكامل
(4)
والطبراني في الأوسط
(5)
، وأبو نعيم في الحلية
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
والشعب
(8)
وفضائل الأوقات
(9)
من طرق عن الوليد بن بكير، عن عبد الله بن محمد العدوي، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله في حديث طويل، وفيه:«ألا لا تؤمن امرأة رجلًا» قال البيهقي في الكبرى: «في إسناده ضعف» .
وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة
(10)
، والنووي في المجموع
(11)
. وضعف الحديث الحافظ في التلخيص
(12)
.
قلت: إسناده ضعيف جدًّا، فيه عبد الله بن محمد العدوي متروك رماه وكيع
(1)
ديوان زهير: 17. وانظر: مشارق الأنوار (2/ 195)، اللسان (12/ 505) مادة (ق و م).
(2)
(1/ 343)1081.
(3)
(2/ 298)871.
(4)
(4/ 181)998.
(5)
(2/ 64)1261.
(6)
(2/ 342).
(7)
(3/ 90)4910.
(8)
(3/ 105)3014.
(9)
(1/ 478)261.
(10)
(1/ 29).
(11)
(4/ 255).
(12)
(2/ 32).
بالوضع، قاله الحافظ
(1)
، والوليد بن بكير، قال الحافظ عنه:«لين الحديث»
(2)
وعليّ بن زيد بن جدعان، ضعفه الحافظ
(3)
.
وأخرجه عبد بن حميد
(4)
، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق
(5)
من طريق بقية بن الوليد، عن حمزة بن حسان، عن علي بن زيد به مثله.
ومداره على علي بن زيد وتقدم ضعفه، وحمزة بن حسان، لم يرو عنه إلا بقية، ولم يرد فيه جرح ولا تعديل، قال الحافظ عنه:«مجهول»
(6)
وبقية بن الوليد مدلس، عده الحافظ من المرتبة الرابعة في طبقات المدلسين
(7)
، وقال:«وكان كثير التدليس عن الضعفاء والمجهولين، وصفه الأئمة بذلك» وقد عنعن هنا، وضعف الحديث الألباني في الإرواء
(8)
.
4 -
ما أخرجه الشافعي في الأم
(9)
، والمسند
(10)
، ومن طريقه البيهقي في الكبرى
(11)
، وعبد الرزاق في المصنف
(12)
، وعنه ابن حزم في المحلى
(13)
،
(1)
التقريب (544)3626.
(2)
المصدر السابق (1037)7467.
(3)
المصدر السابق (696)4768.
(4)
(1/ 343)1136.
(5)
(61/ 331).
(6)
اللسان (2/ 359).
(7)
117.
(8)
(3/ 50)591.
(9)
(1/ 165).
(10)
(1/ 54).
(11)
(3/ 88)4900.
(12)
(2/ 393)3824.
(13)
(4/ 212).
وابن أبي شيبة في المصنف
(1)
، والبغوي في شرح السنة
(2)
، وابن أبي داود في المصاحف
(3)
من طرق عن ابن جريح قال: أخبريني عبد الله بن أبي مليكة أهم كانوا يأتون عائشة أم المؤمنين بأعلى الوادي هو وأبوه، وعبيد بن عمير، والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة، وأبو عمرو غلامها لم يعتق
…
واللفظ لعبد الرزاق.
وعلقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم في كتاب الجماعة، باب: إمامة العبد والمولى
(4)
، وإسناده صحيح، وابن جريح وإن كان مدلسًا لكنه صرح بالسماع. وعائشة رضي الله عنها قدمت عبدها مع أنها أفقه منه بلا شك، وأقرأ منه أيضًا، وقد ورد في رواية ابن أبي داود في كتاب المصاحف «كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف» وذكوان هو أبو عمرو المذكور في الرواية السابقة
(5)
، مما يدل على عدم حفظه، وفي هذا دلالة واضحة على عدم جواز إمامة المرأة للرجال.
القول الثاني:
تجوز إمامة المرأة لجماعة الرجال في النفل دون الفرض، وهي رواية عن الإمام أحمد، وعنه في التراويح خاصة، وخصص بعض الحنابلة بذي الرحم، وبعضهم بكونها عجوزا، وبعضهم بأن تكون أقرأ من الرجل، وقالوا: تصلي بهم واقفة خلفهم، وهذا من مفردات المذهب
(6)
، يقول ناظم المفردات:
(1)
(2/ 31)6112.
(2)
(3/ 400).
(3)
(4)
(1/ 245).
(5)
ينظر: الفتح (2/ 185).
(6)
ينظر: الإفصاح (1/ 145)، المغني (2/ 16)، الإنصاف (1/ 264)، المبدع (2/ 72).
إمامة المرأة بالرجال
…
فعندنا تصح في مثال
امرأة قارئة مجيدة
…
حافظة لسور عديدة
وغيرها من الرجال أمي
…
أو حافظ لسور في النظم
ففي التراويح فقط تؤمهم
…
قيامها من خلفهم لا عندهم
(1)
• واستدلوا بحديث أم ورقة المتقدم
(2)
ويناقش استدلالهم بما يأتي:
أ- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤم في الفرائض بدليل شرعية الأذان؛ لأنه لا يشرع إلا في الفرائض، وأهل القول الثاني إنما أجازوه في النوافل بل في التراويح خاصة.
ب- أن اشتراط تأخرها تحكم يخالف الأصول بغير دليل فلا يجوز المصير إليه.
ج- لو قدر ثبوت ذلك لأم ورقة لكان خاصًا بها، بدليل أنه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا إقامة.
د- أن لفظ الدارقطني
(3)
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لها أن يؤذن لها، ويقام، وتؤم نساءها «هذه زيادة يجب قبولها، ولو لم يذكر ذلك لتعين حمل الخبر عليه»
(4)
.
ولم أقف في شيء من الروايات على التصريح بإمامتها لمؤذنها وعبدها، إلا ما
(1)
النظم المفيد لأحمد (22).
(2)
ص (163).
(3)
(1/ 279)2.
(4)
ذكر ما تقدم من الإجابات ابن قدامة في المغني (2/ 16).
استظهره أهل العلم من الرواية: «وأمرها أن تؤم أهل دارها» وفي رواية أبي داود
(1)
. «قال عبد الرحمن بن خلاد: فأنا رأيت مؤذنها شيخًا كبيرًا» قال الشوكاني في النيل: «فالظاهر أنها كانت تصلي، ويأتم بها مؤذنها وغلامها»
(2)
وقد جاءت رواية الدارقطني بالتصريح بإمامتها لنسائها فتحمل الرواية المطلقة على المقيدة.
هـ- إذا كانت المرأة مأمورة في الصلاة بالتصفيق إذا ناجما شيء في الصلاة؛ لأنها مأمورة بخفض صوتها لما يخشى من الافتتان بما؛ لما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء»
(3)
فكيف يأذن بإمامة المرأة، وينقلها من التسبيح الذي هو من جنس الصلاة إلى التصفيق؟!.
القول الثالث:
تجوز إمامة المرأة لجماعة الرجال، وتصح صلاتهم وراءها في الفرض والنفل، قال به المزني، وأبو ثور، وابن جرير الطبري
(4)
.
• واستدلوا بحديث أم ورقة، لأن في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها مؤذنًا، والأذان لا يكون إلا في الفرائض، وقد مضت الإجابة عنه.
وبعد عرض للأقوال، فالراجح منها ما ذهب إليه جماهير العلماء وهو أن إمامة المرأة للرجال لا تصح مطلقًا في الفرض والنفل، ونساء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهن وورعهن وتأدين في بيت النبوة، لم ينقل عن واحدة منهن أنها أمت أحدا
(1)
(1/ 161)592.
(2)
(3 - 201).
(3)
كتاب الصلاة، باب: التصفيق للنساء (1/ 403) 1145، ينظر: الفتح (3/ 77).
(4)
عزاه لهم الباجي في المنتقى (1/ 235) والنووي في المجموع (4/ 255).
من الرجال حتى وإن كان من محارمها، بل إن عائشة رضي الله عنها صلت خلف عبدها مع قراءته من المصحف.
ومن هنا يتبين أن الإسلام ساوى بين المرأة والرجل في كثير من الحقوق، وفتح لها خيارات واسعة بين أن تصلي في المسجد مع جماعة الرجال، أو تصلي جماعة مع نساء دارها، أو تصلي منفردة في بيتها، وصلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد.
• أخرج أبو داود في سننه
(1)
، وابن خزيمة في صحيحه
(2)
، والحاكم في المستدرك
(3)
، والبيهقي في الكبرى
(4)
من طرق عن همام، عن قتادة، عن مُوَرِّق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها
(5)
أفضل من صلاها في بيتها».
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
وقال النووي: «رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم» .
قلت: وهو كما قال؛ لأن أبا الأحوص. واسمه: عوض بن مالك بن نَضْلَة.
ما أخرج له البخاري في صحيحه، وإنما روى له في الأدب المفرد.
(1)
(1/ 156)570.
(2)
(3/ 94)1688.
(3)
(1/ 328)757.
(4)
(3/ 131)5144.
(5)
المخدع: بيت صغير، يكون داخل البيت الكبير.
ينظر: اللسان (8/ 65) مادة (خ د ع).
• وما أخرج أحمد في المسند
(1)
، والروياني في المسند
(2)
، وابن خزيمة في صحيحه
(3)
، وابن حبان في صحيحه
(4)
، وابن عبد البر في الاستيعاب
(5)
من طريق داود بن قيس، عن عبد الله بن سويد الأنصاري، عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي» قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل. واللفظ لأحمد.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: «رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سويد وثقه ابن حبان»
(6)
. وحسن إسناده الحافظ في الفتح
(7)
.
قلت: رجاله ثقات غير عبد الله بن سويد لم يرو عنه إلا داود بن قيس، وذكره البخاري
(8)
، وابن أبي حاتم
(9)
ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وأورده ابن حبان
(1)
(45/ 37)27090.
(2)
(2/ 233)1115.
(3)
(3/ 95)1689.
(4)
(5/ 595)2217.
(5)
(4/ 1933) رقم الترجمة: 4146.
(6)
(2/ 34).
(7)
(2/ 349).
(8)
التاريخ الكبير (5/ 109)323.
(9)
الجرح والتعديل (5/ 66)309.
في الثقات
(1)
. لكنه من التابعين، ولم يأت بما يخالف فيه غيره، وقد مضى نقل كلام ابن القيم فيمن كانت هذه حاله
(2)
، وما قبله شاهد له. وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:«حسن لغيره»
(3)
.
• وبما أخرج أحمد في المسند
(4)
، وأبو داود في السنن
(5)
، والحاكم في المستدرك
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
من طريق العوام بن حوشب، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوت من خير لهن» واللفظ لأبي داود.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعًا بالعوام بن حوشب، وقد صح سماع حبيب من ابن عمر، ولم يخرجا فيه الزيادة:«وبيوتهن خير لهن» . ووافقه الذهبي. وقال النووي
(8)
والعراقي
(9)
: «إسناده صحيح» وزاد الأول منهما «على شرط البخاري» .
قلت: إسناد رجاله ثقات؛ كلهم رجال الشيخين، وقد أثبتوا لحبيب بن أبي ثابت سماعًا من ابن عمر، لكن وصفه غير واحد بالتدليس، وعده الحافظ في المرتبة
(1)
(5/ 59)3841.
(2)
انظر ص (127).
(3)
(1/ 148)340.
(4)
(2/ 76)5468.
(5)
(1/ 155)567.
(6)
(1/ 327)755.
(7)
(3/ 131)5142.
(8)
المجموع (4/ 170).
(9)
التقريب (1/ 314).
الثالثة من طبقات المدلسين
(1)
، لكن يشهد لأوله ما تقدم
(2)
من حديث ابن عمر عند الشيخين «لا تمنعوا نساءكم المساجد» ، ويشهد لقوله و «بيوتهن خير لهن» ما تقدم من حديث ابن مسعود، وأم حميد، فالحديث مجموع طرقه صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(3)
.
• ومما تقدم من الأحاديث يظهر أن من حق المرأة أداء صلاتها في بيتها؛ وفي هذا تخفيف من الشارع الحكيم لها؛ لأن طبيعة المرأة متعلقة بالبيت فتحتاج إلى القرار فيه؛ وفي كثرة ترددها إلى المسجد مشقة عليها، ولاسيما إن كانت أما الأطفال، كما أن في صلاتها في الأخفى فضيلة تحقق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرز بالزينة، ومن ثم قالت عائشة:«لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل»
(4)
وأقول: كيف لو رأت عائشة نساء اليوم، لاسيما بعد البعد عن عصر النبوة، واستيلاء لوثات التغريب، والتفنن في التبرج والسفور. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والمتأمل لحديث أم حميد يتبين له أن صلاة المرأة في بيتها خير من صلاها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكيف بغيره من المساجد، ثم انظر إلى لزوم السمع والطاعة من الصحابية لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرعة الاستجابة، والثبات على الأمر حتى الممات، نسأل الله أن يجمعنا بهم في الفردوس الأعلى.
(1)
طبقات المدلسين (37)69.
(2)
ص (156).
(3)
(3/ 102)576.
(4)
مضى تخريجه ص (161).
المطلب الثالث: شهود المرأة لصلاة العيدين
يشرع الإسلام لأهله فرحتين في السنة يترخصون فيهما بما لا يترخص في غيرهما، وتعلو مظاهر الفرح المرتبطة بالشكر للرب على إتمام صيام الشهر، أو إتمام حج الحجيج في عرفة يوم الحج الأكبر، ويأمر الشرع الرجل بإشراك المرأة ولو كانت حائضًا لصلاة العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين.
• واختلف أهل العلم في حكم شهود صلاة العيد في حق المرأة، وأهم هذه الأقوال ما يلي:
القول الأول: وجوب شهود النساء العيدين
نقله عياض
(1)
عن أبي بكر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده
(2)
، وأحمد في المسند
(3)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(4)
، وأبو يعلى في المسند
(5)
، والبيهقي في الكبرى
(6)
، والخطيب في تاريخ بغداد
(7)
من طرق عن محمد بن النعمان، عن طلحة بن مصرف،
(1)
إكمال المعلم (3/ 162).
(2)
(5/ 267)1421.
(3)
(44/ 563)27014.
(4)
(6/ 191)3420.
(5)
(13/ 75)7152.
(6)
(3/ 316)6037.
(7)
(4/ 63)1681.
عن امرأة من عبد القيس، عن أخت عبد الله بن رواحة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وجب الخروج على كل ذات نطاق» يعني: «في العيدين» .
قال الهيثمي في المجمع: «رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير (ولم أقف عليه في المطبوع منه) وفيه امرأة تابعية لم يذكر اسمها»
(1)
.
وقال الحافظ في الفتح: «لا بأس بإسناده»
(2)
.
قلت: إسناده ضعيف؛ لإتمام المرأة من بني عبد القيس الراوية عن أخت عبد الله بن رواحة.
قال الحافظ: «وقوله حق يحتمل الوجوب، ويحتمل تأكد الاستحباب»
(3)
.
2 -
ما أخرجه البخاري
(4)
، ومسلم
(5)
من حديث أم عطية قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق
(6)
، والحيض، وذوات الخدور
(7)
، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين. قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: «لتلبسها أختها من جلبابها» واللفظ لمسلم.
واستدل به على وجوب صلاة العيد؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج النساء
(1)
(2/ 200).
(2)
(2/ 470).
(3)
الفتح (2/ 470).
(4)
كتاب العيدين، باب: خروج النساء والحيض إلى المصلى (1/ 231)931.
(5)
كتاب صلاة العيدين، باب: ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى، وشهود الخطبة مفارقات للرجال (2/ 606)890.
(6)
العواتق: جمع عاتق وهي من بلغت الحلم، أو قاربت، أو استحقت التزويج، ينظر: شرح النووي (6/ 178)، الفتح (1/ 424).
(7)
ذوات الخدور: جمع خِدْر، وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه. وانظر المصادر المتقدمة.
للعيد؛ والأمر للوجوب، ويجاب بأن الصارف للأمر عن الوجوب أمره صلى الله عليه وسلم من ليس بمكلف؛ فظهر أن القصد منه إظهار شعار الإسلام بالمبالغة في الاجتماع، ولتعم الجميع البركة؛ ولذا نص في الحديث بإخراج الحيض.
3 -
ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه
(1)
من طريق طلحة اليامي قال: قال أبو بكر: حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين.
وإسناده ضعيف؛ لم يسمع طلحة بن مصرف من أبي بكر رضي الله عنه
(2)
، ثم إن كلمة حق لا تستلزم الوجوب كما ذكر الحافظ.
4 -
ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه
(3)
من طريق الحارث الأعور، عن عليّ قال: حق على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين، ولم يكن يرخص لهن في شيء من الخروج إلا إلى العيدين.
وفي إسناده الحارث بن عبد الله الأعور، قال الحافظ:«في حديثه ضعف»
(4)
. ويقال فيه ما قيل في الذي قبله.
5 -
ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه
(5)
بسند صحيح عن نافع قال: كان ابن عمر يخرج إلى العيدين من استطاع من أهله.
قال الحافظ: «وهذا ليس صريحًا في الوجوب، بل قد روي عن ابن عمر المنع،
(1)
(2/ 3)5785.
(2)
ينظر: جامع التحصيل (201).
(3)
(2/ 3)5786.
(4)
التقريب (213)1036.
(5)
(2/ 3)5787.
فيحتمل أن يحمل على حالين، ومنهم من حمله على الندب»
(1)
.
القول الثاني: يستحب للنساء شهود العيدين:
وبه قال مالك
(2)
، وقال ابن حبيب من المالكية: الخروج لهن سنة لازمة
(3)
. وبه قال ابن حامد من الحنابلة
(4)
، وذهب الإمام أحمد إلى جوازه من غير استحباب
(5)
.
واستدلوا:
1 -
بحديث أم عطية المتقدم
(6)
.
قال الحافظ: «فيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين سواء كن شواب أم لا، وذوات هيئات أم لا
…
»
(7)
.
وذكرنا فيما مضى أن الصارف للأمر عن الوجوب؛ أن من جملة من أمر بذلك من ليس مكلف وهن الحيض.
2 -
تقدم في حديث أم عطية أن النساء قلن: إحدانا لا يكون لها جلباب. فقال صلى الله عليه وسلم: «لتلبسها أختها من جلبابها» وهذا يدل على تأكيد خروج النساء إلى العيدين؛ لأنه إذا أمرت المرأة أن تُلْبِس من لا جلباب لها، فمن لها جلباب أولى أن تخرج
(1)
الفتح (2/ 470).
(2)
المدونة (1/ 168).
(3)
عزاه له الباجي في المنتقى (1/ 319).
(4)
عزاه له ابن قدامة في المغني (2/ 375).
(5)
ينظر: المصدر السابق، الفروع (2/ 137)، الإنصاف (2/ 427).
(6)
ص (183).
(7)
الفتح (2/ 470).
وتشهد دعوة المؤمنين رجاء بركة ذلك اليوم
(1)
.
3 -
ما أخرجه البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من طريق عطاء عن جابر بن عبد الله قال: سمعته يقول: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر، فصلى فبدأ بالصلاة ثم خطب فلما فرغ نزل؛ فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة. قلت لعطاء: زكاة يوم الفطر؟ قال: لا، ولكن صدقة يتصدقن حينئذ، تلقي فتخها، ويلقين. قلت (أي: ابن جريح): أترى حقًا على الإمام ذلك يأتيهن ويذكر هن؟ قال: إنه لحق عليهم، وما لهم لا يفعلونه. واللفظ للبخاري، وجاء عند الشيخين من طريق ابن عباس
(4)
بنحو حديث جابر.
وفيه دليل على أن السنة خروج النساء في العيد إلى آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم بدلالة شهود ابن عباس له، وكان ذلك بعد الفتح
(5)
.
القول الثالث: التفصيل في الحكم بين النساء:
وممن قال به الحنفية حيث قالوا: يرخص للعجائز في الخروج لصلاة العيد، ويكره للشواب، وبعضهم قال بالتحريم
(6)
. وقالت الشافعية يستحب شهود الصلاة للعجائز وغير ذوات الهيئات، ويكره للشواب وذوات الهيئات
(7)
.
واستدلوا بما يأتي:
(1)
ينظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (2/ 569).
(2)
كتاب العيدين، باب: موعظة الإمام النساء يوم العيد (1/ 332)935.
(3)
كتاب صلاة العيدين (2/ 603)885.
(4)
رقم حديث البخاري (932)، رقم حديث مسلم (884).
(5)
ينظر: الفتح (2/ 470).
(6)
ينظر: المبسوط للسرخسي (2/ 41)، الهداية شرح البداية (2/ 70)، بدائع الصنائع (1/ 275).
(7)
ينظر: الأم (1/ 240)، المجموع (5/ 8) نهاية المحتاج (2/ 386).
1 -
استدل الكاساني بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}
(1)
قال: «والأمر بالقرار في عن الانتقال»
(2)
.
2 -
ما ثبت في الصحيحين من طريق عمرة، عن عائشة قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل
(3)
.
3 -
ما يترتب على خروجهن من الفتنة، والفتنة حرام. والإجابة عن هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسلمات أن يخرجن تفلات، ونهى الإسلام النساء أن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وحثهن على الستر والعفاف.
ومما تقدم يترجح أن خروج النساء لصلاة العيد سنة بدون تفريق بين شابة أو عجوز، بل جاء الأمر النبوي بإخراج العواتق وذوات الخدور ومعلوم صغرهن، فقصر الخروج على العجائز تحكم في الدليل، وتقييد للنص.
• تنبيه: بوّب البخاري في صحيحه في صلاة العيدين، باب: موعظة الإمام النساء يوم العيد، وقد مرّ الحديث الذي أورده البخاري تحت هذا الباب
(4)
، قال الحافظ:«أي إذا لم يسمعن الخطبة مع الرجال»
(5)
.
وقال النووي: «
…
فلما فرغ نزل، فأتى النساء فذكرهن، فهذا صريح في أنه أتاهن بعد فراغ خطبة الرجال، وفي هذه الأحاديث استحباب وعظ النساء، وتذكيرهن الآخرة، وأحكام الإسلام وحثهن على الصدقة، وهذا إذا لم يترتب على ذلك مفسدة، وخوف على الواعظ أو الموعوظ أو غيرهما، وفيه أن النساء إذا حضرن صلاة الرجال
(1)
الأحزاب: 33.
(2)
بدائع الصنائع _1/ 275).
(3)
تقدم تخريجه والإجابة عنه ص (125).
(4)
ص (186).
(5)
الفتح (2/ 467).
ومجامعهم يكن بمعزل عنهم خوفًا من فتنة أو نظرة أو فكر ونحوه»
(1)
.
وبعد هذه المسألة يتبين أيها القارئ الكريم أن الإسلام أعطى المرأة حقًا عظيمًا حين سن لها الخروج لصلاة العيد، حتى ولو كانت حائضًا؛ لتشهد الخير ودعوة المسلمين؛ فإلى جفاة الدليل تمسكوا به، ولا تحرموا إماء الله ما أعطاهن من حق حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من لديها جلباب أن تلبس من لا جلباب لها؛ لتعم الفرحة الجميع، وتحضر البركة.
ثم أَثّني بخطباء العيدين، وأشحذ هممهم باتباع السنة، وتخصيص كلمة للنساء نهاية الخطبة؛ لأن المرأة نصف المجتمع وتلد النصف الآخر، فهي هذا المجتمع كله، وفي إصلاحها إصلاح الأمم، فاحرص على تذكيرها بما ينفعها الله به؛ وما قدمته نساء السلف لرفعة هذا الدين، والإشارة إلى بعض الأحكام التي تخص النساء.
(1)
(6/ 172).
المطلب الرابع: شهود المرأة لصلاة الكسوف
وحين يخوف الله عباده بآياته الكونية، ويهرعون لما شرعه الله لهم من أداء صلاة الكسوف أو الخسوف لينجلي ما أصابهم، يختلف أهل العلم في حضور المرأة لصلاة الكسوف على أقوال أهمها:
القول الأول: يسن للنساء أن يصلين صلاة الكسوف مع الإمام:
وإلى هذا ذهب البخاري رحمه الله، فبوّب في صحيحه في كتاب الكسوف، باب: صلاة النساء مع الرجال في الكسوف
(1)
، وهو قول في مذهب الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي
…
الحديث «وفي رواية ابن جريج عند مسلم من حديث أسماء
(5)
فقالت: «وقام قيامًا طويلًا يقوم ثم يركع، فجعلت أنظر إلى المرأة أسن مني، وإلى الأخرى هي أسقم مني» وفي رواية وهيب
(6)
عند مسلم من حديث أسماء، قالت: «فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا، فقمت معه، فأطال القيام حتى رأيتني أريد أن أجلس، ثم
(1)
(10/ 358).
(2)
ينظر: المغني (2/ 421)، الإنصاف (2/ 427)، الفروع (24/ 137).
(3)
كتاب الكسوف، باب: صلاة النساء مع الرجال (1/ 358)1005.
(4)
كتاب الكسوف، باب: صلاة الكسوف (2/ 618)905.
(5)
رقم الحديث (906).
(6)
رقم الحديث (906).
ألتفت إلى المرأة الضعيفة؛ فأقول هذه أضعف مني فأقوم».
2 -
ما أخرجه مسلم
(1)
من حديث جابر الطويل وفيه: « .. ثم قام فركع أيضًا ثلاث ركعات، ليس فيها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها، وركوعه نحوًا من سجوده، ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا -وقال أبو بكر: حتى انتهى إلى النساء- ثم تقدم، وتقدم الناس معه، حتى قام في مقامه
…
».
وما تقدم من الأحاديث يدل على أن النساء شهدن صلاة الكسوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون فرق بين عجوز أو شابة.
القول الثاني: يفرق بين النساء في الخروج للصلاة:
فمالك يرى أنه لا بأس بخروج الكبيرة دون غيرها في الكسوف
(2)
، وهو قول محمد وأبي يوسف
(3)
، وأمّا خسوف القمر فلا يرون الاجتماع له بل يصليه الناس فرادى في بيوتهم، وأمّا الشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
في الصحيح من المذهب فيرون أنه يجوز للعجائز الخروج لصلاة الكسوف والخسوف، ويكرهونه للشابات وذوات الهيئات، ويسن لهن أن يؤدين صلاة الكسوف في بيوتهن.
وعللوا ما ذهبوا إليه بالخوف من حصول المفسدة من خروجهن.
ويجاب عنه بأن الشرع ضبط خروج المرأة بالستر والعفاف، ونهاها عن
(1)
كتاب الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار (2/ 622)904.
(2)
ينظر: المدونة (1/ 164)، المنتقى (1/ 326)، الخرشي على خليل (2/ 106).
(3)
ينظر: بدائع الصنائع (1/ 275)، وقد منع أبو حنيفة المرأة من الخروج لصلاة الكسوف مطلقًا.
(4)
ينظر: الأم (1/ 246)، المجموع (5/ 44)، مغني المحتاج (1/ 316).
(5)
ينظر: المغني (2/ 421)، الإنصاف (2/ 4439، الفروع (2/ 151).
التبرج والسفور.
ومما تقدم يتبين أن الراجح سنية صلاة الكسوف في حق النساء، وحمل الأحاديث على إطلاقها حتى يرد ما يقيدها، وكما شركن المسلمين في العيد يوم الفرح؛ فإن لهن نصيب في التضرع إلى الله لكشف ما حل بالعباد عند الخسوف أو الكسوف.
المبحث الثالث: الزكاة والصدقة
لا غرو أن تقرأ في هذه المسألة إعطاء الإسلام المرأة حق بذل مالها في أوجه الخير، وأبواب البر، بل تجده يحثها على ذلك فكاكًا لها من النار، ويجعل لها الحق المطلق في التصرف في أموالها ويحرم على الرجل مساس مالها البتة، وفي هذا المبحث مطلبان:
المطلب الأول: دفع المرأة زكاة أو صدقة مالها بدون إذن زوجها.
المطلب الثاني: صدقة المرأة من بيت زوجها غير مفسدة.
المطلب الأول: دفع المرأة زكاة أو صدقة مالها بدون إذن زوجها
(1)
أمّا الزكاة فلم أجد خلافًا بينهم في أن للمرأة أن تخرج زكاة أموالها، ولو لم يأذن زوجها، واختلفوا في عطية المرأة الراشدة من مالها سواءً كانت بصدقة أو هبة بغير إذن زوجها على قولين:
القول الأول: للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة:
وهذا مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد
(2)
، والشافعي
(3)
، وابن المنذر
(4)
،
(1)
ذكرت الزوج دون الولي؛ لاتفاق العلماء على دفع مال المرأة إليها إن تزوجت، واختلفوا فيما قبل زواجها؟ ينظر: المغني (4/ 202)، إغاثة الطالبين (3/ 347).
(2)
ينظر: شرح معاني الآثار (4/ 353)، المبسوط للسرخسي (4/ 214).
(3)
ينظر: الأم (3/ 216)، إعانة الطالبين (3/ 348).
(4)
عزاه له ابن قدامة في المغني (4/ 300).
وابن حزم
(1)
، وإحدى الروايتين عن أحمد
(2)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
(3)
.
قال الشافعي: «فجعل في إيتائهن ما فرض لهن من فريضة على أزواجهن يدفعونه إليهن دفعهم إلى غيرهم من الرجال ممن وجب له عليهم حق بوجه، وحل للرجال أكل ما طاب نساؤهم عنه نفسًا، كما حل لهم ما طاب الأجنبيون من أموالهم عنه نفسًا، وما طابوا هم لأزواجهم عنه نفسًا، لم يفرق بين حكمهم وحكم أزواجهم والأجنبيين
…
وأحل ما طبن عنه نفسًا من أموالهن، وحرم من أموالهن ما حرم من أموال الأجنبيين فيما ذكر»
(4)
.
2 -
بقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ}
(5)
.
قال الشافعي: «فلم يفرق بين الزوج والمرأة في أن لكل واحد منهما أن يوصي في ماله، وفي أن دين كل واحد منهما لازم له في ماله، فإذا كان هذا هكذا كان لها أن تعطي من مالها من شاءت بغير إذن الزوج
(6)
وإذا كان للمرأة حق التصرف في مالها بعد وفاتها دون إذن وليها في حياتها من باب أولى
(7)
.
(1)
المحلى (8/ 312).
(2)
ينظر: المغني (4/ 300)، المبدع (4/ 347).
(3)
سورة النساء: 4.
(4)
الأم (3/ 217).
(5)
النساء: الآية 12.
(6)
الأم (3/ 217).
(7)
ينظر: شرح معاني الآثار (4/ 353).
3 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق كريب مولى ابن عباس أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أخبرته أنها أعتقت وليدة، ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه. قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي. قال: «أو فعلت؟ قالت: نعم» . قال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» واللفظ للبخاري.
ووجه الدلالة من الحديث أن ميمونة رضي الله عنها أعتقت قبل أن تستأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يستدرك ذلك عليها، بل أرشدها إلى ما هو أولى، فلو كان لا ينفذ لها تصرف في مالها لأبطله
(3)
.
4 -
ما أخرجه البخاري، ومسلم
(4)
من طريق عطاء، عن جابر قال سمعته يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر فصلي، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل، وأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقين النساء صدقة. قلت (أي ابن جريح) لعطاء: زكاة يوم الفطر؟ قال: لا، ولكن صدقة يتصدقن بها، حينئذ تلقي المرأة فتخها
(5)
ويلقين ويلقين ..
(1)
كتاب الهبة، باب: هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} النساء: 5.
(2)
كتاب الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين (2/ 693)999.
(3)
ينظر: شرح معاني الآثار (4/ 353)، شرح ابن بطال (5/ 82)، الفتح (5/ 219)، عمدة القارئ (13/ 152).
(4)
تقدم تخريجه ص (186).
(5)
فتحها: قال عبد الرزاق: الفتخ الخواتم العظام، وقيل: هي خواتم تلبس في الرجل. وقال الأصمعي: خواتيم لا فصوص لها.
ينظر: غريب الحديث للحربي (3/ 1047)، مشارق الأنوار (2/ 145)، مادة (ف ت خ)، شرح مسلم للنووي (6/ 173).
واللفظ لمسلم.
وأخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء، ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة فجعلن يلقين تلقي المرأة خرصها وسخابها
(3)
، واللفظ للبخاري.
(4)
.
5 -
ما أخرجه البخاري
(5)
، ومسلم
(6)
من طريق عباد بن عبد الله، عن أسماء
(1)
كتاب العيدين، باب: الخطبة بعد العيد (1/ 327)921.
(2)
كتاب صلاة العيدين، باب: ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى (2/ 606)884.
(3)
سخابها -بكسر السين، وبالخاء المعجمة- قلادة من طيب معجون على هيئة خرز، تكون من مسك، أو قرنفل أو غيرها من الطيب، ليس فيه شيء من الجوهر، وجمعه سخب ككتب.
ينظر: مشارق الأنوار (2/ 209) مادة (س خ ب)، شرح مسلم للنووي (6/ 181)، الفتح (10/ 330)، هدي الساري (130).
(4)
الفتح (2/ 468).
(5)
كتاب الهبة، باب: هبة المرأة لغير زوجها، وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز إذا لم تكن سفيهة (2/ 915)2450.
(6)
كتاب الزكاة، باب: الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء (2/ 713)1029.
-رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله مَا لِيْ مَال إلَّا ما أدخل عليّ الزبير أفأتصدق؟ قال: «تصدقي ولا توعي
(1)
فيوعي عليك» واللفظ للبخاري.
ووجه الدلالة: أن أسماء ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس لها مال إلا ما أدخله الزبير عليها، قال النووي:«هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها أو مما هو ملك الزبير، ولا يكره الصدقة منه، بل رضي بها على عادة غالب النساء»
(2)
.
وفي الحديث أن للمرأة أن تتصدق بغير إذن زوجها حيث لم يقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقتها بإذن الزبير زوجها، بل حثها على النفقة مطلقًا، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
القول الثاني: لا يجوز لها أن تتبرع من مالها إلا بإذن زوجها:
ومنع طاووس
(3)
مطلقًا تصرفها في مالها إلا بإذن زوجها، وعن الليث لا يجوز إلا في الشيء التافه
(4)
، وعن مالك ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض
(5)
، وهي رواية ثانية عن أحمد
(6)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه أحمد في المسند
(7)
، وأبو داود في السنن
(8)
، والنسائي في
(1)
لا توعي: أي: لا تجمعي وتشحي بالنفقة، فيشح عليك، وتجازي بتضييق رزقك.
ينظر: مشارق الأنوار (2/ 286)، لسان العرب (5/ 397) مادة (و ع ى).
(2)
شرح مسلم (7/ 119).
(3)
عزاه له الحافظ في الفتح (5/ 218).
(4)
المصدر السابق.
(5)
ينظر: المدونة (13/ 284)، بداية المجتهد (2/ 325)، حاشية الدسوقي (3/ 330).
(6)
ينظر: المغني (4/ 300)، المبدع (4/ 347).
(7)
(11/ 632)7058.
(8)
(3/ 293)3546.
المجتبى
(1)
، والحاكم في المستدرك
(2)
، والبيهقي في الكبرى
(3)
من طريق داود بن أبي هند وحبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها» واللفظ لأبي داود. وأخرجه ابن ماجه
(4)
في سننه من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب به بمثله.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وأخرجه أحمد في المسند
(5)
، وأبو داود في السنن
(6)
، والنسائي في المجتبى
(7)
من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام خطيبًا فقال في خطبته: لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها. واللفظ للنسائي. وهو عند أحمد مطولًا.
وهذا الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، واختلف العلماء في هذه الرواية على مسألتين:
المسألة الأولى: هل عمرو بن شعيب ثقة في نفسه؟
فالجمهور على توثيقه، والاحتجاج به كما قال ابن الصلاح
(8)
، وذلك كأحمد
(1)
(6/ 278)3756.
(2)
(2/ 54)2299.
(3)
(6/ 60)11112.
(4)
(2/ 798)2388.
(5)
(11/ 264)6681.
(6)
(3/ 293)3547.
(7)
(6/ 278)3757.
(8)
مقدمة علوم الحديث (158).
وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه
(1)
، وكذلك وثقه ابن معين
(2)
، ويعقوب بن شيبة
(3)
، وأبو زرعة
(4)
، وابن القطان
(5)
، والعجلي
(6)
، والدارمي
(7)
وغيرهم.
المسألة الثانية: حكم الترجمة؟
هذه الترجمة، عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قد تكلم فيها بعضهم من حيث الإرسال والانقطاع؛ فإن شعيبًا: هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص.
قالوا: فإن كان الضمير يرجع في الحالتين إلى عمرو، فأبوه شعيب، وجده تابعي ليس بصحابي، وعلى هذا فهو مرسل.
وإن كان المقصود بالترجمة: عمرًا عن أبيه شعيب، عن جد شعيب وهو عبد الله بن عمرو الصحابي فهو منقطع؛ لأن شعيبًا لم يلق عبد الله.
والصواب أن الضمير يرجع إلى جد شعيب وهو أيضًا جد عمرو، فيرجع إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد لقيه شعيب وسمع منه، ونقل الحافظ الروايات التي تدل على ذلك
(8)
، فالإسناد إذًا متصل لا مطعن فيه، وليس بمرسل ولا منقطع. وهذا الذي نص عليه الإمام أحمد، والبخاري في التاريخ، وعليّ بن
(1)
نقل ذلك عنهم البخاري في التاريخ الكبير (6/ 342)2578.
(2)
ينظر: الجرح والتعديل (6/ 238)1323.
(3)
ينظر: التمهيد (8/ 54).
(4)
ينظر: الجرح والتعديل (6/ 238)1323.
(5)
ينظر: تهذيب الكمال (22/ 67)4385.
(6)
تاريخ الثقات (365).
(7)
ينظر: تهذيب الكمال (22/ 72)4385.
(8)
ينظر: تهذيب التهذيب (8/ 49).
المديني، والدارقطني وغيرهم.
(1)
.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: «وعمرو بن شعيب ثقة إذا حدث عنه ثقة، وإنما دخلت أحاديثه الداخلة من أجل رواية الضعفاء عنه، والذي يقول: إن روايته عن أبيه عن جده صحيفة، يقول: إنها مسموعة صحيحة»
(2)
.
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى
(3)
: «وأما أئمة الإسلام و جمهور العلماء فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إذا صح النقل إليه مثل: مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة ونحوهما» وقال ابن القيم في الراد: «وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه، وكان مما كتبه صحيفة تسمي: الصحيفة الصادقة وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب عن أبيه عنه، وهي من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة الحديث يجعلها في درجة أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا به
(4)
» والقول العدل في حكم هذه الترجمة ما ذكره الذهبي في الموقظة
(5)
بأنها من أعلى مراتب الحسن.
(1)
التاريخ الكبير (6/ 342)2578.
(2)
(24/ 384).
(3)
(18/ 8).
(4)
(3/ 458).
(5)
وقال في الميزان
(1)
: «ولسنا نقول: إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح، بل هو من قبيل الحسن» .
ونحوه ما ذكره الحافظ في الفتح
(2)
: «وترجمة عمرو قوية على المختار، لكن حيث لا تعارض» .
ولعل نزولها إلى رتبة الحسن بسبب الخلاف والتردد الحاصل فيها.
• وبناء على هذا فإسناد الحديث حسن، وحسنه الألباني في الصحيحة
(3)
.
وصححه في سنن ابن ماجه
(4)
.
2 -
واستدلوا -أيضًا- بما أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(5)
، وابن ماجه في السنن
(6)
، والطبراني في الأوسط
(7)
والكبير
(8)
، والمزي في تهذيب الكمال
(9)
من طرق عن الليث بن سعد، عن عبد الله بن يحيى رجل من ولد كعب بن مالك، عن أبيه، عن جده أن جدته خَيْرة امرأة كعب بن مالك أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلي لها. فقالت: إني تصدقت بهذا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجوز للمرأة في مالها أمر إلا بإذن زوجها، فهل استأذنت كعبًا؟ قالت: نعم. فبعث رسول
(1)
(5/ 323)4271.
(2)
(3/ 408).
(3)
(2/ 472)825.
(4)
(2/ 798)2388.
(5)
(6/ 126)3347.
(6)
(2/ 798)2389.
(7)
(8/ 293)8676.
(8)
(24/ 256)654.
(9)
(16/ 297)3653.
الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن مالك زوجها. فقال: هل أذنت لخيرة أن تتصدق بحليها؟ فقال: نعم. فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها. واللفظ لابن ماجه.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة
(1)
: «هذا إسناد ضعيف، عبد الله بن يحيى لا يعرف في أولاد كعب بن مالك» .
قلت: إسناده ضعيف؛ فيه عبد الله بن يحيى وأبوه كلاهما مجهول قاله الحافظ في التقريب
(2)
.
وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم.
3 -
ما أخرجه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه
(3)
، من طريق الفضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن عبادة بن الصامت مطولًا وفيه:«وقضى أن المرأة لا تعطي من مالها شيئًا إلا بإذن زوجها» .
قال الهيثمي في المجمع
(4)
: «رواه عبد الله بن أحمد، وإسحاق لم يدرك عبادة» .
قلت: وإسناده ضعيف، الفضيل بن سليمان النُّمَيري قال الحافظ عنه:«صدوق له خطأ كثير»
(5)
، وإسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة مجهول الحال قاله الحافظ
(6)
، وروايته عن عبادة مرسلة
(7)
.
(1)
(3/ 59).
(2)
(557، 1070) 7325، 7731.
(3)
(37/ 437)22778.
(4)
(4/ 205).
(5)
التقريب (785)5462.
(6)
المصدر السابق (133)396.
(7)
ينظر: تهذيب التهذيب (1/ 224) 481، جامع التحصيل (144)27.
والأحاديث قبله تشهد له.
وأجاب الجمهور عن حديث عمرو بن شعيب وما بعده بأجوبة متعددة:
1 -
أن الأحاديث التي استدل بها أصحاب هذا القول ضعيفة
(1)
، وقد تقدم حديث عمرو بن شعيب
(2)
، وأن إسناده حسن.
2 -
قال البيهقي في الكبرى
(3)
: «الطريق في هذا الحديث إلى عمرو بن شعيب صحيح، ومن أثبت أحاديث عمرو بن شعيب لزمه إثبات هذا إلا أن الأحاديث التي مضت في الباب قبله أصح إسنادًا» وسلك البيهقي رحمه الله في هذا الوجه الترجيح
3 -
جمع بعض العلماء بين الأحاديث بأن النهي عن إنفاقها إلا بإذنه في للتنزيه؛ فلا ينبغي أن تتصرف في مالها إلا بمشورة زوجها أدبًا واستحبابًا، وأشار إلى هذا الوجه الشافعي
(4)
والخطابي
(5)
.
وهذا الجواب قوي. والله أعلم.
• ثم إن ما ذهب إليه الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد: من أنه ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض، لا دليل عليه، والتحديد بذلك تحكم ليس فيه توقيف.
4 -
قاس المالكية المرأة على المريض، وقالوا: كما أنه ليس للمريض التبرع
(1)
انظر: المغني (4/ 300).
(2)
ص (197) فما بعدها
(3)
(6/ 60).
(4)
ينظر: السنن الكبرى للبيهقي (6/ 60).
(5)
ينظر: معالم السنن (2/ 142).
إلا بثلث أمواله؛ لتعلق حق الورثة بالمال، فكذلك المرأة.
قال ابن قدامة: «وقياسهم (أي المرأة على المريض) غير صحيح لوجوه:
أحدها: أن المرض سبب يفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث؛ والزوجية إنما تجعله من أهل الميراث فهي أحد وصفي العلة، فلا يثبت الحكم بمجردها كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها، ولا لسائر الوارث بدون المرض.
الثاني: أن تبرع المريض موقوف؛ فإن برئ من مرضه صح تبرعه، وها هنا أبطلوه على كل حال، والفرع لا يزيد على أصله.
الثالث: أن ما ذكروه منتقض بالمرأة؛ فإنها تنتفع بمال زوجها، وتتبسط فيه عادة، ولها النفقة منه، وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بمالها، وليس لها الحجر عليه، وعلى أن هذا المعنى ليس موجود في الأصل، ومن صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم في الأصل والفرع جميعًا»
(1)
.
الراجح:
• ومن هنا يتبين أن الراجح من الأقوال القول الأول وهو جواز صدقة المرأة بمالها من غير إذن زوجها؛ لقوة أدلته وموافقته لكتاب الله وصريح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حزم في المحلى
(2)
: «
…
فإن الله تعالى افترض في القرآن والسنة التي أجمع أهل الإسلام عليها إجماعًا مقطوعًا به متيقنًا أن على الأزواج نفقات الزوجات، وكسوتهن، وإسكانهن، وصدقاتهن، وجعل لهن الميراث من الرجال كما جعله للرجال منهن،
(1)
المغني (4/ 300).
(2)
(8/ 314 - 315).
سواء بسواء، فصار بيقين من كل ذي مسكة عقل حق المرأة في مال زوجها واجبًا لازمًا حلالًا يومًا بيوم وشهرًا بشهر وعامًا بعام وفي كل ساعة، وكرة الطرف لا تخلو ذمته من حق لها في ماله، بخلاف منعه من مالها جملة، وتحريمه عليه إلا ما طابت له نفسها به، ثم ترجو من ميراثه بعد الموت كما يرجو الزوج في ميراثها ولا فرق، فإن كان ذلك موجبًا للرجل منعها من مالها، فهو للمرأة أوجب وأحق في منعه من ماله إلا بإذنها؛ لأن لها شركًا واجبًا في ماله، وليس له في مالها إلا التب والزجر، فيا للعجب في عكس الأحكام؛ فإن لم يكن ذلك مطلقًا لها منعه من ماله خوف أن يفتقر فيبطل حقها اللازم، فأبعد والله، وأبطل أن يكون ذلك موجبًا له منعها من مال لا حق له فيه، ولاحظ إلا حظ الفيل من الطيران.
والعجب كل العجب من إطلاقهم له المنع من مالها أو من شيء منه، وهو لو مات جوعًا أو جهدًا أو هزالًا أو بردًا لم يقضوا له في مالها بنواة، ولا بجلد يستتر به، فكيف استجازوا هذا إن هذا لعجب!!.
وتأمل -رحمك الله- كلام ابن حزم ترى فيه دقة فقهه، وعمق فهمه، وتدرك أن للمرأة أن تتصرف في مالها إن كانت رشيدة دون إذن زوجها، وأن لا حق له في منعها، لكن مما ابتلي به رجال هذا الزمان مع قلة الدين، وفساد أهله التسلط على أموال النساء، وسلبها. فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيأتي مزيد بيان للمسائل المالية المتعلقة بالمرأة في هذا البحث إن شاء الله
(1)
.
(1)
ص: (575) فما بعدها.
المطلب الثاني: أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة
(1)
سترى في هذه المسألة أيّها القارئ الكريم أن حق المرأة في التبرع ليس مقصورًا على مالها فحسب بل يتعداه إلى مال من اختارته لتكون سكنًا له، ويكون لباسًا لها، وإليك عرض الأقوال في المسألة:
القول الأول: جواز تبرع المرأة من مال زوجها:
يجوز للمرأة أن تتبرع من مال زوجها بما أذن فيه صريحًا، وبما لم يأذن فيه، ولم ينه عنه إذا علمت رضاه به، بشرط ألا تكون مفسدة.
وذهب إلى هذا الأحناف
(2)
، والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد
(5)
، وبه قال البخاري، حيث بوّب في صحيحه في كتاب الزكاة:«باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد» فقيد صدقة الخادم بأمر الصاحب، ثم بوّب بعده:«باب أجر المرأة إذا تصدقت، أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة» .
قال الحافظ: «ولم يقيده (أي الباب) بالأمر كما قيد الذي قبله، قيل: إنه فرق بين المرأة والخادم بأن المرأة لها أن تتصرف في بيت زوجها بما ليس فيه إفساد
(1)
عنوان المسألة لفظ ترجمة للبخاري في كتاب الزكاة من صحيحه (2/ 522) وعنونت بها لدقتها؛ واحتوائها على ثبوت الحق والأجر، فتأمل.
(2)
ينظر: المبسوط للسرخسي (30/ 143)، بدائع الصنائع (4/ 28)، عمدة القارئ (8/ 292).
(3)
ينظر: التمهيد (1/ 232)، الاستذكار (5/ 125)، إكمال المعلم (3/ 550).
(4)
ينظر: المجموع (6/ 240).
(5)
ينظر: المغني (4/ 301)، المبدع (4/ 353).
للرضا بذلك في الغالب، بخلاف الخادم والخازن»
(1)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من طريق مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تصدقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها، ولزوجها بما كسب، وللخازن مثل ذلك» واللفظ للبخاري. وقد أورده البخاري في صحيحه من ثلاثة طرق، تدور على أبي وائل شقيق ابن سلمة، عن مسروق عنها: أولها شعبة، عن منصور، والأعمش، عنه، ولم يسق لفظه بتمامه
(4)
.
ثانيها: حفص بن غياث، عن الأعمش وحده، ولفظ الأعمش:«إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها» الحديث
(5)
.
ثالثها: جرير، عن منصور وحده، ولفظ منصور:«إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها»
(6)
.
(1)
الفتح (3/ 387).
(2)
كتاب الزكاة، باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد (2/ 521) 137 من طريق جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق به.
(3)
كتاب الزكاة، باب: أجر الخازن الأمين، والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها غير مفسدة بإذنه الصريح أو العرفي (2/ 710) 1024 من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق به.
(4)
كتاب الزكاة، باب: أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة (2/ 522)1372.
(5)
المصدر السابق (1372).
(6)
المصدر السابق (1373).
(1)
.
وتأمل -حفظك الله - روايات الحديث تحد رواية الأعمش «إذا أطعمت المرأة
…
» ورواية منصور: «إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها» .
قال العين في عمدة القارئ
(2)
وقال النووي: «
…
واعلم أنه لا بد للعامل وهو الخازن، وللزوجة، والمملوك من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن أذن أصلًا فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة بل عليهم وزر بتصرفهم في مال غيرهم بغير إذنه، والإذن ضربان: أحدهما: الإذن الصريح في النفقة والصدقة. والثاني: الإذن المفهوم من اطراد العرف، والعادة، كإعطاء السائل كسرة ونحوهما مما جرت العادة به، واطرد العرف فيه، وعلم بالعرف رضاء الزوج، والمالك به، فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلم، وهذا إذا علم رضاه لا طراد العرف، وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك،
(1)
الفتح (3/ 387).
(2)
(8/ 292).
والرضا به، فإن اضطرب العرف، وشك في رضاه، أو كان شخصًا يشح بذلك، وعلم من حاله ذلك، أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه
…
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة» فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة، ونبه بالطعام أيضًا على ذلك؛ لأنه يسمح به في العادة بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس، وفي كثير من الأحوال»
(1)
.
2 -
ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير، فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ارضخي
(2)
ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك» واللفظ لمسلم.
(3)
قال النووي: «هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب النفقة وغيرها، أو مما هو ملك الزبير ولا يكره الصدقة منه؛ بل رضي بها على عادة غالب الناس
…
وقوله صلى الله عليه وسلم (ارضخي ما استطعت) معناه مما يرضى به الزبير، وتقديره أن لك في الرضخ مراتب مباحة بعضها فوق بعض، وكلها يرضاها الزبير فافعلي أعلاها، أو يكون معناه ما استطعت مما هو ملك لك»
(4)
.
ووجه الدلالة من الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثها على النفقة وحذرها من الشح والإمساك؛ ولم يأمرها باستئذان الزبير لما يعرفه صلى الله عليه وسلم من حاله؛
(1)
شرح مسلم (7/ 112 - 113).
(2)
ارضخي من الرضخ وهو العطاء اليسير، فالمعنى: أنفقي من غير إجحاف ما دمت قادرة مستطيعة، انظر: إكمال المعلم (3/ 559)، النهاية (2/ 228)، مادة (ر ض خ)، الفتح (3/ 384).
(3)
تقدم تخريجه ص (196).
(4)
شرح صحيح مسلم (7/ 119).
فكان كالإذن العام.
3 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه
(3)
، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ، وهو يضحك. قالت: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة» -أو مثل الملوك على الأسرة، شك إسحاق- قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» الحديث واللفظ للبخاري.
ومن الفوائد التي ذكرها شرّاح الحديث إباحة ما قدمته المرأة للضيف من مال زوجها؛ لأن الأغلب أن الذي في بيت المرأة هو من مال الرجل، وأن الوكيل والمؤتمن إذا علم أنه يسر صاحبه ما يفعله من ذلك جاز له فعله
(4)
.
القول الثاني: جواز تصدُّق المرأة من مال زوجها ولو كره:
ما ذهب إليه ابن حزم وهو أن للمرأة حقًا زائدًا، ولها أن تتصدق من مال زوجها ولو كره وبغير إذنه غير مفسدة، وهي مأجورة بذلك، واستدل بأدلة أصحاب القول الأول، وبما يأتي:
(1)
كتاب الجهاد، باب: الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء (3/ 1027)2636.
(2)
كتاب الإمارة، باب: فضل الغزو في البحر (3/ 1518)1912.
(3)
إنما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرها لأنها رضي الله عنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاته من الرضاعة.
وانظر: تفصيل المسألة في: التمهيد (1/ 188)، شرح النووي (13/ 58)، الفتح (11/ 92).
(4)
ينظر: التمهيد (1/ 231)، شرح ابن بطال (6/ 142)، المفهم (5/ 629)، الفتح (11/ 78).
1 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره فلها نصف أجره
…
» واللفظ للبخاري. وفي رواية للبخاري
(3)
ولفظ مسلم: «
…
فله نصف أجره».
ووجه الدلالة من الحديث التصريح بأن ما أنفقت المرأة عن غير أمر زوجها فلها نصف أجره، وله النصف الآخر.
وجمع الجمهور بين هذا الحديث وما تقدمه
(4)
من حديث عائشة بأوجه متعددة منها:
1 -
ما قاله النووي في شرحه على صحيح مسلم
(5)
: «وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له» فمعناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ويكون معها إذن عام سابق متناول هذا القدر وغيره وذلك الإذن الذي قد بيناه سابقًا
(6)
إمّا بالصريح وإمّا بالعرف، ولا بد من هذا التأويل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة، وفي رواية أبي داود «فلها نصف أجره» ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح، ولا معروف من العرف فلا أجر لها؛ بل عليها وزر فتعين تأويله»
(7)
.
(1)
كتاب البيوع، باب: قول الله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتهم} (2/ 728)1960.
(2)
كتاب الزكاة، باب: ما أنفق العبد من مال مولاه (2/ 711)1026.
(3)
كتاب النفقات، باب: نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها، ونفقة الولد (5 - 2051)5045.
(4)
ص (206) فما بعدها.
(5)
(7/ 112 - 113).
(6)
تقدم نقل قول النووي ص (208).
(7)
ينظر: إكمال المعلم (4/ 142)، المفهم (3/ 162).
2 -
قال الحافظ: «ويحتمل أن يكون المراد بالتنصيف في حديث الباب الحمل على المال الذي يعطيه الرجل في نفقة المرأة، فإذا أنفقت منه بغير علمه كان الأجر بينهما للرجل لكونه الأصل في اكتسابه، ولكونه يؤجر على ما ينفقه على أهله كما ثبت من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره، وللمرأة لكونه من النفقة التي تختص بها، ويؤيد هذا الحمل ما أخرجه أبو داود
(1)
عقب حديث أبي هريرة هذا قال: في المرأة تصدق من بيت زوجها. قال: لا إلا من قوقا، والأجر بينهما، ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه. قال أبو داود: في رواية أبي الحسن بن العبد عقبه: هذا يضعف حديث همام. (أي الحديث المتقدم) ومراده أنه يضعف حمله على التعميم، أما الجمع بينهما بما دل عليه هذا الثاني فلا»
(2)
.
3 -
واستدلوا أيضًا بما أخرجه مسلم
(3)
في صحيحه من طريق عمير مولى أبي اللحم قال: أمرني مولاي أن أقدد لحمًا، فجاءني مسكين فأطعمته منه، فعلم بذلك مولاي، فضربني، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فدعاه، فقال:«لم ضربته؟ فقال: يعطي طعامي بغير أن آمره. فقال: «الأجر بينكما» .
فإذا أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم تصرف الخادم في العطاء، فالزوجة من باب أولى، وفرق بعضهم بين الزوجة والخادم بأن الزوجة لها حق في مال الزوج، ولها النظر في بيتها، فجاز لها أن تتصدق بما لا يكون إسرافًا لكن بمقدار العادة، وما يعلم أنه لا يؤلم زوجها، فأما الخادم فليس له تصرف في متاع مولاه ولا حكم، فيشترط الإذن في عطية الخادم دون الزوجة، ومع ذلك أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم تصرفه، فالزوجة أولى.
(1)
(2/ 131)1688. قال الألباني في صحيح سنن أبي داود: «صحيح موقوف» (1688).
(2)
الفتح (9/ 297).
(3)
كتاب الزكاة، باب: ما أنفق العبد من مال مولاه (2/ 711)1026.
وأجاب النووي عن الحديث بأنه محمول على أنه ظن أن سيده يرضى بذلك القدر؛ فلم يرضَ؛ لكونه كان محتاجًا إليه أو لمعنى آخر، فيثاب السيد على إخراج ماله، ويثاب العبد على نيته، فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأجر بينكما» تحريضًا وتحفيزًا على إمضاء الصدقة
(1)
.
القول الثالث: لا تجوز صدقة المرأة من مال زوجها إلا بإذنه اللفظي:
وهذه رواية عن الإمام أحمد
(2)
.
واستدلوا بما:
1 -
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
(3)
، وسعيد بن منصور في سننه
(4)
، وأحمد في المسند
(5)
، وأبو داود في سننه
(6)
، وابن ماجه في السنن
(7)
، والترمذي في سننه
(8)
، والطبراني في الكبير
(9)
، والشاميين
(10)
، والبيهقي في الكبرى
(11)
، والمقدسي في
(1)
ينظر: المجموع (6/ 241).
(2)
ينظر: المغني (4/ 301)، المبدع (4/ 353).
(3)
(4/ 148)7277.
(4)
(1/ 149)427.
(5)
(36/ 628)22294.
(6)
(3/ 296)3565.
(7)
(2/ 770)2295.
(8)
(3/ 57)670.
(9)
(8/ 135)7615.
(10)
(1/ 309)541.
(11)
(4/ 193)7645.
المختارة
(1)
من طرق عن إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع يقول: «لا تنفق امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها» قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا». واللفظ للترمذي. وقال: حديث حسن.
قلت: إسناده صحيح؛ لأن رواية إسماعيل بن عياش لهذا الحديث عن أهل بلده، قال يعقوب بن سفيان: إسماعيل ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام
(2)
، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي
(3)
.
وأجاب الجمهور عنه بما يأتي:
1 -
قالوا: إن النهي في حديث أبي أمامة للكراهة فقط، والقرينة الصارفة إلى ذلك حديث أبي هريرة، وحديث أسماء، وكراهة التنزيه لا تنافي الجواز، ولا تستلزم عدم استحقاق الثواب
(4)
.
2 -
وذهب بعضهم إلى أن ذلك يختلف باختلاف عادات البلاد، وباختلاف حال الزوج من مسامحته ورضاه بذلك، أو كراهته له، وباختلاف الحال في الشيء المنفق بين أن يكون شيئًا يسيرًا يتسامح به، وبين أن يكون له خطر في نفس الزوج يبخل بمثله، وبين أن يكون ذلك رطبًا يخشى فساده إن تأخر، وبين أن يكون يدخر،
(1)
(6/ 149)2144.
(2)
المعرفة والتاريخ (2/ 246)، التاريخ الكبير (1/ 369) 1169، الكاشف (1/ 248) 400، تهذيب التهذيب (1/ 280)584.
(3)
(4)
ينظر: نيل الأوطار (6/ 122).
ولا يخشى عليه الفساد
(1)
.
2 -
استدلوا -أيضًا- بما أخرجه الطيالسي في مسنده
(2)
، وعبد بن حميد في المسند
(3)
، والبيهقي في الكبرى
(4)
، وابن عبد البر في التمهيد
(5)
من طرق عن ليث بن أبي سليم، عن عطاء، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة أتته فقالت: ما حق الزوج على امرأته؟ فقال: لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تعطي من بيته شيئًا إلا بإذنه، فإن فعلت ذلك كان له الأجر، وعليها الوزر
…
الحديث. واللفظ للطيالسي.
وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن إسناده ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم قال الحافظ عنه:«صدوق اختلط جدًّا، ولم يتميز حديثه فترك»
(6)
.
3 -
ما أخرجه البخاري
(7)
، ومسلم
(8)
من حديث جابر الطويل في صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه قال في خطبة الوداع:«إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» واللفظ لمسلم. قالوا: ولأنه تبرع بمال غيره بغير إذنه فلم يجز كغير الزوجة.
وأجاب الجمهور بأن أحاديث تبرع المرأة من بيت زوجها خاصة صحيحة،
(1)
ينظر: عمدة القارئ (8/ 292).
(2)
1951.
(3)
813.
(4)
(4/ 194)7646.
(5)
(1/ 231).
(6)
التقريب (818) 5721 وانظر: الكامل (6/ 87) 1617، الميزان (5/ 509) 7003، تهذيب التهذيب (8/ 417)835.
(7)
كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى (2/ 620)1654.
(8)
كتاب الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 886)1218.
والخاص يقدم على العام.
ثم إنه لا يصح قياس المرأة على غيرها؛ لأنها بحكم العادة تتصرف في مال زوجها، وتتبسط فيه، وتتصدق منه؛ لحضورها وغيبته، والإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي، فصار كأنه قال لها: افعلي كذا
ومن هنا يتبين أن الراجح القول الأول؛ لقوة أدلته، ولك أن ترى عدالة الإسلام، وضمانه لحقوق المرأة، فيجعل لها حق التصرف الكامل في مالها بالتبرع والهبة، ويشرع لها أيضًا أن تتصدق من بيت زوجها غير مفسدة، إن علمت أنه لا يكره ذلك، في حين أنه لا يشرع للرجل التصرف ولو في الحقير من مالها بدون إذنها، ذلك أن الإسلام دين الإنسانية والتكافل يربى كل فرد من أفراده على القدرة على اتخاذ القرار إن لم يكن فيه مفسدة، ويجعل القرار النافع سببًا للشراكة في الأجر، ويقنن السلطة المركزية على كل صغير وكبير، فلا تنتظر المرأة رجوع زوجها حتى تستأذنه في إطعام فقير يدق بابها، أو سد رمق مسكين يسألها، أو إطعام ضيف يحل في دارها، بل يحثها على النفقة بغير إفساد، ويضمن لها الأجر على سخاوة النفس وكرم الطبع، فلله الحمد والمنة.
المبحث الرابع: حق المرأة في المبادرة إلى قضاء رمضان
من المعلوم أن الله كتب الحيض على بنات آدم، وأمرهن سبحانه بالفطر حال الحيض، وقضاء ما أفطرن من رمضان في الطهر، وقد تعتري المرأة أمورٌ يشرع لها الفطر غير الحيض كالمرض والسفر، فإن لم تكن ذات زوج لم يكن لوليها منعها من قضاء رمضان، واختلفوا في الزوجة التي زوجها حاضر، لثبوت حقه في الاستمتاع بها، والصيام يمنعه من ذلك فهل لها أن تقضي بغير إذنه على ما يأتي:
القول الأول: ليس لها قضاء رمضان إلا بإذنه ما لم يضق الوقت:
إذا كان على المرأة أيام من رمضان فليس لها أن تقضيها إلا بإذن زوجها، ما لم يضق وقت القضاء بأن لم يبق من شعبان إلا بمقدار ما عليها من رمضان، هذا ما ذهب إليه الشافعية في الصحيح من المذهب
(1)
، وهو مذهب الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من حديث أبي سلمة قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: كان يكون عليّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن
(1)
ينظر: المجموع (18/ 242)، مغني المحتاج (3/ 439).
(2)
ينظر: المغني (7/ 605)، المبدع (3/ 66).
(3)
كتاب الصوم، باب: متى يقضى قضاء رمضان (2/ 689)1849.
(4)
كتاب الصوم، باب: قضاء رمضان في شعبان (2/ 802)1146.
أقضي إلا في شعبان. قال يحيى بن سعيد: الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم أو بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال العيني: «فيه أن حق الزوج من العشرة والخدمة يقدم على سائر الحقوق ما لم يكن فرضًا محصورًا في الوقت»
(1)
.
ونوقش قوله «الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم أو بالنبي صلى الله عليه وسلم» أنه مدرج من كلام يحيى كما سبقت بذلك الرواية، قال الحافظ في الفتح:«ومما يدل على ضعف الزيادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم لنسائه فيعدل، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم»
(2)
.
2 -
قالوا ليس للمرأة أن تمنع زوجها حقه الذي هو على الفور بما ليس على الفور
(3)
.
القول الثاني: لها أن تقضي رمضان دون إذنه:
إذا كان على المرأة أيام من رمضان فلها أن تقضيها دون أن تستأذن زوجها، وليس له منعها من ذلك سواء ضاق وقت القضاء أو لم يضق، هذا ما ذهب إليه الحنفية
(4)
، والمالكية
(5)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(6)
، ومسلم
(7)
من طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة،
(1)
عمدة القارئ (9/ 121).
(2)
الفتح (4/ 191).
(3)
ينظر: المجموع (18/ 242)، المغني (7/ 605).
(4)
ينظر: حاشية ابن عابدين (2/ 430).
(5)
ينظر: المنتقى (2/ 67)، مواهب الجليل (2/ 454).
(6)
كتاب الصوم، باب: صوم المرأة بإذن زوجها تطوعًا (5/ 1993)4896.
(7)
كتاب الزكاة، باب: ما أتفق العبد من مولاه (2/ 711)1026.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه» .
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه
(1)
بسند صحيح من طريق الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعًا:«لا تصوم المرأة يومًا من غير شهر رمضان وزوجها شاهد إلا بإذنه» .
(2)
.
ووجه دلالة الحديث أن مفهوم المخالفة من هذا الحديث يدل على أن لها أن تصوم بغير إذنه إذا لم يكن تطوعًا.
2 -
أنه ليس للزوج منع الزوجة من المبادرة إلى قضاء رمضان إلا باختيارها؛ لأن لها حقًا في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها.
3 -
أنه صوم لزمها بالشرع كصوم رمضان فلا إذن لأحد فيه.
والذي يظهر أن القول الثاني أقوى وهو أنه ليس للزوج أن يمنع زوجته من المبادرة إلى قضاء رمضان، وذلك لما يلي:
1 -
أن حديث عائشة الذي استدل به أهل القول الأول لا يدل على أن له منعها، لأنها لم تنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك، فيكون هذا العمل من جانبها فقط تأدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على التسليم بأن الزيادة التي في آخر الحديث من قولها
(3)
،
(1)
(3/ 319)2168.
(2)
المصدر السابق.
(3)
ينظر: شرح النووي على مسلم (8/ 22).
علمًا بأن الراجح أن الزيادة مدرجة من قول يحيى بن سعيد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع زوجات، ومعلوم أنه كان يقسم بينهن فما المانع أن تصوم إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غيرها.
2 -
أن الحديث الذي استدل به أهل القول الثاني يدل على أنها تستأذنه في النفل، أما الفرض فهو واجب بأصل الشرع فلا يستأذن فيه أحد.
ومن هنا يتبين أنه ليس للرجل إذن في قضاء المرأة فرضها سواءً بادرت بالقضاء على الراجح، أو تأخرت حتى ضاق الوقت، وهذا حق وهبها الله إيّاه.
المبحث الخامس: الاعتكاف
ويعطي الإسلام المرأة حقًا في لزوم المسجد للطاعة كحق الرجل، وقد اتفق أهل العلم من المذاهب الأربعة وغيرهم أنه لا يحق للزوجة أن تعتكف إلا بإذن زوجها؛ فإن أذن لها في الاعتكاف نفط جاز له أن يأمرها بقطعه بعد الشروع إذا أراد، وإليه ذهب الشافعي
(1)
، وأحمد
(2)
، وقالت الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
ليس له ذلك وحديث عائشة الذي يأتي حجة عليهم.
واختلفوا في المكان الذي يصح فيه الاعتكاف في حق المرأة:
القول الأول: لا يصح أن تعتكف المرأة إلا في المسجد:
هذا ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو مذهب المالكية
(5)
، والشافعية
(6)
، والحنابلة
(7)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
(8)
، والمراد به
(1)
ينظر: شرح السنة (6/ 394)، المجموع (6/ 476).
(2)
ينظر: المغني (3/ 207)، الفروع (3/ 149).
(3)
ينظر: بدائع الصنائع (2/ 108)، تحفة الفقهاء (2/ 375).
(4)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (1/ 214)، التاج والإكليل (2/ 457).
(5)
ينظر: المنتقى (2/ 85)، الخرشي عليّ خليل (2/ 267).
(6)
ينظر: المجموع (6/ 478)، حلية العلماء (3/ 181).
(7)
ينظر: مسائل الإمام أحمد لأبي داود (96)، المغني (3/ 189)، الإنصاف (3/ 364).
(8)
البقرة: 187.
الموضع التي بنيت للصلاة فيها، وموضع صلاها في بيتها ليس بمسجد؛ لأنه لم يبن للصلاة فيه.
2 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح، ثم يدخله، فاستأذنت حفصة عائشة
(3)
أن تضرب خباء فأذنت لها، فضربت خباء، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأي الأخبية فقال: ما هذا؟ فأُخْبِر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آلبر تُرون
(4)
بهن؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشرًا من شوال. واللفظ للبخاري.
وفيه أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن، ولو لم يكن موضعًا لاعتكافهن لما أذن فيه، ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه.
(5)
.
2 -
ما أخرجه البخاري
(6)
، ومسلم
(7)
من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه
(1)
كتاب الاعتكاف، باب: اعتكاف النساء (2/ 715)1928.
(2)
كتاب الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (2/ 831)1172.
(3)
قال الحافظ في الفتح (4/ 276): في رواية الأوزاعي المذكورة: «فاستأذنته عائشة فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت» .
(4)
تُرون: بضم أوله أي: تظنون. فينظر: الفتح (4/ 276).
(5)
الفتح (4/ 277).
(6)
كتاب الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر
…
(2/ 713)1922.
(7)
كتاب الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان (2/ 830)1172.
من بعده. واللفظ لمسلم.
ووجه الدلالة: أن اشتراط المسجد للاعتكاف لم ينسخ، ولذا اعتكفت أمهات المؤمنين بعده صلى الله عليه وسلم فيه، ونقل ذلك إلينا
(1)
.
3 -
أن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل، فيشترط في حق المرأة كالطواف
(2)
.
4 -
إن مسجد بيت المرأة يجوز لها اللبث فيه مع الجنابة والحيض كسائر المواضع
(3)
.
القول الثاني: تعتكف المرأة في مسجد بيتها:
تعتكف المرأة في مسجد بيتها وهو المكان الذي خصصته لصلاها في بيتها، فإن اعتكفت في مسجد الحيّ جاز مع الكراهة، هذا ما ذهب إليه الحنفية
(4)
والشافعي في القديم
(5)
، بل في رواية عن الإمام أبي حنفية أنه ليس لها أن تعتكف إلا في مسجد بيتها واختارها الطحاوي
(6)
.
واستدلوا بما يأتي:
أن مسجد بيت المرأة له حكم المسجد في حقها في حق الاعتكاف؛ لأنه له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة، بل صلاها في بيتها أفضل، فكذا
(1)
ينظر: الفتح (4/ 272)، عمدة القارئ (11/ 143)، عون المعبود (7/ 97).
(2)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (1/ 212)، المغني (3/ 190).
(3)
ينظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب (2/ 212).
(4)
ينظر: المبسوط (3/ 119)، شرح فتح القدير (2/ 394).
(5)
ينظر: المجموع (6/ 478).
(6)
مختصر الطحاوي (58).
الاعتكاف
(1)
.
وأجيب عن هذا الدليل بأن العبادة لا تعرف قياسًا، وإنما تعرف نصًا وتوقيفًا
(2)
.
والراجح قول الجمهور لقوة أدلته؛ ولأنه لم يعرف أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أو نساء الصحابة كن يعتكفن في البيوت، ولو كان مشروعًا ما تركنه. ومن هنا يتبين أن للمرأة حق في لزوم المسجد للعبادة والطاعة كحق الرجل، إذا أذن لها وليها، ولم تضيق المسجد على المصلين.
(1)
ينظر: بدائع الصنائع (2/ 113).
(2)
ينظر: رؤوس المسائل (239).
المبحث السادس: الحج
وفيه مطالبان:
المطلب الأول: حج الفريضة.
المطلب الثاني: تعجل الدفع من مزدلفة.
المطلب الأول: حج الفريضة
توطئة:
لقد فرض الرب جل وعلا على عباده فريضة الحج مرة في العمر على الرجال والنساء، قال تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}
(1)
، وقوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}
(2)
.
فالمرأة في فرض الحج كالرجل على السواء، بل جُعِل جهاد النساء الحج والعمرة، أخرج البخاري
(3)
من حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: «لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور» وأخرج
(4)
من طريق عائشة بنت طلحة، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم سأله نساؤه عن الجهاد. فقال:«نِعْم الجهاد الحج» وعليه بوّب البخاري في كتاب الجهاد بباب «جهاد
(1)
الحج: 27.
(2)
آل عمران: 97.
(3)
كتاب الجهاد، باب: فضل الحج المبرور (2/ 553)1448.
(4)
كتاب الجهاد، باب: جهاد النساء (3/ 1054)2720.
النساء» وكذا ابن ماجه
(1)
، وابن خزيمة
(2)
.
وأخرج أحمد في المسند
(3)
، وابن ماجه في السنن
(4)
، بإسناد صحيح من طريق عائشة ابنة طلحة، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: «نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة» .
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد في حق النساء الحج؛ لأن المرأة مأمورة بالابتعاد عن مخالطة الأجانب ما استطاعت، ويتحقق لها هذا في الحج أكثر من الجهاد
(5)
، ولما في الحج أيضًا من مجاهدة النفس بالكف عن شهواتها
(6)
. واختلف العلماء في بعض المسائل التي تتعلق بحج المرأة، وسأورد منها ما ارتأيته من حقوقها.
إن كان الحج نفلًا لم يختلف العلماء على أن المرأة لا تحرم إلا بإذن الزوج، فإن أحرمت بغير إذنه، جاز له تحليلها إذا أراد ذلك، وقد حكي الإجماع على ذلك
(7)
.
أمّا إذا كان الحج فرضًا، ففي حكم منع الزوج زوجته من الإحرام قولان:
القول الأول: ليس للزوج منع امرأته من المضي إلى الحج الواجب:
ليس للزوج منع امرأته من المضي إلى الحج الواجب عليها إذا كملت شروط
(1)
(2/ 968).
(2)
(4/ 359).
(3)
(6/ 165)25361.
(4)
(2/ 968)2901.
(5)
ينظر: شرح ابن بطال (4/ 112)، الفتح (6/ 76).
(6)
ينظر: عمدة القارئ (9/ 134).
(7)
حكاه ابن المنذر في الإجماع (16).
وانظر: الكافي لابن عبد البر (1/ 413)، المجموع (8/ 323)، المغني (3/ 533)، حاشية ابن عابدين (2/ 465).
الوجوب. هذا ما ذهب إليه الحنفية
(1)
، والحنابلة
(2)
، والشافعية في قول مرجوح
(3)
، وابن حزم
(4)
، وللمالكية قولان مبناهما على القول بفورية الحج، فقال بعضهم: الحج واجب على الفور اختاره القاضي عبد الوهاب
(5)
، وبناء على ذلك فليس للزوج منعها.
وقال بعضهم: الحج واجب على التراخي اختاره القرطبي
(6)
، وعلى هذا القول ففي حكم منعها خلاف على قولين: أحدهما ليس له منعها.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما تقدم في الصحيحين
(7)
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» .
قالوا فإذا لم تمنع من المسجد للصلاة، فلا تمنع من قصدها الحرم للحج.
وأجيب عن الحديث بأنه محمول على أنه نهي تنزيه أو على غير المتزوجات؛ لأن غير المتزوجات لم يتعلق بمن حق على الفور، وذلك كالبنت والأخت ونحوهما، وأن المراد لا تمنعوهن مساجد الله للصلوات
(8)
.
2 -
أن الحج واجب وليس له منعها من الواجبات كما ليس له منعها من
(1)
ينظر: المبسوط (4/ 112)، الدر المختار شرح تنوير الأبصار (2/ 465).
(2)
ينظر: المغني (3/ 532)، الإنصاف (3/ 399).
(3)
ينظر: الأم (2/ 117)، نهاية المحتاج (3/ 368).
(4)
ينظر: المحلى (7/ 47).
(5)
ينظر: الإشراف (1/ 211).
(6)
ينظر: تفسير القرطبي (4/ 114).
(7)
ص (156).
(8)
ينظر: المجمع (8/ 330).
الصلاة والصيام.
وأجاب الشافعية بأن مدة الحج طويلة بخلاف الصوم والصلاة.
القول الثاني: للزوج أن يمنع زوجته من الخروج للحج الواجب:
هذا ما ذهب إليه الشافعية في أصح القولين
(1)
، والقول الثاني لبعض المالكية
(2)
الذين ذهبوا إلى أن الحج واجب على التراخي.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه الطبراني في الصغير
(3)
والأوسط
(4)
، والدراقطني في السنن
(5)
، وابن عدي في الكامل
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
من طرق عن حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم بن الصائغ، عن نافع، عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة لها زوج، ولها مال، ولا يأذن لها في الحج ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها. واللفظ للدراقطني.
قال الطبراني: لم يروه عن إبراهيم إلا حسان. وكذا قال ابن عدي.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد
(8)
(1)
ينظر: المصدر السابق، مغني المحتاج (1/ 536).
(2)
ينظر: القوانين الفقهية (123)، منح الجليل (2/ 162).
(3)
(1/ 349)582.
(4)
(4/ 296)4247.
(5)
(2/ 223)31.
(6)
(2/ 373)501.
(7)
(5/ 224)9906.
(8)
(3/ 215).
ورمز السيوطي إلى حسنه في الجامع الصغير
(1)
، ونقله الحافظ في الفتح
(2)
وسكت عنه.
قلت: في إسناده حسان بن إبراهيم الكرماني، قال عنه ابن عدي: «ولحسان شيء من الأصناف، وله حديث كثير، وقد حدث بإفرادات كثيرة عن أبان بن تغلب، وأيضًا عن إبراهيم الصائغ
…
وعن سائر الشيوخ فلم أجد له أنكر مما ذكرته من هذه الأحاديث، وحسان عندي من أهل الصدق إلا أنه يغلط في الشيء، وليس ممن يظن به أنه يتعمد في باب الرواية إسنًادا أو متنًا، وإنما هو وهم منه، وهو عندي لا بأس به»
(3)
وقال عنه الحافظ في التقريب
(4)
: «صدوق يخطئ» وقد عدّ ابن عدي هذا الحديث من مناكيره، وضعف الحديث الألباني في ضعيف الجامع الصغير
(5)
.
2 -
وذكر أصحاب هذا القول أن حق الزوج على الفور، والحج على التراخي فقُدِم ما كان على الفور، كما تقدم العدة على الحج بلا خلاف
(6)
.
وأجاب الجمهور بأن حق الزوج مستمر على الدوام فلو ملك منعها في هذا العام لملكه في كل عام، فيفضي إلى إسقاط أحد أركان الإسلام بخلاف العدة فإنها لا تستمر
(7)
.
(1)
(1/ 101) 4919، وانظر: فتح القدير للمناوي (5/ 278).
(2)
(4/ 77).
(3)
(2/ 375)501.
(4)
1204.
(5)
4919.
(6)
ينظر: المجموع (8/ 329)، مغني المحتاج (1/ 536).
(7)
ينظر: المغني (3/ 531).
والذي يترجح القول الأول، وهو أن للزوجة أن تحج الفرض بدون إذن الزوج إذا توفرت الشروط؛ لأن القول بمنع الزوج زوجته من أداء فرض الحج يفضي إلى ترك الحج في كثير من الأحوال، وهنا تلحظ أن بعض الأزواج يتعسف في استخدام قوامته، ويفهمها فهمًا مقلوبًا؛ لتعطيل المرأة المسلمة عن أداء فرائضها بحجة وجوب السمع والطاعة له، ولو علم الدليل، وأراد الله به خيرًا وفقهه في الدين ما أقدم على ما أقدم عليه، ولأحجم عن كثير مما هو بين يديه. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
المطلب الثاني: نعمل الدفع من مزدلفة
لعلك لحظت أيّها الكريم أثناء البحث أن الإسلام يحرص دائمًا على التخفيف عن المرأة في كثير من الأحكام مراعيًا في ذلك طبيعة خلقتها، وما جبلت عليه من ضعف، وأنوثة يهيِّئنها إلى أداء وظيفتها في الحياة التي ترتبط منزلها ومقرها، كما نلحظ حرص الإسلام على الحفاظ على المرأة، وإبعادها عن مزاحمة الرجال، ومن هذا المنطلق لا تتعجب حين لا تقف على خلاف في أن للمرأة أن تتعجل فتدفع من مزدلفة بعد مغيب القمر، ولا يشترط أن تكون مريضة بل لها ذلك وإن لم يكن بها علة حتى تتمكن من السير إلى منى ورمي الجمرة دون مزاحمة الرجال
(1)
.
ولأهل العلم أدلة من السنة النبوية، منها:
(1)
ينظر: بدائع الصنائع (2/ 154)، المغني (3/ 265)، المجموع (8/ 121)، المبدع (3/ 237)، شرح فتح القدير (2/ 480)، حاشية ابن عابدين (2/ 503)، حواشي الشرواني (4/ 117).
1 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أنا ممن قدّم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة في ضعفة أهله» واللفظ للبخاري.
2 -
ما أخرجه البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من طريق عبد الله مولى أسماء، ع ن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة. ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة. ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا، فارتحلنا، ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها. فقلت لها: يا هنتاه
(5)
ما أرانا إلا قد غلسنا. قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظُعن
(6)
. واللفظ للبخاري.
3 -
ما أخرجه البخاري
(7)
، ومسلم
(8)
من طريق القاسم، عن عائشة أنها قالت: استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة تدفع قبله، وقبل حطمة
(1)
كتاب الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة، ويعون ويقدم إذا غاب القمر (2/ 603)1593.
(2)
كتاب الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى منى في أواخر الليالي قبل زحمة الناس، واستحباب المكث لغيرهم حتى يصلوا الصبح بمزدلفة (2/ 941)1293.
(3)
رقم الحديث (1594).
(4)
رقم الحديث (1291).
(5)
أي: يا هذه. ينظر مشارق الأنوار (2/ 271)، الفتح (3/ 528).
(6)
و"الظعن" بضم الظاء المعجم، جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج، ثم أطلق بعد على المرأة مطلقًا. ينظر: النهاية (3/ 157) مادة (ظ ع ن)، شرح النووي على مسلم (9/ 40)، الفتح (3/ 527).
(7)
رقم الحديث (1596).
(8)
رقم الحديث (1290).
الناس
(1)
، وكانت امرأة ثبطة، يقول القاسم: والثبطة الثقيلة: قال: فأذن لها، فخرجت قبل دفعه، وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه؛ ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة، فأكون أدفع بإذنه، أحب إلي من مفروح به» واللفظ لمسلم.
4 -
ما أخرجه مسلم
(2)
من طريق سالم بن شوال أنه دخل على أم حبيبة فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل.
(1)
الحطمة: بفتح الحاء، وسكون الطاء. الوحمة.
ينظر: النهاية (1/ 402) مادة (ح ط م)، الفتح (3/ 530).
(2)
كتاب الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهم
…
(2/ 940)1292.
الفصل الثالث
حق المرأة في الهجرة
الفصل الثالث حق المرأة في الهجرة
إذا ضاق على المسلم داره، وتضايق من جاره، ولحقه أذى أهله وخلانه، وما استطاع أن يعبد ربه في وطنه، شرع الله له الهجرة ببدنه من أرض الكفار إلى أرض يعبد فيها ربه، ويقيم شرائع دينه، ويفر بنفسه من الفتنة، ووعده الله على ذلك كبير الأجر، وعظيم القدر، والمرأة في شأن الهجرة كالرجل، فلمسلمة أن تفر بدينها، وأن تقي نفسها الفتنة، وأن تظهر شرائع ما تقره وتعتقده، ولن تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولن تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
تعريف الهجرة لغة واصطلاحًا:
الهجرة لغة: الاسم من الهجر ضد الوصل، وقد هجره هجرًا وهجرانًا ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض
(1)
.
وفي الاصطلاح: الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام
(2)
.
والهجرة هجرتان:
1 -
هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه هي المقصودة هنا.
2 -
وهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها،
(1)
ينظر: النهاية (5/ 243)، لسان العرب (5/ 250) مادة (هـ ج ر).
(2)
ينظر: المغني (9/ 236)، حواشي الشرواني (9/ 269)، زاد المهاجر (17).
ولذا صح في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه
(1)
من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا وفيه: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»
(2)
.
وقد ذكر العلماء أن المسلم المقيم في بلد لم يفتحه المسلمون أحد ثلاثة:
الأول: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه إقامة واجباته مع المقام بين الكفار، لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
(3)
وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: قادر، لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته في بلد الكفار، فمستحبة، لتكثير المسلمين، ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز يعذر من أسر أو مرض أو غيره، فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر؛ لقوله تعالى:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}
(4)
وأخرج البخاري
(5)
من حديث
(1)
كتاب الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (1/ 13)10.
(2)
ينظر تفصيل هذه الهجرة في زاد المهاجر لابن القيم.
(3)
النساء: 97.
(4)
النساء: 98 - 99. وانظر: المغني (9/ 236)، روضة الطالبين (10/ 282)، الفتح (6/ 190)، عمدة القارئ (14/ 80).
(5)
كتاب التفسير، باب:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (4/ 1679)4321.
ابن عباس رضي الله عنهما: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} قال: كانت أمي ممن عذر الله.
• وأمّا ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا هجرة بعد الفتح» أي: فتح مكة. واللفظ للبخاري.
قال النووي: «قال العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة وفي تأويل هذا الحديث قولان:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة، لأنها صارت دار إسلام، وإنما تكون الهجرة من دار الحرب، وهذا يتضمن معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها تبقى دار الإسلام، ولا يتصور منها الهجرة.
والثاني: معناه لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح كما قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}
(3)
»
(4)
.
والمرأة لا تحب عليها الهجرة؛ لأنها من المستضعفين كما نصت على ذلك الآية؛ وإن هاجرت أجرت كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه الأسماء بنت عميس، وإنك لتحار حين تقارن بين ماض لنا تليد كانت المؤمنات فضلًا عن المؤمنين يفرون بدينهم بائعين أوطانهم وأهليهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين حاضر ترى فيه أبناء ملتنا يتخلون عن كثير من شعائر الله وهم ممكنون من الإتيان بها، بل ويُدْعون إليها؛ وما ذاك إلا من استحواذ الشيطان عليهم، والهزيمة النفسية المصابين بها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(1)
كتاب الجهاد، باب: فضل الجهاد والسير (3/ 1025)2631.
(2)
كتاب الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح (3/ 1487)1353.
(3)
الحديد: 10.
(4)
شرح صحيح مسلم (9/ 123).
ومن
الأدلة على حق المرأة في الهجرة:
1 -
أخرج الحميدي في المسند
(1)
، وسعيد بن منصور في سننه
(2)
، والترمذي في السنن
(3)
، وأبو يعلى في المسند
(4)
، والطبري في التفسير
(5)
، والطبراني في الكبير
(6)
، والحاكم في المستدرك
(7)
من طرق عن عمرو بن دينار، عن سلمة بن أبي سلمة رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}
(8)
واللفظ للترمذي.
قال الحاكم: بعض هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه.
قلت: وفي إسناده سلمة بن أبي سلمة، لم يخرج له البخاري، وليس له في السنن إلا هذا الحديث عن الترمذي، ولم يسمه بل قال «عن رجل من ولد أم سلمة» وسماه الحاكم، ولم يذكره المزي لا في الأسماء ولا في المبهمات، قال الحافظ:«مقبول»
(9)
أي حين المتابعة، وإلا فلين الحديث على اصطلاحه، وقد تابعه مجاهد كما أخرج
(1)
301.
(2)
(2/ 3)552.
(3)
(5/ 237)3023.
(4)
(12/ 391)6958.
(5)
(4/ 215).
(6)
(23/ 294)651.
(7)
(2/ 328)3174.
(8)
آل عمران: 195.
(9)
التقريب (400)(3/ 25).
الطبري
(1)
عنه في التفسير، عن أم سلمة بنحوه.
قال الألباني: «صحيح لغيره»
(2)
.
2 -
وأخرج البخاري
(3)
من طريق عروة بن الزبير، أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه. فكره المؤمنون ذلك، وامتعضوا منه، وأبي سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة، وإن كان مسلمًا، وجاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم، فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
(4)
قال عروة: فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
التفسير (4/ 215).
(2)
صحيح جامع الترمذي (5/ 237)2023.
(3)
كتاب الشروط، باب: ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة (2/ 967)2564.
(4)
الممتحنة: 10.
«قد بايعتك» كلامًا يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، وما بايعهن إلا بقوله.
قال الحافظ: «ووقع في بعض طرقه: «ألّا يأتيك منا رجل إلا رددته» فمفهومه أن النساء لم يدخلن»
(1)
وعلى هذا يكون ترك رد النساء إلى أهل مكة مع وقوع الصلح بينهم وبين المسلمين في الحديبية؛ لأنهن لم يدخلن في أصل الصلح، أو أن لفظ الصلح عام أريد به الخصوص، وحكمة ترك رد المهاجرات ظاهرة في رحمة الله بالنساء، لضعفهن؛ وسرعة تأثرهن، ولذا أنزل الحق جل وعلا الآيات في امتحان وعدم ردهن إلى الكفار.
وتأمل -حفظك الله- ما جاء في الحديث «ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة، ولو كان مسلمًا وجاء المؤمنات مهاجرات» وظاهره أن المؤمنات أتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة أثناء مدة صلح الحديبية
(2)
.
«وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق» ومعنى «وهي عاتق» أي: بلغت واستحقت التزويج، ولم تدخل سنه، وقيل: هي الشابة، وقيل: هي ما بين أن تبلغ إلى أن تعنس ما لم تتزوج، والتعنيس طول المقام في بيت أبيها بلا زوج حتى تطعن في السن
(3)
ومن معنى عاتق يتبين أن المرأة لها حق الهجرة حتى ولو كانت صغيرة لتفر بدينها من الفتن.
وقد سمي من المؤمنات المهاجرات في أثناء صلح الحديبية: أميمة بنت بشر
(1)
الفتح (9/ 419).
(2)
المصدر السابق.
(3)
ينظر: النهاية (3/ 179) مادة (ع ن س)، شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 178)، الفتح (7/ 454).
وكانت تحت حسان، ويقال: ابن دحداحة قبل أن يسلم، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له ابنه عبد الله بن سهل، وسبيعة الأسلمية وكانت تحت مسافر المخزومي، وأم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد فارتدت، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة كانت تحت عمرو بن عبد ود، وابنة حمزة بن عبد المطلب
(1)
.
ومن فوائد الحديث سقوط المحرم في سفر الهجرة؛ للمفسدة المترتبة في بقائها في بلاد الكفر، فأم كلثوم بنت عقبة ومن سمي معها من المهاجرات قطعن المسافة من مكة إلى المدينة دون محرم، وما أنكر عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على عدم شرطية المحرم في سفر الهجرة، لكن لا بد من أمن الطريق حفاظًا على المرأة.
(2)
ويظهر في الحديث عدل الإسلام مع خصومه، فقد أمر أتباعه أن يعطوا أزواج المهاجرات مثل ما دفعوا إليهن من المهور، ثم بيّن جواز نكاح المهاجرات إذا استبرأن أرحامهن، وأوتين مهورهن، وامتُحِن لإظهار صدقهن، قال تعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
(3)
.
فإلى كل من يتهم الإسلام ويسمه بالإرهاب نقول لهم:
هل يضير البحر أمسى زاخرًا
…
إن رمى فيه غلام بحجر
(1)
ينظر: الفتح (5/ 348).
(2)
ينظر: المغني (9/ 46)، المجموع (8/ 244)، الإنصاف (3/ 411)، الفروع (3/ 178).
(3)
الممتحنة: 10. وانظر: تفسير ابن كثير (4/ 352)، وتفسير أبي السعود (8/ 239).
وسيأتي مزيد بيان للحديث في مبحث البيعة للنساء ص (316)، ومهر المرأة ص (450).
ونقول أيضًا:
وإذا أتتك مسبي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
وانظر أيّها الكريم عدل الإسلام حتى مع خصومه وأعدائه، فلما أن هاجرت امرأة الكافر عنه، وفوتت حقه في الاستمتاع بها، أمر أتباعه أن يعيدوا له مهره، وأن يعينوا المرأة على إظهار شعائر دينها في أرضهم، فوفي للطرفين حقهما، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
3 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق عروة بن الزبير، وزاد مسلم: وفاطمة بنت المنذر أنهما قالا: خرجت أسماء بنت أبي بكر حين هاجرت -وهي حبلى- بعبد الله بن الزبير فقدمت قباء، فنفست بعبد الله بقباء، ثم خرجت حين نفست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة، قال: قالت عائشة فمكثنا ساعة نلتمسها قبل أن نجدها، فمضغها ثم بصقها في فيه؛ فإن أول شيء دخل بطنه لريق رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» الحديث واللفظ لمسلم.
وفي الحديث هجرة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، وقد ذكر ابن إسحاق
(3)
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة بعث زيد بن حارثة، فأحضر زوجته سودة بنت زمعة، وبنتيه فاطمة وأم كلثوم، وأم أيمن زوج زيد بن حارثة وابنها
(1)
كتاب فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة (3/ 1415)3697.
(2)
كتاب الأدب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته، وحمله إلى صالح يحنكه
…
(3/ 1689)2146.
(3)
عزاه له الحافظ في الفتح (7/ 249).
وانظر: الاستيعاب (4/ 1936) عند ترجمة أم رومان (4142) السيرة الحلبية (2/ 233).
أسامة، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر، ومعه أمه أم رومان، وأختاه عائشة وأسماء، فقدموا: والنبي صلى الله عليه وسلم مسجده.
4 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبي رضي الله عنه ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما: أبو بردة، والآخر: أبو رهم إما قال: في بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلًا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حق قدمنا جميعًا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا -يعني لأهل السفينة- سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟ قالت: أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت. وقالت: كلا، والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء، البغضاء بالحبشة، وذلك في الله، وفي رسول صلى الله عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعامًا، ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذي وتخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وأسأله، والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا. قال: فما قلت له؟ قالت: قلت
(1)
كتاب المغازي، باب: غزوة خيبر (4/ 1546)3990.
(2)
كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وأهل سفينتهم رضي الله عنهم (4/ 1946)2502.
كذا وكذا. قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالًا يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. واللفظ للبخاري.
وفي الحديث هجرة أسماء بنت عميس ومن معها من المؤمنات مع أزواجهن فرارًا بدينهن لله ورسوله، وقد ذكر ابن كثير في سيرته
(1)
أن أول من هاجر من المؤمنين أحد عشر رجلًا، وأربع نسوة، ونأهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب، فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة، وسمي من المؤمنات: رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجها عثمان، وسهلة بنت سهيل مع زوجها أبي حذيفة بن عتبة، وأم سلمة بنت أبي أمية مع زوجها أبو سلمة بن عبد الأسد، وليلى بنت أبي حثمة مع زوجها عامر بن ربيعة.
ثم خرج من المؤمنات مع أزواجهن أسماء بنت عميس مع زوجها جعفر بن أبي طالب، وفاطمة بنت صفوان بن أمية مع زوجها عمرو بن سعيد بن العاص، وأمينة بنت خلف مع زوجها خالد بن سعيد بن العاص، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان مع زوجها عبيد الله بن جحش، وبركة بنت يسار مولاة أبي سفيان مع زوجها قيس بن عبد الله من بني أسد، وأم حرملة بنت عبد الأسود مع زوجها جهم بن قيس، ورملة بنت أبي عوف بن ضبيرة مع زوجها المطلب بن أزهر، وريطة بنت الحارث مع زوجها الحارث بن خالد التيمي، وفاطمة بنت المحلل مع زوجها حاطب بن الحارث بن معمر، وفكيهة بنت يسار مع زوجها خطاب بن الحارث، وحسنة مع زوجها سفيان بن معمر، وعمرة بنت السعدي مع زوجها مالك بن
(1)
البداية (3/ 67).
ربيعة، ولعلك أيّها القارئ الفاضل أن تتصور ما لحق بالنساء الصابرات من أذى ومشقة، أولها: ترك أوطان وأهلهن ولا ش ك أن سيلحقهن أذي نفسي من ترك ما ألفنه، ثم وعورة الطريق، وبعد الشقة من مكة إلى الحبشة ما بين جبل وساحل، ثم ركوب البحر للوصول إلى دار الغربة، ورواية ابن كثير تصور ما لحقهم من أذى «وأهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب، فاستأجروا سفينة بنصف دينار» ، ومع ذلك يأتي جواب أسماء بنت عميس ليبين لنساء العالم أجمع ما بذلته المرأة المسلمة منذ بزوغ شمس الرسالة ولن تزال بإذن الله أرضًا تنبت، وشمسًا تشرق، وتقول لعمر بن الخطاب لما فخر عليها بسبقه بالهجرة قائلة: «كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويظهر من رد أسماء على عمر ما عنينهن بعد وصولهن لأرض الحبشة، ووصفها لهم:«بالبعداء البغضاء» ، أي البعداء في النسب، البغضاء في الدين لأنهم كانوا كفارًا
(1)
، بينما كان عمر وأصحابه رضوان الله عليهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم بثبوت عظيم الأجر لهم، ويقرر فضلهم بقوله:«له ولأصحابه هجرة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفرح أهل السفينة بالبشارة، ويأتون إلى أسماء أرسالًا ليسمعوا منها بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فيفرحوا بها فرحة لا تعدلها فرحة.
وموقف أسماء بنت عميس مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يُظْهِرُ قوة المرأة المسلمة في الحق، ومن تحديثها رضي الله عنها بالحديث يتجسد دور المسلمة في نشر العلم وتعليم الخير.
(1)
ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 65)، الفتح (7/ 487).
5 -
ويدل على حق المرأة في الهجرة ما أخرجه أحمد في المسند
(1)
وأبو داود في السنن
(2)
، وابن الجارود في المنتقى
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
، والطحاوي في شرح مشكل الآثار
(5)
، والحاكم في المستدرك
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
وفي دلائل النبوة
(8)
من طرق عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبّاد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، قالت: فلمّا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقّة شديدة. وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها» فقالوا: نعم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليه -أو وعده- أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار فقال:«كونا ببطن يأْجِج حتى تمر زينب فتصحباها حتى تأتيا بها» واللفظ لأبي داود.
وهو في سيرة ابن هشام
(9)
عن أبي إسحاق بهذا الإسناد.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قلت: لم يحتج مسلم. محمد بن إسحاق، إنما أخرج له في المتابعات. وإسناد
(1)
المسند (43/ 381)26362.
(2)
(3/ 62)2692.
(3)
1090.
(4)
(22/ 426)1050.
(5)
(3/ 101)4708.
(6)
(3/ 23، 236) 4306، 5409.
(7)
(6/ 322)12628.
(8)
(3/ 154).
(9)
(1/ 653).
الحديث حسن، من أجل محمد بن إسحاق قال الحافظ عنه:«صدوق يدلس»
(1)
وزال ما يخشى من تدليسه؛ لتصريحه بالتحديث عند أحمد.
• قال العظيم آبادي: «وفيه دليل على جواز خروج المرأة الشابة البالغة مع غير ذي محرم لضرورة داعية لا سبيل لها إلا ذلك»
(2)
.
(1)
التقريب (825)5762.
(2)
عون المعبود (7/ 255).
الفصل الرابع حق المرأة في التعليم
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: الأحاديث النبوية في تعليم المرأة.
المبحث الثاني: بعض المسائل العلمية من النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث: عناية السلف الصالح بتعليم النساء.
المبحث الرابع: صور مشرقة للمرأة في طلب العلم.
المبحث الخامس: حكم تعليم المرأة.
توطئة:
لا شك أن نصوص فضل العلم أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر
(1)
، خاطب الرب جل وعلا فيها رجال الأمة ونساءها على السواء، شاحذًا هممهم للجد والتحصيل، وأن يكونوا أحلاس عمل لا كسالة وبطر، وليدللوا للأمم أن مكانة العلم في الإسلام عالية، وأن الله يرفع أهله وطلابه، قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
(2)
.
بل جعل الله أهل العلم شهودا على وحدانيته، وقرن شهادهم بشهادته، وشهادة ملائكته، وفي هذا تزكية لأهل العلم؛ لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، قال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(3)
.
بل بلغ شأن العلماء أن يكون فضلهم على من سواهم كفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى الصحابة، ولو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفضلي على أعلاكم لكفى به فضلًا وشرفًا، كيف وقد قال «كفضلي على أدناكم» .
(1)
انظر في فضل العلم وأهله: فضل العلم لابن عبد البر، فضل العلم لابن القيم.
(2)
المجادلة: 11.
(3)
آل عمران: 18.
أخرج الترمذي في السنن
(1)
، والطبراني في الكبير
(2)
، وتمام في فوائده
(3)
من حديث أبي أمامة الباهلي قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما: عابد، والآخر عالم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلِّم الناس الخير» قال الترمذي: حديث غريب. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي
(4)
.
كما رفع الله درجة أهل العلم، وأظهر فرقهم على من سواهم من عامة الناس فقال:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
(5)
.
ولأهمية العلم والتعليم نجد أن أول آيات من القرآن نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
(6)
وقد كان فيها تأسيس لافتتاحية هذه الرسالة العظيمة، ولما كانت هذه السورة هي أول سورة نزلت من القرآن، وكانت هذه الآيات الخمس أول ما نزل منها على الصحيح، فهي بحق افتتاحية الوحي، فكانت موضع عناية المفسرين وغيرهم، وسأقف مع هذه الآية على مسائل عدة تتعلق بأهمية العلم وأهله:
المسألة الأولى: توجيه الأمر بالقراءة إلى بني أمي؛ لا تعارض فيه؛ لأن
(1)
(5/ 50)2685.
(2)
(8/ 233)7911.
(3)
(2/ 98)1243.
(4)
(5/ 50)2685.
(5)
الزمر: 9.
(6)
العلق: 1 - 5.
القراءة تكون من مكتوب ومتلو، والقراءة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم من متلو يتلوه جبريل، وفي هذا إبراز للمعجزة أكثر، لأن الأمي بالأمس صار معلمًا اليوم، وقد أشار السياق إلى نوعي القراءة هذين حيث جمع القراءة مع التعليم بالقلم.
فجاء الأمر بالقراءة تكليفًا لتحميل الوحي، وباسم ربك بيان لجهة التكليف، والذي خلق تدليلًا لتلك الجهة.
المسألة الثانية: مجيء الوصف بالأكرم في قوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} بدلًا من أي صفة أخرى؛ لما في هذه الصفة من تلاؤم للسياق ما لا يناسب مكانها غيرها؛ لعظم العطاء، وجزيل المنة.
فأولًا: رحمة الخليقة بهذه القراءة التي ربطت العباد بربهم وكفى.
وثانيًا: نعمة الخلق والإيجاد، فهما نعمتان متكاملتان: الإيجاد من العدم بالخلق، والإيجاد الثاني من الجهل إلى العلم، ولا يكون هذا كله إلا من الرب الأكرم سبحانه.
المسألة الثالثة: (الذي علم بالقلم) فالله سبحانه وتعالى مدح نفسه بأنه علَّم بالقلم، وأنه علَّم الإنسان ما لم يعلم، فكان فيه الإشادة بشأن القلم حيث إنه سبحانه علَّم به، وهذا أعلى مراتب الشرف مع أنَّ الله سبحانه قادر على التعليم بدون القلم، وقد أورده سبحانه في معرض التكريم في قوله:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}
(1)
وعظم المقسم عليه وهو نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي يدل على عظم المقسم به، وهو القلم، وما يسطرون به من كتابة الوحي وغيره، وسميت سورة في القرآن باسمه
(2)
.
(1)
القلم: 1 - 2.
(2)
انظر: التفسير الكبير للرازي (32/ 15 - 18)، أضواء البيان (9/ 12 - 19).
ولا أدل على أهمية الكتابة من تكرارها في آية الدين أطول آية في القرآن، رُسِمت فيها كتابة العدل، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}
(1)
، فقد تكررت في الآية الأوامر الإلهية بتعليم الكتابة بصيغ متعددة مثل (فاكتبوه)(وليكتب)(فليكتب) بل نوهت الآية بفضل الكاتب فكررت ذكره مرتين في آية واحدة {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ} {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ} ، وتعلم الكتابة نعمة من نعمه تعالى ينعم بها على من يشاء من عباده، فالله تعالى هو المعلِّم كما هو واضح في قوله تعالى:{كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} وهذا تنويه هذه النعمة كما قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، فلو لم يتعلم الناس الكتابة لما استطاعوا حفظ حقوقهم.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مغفلًا شأن القلم، بل عيني به كل العناية، وأولها وأعظمها أنه اتخذ كتابًا للوحي يكتبون ما يوحى إليه بين يديه مع أنه يحفظه ويضبطه، وتعهد الله له بحفظه وضبطه في قوله:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}
(2)
.
ووعد الله تعالى بحفظه في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(3)
، ومع ذلك فقد كان يأمر بكتابة هذا المحفوظ، وكان له عدة كتَّاب، وهذا غاية في العناية بالقلم. وقد ذكر ابن القيم
(4)
من الكتاب الخلفاء الأربعة. ومعهم تتمة
(1)
البقرة: 282.
(2)
الأعلى: 6 - 7.
(3)
الخجر: 9.
(4)
ينظر: زاد المعاد (1/ 68).
سبعة عشر شخصًا، ثم لم يقتصر صلى الله عليه وسلم في عنايته بالقلم والتعليم به عند كتابة الوحي بل جعل التعليم به أعم كما جاء خبر عبد الله بن سعيد بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة
(1)
.
وأخرج ابن ماجه
(2)
بسند صحيح عن عبادة بن الصامت قال: علمت ناسًا من أهل الصفة القرآن والكتابة.
وقد كانت دعوته صلى الله عليه وسلم الملوك إلى الإسلام بالكتابة كما هو معلوم، وأبعد من ذلك ما جاء في قصة أسارى بدر حيث كان ينادي بالمال من كان يقدر على الفداء، ومن لم يقدر وكان يعرف الكتابة كانت مفاداته أن يعلم عشرة من الغلمان الكتابة، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك، وكان ممن تعلم زيد بن ثابت وغيره
(3)
.
فإذا كان المسلمون وهم في بادئ أمرهم وأحوج ما يكون إلى المال والسلاح، يقدِّمون تعليم الغلمان الكتابة على المال؛ ليدل على أمرين:
1 -
مدى العناية بالتعليم.
(1)
ذكره ابن علد البر في الاستيعاب عند ترجمة عبد الله بن سعيد (3/ 920)1556.
(2)
(2/ 730)2157.
(3)
أخرج الحديث أحمد في مسنده (4/ 92) 2216، والحاكم في المستدرك (2/ 152) 2621، والبيهقي في الكبرى (6/ 322) 12626 من طريق علي بن عاصم، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس وذكره.
قال الحاك: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الهيثمي في المجمع (4/ 96): "رواه أحمد عن علي بن عاصم وهو كثير الغلط والخطأ" لكنه توبع، فقد رواه ابن سعد في الطبقات (5/ 108) من طرق عن عامر الشعبي. وهذا مرسل؛ لكن يتقوى به الحديث إلى الحسن والله أعلم.
وانظر: أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الطلاع (199 - 200)، تاريخ الطبري (2/ 46)، الروض الأنف (3/ 180).
2 -
جواز تعليم الكافر المسلم ما لا تعلق له بالدين، كما يوجد الآن من الأمور الصناعية في الهندسة والطب والزراعة وغير ذلك
(1)
.
وقد كثر المتعلمون بسبب ذلك حتى كان عدد كتاب الوحي اثنين وأربعين رجلًا ثم كان انتشار الكتابة مع الإسلام.
وكل ما تقدم ذكره يتساوى فيه النساء والرجال؛ للقاعدة التي قررها رسولنا صلى الله عليه وسلم بقوله «النساء شقائق الرجال» وقد مضى أن كل ما فرضه الله على عباده وندبهم إليه، فالرجال والنساء فيه سواء إلا ما استثني بالنص، والعلم فريضة الله على عباده، ودلالة إرادته بهم الخير، فلا عجب أن يحث الإسلام المرأة أن تضرب بسهمها فيه، وأن تشمر لتكون من أهله. وسآتي من الدليل والبرهان ما يثبت ذلك، وينقض ضده، والله تعالى الموفق.
(1)
ينظر: أضواء البيان (9/ 19).
المبحث الأول: الأحاديث النبوية في تعليم المرأة
إن من المجمع عليه أن المرأة مسؤولة عن صلاتها وصيامها وزكاة أموالها وحجها وقبل هذا كله سلامة عقيدتها، ولا يمكن لها أن تقيم شرائع دينها هذه إلا بالعلم المنافي للجهل، ولذا نص الإسلام على تعليم الفتاة، ونشر العلم بين النساء، ودليل ذلك:
1 -
ما أخرجه البخاري
(1)
من طريق أبي بردة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران» وعليه بوّب البخاري بابًا في كتاب العلم وسمه بباب: تعليم الرجل أمته وأهله
(2)
، ثم بوّب عليه رحمه الله في كتاب العتق بباب: فضل من أدب جاريته وعلمها
(3)
.
(4)
.
(1)
كتاب العلم، باب: تعليم الرجل أمته وأهله (1/ 48)97.
(2)
المصدر السابق.
(3)
(2/ 889).
(4)
الفتح (1/ 190).
فالإسلام لم يحث أتباعه على تعليم الحرائر فحسب، بل جعل لمعلِّم الأَمَةِ بعد عتقها أجرين، لينتشر العلم بين الحرائر والإماء على حد سواء.
وهنا أشير إلى ضرورة تعليم الخادمات أمور دينهن؛ لأن الغالب عليهن الجهل، وقلة العلم، وانتشار الشرك بجميع صوره فهن لا يعلمن من الإسلام إلا اسمه، ويجهلن رسمه، ويمن الله على الواحدة منهن بالسفر إلى ديار التوحيد، ومنبع الرسالة، ومهبط الوحي، ولكن وللأسف تعود إلى ديارها كما أتت من غير أن تزيد من محصلتها العلمية كما زاد دخلها المادي؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله، وأهيب بأخواتي المؤمنات أن يحتسبن الأجر في تعليم الخادمات، وليجعلن نصب أعينهن (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه)، وهداية رجل واحد خير للمرء من حمر النعم.
2 -
ومن حرص الإسلام على تعليم المرأة أن جعل الإمام يتولى هذه المهمة بنفسه، بل وفي المجامع العامة أخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من طريق عطاء قال: سمعت ابن عباس قال: أشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أو قال عطاء: أشهد على ابن عباس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع، فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يأخذ في طرف ثوبه. واللفظ للبخاري.
وقد مر بنا في ثنايا البحث
(3)
ما جاء في بعض طرقه: وقال ابن جريج لعطاء: أترى حقًا على الإمام ذلك يذكرهن؟ قال: إنه لحق عليهم، وما لهم لا يفعلونه!
وقد أورد هذا الحديث البخاري في صحيحه في كتاب العلم عقب الحديث
(1)
كتاب العلم، باب: عظة الإمام النساء وتعليمهن (1/ 49)98.
(2)
كتاب صلاة العيدين (2/ 603)885.
(3)
ص (186).
المتقدم، وبوّب عليه بباب: عظة الإمام النساء وتعليمهن.
(1)
.
وفي الحديث من الفوائد: استحباب موعظة النساء وتذكيرهن بتقوى الله ومخافته والحذر من المعاصي والسيئات، وفهم بعض السلف رحمهم الله من مناصحة النبي -صلى الله عليه و-سلم للنساء، لزومه على ولي الأمر للسنَّة الماضية كما مر بنا في قول ابن جريج لعطاء، وفيه من السنَّة مباعدة النساء عن الرجال في مجالس العلم والذكر وغيرها التي يحضرها الجنسان في وقت واحد كشهود صلاة العيد و استماع الخطبة، وتخصيص النسوة بمكان معزول عن الأجانب مع استتارهن بالحجاب احتياطًا للحرمات، وصيانة لفضول الفكر والنظر، ودرءًا للريب، ورعايةً لحدود الله، قال ابن حجر رحمه الله:«في مجيء بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النساء أدب شريف في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم، وهو ألّا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه؛ لأن بلالًا كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم ومتولي قبض الصدقة»
(2)
.
3 -
ولقد تنبهت المرأة المسلمة إلى حقها في التعليم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاحظت النسوة غلبة الرجال على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الرجال يلازمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحيطون به للتعلم؛ فلا يستطيع النساء مزاحمتهم عليه، وكن يجلسن في آخر الصفوف، فأتين يسألنه حظهن، أخرج البخاري
(3)
،
(1)
الفتح (1/ 192).
(2)
الفتح (2/ 592).
(3)
كتاب العلم، باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟ (1/ 50)101.
ومسلم
(1)
من حديث أبي سعيد الخدري قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تعلمنا ما علمك الله. قال:«اجتمعن يوم كذا وكذا» فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم له فعلمهن مما علمه الله. ثم قال: «ما منكن من امرأة تُقَدِّم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجابًا من النار» . فقالت امرأة: واثنين واثنين واثنين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «واثنين واثنين واثنين» واللفظ لمسلم.
وبوّب عليه البخاري في كتاب العلم باب: هل يُجعَل للنساء يوم على حدة في العلم؟
قال الحافظ ابن حجر في اسم السائلة للموعظة: «لم أقف على اسمها، ويحتمل أن تكون هي: أسماء بنت يزيد بن السكن»
(2)
.
وفي الحديث من الفوائد:
ما كان عليه نساء الصحابة، وبخاصة نساء الأنصار من الحرص البالغ على تعلم أمور الدين، وحضور مجالس العلم والحكمة، والتشرف بسماع الحديث مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه جواز مكالمة المرأة الرجل فيما تحتاج إليه من أمور دينها، وقد أُخذ العلم عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعن غيرهن من نساء السلف، وفيه جواز اختصاص النساء بوقت ينفردن فيه بالعالم لتعليمهن وموعظتهن كما استجاب النبي صلى الله عليه وسلم لرغبة النساء ووعدهن يومًا يأتيهن فيه، فوفي وعده وعليه ترجم البخاري، وفيه أن الصبر على المصائب واحتسابها عند الله سبحانه سبب التكفير الخطايا
(1)
كتاب البر والصلة والآداب، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه (4/ 2028)2633.
(2)
الفتح (13/ 362).
ومغفرة الذنوب وزيادة الحسنات
(1)
.
وانظر -رحمك الله- إلى شجاعة المرأة الأدبية، وتواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أصغي سمعه إلى المرأة وهي تُبْدي رأيها فيما تراه، وتطالب بحقها قائلة: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، وفي رواية البخاري «غلبنا عليك الرجال» ثم مقترحة:«فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله» فما كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن وعدهن في يوم معين، ومكان معين فصار يحدثهن ويعلمهن.
إنها رسالة لعلماء الأمة أن يعطوا من أوقاتهم وأنفسهم لمصانع الرجال، والمدارس الأُول التي يتلقى فيه الطفل مبادئ الحياة، ورحم الله الرصافي حين قال:
هي الأخلاق تنبت كالنبات
…
إذا سُقِيت بماء المكرمات
تقوم إذا تعهدها المربي
…
على ساق الفضيلة مثمرات
ولم أر للخلائق من محل
…
هذبها كحضن الأمهات
فحض الأم مدرسة تسامت
…
بتربية البنين أو البنات
وهل يرجى لأطفال كمال
…
إذا نشأوا بحضن الجاهلات
أليس العلم في الإسلام فرضًا
…
على أبنائه وعلى البنات
وكانت أمنا في العلم بحرًا
…
تحل لسائليها المشكلات
وعلمها النبي أجل علم
…
فكانت من أجل العالمات
فهل من ناهل من مورد عذب رقراق، متابع لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتف
(1)
انظر للاستزادة من فوائد الحديث:
شرح ابن بطال (1/ 178)، شرح الكرماني (2/ 100)، الفتح (1/ 262)، إرشاد الساري (1/ 295).
أثره؛ لأن الأمر ليس خاصًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يعتني العلماء، وأولياء الأمور بالنساء كما اعتني من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح
(1)
، فيأخذن العلم والرواية، ويتحملن ذلك كالرجال، لِيَكنَّ هاديات مهديات، مفاتيح للخير مغاليق للشر، فما من طاعة تقوم على الوجه الصحيح إلا بالعلم، والعلم من أفضل الطاعات على الإطلاق، وهذا ما صرحت به امرأة عالمة، وفقيهة زاهدة ألا وهي أم الدرداء قائلة «لقد طلبت العبادة في كل شيء؛ فما أصبت لنفسي شيئًا أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم»
(2)
.
4 -
بل كان صلى الله عليه وسلم يحرص على حضور العواتق وذوات الخدور فضلًا عن الكبيرات صلاة العيدين حتى وإن كن حيّضًا يشهدن الخير ودعوة المسلمين، أخرج البخاري ومسلم من حديث أم عطية قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيّض وذوات الخدور، فأما الحيّض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب. قال: «لتُلْبِسها أختها من جلبابها» واللفظ لمسلم
(3)
.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولياء النساء أن يخرجوهن في الفطر والأضحى ليشهدن الخير، ويستنرْنَ بنور العلم، حتى المرأة الحائض لا يمنعها حيضها من حضور الخير بل لتحضر، ولتعتزل المصلي، ومن لا جلباب لها أمر أن تُلْبِسها أختها من جلبابها. فهل رأيت دينًا أعطى المرأة حقها كدين الإسلام!
(1)
سيأتي صور لذلك ص (285).
(2)
عزاها لها ابن عساكر في تاريخ دمشق (70/ 156)، والنووي في تهذيب الأسماء (2/ 623)، والمزي في تهذيب الكمال (35/ 355).
(3)
تقدم تخريجه ص (183).
5 -
بل كانت النساء حريصات على حضور الأمور المهمة التي ينادي إليها منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحضرن المسجد من غير نكير عليهن، وما ذاك إلا لكوتهن داخلات في الخطاب الشرعي، أخرج مسلم
(1)
من حديث أم سلمة قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومًا من ذلك، والجارية تمشطي، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«أيها الناس» فقلت للجارية: استأخري عني. قالت: إنما دعا الرجال، ولم يدع النساء. فقلت: إلى من الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لكم فرط على الحوض، فإياي لا يأتين أحدكم فيُذَبّ عني كما يُذَبُّ البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا» .
لقد فهمت أم سلمة رضي الله عنها من نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ «أيها الناس» أنها معنية، وأن الخطاب لها، ولذا أنكرت عليها الجارية إبعادها لها؛ لأن الخطاب وُجِّه للرجال، والدعوة خصت بهم، فصححت فهمها، وأرسلت ليس للجارية فحسب بل لكل امرأة أن النساء يدخلن في الخطاب العام، ويدعين إليه، ويطالبن به.
وأخرج مسلم
(2)
أيضًا من حديث طويل لفاطمة بنت قيس فيه ذكر الجساسة أنها قالت: «فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر، وهو يضحك، فقال: «ليلزم كل إنسان مصلاه» ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟
…
(1)
كتاب الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته (4/ 1792)2295.
(2)
كتاب الفتن، باب: قصة الجساسة (4/ 2207)2942.
الحديث وفيه خير تميم الداري في ذكر المسيح الدجال.
ومن الحديث يظهر أن النساء في عصر النبوة كن يعلمن أن الخطاب العام يشترك فيه النساء والرجال، فما إن سمعت فاطمة بنداء «الصلاة جامعة» حتى خرجت مع أخواتها من النساء، يشهد لذلك قولها «فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم» فلم تفهم فاطمة وحدها هذا الفهم؛ بل كان فهمًا عامًا في ذلك العصر وحتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن دين الله باق على رغم أنف الكارهين.
6 -
والمطلع على كتب السنة يجد أن النساء شاركن الرجال في حضور الجمع والجماعات كما تقدم؛ وما حضورهن لصلاة الجمعة إلا لطلب العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والارتواء من منهل صافٍ يفيض حياة للقلوب، ومواعظ تشفي الصدور، حتى إن روين ما حفظنه من على منبر الجمعة، أخرج مسلم
(1)
من حديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنير إذا خطب الناس.
(2)
وهذه المرأة القريبة من منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت حريصة على حضور الجمعة معه، وحفظت سورة (ق) من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يقرؤها على المنير يوم الجمعة
(3)
.
(1)
كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة (2/ 595)873.
(2)
شرح صحيح مسلم (6/ 161).
(3)
قال النووي: «وفيه استحباب قراءة ق أو بعضها في كل خطبة» .
قال العلماء: سبب اختيار (ق) لما اشتملت عليه من البعث والموت والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة، وفيه دليل للقراءة في الخطبة
(1)
.
وما زال النساء ولله الحمد وحتى يومنا هذا يشهدن الجمعة، وأسأل الله أن ينفعهن ما يقوله الخطباء كما حفظت أم هشام فروت وأفادت، يشهد لهذا امتلاء الحرمين بمن في أماكن النساء، أدام الله عمارهما، وحفظهما من كل فساد.
(1)
انظر ما تقدم من المصادر.
المبحث الثاني: بعض المسائل العلمية من النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم
-
(1)
في صدر الإسلام نشأت مدرسة العلم الأولى، وتألقت على يد مؤسسها سيد المرسلين، وقدوة العالمين، لقد بناها روضة زاهية بالعلم، زاكية بالحكمة، معينها الكتاب والسنة، قال تعالى:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}
(2)
غايتها العظمى إنقاذ الناس من غياهب الجهل، ودياجير الضلال إلى سبيل الهدى والنور، وصراط الله المستقيم قال تعال {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(3)
ولقد علم الحكيم سبحانه حاجة العباد إلى تلك الهداية والنور، والنهل من المعين النقي، والمنبع الصافي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فأودع في فطرهم مفتاح العلم والحكمة حيث جعل من طبيعة الإنسان حب السؤال عما يجهل، والبحث عما يفيد، واستطلاع الرأي، واستجلاء الحقيقة، ودعا الباري إلى التزود من ذوي العلم
(1)
ألف كتب حول هذا الموضوع منها: من أسئلة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم لـ د. فالح الصغير، ورسالة دكتوراه لأختي الفاضلة منة القاسم عنوانها "أسئلة الصحابيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الآداب" فراجعها ففيهما مزيد فائدة.
وقد تقدمت بعض الأحاديث التي فيها أسئلة الصحابيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الطهارة والصلاة في المباحث الأولى ص (123) فما بعدها، ولذا فلن أورد في هذا المطلب شيئًا منها.
(2)
البقرة: 129.
(3)
المائدة: 16.
والبصيرة حين تخفي الأحكام، وتجهل شرائع الإسلام، فقال سبحانه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(1)
.
واتبع صلى الله عليه وسلم في هذا التأسيس أسلوبًا جديدًا في التربية والتعليم يقوم على المفاتحة والمناقشة على ما يقتضيه الأدب النبوي في النقد والحوار والمراجعة واعتبر السؤال شفاء العيِّ، ومنفذ العلم والمعرفة، وأتاح للصحابة والصحابيات ومن وراءهم من الأمة أن يستفتوا فيما احتاجوا إليه، وجهلوا حكمه، س وال تفقه لا تعنت.
وحرصت نساء الصحابة -رضوان الله عليهن- على الطلب، ومثافنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ للأخذ عنه والاستفادة منه، وسأورد في هذا المطلب بعض أسئلتهن:
1 -
سيدلك هذا الحديث على فطنة أم المؤمنين عائشة، وفقيهة نساء العالمين أخرج البخاري
(2)
ومسلم
(3)
من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس حفاة عراة غرلًا»
(4)
قالت عائشة: الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» واللفظ للبخاري.
فانظر إلى تعليمه صلى الله عليه وسلم لأهل بيته، وإجابته عن سؤال زوجه، فلا غرو أن تكون فقيهة النساء، وإليها يرجع كبار الصحابة فيما استشكل عليهم من أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته.
(1)
النحل: 43.
(2)
كتاب الرقاق، باب: الحشر (5/ 2391)6162.
(3)
كتاب الجنة، باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (4/ 2194)2859.
(4)
غرلًا: بضم المعجمة وسكون الراء جمع أغرل، وهو الأقلف وزنه ومعناه، وهو من بقيت غرلته، وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذكر.
انظر: مشارق الأنوار (2/ 132)، النهاية (3/ 362) مادة (غ ر ل)، الفتح (11/ 384).
2 -
أخرج الإمام أحمد في المسند
(1)
، وأبو داود في السنن
(2)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(3)
، وأبو يعلى في المسند
(4)
، والبيهقي في الكبرى
(5)
من طرق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: يا رسول الله كل صواحبي لهن كنى قال: «فاكتني بابنك عبد الله» يعني ابن أختها.
قال مسدد: عبد الله بن الزبير. قال: فكانت تكن بأم عبد الله. واللفظ لأبي داود.
وصححه الحافظ ابن حجر
(6)
، والألباني
(7)
، وهو كما قالا.
وفي الحديث حرص أم المؤمنين على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغير الأمر قبل كبيره، وإن الواحدة منا معشر النساء لتقدم على أعظم من هذا دون أن تتحرى فيه، أو تسأل عنه، فلله درها من امرأة رضي الله عنها وجمعناها في الفردوس الأعلى، كما أن في الحديث أريحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليته لزوجته الحبيبة، ومداواة ما يؤرقها من تباريح الغيرة بتلبية مرادها، واختيار الكنية التي تلائمها، وتسعد بها، فانتقى لها أحب الأسماء عبد الله، وأقرب الأبناء إليها ابن أختها، ولاطفها بوصفها أمًا له، ولم تلد قط بقوله:«ابنك» .
فأي كلمة أحني وأصدق وأمضى لشرح صدر الغيري من هذه الكلمات؟
(1)
(6/ 107)26285.
(2)
(4/ 293)4970.
(3)
(5/ 389)3005.
(4)
(7/ 473)4500.
(5)
(9/ 310)19117.
(6)
التلخيص الحبير (4/ 148).
(7)
صحيح سنن أبي داود (4/ 293)4970.
وأي لطف يغمر المشاعر الجرحى، ويفيض دفئًا وعطفًا
…
أرقّ من هذا الطف؟
شرفتِ بأم المؤمنين على الورى
…
فهل لك شوق للولادة
…
والضنى؟
أبوك أبو بكر
…
وزوجك مرسل.
وكُنيتِ أمًا للمجاهد
…
سيّدا.
واستفاد العلماء من الحديث جواز كنية من لا ولد له
(1)
.
3 -
وما زلنا مع سيرة عطرة، ورحم معطاء مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أخرج البخاري
(2)
من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال:«إلى أقربهما منك بابًا» .
وفي بيت النبوة كانت أمنا تسمع أحاديث حسن الجوار، ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فتحتار لمن تهدي من جيرانها، فيأتيها الجواب النبوي لأقربهما منك بابًا.
4 -
وما زلنا في بيت النبوة ومع أمهات المؤمنين، أخرج الإمام أحمد في المسند
(3)
، والترمذي في السنن
(4)
، والنسائي في المجتبى
(5)
من طرق عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: «يرخينه شبرًا» فقالت: إذًا
(1)
ينظر: المنهاج (14/ 341)، بدائع الفوائد (4/ 932).
(2)
كتاب الهبة، باب: بمن يبدأ بالهبة؟ (2/ 916)2455.
(3)
(2/ 55)5173.
(4)
(4/ 223)1713.
(5)
(8/ 209)5336.
تنكشف أقدامهن. قال: «فيرخينه ذراعًا لا يزدن عليه» واللفظ للترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني
(1)
. قلت: وهو كما قالا حديث صحيح.
وفي الحديث تحلي نساء السلف الصالح رضوان الله عليهن بخلق الحياء وشيمة العفاف، فكانت المبادرة منهن بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراجعته في إسبال ذيل المرأة، رغبة منهن في إسباغ الثياب وإرخاء الحجاب وستر العورة، ونفورًا من دواعي الفتنة، ومظاهر الزينة التي في عنها في الخروج
(2)
.
وفيه أن قدم المرأة عورة؛ ولذا كان إسبال الثياب لسترها من الانكشاف، فالأصل هو الستر وليس الجر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «هذا الإسبال ليس مُعَيّنًا للستر، فلو لبست المرأة سراويل أو خفًا واسعًا صلبًا كالموق، وتدلى فوقه الجلباب بحيث لا يظهر حجم القدم لكان هذا محصلًا للمقصود»
(3)
.
وتَرَعيْ -جملك الله بالحياء- في الحديث روعة الحياء حين يبلغ مكانته اللائقة به من شعور المؤمنة، فيكون لسلطانه النقي نفوذ بليغ إلى سلوكها
…
فيهذبه، ويصلحه، ويزكيه سواء كانت في بيتها أو خارجه مع القريب أو البعيد، ألست تراها حقيقة ملموسة في شخصية أم سلمة رضي الله عنها بعدما فرض الحجاب، وهي تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إطالة ثياب النساء، ووفرة ذيولهن؟ فيرخي لهن شبرًا، وتلح أخرى رغبة في مزيد من الستر؛ لئلا تنكشف أقدامهن، فيوفيهن ذراعًا لا يزدن عليه.
(1)
صحيح جامع الترمذي (4/ 223)1731.
(2)
يراجع: مجموع الفتاوى (22/ 147)، الدرر السنية (15/ 250).
(3)
مجموع الفتاوى (22/ 148).
5 -
ولقد كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلبه قبله، مفتوحًا لكل سائل وسائلة، محتويًا بعظيم خلقه، وكريم سجاياه قلوب محبيه، مبلغًا رسالة ربه، وستلحظ فيما سأورده من بحر زاخر بلآلئ جمة، وأرض خصبة منبتة، إجاباته صلى الله عليه وسلم على النساء، أخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا رأت الماء» فغطت أم سلمة وجهها، وقالت: يا رسول الله وتحتلم المرأة؟ قال: «نعم، تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها؟!» واللفظ للبخاري.
ومع أن الحياء خير كله، ولا يأتي إلا بخير إلا أنه في طلب العلم مذموم، وقد فهمت أم سليم هذه القاعدة فأتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائلة عن أمر لا يستحيي من السؤال منه؛ لأن الله لا يستحيي من الحق، وعليه بوّب البخاري: باب: الحياء في العلم، وقال مجاهد: لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر. وقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
قال الحافظ: «(باب الحياء) أي: حكم الحياء، وقد تقدم أن الحياء من الإيمان وهو الشرعي الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر وهو محمود، وأما ما يقع سبًا لترك أمر شرعي فهو مذموم، وليس هو بحياء شرعي وإنما هو ضعف ومهانة، وهو المراد بقول مجاهد: لا يتعلم العلم مستحٍ
…
وكأنه أراد تحريض المتعلمين على ترك العجز والتكبر لما يؤثر كل منهما من النقص في التعليم»
(3)
.
(1)
كتاب العلم، باب: الحياء في العلم (1/ 60)130.
(2)
كتاب الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها (1/ 250)313.
(3)
الفتح (1/ 229).
وانظر إلى تقديمها بين يدي سؤالها، يظهر أن من حسن طرح السؤال التقديم له بوصف الحال المرتبطة بالفتوى؛ ليتمكن المفتي من فهم المراد فهمًا تامًا، ومن ثم بيان المقصود بيانًا شافيًّا حيث إنها قدمت بهذا الكلام لبسط عذرها في ذكر ما تستحي النساء من ذكره بحضرة الرجال، ومنه أخذ العلماء حكمًا فقهيًّا قال ابن قدامة في المغني:«فخروج المني الدافق بشهوة يوجب الغسل من الرجل والمرأة في يقظة أو في نوم وهو قول عامة الفقهاء، قاله الترمذي»
(1)
وذكروا أيضًا أنه لا غسل على المرأة إلا أن ترى الماء، فإن ذكرت احتلامًا ولم تر ماءً لا غسل عليها
(2)
.
6 -
وتأتي الأدلة تباعًا لتؤكد أمن مع وفور حيائهن لم يكن يستحين من الحق؛ لأن الحياء في طلب العلم ليس شرعيًّا، أخرج البخاري
(3)
ومسلم
(4)
من حديث عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض، فقال «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فِرْصة
(5)
ممسكة فتطهر بها. فقالت أسماء: وكيف تطهر بها؟ فقال: «سبحان الله، تطهرين بها» فقالت عائشة: كأنها تخفي ذلك تتبعين أثر الدم، وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: «تأخذ ماء فتطهر، فتحسن الطهور -أو تبلغ الطهور- ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون
(1)
(1/ 128).
(2)
ينظر: الاستذكار (1/ 292)، المغني (1/ 130)، المجموع (2/ 157)، البحر الرائق (1/ 65).
(3)
كتاب الحيض، باب: دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض وكيف تغتسل
…
(1/ 119)308.
(4)
كتاب الحيض، باب: استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم (1/ 261)332.
(5)
فرصة: بكسر الفاء وحكى ابن سيدة تثليثها، وبإسكان الراء -قطعة من القطن أو الصوف-.
ينظر: مشارق الأنوار (2/ 151)، النهاية (3/ 431) مادة (ف ر ص)، الفتح (1/ 415).
رأسها، ثم تفيض عليها الماء» فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. واللفظ لمسلم. وفي رواية البخاري: قالت عائشة: فاجتبذتها إليّ، فقلت: تتبعي بها أثر الدم.
قال الحافظ: «وفي هذا الحديث من الفوائد: التسبيح عند التعجب، ومعناه هنا: كيف يخفي هذا الظاهر الذي لا يحتاج في فهمه إلى فكر، وفيه استحباب الكنايات فيما يتعلق بالعورات، وفيه سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي يحتشم منها، ولهذا كانت عائشة تقول في نساء الأنصار: لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين كما أخرجه مسلم
(1)
في بعض طرق هذا الحديث وتقدم في العلم معلقًا، وفيه الاكتفاء بالتعريض، والإشارة في الأمور المستهجنة، وتكرير الجواب لإفهام السائل، وإنما كرره مع كونها لم تفهمه أولًا، لأن الجواب به يؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله «توضئي» أي في المحل الذي يستحي من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال، وفهمت عائشة ذلك عنه، فتولت تعليمها، وبوّب عليه المصنف في الاعتصام «الأحكام التي تعرف بالدلائل» وفيه تفسير كلام العالم بحضرته لمن خفي عليه إذا عرف أن ذلك يعجبه، وفيه الأخذ عن المفضول بحضرة الفاضل، وفيه صحة العرض على المحدث إذا أقره، ولو لم يقل عقبه: نعم، وأنه لا يشترط في صحة التحمل فهم السامع لجميع ما يسمعه، وفيه الرفق بالمتعلم، وإقامة العذر لمن لا يفهم، وفيه أن المرء مطالب بستر عيوبه وإن كانت مما جبل عليها من جهة أمر المرأة بالتطيب لإزالة الرائحة الكريهة، وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وعظيم حلمه، وحيائه زاده الله شرفًا»
(2)
.
(1)
تقدم ص (272) فما بعدها.
(2)
الفتح (1/ 416).
أرأيت دررًا منظومة في عقد يتحلى به، كسؤال هذه المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما استقاه أهل العلم من فوائده وأحكامه.
7 -
قد يخفى على المرأة الحكم الشرعي في أمر من عبادتها، ومسألة في دينها، ويعزّ عليها الاجتهاد والتماس النصوص الشرعية!
فالمتعين هنا التورع عن العمل بلا علم، وأداء العبادة بلا هدى، ويلزمها سؤال الراسخين في العلم المعرفة الحق المبيّن، أخرج مسلم
(1)
من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها، أفأصله؟ قال:«لعن الله الواصلة والمستوصلة» .
وانظر -وفقك الله- للهجة هذه الأم الحنون التي تفيء بظلال العاطفة والمحبة الوارفة، وهي تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصل ابنتها الناقهة من المرض، حديثة العهد بالعرس، إن المشاعر الجيّاشة التي تضطرب في فؤاد تلك الوالدة، والرغبة الجامحة لتزيين بُنيتها، وتحقيق فرحتها، لم تسوِّغ لها ارتكاب المنكر
…
فلم تطب نفسًا بالوصل بحجة الجهل بالحكم، أو احتياج العروس إليه، بل أتت تستفي رسول الله صلى الله عليه وسلم راضية بحكمه، مسلمة لأمره.
وما أحوجنا في هذا العصر الذي شاع فيه حب الملذات، وإرضاء الشهوات بالمحرمات، أن نطوع أنفسنا، ونوطنها لما يرضي ربنا عز وجل، ونجعل هوانا تبعًا لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم حتى نحب ما يحبه، وندع ما يبغضه، مقتدين في ذلك بسلفنا الصالح.
واختلف العلماء في «الوِصْلات» المحرمة والمباحة على أقوال، ومذهب الجمهور واختيار الطبري، والنووي، والمرّوزي، والمازري، وغيرهم منع وصل
(1)
كتاب اللباس، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة (3/ 1676)2122.
الشعر بشيء آخر مطلقًا سواء كان شعرًا أو وبرًا أو صوفًا أو حريرًا أو خرقة ونحوها
(1)
.
8 -
وحين يختلف الناس في حكم شرعي قد تبادر المرأة لفض النزاع، وقطع الاختلاف ببديهة حاضرة، وفطنة ظاهرة، أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من طريق عمير مولى عبد الله بن العباس، عن أم الفضل بنت الحارث: أن ناسًا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم. وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره فشربه. واللفظ للبخاري.
(4)
.
ولولا خشيت الإطالة لأوردت الكثير من أسئلة الصحابيات للنبي صلى الله عليه وسلم، لكني أحلتك في أوائل البحث على مليء، ومن أحيل على مليء فليحتل، ومن خلال صحبتي الماتعة في هذه الدراسة الحديثية لمست بوضوح ما كان عليه أمهات المؤمنين ونساء الصحابة من حسن الأدب مع توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنفاذها بطواعية،
(1)
انظر أدلتهم، ومزيد تفصيل للمسألة في: الأم (1/ 54)، شرح ابن بطال (9/ 171)، التمهيد (7/ 219)، الأوسط (2/ 277)، إكمال المعلم (6/ 651)، فتح الباري (10/ 458)، شرح الزرقاني (4/ 427)، النيل (6/ 343).
(2)
كتاب الصيام، باب: صوم يوم عرفة (2/ 701)1887.
(3)
كتاب الصيام، باب: استحباب الفطر للحاج يوم عرفة (2/ 791)1123.
(4)
الفتح (4/ 238).
ورضا تام، طمعًا في موافقة هديه، واغتنام مرضاته، وتعظيمًا لحرمات الله وحماية حدوده، وليس هذا في باب الواجبات والمحرمات فحسب، بل واظبن على متابعة سنته والانقياد لشرعته حتى في المستحبات والفضائل!!.
ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعظ النساء يوم العيد ويرغبهن في الصدقة
(1)
، فيشمرن عن ساعد الجد، وينافسن في البذل والسخاء مسارعات إلى حليهن بلا تثبط أو تلكؤ، يلقين بقلائدهن وخواتهن في ثوب بلال. ولا غرو إذ أن من صفة المؤمن سرعة الإجابة لأمر الله ورسوله، وامتثال النصيحة، والاعتبار بالموعظة، والمبادرة بالتوبة، ولزوم الحكم الشرعي، وهذه المتابعة تورث الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية في جنان الرحمن، يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}
(2)
.
(1)
مضى ص (186).
(2)
الأنفال: 24.
المبحث الثالث: عناية السلف الصالح بتعليم النساء
لقد حرص السلف الصالح على تعليم النساء، وضربوا بذلك سهمًا وافرًا، عرفه البعيد قبل القريب وكتب السير والتراجم أكبر شاهد على ذلك، يقول ابن الحاج:«وينبغي (أي: لولي الأمر) أن يتفقد أهله بمسائل العلم فيما يحتاجون إليه؛ لأنه جاءت فضائل في تعليم غيرهم طلبًا لثواب إرشادهم، فخاصته، ومن تحت نظره آكد؛ لأنهم رعيته، ومن الخاصة به كما في الحديث: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»
(1)
فيعطيهم نصيبهم فيبادر لتعليمهم؛ لآكد الأشياء في الدين أولًا، وأنفعها وأعظمها؛ فيعلمهم الإيمان والإسلام، ويجدد عليهم علم ذلك وإن كانوا قد علموه، ويعلمهم الإحسان، ويعلمهم الوضوء، والاغتسال، وصفتهما، والتيمم، والصلاة، وما في ذلك كله من الفرائض والسنن والفضائل، وكل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم الأهم فالأهم»
(2)
.
ثم قال بعد أن فصّل ما يجب على أولياء الأمور من تعليم ما يعولون من النساء من أحكام شرعية تتعلق بالطهارة والصلاة والصيام وغير ذلك؛ قال: «فيحتاج العالم أن يتبتل لتعليم هذه الأحكام للكبير والصغير والذكر والأنثى قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ
(1)
أخرجه البخاري (3/ 111) 7138، ومسلم (3/ 1459)1829.
(2)
المدخل (1/ 209).
وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
(1)
وقال عليه السلام: «النساء شقائق الرجال»
(2)
فسوى بين الزوج والزوجة، والولد والعبد، والأمة في هذه الصفات الجميلة، وما زال السلف -رضوان الله عليهم- على هذا المنهاج بحد أولادهم وعبيدهم وإماءهم في غالب أمرهم مشتركين في هذه الفضائل كلها».
ألا ترى إلى بنت سعيد بن المسيب رضي الله عنهما لما أن دخل بها زوجها و كان من أحد طلبة والدها، فلما أن أصبح، أخذ رداءه يريد أن يخرج، فقالت له زوجته: إلى أين تريد؟ فقال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت له: اجلس أعلمك علم سعيد
(3)
.
وكذلك ما روي عن الإمام مالك رحمه الله حين كان يُقْرأ عليه «الموطأ» فإن لحن القارئ في حرف أو زاد أو نقص تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: ارجع فالغلط معك، فيرجع القارئ فيجد الغلط
(4)
.
وكذلك ما حكي عن أشهب أنه كان في المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وأنه اشترى خضرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز، فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز، فَأْتينا نعطك الثمن؛ فقالت: ذلك لا يجوز، فقال لها: ولم؟ فقالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد. فسأل عن الجارية، فقيل له: إنها
(1)
الأحزاب: 35.
(2)
مضى تخريجه ص (72).
(3)
أورد نحو هذه القصة الذهبي في السير (4/ 233 - 234) وقال: «تفرد بالحكاية أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وعلى ضعفه قد احتج به مسلم» .
(4)
انظر القصة بزيادة تفصيل في ترتيب المدارك (1/ 109).
جارية بنت مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
وعلى هذا الأسلوب كان حالهم، وإنما عينت من عينت تنبيهًا على من عداهم»
(1)
.
والمطالع لكتب التراجم يقف على كثير من المواقف المشرقة التي تدلل استجابة القوم لداعي الله ورسوله وإليك بعضها:
أورد العلماء في ترجمة أبي بكر الكاشاني قصة تنبئ عن نبوغ بعض النساء في العلم، فقالوا: تفقه عليه الإمام أبو بكر السمرقندي وقرأ عليه معظم تصانيفه مثل «التحفة في الفقه» وغيرها من كتب الأصول، وزَوّجه شيخُه المذكور ابنته فاطمة الفقيهة العاملة، قيل: إن سبب تزويجه بابنته أنها كانت حسناء النساء، وكانت حفظت «التحفة» تصنيف والدها، طلبها جماعة من ملوك بلاد الروم، فامتنع والدها، فجاء الكاشاني، ولزم والدها واشتغل عليه، وبرع في علمي الأصول والفروع، وصنف «كتاب البدائع» وهو شرح «التحفة» وعرضه على شيخه؛ فازداد فرحًا به، وزوجه ابنته، وجعل مهرها منه ذلك؛ فقال الفقهاء في عصره «شرح تحفته، وزوجه ابنته»
(2)
. وقال اللكنوي في ترجمة السمرقندي أن زوجها كان يخطئ فترده إلى الصواب، وكانت الفتوى تأتي فتخرج وعليها خطها وخط أبيها، فلما تزوجت بصاحب «البدائع» كانت تخرج وعليها خطها، وخط أبيها، وخط زوجها
(3)
.
(1)
المدخل (2/ 215).
(2)
ينظر: طبقات الفقهاء (102)، الفوائد البهية (158).
(3)
الفوائد البهية (158).
عائلة هي خاتمة أمراء المؤمنين في الحديث:
الحافظ ابن حجر علم على رأسه نار في علم الحديث النبوي، يعرفه صغير طلاب الحديث قبل كبيرهم، وكتابه «فتح الباري» الذي أثنى عليه علماء عصره، ومن أثنى بعده، ولعل أبرز ثناء فيه وأوجزه قول الشوكاني:«لا هجرة بعد الفتح»
(1)
.
هذا العَلَم كانت له عناية فائقة بتدريس زوجاته وبناته الحديث النبوي، وبرز في عائلته غير واحدة ممن أتقنت هذا العلم، واشتهرت بالرواية، وإليك بيان ذلك:
- أخته ست الركب بنت علي بن محمد بن محمد بن حجر العسقلانية (ت 798 هـ)
(2)
كانت قارئة كاتبة، أعجوبة في الذكاء، أثنى عليها، قال:«كانت أمي بعد أمي» وذكر شيوخها وإجازاتها من مكة ودمشق وبعلبك ومصر. وقد ذكر السخاوي تحصيلها وإجازاتها، وأفاد أن لها ابنة اسمها موز (ت 850 هـ) أخذت عن خالها ابن حجر، وأخذ عنها السخاوي، ولكنها لم تعمّر، وماتت في حياة خالها، وصلى عليها رحمهم الله تعالى.
- زوجته أُنْس ابنة القاضي كريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز ناظر الجيش
(3)
.
كان الحافظ ابن حجر حريصًا أشد الحرص على نشر العلم بين أهل بيته وأقاربه كحرصه على نشر العلم بين الناس، ومن بين الذين حرص عليهم زوجته
(1)
ينظر: الحطة في ذكر الصحاح السنة (71).
(2)
انظر ترجمتها في: إنباء الغمر (1/ 517)، المجمع المؤسس (391)، شذرات الذهب (6/ 354).
(3)
انظر ترجمتها: إنباء الغمر (1/ 294، 513).
أُنْس، وقد أسمعها من شيخه حافظ عصره عبد الرحيم العراقي الحديث المسلسل بالأولية، وكذا أسمعها إياه من لفظ العلامة ابن الكويك، وأجاز لها باستدعاء عدد من الحفَّاظ؛ منهم: أبو الخير ابن الحافظ العلائي، وأبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ الذهبي، ولم تكن الاستدعاءات لها لتقتصر على المصريين فقط، بل من الشاميين والمكيين واليمنيين.
وقد لمع نجم أُنْس هذه في علم الرواية في حياة زوجها، وكان في بعض الأحايين يداعبها بقوله:«قد صرت شيخة» وكان زوجها يكن لها الاحترام الكبير، كما كانت عظيمة الرعاية له.
وقد حدثت بحضور زوجها، وقرأ عليها الفضلاء، وكانت تحتفل بذلك، وتكرم الحاضرين، وقد خرج لها السخاوي أربعين حديثًا عن أربعين شيخًا، وقرأها عليها بحضور زوجها، وكانت كثيرة الإمداد للعلامة إبراهيم بن خضر بن أحمد العثماني (852 هـ) العلامة المتفنن الذي كان يقرأ لها «صحيح البخاري» في رجب وشعبان من كل سنة، وتحتفل يوم الختم بأنواع من الحلوى والفاكهة، ويهرع الصِّغار والكبار إلى حضور ذلك اليوم قبيل رمضان بين يدي زوجها الحافظ، ولما مات الحافظ ابن خضر، قرأ لها سبطها يوسف بن شاهين، ولم تضبط لها هفوة ولا زلة.
- ابنته زين خاتون (ت 833 هـ)
(1)
:
اعتني بها أبوها، واستجاز لها في سنة ولادتها (802 هـ) وما بعدها، وأسمعها على شيوخه كالعراقي والهيثمي، تعلمت القراءة والكتابة، وولدت يوسف بن شاهين المعروف بـ (سبط بن حجر) الذي كانت له عناية بكتب جده،
(1)
انظر: ترجمتها في: الضوء اللامع (12/ 51)، إنباء الغمر (8/ 212).
وكتب من أماليه، وصنف ونسخ كتب ابن حجر، ولم تظهر لابنته زين خاتون رواية ولم تشتهر بذلك لوفاتها شابة سنة (833 هـ) عن نحو ثلاثين سنة بالطاعون، وهي حامل رحمها الله تعالى.
- ابنته فرحة (ت 828 هـ):
استجاز لها أبوها مع أمها، واعتنى بها، وأسمعها من مشايخه.
- ابنتاه فاطمة وعالية كلاهما (ت 819 هـ) بالطاعون، استجاز لهما أبوهما ابن حجر من جماعة.
- ابنته رابعة (ت 832 هـ):
اسمعها والدها على المراغي بمكة سنة 815 هـ، وأجاز لها جمع من الشاميين والمصريين.
ولم تشتهر بنات الحافظ ابن حجر بالرواية كما اشتهر بها والدهن وأمهن، وذلك بسبب وفاة معظمهن في سن مبكرة في الطاعون
(1)
.
هل رأيت بيتًا نبغ نساؤه في الحديث النبوي، وشارك بعضهن في التدريس والرواية، دون جهد بذله صاحبه، لقد حرص الحافظ على نسوة بيته مع كثرة أشغاله، وتعدد مجالسه، ونفاسة مؤلفاته، فلله دره، رحمه الله تعالى.
عناية قاض ببناته وحفيداته:
ذكر القاضي عياض
(2)
في ترجمة عيسى بن مسكين أنه كان يدعو ابنتيه وبنات
(1)
راجع «ابن حجر ودراسة مصنفاته» (1/ 96 - 103).
(2)
ينظر: ترتيب المدارك (2/ 108).
وانظر للاستزادة ما كتبه الشيخ أبو عبيدة مشهور آل سلمان في عناية النساء بالحديث النبوي (113 - 136) فقد أفاد وأجاد.
أخيه ليعلمهن القرآن والعلم.
قال القاضي: وكذلك كان يفعل فاتح صقلية أسد بن الفرات بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة. وروى الخشني أن مؤدبًا كان بقصر الأمير محمد بن الأغلب، وكان يعلم الأطفال بالنهار، والبنات بالليل.
وقد كانوا لا يجهزون العروس إلا ومعها بعض الكتب الشرعية النافعة،
وذكر الإمام الذهبي أن البكر كان في جهازها عند زفافها نسخة من كتاب «مختصر المزني»
(1)
.
وبعد ومضة سريعة من هدي سلفنا الصالح، تقف متعجبًا من تغير أهل الزمان، والبعد عن مشكاة النبوة وهدي السلف الصالح، فترى طالب العلم قد حوى صدره أسفارًا من الكتب النافعة، بل وضرب بسهمه في التدريس والتأليف، وبيته قفر، وأهل بيته يجهلون كثيرًا من مهمات الدين، وأصول الشريعة، فأين مقتفي الأثر؟ أم أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟ نسأل الله السلامة والعافية.
(1)
ينظر: سير أعلام النبلاء (14 - 233).
المبحث الرابع: صور مشرقة للمرأة في طلب العلم
لقد ضارعت المرأة المسلمة أفذاذ الرجال للنهل من مشكاة النبوة، وزاحمت الرجال في التدريس والرواية، يدل على ذلك سجل حافل فخم من أعلام النساء، يعجز عن استقصائه العصبة أولو القوة، ولو ذهب باحث يسلسل حلقاته التي احتلت أولاها أمهات المؤمنين، ومن تتابع منهن من لدن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ما كفاه عمره وإن طال، وقد مضى الإلماح إلى بعضهن في المبحث السابق، وقبل أن أبدأ بسرد بعض عالمات الأمة، أومئ إلى مفخرة انفردت بها الراويات عن الرواة، إذ وقع الكذب كثيرًا في حديث رجال كثيرين ممن انتسبوا لرواية أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النساء فعلى الرغم م ن كثر من في الرواية فلم يقع منهن تعمد الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه شهادة إمام الجرح والتعديل في عصره الحافظ الناقد الإمام الجهبذ شمس الدين الذهبي حيث يقول في أول قسم النساء في كتابه «ميزان الاعتدال في نقد الرجال»
(1)
: «وما علمت في النساء من أهمت ولا من تركوها» .
ولم أعثر على من صنفت من النساء الراويات بالتدليس أو الاختلاط أو التلقين، وهذه مفخرة بحق لنا معاشر النساء.
وأولى عالمات الأمة، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
(1)
(4/ 604).
وهي أجدر النساء بالتنويه والعناية، وقد عدّت من المكثرين من الرواية، وعدّها بعضهم من السبعة المكثرين من رواية الحديث، وأنشدوا فيهم:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
…
من الحديث عن المختار خير مضر
أبو هريرة سعد جابر أنس
…
صديقة وابن عباس كذا ابن عمر
(1)
وقد بلغ عدد ما روت ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، وأخرج لها الشيخان سبعةً وتسعين ومائتين حديثٍ غالبها في الأحكام
(2)
.
قال الحاكم أبو عبد الله: فحُمِل عنها ربع الشريعة.
وقال أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه رضي الله عنه: ما أشكل علينا أصحاب محمد أمر قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا
(3)
.
وقال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألوها عن الفرائض، وقد برعت في العلم على اختلاف أنواعه وضروبه، وسألها ابن أختها عروة ذات يوم فقال لها: يا أمتاه، لا أعجب من فقهك، أقول: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب، كيف هو، ومن أين هو؟ قال: فضربت عائشة على منكبه، وقالت: يا عُرَيَّة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره، فكانت تقدم وفود العرب من كل وجه؛ فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجها؛ فمن ثم؟
(4)
.
(1)
انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر (363)، فتح المغيث (3/ 116).
(2)
ينظر: ما لا يسع المحدث جهله للميانشي (28).
(3)
ينظر: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة (59).
(4)
ذكر ما تقدم الزركشي في الإجابة (59 - 61).
ولا يتسع المقام لسرد فضلها رضي الله عنها.
ولكن لعلي فيما ذكرت أومئ إلى المرحلة السامية التي بلغتها المرأة المسلمة حتى أصبحت مرجعا علميا المشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر، يرجعون إليها فيما استشكل من أمور الدين. عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة
(1)
:
تربية عائشة وتلميذها، كانت عالمة فقيهة حجة كثيرة العلم، حدَّثت عن عائشة وأم سلمة.
قال القاسم بن محمد لابن شهاب: يا غلام أراك تحرص على طلب العلم؛ أفلا أدلك على وعائه؟ قلت: بلى. قال: عليك بعمرة؛ فإنها كانت في حجر عائشة، قال: فأتيتها فوجدتها بحرًا لا يُنْزَف. وقال عمر بن عبد العزيز: ما بقي أحد أعلم بحديث عائشة من عمرة. واختلفوا في سنة وفاتهما، قيل: توفيت سنة ثمان وتسعين، وقيل: توفيت سنة ست ومئة.
حفصة بنت سيرين، أم الهذيل الفقيهة الأنصارية
(2)
:
سيدة من سيدات التابعيات، قال ابن أبي داود: وأما سيدات التابعيات: فحفصة بنت سيرين، وعمرة بنت عبد الرحمن، وأم الدرداء الصغرى.
قرأتْ القرآن وهي بنت ثنتي عشرة سنة، قال إياس بن معاوية: ما أدركت أحدًا أفضله عليها، فذكروا له الحسن وابن سيرين، فقال: أما أنا؛ فما أفضل عليها
(1)
ينظر ترجمتها: في طبقات ابن سعد (8/ 480)، تهذيب الكمال (35/ 241) 7895، السير (4/ 507)، الشذرات (1/ 114).
(2)
ينظر ترجمتها في طبقات ابن سعد (8/ 484)، تهذيب الكمال (35/ 151) 7815، السير (4/ 507)198.
أحدًا. توفيت بعد المائة.
أم الدرداء الصغرى هُجَيْمة -ويقال: جُهَيْمة-:
الأوصابية الحميرية الدمشقية
(1)
، فقيهة كبيرة، وعالمة عاملة، واسعة الاطلاع، كثيرة الرواية، نعتها الذهبي فقال:«السيدة العالمة الفقيهة» روت علمًا جمًّا عن زوجها أبي الدرداء وعائشة وطائفة. وحدث عنها جماعة من مشاهير الرواة، مثل: جبير بن نفير، وأبي قِلابة الجَرْمي، عرضت القرآن وهي صغيرة على زوجها أبي الدرداء، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد. توفيت بعد سنة إحدى وثمانين رحمها الله.
وغيرهن كثير، وقد اعتني بذكرهن، وقارب على استيعابهن، والإشارة إلى شيوخهن، ومن روى عنهن ابن حبان في كتابه «الثقات» فراجعه لترى ما قدمته المرأة المسلمة من خدمة للإسلام وأهله
(2)
.
وفي غضون المائة الثانية والثالثة اشتهرت غير واحدة من النساء بالعلم
(3)
، ومن أشهرهن
عابدة المدنية
(4)
:
من المكثرات لرواية الحديث، روت عن مالك بن أنس وغيره من علماء
(1)
ينظر ترجمتها في: المعرفة والتاريخ (2/ 327)، ثقات ابن حبان (5/ 517)، تهذيب الكمال (35 - 352) 7974، السير (4/ 277)100.
(2)
(4/ 63 - 594).
(3)
انظر لمزيد استيعاب لأسماء النسوة اللاتي روين الحديث: تاريخ بغداد (14/ 433) وما بعده، الثقات (6/ 90 - 250، 295، 480).
(4)
ينظر: أعلام النساء (3/ 199).
المدينة، فأكثرت. حتى قال بعض الحفاظ:«إنها تروي عشرة آلاف حديث» وقال ابن الأبار: «إنما تسند حديثًا كثيرًا» .
عُلَيَّة بنت حسان
(1)
:
وإليها ينسب المحدث المشهور إسماعيل بن علية، ومن مفاخر النساء وفضلهن أن كثيرا من مشاهير المحدثين والشعراء وغيرهم ينسب إليهن، وقد جمع أسماء من نسب إلى أمه الفيروزبادي في «تحفة الأبيه فيمن نسب إلى غير أبيه» كانت علية امرأة نبيلة عاقلة، لها دار بالكوفة تعرف بها، وكان صالح المريّ وغيره من وجوه أهل البصرة وفقهائها يدخلون عليها، فتبرز لهم تحدثهم وتسائلهم.
• وفي غضون المائة الرابعة، وبعد أن ألفت الكتب المهمة في هذه الفترة ترى كثيرًا من المحدثات قد تضلعن بهذه الكتب، وحذقن فيها، وكانت لهن يد في تدريسها أيضًا، ومن أشهر من امتزن بذلك:
فاطمة بنت عبد الرحمن (ت 312 هـ):
وفاطمة بنت أبي داود وكانت تملي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الإملاء من حفظها
(2)
، وأمة الواحد بنت المحاملي الحسين بن إسماعيل (ت 377 هـ) وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة، وكانت من أحفظ الناس للفقه، وروى عنها الحسن بن محمد الخلال
(3)
.
• وفي غضون المائة الخامسة برزت شيخة الحديث في عصرها، وراوية
(1)
ينظر ترجمتها في: طبقات ابن سعد (7/ 352).
(2)
تنظر ترجمتها في: تاريخ بغداد (14/ 442).
(3)
ينظر ترجمتها في: تاريخ بغداد (14 - 442)، العبر (3/ 4)، السير (15/ 264).
البخاري كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المَرْوَزِيَّة
(1)
:
فقد كانت ركنًا ركينًا للحديث، وحضر درسها العلماء الكبار الفطاحل كالخطيب البغدادي، والمحدث الشهير أبي عبد الله محمد بن نصر المعروف بالحميدي، والمؤرخ الشهير أبي المحاسن المصري، والنسّابة المحدث السمعاني، كل من ذُكِر كانوا من جناة ثمارها العلمية، حتى إن محدث هراة أبا ذر رحمه الله قد وصّى الطلبة ألّا يأخذوا الجامع الصحيح إلا عنها. قال أبو بكر بن منصور السمعاني: سمعت الوالد يذكر كريمة ويقول: وهل رأى إنسان مثل كريمة؟ ماتت بكرًا لم تتزوج سنة ثلاث وستين وأربعمائة للهجرة.
• وممن اشتهر علمها وتدريسها زينب بنت مكي الحرانية (688 هـ) كان يحضر در سها عدد كثير من الطلبة، وقد ألقت الخطب على المسند للإمام أحمد بن حنبل
(2)
.
وزينب بنت أحمد الكمال
(3)
(ت 740 هـ):
قد أجاز لها خلق من البغادِدَة وغيرهم، وتفردت وطال عمرها، واشتهر ذكرها، نعتها الذهبي بقوله:«شيخة صالحة متواضعة خيِّرة، متودِّدة، كثيرة المروءة، لم تتزوج» وقال: «توفيت
…
عن أربع وتسعين ونزلوا بموتها درجة».
ودرّست زينب هذه مسند أبي حنيفة، والشمائل للترمذي، وشرح معاني الآثار
(1)
تنظر ترجمتها في: الكامل (10/ 69)، السير (18/ 233)، البداية والنهاية (12/ 105)، شذرات الذهب (3/ 314).
(2)
ينظر: شذرات الذهب (5/ 404).
(3)
ينظر ترجمتها في: الوفيات (1/ 3160)، معجم الشيوخ (267)، الدرر الكامنة (2/ 209)، شذرات الذهب (6/ 126).
للطحاوي، وقد أخذت معاني الآثار عن محدِّثة تعرف بعجيبة بنت أبي بكر.
وعجيبة
(1)
هذه الشيخة المسندة أخذت عن جماعة كثر، وخرجوا لها مشيخة في عشرة أجزاء، وتفردت في الدنيا، ومن مسموعها: مختلف الحديث للشافعي، وتاريخ البخاري الكبير كلاهما عن عبد الحق اليوسفي، وقرأ عليها بعض كتب الحديث الرحّال الشهير ابن بطوطة حين كان بدمشق
(2)
.
وأخذ محدث دمشق ووحيدها في فن السيرة ابن عساكر، الذي روى الحديث عن مئتي وألف محدث، وعن ثمانين محدثة، عن المحدثة زينب بنت عبد الرحمن «الموطأ» للإمام مالك
(3)
، وقرأ السيوطي كتاب «الرسالة» للإمام الشافعي على هاجر بنت محمد المحدّثة
(4)
.
وإن رُمْتَ المزيد لتشنيف سمعك بما ستقرأ، وتكحيل عينك بما سترى فما عليك إلا مراجعة ما كتبه الشيخ الفاضل أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان في كتابه صغير الحجم كبير القدر «عناية النساء بالحديث النبوي» فجزاه الله عن محدثات النساء خيرًا، وجعله له ذخرًا.
ولا أدل على أن الأمة لن تعدم من نسائها خيرًا ما قاله الأستاذ عبد الله العفيفي: «وأكثر ما عرف به الممتازات من نساء المغرب الأقصى حفظ القرآن الكريم بقراءاته جميعًا، ورواية الحديث، ودرس الفقه والأصول، وما إلى هذه من علوم الدين، ويذكر أهل ذلك الإقليم ثمانين امرأة من نساء المغرب جمعن إلى النفاذ
(1)
ينظر ترجمتها في: السير (23/ 232)، العبر (5/ 194)، العسجد المسبوك (573).
(2)
ينظر: «رحلة ابن بطوطة» (1/ 253).
(3)
ينظر: معجم الأدباء (1/ 40 - 41).
(4)
ينظر: الأمم لإيقاظ الهمم (17 - 8).
في ذلك كله حفظ «مدونة الإمام مالك بن أنس» وهي أكبر المطوّلات الجامعة في الحديث والفقه»
(1)
.
وأنهن لازلن يشاركن الرجل في الطلب، ويزاحمنه في التعليم اكتظاظ أقسام الدراسات العليا في جميع التخصصات على السواء بالمؤمنات، وما تحويه المكتبات من تحقيقات ومؤلفات أسهمن بها، وفوز اثنتين منهن في مسابقة الأمير نايف العالمية العام الماضي؛ هو أكبر دليل على عطاءات المرأة العلمية. فزاد الله أخواتي المؤمنات علمًا وعملًا.
فأي سفر من أسفار الحديث عري من ذكرهن؟ وأي مكتبة لم تتزين رفوفها بسيرتهن؟
وأين هذا كله، مما حدث في الغرب الذين زعموا تحرير المرأة، وتاريخهم زاخر بأنواع ظلمها، وقد حدث أن صدر قرار في عهد هنري الثامن (ملك إنجلترا) يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب العهد الجديد
(2)
. فأين هذا من وضع الصحابة المصحف الأول الذي كتب في خلافة أبي بكر عند امرأة، وهي حفصة أم المؤمنين؟
ولم تبرع النساء في العلوم الشرعية فحسب بل كانت لهن شهرة عظيمة في الطب بَارَيْنَ فيها أكابر الأطباء، وقد أورد القفطي بعضهن في «تاريخ الحكماء» ، ولسان الدين بن الخطيب في «الإحاطة في تاريخ غرناطة» كما ترجم ابن أبي أصيبعة لبعضهن في مؤلفه «طبقات الأطباء» وسأذكر من النساء اللواتي برعن في علم الطب:
(1)
المرأة العربي (3/ 150).
(2)
عناية النساء بالحديث النبوي (65).
زينب طبيبة بني داود:
وهي أشهر طبيبة ذكرها تاريخ العرب، وكانت تحسن الطب الداخلي إلى جانب الجراحة.
أم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطنحالي:
كانت امرأة واسعة الاطلاع، كثيرة المعارف، أجادت عدة علوم مع الطب، ولكنها كانت في الطب أبرز وأشهر.
أخت الحفيد ابن زهر وابنتها:
كانتا عالمتين بصناعة الطب والمداواة، ولهما خبرة جيدة في مداواة النساء، وكان «المنصور» لا يقبل بغيرهن لمداواة نسائه
(1)
.
ولا نزال نذكر موقف فاطمة يوم أحد لما أحرقت الحصير لتعالج به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستفيد من خبرتها رضي الله عنها الأطباء، ويبوب على جمسل صنعها المحدثون، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الطب، باب: حرق الحصير ليسد به الدم
(2)
من حديث سهل بن سعد قال: لما كسرت على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضة، وأدمي وجهه، وكسرت رباعيته، وكان علي يختلف بالماء في المحن، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم، فلما رأت فاطمة عليها السلام الدم يزيد على الماء كثرة، عمدت إلى حصير فأحرقتها، وألصقتها على جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرقأ الدم
(3)
. ولولا خشية الإطالة لأوردت العلوم الجمة التي ضربت فيها النساء المسلمات بسهم وافر، فلله الحمد والمنة.
(1)
انظر: طبقات الأطباء (2/ 102 - 105)، الإحاطة (1/ 221).
(2)
(5/ 2162)5390.
(3)
ينظر: الفتح (10/ 174).
المبحث الخامس: حكم تعليم المرأة
وبعد أن قدمت بين يدي هذا المبحث ما مضى، أعتقد أنك ستصل معي أيّها القارئ الكريم إلى أن تعليم النساء ما يعود عليهن وعلى مجتمعهن بالنفع أمر رغب فيه الإسلام، ودعا إليه الكتاب والسنة، ولذا فإن الفقهاء قسموا ما تتعلمه المرأة إلى نوعين:
1 -
فرض عين: وهو الذي تُصْلح به عبادتها وعقيدتها وسلوكها، وتحسن به تدبير منزلها، وتربية أولادها إن كان العرف يلزم أمثالها التدبير والتربية.
2 -
فرض كفاية: وهو ما تحتاج إليه الأمة كالطب، والتمريض، والتعليم.
فإذا كانت الأمة بحاجة مثلًا إلى طبيبات الأمراض النساء والطفولة، وتمريض النساء، ومدرسات لتعليم الفتيات لزم إعداد عدد كاف من الطبيبات والممرضات والمدرسات، قد ضُبِط تعليمهن بالضوابط الشرعية ليكفين حاجة الأمة
(1)
.
وأما ما يسمونه اليوم علمًا وقد عظمت فرية، وكبرت جريمة على العلم وأهله كالرقص والتمثيل والموسيقى وسميت فنونًا، وفتحت لها المعاهد والكليات، وصار لأهلها شهرة، وغدا شباب الأمة يركضون خلف كل ساقط وساقطة إلا من رحم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإن المسلم والمسلمة يحرم عليهم تعلم الخبث، ويكرمون عن مواقعة الدنس، ونظرة في عالم الفن تحد أهله أتعس الناس، فلا حياة أسرية استقروا فيها، ولا نهاية مرضية ختموا أعمارهم بها، فالحمد لله الذي عافانا مما
(1)
ينظر: المرأة في التصور الإسلامي لعبد المتعال الجبري (70 - 71) حقوق المرأة وواجباتها لفاطمة نصيف (99).
ابتلاهم به، وفضلنا على كثير من عباده تفضيلًا، وأسأل الله أن يرد ضال المسلمين، ويصلح أحوالهم.
ومن أجمل ما قرأت فيما يتعلق بالموضوع، ما تكلم به الشيخ محمد عطية سالم في تتمة «أضواء البيان»:
«وأمّا تعليم النساء؛ فليس محل خلاف، والواقع أن هذه المسألة واضحة المعالم، إذا نظرت كالآتي:
لا شك أن العلم من حيث هو خير من الجهل، والعلم قسمان:
الأول: علم سماع وتلقي، وهذه سيرة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، عائشة كانت القدوة الحسنة في ذلك في فقه الكتاب والسنة، وكم استدركت على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهذا مشهور ومعلوم.
والثاني: علم تحصيل بالقراءة والكتابة، وهذا يدور مع تحقق المصلحة من عدمها، فمن رأى أن تعليمهن مفسدة منعه».
قلت: والحكم في الثاني ينسحب على الرجل أيضًا؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا.
وقد ورد نص في مسألة تعليم النساء الكتابة يحسم به الخلاف، ويعاد إليه؛ إذ أن كلًا يؤخذ من قوله ويرد إلا رسولنا صلى الله عليه وسلم، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف
(1)
، وأحمد في المسند
(2)
، وأبو داود في السنن
(3)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(4)
،
(1)
(5/ 43)23540.
(2)
(45/ 46)27095.
(3)
(4/ 11)3887.
(4)
(6/ 4)3177.
والنسائي في الكبرى
(1)
، والطحاوي في شرح معاني الآثار
(2)
، والطبراني في الكبير
(3)
من طرق عن عبد العزيز بن نمر بن عبد العزيز، عن صالح بن كَيْسان، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن سليمان بن أبي حَثْمة، ع ن الشفاء بنت عبد الله، قالت: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا عند حفصة فقال لي: «ألا تعلِّمين هذه رقية النملة
(4)
، كما علمتيها الكتابة» واللفظ لأحمد.
قلت: رجاله ثقات رجال الشيخين، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(5)
.
وذهب الخطابي
(6)
، والشوكاني
(7)
إلى جواز تعليم النساء الكتابة.
• وأمّا ما يستدل به العوام، وهو قوله «لا تنزلوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل وسورة النور» .
(1)
(4/ 366)7543.
(2)
(4/ 326).
(3)
(24/ 313)790.
(4)
النملة -بفتح النون، وكسر الميم- قروح تخرج من الجنب، وانظر: غريب الحديث لابن سلام (1/ 84)، وقوله رقية النملة قال ابن الأثير: قيل إن هذا من لغز الكلام ومزاحه كقوله للعجوز: لا تدخل عجوز الجنة، وذلك أن رقية النملة شيء كانت تستعمله النساء يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع، ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال للعروس: تحتفل وتختضب، وتكتحل، وكل شيء تفتعل غير ألا تعصي الرجل
…
فأراد هذا المقال تأنيب حفصة؛ لأنه ألقى إليها سرًا فأفشته. النهاية (5/ 119) مادة (ن م ل).
ينظر: غريب الحديث لابن الجوزي (1/ 225)، لسان العرب (11/ 158) مادة (ن م ل).
(5)
(6)
معالم السنن (2/ 102).
(7)
نيل الأوطار (9/ 103).
فقد أخرجه الطبراني في الأوسط
(1)
، والحاكم في المستدرك
(2)
، والبيهقي في الشعب
(3)
من حديث عائشة رضي الله عنها قال ابن الجوزي في الموضوعات
(4)
: «لا يصح، وقد ذكره أبو عبد الله الحاكم النيسابوري في صحيحه، والعجب كيف خفي عليه أمره. قال أبو حاتم بن حبان
(5)
: كان محمد بن إبراهيم الشامي يضع الحديث على الشاميين، لا تحل الرواية عنه إلا عند الاعتبار، روى أحاديث لا أصول لها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يحل الاحتجاج به» وذكره ابن عراق الكناني في تنزيه الشريعة
(6)
، وقال الألباني عنه: موضوع
(7)
.
قال صاحب التراتيب الإدارية
(8)
: «أورد القلقشندي أن جماعة من النساء كن يكتبن، ولم ير أن أحدًا من السلف أنكر عليهن» .
وقال الشيخ محمد عطية سالم: «فقد رأيت بنفسي وأنا مدرس بالأحساء نسخة لسنن أبي داود عند آل المبارك، وعليها تعليق لأخت صلاح الدين الأيوبي»
(9)
.
ولا تعجب إن كان في بني جلدتنا من يتمسك بمثل هذه الموضوعات، ثم هو
(1)
(6/ 34)5713.
(2)
(2/ 430)3494.
(3)
(2/ 477)2453.
(4)
(2/ 174).
(5)
(2/ 301)1007.
(6)
(2/ 208).
(7)
السلسلة الضعيفة (5/ 30)2017.
(8)
(1/ 52).
(9)
أضواء البيان (10/ 360).
يردد أشعارًا، السنة منها براء كقول المعري:
علموهن الغزل والنسج والـ
…
ردن وخلوا كتابة وقراءة
فصلاة الفتاة بالحمد والإخلاص
…
تجزي عن يونس وبراءة
ومثله ما قال المنفلوطي:
يا قوم لم تخلق بنات الورى
…
للدرس والطرس وقال وقيل
لنا علوم ولها غيرها
…
فعلموها كيف نشر الغسيل
والثوب والإبرة في كفها
…
طرس عليه كل خط جميل
(1)
ومن هنا يتبين أن على المرأة أن تتعلم أنواع العلوم التي تعود عليها بالنفع في دينها ودنياها، ولا تتصادم مع أنوثتها، أو تؤثر في مسؤوليتها ووظيفتها الأولى، أو تجعلها تتنازل عن ضابط شرعي لأجل أيّ علم كان.
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي: «وإذا نظرنا إلى جنس انْقَسم إلى نوعين، فيجب أن نقول: إنه لم ينقسم إلى نوعين إلّا لأداء مهمتين، وإلّا لو كانت المهمة واحدة لظل الجنس واحدًا، ولم ينقسم إلى نوعين، فانقسامه إلى نوعين دلّ على أن كل نوع له خصوصية في ذاته، والجنس يجمعهما، وضرب لذلك مثلًا الليل والنهار كنوعين لجنس واحد هو الزمن، هذا التنوع أدى أن يكون لليل مهمة هي: السكن، وأن يكون للنهار مهمة هي: السعي والكدح. والرجل والمرأة بهذا الشكل نوعان لجنس هو الإنسان، فكأن هناك أشياء تطلب من كل منهما كإنسان، وبعد ذلك أشياء تطلب من الرجل كرجل، ومن المرأة كامرأة، بحيث نستطيع أن نقول إنهما كنوعين من الجنس لهما مهمات مشتركة
(1)
ينظر: عناية النساء بالحديث النبوي (117).
كجنس، ومهمات مختلفة كنوعين»
(1)
ولهذا فإنه لا بد أن تنوع ثقافة كل من الرجل والمرأة خصوصًا في مرحلة المراهقة، وهي المرحلة التي يكون ظهور الخصائص النوعية لكل من الرجل والمرأة أظهر من سابقتها، وباعتبارها المرحلة التمهيدية؛ لأن يباشر الرجل مهامه زوجا، وتباشر المرأة مهامها زوج وربة بيت، فتعتمد ثقافة المرأة على ما يؤهلها لأن تكون أمًّا وربة بيت، فتعن بأنواع العلوم المساعدة لها في مهمتها التربوية، بالإضافة إلى العلوم الأساسية التي تعينها على أمور دينها ودنياها.
يقول الشيخ محمد عطية سالم في تتمة أضواء البيان
(2)
أما كيفية تعليمها؛ فإن مشكلتها إنما جاءت من الاختلاط في مدرجات الجامعات
(3)
، وفصول الدراسة في الثانويات في فترة المراهقة وقلة المراقبة، وفي هذا يكمن الخطر منها وعليها في آن واحد، وما دام أنه لا بد من تعليمها فلا بد أيضًا من المنهج الذي يحقق الغاية منه ويضمن السلامة فيه، والتوفيق من الله.
(1)
القضاء والقدر (130).
(2)
(10/ 359 - 362).
(3)
سيأتي مزيد تفصيل لهذا في حق المرأة في العمل ص (904) فما بعدها.
الفصل الخامس
حق المرأة في الفتوى
الفصل الخامس حق المرأة في الفتوى
ما تقدم في فصل حق المرأة في التعليم يُظْهِرُ ما بلغته النساء المؤمنات من مكانة سامَيْنَ بما فحول الرجال، وفطاحل العلماء، فمن الطبعي أن تكون تلك العالمة مفتية بما تدين الله به، وبما تعلمه من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإفتاء عظيم الخطر، كبير الوقع؛ لأن المفتي قائم بفرض الكفاية، مخبر عن حكم الله، ولهذا قالوا المفتي موقِّع عن الله تعالى
(1)
، ولقد تسنم المفتون من الأمة سنام السناء، وكانوا قرّة الأعين لها، ولا تخلو الأرض من قائم بالحجة إلى أوان الانتهاء، يستوي في ذلك الرجال والنساء.
يقول النووي رحمه الله في آداب الفتوى
(2)
وقال الشهر زوي: «ولا يشترط في المفتي الحرية والذكورة»
(3)
.
بل إن ابن القيم رحمه الله عد من المكثرين من الفتيا أم المؤمنين عائشة -رضي الله
(1)
ينظر: أدب المفتي والمستفتي للشهرزوي (72)، آداب الفتوى للنووي (221)، صفة الفتوى لأحمد النمري (25)، وقد سمى ابن القيم كتابه النفيس في الفتوى إعلام الموقعين عن رب العالمين.
(2)
(3)
أدب المفتي والمستفتي (106).
عنها-، ومن المتوسطين في الفتيا أم سلمة، ومن المقلين من الفتيا عدّ نسوة كثرًا منهن: أم عطية، وأم المؤمنين صفية، وحفصة، وأم حبيبة، وليلى بنت قائف، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شريك، والحولاء بنت تويت، وعاتكة بنت زيد، وسهلة بنت سهيل، وغيرهن رضوان الله عليهن
(1)
.
وعلى رأس مفتيات النساء تحتل أم المؤمنين عائشة قمة الجبل الشامخ، وكانت بحرًا لا تكدره الدلاء، قال مسروق: لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض.
وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا.
وألف الزركشي كتابًا في استدراكات أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على الصحابة، اسمه: الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة.
وقد تقدم ذكر بعض المحدثات من النساء، وتتلمذ كبار المحدثين على أيديهن، مما يدل دلالة عظمى على ضلوعهن في التعليم والفتوى، وسأضرب بعض الأمثلة على ذلك؛ إذ بالمثال يتضح المقال، وقد وجدتي أمام قدْر هائل منها؛ لكني سأوثر الاختصار:
1 -
أخرج مسلم في صحيحه
(2)
من طريق عبد الله بن شهاب الخولاني قال: كنت نازلًا على عائشة، فاحتلمت في ثوبيَّ، فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة، فأخبرتها. فبعثت إليّ عائشة، فقالت: ما حملك على ما ص نعت بثوبيك؟ قال: قلت:
(1)
ينظر: إعلام الموقعين (1/ 12 - 13).
(2)
كتاب الطهارة، باب: حكم المني (1/ 239)290.
رأيت ما يرى النائم في منامه؟ قالت: هل رأيت فيهما شيئًا. قلت: لا. قالت: فلو رأيت شيئًا غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسًا بظفري.
لقد أفتت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لعبد الله بطهارة المني
(1)
، ودلته على ما يصنع إن رأى شيئًا منه بغسله أو حكه، وفي الحديث تفقد أحوال الضيف، وسؤاله عن ما يستنكر من حاله، وفيه تأخير الإنكار حتى يتبين حجة المنكر عليه.
2 -
بل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمَّون بيوت نسائه للسؤال والفتيا، أخرج مسلم
(2)
من طريق عبد الله بن قيس قال: سألت عائشة عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث. قلت: كيف كان يصنع في الجنابة، أكان يغتسل قبل أن ينام، أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام. قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.
3 -
وقد مضى فيما تقدم
(3)
إنكار أم المؤمنين عائشة على فتيا عبد الله بن عمرو بأمر النساء بنقض رؤوسهن عند غسل الجنابة، أخرج مسلم من طريق عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن. فقالت: يا عجبًا لابن عمرو هذا، يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن! لقد كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء
(1)
وبه قال جمهور العلماء سعيد بن المسيب وعطاء وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والشافعي وأصح الروايتين عن أحمد.
(2)
كتاب الحيض، باب: جواز نوم الجنب، واستحباب الوضوء له، وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع (1/ 248)307.
(3)
ص (125)، وانظر أمثلة أخرى لإنكار أمهات المؤمنين على بعض فتوى الصحابة في: مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (85 - 106).
واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
وكذلك مرّ بنا
(1)
إنكار ميمونة على ابن أختها عبد الله بن عباس اعتزاله فراش زوجته الحائض، وإخباره عن هدّيه صلى الله عليه وسلم.
4 -
وهذه نصوص توقفنا على دور المرأة في تحقيق المسائل العلمية، وحسم الخلاف بالدليل:
أ- أخرج مسلم
(2)
من حديث أبي موسى قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار. فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت، فاستأذنت على عائشة، فأذن لي. فقلت لها: يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك. فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلًا عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» .
لقد قطعت أم المؤمنين الاختلاف بما لديها من علم، وانظر إلى أدب الصحابة الجم في الحوار والسؤال، لقد قدَّم أبو موسى بين يدي سؤاله بعبارة لطيفة مهذبة ليعطي المسؤول تصورًا عن طبيعة ما سيسأله، فتأتي فطنة أم المؤمنين رضي الله عنها بقولها: لا تستحي أن تسألي عما كنت سائلًا أمك عنه
…
ثم تفي بفتوى تقطع بها الخلاف العلمي، وذهب جمهور العلماء إلى ما أفتت به أم المؤمنين وهو
(1)
ص (146).
(2)
كتاب الحيض، باب: نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين (1/ 271)349.
وجوب الغسل إذا مس الختان الختان ولو لم ينزل
(1)
.
ب- ما أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من طريق سليمان بن يسار قال: إن أبا سلمة بن عبد الرحمن، وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة، وهما يذكر ان المرأة تنفس بعد وفاة زوجها بليال، فقال ابن عباس: عدا آخر الأجلين. وقال أبو سلمة: قد حلت. فجعلا يتنازعان ذلك، قال: فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخي -يعني أبا سلمة- فبعثوا كريبًا مولى ابن عباس إلى أم سلمة يسألها عن ذلك، فجاءهم فأخبرهم أن أم سلمة قالت: إن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، وإنما ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج. واللفظ لمسلم.
لقد أرسل حبر الأمة، وراويها، وكبير تابعي عصره إلى أم المؤمنين أم سلمة لتحسم الخلاف بالنص، فتذكر الدليل على انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل، قال النووي:«فأخذ بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف فقالوا عدة المتوفي عنها بوضع الحمل، حتى ولو وضعت بعد موت زوجها بلحظة قبل غسله انقضت عدتها»
(4)
.
جـ- ما أخرج مسلم
(5)
في صحيحه عن طاووس؛ قال: كنت مع ابن عباس؛ إذ قال زيد بن ثابت: تفي أن تصدر (أي: ترجع) الحائض قبل أن يكون آخر عهدها
(1)
ينظر: الأوسط (2/ 76)، الاستذكار (1/ 270)، المغني (1/ 131)، المجموع (2/ 154)، البحر الرائق (1/ 56).
(2)
كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الطلاق: 4 (4/ 1864)4626.
(3)
كتاب الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل (2/ 1122)1485.
(4)
شرح صحيح مسلم (10/ 109).
(5)
كتاب الحج، باب: وجوب طواف الوداع، وسقوطه عن الحائض (2/ 963)1328.
بالبيت؟ فقال له ابن عباس: إما لا؛ فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس وهو يقول: ما أراك إلا صدقت. وأخرجه الطيالسي في مسنده
(1)
من طريق عكرمة قال: اختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في المرأة إذا حاضت، وقد طافت بالبيت يوم النحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها بالبيت. وقال ابن عباس: تنفر إن شاءت. فقال الأنصار: لا نتابعك يا بن عباس وأنت تخالف زيدًا. فقال: سلوا صاحبتكم أم سليم
…
الحديث.
لقد رجع الأنصار عن فتوى زيد إلى فتوى ابن عباس لما أيّدت ما قاله أم سليم بالنص، فبقولها أخذوا.
5 -
بل كان الواحد من الصحابة إذا سمع الفتوى يرسل إلى أمهات المؤمنين ليستيقن الخبر:
أ- أخرج مسلم
(2)
من طريق داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه أنه كان قاعدًا عند عبد الله بن عمر إذا طلع خباب ص احب المقصورة، فقال: يا عبدالله ابن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة، إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من خرج مع جنازة من بيتها، وصلى عليها، ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد» فأرسل ابن عمر خبابًا إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
(1)
1651.
(2)
كتاب الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها (2/ 652)945.
وانظر -رحمك الله- إلى إرسال ابن عمر خبيبًا إلى عائشة ليسألها عن قول أبي هريرة، فيتحسر على ما فاته، وفي الحديث ما كان الصحابة عليه من الرغبة في الطاعات حين تبلغهم، والتأسف على ما يفوتهم منها
(1)
.
ب- أخرج مسلم
(2)
من طريق عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقص يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنبًا فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث، لأبيه، فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا من غير حلم، ثم يصوم، قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول. قال: فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله. قال: فذكر له عبد الرحمن. فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم. قال: هما أعلم، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس، فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. قلت لعبد الملك: أقالتا في رمضان؟ قال: كذلك كان يصبح جنبًا من حلم ثم يصوم.
وبقول عائشة وأم سلمة قال جماهير الصحابة والتابعين، قال النووي:«أما حكم المسألة فقد أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب سواءٌ كان من احتلام أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين»
(3)
.
وانظر فضْل أبي هريرة رحمه الله في رجوعه عما كان يقوله لما بلغه الدليل، وعلى
(1)
ينظر: إكمال المعلم (6/ 142)، شرح النووي (7/ 15).
(2)
كتاب الصوم، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (2/ 779)1109.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 222).
هذا فليسر طالب العلم والعالم، وفيه حرص السلف الصالح على التثبت فيما لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
6 -
بل استفتْ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على الصحابة، وأفتتهم بالصلاة على الجنازة في المسجد، وذكر قم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج مسلم
(1)
من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير، يحدث عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن تمروا بجنازته في المسجد، فيصلين عليه ففعلوا، فوقف به على حجرهن يصلين عليه، أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد، فبلغ ذلك عائشة. فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد، وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد.
وإلى قول عائشة رضي الله عنها ذهب جمهور العلماء
(2)
، فانظر إلى حفظها رضي الله عنها وقد نسي الناس، وتذكيرها لهم، وأخذهم عنها.
7 -
وكان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أهل حق وعدل متى ما تبين لهم الحق لزموه، وقد أفتت زينب بنت أبي سلمة لمحمد بن عمرو بن عطاء بتغيير اسم ابنته، وذكرت له النص، فما كان إلا أن سمع وأطاع، وأدبًا مع أهل العلم، وتقديرا لهم، شاورها في اختيار اسم المولودة الجديدة، فأسمتها بما أسماها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعم الاسم والمسمّي، أخرج مسلم
(3)
من طريق محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا
(1)
كتاب الجنائز، باب: الصلاة على الجنازة في المسجد (2/ 668)972.
(2)
ينظر: الاستذكار (3/ 45)، شرح النووي (7/ 40)، الفتح (3/ 199).
(3)
كتاب الأدب، باب: استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن، وتغيير اسم برة إلى زينب وجويرية ونحوها (3/ 1687)2142.
الاسم، وسُمِّيت برّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم» فقالوا: «بم نسميها؟» قال: «زينب» .
8 -
والمرأة بشؤون النساء أعلم من الرجل؛ لأنه ليس راءٍ كمن سمع، ثم إن على العالمة المؤمنة التنبيه على ما يقع فيه النساء من الخطأ، أخرج مالك في الموطأ
(1)
من طريق عمته، عن ابنة زيد بن ثابت أنه بلغها أن نساء كن يدعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر، فكانت تعيب ذلك عليهن، وتقول ما كان النساء يصنعن هذا. وعلقه البخاري في صحيحه
(2)
بصيغة الجزم.
(3)
.
9 -
وروى الرواة أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم استفتوا فقيهة المدينة زينب بنت أبي سلمة في شؤون حياتهم الزوجية، وأحكام العتاق والطلاق، فتفتيهم، وتصدقها في فتواها حفصة أم المؤمنين، وينكر ابن عمر على ليلى ابنة العجماء عدم قبولها من عالمي العصر، أخرج عبد الرزاق
(4)
بسند صحيح رجاله رجال الشيخين من حديث أبي رافع قال: قالت لي مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق زوجتك، أو تفرق بينك وبين
(1)
(1/ 59)129.
(2)
كتاب الحيض، باب: إقبال المحيض وإدباره (1/ 121).
(3)
الفتح (1/ 421).
(4)
(8/ 486)16000.
امرأتك. قال: فأتيت زينب ابنة أم س لمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بفقه، ذكرت زينب. قال: فجاءت معي إليها، فقالت: أفي البيت هاروت وماروت؟ فقالت: يا زينب جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وهي يهودية ونصرانية. فقالت: يهودية ونصرانية!! خلي بين الرجل وامرأته. قال: فكأنها لم تقبل ذلك. قال: فأتيت حفصة، فأرسلت معي إليها. فقالت: يا أم المؤمنين جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية. قال: فقالت حفصة: خلي بين الرجل وامرأته. فكأنها أبت، فأتيت عبد الله بن عمر فانطلق معي إليها، فلما س لم عرفت صوته. فقالت: بأبي أنت، وبآبائي أبوك. فقال: أمن حجارة أنت، أم من حديد، أم من أي شيء أنت؟ أفتك زينب، وأفتك أم المؤمنين فلم تقبلي منهما. قالت: يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداك، إنها قالت كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية. قال: يهودية ونصرانية!! كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته.
وقد قدمت بين يدي هذا الفصل ضلوع المرأة في العلم، فلا غرو أن من امتلأ علمًا أن يكون له حظ في الفتوى القائمة على الدليل، ومرّ بك
(1)
أيها الكريم أن ابنة أبي بكر السمرقندي فاطمة كانت الفتوى إذا أتت أباها خرجت وعليها خطها، وخط أبيها، فلما تزوجت بصاحب «البدائع» كانت تخرج وعليها خطها، وخط أبيها، وخط زوجها.
وذكر السبكي لطيفة عن والدة الإمام الشافعي تنبئ عن فهم ثاقب، وعقل راجح؛ لأنها فهمت آية من كتاب الله تعالى على نحو حاججت به قاضيًا من القضاة، وفتحت من خلاله تعليقات نفيسة للعلماء، قال رحمه الله: «وكانت أمه رضي الله عنها باتفاق النقلة من العابدات القانتات، ومن أذكى الخلق فطرة، وهي التي
(1)
ص (280).
شهدت هي وأم بشر المريسي بمكة عند القاضي، فأراد أن يفرق بينهما ليسألهما منفردتين عما شهدتا به استفسارًا، فقالت له أم الشافعي: أيها القاضي! ليس لك ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
(1)
فلم يفرق بينهما».
وعلق السبكي على هذا الخبر بقوله:
(2)
.
ومن هنا يتضح أن للمرأة حقًا في الفتيا كما هي الحال للرجل، لكن بعد توافر شروط الفتوى فيها، يقول ابن الصلاح:
«القول في شروط المفتي وصفاته وأحكامه وآدابه:
أمّا شروطه وصفاته: فهي أن يكون مكلفًا مسلمًا ثقة مأمونًا منزهًا من أسباب الفسق، ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك، فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط متيقظًا»
(3)
.
وقال الجويني في الورقات
(4)
: «ومن شرط المفتي أن يكون عالمًا بالفقه أصلًا وفرًعا، خلافًا ومذهبًا، وأن يكون كامل الأدلة في الاجتهاد عارفًا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام وتفسير الآيات الواردة في الأحكام والأخبار
(1)
البقرة: 282.
(2)
طبقات الشافعية الكبرى (2/ 179 - 180).
(3)
فتاوى ابن الصلاح (1/ 21).
(4)
الواردة فيها».
ولا شك أن المرأة في هذه الشروط مثل الرجل، وقد تقدم تصريح الإمام النووي
(1)
بذلك، فمتى ما توافرت في المرأة هذه الشروط كانت أهلًا للفتوى وأصبحت حًقا من الحقوق الشرعية لها، يشهد لذلك ما أوردته من نماذج يسيرة من فتاوى أمهات المؤمنين والصحابيات رضوان الله عليهن.
وإنك لتعجب في زمن تغير فهم أهله، فأصبحت الفتوى والتوقيع ع ن الله من شأن جهلة المسلمين وعوامهم فضلًا عن أنصاف المتعلمين، وتخبط الناس في فهم النصوص الشرعية ودلالتها لعدم اكتمال أدوات الفهم لدى المتكلم والكاتب، وصار في كل بيوتات المسلمين إلا من رحم الله شيخ إسلام عصره، وشمس دين زمانه، والصحف اليومية والجرائد المحلية أكبر شاهد على ما أقوله؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أخرج البخاري
(2)
ومسلم
(3)
من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا؟، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» .
اللهم إنا نسألك أن تقبضنا إليك غير مفتونين.
(1)
ص (303).
(2)
كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم (1/ 50)100.
(3)
كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (4/ 2058)2673.
الفصل السادس
حق المرأة في الدعوة
الفصل السادس حق المرأة في الدعوة
لما سمع المؤمنون والمؤمنات فضل الدعوة إلى الله في الكتاب والسنة، تنافسوا في كسب قلوب العباد لإخراجهم من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الهداية والعلم، يقول تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
(1)
والاستفهام هنا بمعنى النفي المتقرر، أي: لا أحد أحسن قولًا: {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين، ومحاولة المبطلين بالأمر بعبادة الله بجميع أنواعها، والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن
(2)
.
وأخرج البخاري
(3)
ومسلم
(4)
من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الطويل، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر لمّا قال له علي: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فو الله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حُمْر النعم» واللفظ للبخاري.
قال الحافظ: «يؤخذ منه أن تألف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله، وقوله:(حمر النعم) بسكون الميم من حمر، وبفتح النون والعين المهملة، وهو من ألوان الإبل المحمودة، قيل المراد: خير لك من أن تكون لك، فتتصدق بها. وقيل:
(1)
فصلت: (33).
(2)
تفسير السعدي (479).
(3)
كتاب الجهاد، باب: فضل من أسلم على يديه رجل (3/ 1096)2847.
(4)
كتاب الفضائل، باب: من فضائل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (4/ 1872)2406.
تقتنيها وتملكها، وكانت مما تفاخر العرب بما»
(1)
.
والمؤمن لا يتمنى الدعوة إلى الله في حياته فحسب، بل وحين ينقطع أثره، ويقضي نحبه، ويستوفي أجله، يتمني صلاح الناس وهدايتهم، وانظر إلى مؤمن آل ياسين لما دخل الجنة قال:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}
(2)
، وقد أسهمت المرأة مع الرجل في الدعوة إلى الله لأمر الله لها حيث قال سبحانه:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}
(3)
.
(4)
.
وسأعرض نماذج من ذلك:
1 - المرأة المباركة التي تسببت في هداية قومها أجمع:
أخرج البخاري
(5)
، ومسلم
(6)
من حديث عمران بن حصين قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنا أسرينا
(7)
حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند
(1)
الفتح (7/ 478).
انظر: مشارق الأنوار (1/ 200)، مادة (ح م ر)، (4/ 17) مادة (ن ع م).
(2)
يس: (26 - 27).
وانظر فضائل أُخَر للدعوة إلى الله في كتاب د. فضل إلهي. «فضل الدعوة إلى الله» .
(3)
الأحزاب: (34).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (14/ 184).
(5)
كتاب التميم: باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء (1/ 130)337.
(6)
كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها (1/ 475)682.
(7)
أسرينا أي: سرنا ليلًا. انظر: الفتح (1/ 451).
المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان -يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف، ثم عمر بن الخطاب الرابع- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر، ورأى ما أصاب الناس -وكان رجلًا جَلِيدًا- فكبر، ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر، ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: لا ضير -أو لا يضير- ارتحلوا فارتحل فسار غير بعيد، ثم نزل، فدعا بالوضوء، فتوضأ، ونودي بالصلاة، فصلي بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك بالصعيد، فإنه يكفيك. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانًا -كان يسميه أبو رجاء، نسيه عوف- ودعا عليًّا، فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين
(1)
-أو: سطيحتين- من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونَفَرْنا خُلوف
(2)
. قالا لها: انطلقي إذًا. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له الصابئ. قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث. قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين -أو: سطيحتين- وأوكأ أفواههما وأطلق
(1)
المزادة: بفتح الميم والزاي -قربة كبيرة يزاد فيها جلد من غيرها، وتسمى أيضًا «السطيحة» . الفت 0 (1/ 452).
(2)
قال الحافظ: قال ابن سيدة (المخصص (2/ 102) النفر: ما دون العشرة، وقيل: النَّفَرُ: الناس كلهم، قلت: وهو اللائق هنا؛ لأنها أرادت أن رجالها تخلفوا لطلب الماء، «وخلوف» بضم الخاء المعجمة واللام- جمع خالف، قال ابن فارس:(معجم مقاييس اللغة (1/ 129): الخالف: المستقي، ويقال أيضًا لمن غاب، ولعله المراد هنا، أي أن رجالها عن الحي. الفتح (1/ 452).
العزالي
(1)
، ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا، فسقى من شاء، واستقى من شاء، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء. قال: اذهب، فأفرغه عليك، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وأيم الله لقد أقلع عنها، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اجمعوا لها» فجمعوا لها -من بين عجوة، ودقيقة، وسَوِيقة- حتى جمعوا لها طعامًا، فجعلوها في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها. قال لها:«تعلمين ما رَزِئنا من مائك شيئًا، ولكن الله هو الذي أسقانا» فأتت أهلها، وقد احتبست عنهم. قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابئ، ففعل كذا وكذا، فو الله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء -تعني السماء والأرض- أو إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا، فكان المسلمون بعد ذلك يُغِيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصِّرْم
(2)
الذي هي منه.
فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام.
ومن فوائد الحديث
(3)
دور المرأة في دعوة قومها إلى الإسلام، وإجابتهم لها، فكان لها أثر مبارك على قومها ابتداءً حين ترك المسلمون قتالهم؛ استئلافًا لهم، ووفاء منهم، إذ كانت إحدى نسائهم سببًا في سقيا المسلمين الماء، مع أهم ما رزئوها من
(1)
العزالي: بفتح المهملة والزاي وكسر اللام -ويجوز فتحها جمع عزْلا، وعزْلاء. المزادة: فمها الأسفل، وقيل: مصب الماء من الراوية.
انظر: مشارق الأنوار (2/ 80) مادة (ع ز ل)، الفتح (1/ 452).
(2)
الصِّرم: بكسر المهملة- أي: أبياتًا مجتمعة من الناس. الفتح (1/ 452).
(3)
انظر فوائد لو استقصيت لكملت جزءًا في:
شرح ابن بطال (1/ 102)، شرح الكرماني (1/ 122)، شرح النووي (5/ 192)، الفتح (1/ 451)، العمدة (4/ 26).
مائها شيئًا، بل عادت والمزادتان أشد ملاءة، وزادوها الطعام الذي جمعوه لها في ثوب ما بين عجوة ودقيقة وسويقة، وكان في هذا معجزة ظاهرة من أعلام النبوة، ومع ذاك حفظوا معروفها، وتركوا الإغارة على صرمها حتى أسلم الصرم بأسره.
2 - أمر أم سليم رضي الله عنها ابنها أن يقول لا إله إلا الله:
أسلمت أم سليم الأنصارية رضي الله عنها فلم يرض بذلك زوجها مالك بن النضر، وأبدى عدم ارتياحه لذلك، فلم تبال رضي الله عنها بانطباعاته، بل بدأت تلقن ابنهما الشهادتين.
روى ابن سعد
(1)
بإسناد صحيح من طريق إسحاق بن عبد الله، عن جدّته أم سليم رضي الله عنها أنها آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: فجاء أبو أنس، وكان غائبًا، فقال: أصبوت؟ قالت: ما صبوت، ولكني آمنت هذا الرجل.
قالت: فجعلت تَلقِّن أنسًا تشير إليه قل: «لا إله إلا الله» قل: «أشهد أن محمدًا رسول الله» قال: ففعل. قال: فيقول لها أبوه: «لا تفسدي عليّ ابني» فتقول: «إني لا أفسده» .
لقد أرادت أم سليم أن تنقذ صغيرها من الشرك، وأن تكون هي الداعية الأولى له، ولم تأبه بمصادمة أبيه، وأرادت أن تصحح فكره لما قال لها: أصبوت؟ قالت: ما صَبَوْت، ولكني آمنت بهذا الرجل.
ثم بدأت بتلقين صغيرها ما تدين به رغم معارضة زوجها لها، فلله درها من امرأة، فهل من مشمرة من النساء للاقتداء بها، بل تعجب وأنت ترى نساء المؤمنين اليوم وهن يرمين فلذات أكبادهن إلى حاضنات يأتين من بلاد الكفر على ديانة
(1)
الطبقات (8/ 425)، وانظر: السير (5/ 305).
تخالف الإسلام، فترضع الطفل مع الحليب عقائد تخالف عقيدته، ومبادئ تخالف مجتمعه!
3 - عرض أم سليم رضي الله عنها الإسلام على زوجها مالك بن النضر:
لم تقف أم سليم رضي الله عنها عند إسلامها، وتلقين ابنها الشهادتين رغم معارضة زوجها مالك بن النضر، بل عرضت عليه الإسلام. قال عنها الحافظ ابن عبد البر:«كانت تحت مالك بن النضر أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت له أنس بن مالك، فلما جاء الله بالإسلام أسلمت مع قومها، وعرضت الإسلام على زوجها، فغضب عليها، وخرج إلى الشام، فهلك هناك»
(1)
.
4 - مهر أم سليم الإسلام:
لقد خطت السير والتراجم مداد الذهب أكرم النساء مهرًا، إنها أم سليم التي ربت أنسًا على الإسلام، ودعت زوجها مالك بن النضر فأبي، وهلك في الشام، ومضت مدة على وفاة مالك بن النضر، فجاء أبو طلحة خاطبًا فاختارت صداقًا إن رضيه قبلته، وإن أباه منعته.
أخرج ابن سعد
(2)
من طريق أنس قال: جاء أبو طلحة يخطب أم سليم. فقالت: إنه لا ينبغي لي أن أتزوج مشركًا، أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم التي تعبدون ينحتها عبد آل فلان النجار، وأنكم لو أشعلتم فيها نارًا لاحترقت. قال: فانصرف عنها، وقد وقع في قلبه من ذلك موقعًا. قال: وجعل لا يجيئها يومًا إلا
(1)
الاستيعاب (4/ 1940)4163.
(2)
الطبقات الكبرى (8/ 427).
قالت له ذلك.
وفي رواية أخرى
(1)
أنها قالت: يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد إنما هو شجرة تنبت من الأرض، وإنما نجّرها حبشي بني فلان؟ قال: بلى. قالت: أما تستحي تسجد لخشبة تنبت من الأرض نجرها حبشي بني فلان؟ قالت: فهل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأزوجك نفسي لا أريد منك صداقًا غيره؟ قال لها: دعيني حتى أنظر. قالت: فذهب، فنظر، ثم جاء فقال:«أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» .
وأخرج النسائي في المجتبى
(2)
، والمقدسي في المختارة
(3)
من طريق ثابت، عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، وما أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها. قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم الإسلام، فدخل بها فولدت له.
وصحح إسناده الحافظ في الفتح
(4)
، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي
(5)
.
وتأمل -وفقك الله- قصة أم سليم رضي الله عنها تخلص إلى ما يأتي:
1 -
اعتزازها رضي الله عنها بدينها الإسلام، ويتجلى ذلك في قولها
(1)
الطبقات الكبرى (8/ 427).
(2)
(6/ 114)3341.
(3)
(4/ 427)1607.
(4)
(9/ 115).
(5)
(2/ 703)3341.
لزوجها الأول مالك بن النضر: «ما صبوت ولكني آمنت بهذا الرجل» .
وكذلك في قولها لأبي طلحة: «ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك» .
2 -
إصرارها رضي الله عنها على تلقين ابنها الشهادتين رغم معارضة زوجها.
3 -
مبادرتها رضي الله عنها إلى عرض الإسلام على زوجها رغم عدم ارتياحه لإسلامها.
4 -
حرصها على إسلام خاطبها، وجعلها ذلك مهرًا منه.
وأسلم أبو طلحة وحسن إسلامه، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وهو يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله.
أخرج البخاري
(1)
من حديث أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب
(2)
عليه بجحفة له، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل. فيقول: انثرها لأبي طلحة. قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة بأبي أنت وأمي لا تشرف يُصِبْك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك
…
الحديث.
فانظر إلى أثر تلك المرأة المباركة فتربيتها كانت سببًا في إخراج أحد علماء الأمة أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدعوتهما أسلم أحد المجاهدين فيما بعد
(1)
كتاب المغازي، باب: غزوة أحد (4/ 1490)8373.
(2)
مجوب: بفتح الجيم، وكسر الواو المشددة- أي: مترس عليه يقيه بها. الفتح (7/ 128).
الأبطال الذين يثبتوا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم.
5 - أمر أم حكيم رضي الله عنها زوجها الإتيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبول الإسلام:
أم حكيم بنت الحارث المرأة التي كانت سببًا في إسلام زوجها عكرمة بن أبي جهل -رضوان الله عليهما- أسلمت يوم الفتح، واستأمنت النبي صلى الله عليه وسلم لزوجها عكرمة، وكان عكرمة قد فرّ إلى اليمن، وخرجت في طلبه فردّته حتى أسلم.
وقد جاءت الرواية في تفصيل ما دار بينها وبينه، قال ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق
(1)
وفي القصة من الفوائد حرص أم حكيم رضي الله عنها على إسلام زوجها، فها هي تأخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانًا له؛ لأنها سمعت أنه قد أهدر دمه، فتفرح بالأمان، وتقطع الفيافي حتى تصل إليه في اليمن قبل ركوبه البحر، وتظهر له اللطف والعطف، وتناديه:«يا ابن عم» ثم تطمئنه بأنها قد حصلت له على أمان من
(1)
(41/ 61).
رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة «هذا أمان معي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء في بعض الروايات وصفها لرسول الله بقولها: «جئتك من عند أوصل الناس، وأبر الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك» ولما خلصت من أسلوب الترغيب، خاطبته بالترهيب النابع من حكمة، الممتلئ عقلًا مشيرة إلى أنه إن بقي على كفره، فإن العلاقة بينهما ستنصرم، فيقبل، ويسلم.
قال عنه الشافعي: كان عكرمة محمود البلاء في الإسلام، محمود السيرة حين دخل فيه
(1)
. واختلف في قتله أكان في أجنادين وعلى هذا جمهور أهل السير، أو في اليرموك وإليه ذهب ابن إسحاق، والزبير بن بكار
(2)
.
فرضي الله عن أم حكيم التي كانت سببًا في إسلام صحابي جليل، ومجاهد تحرير عكرمة بن أبي جهل.
6 - فاطمة وإسلام عمر:
لا تعجب حين تعلم أن سبب إسلام الفاروق، أبو حفص، ثاني الخلفاء الراشدين، وأول أمير للمؤمنين امرأة، إن إسلام عمر كان وراءه أخت له عظيمة، فاطمة بنت الخطاب زوج سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
قال ابن حبان في الثقات
(3)
: «وكان السبب في إسلامه (أي: عمر) أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قد أسلمت، وأسلم زوجها سعيد بن زيد، وهم يستخفون بإسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله بن النحام قد أسلم، وكان يخفي إسلامه، وكان خباب بن الأرت
(1)
عزاه له المزي في تهذيب الكمال (20/ 248).
(2)
انظر ترجمته في: أسد الغابة (4/ 121) 1025، الإصابة (4/ 538)5642.
(3)
(1/ 75).
يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يومًا متوشحًا بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر له أنهم قد اجتمعوا في بيت الصفا، وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة وعليّ وأبو بكر في رجال من المسلمين ممن أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج إلى أرض الحبشة، فلقي نعيم بن النحام عمر بن الخطاب، فقال: أين تريد؟ قال: أريد محمدًا هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى أن عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمدًا، أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم. قال: وأي أهل بيتي؟ فقال: ختنك، وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك، فقد أسلما، وبايعا محمدًا على دينه، فعليك بهما. فرجع عمر عامدًا لختنه وأخته وعندهما خباب بن الأرت، ومعه صحيفة فيها (طه) يقرؤهما إياها، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع حين دنا من البيت قراءتها عليه، فلما دخل، قال: ما هذه الهينمة
(1)
التي سمعت؟ قال له: ما سمعت شيئًا. قال: بلى، والله لقد أخبرت أنكما بايعتما محمدًا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها، فضربها، فشجها، فلما فعل ذلك. قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا، وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم، ندم على ما صنع وارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفًا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبًا، فلما قال ذلك: قالت له أخته: إنا لنخشاك عليها. قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردها إليها. فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي
(1)
قال ابن الأثير: «الهينمة هي: الكلام الخفي لا يفهم» النهاية (5/ 289)(هينم).
إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا المطهرون. فقام عمر بن الخطاب فاغتسل، ثم أعطته الصحيفة، وفيها (طه)، فلما قرأ سطرًا منها، قال: ما أحسن هذا الكلام، فلما سمع خباب ذلك، خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله لأرجو أن يكون خصك الله بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فإني سمعته يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب. فقال له عمر: دلني عليه يا خباب حتى آتيه، فأسلم. فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه
…
»
(1)
وفيه ذكر بقية إسلام عمر به.
إن إسلام الرجل الذي اتسعت في عصره بلدة الإسلام حتى وصلت إلى أقاصي الشرق والغرب، وفتحت بلاد كسرى، وبيت المقدس، وازدهرت في عصره دولة الإسلام كان سببه امرأة، أفلا يحق لنا معاشر النساء أن نفخر هذا، ونكاثر به.
7 - دعوة المؤمنات المجاهدين إلى الثبات في معركة اليرموك:
لما اشتدت حملة الروم على المسلمين في اليرموك، انهزم بعض المجاهدين، فزجر قسم المسلمات، وأمرهم بالعودة إلى القتال.
(2)
.
(1)
أخرج قصة إسلام عمر الحاكم في المستدرك (4/ 65) 6897، والبيهقي في الكبرى (1/ 88) 417، والمقدسي في المختارة (7/ 140) وقال: إسناده حسن لشاهده.
وانظر: طبقات ابن سعد (3/ 268)، أخبار المدينة لابن شبة (1/ 348)، تاريخ دمشق لابن عساكر (44/ 34)، الإصابة (8/ 62)11590.
(2)
البداية والنهاية (7/ 13).
وجعلت ابنة العاص بن منبه تنادي: «قبّح الله وجه رجل يفر عن خليلته!» وجعلت النساء يقلن لبعولتهن: «لستم لنا ببعول إن لم تمنعوا عنا الأعلاج» .
ونظرت هند بنت عتبة إلى أبي سفيان رضي الله عنهما وهو منهزم، فضربت وجه حصانه بعمودها، وقالت: إلى أين يا بن صخر؟ ارجع إلى القتال، وابذل مُهْجتك حتى يمحص الله عنك ما سلف من تحريضك على رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وسأجعلك تتأمّلْ فيما سبق ما بذلته المرأة في الجهاد من تثبيت فحول المسلمين وأبطالهم للمضي قدمًا نحو عدوهم، وللإثخان في أرضهم، ولإذهاب غيظ قلوب المؤمنين. والذي أرسل محمدًا بالحق لا تعيش أمة في ذلٍ كان نساؤها كذلك!!!
8 - سُعدى تدعو زوجها للنفقة:
ما أجمل أن يحوز المسلم لبيته خير متاع الدنيا، فإذا رآها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته، وهي في ذلك كله تعينه على الطاعة، وتدله على أبواب الخير.
أخرج الإمام أحمد في الزهد
(2)
، وابن سعد في طبقاته
(3)
، والفسوي في المعرفة والتاريخ
(4)
، والطبراني في الكبير
(5)
، وابن عساكر في تاريخ دمشق
(6)
كلهم من طرق عن طلحة بن يحيى، قال: حدثتني جدتي سعدى بنت عوف المرية، قالت: أصبح
(1)
انظر: الفتوح (1/ 202 - 203).
(2)
(3)
(3/ 220).
(4)
(1/ 244).
(5)
(1/ 112)195.
(6)
(25/ 101).
طلحة ذات يوم خائرًا، فقلت: ما شأنك؟ هل رابك منا شيء، فَنُعْتِبُك. قال: لا، أما والله لنِعْم حليلة المرء أنت، ولكن اجتمع عندي مال، فقد غمني. قالت: قلت: فادع له قومك. قال: يا غلام علي قومي، فقسمه فيهم. قالت: قلت للخازن، كم المال. قال: أربعمائة ألف. واللفظ لأحمد.
قال الهيثمي في المجمع
(1)
: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب
(2)
، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب
(3)
، قلت: إسناده حسن؛ لأجل طلحة بن يحيى بن طلحة قال الحافظ عنه: «صدوق يخطئ»
(4)
.
ثم إني لأعتب على نفسي أولًا ثم على كل امرأة، أين نحن من سير تلك الصالحات، لقد أرّقها تغير حال زوجها، وخشيت أن تكون قصّرت في حقه فقالت: هل رابك (أي: أزعجك) منا شيء، ثم هي ودود تقترح إرضاءه قائلة فتعتبك) فلما علمت أن سبب تكدره وجود المال عنده؛ لم تقل: ارصده لي ولأولادك، بل قالت: اقسمه على قومك، دون أن تسأل عن عده أو عدده، حتى أخبرها الخازن بعد أن المال أربع مائة ألف.
ولو أن النساء كمن ذكرن
…
لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
…
ولا التذكير فخر للهلال
9 - ولا زلنا نذكر سيرة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها
-: تلك السيرة
(1)
(9/ 148).
(2)
(2/ 28).
(3)
(1/ 102)925.
(4)
التقريب (465)3053.
العطرة التي رسمت فيها نصرة الدعوة، وثبت الله بها رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول الحافظ في الإصابة
(1)
: «
…
وقد ذكره ابن إسحاق فقال: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يسمع شيئًا يكرهه من الرد عليه فيرجع إليها إلا تثبته وتهون عليه أمر الناس.
ولما أتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره، وقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. قال لخديجة: أي خديجة ما لي! لقد خشيت على نفسي، فأخبرها بنزول الوحي عليه. قالت له: كلا. أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدًا، فو الله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل وأخبرته الخبر، فأخبرهما أن الناموس الذي أنزل على موسى أنزل على محمد، وتمنى أن يكون فيها جذعًا إذ يخرجه قومه. فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا
(2)
.
فتأمل رحابة صدرها، ونافذ فكرها، وحدة فهمها في اختيار العبارات المطمئنة لزوجها، وتصديرها بقولها:«كلا. أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدًا» ثم عللت له ذلك بذكر خصاله الحميدة، وليزداد يقين ذاك الزوج الكريم، ويهدأ روعه أخذته لابن عم لها عنده علم من الكتاب، فأخبره بما يواجهه، وكان ذلك كله من رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
(1)
(7/ 600)11086.
(2)
أخرج القصة البخاري في كتاب الوحي، باب: بدر الوحي (1/ 4) 3، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 139)159.
وبعد استعراض لنماذج سير الصالحات الداعيات، تقف على أن الإسلام أعطى المرأة حق الدعوة إلى الله، والدلالة إليه، وساواها في الأجر مع الرجل، وإنك لتحار حين ترى بعض المسلمين يمنع زوجه أو ابنته أو أخته من الدعوة إلى الله، ويجعل الدعوة ورِدًا صفاء للرجال، ومنهلًا كدرًا للنساء!! فهل الدعوة حكر على ذكور الأمة دون إناثها! فليأت ببرهانه، وليجب عما سبق إيراده، والله المستعان وعليه التكلان.
وإذا كانت المرأة المسلمة قد كُلّفت شرعًا بالقيام بالدعوة إلى الله، فإن ذلك التكليف مبني على عدة مسوغات وأسباب يتضح من خلالها مدى فاعلية المرأة الداعية وتأثيرها، ولعل من أهم المسوغات:
1 -
إن المرأة في الغالب أقدر من الرجل على البيان والتبليغ في الأوساط النسائية، نظرًا لتجانس الظروف، وتوحد الجنس، وأهل مكة أدرى بشعابها.
2 -
تمييز المرأة الداعية بين الأولويات في قضايا الدعوة النسائية، فتقدم الأهم على المهم، وهذا ما لا يتأتى لكثير من الدعاة الذكور.
3 -
المرأة الداعية لديها القدرة على التنبيه على الأخطاء الموجودة في المجتمع النسائي سواءٌ منها ما يتعلق بالعقائد أو العبادات أو السلوك، لمعايشتها له، وهذا ما لا علم لكثير من الرجال به.
4 -
الدعوة الفردية مهمة تستطيع القيام بها الداعية المسلمة؛ مما لا يمكن للرجل القيام به في الغالب، استنادًا إلى تحريم خلوة الرجل بالمرأة.
5 -
وفي ظل العولمة، وتمشيًا مع ظروف العصر فإن اتصال النساء قد أصبح مكرورًا ميسورًا في مواطن الدراسة، والعمل، والاجتماعات الأسرية، و المواقع الالكترونية مما يعطي الأهمية لاشتغال المرأة بالدعوة.
6 -
الغزو الفكري، والتغريب الوافد إلى أمة الإسلام من عدوها، يحمّل المرأة مسؤولية الدفاع عن ثوابتها الشرعية، ووجوب التمسك بالكتاب والسنة، والعض عليها بالنواجذ، ودفاعها أقوى من الرجل؛ لأنها صاحبة القضية، والمستهدفة في الغزو.
7 -
حاجة المجتمع النسائي إلى القدرات النسائية التي ترى النساء في هديها وسمتها هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعوة بالقدوة أنجع طرق الدعوة كما لا يخفى.
والسؤال الذي أعرضه: هل المرأة المسلمة المعاصرة على المستوى المطلوب من الوعي والإدراك للكتاب والسنة والواقع المعاصر، الذي يؤهلها للقيام بهذه المهمة الصعبة؟!.
وهل أدرك الرجال دور المرأة في الدعوة إلى الله فأعانوها وشدوا مِنْ أَزْرها؟!.
الفصل السابع تفنيد الشبهات المثارة حول النصوص الشرعية
وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: شبهات حول النصوص القرآنية.
المبحث الثاني: شبهات حول الأحاديث النبوية.
لقد أرسل الرب جل وعلا رسوله وأهل الأرض أحوج إلى رسالته من حاجتهم إلى غيث السماء، ومن نور الشمس الذي يذهب عنهم حنادس الظلمات، فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات، وضرورتهم إليها مقدمة على جميع الضرورات؛ فإنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها في ما يقربها إليه، ويدنيها من مرضاته، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك، وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وأجابوا عن كثير من التساؤلات، وأزال الله على أيديهم التناقضات والشبهات، ومع ذلك ما يزال بيننا من يثير الشبه، ويضرب أدلة الشرع بعضها مع بعض، ويعجب زاعمًا من التناقض، وما دري شقي قومه أن نفسه أتعب، لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى؛ فإنّ ما جاء من عند الله لا يدخله التناقض البتة، وإنما التناقض من قصور فهم الإنسان، وعدم نضوج فكره، ونقص أدوات الاستنباط لديه، كخائض غمار المعركة بلا سلاح، أو قاطع البحر بلا سفينة، وسأورد في هذا الفصل شُبَهًا تثار حول النصوص الشرعية، وأستعين بالله في تقويض دعائمها،
والرد عليها، وأوصيك أن تحذر من إيراد الشبه على قلبك، فإن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة، وأخشى إن كنت قليل بضاعة أن يتشرب قلبك الشبه، فيكون كالإسفنجة تتشرب ما توضع فيه، فالله أسأل التوفيق والسداد، وأعوذ به سبحانه من الزيغ والضلال.
المبحث الأول: شبهات حول النصوص القرآنية
دأب بعض الناس ذكرانًا وإناثًا على الاحتجاج ببعض النصوص وترديدها؛ للتدليل على أن الذكران أرفع قدرًا، وأجل ذكرًا من الإناث؛ وجعلوا من بعض الآيات دليلًا يحتج به على تدني رتبة الأنثى في كل أمر عن شقيقها الذكر، واستدلوا من القرآن بما يأتي:
دَفْعُ الشبهة حول قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ
…
}:
أ- قول الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}
(1)
، وقوله:
(2)
، وقوله:
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}
(3)
، وقوله:{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}
(4)
.
وللجواب عمَّا أثير لا بد أن تعلم أن هذه الآيات في سور مكية جاءت التصحيح عقائد الناس؛ وقد نزلت لتحاور الناس، وتناقشهم، ومن ثم
(1)
النحل: 57.
(2)
الإسراء: 40.
(3)
الصافات: 149.
(4)
الطور: 39.
تحملهم على التوحيد، وتضع عنهم الشرك؛ ولذا ركزت على موضوع واحد هو تنزيه الله عز وجل عن اتخاذ الولد أصلًا، ثم تنزيهه عن اتخاذ البنات ولدًا؛ فهذه الآيات لا تنتقص كما يبدو أول الأمر من أمر النساء، وإنما تخاطب العرب على حسب معتقداتهم المبدئية، وعلى قدر عقولهم المتأثرة بالجاهلية، وتبين حالهم العجيبة، ومنطقهم الغريب، فما داموا يأنفون من البنات، ويكرهونهن فكيف ينسبون لله، ويتخذون لأنفسهم البنين؟ وأي قسمة هذه؟
فكانت الآيات على سبيل مجاراتهم في ادعاءاتهم؛ لبيان ما فيها من تفكك وتهافت.
يقول صاحب التحرير والتنوير في تفسير قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}
(1)
: «المعنى أن لا فائدة من اتخاذ الله بنات لا غناء لهن، ف لا يحصل له باتخاذهن زيادة عزة، بناء على متعارفهم، فهذا احتجاج إقناعي خطابي
…
والمقصود من هذا فضح معتقدهم، وأنهم لا يحسنون إعمال الفكر في معتقداتهم وإلا كانوا حين جعلوا لله بنوة ألا يجعلوا له بنوة الإناث، وهم يعدون الإناث مكروهات مستضعفات»
(2)
.
دَفْعُ الشبهة حول قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} :
ب- قول الله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}
(3)
.
(1)
الزخرف: (16 - 17).
(2)
(25/ 78).
(3)
آل عمران: 36.
يَعُدّها بعض الناس الاستشهاد بهذه الآية الكريمة على ذلك الفهم المغلوط هو الاستدلال الفصل، والحكم الذي لا يقبل المداولة، والقضاء الذي لا يقبل الاستئناف، على تميز الذكر وارتفاعه عن الأنثى، ويردد الناس هذه الآية على أفضلية الذكر مطلقًا على الأنثى دون قيد أو شرط، مع أن تفسيرها الصحيح يعطي معي مغايرًا لما يستدلون به.
وإليك بيان هذه القصة كاملة في كتاب الله جل وعلا: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
(1)
.
يقول الشوكاني: «{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرأ أبو بكر وابن عامر بضم التاء؛ فيكون من جملة كلامها، ويكون متصلًا بما قبله، وفيه معين التسليم لله، والخضوع، والتنزيه له أن يخفى عليه شيء، وقرأ الجمهور (وضعت) بسكون التاء فيكون من كلام الله سبحانه وتعالى على جهة التعظيم لما وضعته، والتفخيم لشأنه، والتحليل لها حيث وقع منها التحسر والتحزن مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين، وعبرة للمعتبرين، ويختصها بما لم يختص به أحدًا
…
قوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} أي وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكرا أن يكون نذرًا خادمًا للكنيسة، وأمر
(1)
آل عمران: (35 - 36).
هذه الأنثى عظيم، وشأنها فخيم، وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع، ورفع شأنه، وعلو منزلته، واللام في الذكر والأنثى للعهد هذا على قراءة الجمهور
…
وأما على قراءة أبي بكر وابن عامر فيكون قوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} من جملة كلامها، ومن تمام تحسرها وتحزنها أي ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادمًا ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك»
(1)
وإنما كانت الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة لما يعتريها من الحيض؛ ولأنها لا تصلح لصحبة الرهبان.
ومن هنا يتبين أن قوله تعالى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} إمّا:
1 -
من كلام الرب -جل وعلا- على قراءة الجمهور لقوله تعالى (وضعتْ) ويكون المعني ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت؛ فتكون الآية مثبتةً لمجرد المغايرة والفرق بين كلٍّ من الذكر والأنثى، ولم تتعرض لتفضيل أحد منهما على الآخر.
2 -
من كلام امرأة عمران؛ على قراءة أبي بكر وابن عامر في قوله تعالى (وضعتُ) فتكون الآية إخبارًا عن قول أم مريم؛ فلم تأت الآية إذن لتقرير واقع، وإثبات حقيقة ولم تقصد أم مريم الانتقاص من شأن الأنثى؛ وإنما قالت ذلك التبين أن وظيفة الذكر مختلفة عن وظيفة الإناث، وما يصلح له لا يصلح لها، لكن تبين لها ولغيرها فيما بعد أنها رزقت بأنثى فاقت الذكور حظًا، وتقبل الله هذه البنت بقبول
(1)
فتح القدير (1/ 335).
وانظر: التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 105)، حجة القراءات لابن زنجلة (161)، تفسير ابن كثير (1/ 360)، الدر المنثور (2/ 182).
حسن، وقامت بالدور الذي تمنته أمها، بل كانت أمًّا لرسول من أولي العزم.
وفي هذا عظة وعبرة لكل أب وأم، فالخيرة فيما يختاره الله، وكم من أنثى نفع الله بها والديها ما لم ينفعهما بذكر.
دَفْعُ الشبهة حول قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} :
جـ- قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}
(1)
.
لقد جاءت هذه الآية في معرض الحديث عن أحكام الطلاق، ثم رسمت الآية طبيعة العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة بإيجاز، ومن خلال كلمات قليلات، بينت الآية مسؤولية كل واحد منهما تجاه الآخر وإلى جانب ذلك للرجال عليهن درجة، ولله الخَلْق والأمر {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن من الواجبات، ولكن تباينت آراء المفسرين في معنى «الدرجة» واختلفت أقوالهم:
فقرر أغلب المفسرين أن «الدرجة» غير مقيدة بالطلاق، وقرروا أنها حكم عام ينظم العلاقة بين الرجل وزوجته
(2)
.
وذهب آخرون إلى أنها ليست مطلقة الدلالة؛ إنما هي مقيدة بحق الرجل في الطلاق والمراجعة مراعاة لسياق الآيات.
ولا شك أن حمل الآية على العموم أولى؛ لا سيما أنه قول جمهور المفسرين، واختلفوا في تفسير «درجة» .
فذهب مجاهد إلى أن معنى «درجة» ما فضل الله به الرجال من الجهاد،
(1)
البقرة: (228).
(2)
ينظر: التفسير الكبير (6/ 73)، تفسير ابن كثير (1/ 492)، الدر المنثور (1/ 66).
وفَضْل ميراثه، وكل ما فضل به عليها.
وقال زيد بن أسلم: درجة أي: الإمارة.
وقال ابن زيد في قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال: طاعة، أي: يطعن الأزواج الرجال، وليس الرجال يطيعونهن.
وعن الشعبي في معنى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال: بما أعطاها من صداقها.
وقال آخرون: تلك الدرجة التي عليها إفضاله عليها، وأداء حقها إليها، وصفحه عن الواجب له عليها أو عن بعضه.
وجاء عن ابن عباس قال: ما أحب أن أستنظف
(1)
جميع حقي عليها، لأن الله تعالى ذكره، يقول:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}
(2)
.
فيكون معنى قول ابن عباس: حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل أن يتحامل على نفسه
(3)
.
(4)
.
(1)
قال ابن منظور: «استنظفت الشيء إذا أخذته كله» لسان العرب (9/ 337) مادة (ن ظ ف).
(2)
انظر ما تقدم في: تفسير الطبري (2/ 454)، الدر المنثور (1/ 661).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 125).
(4)
تفسير الطبري (2/ 454).
وقال ابن عطية بعد أن ساق قول ابن عباس: «وهو قول حسن بارع»
(1)
ومن هنا يتبين أن الدرجة جاءت لصالح المرأة، ومراعاتها؛ فهي تكليف للرجل، وتشريف للمرأة، فهذه الكلمات، جمعت على إيجازها ما لا يؤدي بالتفصيل إلا في سِفْرٍ كبير.
الذي ينبغي أن يترجح في دلالة الآية هو ما يؤيده السياق العامّ الذي جاءت فيه الآية. وهو أن هذه الدرجة للرجل هي درجة القوامة، التي جعلها الله للرجل دون المرأة.
وهي لصالحِ كلٍّ منهما، وهي تكليف للرجل، وتحميل له المسؤولية، وإراحة للمرأة مِنْ عناء هذه المسؤولية.
وهذا التفسير لا يتعارض مع دليلٍ شرعيّ، ولا يتعارض مع أيّ قولٍ صحيح من أقوال المفسرين.
د- وأمّا عن قوله تعالى: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
(2)
فسيأتي بسط الكلام فيها، في مبحث القوامة
(3)
، فراجعه.
(1)
عزاه إليه القرطبي في تفسيره (3/ 125).
(2)
النساء: (34).
(3)
ص (916).
المبحث الثاني: شبهات حول الأحاديث النبوية
وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: شبهة شؤم المرأة.
المطلب الثاني: شبهة نقصان عقل المرأة ودينها.
المطلب الثالث: شبهة حول شهادة المرأة.
المطلب الرابع: شبهة المرأة والشيطان في الحديث النبوي.
المطلب الخامس: شبهة خلق المرأة من ضلع أعوج.
المطلب السادس: شبهة اقتران المرأة بالحمار والكلب الأسود في الحديث النبوي.
المطلب السابع: شبهة الغسل من بول الجارية، والرش من بول الغلام.
المطلب الأول: شبهة شؤم المرأة
ومما يثير عجبك، وتحمد ربك أن عافاك مما ابتلى به أقوامًا، أنْ تَرَى شرذمة تزعم أن الإسلام أعاق المرأة، وأهانها، ووصفها بالشؤم، ويدندن حول هذا أقوام من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويذكرون حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم:«إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار» .
ويسلك ويذهب بعض الجاهلين إلى أحدش موقفين، إمّا التضعيف، أو الدعوة لغربلة الصحاح والسنن، ألا شاهت الوجوه، وأخمدت الألسن، والأمر ولله الحمد والمنة أسهل من ذلك، وإليك الجواب عن الشبهة:
1 -
الحديث أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث ابن عمر، وسهل بن سعد. ولفظ حديث ابن عمر:«إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار» . ولفظ حديث سهل: «إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن» وبوّب عليهما البخاري باب: ما يذكر من شؤم الفرس
(3)
.
قال الحافظ: «قوله (باب: ما يذكر من شؤم الفرس) أي: هل هو على عمومه أو مخصوص ببعض الخيل، وهل هو على ظاهره أو مؤول
…
وقد أشار بإيراد حديث سهل بعد حديث ابن عمر إلى أن الحصر الذي في حديث ابن عمر ليس على ظاهره، وبترجمة الباب الذي بعده وهي «الخيل لثلاثة» إلى أن الشؤم مخصوص ببعض الخيل دون بعض، وكل ذلك من لطيف نظره، ودقيق فكره
(4)
.
2 -
تنوعت أقوال المحدثين في الجمع بين هذا الحديث، وحديث:«لا عدوى ولا طيرة»
(5)
ولعل من أبرزها:
(1)
كتاب الجهاد، باب: ما يذكر من شؤم الفرس (3/ 1049) 2703، وأخرجه في كتاب النكاح، باب: ما يتقى من شؤم المرأة، وقوله تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} التغابن: 14 (5/ 1959) 4805، وحديث سهل رقمه (4807).
(2)
كتاب السلام، باب: الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم (4/ 1746) 2225، ورقم حديث سهل (2226).
(3)
(3/ 1049).
(4)
الفتح 6/ 60.
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب: الطيرة (5/ 2171) 5421، ومسلم في كتاب السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة (4/ 1742)2220.
أ- ليس في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الشؤم في ثلاثة
…
» إباحة الطيرة منها، ولكن معنى الحديث أن هذه الأشياء أكثر ما يتطير به الناس، فمن وقع في نفسه شيء أبيح له أن يتركه، ويستبدل به غيره؛ حسمًا للمادة؛ وسدًا للذريعة؛ لئلا يوافق شيء من ذلك القدر، فيعتقد الطيرة، فيقع في اعتقاد ما ينهى عن اعتقاده، ويطول تعذبه به، ونظيره الأمر بالفرار من المحذوم مع صحة نفي العدوى، وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد
(1)
، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث
(2)
، وأبو داود في السنن
(3)
، والبيهقي في الكبرى
(4)
، والمقدسي في المختارة
(5)
من طرق عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: قال رجل: يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا، وكثير فيها أموالنا، فتحولنا إلى دار أخرى، فقلّ فيها عددنا، وقلّت فيها أموالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ذروها ذميمة» واللفظ لأبي داود.
وحسن إسناده الألباني في الصحيحة
(6)
، وحسنه في صحيح الأدب المفرد
(7)
.
وله شاهد أخرجه معمر في الجامع
(8)
، والبيهقي من طريقه في الكبرى
(9)
، من طريق عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن شداد أن امرأة من الأنصار
(1)
918.
(2)
(1/ 105).
(3)
(4/ 20)3924.
(4)
(8/ 140)16306.
(5)
(4/ 364)1529.
(6)
(2/ 418)790.
(7)
918.
(8)
(10/ 411)19526.
(9)
(8/ 140)163056.
فذكر الحديث بنحوه.
وهو مرسل، رجاله ثقات، وفيه أن الشاكية امرأة، ولعل الشكاية وقعت من أكثر من واحد؛ فشكا الرجل، وشكت المرأة، وسيأتي في رواية سهل أن القوم شكوا.
وله شاهد -أيضًا- أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(1)
، والطبراني في الكبير
(2)
كلاهما من طريق سهل بن حارثة الأنصاري قال: اشتكي قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث.
وهو مرسل، رجاله ثقات، قال الحافظ عن سهل بن حارثة في الإصابة
(3)
: «قال ابن منده: لا تصح صحبته، وعداده في التابعين» .
قال ابن العربي في شرح الحديث: «وإنما أمرهم بالخروج منها؛ لاعتقادهم أن ذلك منها، وليس كما ظنوا، لكن الخالق جل وعلا جعل ذلك وفقًا لظهور قضائه، وأمرهم بالخروج منها؛ لئلا يقع لهم بعد ذلك شيء. فيستمر اعتقادهم
…
وأفاد وصفها بكونها «ذميمة» جواز ذلك، وأن ذكرها بقبيح ما وقع فيها سائغ من غير أن يعتقد أن ذلك كان منها»
(4)
.
ب- ليس في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الشؤم في ثلاثة» إثبات الطيرة، بدليل لفظ حديث سهل «إن كان في شيء ففي المرأة، والفرس، والدار» ولكنه عني أن الشؤم لو كان جائزًا لكان في هذه الأشياء الثلاثة؛ لطول ملازمتها، ولكوها أكثر ما يتطير به الناس.
(1)
(4/ 180)2160.
(2)
(6/ 104)5639.
(3)
(3/ 195)3524.
(4)
انظر: القبس شرح موطأ مالك بن أنس (4/ 352).
جـ- وقيل: شؤم الدار ضيقها وسوء جوارها، وشؤم الفرس ألا يغزى عليه، وشؤم المرأة سوء خلقها، فيحمل الشؤم على قلة الموافقة وسوء الطباع، وهذا كالحديث الذي أخرجه الطيالسي في المسند
(1)
، وأحمد في المسند
(2)
، والبزار كما في كشف الأستار
(3)
، وابن حبان في صحيحه
(4)
، والحاكم في المستدرك
(5)
، والمقدسي في المختارة
(6)
من طرق عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء» واللفظ لابن حبان، وإسناد ابن حبان صحيح على شرط البخاري.
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده الضياء في المختارة.
وذكر في الحديث معان أخر
(7)
، أوردت أقواها.
ومن هنا يتبين أن شبهتهم داحضة، فالإسلام لا يثبت الشؤم في المرأة، وإنما يحمي المرأة من أن يتشاءم بها، ولنفي الطيرة والتحذير منها، يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها
(1)
(2)
(3/ 55)1445.
(3)
(4)
(9/ 340)4032.
(5)
(2/ 157)2640.
(6)
(3/ 240)1048.
(7)
ينظر: تأويل مختلف الحديث (102 - 109)، شرح مشكل الآثار (1/ 218)، معالم السنن (4/ 218)، التمهيد (4/ 238)، المنتقى (9/ 452)، القبس (4/ 352)، إكمال المعلم (7/ 148)، المفهم (5/ 629)، شرح النووي (14/ 316)، بهجة النفوس (4/ 132)، شرح الكرماني (6/ 139)، الفتح (6/ 76)، عمدة القارئ (14/ 149)، شرح الزرقاني (4/ 486).
لو كانت حقًا لكانت في هذه الأشياء الثلاثة: المرأة والفرس والدار، ولمزيد حماية للمرأة، وصيانة لمشاعرها من الخدش، ولسمعها من الجرح، فإن الرجل قد تتغير بعض أوضاعه عند ارتباطه بالمرأة، ويرى أن أحواله تسوء، وأموره تنتكس، ففي هذه الحال يشرع له مفارقتها؛ لا لأجل شؤمها، ولكن حتى لا تسمع ما يؤذيها من أن طالعها كان سببًا، وقدومها كان شؤمًا، وقد حمل بعض العلماء الحديث على أن شؤم المرأة سوء خلقها، كما أن من سعادة المرء المرأة الصالحة.
المطلب الثاني: شبهة نقصان عقل المرأة ودينها
قَلّ أن تجد رجلًا أو امرأة إلا وهو يحفظ هذه العبارة «المرأة ناقصة عقل ودين» ويلوي عنق النص ليطعن به النساء، ويصم الإسلام بظلم المرأة والتقليل من شأنها، وحاله يصدق عليه قول القائل:
وكم من عائب قولًا صحيحًا
…
وآفته من الفهم السقيم
وتعرض الإسلام لحملات عدائية شتى من قبل أعدائه، أو أذناب أعدائه، من حيث انتقاصه لعقل المرأة ودينها.
و لمناقشة هذا القول، أورد ما يأتي:
1 -
أخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث أبي سعيد الخدري خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلي، فمر على النساء، فقال:«يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل
(1)
كتاب الحيض، باب: ترك الحائض الصوم (1/ 116)298.
(2)
كتاب الإيمان، باب: نقصان الإيمان بنقص الطاعات
…
(1/ 86)79.
الحازم من إحداكن!! قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل» قلن: بلى، قال:«فذلك نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟» قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها. واللفظ للبخاري. وفي لفظ مسلم: «فقالت امرأة منهن جزلة
(1)
: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟».
فالحديث ثابت رواه الشيخان، وفهم الحديث لا يمكن عزله عن آية الدين التي تتضمن نصاب الشهادة، وذلك في قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
(2)
.
والفهم الخاطئ والتناقض في آن واحد يوقع هؤلاء المتعلمين في الأغلوطات، وكثير من الورطات، ويستنتج هؤلاء من لفظ الحديث الذي بتروه أن نقص عقل المرأة نقص في القدرات العقلية، وأن قدرتها على التفكير أقل م ن ق درة الرجل، وأنها تختلف معه في تركيبة العقل فهي أقل منه وأنقص، ولو أهم تدبروا الحديث لوجدوا أن هذا الفهم لا يمكن أن يصح، وأنه يتناقض مع واقع الحديث نفسه لما يلي:
أ- جاء في لفظ مسلم قيام امرأة منهن جَزْلة لتناقش رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجزلة كما قال العلماء ذات العقل الوافر، والرأي السديد، فكيف تكون هذه المرأة ناقصة عقل، وذات عقل ورأي في آن واحد!!.
(1)
معنى جزلة: بفتح الجيم، وإسكان الزاي- أي: ذات عقل ورأي. قال ابن دريد: الجزالة العقل والوقار.
ينظر: جمهرة اللغة (2/ 102)، مشارق الأنوار (1/ 148) مادة (ج ز ل)، شرح النووي (2/ 66).
(2)
البقرة: 282.
ب- الحديث سيق في مدح النساء وقدرتهن على التأثير، فلو كان نقصًا لكان الرجل به أحق، وبوصفه أحدر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجب من إذهاب المرأة للب الرجل الحازم، وتأمل التعبير النبوي:«أذهب للب الرجل الحازم» إذ إن معين أذهب أي: أشد إذهابًا. واللب أخص من العقل وهو الخالص منه، والحازم الضابط لأمره، وهذه مبالغة في وصفهن بذلك؛ لأن الضابط لأمره إذا كان ينقاد لهن فغير الضابط أولى
(1)
.
(2)
.
فإن كانت ناقصة العقل تذهب لب حازم الرجال، أتراه كمالًا في حقه أم نقصًا؟! ألا ترى في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى قدرة المرأة، ونقص الرجل الذي يذهب بلبه على الرغم من ذكائه؟!!.
2 -
يلزم القائل بظاهر هذا الحديث أن يكون أتم عقلًا ودينًا من مريم، وأم موسى، وعائشة، وفاطمة، والقول بغير هذا يعني أن من الرجال من هو أنقص دينًا وعقلًا من النساء، ويعرف بهذا أن هذا النقصان لا يوجب نقصان الفضل، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته أفضل دينًا ومنزلة عند الله من كل تابعي، ومن كل رجل يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة.
3 -
الإسلام يَعُدّ المرأة والرجل سواء أمام التكاليف الشرعية من حيث الأداء والعقوبة، فلو كانت المرأة ناقصة عقل، كيف يكون أداؤها وعقوبتها بالمستوى نفسه للرجل، هذا ينافي العدل الذي ينادي به الإسلام، فناقص العقل لا يكلف بمثل ما
(1)
ينظر: الفتح (1/ 405).
(2)
عمدة القارئ (3/ 272).
يكلف به من هو أكمل منه عقلًا، ولا يحاسب بالقدر نفسه الذي يحاسب به، على فرض أن الرجل أكمل عقلًا من المرأة.
4 -
إن نقصان العقل والدين فسّره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث فيقصر عليه، ولا يُتعدَّى لغيره، وأعلى مراتب تفسير الحديث: الحديث نفسه، وقد سلمن الصحابيات ما نسب إليهن من الأمور الثلاثة: الإكثار، والكفران، والإذهاب، ثم استشكلن كونهن ناقصات عقل ودين، وما ألطف جوابه صلى الله عليه وسلم حين بيّن نقصان العقل بقوله:«أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟»
(1)
(2)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: «قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
(3)
فيه دليل على استشهاد امرأتين مكان رجل، إنما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضَلَّتْ، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:«وأما نقصان عقلهن فشهادة امرأتين بشهادة رجل» فبين أن شطر شهادتهن إنما هو لضعف العقل لا لضعف الدين، فعلم بذلك أن عدل النساء
(1)
قال الحافظ: «وحكى ابن التين عن بعضهم أنه حمل العقل هنا على الدية، وفيه بعد. قلت: بل سياق الكلام يأباه» الفتح (1/ 406) وأوردته في الهامش حتى يتنبه له.
(2)
عمدة القارئ (3/ 272).
(3)
البقرة: 282.
بمنزلة عدل الرجال، وإنما عقلها ينقص عنه، فما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة، لم تكن فيه على نصف الرجل، وما تقبل فيه شهادتهن منفردات إنما هي أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأنها من غير توقف على عقل كالولادة والاستهلال والارتضاع والعيوب تحت الثياب؛ فإن مثل هذا لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى إعمال عقل كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره فإن هذه معان معقولة، ويطول العهد ما في الجملة»
(1)
.
وعلى هذا فإن على مورِد الدليل أن يوضحه ويقصره على أن نقصان عقل المرأة كون شهادتها على النصف من شهادة الرجل، ولا نعمم ما خصصه الشرع، يقول الإمام المازري:«قوله صلى الله عليه وسلم: «أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل ش هادة رجل» تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على ما وراءه، وهو ما نبه الله عليه في كتابه بقوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أي: إنهن قليلات الضبط
(2)
».
فمن فهم نقصان العقل على الإطلاق؛ لم يأخذ الحديث بأكمله، ولم يربطه بما يفسره من كتاب الله، فالحديث يعلل نقصان العقل عند النساء بكون شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، والآية تعلل ذلك بالضلال والتذكير، ولم تصرح الآية بأن النساء ناقصات عقل، ولا أن الحاجة إلى نصاب الشهادة هذا لأجل أن تفكير المرأة أقل من تفكير الرجل.
يقول عزيز أبو خلف: «
…
ولم تستخدم كلمة العقل في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة لتشير إلى عضو التفكير مطلقًا، كما لم ترد كلمة العقل على المصدرية
(1)
الطرق الحكمية (221). وسيأتي مزيد لمبحث شهادة المرأة ص (347).
(2)
المعلم (1/ 85).
في القرآن الكريم، وإنما استخدمت هذه الكلمة بصيغة الجمع: يعقلون، وتعقلون، ونعقل، وعقلوه، ويعقلها وذلك في تسعة وأربعين موضعًا، ولم ترد بصيغة الماضي إلا مرة واحدة، ووردت في باقي المواضع بصيغة الحاضر أو المستقبل.
والمعنى المستفاد من هذه الصيغ غالبًا هو لفت الانتباه للتفكير م ن أجل إدراك العاقبة، واتخاذ خطوة نحو العمل وهو بذلك يكون في معناه أوسع من بمجرد التفكير، فنحن إذا فكرنا ننتج الفكرة، أما إذا عقلنا فندرك ما وراء هذه الفكرة من أبعاد متعلقة بالتصديق والعمل.
فالسمة الأساسية للعقل وفق اصطلاح الكتاب والسنة هي إدراك العاقبة المنشودة، والعمل لها، والثبات على ذلك.
وقد لخص ابن تيمية رحمه الله المعنى اللغوي والشرعي للعقل أحسن تلخيص، فقال في الفتاوى:«العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلًا يراد به القوة التي يعقل بها، وعلوم وأعمال تحصل بذلك، وهو علم يعمل بموجبه، فلا يسمى عاقلًا من عرف الشر فطلبه، والخير فتركه»
(1)
.
أما الأحاديث المتعلقة بالعقل فلم يصح منها شيء، فقد قال ابن حبان البستي:«لست أحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا صحيحًا في العقل»
(2)
وقال ابن تيمية: «أما حديث العقل فهو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث ليس في شيء من كتب الإسلام المعتمدة
(3)
»
…
ولا تدل معطيات العلم المتعلقة بأبحاث الدماغ والتفكير والتعلم على أي اختلاف جوهري بين المرأة والرجل من حيث التفكير
(1)
مجموع الفتاوى (1/ 244).
(2)
عزاه له شيخ الإسلام في الرد على المنطقيين (275).
(3)
الرد على المنطقيين (275).
والتعلم، كما لا تدل على اختلاف في قدرات الحواس والذكاء، ولا في تركيب الخلايا العصبية المكونة للدماغ، ولا في طرق اكتساب المعرفة، فلم تظهر الأبحاث المتعلقة بالدماغ فروقًا جوهرية إلا في حدود ضيقة لا تتجاوز ربع انحراف معياري واحد. فقد أكدت كثير من الأبحاث تماثل نصفي الدماغ عند النساء بشكل أكبر منه عند الرجال، لكن لم يتأكد أي شيء يدل على اختلاف في التفكير بناء على ذلك، معنى هذا أن المرأة والرجل سواء بالفطرة من حيث عملية التفكير، ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا في الفروق الفردية، أي: في مستوى الذكاء ودرجته، وليس في نوعيته
…
وقد أكدت كثير من الأبحاث الطبية أن التغيرات الجسدية التي تمر بها المرأة (أثناء الحمل والولادة والطمث) تؤثر في نفسيتها فتعرضها للإصابة بالإحباط، وقلة التركيز، والكسل، وتأثر الذاكرة قصيرة المدى عندها
…
ثم قال: ماذا تستنتج من كل ذلك؟.
ليس في الآية ولا في الحديث ما يدل على أن قدرات التفكير عند المرأة أقل من قدرات الرجل، ولا أن الرجل يفكر بالنيابة عن المرأة، وهذا عام في باقي نصوص الكتاب والسنة بدليل الخطاب الإيماني العام لكل من الرجل والمرأة، مما يؤكد الوحدة الإنسانية في العقل، والغرائز، والحاجات العضوية عند كل منهما، هذا بالإضافة إلى العديد من النصوص التي تدلل على قدرة المرأة على التفكير والتصرف في أحلك المواقف، وهذا كثير في كل من الكتاب والسنة، وأما النصوص التي تجعل للرجل قوامة وميزات أخرى، فهي أحكام شرعية تتناسب مع طبيعة المجتمع المسلم وليس لها علاقة بالقدرات العقلية.
يشير الحديث إلى أن النساء ناقصات عقل، لكنه يعلل ذلك بكون شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وفي هذا إحالة إلى آية الدين، والتي تعلل الحاجة
إلى امرأتين بالضلال والتذكير، والضلال هو العدول عن الطريق المستقيم، ومنه النسيان، وقد يؤدي إليه، والتذكير فيه لفت الانتباه، ويتأثر بالحالة النفسية، وقد تحجبه كليا عن رؤية الحق والواقع، فالذي لا يرى إلا جانبًا معينًا من الواقع ولا يرى غيره، يكون تفكيره ناقصا سواء كان رجلًا أو امرأة.
الكلام في كل من الآية والحديث هو عن أحكام إسلامية في مجتمع مسلم، والمرأة بحكم طبيعتها وعيشها في المجتمع الإسلامي -خصوصًا- تكون خبرها أقل من الرجل إجمالًا من حيث المعلومات وتعلقها بالواقع المعين، ولا سيما في المجالات التي يقل وجودها فيه؛ لذلك كان لا بد من الاستيثاق في الشهادة ليرتاح صاحب المعاملة المالية خصوصًا من حيث ضمان حقه.
إذا ما أخذنا في الحسبان كل هذه الحقائق والوقائع، ثم قابلنا بينها وبين واقع العقل والتفكير وواقع الآية والحديث، فإننا نخلص إلى أن نقص العقل ليس هو في قدرات التفكير، ولا في تركيبة الدماغ، وإنما في العوامل المؤثرة في التفكير والعقل، وهو ينحصر على وجه التحديد في الخبرة ومنها المعلومات، وفي موانع التفكير؛ فإن كون المرأة المسلمة بعيدة عن واقع المعاملات المالية، فلا بد أن خبرتها أقل من الرجال المنخرطين في هذه المعاملات كما أن المرأة تمر بمتغيرات جسمانية تؤثر على حالتها النفسية
…
بل هناك آية قرآنية تنفي العقل عن كبراء القوم وعظمائهم من الكفار والمنافقين وأهل الكتاب،
(1)
وهذا يعني أن الأمر طبعي، وليس فيه أن قدرات
المرأة على التفكير أقل من قدرات الرجل، ولا أنها ناقصة عقل بالمفهوم الشائع»
(1)
.
• وأمّا معنى «ناقصات دين» ففسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه حيث قال: «أليس إذا حاضَتْ لم تصل ولم تَصُم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها» .
يقول النووي: «وأما وصفه صلى الله عليه وسلم بنقصان الدين لتركهن الصلاة والصوم في زمن الحيض، فقد يستشكل معناه، وليس مشكل!! بل هو ظاهر؛ فإن الدين والإيمان والإسلام مشتركة في معنى واحد كما قدمناه في مواضع، وقدمنا أيضًا في مواضع أن الطاعات تسمى إيمانًا ودينًا، وإذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نقصت عبادته نقص دينه، ثم نقص الدين قد يكون على وجه يأثم به، كمن ترك الصلاة أو الصوم أو غيرهما من العبادات الواجبة عليه بلا عذر، وقد يكون على وجه لا إثم فيه كمن ترك الجمعة أو الغزو أو غير ذلك مما لا يجب عليه لعذر، وقد يكون على وجه هو مكلف به كترك الحائض الصلاة والصوم.
فإن قيل: فإن كانت معذورة فهل تثاب على الصلاة في زمن الحيض وإن كانت لا تقضيها كما يثاب المريض والمسافر، ويكتب له في مرضه وسفره مثل نوافل الصلوات التي كان يفعلها في صحته وحضره.
فالجواب: أن ظاهر هذا الحديث أنها لا تثاب، والفرق أن المريض والمسافر كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته لها، والحائض ليست كذلك بل نيتها ترك الصلاة في زمن الحيض، بل يحرم عليها نية الصلاة في زمن الحيض فنظيرها مسافر أو مريض كان يصلي النافلة في وقت، ويترك في وقت غير ناو الدوام عليها، فهذا لا
(1)
المركز العربي للمصادر والمعلومات حول العنف ضد المرأة.
يكتب له في سفره ومرضه في الزمن الذي لم يكن يتنفل فيه، والله أعلم»
(1)
.
وتعقبه الحافظ فقال: «وعندي في كون هذا الفرق مستلزمًا لكونها لا تثاب وقفة»
(2)
.
قلت: وكلام الحافظ وجيه؛ لأن قياس ترك الحائض الصلاة على المريض والمسافر قياس مع الفارق؛ لأن المرأة مخاطبة من الشرع بتحريم الصلاة والصيام زمن الحيض بخلاف المسافر والمريض، وترك الحرام يثاب عليه العبد إجماعًا عند العلماء، ففي القول بعدم ثبوت ثوابها تفريق بين المتماثلات، والله تعالى أعلم.
ومن هنا يعلم أن نقص الدين ليس منحصرًا فيما يحصل به الإثم بل في أعم من ذلك؛ لأنه أمر نسبي، فالكامل مثلًا ناقص عن الأكمل، ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيضة بل تؤجر لالتزامها النهي، لكنها ناقصة عن المصلي.
• قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في معنى الحديث: «
…
لكن قد تفوقه (أي: المرأة) في بعض الأحيان في أشياء كثيرة، فكم من امرأة فاقت كثيرًا من الرجال في عقلها ودينها وضبطها.
وقد تكثر منها الأعمال الصالحات فتربو على كثير من الرجال في علمها الصالح، وفي تقواها الله عز وجل وفي منزلتها في الآخرة، وقد تكون لها عناية في بعض الأمور ضبطًا كثيرًا أكثر من ضبط بعض الرجال في كثير من المسائل التي تعنى بها، وتجتهد في حفظها وضبطها، فتكون مرجعًا في التاريخ والإسلام وفي أمور كثيرة، وهذا واضح لمن تأمل أحوال النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك، وبهذا يعلم أن هذا النقص لا يمنع من الاعتماد عليها في الرواية، وهكذا في الشهادة إذا
(1)
شرح صحيح مسلم (2/ 68).
(2)
الفتح (1/ 406).
انجبرت بامرأة أخرى، ولا يمنع أيضًا تقواها لله، وكونها من خيرة إماء الله، إذا استقامت في دينها، فلا ينبغي للمؤمن أن يرميها بالنقص في كل شيء، وضعف الدين في كل شيء، وإنما هو ضعف خاص في دينها، وضعف في عقلها فيما يتعلق بضبط الشهادة ونحو ذلك، فينبغي إنصافها، وحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على خير المحامل وأحسنه»
(1)
.
ألا فليتق الله من يقتطع الأدلة؛ وليوردها كاملة وفي مواطن الاستشهاد وليحذر من التحريف أو التعطيل؛ كيلا ينطبق عليه قول الرب جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}
(2)
وليسأل إذ لم يعلم؛ فإن شفاء العي السؤال.
كما أهمس في أذن أختي المسلمة ألا تكون بوقًا لكل ناعق، ولا تكون إمعة إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أساءت، بل لا بد أن تتميز بما تدين الله به، وما شرفها به، ولتعلمي أن الله ضرب المثل في الإيمان بالله في كتابه بامرأة فرعون ومريم بنت عمران، قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}
(3)
.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ضاق عليه أمره في صلح الحديبية، وامتنع الصحابة عن حلق رؤوسهم، ونحر هديهم، استشار أم سلمة فأشارت عليه بالرأي السديد فقالت: «يا رسول الله، لا تلمهم فإن الناس قد دخلهم أمر عظيم مما رأوك حملت
(1)
مجموع فتاوى ابن باز (24/ 101).
(2)
آل عمران: (7).
(3)
التحريم: (11).
على نفسك في الصلح، فاخرج يا رسول الله لا تكلم أحدًا من الناس حتى تأتي هديك فتنحر، وتحل، فإن الناس إذا رأوك فعلت ذلك فعلوا كالذي فعلت»
(1)
ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أشارت عليه به أم سلمة فكان ما قالته حقًا؛ أتراها بعد ذلك تتهم بنقصان العقل مطلقًا؟!.
المطلب الثالث: شبهة حول شهادة المرأة
يثير أعداء الأمة هذه الشبهة، ويدندنون حولها ويزمرون؛ ويرون الإسلام انتقص النساء حقوقهن، ويستدلون بقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
(2)
.
وإليك تفنيد هذه الشبهة:
أولًا: الشهادة مصدر شهد جمع لإرادة الأنواع، قال الجوهري:«الشهادة خبر قاطع، والشاهد حامل الشهادة، ومؤديها؛ لأنه مشاهد لما غاب عن غيره»
(3)
.
ثانيًا: الشهادة تكليف لا تشريف:
الشهادة في المفهوم الإسلامي ليست حقًا يتزاحم عليه الناس؛ وإنما هي عبء ثقيل يتهرب الشاهد منه؛ لأن الشاهد يشهد، وغيره يقبض؛ لذلك كان متوقعًا
(1)
سيأتي تخريجه ص (557).
(2)
البقرة: (282).
(3)
الصحاح (2/ 68) مادة (ش هـ د). وانظر: المفردات (268)، اللسان (3/ 239) مادة (ش هـ د)، التعاريف للمناوي (439).
تقرب الناس من الشهادة، فنهاهم الله عن ذلك فقال:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
(1)
وفي الله سبحانه عن كتمانها، وتوعد الله كاتم الشهادة بالإثم لما في ذلك من تضييع حقوق العباد فقال:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
(2)
والشهادة تتطلب في جميع أحوالها من الشاهد بذل الجهد في مغالبة هواه وميله، وفي تغلبه على أحاسيسه ومشاعره، وفي ذلك يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}
(3)
(4)
وهذا يدل على أن تحمل الشهادة عبء على الشاهد وليست له، ومن أعفي من هذه المسؤولية فقد خُفِف عنه، وقد نص القرآن الكريم على العديد من الرخص، وفقًا لمقتضيات الحال كالرخصة في الفطر للمسافر، والقصر والجمع، ولم يعد هذا التخفيف إهانة بل نعمة تستوجب شكر المنعم.
فالحمد لله الذي رفع أعباء الشهادة وتبعاتها عنّا معشر النساء؛ ولهذا السبب لم أورد الشهادة حقًا للمرأة؛ إذ إنها تكليف لا تشريف.
ثالثًا: انطلاقًا من مفهوم الشهادة في الإسلام،
وحرصًا على أدائها بصدق
(1)
البقرة: (282).
(2)
البقرة: (283).
(3)
النساء: (135).
(4)
المائدة: (8).
وأمانة، عزز الإسلام الشهادة مطلقًا، فعزز شهادة الرجل بشهادة رجل آخر، قال تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}
(1)
ومع ذلك لم يعتبر أحد أن هذا مسيس بكرامة الرجل، وعند عدم توافر الشاهدين من الرجال، والاحتياج إلى شهادة المرأة، عززت شهادة الرجل بامرأتين، والآية عللت اشتراط المرأتين بقوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .
يقول ابن القيم: «قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار إحدهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة وهو النسيان وعدم الضبط
…
وما تقبل فيه شهادتهن منفردات إنما هي أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها من غير توقف على عقل كالولادة والاستهلال والارتضاع والعيوب تحت الثياب
(2)
؛ فإن مثل هذا لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى إعمال عقل كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره، فإن هذه معانٍ معقولة، ويطول العهد ما في الجملة»
(3)
.
من أسباب ضلال المرأة عند شهادتها:
1 -
إن رسالة المرأة في حياتها اليومية تستلزم بقاءها في البيت في غالب الأوقات، وبخاصة أوقات البيع والشراء، ووجودها حيث تحرى المعاملات المالية بين الناس لا يقع إلا نادرًا، وما كان كذلك فليس من شأنها أن تحرص على تذكره
(1)
البقرة: (282).
(2)
سيأتي مزيد بيان له ص (668).
(3)
الطرق الحكمية (221).
حين مشاهدته؛ لأنها غالبًا ما تمر عابرة لا تلقي له بالًا، فإذا جاءت تشهد كان احتمال نسيانها واردًا، فإذا شهدت معها أخرى زال احتمال النسيان.
2 -
آية الدين ترشد إلى أكمل وجوه الاستيثاق، ومن المعلوم أن المرأة في الغالب لا تشغل بالها بالمعاملات المالية؛ فما لم تعتده أو تشتغل به فإن احتمال النسيان في حقه وارد، بخلاف الأمور التي تعنيها من شؤون النساء والمنزل؛ ولذا فإن الواحدة منا معاشر النساء تفوق آلاف الرجال في هذا المجال.
3 -
إن النسيان قد ينشأ من تركيبة المرأة العضوية البيولوجية التي تؤثر في نفسيتها، مما يجعلها سريعة الاستجابة الوجدانية الانفعالية، وهذا تركيب مناسب لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية، لا ترجع فيها إلى التفكير البطيء، وذلك من فضل الله تعالى على المرأة والطفل، والشهادة على التعاقد في حاجة إلى تحرد كبير من الانفعال ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء، ووجود امرأتين فيه ضمان أن تذكر إحداهما الأخرى.
4 -
وأرجع سبب نسيان المرأة د. محمد بلتاجي إلى طبيعتها من حيث انشغالها أحيانًا بعض جزئيات الموضوع المشاهد عن النظرة الشمولية إليه، وعن علاقات هذه الجزئيات بعضها ببعض وأيضًا لما يعتريها في حالات معينة (كالحيض والحمل وعقب الولادة) لا ينكرها إلا جاهل أو محادل بالباطل من عدم التوازن الهرموني، أو اضطراب المزاج الخاص مما يؤثر قطعًا على تحمل الشهادة وأدائها
(1)
.
5 -
يقول الزنداني: «
…
وقد ظهر اليوم السر في ذلك، والحكمة من هذا التشريع، عندما عرف أن للرجل مركزًا في مخه للكلام في أحد الفصين، ومركزًا
(1)
مكانة المرأة في القرآن والسنة الصحيحة (482 - 483).
للذاكرة في الفص الآخر
…
فإذا اشتغل مركز الكلام عند الإدلاء بالشهادة، فلا يؤثر على المركز المتخصص بالذاكرة، لكن المرأة لها مركزان في فصي المخ مختلطان يعملان لتوجيه الكلام وللذاكرة، فإذا تكلمت المرأة اشتغل المركزان بالكلام، وقد يؤثر ذلك على الجزء من الذاكرة التي فيها المعلومة المطلوبة للشهادة. ونرى الإشارة إلى ذلك في قوله:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}
(1)
.
وبالشهادة تستحل الدماء والأنفس والأعراض والأموال، فهل تعجب أن أمر الإسلام بالاستيثاق فيها؟!.
أحكام الشهادة:
أجزم أن من يثير هذه الشبهة، قليل فقه في الدين، وجاهل بأحكام الشهادات في الشرع الإسلامي؛ وإليك بيانها على الراجح من أقوال أهل العلم:
1 -
شهادة أربعة رجال عدول أحرار مسلمين على رؤية الزيني بالاتفاق لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}
(2)
قال في المغني: «أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنى أقل من أربعة شهود
…
وجمهور العلماء على أنه يشترط أن يكونوا رجالًا أحرارًا فلا تقبل شهادة النساء ولا العبيد، وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وشذ أبو ثور»
(3)
.
2 -
ما يطلع عليه الرجال، لا يقبل فيه أقل من رجلين، وهذا القسم نوعان:
أ- العقوبات وهي الحدود والقصاص، يقول ابن قدامة في المغني: «الحدود
(1)
المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام (73 - 74).
(2)
النور: (13).
(3)
(10/ 155)، وانظر: الأم (7/ 44)، الكافي لابن عبد البر (462)، البحر الرائق (7/ 55).
والقصاص لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، إلا ما روي عن عطاء، وحماد أنما قالا: يقبل فيه رجل وامرأتان قياسًا على الشهادة في الأموال. ولنا أن هذا مما يحتاط لدرئه وإسقاطه؛ ولهذا يندرئ بالشبهات، ولا تدعو الحاجة إلى إثباته، وفي شهادة النساء شبهة بدليل قوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، وأنه لا تقبل شهادتهن وإن كثرن ما لم يكن معهن رجل، فوجب ألّا تقبل شهادتهن فيه، ولا يصح قياس هذا على المال لما ذكرنا من الفرق، وهذا الذي ذكرنا قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وحماد، والزهري وربيعة، ومالك، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي»
(1)
.
تنبيه: وإن قلت لم لا تقبل شهادة المرأة في الجنايات؟
يقول الشيخ مصطفى السباعي معللًا ذلك: «لا تقبل شهادة النساء في الجنايات لأنها غالبا ما تكون قائمة على شؤون بيتها، ولا يتيسر لها أن تحضر مجالس الخصومات التي تنتهي بجرائم القتل وما أشبهها، وإذا حضرها قلّ أن تستطيع البقاء إلى أن تشهد جريمة القتل بعينها، وتظل رابطة الجأش بل الغالب أما إذا لم تستطع الفرار تلك الساعة، كان منها أن تغمض عينيها وتولول وتصرخ، وقد يغمى عليها، وذلك يرجع لما يركب في طبيعتها فهي شديدة العاطفة، سريعة الانفعال، رقيقة الوجدان، لكي تؤدي وظيفتها الأساسية على أكمل وجه -وظيفة الأمومة- فكيف يمكن لها أن تتمكن من أداء الشهادة، فتصف الجريمة، والمجرمين، وأداة الجريمة، وكيفية وقوعها، ومن المسلَّم به أن الحدود تدرأ بالشبهات، وشهادتها في
(1)
(10/ 156)، وانظر: روضة الطالبين (11/ 252)، الشرح الكبير (4/ 184)، البحر الرائق (7/ 55).
القتل وأشباهه تحيط بها الشبهة، شبهة عدم إمكان تثبتها من وصف الجريمة؛ لحالتها النفسية عند وقوعها»
(1)
.
ب- ما ليس بعقوبة كالنكاح والرجعة والطلاق، اختلف قول الفقهاء فيه، فذهب النخعي والزهري
(2)
، ومالك
(3)
، والشافعي
(4)
، وأحمد
(5)
إلى أنه لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين، قال ابن شهاب: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ومن الخليفتين من بعده أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح ولا في الطلاق ولا في الحدود
(6)
.
وذهب جابر بن زيد، وإياس بن معاوية، والشعبي، والثوري، وإسحاق
(7)
وأصحاب الرأي
(8)
، ورجحه ابن القيم
(9)
أنه تقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، واحتجوا بأنه لا يسقط بالشبهة فيثبت برجل وامرأتين كالمال.
قال ابن قدامة: «ولنا أنه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال، فلم يكن للنساء في شهادته مدخل كالحدود والقصاص، وما ذكروه لا
(1)
المرأة بين الفقه والقانون (32).
(2)
عزاه لهما ابن قدامة في المغني (10/ 157).
(3)
المدونة الكبرى (13/ 162).
(4)
الأم (7/ 49).
(5)
ينظر: المغني (10/ 157).
(6)
أخرجه عنه ابن أبي شيبة في المصنف (4/ 329) 20708، وعزاه له مالك في المدونة (13/ 162) لكنه مرسل.
(7)
عزاه لمن تقدم ابن قدامة في المغني (10/ 158).
(8)
ينظر: البحر الرائق (7/ 60)، حاشية ابن عابدين (7/ 75).
(9)
الطرق الحكمية (227).
يصح؛ فإن الشبهة لا مدخل لها في النكاح»
(1)
.
3 -
المعاملات المالية من بيع، ووقف، وإجارة، وهبة، وصلح، ومساقاة، ومضاربة، وهدية، ودين، لا يقبل فيها أقل من رجلين أو رجل وامرأتين، ونقل ابن قدامة
(2)
الإجماع على ذلك؛ لآية الدين في سورة البقرة.
4 -
وهناك مسائل لا تسمع فيها شهادة الرجل، وتسمع فيها شهادة المرأة، وهي القضايا التي تختص بها النساء، قال ابن قدامة: «قال القاضي: والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء: الولادة، والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص، وانقضاء العدة، ثم اختلفوا في عدد الشهود من النساء على قولين:
الأول: تجزىْ شهادة امرأة عدل فيما مضى، وإلى هذا ذهب طاووس
(3)
، وأبو يوسف، ومحمد
(4)
، والإمام أحمد في رواية عنه
(5)
.
الثاني: لا تقبل فيه إلا امرأتان، وهذا قول الحكم، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإليه ذهب الثوري
(6)
، ومالك
(7)
، وقالوا: لأن كل جنس يثبت به الحق يكفي فيه اثنان كالرجال. ونقل ابن بطال
(8)
الإجماع على أن شهادة المرأة الواحدة لا تحوز في الرضاع، فأبعد رحمه الله؛ لأن ما مضى ينقضه.
(1)
المغني (10/ 157).
(2)
عزاه له ابن قدامة في المغني (10/ 158).
(3)
عزاه له ابن قدامة في المغني (10/ 158).
(4)
ينظر: فتاوى السعدي (2/ 781).
(5)
ينظر: المغني (10/ 158)، النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر (2/ 328).
(6)
عزاه له ابن قدامة في المغني (10/ 158).
(7)
ينظر: الكافي (469)، التاج والإكليل (6/ 182).
(8)
شرح ابن بطال (4/ 48).
والراجح القول الأول؛ ودليله ما أخرجه البخاري في صحيحه
(1)
من طريق عبد الله بن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فأرسل إلى آل أبي إهاب يسألهم، فقالوا: ما علمنا أرضعت صاحبتنا. فركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف وقد قيل؟» ففارقها ونكحت زوجًا غيره.
وأخرجه الترمذي
(2)
واختلفوا في التفريق بين الزوجين لشهادة المرضعة على أقوال عدة
(3)
، ومن لم يقبل شهادة المرضعة وحدها، حمل النهي في حديث عقبة (فنهاه عنها)
(4)
على التنزيه، وحمل الأمر في قوله (دعها عنك)
(5)
على الإرشاد.
ومن قَبِل شهادة المرضعة الواحدة حمله على ظاهره، يقول الصنعاني: «قالوا: وهذا الحديث محمول على الاستحباب والتحرز عن مظان الاشتباه. وأجيب بأن هذا خلاف الظاهر، ولاسيما قد تكرر سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات، وأجابه بقوله
(1)
كتاب الشهادات: باب: إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، فقال آخرون: ما علمنا ذلك، يحكم بقول من شهد (2/ 934)2497.
(2)
السنن (3/ 457).
(3)
انظر الأقوال ومناقشتها في: الفتح (5/ 268)، عمدة القارئ (13/ 224).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشهادات، باب: شهادة الإماء والعبيد (2/ 941)2516.
(5)
كتاب الشهادات، باب: شهادة المرضعة (2/ 941)2517.
«كيف وقد قيل؟» وفي بعض ألفاظه «دعها» وفي رواية الدارقطني «لا خير لك فيها» ولو كان من باب الاحتياط لأمره بالطلاق، مع أنه في جميع الروايات لم يذكر الطلاق، فيكون هذا الحكم مخصوصًا من عموم الشهادة المعتبر فيها العدد، وقد اعتبرتم ذلك في عورات النساء، فقلتم يكتفي بشهادة امرأة واحدة، والعلة عندهم فيه أنه قلما يطلع الرجال على ذلك فالضرورة داعية إلى اعتباره فكذا هنا»
(1)
.
5 -
المرأة تساوي الرجل في شهادات اللعان بنص القرآن
(2)
.
• أيّها القارئ الفاضل أعتقد أن أي منصف يقرأ ما تقدم يرى أن النسب الذي هو إحدى الضرورات الخمس التي جاء الإسلام للحفاظ عليها، يثبت بشهادة امرأة واحدة، وكذلك الفراق بين الزوجين يثبت بشهادة المرضعة؛ فأيّهما أعظم شأنًا أن تشهد على حفنة من دريهمات، أو تشهد على قضايا خطيرة تحدد مصير أقوام، إن الشهادة في الإسلام يراعى فيها جانب المران والخبرة؛ لأنهما يؤثران في الضبط وعدم النسيان، ولذا وزع الإسلام الأدوار، وبين اختصاص كل جنس بما يحسن، ولله الحمد والمنة.
المطلب الرابع: شبهة حول ورود المرأة والشيطان في الحديث النبوي
يشنع بعض الناس على الحديث النبوي؛ بأنه قَرَن المرأة بالشيطان في بعض الأحاديث، ويرون أن الفتنة تتأتى بالمرأة وتحصل بها، ويثيرون الأدلة من السنة الصحيحة على ذلك، ومشكلة هؤلاء أنهم يعطلون النصوص، ويفهمونها فهمًا جزئيًّا لا كليًّا، إذ أن الدين كلٌّ يُضَم بعضه لبعض؛ ليفهم ويعمل به، وأخشى أن
(1)
سبل السلام (3/ 218).
(2)
ينظر ص (92) فما بعدها.
يأتي على الناس زمان يحذّر أحدهم من الصلاة، ويقول قرأت في كتاب الله:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}
(1)
وما علم -هداه الله- لو أمعن نظره أن الآية بعدها تفسرها: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}
(2)
، ولذا ذم الله الباحثين عن المتشابه، المتعلقين به فقال:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}
(3)
.
والمتشابه أقسام عدة منها ما لا يعرف المراد منه حتى يضم لغيره، وهو أضربٌ مختلفة، منها ما يرجع للكمية كالعموم والخصوص نحو:{الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
(4)
، والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو:{و فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}
(5)
، والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}
(6)
، والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}
(7)
إلى غير ذلك
(8)
، وكذلك كثيرٌ من
(1)
الماعون: (4).
(2)
الماعون: (5).
(3)
آل عمران: (7).
(4)
التوبة: (5).
(5)
النساء: (3).
(6)
البقرة: (240).
(7)
البقرة: (189).
(8)
ينظر: المفردات (254)، الإتقان في علوم القرآن (2/ 13).
الأحاديث التي يديرون حولها الشبهات، ولو سألت الواحد منهم عن بعض الآيات المحكمات ما استطاع إجابتك؛ فلله العجب!!!.
أخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمي الله فاحذروهم» واللفظ لمسلم.
وسأعرض تحت هذه الشبهة أحاديث مختلفة يجمعها في فهم من يثير الشبهة: ارتباط المرأة بالشيطان والفتنة:
الحديث الأوّل: (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر):
ما أخرج البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا بنو إسرائيل لم يَخْنَزِ
(5)
اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر» واللفظ للبخاري.
يستدل البعض بهذا الحديث على أن حواء سبب الخطيئة الأولى، وأورد فيما يأتي نقاطًا في فهم الحديث ومناقشة الشبهة:
1 -
يقول الحافظ: «وقوله (لم تخن أنثي زوجها) فيه إشارة إلى ما وقع من
(1)
كتاب التفسير، باب: منه آيات محكمات (4/ 1654)4273.
(2)
كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه (4/ 2053).
(3)
كتاب التفسير، باب: قول الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} الأعراف (142)(3/ 1245)3218.
(4)
كتاب الرضاع، باب: لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر (2/ 1092)1470.
(5)
يخنز: بفتح أوله، وسكون الخاء، وكسر النون أو فتحها- أي: ينتن، والخنز: التغير والنتن.
انظر: الفتح (6/ 367).
حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زين لها إبليس حتى زينته لآدم، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق، فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول، وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش حاشا وكلا، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة، وحسنت ذلك لآدم عد ذلك خيانة له، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها، وقريب من هذا: جحد آدم فجحدت ذريته، وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى، وأن ذلك من طبعهن فلا يُفْرط في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه أو على سبيل الندور، وينبغي لهن ألا يتمكنَّ بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن، ويجاهدن هواهن»
(1)
.
تأملات في كلام الحافظ حول معنى الحديث:
ومن كلام الحافظ يتبين ما يأتي:
أ- إن الحديث لم يُفَصِّل قضية تزيين حواء لآدم الأكل من الشجرة، وإنما أشار إليها إشارة موجزة فهمها شرّاح الحديث توضح أن لحواء دورًا في أكل آدم من الشجرة؛ لكنه لم يبين هذا الدور.
ب- في ضوء كلام الحافظ يظهر أن الغاية من الحديث هي بالدرجة الأولى في مصلحة الزوجة، وهي العمل بما أوصى به الحافظ الزوج ألا يُفْرِط في لوم زوجته لما وقع منها من غير قصد أو على سبيل الندور.
جـ- إن آدم وقعت له وسوسة الشيطان أيضًا فأطاعه؛ بنص القرآن الكريم؛
(1)
الفتح (6/ 368) وانظر: شرح النووي (10/ 59).
كما سيأتي.
2 -
أليس آدم عليه السلام أبو البشر هو الرجل الذي خاطبه الرب جل وعلا قائلًا: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}
(1)
فَلِمَ أطاع حواء ولم ينهها، أو يقومها؟! من الملوم
(2)
الداعي أم المجيب؟! والرب -جل وعلا- في كتابه أوضح أن المعصية لم تكن من حواء فحسب، بل من آدم وحواء جميعًا، ووسوسة إبليس وقعت لهما معًا، وليس لحواء وحدها؛ بل أتت آيات لتخصيص آدم بالعتاب وحده؛ إذن فمسؤولية الأكل من الشجرة مشتركة، يقول تعالى:{فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}
(3)
.
(1)
طه: (117 - 119).
(2)
ذكرت هذه اللفظة استطرادًا لرد الشبهة؛ وإلا فإن الله غفر لأبينا آدم وأمنا حواء، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يلام عليه، ثم إن الأدب مع مقام الأنبياء، واجب. فتنبه.
(3)
آل عمران: (19 - 22).
وقال عز من قائل سبحانه: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}
(1)
.
(2)
.
وبهذا فإن فعل الوسوسة من الشيطان اتجه إلى الاثنين معًا لقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} وكذا قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} أصله من الزل وهو عثور القدم، يقال: زلت قدمه أي: زلقت، ثم استعمل في ارتكاب الخطيئة، يقال: زل الرجل إذا أخطأ وأتي ما ليس له إتيانه، وكان ذلك سبب إذهابهما عن الجنة، وإبعادهما وقرئ:{فَأَزَلَّهُمَا}
(3)
، وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى.
ونسب الله الزلة والإخراج إلى الشيطان؛ لأنها وقعت بدعائه، ووسوسته وهو المتسبب فيهما.
يقول د. أسعد الحمراني: «هذا الهبوط من الجنة لم يكن بسبب غواية حواء.
(1)
البقرة: (36).
(2)
طه: (120 - 122).
(3)
ينظر: الكشاف (1/ 156)، تفسير البيضاوي (1/ 297)، تفسير القرطبي (1/ 311)، تفسير أبي السعود (1/ 91).
فالنص القرآني استخدم الخطاب مع ألف المثني كي يزيل كل غموض حول الغواية، ويلحقها بآدم وحواء معًا. ولو ورد في النص القرآني (فوسوس لهما الشيطان) لآدم وحواء أو لحواء وآدم، لظن قارئ النص بأن من ورد اسمه قبل الآخر هو الذي وقع قبل الآخر بغواية الشيطان، لكن مجيء النص بهذه الصورة ألغى كل التباس»
(1)
.
ويكفي المرأة المسلمة أن الإسلام أتى ليرفع عنها ظلم العباد الذين اتهموها بالخطيئة الأولى؛ وألصقوها بها، وطالت أيديهم الكتب المقدسة فحرفوها؛ لقد جاء في التوراة: «وكانت الحية أصل جميع الحيوانات البرية. فقالت للمرأة: أحقًا قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منها، ولا تَمسّاه؛ لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تتفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، وأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، وانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان
…
» إلى أن قال الله لآدم: «هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة. فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت
…
وقال للمرأة: تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، بالوضع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك»
(2)
.
فانظر كيف جعلت التوراة المحرفة المرأة سبب الخطيئة، وبُرِّئ آدم منها،
(1)
المرأة في التاريخ الإسلامي (102).
(2)
سفر التكوين، الإصحاح الثالث.
وكُتِب الإنجاب عليها عقوبة لها، وقُرن بمتاعب وآلام، فكيف تكون الأمومة عقابًا على حواء بسبب المعصية؟! مع أن هذه المهمة أشهى ما تتمناه النساء، وتطمح إليه.
ولا تعجب حين تقرأ في التوراة المحرفة الموقف الصارم من المرأة الذي يصمها بالعيوب، والنحس، ورد في العهد القديم عن المرأة ما يلي:«درت أنا وقلبي لأعلم ولأبحث وأطلب حكمة وعقلًا؛ ولأعرف الشر أنه جهالة، والحماقة أنها جنون، فوجدت أمرّ من الموت: المرأة هي شباك، وقلبها إشراك، ويدها قيود»
(1)
. ولذلك فإن اليهود يرون أن المرأة، وراء كل موقف خلاف أو معصية أو ذل أو عار.
وليست النصرانية المحرفة بأحسن حالًا من اليهودية، بل جاء في نص لبولس «وآدم لم يُغَو لكن المرأة أغويت فحصلت في التعري» ولأن الشيطان تمكن من إغواء حواء، وبعد ذلك هي أوقعت آدم، فإن حياة الرجل عازبًا طريق لمرضاة الرب والصلاح، والزواج قد يقود لغير ذلك
(2)
.
ولذلك ذهب ترتليان إلى أن المرأة عون الشيطان في الأرض أليست هي التي أطاعت الشيطان وعصت كلام الله؟ وهذه النظرة التي أسرف في شرحها ترتليان، وبسط نتائجها، أثرت في تاريخ المرأة المسيحية
(3)
، في حين أنك تجد أن القرآن ساوى بينهما في الخطيئة، فلله الحمد والمنة.
3 -
لقد تاب آدم وحواء إلى ربهما فتاب الله عليهما، وهداهما، يقول تعالى:
(1)
سفر الجامعة، الإصحاح السابع.
(2)
ينظر: حقوق وقضايا المرأة في عالمنا المعاصر، لعبد الله مرعي (53 - 54).
(3)
ينظر: المرأة في مختلف العصور لأحمد خاكى (33).
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
(1)
ومعنى تلقى الكلمات أي: استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها، واكتفى بذكر توبة آدم عن ذكر توبة حواء؛ لأنها كانت تبعًا له
(2)
.
ولقد هداه ربه ليقول هو وزوجه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(3)
.
وذنب غفره الله لآدم وحواء، ورفع عنهما إصره، علام نثيره؟ ونشغل أنفسنا به على سبيل اللوم، أليس التائب من الذنب كمن لا ذنب له، لقد حج آدم موسى لما لامه في تسببه في إخراج الناس من الجنة، أن هذا أمر كُتِب، فحجه، أخرج البخاري
(4)
ومسلم
(5)
من حديث أبي هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قد قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج
(6)
آدم موسى، فحج آدم موسى» واللفظ لمسلم.
الحديث الثاني: (المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان):
(1)
البقرة: (37).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (1/ 243)، تفسير القرطبي (1/ 324)، جوامع الجامع في تفسير القرآن المجيد (1/ 51).
(3)
الأعراف: (23).
(4)
كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} طه (41)(4/ 1764)4459.
(5)
كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليهما السلام (4/ 2042)2652.
(6)
قال الحافظ في الفتح (11/ 510): «فحج آدم موسى: دفع حجته التي ألزمه اللوم بها» .
أخرج مسلم في صحيحه
(1)
من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تعس منيئة
(2)
لها، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه؛ فقال:«إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة، فليأت أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه» .
معنى الحديث:
1 -
هذا الحديث تفسره الروايات الأخرى له، يقول النووي:«وفي الرواية الأخرى: «إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته، فإن ذلك يرد ما في نفسه»
(3)
هذه الرواية مبينة للأولى، ومعنى الحديث أنه يستحب لمن رأى امرأة فتحركت شهوته أن يأتي امرأته أو جاريته إن كانت له، فليواقعها ليدفع شهوته، وتسكن نفسه، ويجمع قلبه على ما هو بصدده»
(4)
.
2 -
قال العلماء في معنى الحديث؛ الإشارة إلى الهوى، لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء، والالتذاذ بالنظر إليهن، وما يتعلق بهمن، فهي شبيه بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته، وتزيينه له. قال النووي:«ويستنبط من هذا أنه ينبغي لها ألا تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وأنه ينبغي للرجل الغض عن ثيابها، والإعراض عنها مطلقًا»
(5)
.
(1)
كتاب النكاح، باب: ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها (2/ 1021)1403.
(2)
تمعس منيئة قال أهل اللغة: المعس: الدلك، والمنيئة: على وزن صغيرة- الجلد أول ما يوضع في الدباغ. ينظر: النهاية (4/ 342) مادة (م ع س)، شرح النووي (9/ 178).
(3)
صحيح مسلم حديث رقم: (1404).
(4)
شرح حديث مسلم (9/ 178).
(5)
شرح صحيح مسلم (9/ 178).
فالمرأة ليست شيطانًا، وإنما تشبه الشيطان إن خرجت متبرجة غير متقيدة بالضوابط الشرعية؛ لأنهما كليهما يستوي في الإغواء الشيطان بوسوسته؛ والمرأة بتبرجها؛ وهذا الحديث يفسره ما أخرجه الترمذي في السنن
(1)
، وابن خزيمة في الصحيح
(2)
، وابن حبان في الصحيح
(3)
، والطبراني في الأوسط
(4)
، والكبير
(5)
، وابن حزم في المحلى
(6)
من طرق عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» واللفظ للترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
قال المنذري: «رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح»
(7)
.
وقال الهيثمي: «رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح»
(8)
وصححه الألباني في الصحيحة
(9)
.
ومعن (استشرفها الشيطان) أي: زينها في نظر الرجال، والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء، وبسط الكف فوق الحاجب، والمعنى أن المرأة إذا خرجت -ولا سيما متبرجة- أمعن الرجل النظر إليها ليغويها بغيرها، ويغوي
(1)
(3/ 476)1173.
(2)
(3/ 93)1685.
(3)
(12/ 412)5598.
(4)
(8/ 101)8096.
(5)
(10/ 108)10115.
(6)
(4/ 201).
(7)
الترغيب والترهيب (1/ 141).
(8)
مجمع الزوائد (2/ 34).
(9)
السلسلة الصحيحة (6/ 424)2688.
غيرها بها، ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان شيطان الإنس من أهل الفسق، سماه به على التشبيه
(1)
.
• ومن هنا يتبين أن معنى (تقبل في صورة شيطان):
1 -
التشبيه بالشيطان في الإغراء ولا سيما إن لم تكن عفيفة، لما عُرف من ميل الرجل إلى المرأة، فإنه إليها يحن، وعنها لا يصبر، لذا حرم الإسلام خلوته بها، وأباح له نكاح الأربع، وتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إذهابها للب الرجل الحازم فضلًا عن غيره، وصدق عبد الله بن الأعور الأعشى المازني لما أنشد:
وقذفتني بين عيص مؤتشب
(2)
…
وهن شر غالب لمن غلب
(3)
ورحم الله جريرًا
(4)
إذ يقول:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن أضعف خلق الله إنسانًا
2 -
أو أن الشيطان يزينها في أعين الرجال، فيكون معنى الحديث التحريض على غض البصر، والتحذير من استدامة النظر، وجعل صلى الله عليه وسلم للرجل النظرة الأولى المفاجئة، وليست له الثانية، وأمر القرآن المؤمنين بغض الأبصار فقال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}
(5)
وتأمل
(1)
ينظر: تحفة الأحوذي (4/ 283).
(2)
قال ابن الأثير: «المؤتشب الملتف، والعيص أصل الشجر» النهاية (1/ 51) مادة (أ ش ب).
(3)
أخرجه عبد الله في زيادته على المسند (11/ 478) 6885 في حديث طويل في آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول: «وهن شر غالب لمن غلب» وإسناده ضعيف لجهالة حال صدقة بن طيسلة، ومعن بن ثعلبة. انظر: الإكمال للحسيني (202 - 348).
(4)
ديوان جرير (108).
(5)
النور (30).
الربط العجيب بين غض البصر وحفظ الفرج.
قال ابن القيم: «فإن اللحظة رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق نظره أورده موارد الهلاك، والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، إذ أن النظرة تولد خطرة، ثم فكرة، ثم شهوة، ثم إرادة تقوى، فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع، وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر، أيسر من الصبر على ألم ما بعده.
ولهذا قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر
…
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها
…
كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرف يقلبه
…
في أعين العِين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته
…
لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر
ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكانًا من قلب الناظر، ولي من قصيدة:
يا راميًّا بسهام اللحظ مجتهدًا
…
أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحًا، فيتبعها جرح على جرح، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها، ولي أيضًا في هذا المعنى
ما زلت تتبع نظرة في نظرة
…
في أثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في
…
التحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا
…
فالقلب منك ذبيح أي ذبيح
وقد قيل: «إن جنس اللحظات أيسر من دوام الحسرات»
(1)
.
(1)
الجواب الكافي لابن القيم (107).
والناظر في أحوال النساء اليوم وما آل إليه الرجال، يرى أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، وأنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فاللحظات مسترسلة، والمرأة -إلا من رحم الله- متبرجة، وحديث يجرح قلب التقي؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
• وفي الحديث من الفوائد بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعليم بالقدوة.
3 -
أنه جاء في بعض الأحاديث وصف الرجل بكونه شيطانًا؛ لأنه فعل فعلته، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا:«إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبي فليقاتله؛ فإنما هو شيطان»
(1)
.
(2)
.
المطلب الخامس: شبهة خلق المرأة من ضِلَعٍ أعوجٍ
لفظ الحديث:
يُكْثِر بعض الناس من تعيير المرأة ووصمها بأنها عوجاء؛ لأنها مخلوقة من ضِلَع أعوج، ويستدل على ذلك بما أخرجه البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من
(1)
سيأتي تخريجه ص (390) فما بعدها.
(2)
شرح ابن بطال (2/ 142).
(3)
كتاب الأنبياء، باب: خلق آدم وذريته (3/ 1212)3153.
(4)
كتاب الرضاع، باب: الوصية بالنساء (2/ 1091)1468.
ضِلَع
(1)
، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء» زاد مسلم:«وكسرها طلاقها» .
الحديث سيق للوصية بالنساء:
إن الاستدلال بهذا الحديث على انحطاط منزلة المرأة في الإسلام يدل على جهل باللغة، وبمعنى الحديث، والسياق الذي جاء فيه، وذلك لما يأتي:
1 -
لقد بدأ الحديث بالوصاة بالنساء، وانتهى بالوصاة بهن -أيضًا- فتكررت «فاستوصوا بالنساء» وجاء في رواية ميسرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «واستوصوا بالنساء خيرًا» وفي نهايته «فاستوصوا بالنساء خيرًا»
(2)
، وعلى هذا بوّب البخاري في صحيحه: باب المدارة مع النساء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما المرأة كالضلع» وباب: الوصاة بالنساء
(3)
. كل هذا يدل على أن الحديث سيق لصالح المرأة، وذكرت مادة خلقها للرفق بها.
وتنبه الحافظ للفظ الوصية «استوصوا بالنساء» فقال: «قيل: معناه تواصوا بهمن، والباء للتعدية، والاستفعال بمعنى الأفعال كالاستجابة بمعنى الإجابة. وقال الطيبي: السين للطلب، وهو للمبالغة، أي: اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن، أو اطلبوا الوصية من غيركم بمن كمن يعود مريضًا، فيستحب له أن يحثه على الوصية، والوصية بالنساء آكد؛ لضعفهن واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن وقيل: معناه: اقبلوا وصيني فيهن، واعملوا بها، وارفقوا بمن، وأحسنوا عشر من، قلت:
(1)
بكسر الضاد المعجمة، وفتح اللام وقد سكن، الفتح (9/ 253).
(2)
حديث رقم (4890).
(3)
كتاب النكاح (5/ 1987).
وهذا أوجه الأوجه في نظري، وليس مخالفًا لما قال الطيبي»
(1)
قلت: وعلى الوجه الذي رجحه الحافظ نكون معاشر النساء وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجال؛ فلله الحمد والمنة.
2 -
الحديث توجيه وخطاب للرجال لا للنساء، وفي الحديث: موصَى هم الرجال، وموصى به وهن النساء، والوصية عادة لا تكون إلا في مصلحة الموصى به، وهي هنا كذلك لصالح الرجل والأسرة والمجتمع، فإذا افترض الرجل الكمال في المرأة فسيقوده ذلك إلى المحاسبة الدقيقة لها على كل نقص، مما يقلب جو الحياة الأسرية إلى جحيم، ولذا جاء في حديث سمرة بن جندب الذي أخرجه الحاكم
(2)
: «ألا إن المرأة خلقت من ضلع، وإنك إن ترد إقامتها تكسرها، فدارها تعش بها ثلاث مرات» وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
ومعنى «فدارها» من المداراة التي تعني بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا
(3)
.
3 -
في الحديث دلالة واضحة على الرفق عند التعامل مع المرأة، والتنبيه على رقة الطباع، وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم مادة خلقها (من ضِلع)
(4)
ليرفق الرجل بها فلا يكسرها، قال الحافظ في معنى:«وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه» : «قيل: فيه إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة لسانها، وفي استعمال أعوج استعمال لأفعل في
(1)
الفتح (6/ 368).
(2)
(4/ 192)7333.
(3)
الفتح (10/ 454).
(4)
وفي تفسير معنى (من ضِلَع) تأويلات أخرى؛ أعرضت صفحًا عن ذكرها؛ لضعفها؛ فراجعها: المفهم (4/ 102)، الفتح (6/ 368)، عمدة القارئ (3/ 104).
العيوب، وهو شاذ، وفائدة هذه المقدمة أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فلا ينكر اعوجاجها، أو الإشارة إلى أنها لا تقبل التقويم كما أن الضلع لا يقبله، قوله (فإن ذهبت تقيمه كسرته) قيل: هو ضرب مثل للطلاق»
(1)
وقد قال في موضع آخر في فائدة هذه المقدمة وهي التنبيه على مادة الخلق: «قوله (فاستوصوا بالنساء خيرًا) كأن فيه رمزًا إلى التقويم برفق بحيث لا يبالغ فيه فيكسر، ولا يتركه فيستمر على عوجه
…
فيؤخذ منه ألَّا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية. مباشرتها، أو ترك الواجب، وإنما المراد أن يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة، وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس، وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بمن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه؛ فكأنه قال الاستمتاع بما لا يتم إلا بالصبر عليها»
(2)
.
4 -
أن من يعيب المرأة؛ لكونها خلقت من ضلع أعوج، يقال له لقد كان هذا الضلع بعضك؛ أفتعيب بعضك؟!.
وتأمل حكمة الرب جل وعلا في خلق حواء من آدم، ومن الضلع بالذات المحاور للقلب؛ يقول ياسين رشدي: «والمتأمل في كيفية خلق المرأة، يجد أنها خلقت من ضلع آدم وهو أقرب مكان للقلب
…
وكأن هذا هو مكانها الطبيعي من زوجها
…
أن تكون في قلبه، فيعاملها بالعاطفة، والحب والحنان
…
ولو خلقت المرأة من رأس الرجل، لكانت عقله المفكر، الذي يسوسه ويقوده
…
ولو خلقت من يده لبطش بها أو تكسب بها
…
ولكنها خلقت من أقرب مكان من قلبه، حتى
(1)
الفتح (6/ 368).
(2)
الفتح (9/ 254).
تكون منبع العواطف الجياشة، والمشاعر الجميلة، ولكي نعلم أن الرجل هو الأصل، والمرأة فرع، وأنه هو الكل، وهي الجزء، ولا حياة للكل إلا بجميع أجزائه، ولا حياة للجزء إلا بانتمائه لأصله»
(1)
.
المطلب السادس: شبهة اقتران المرأة بالحمار والكلب الأسود في الحديث النبوي
لفظ الحديث:
يثير بعضهم تساؤلًا وإشكالًا حول ما أخرجه مسلم
(2)
في صحيحه من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي؛ فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل؛ فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل؛ فإنه يقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود، قلت (أي: عبد الله بن الصامت) يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا بن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: «الكلب الأسود شيطان» .
ولقد ذُكِر هذا الحديث عند عائشة رضي الله عنها فأنكرته؛ أخرج البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من طريق مسروق، عن عائشة أنه ذُكِر عندها ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب، والحمار، والمرأة. قالت: «لقد جعلتمونا كلابًا؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير؛
(1)
من أخلاقيات الإسلام (49 - 50).
(2)
كتاب الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي (1/ 365)510.
(3)
كتاب الصلاة، باب: استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته (1/ 192)489.
(4)
كتاب الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي (1/ 366)512.
فتكون لي الحاجة؛ فأكره أن أستقبله، فأنسل انسلالًا» واللفظ للبخاري.
مناقشة هذه الشبهة:
ولمناقشة هذه الشبهة، إليك ما يأتي:
1 -
الحديث ثابت أخرجه مسلم في صحيحه كما تقدم، والجمع بين هؤلاء الثلاثة ليس من باب التسوية بينهم بشكل عام، وإنما التسوية بينهم فقط في حكم معين هو قطع الصلاة.
فالحديث جمع بين أمور لا تتساوى في المرتبة، وإنما تتساوى في الحكم في حادثة معينة لا تتجاوزها لغيرها هي المرور بين يدي المصلي، فالجمع بينها كالجمع بين الأرملة والمسكين من حيث اتحادهما في الحكم، وهو استحقاق المساعدة في قوله صلى الله عليه وسلم:«الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم بالنهار»
(1)
.
2 -
إذا جمع بين المرأة والحمار والكلب الأسود في هذا الحديث، فقد جمع بين المرأة والطيب في حديث آخر، وحببا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج الإمام أحمد في المسند
(2)
، والنسائي في المجتبى
(3)
، وأبو يعلى في المسند
(4)
، والطبراني في الأوسط
(5)
،
(1)
أخرجه البخاري في كتاب النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل (5/ 2047)5038.
(2)
(19/ 305)12293.
(3)
(7/ 61)3939.
(4)
(6/ 199)3482.
(5)
(5/ 241)5203.
والحاكم في المستدرك
(1)
، والبيهقي في الكبرى
(2)
، والمقدسي في المختارة
(3)
من طرق عن ثابت البناني، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«حُبِّب إلي النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة» واللفظ لأحمد.
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، قلت: فيه سيار بن حاتم ليس من رجال مسلم «صدوق له أوهام» قاله الحافظ في التقريب
(4)
!، وقال المقدسي: إسناده صحيح. وجَوّد إسناده العراقي، وقواه الذهبي
(5)
، وحسّن إسناد النسائي الحافظ في التلخيص
(6)
، وقال الألباني: حسن صحيح
(7)
.
وكذا لم يكن أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جنس النساء من الخيل، أخرج النسائي
(8)
بسند حسن من طريق قتادة عن أنس: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل.
حكم المرور بين يدي المصلي، وهل يقطع الصلاة؟:
لا بد أيها القارئ الفاضل أن أناقش أمرين:
أولهما: حكم المرور بين يدي المصلي.
ثانيهما: قطع الصلاة بالمرور.
(1)
(2/ 174)2676.
(2)
(7/ 87)13232.
(3)
(5/ 112)1736.
(4)
2729.
(5)
الميزان (2/ 177) ونقل قول العراقي عنه.
(6)
(3/ 116).
(7)
صحيح سنن النسائي (7/ 61)3939.
(8)
(6/ 217)3564.
أما المسألة الأولى: فإني لم أجد خلافًا في أنه لا يجوز المرور بين يدي المصلي وسترته، ولا بين يديه قريبًا منه إذا لم يكن له سترة على خلاف بينهم في تحديد مسافة النهي إذا لم يكن له سترة؛ فإن مرّ أحدهم بين يدي المصلي فقد ارتكب محظورًا، وهو آثم بالإجماع
(1)
.
واستدل أهل العلم بأدلة كثيرة منها ما أخرجه البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من طريق أبي صالح السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بن أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغًا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: ما ل ك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه؛ فليدفعه؛ فإنْ أبي فليقاتله فإنما هو شيطان» واللفظ للبخاري.
(4)
.
ولا شك أن الرجل أو المرأة الذين يمران بين يدي المصلي وسترته قد فعلا
(1)
ينظر: مراتب الإجماع لابن حزم (30)، المبسوط للسرخسي (1/ 192)، الكافي لابن عبد البر (1/ 209)، المجموع (3/ 249)، المغني (2/ 245).
(2)
أبواب سترة المصلي، باب: يرد المصلي من مرّ بين يديه
…
(1/ 191)487.
(3)
كتاب الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي (1/ 362)505.
(4)
الفتح (1/ 584).
فعل الشيطان، وخالفا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية: قطع الصلاة بالمرور: أمّا قطع الصلاة بمرور الرجل فإني لم أجد أحدًا من أهل العلم يقطع صلاة المصلي إذا مرّ بين يديه رجل، بل إن ابن حزم
(1)
نقل اتفاقهم على ذلك، مع اتفاقهم على عدم جواز المرور بين يديه
(2)
.
وأمّا قطع المرأة للصلاة إن مرت بين يدي المصلي فعلى قولين:
الأول: لا تبطل صلاة المصلي بمرور المرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من السلف والخلف وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد اختارها أكثر أصحابه
(3)
. واختاره البخاري وبوّب عليه (باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء)
(4)
.
واستدلوا بحديث عائشة المتقدم
(5)
الذي جاء فيه: «لقد جعلتمونا كلابًا؛ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير؛ فتكون لي الحاجة؛ فأكره أن أستقبله؛ فأنسل انسلالًا» وقد سأل ابن أخِ ابن شهاب عمّه: عن الصلاة يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء، ثم استدل بحديث عائشة
(6)
.
(1)
مراتب الإجماع (29).
(2)
ينظر: المدونة (1/ 114)، شرح معاني الآثار (1/ 463)، المغني (2/ 248)، المجموع (3/ 250)، بداية المجتهد (1/ 180).
(3)
انظر المصادر السابقة.
(4)
أبواب سترة المصلي (1/ 192).
(5)
ص (391).
(6)
أبواب السترة، باب: لا يقطع الصلاة شيء (1/ 92)493.
وأجاب الجمهور على حديث أبي ذر بأجوبة عدة منها:
1 -
تأولوا معنى القطع بنقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها، ويؤيد ذلك أن الصحابي راوي الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود؛ فأجيب بأنه شيطان، وقد علم أن الشيطان لو مرّ بين يدي المصلي لم تفسد صلاته بدليل:«إذا ثوب بالصلاة أدبر الشيطان، فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه»
(1)
وبحديث: «إن الشيطان عرض لي فشد علي»
(2)
ولا يقال: قد ذكر في هذا الحديث أنه جاء ليقطع صلاته؛ لأنه بيّن في رواية مسلم سبب القطع، وهو أنه جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهه، فمجرد المرور قد حصل به ولم تفسد به الصلاة
(3)
.
2 -
ومال الطحاوي وغيره إلى أن حديث أبي ذر وما وافقه منسوخ بحديث عائشة وغيرها
(4)
، وتعقب بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا علم التاريخ، وتعذر الجمع، والتاريخ هنا لم يتحقق، والجمع لم يتعذر
(5)
.
الثاني: ذهبوا إلى بطلان صلاة المصلي بمرور المرأة بين يديه، وبه قال الحسن البصري)
(6)
، وابن حزم
(7)
، وهو رواية عن الإمام أحمد
(8)
، واختارها عدد من
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: فضل التأذين (1/ 220)583.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب: ما يجوز من العمل في الصلاة (1/ 405) 1152، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة (1/ 384)542.
(3)
ينظر: شرح النووي (4/ 227)، الفتح (1/ 588)، العمدة (4/ 298).
(4)
شرح معاني الآثار (1/ 466).
(5)
الفتح (1/ 583).
(6)
عزاه له النووي في المجموع (3/ 250).
(7)
المحلى (4/ 8).
(8)
ينظر: المبدع (1/ 491)، الإنصاف (2/ 107).
أصحابه، وهي من مفردات المذهب كما قال الناظم
(1)
:
والأسود البهيم في الكلاب
…
يقطع إن مرّ بلا ارتياب
وهكذا المرأة والحمار
…
صلاة من بين يديه ساروا
واختارها شيخ الإسلام
(2)
، وابن القيم
(3)
.
واستدلوا بحديث أبي ذر المتقدم، وحديث أبي هريرة المرفوع الذي أخرجه مسلم
(4)
: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل» .
يقول ابن القيم بعد ما ذكر قطع المرأة، والحمار، والكلب الأسود للصلاة:
(5)
.
ومن هنا يتبين أن جمهور العلماء من السلف والخلف على أن المرأة لا تقطع الصلاة، وقد آثرت في هذا المبحث الاختصار، ومن رام الاستزادة؛ فليراجع ما أحيل عليه، ومَنْ أُحيل على مليء فليحتل.
(1)
النظم المفيد (19).
(2)
مجموع الفتاوى (21/ 14).
(3)
زاد المعاد (1/ 307).
(4)
كتاب الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي (1/ 365)511.
(5)
زاد المعاد (1/ 306) في المصادر أدلة أخرى ومناقشات؛ يمكن مراجعتها.
المطلب السابع: الغسل من بول الجارية، والرش من بول الغلام
نص الحديث:
وفي زمن الفتن، والبعد عن النصوص الشرعية، وضعف الانقياد والتسليم لا تعجب حين ترى من يتتبع الأحاديث النبوية؛ ليخطف قلوب ضعاف الإيمان، ويشكك العوام من المسلمين، ويثير شبهة التفريق بين الذكر والأنثى في الحديث النبوي، ويستدل على قوله بما أخرج أبو داود في السنن
(1)
، وابن ماجه في السنن
(2)
، والنسائي في المجتبى
(3)
، وابن خزيمة في صحيحه
(4)
، والطبراني في الكبير
(5)
، والحاكم في المستدرك
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
من حديث أبي السمح قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولِّني قفاك؛ فأوليه قفاي؛ فأستره به؛ فأتي بحسن و حسين رضي الله عنهما، فبال على صدره، فجئت أغسله؛ فقال:«يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام» واللفظ لأبي داود.
وصححه ابن خزيمة، والحاكم، والقرطبي
(8)
، وابن الملقن
(9)
، والألباني
(10)
.
(1)
(1/ 102)376.
(2)
(1/ 175)526.
(3)
(1/ 157)304.
(4)
(1/ 143)283.
(5)
(22/ 384)958.
(6)
(1/ 271)589.
(7)
(2/ 415)3959.
(8)
المفهم (2/ 643).
(9)
البدر المنير (2/ 304).
(10)
صحيح النسائي (2/ 62).
وله شواهد أخرى في الفتح
(1)
، والتلخيص الحبير
(2)
.
وبهذا الحديث أخذ جمهور العلماء
(3)
، فقالوا يكفي الرش في بول الصبي الذي لم يطعم، بخلاف الجارية فلا بد من غسل بولها.
وللرد على هذه الشبهة؛ لا بد أيّها القارئ الكريم أن تبحث عن سر هذا التفريق؛ ليتبين الحق؛ فتلزمه:
حكمة التفريق بين بول الغلام وبول الجارية:
اختلف العلماء في الحكمة من التفريق بين بول الغلام والجارية:
1 -
منهم من أرجع ذلك إلى طبيعة بول الأنثى وتركيبه؛ واختلافه عن بول الذكر ويقولون: إن بول الأنثى أنتين رائحة، وأثقل من بول الذكر؛ ولذلك أُمِر بغسله دون بول الغلام، ومما يدخل في هذا ما ذكره أبو الحسن بن سلمة قال: حدثنا أحمد بن موسى بن معقل، حدثنا أبو اليمان المصري قال: سألت الشافعي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية، والماءان جميعًا واحد؟ قال: لأن بول الغلام من الماء والطين، وبول الجارية من اللحم والدم، ثم قال لي: فهمت؟ أو قال: لقنت؟ قال: قلت: لا. قال: إن الله تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين، وصار بول الجارية من اللحم والدم، قال: قال لي: فهمت؟ قلت: نعم. قال: نفعك الله به»
(4)
.
2 -
ومنهم من أرجع ذلك إلى طريقة خروج البول من كل من الذكر
(1)
(1/ 325).
(2)
(1/ 38).
(3)
ينظر: الأوسط (2/ 142)، المحلى (1/ 105)، المجموع (2/ 589)، المعني (2/ 91).
(4)
رواه أبو الحسن بن سلمة في زوائده على سنن ابن ماجه كما في السنن (1/ 175).
والأنثى؛ فإن بول الغلام يخرج بقوة فينتشر، فيشق غسله، ولذلك تسومح فيه، أما بول الأنثى فيكون مجتمعًا؛ فيسهل غسله.
3 -
أن الابتلاء بالصبي أكثر؛ لأن الرجال والنساء في العادة يحملونه، والصبية لا يحملها إلا النساء غالبا؛ فالابتلاء بالصبي أكثر؛ فناسب التخفيف في بوله رفعًا للحرج
(1)
.
إن الحكم إذا ثبت بالنص، كان التماس العلة له أمرًا غير لازم؛ إذ الأصل التعبد لله عز وجل في تحليل ما أحل، وتحريم ما حرم، والاعتقاد بطهارة ما جاء الشرع بتطهيره، ونحاسة ما جاء الشرع بتنجيسه؛ فإن بان لذلك علة ظاهرة كان هذا سببًا لمزيد الاطمئنان وانشرح الصدر، وإلا فإن المسلم دائمًا لأحكام الله مطيع، منشرح صدره لها، لاهج لسانه بقول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
(1)
انظر: المفهم (1/ 547)، إحكام الأحكام لابن دقيق العيد (1/ 82)، المجموع (5/ 590)، الفتح (1/ 325)، إعلام الموقعين (2/ 59).
الباب الثاني حقوق المرأة السياسية
وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: المرأة والبيعة.
الفصل الثاني: حق المرأة في الاحتساب.
الفصل الثالث: حق المرأة في الأمان والإجارة.
الفصل الرابع: المرأة والجهاد.
الفصل الخامس: المرأة والقضاء.
الفصل السادس: المرأة والولايات العامة.
الفصل السابع: المرأة ومجلس الشورى.
توطئة:
الإسلام دين الإنسانية، الذي ارتضاه الله تعالى للبشرية، والذي يعامل المرأة على أنها نصف المجتمع، ولها دور لا يخفى في صياغته، وتحديد ملامحه، ويعلم أثرها في الحياة السياسية للأمة، ولذا منحها من الحياة أكرمها، ومن المكانة أسماها وأرفعها، و كفل لها كثيرًا من الحقوق السياسية التي تجعلها تتمتع بحياتها على أحسن وجه، دون إقحامها في كل صغير وكبير في النزاعات السياسية و اختلافاتها، بل اختار لها الإسلام من الحقوق ما يتناسب مع أنوثتها، ويعزز كلمتها دون أن يتعارض مع فطرتها، وجاء الإسلام بالوسطية بين دعاة الغرب، ومتحجري الشرق، في وقت أضحت فيه قضية المرأة وحقوقها السياسية بؤرة الصراع الفكري بين الشرق والغرب، وسأتناول في هذا الباب -إن شاء الله- تحقيق المسائل الشرعية في حقوق المرأة السياسية.
ويحسن قبل تفصيل قضايا الباب أن أُعرّف الحقوق السياسية:
عرّفها السنهوري بأنها: «الحقوق التي يكتسبها الفرد باعتباره عضوًا في هيئة سياسية -أي في دولة- كحق تولي الوظائف العامة، وحق الانتخاب، وحق الترشيح»
(1)
.
وعرّفها د. جابر جاد عبد الرحمن بأنها: «الحقوق التي يسهم الفرد بواسطتها في إدارة شؤون البلاد أو في حكمها»
(2)
.
ويمكن أن تعرف بأنها الحقوق التي يكتسبها الفرد باعتباره منتسبًا لدولة معينة، وبوساطة هذه الحقوق يسهم في إدارة شؤون هذه الدولة وحكمها.
(1)
أصول القانون (268).
(2)
القانون الدولي الخاص (1/ 272).
الفصل الأول المرأة والبيعة
سيتناول هذا الفصل مبحثين:
المبحث الأول: أنواع البيعة للنساء في ضوء السنة النبوية.
المبحث الثاني: بيعة المرأة لولي الأمر.
المبحث الأول أنواع البيعة للنساء في ضوء السنة النبوية
البيعة لغة: المبايعة والطاعة، قال ابن منظور:«عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه، وطاعته، ودخيلة أمره»
(1)
.
واصطلاحًا: قال ابن خلدون: «البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه، وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره»
(2)
.
وقال ابن حجر: «فالمبايعة عبارة عن المعاهدة سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}
(3)
»
(4)
.
والبيعة هي ميثاق الولاء للنظام السياسي الإسلامي، أو الخلافة الإسلامية، والالتزام بجماعة المسلمين والطاعة لإمامهم
(5)
.
وفي هذا المبحث أربعة مطالب:
المطلب الأول: البيعة على الإسلام.
(1)
لسان العرب (8/ 26) مادة (ب ي ع).
(2)
مقدمة ابن خلدون (209).
(3)
التوبة: (111).
(4)
الفتح (1/ 64).
(5)
البيعة في النظام السياسي الإسلامي، وتطبيقاتها في الحياة السياسية المعاصرة لأحمد صديق (35).
المطلب الثاني: بيعة الامتحان.
المطلب الثالث: بيعة النساء.
المطلب الرابع: بيعة النصرة والمنعة.
المطلب الأول: البيعة على الإسلام
وهي آكدها، وأوجبها، ونكثها كفر، أخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث جرير بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والسمع والطاعة والنصح لكل مسلم» واللفظ للبخاري. وأخرج مسلم
(3)
من حديث ضماد، وفيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:«هات يدك أبايعك على الإسلام» .
والنساء يشاركن الرجال في هذه البيعة، وقد جاءت الأحاديث النبوية في إثبات هذه البيعة أخرج عبد الرزاق في المصنف
(4)
، ومن طريقه ابن سعد في الطبقات
(5)
، وأحمد في المسند
(6)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(7)
، والحاكم في المستدرك
(8)
، عن ابن جُريج، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، أن محمد بن
(1)
كتاب البيوع، باب: هل يبيع حاضر لباد بغير أجر (2/ 757)2049.
(2)
كتاب الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة (1/ 75)56.
(3)
كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة (2/ 593)868.
(4)
(6/ 5)9820.
(5)
(5/ 459).
(6)
(24/ 161)15431.
(7)
(2/ 146)866.
(8)
(3/ 235)5283.
الأسود بن خلف أخبره أن أباه -الأسود- رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح، قال: جلس عند قَرْن مَسْقَلة
(1)
…
فرأيت النبي (2/ 146)866. جلس إليه، فجاءه الناس الصغار والكبار والنساء فبايعوه على الإسلام والشهادة قلت: وما الشهادة؟ قال أخبريني محمد بن الأسود: أنه بايعهم على الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. واللفظ لعبد الرزاق.
وسكت عنه الحاكم والذهبي.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير
(2)
، والفاكهي في أخبار مكة
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
والأوسط
(5)
، وأبو نعيم في معرفة الصحابة
(6)
، والبيهقي في الدلائل
(7)
، والمقدسي في المختارة
(8)
من طرق عن ابن جريج به بنحوه. قال الطبراني في الأوسط: لا يروى هذا الحديث عن الأسود إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن جريج.
وأورده الهيثمي في المجمع
(9)
وقال: «رواه الطبراني في الكبير والأوسط،
(1)
قال الفاكهي: هو قرن قد بقيت منه بقية بأعلى مكة في دبر دار ابن سمرة، عند موقف الغنم، هو بها بين شعب ابن عامر، وطرف دار رابعة. أخبار مكة (4/ 137).
(2)
(1/ 444) رقم الترجمة: 1423.
(3)
(4/ 137)2467.
(4)
(1/ 280)815.
(5)
(3/ 43)2439.
(6)
(1/ 128)895.
(7)
(5/ 94).
(8)
(4/ 243)1442.
(9)
(6/ 37).
وأحمد باختصار، ورجاله ثقات».
قلت: إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الصحيح غير محمد بن الأسود بن خلف، من رجال التعجيل، روى عنه اثنان، وذكره ابن حبان في الثقات
(1)
، وهو من طبقة التابعين، ومن كانت هذه حاله كان حديثه من قبيل الحسن، كما مضى نقله عن ابن القيم
(2)
.
يقول الطبري: «ثم اجتماع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا
…
قال: فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء»
(3)
.
• وهناك قائمة غير قليلة من الصحابيات السابقات إلى الإسلام، واللاتي ذكر من المراجع في المبايعات بمكة قبل الهجرة، ويلاحظ أن هؤلاء المبايعات الأُوَل كنّ جميعًا من المهاجرات إلى الحبشة، وفيهن من أسلم قبل الدخول إلى دار الأرقم، ولا شك أن هذه البيعة كانت على الإسلام، ونذكر منهن: رملة بنت أبي عوف السهمية
(4)
، وفكيهة بنت يسار
(5)
، وليلى بنت أبي حثمة القرشية العدوية
(6)
، وأم جميل بنت المجلل
(7)
، وريطة بنت الحارث
(8)
، وسهلة بنت سهيل بن
(1)
(5/ 359)5198. وانظر ترجمته في/ تعجيل المنفعة (358).
(2)
ص (126).
(3)
التاريخ (ص/ 161).
(4)
الإصابة (7/ 655) 11188، أسلمت قبل دخول دار الأرقم.
(5)
السابق (8/ 76)11633.
(6)
السابق (8/ 102)11708.
(7)
السابق (8/ 181)11935.
(8)
السابق (7/ 660) وقبل اسمها: رائطة.
عمرو القرشية
(1)
، وفاطمة بنت علقمة بن عبد الله بن أبي قيس
(2)
، والشفاء بنت عبد الله العدوية
(3)
، وجذامة بنت جندل
(4)
، وبسرة بنت صفوان بن نوفل الأسدية
(5)
، وعائشة بنت قدامة ابن مظعون
(6)
، وأم أبي بكر الصديق أم الخير بنت صخر
(7)
، وأسماء بنت عميص
(8)
، ورقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(9)
بايعت هي وأخواتها.
هذه الأسماء الأولى من المبايعات اللاتي كن في السابقين الأولين من المسلمين، فبايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت المبكر على الإيمان والعقيدة.
المطلب الثاني: بيعة الامتحان
والدليل على هذه البيعة:
أ- أخرج البخاري
(10)
، ومسلم
(11)
من حديث عائشة قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمْتَحَنَّ بقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ
(1)
السابق (7/ 716)11346.
(2)
السابق (8/ 68)11601.
(3)
السابق (7/ 727)11373.
(4)
السابق (7/ 551)10967.
(5)
السابق (7/ 536)19031.
(6)
السابق (8/ 22)11464.
(7)
السابق (8/ 200)12006.
(8)
السابق (7/ 489) 10803 أسلمت قبل الدخول لدار الأرقم.
(9)
السابق (7/ 648)11181.
(10)
كتاب التفسير، باب:(إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات)(4/ 1856)4609.
(11)
كتاب الإمارة، باب: كيفية بيعة النساء (3/ 1489)1866.
إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} إلى آخر الآية، قالت عائشة: فمن أقر هذا من المؤمنات، فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«انطلقن فقد بايعتكن، ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام. قالت عائشة: «والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلامًا» واللفظ لمسلم.
ب- ما أخرج البخاري
(1)
(1)
كتاب الشروط، باب: ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة (2/ 967)2564. وقد تقدم ذكر أسماء المهاجرات ص (408).
يقول الشيخ السعدي في تفسيره
(1)
: «لما كان صلح الحديبية صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين على أن من جاء منهم إلى المسلمين مسلمًا أنه يرد إلى المشركين، وكان هذا لفظًا عامًا مطلقًا يدخل في عمومه النساء والرجال، فأما الرجال فإن الله لم ينه عن ردهم إلى الكفار وفاء بالشرط، وتتميمًا للصلح، الذي هو من أكبر المصالح، وأما النساء فلما كان ردهم فيه مفاسد كثيرة، أمر المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات، وشكوا في صدق إيمانهن أن يمتحنوهن ويختبروهن ما يظهر به صدقهن من أيمان مغلظة وغيرها
…
».
واختلف المفسرون
(2)
في قوله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} وأصح ما قيل في ذلك ما أخرجه البخاري، ومسلم من حديث عائشة المتقدم، أن الامتحان يكون بلفظ الآية:{أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ} ولذا تقدم في حديث عائشة: «كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُمْتَحَنَّ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، فمن أقر بهذا من المؤمنات، فقد أقر بالمحنة.
(3)
.
حكم هذه البيعة:
(1)
(1/ 857).
(2)
انظر أقوال المفسرين في: تفسير الطبري (28/ 67)، تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3350)، الدرر المنثور (8/ 133).
(3)
التفسير الكبير (29/ 309).
قال القرطبي: «أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا، والأمر بذلك ندب لا إلزامًا»
(1)
.
وقال بعض أهل النظر: «إذا احتيج إلى المحنة من أجل تباعد الدار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة»
(2)
.
وقال الحافظ: «واختلف في استمرار حكم امتحان من هاجر من المؤمنات فقيل: منسوخ، بل ادعي بعضهم الإجماع على نسخه، والله أعلم»
(3)
.
المطلب الثالث: بيعة النساء
لقد أراد الإسلام إقامة الحياة كلها على أساس العقيدة، وربطها كلها بمحور الإيمان، فبين الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم كيف يبايعن على الإيمان، وعلى أي الأسس يبايعن، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(4)
.
وسمى الإمام النووي هذه البيعة بـ «البيعة الشرعية»
(5)
؛ لأنها تمثل الأسس والمقومات الكبرى للعقيدة، كما أنها مقومات الحياة الاجتماعية الجديدة.
(1)
ينظر: روضة الطالبين للنووي (10/ 302)، عمدة القارئ (13/ 292).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (18/ 83).
(3)
الفتح (9/ 335).
(4)
الممتحنة: (12).
(5)
شرح النووي (4/ 531).
وسميت هذه البيعة ببيعة النساء؛ لأنها وردت في القرآن في حق النساء، فعرفت بهمن، ثم استعملت في الرجال
(1)
.
وفي هذا المطلب خمس مسائل:
المسألة الأولى: وقت البيعة.
المسألة الثاني: أدلة البيعة.
المسألة الثالثة: حكم البيعة.
المسألة الرابعة: أركان البيعة.
المسألة الخامسة: كيفية البيعة.
المسألة الأولى: وقت البيعة:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام، باب: بيعة النساء
(2)
، من حديث عبادة بن الصامت قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس: «تبايعوني على ألّا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا بهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله، فأمره إلى الله إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه فبايعناه على ذلك» .
وأخرجه في كتاب الإيمان
(3)
من حديث عبادة بن الصامت وكان شهد بدرًا -
(1)
ينظر: الفتح (13/ 204)، عمدة القارئ (24/ 276).
(2)
(6/ 2637)6787.
(3)
(1/ 15)18.
وهو أحد النقباء ليلة العقبة- قال وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا» فذكره بمثله.
وذكر الحافظ في الفتح ما ملخصه: أن التصريح بأن البيعة الأولى ليلة العقبة كانت على بيعة النساء وَهَمٌ من بعض الرواة؛ وأن البيعة على مثل بيعة النساء كانت بعد ذلك، ولما كانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به، فكان يذكرها إذا حدث تنويهًا بسابقيته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقب ذلك، توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك.
وقال: «والذي يقوي أنا وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف، والدليل على ذلك ما عند البخاري في الحدود
(1)
من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري في حديث عبادة هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايعهم قرأ الآية كلها، وعنده في تفسير الممتحنة)
(2)
من هذا الوجه قال: «قرأ آية النساء» ولمسلم
(3)
من طريق معمر عن الزهري قال: «فتلا علينا آية النساء؟ قال: ألّا تشركن بالله شيئًا
…
وللطبراني
(4)
من وجه آخر عن الزهري هذا الإسناد: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة»
(5)
.
(1)
(6/ 2490)6402.
(2)
(4/ 1857)4612.
(3)
(3/ 1333)1709.
(4)
لم أقف عليه في المطبوع من كتبه.
(5)
انظر بقية الأدلة، مع مناقشة من ذهب إلى أن بيعة العقبة الأولى كانت على مثل بيعة النساء في الفتح (1/ 90 - 93).
وانظر: تاريخ الطبري (1/ 588)، الروض الأنف (2/ 246)، السيرة الحلبية (2/ 161)، البداية والنهاية (3/ 150)، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لمحمد أبو شهبة (1/ 436 - 439).
وقرر رحمه الله أن بيعة العقبة الأولى وقعت على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق، ولا نخاف في الله لومة لائم
(1)
.
المسألة الثانية: أدلة البيعة:
أ- أخرج الطيالسي في المسند
(2)
، والإمام أحمد في المسند
(3)
، والحميدي في المسند
(4)
، وابن ماجه في السنن
(5)
، والترمذي في السنن
(6)
، وفي العلل الكبير
(7)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(8)
، والنسائي في المجتبى
(9)
، والطبري في التفسير
(10)
، وابن حبان في صحيحه
(11)
، والطبراني في الكبير
(12)
، والحاكم في المستدرك
(13)
من طرق عن ابن المنكدر، عن أميمة بنت رُقَيْقَة قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة من الأنصار نبايعه، فقلنا: يا رسول الله نبايعك على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف قال: «فيما
(1)
الفتح (1/ 90).
(2)
1621.
(3)
(44/ 556)27006.
(4)
341.
(5)
(2/ 959)2874.
(6)
(4/ 151)1597.
(7)
(2/ 682).
(8)
(6/ 120)3340.
(9)
(7/ 149)4181.
(10)
(208/ 79).
(11)
(10/ 417)4553.
(12)
(24/ 186)470.
(13)
(4/ 80)6946.
استطعتن وأطقين» قالت: قلنا: الله ورسوله أرحم بنا، هلم نبايعك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة» واللفظ للنسائي.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر، وروى سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن المنكدر ونحوه. قال: وسألت محمدًا (أي: البخاري) عن هذا الحديث، فقال: لا أعرف لأميمة بنت رقيقة غير هذا الحديث، وأميمة امرأة أخرى لها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن كثير بعد أن ساق رواية الإمام أحمد: «هذا إسناد صحيح»
(1)
.
قلت: رجاله رجال الشيخين، غير صحابيته أميمة رضي الله عنها فقد روى لها أصحاب السنن هذا الحديث. وصححه الألباني في صحيح جامع الترمذي
(2)
.
• وجاءت تسمية هذه البيعة بيعة الإسلام، كما أخرج أحمد في المسند
(3)
، والطبري في التفسير
(4)
من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاءت أميمة بنت رُقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام
…
وذكر الحديث بنحوه.
قال الهيثمي في المجمع
(5)
: «رواه الطبراني
(6)
، ورجاله ثقات».
(1)
(4/ 353).
(2)
(4/ 151)1597.
(3)
(11/ 437)6850.
(4)
(28/ 79).
(5)
(6/ 37).
(6)
لم أقف عليه في معاجمه؛ فلعله في المفقود من المعجم الكبير.
وفاته رحمه الله أن ينسبه لأحمد، قلت: إسناده حسن، لأجل رواية عمرو بن شعيب له، وقد تقدم تحقيق القول في روايته
(1)
.
2 -
وقد كانت هذه البيعة معروفة لدى الصحابيات، وكن يتوافدن لأخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج الإمام أحمد في المسند
(2)
، عن إبراهيم بن أبي العباس ويونس، ومن طريقه ابن الأثير في أسد الغابة
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
من طريق زكريا بن يحيى زحمويه، كلاهما عن عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم، عن أبيه، عن أمه عائشة بنت قدامة، قالت: أنا مع رائطة بنت سفيان الخزاعية، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة، ويقول:«أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف» قالت: فأطرقن، فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم:«قلن: نعم فيما استطعتن» فكن يقلن وأقول معهن، وأمي تلقنني: قولي أي بنية: نعم، فيما استطعت، فكنت أقول كما يقلن.
قال الهيثمي في المجمع
(5)
: «رواه أحمد والطبراني، وفيه عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم، وهو ضعيف» .
(1)
ص (197).
(2)
(44/ 618)27062.
(3)
(7/ 149).
(4)
(24/ 261) 663، (24/ 343)857.
(5)
(6/ 38).
قلت: إسناده ضعيف؛ فيه عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب من رجال التعجيل
(1)
، قال أبو حاتم:«ضعيف الحديث؛ يهولني كثرة ما يسند»
(2)
، وأبوه عثمان من رجال التعجيل
(3)
، قال أبو حاتم:«شيخ يكتب حديثه، وقد روى عنه ابنه عبد الرحمن أحاديث منكرة»
(4)
وبقية رجاله ثقات؛ لكن ما قبله شاهد له، وما سيأتي بعده أيضًا، فيكون الحديث صحيحًا لغيره.
وتأمل -حفظك الله- وافر رحمته صلى الله عليه وسلم على المبايعات حين يؤكد عليهن أن يقلن «فيما نستطيع» .
3 -
أخرج عبد الرزاق في مصنفه
(5)
، ومن طريقه الإمام أحمد في المسند
(6)
، وابن حبان في صحيحه
(7)
، والبزار في المسند
(8)
، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة تبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها: «أن لا يشركن بالله شيئًا ولا يزنين
…
» قالت: فوضعت يدها على رأسها حياءً؛ فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى منها، فقالت عائشة: أقرِّي أيتها المرأة، فو الله ما بايعنا إلا على هذا، قالت: فنعم إذًا، فبايعها بالآية. واللفظ لعبد الرزاق.
(1)
638.
(2)
الجرح والتعديل (5/ 264)1249.
(3)
720.
(4)
ينظر: الجرح والتعديل (6/ 144)782.
(5)
(11/ 464)21020.
(6)
(42/ 95)25175.
(7)
(10/ 418)4554.
(8)
قال البزار: «لا نعلم رواه إلا معمر بهذا» .
وقال الهيثمي في المجمع
(1)
. «رواه أحمد، إلا أنه قال: عن معمر، عن الزهري أو غيره، عن عروة، والبزار لم يشك، ورجاله رجال الصحيح» .
قلت: إسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين.
4 -
أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث أم عطية قالت: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منّا يدها
(4)
، فقالت: فلانة أسعدتني
(5)
، وأنا أريد أن أجزيها، فلم يقل شيئًا، فذهبت ثم رجعت
(6)
، فما وفت امرأة إلا أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، أو
(1)
(6/ 37).
(2)
كتاب الأحكام، باب: بيعة النساء (6/ 2637)6789.
(3)
كتاب الجنائز، باب: التشديد في النياحة (2/ 645)936.
(4)
سيأتي تفصيل ذلك في كيفية البيعة ص (336).
(5)
معنى "أسعدتني" قال الحافظ: «الإسعاد قيام المرأة مع الأخرى في النياحة تراسلها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلا في البكاء والمساعدة عليه، ويقال: إن أصل المساعدة وضع الرجل يده على ساعد الرجل صاحبه عند التعاون على ذلك» الفتح (8/ 836).
(6)
اختلف أقوال أهل العلم في تأويل هذه الجملة: ذهب بعضهم إلى أن هذا كان قبل تحريم النياحة، وهو فاسد لمساق حديث أم عطية هذا؛ ولولا أن أم عطية فهمت التحريم لما استثنت، وهي التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بينت رواية النسائي (الكبرى 4/ 428 حديث: 7802)، وقد أبهمت نفسها في هذه الرواية.
وذهب النووي إلى أن ذلك مخصوص بأم عطية في آل فلان خاصة، وللشارع أن يخص من العموم من شاء من شاء. قال الحافظ: وفيه نظر إلا إن ادعى أن الذين ساعدهم لم يكونوا أسلموا، وفيه بعد، وقد ساق الحافظ في الفتح رخصة النبي صلى الله عليه وسلم لغير أم عطية، وثبوت ذلك لغيرها.
وأقرب الأجوبة في ذلك كما رجحّ الحافظ أنها كانت مباحة، ثم كرهت كراهة تنزيه، ثم تحريم.
وانظر الأقوال الأخرى ومناقشتها:
شرح ابن بطال (5/ 142)، المعلم (6/ 102)، المفهم (4/ 112)، شرح النووي (22/ 7)، الفتح (8/ 638 - 639)، عمدة القارئ (19/ 232 - 333).
ابنة أبي سيرة وامرأة معاذ. واللفظ للبخاري.
5 -
بل كان صلى الله عليه وسلم يتعاهد النساء هذه البيعة يوم العيد كما قال ابن كثير
(1)
، أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث ابن عباس قال: شهدت صلاة الفطر مع نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان فكلهم يصليها قبل الخطبة، ثم يخطب، قال: فنزل النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء ومعه بلال فقال:{أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(4)
فتلا هذه الآية حتى فرغ منها، ثم قال حين فرغ منها:«أنتين على ذلك؟» فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله لا يدري حينئذ من هي
…
الحديث، واللفظ لمسلم.
يقول العيني: «وإنما تلا هذه الآية الكريمة ليذكرهن البيعة التي وقعت بينه وبين النساء لما فتح مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أمر الفتح اجتمع الناس للبيعة، فجلس بهم على الصفا، ولما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء
(5)
، وذكر لهن ما ذكر الله
(1)
التفسير (4/ 354).
(2)
كتاب العيدين، باب: موعظة الإمام النساء يوم العيد (1/ 332)936.
(3)
كتاب صلاة العيدين (2/ 2 - 6)884.
(4)
الممتحنة: (12).
(5)
تقدم تخريجه ص (407 - 408).
في الآية المذكورة، قوله (أنتن على ذلك) مقول القول، و الخطاب للنساء أي: أنتين على ما ذكر في هذه الآية»
(1)
.
قال ابن الجوزي: «وجملة من أحصي من المبايعات إذ ذاك أربعمائة وسبع وخمسون امرأة، ولم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام هذه الآية»
(2)
.
المسألة الثالثة: حكم البيعة:
بوّب ابن حبان في صحيحه على حديث أميمة بنت رقيقة
(3)
: «ذكر ما يستحب للإمام أخذ البيعة من نساء رعيته على نفسه إذا أحب ذلك»
(4)
.
وقال القرطبي: «قال المهدوي: أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا، والأمر بذلك ندب لا إلزام»
(5)
.
يقول أبو السعود في تفسيره
(6)
: (فبايعهن) أي: على ما ذكر وما لم يذكر الوضوح أمره، وظهور أصالته في المبايعة من الصلاة، والزكاة، وسائر أركان الدين وشعائر الإسلام، وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن، لحثهن على المسارعة إليها، مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها
…
».
ومن هنا يتبين أن هذه البيعة سنة في حق الإمام إذا جاءه النساء يبايعنه
(1)
عمدة القارئ (6/ 301).
(2)
عزاه له محمد صديق في حسن الأسوة (151) وقد اجتهدت في التنقيب عن قول ابن الجوزي في كتبه، فلم أظفر به، فلعل الله يسهل لي الظفر به.
(3)
تقدم تخريجه ص (415) فما بعدها.
(4)
صحيح ابن حبان (10/ 417).
(5)
تفسير القرطبي (18/ 76).
(6)
(8/ 241).
عليها، دون أن يدعو إليها، ولذا شرط الله تعالى المبايعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء. بمجيئهن إليه مبايعات.
ومن هنا تعلم أن بيعة النساء بويع بها الرجال والنساء على حد سواء يوم فتح مكة
(1)
، كما بويعت بها المهاجرات للامتحان
(2)
، وبويعت بها نساء الأنصار
(3)
، بل كان صلى الله عليه وسلم يتعاهد النساء بها كما جاء في حديث ابن عباس
(4)
.
المسألة الرابعة: أركان البيعة:
(5)
.
أركان بيعة النساء ستة:
• أولها: النهي عن الشرك المناقض للإيمان الذي اعتنقوه، وآمنوا به، وجاءت «شيئًا» نكرة في سياق النفي؛ لتعم جميع أوجه الإشراك صغيرها وكبيرها، وليفردنه ويوحدنه سبحانه بالعبادة.
• ثانيها: «ولا يسرقن» .
فلا تأخذ مال أحد بغير حق. ولذا استفسرت هند
(1)
تقدم ما يدل على ذلك ص (406) فما بعدها.
وانظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة (1/ 436 - 439).
(2)
تقدم ص (406) فما بعدها.
(3)
تقدم ص (418).
(4)
تقدم ص (420).
(5)
الممتحنة: (12).
بنت عتبة عن أخذها من مال زوجها أبي سفيان، أخرج ابن سعد
(1)
بسند رجاله رجال الصحيح لكنه مرسل عن الشعبي يذكر أن النساء جئن يبايعن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«تبايعن على ألّا تشركن بالله شيئًا» فقالت هند: إنا لقائلوها. فقال: «فلا تسرقن» فقالت هند: كنت أصيب من مال أبي سفيان، قال أبو سفيان: فما أصبت من مالي فهو حلال لك. قال: «ولا تزنين» قالت هند: وهل تزني الحرة؟ قال: «ولا تقتلن أولادكن» قالت هند: أنت قتلتهم.
وقد جاءت فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند أصالة، ولغيرها تبعًا لما سألته فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» أخرجه البخاري
(2)
، وجمع الحافظ بينه وبين ما تقدم بجمع حسن فقال:«ويمكن تعدد القصة، وأن هذا وقع لما بايعت، ثم جاءت مرة أخرى فسألت عن الحكم، وتكون فهمت من الأول إحلال أبي سفيان لها ما مضى فسألت عما يستقبل»
(3)
.
• ثالثها: «ولا يزنين» .
لقد شاع في المجتمع الجاهلي قبل الإسلام -شأنه كشأن أي مجتمع منحرف عن الصراط المستقيم عقيدة وسلوكًا- الفواحش، وخضع لغوايات الشيطان، ووقع في أحابيله، وتاه في دهاليز الضلالة، يدلل على ذلك ما تقدم
(4)
إيراده من أنواع الأنكحة الأربعة في الجاهلية التي أبطل الإسلام منها ثلاثة، وأقر واحدًا هو نكاح
(1)
(8/ 237).
(2)
كتاب النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه
…
(5/ 2052)5049.
(3)
الفتح (9/ 420).
(4)
ص (47 - 48).
الناس اليوم، وعالج الإسلام هذه الظاهرة الانحرافية في المجتمع الجاهلي علاجًا جذريًّا، وذلك من طريقين: إيجابي بالحض على الزواج المبكر، وتهيئة أسبابه، وتيسير مؤونته، وسبي: بالنهي عنه، والتحذير منه، ثم الحد لمن فعله.
• رابعها: «ولا يقتلن أولادهن» .
قال محمد بن إسماعيل التيمي: خص القتل بالأولاد؛ لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد
(1)
. ولأنه كان شائعًا فيهم، وأد البنات، وقتل البنين خشية الإملاق
(2)
.
• خامسها: «ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن» .
اختلفت أقوال المفسرين في الآية:
فذهب بعضهم إلى أن الآية نهي عن النميمة، والبهتان هو: الكذب الذي بهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء؛ لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي
(3)
.
وذهب الجمهور إلى أن الآية نهي عن إلحاق الولد بالزوج، قال ابن عباس: لا تلحق بزوجها ولدًا ليس منه
(4)
. قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك
(5)
.
فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا أرضعته الأم
(1)
عزاه له الحافظ في الفتح (1/ 88).
(2)
ينظر: تفسير القرطبي (18/ 72)، تفسير ابن كثير (4/ 355)، الفتح (1/ 88)، روح المعاني للألوسي (28/ 80).
(3)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (29/ 267)، الفتح (1/ 88).
(4)
ينظر: تفسير الطبري (28/ 77)، التفسير الكبير (29/ 267)، الدر المنثور (8/ 141).
(5)
عزاه له الرازي في تفسيره (29/ 267).
سقط بين يديها ورجليها
(1)
، وقيل: لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين
(2)
، وليس المعنى نهيهن عن الزنى؛ لأن النهي عن الزنى قد تقدم.
• سادسها: (ولا يعصينك في معروف).
اختلف في معناه، والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وينهى عنه، فيدخل فيه النوح، وتخريق الثوب، وجزّ الشعر، والخلوة بغير محرم إلى غير ذلك، وهذه كلها من كبائر الذنوب.
وقال ابن عباس، وأنس بن مالك، وسالم بن أبي الجعد، وأبو صالح وغير واحد
(3)
نهاهن يومئذ عن النوح، وقد تقدم
(4)
حديث أم عطية في ذلك أيضًا.
وقال زيد بن أسلم: «ولا يعصينك في معروف» قال: لا يخدشن وجهًا، ولا يشققن جيبًا، ولا يدعون ويلًا، ولا يَشْدُدْنَ شعرًا
(5)
.
وأخرج الطبري
(6)
من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن زهير في قول الله (ولا يعصينك في معروف) قال: لا يخلو الرجل بامرأة.
وجميع ما مضى يدخل فيه.
قال أبو السعود: «والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به؛ للتنبيه
(1)
المصدر السابق.
(2)
ينظر: الكشاف (4/ 519)، تفسير أبي السعود (8/ 240).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (28 - 77 - 79)، تفسير ابن كثير (4/ 356 - 3589) الدر المنثور (8/ 142 - 144)1161.
(4)
ص (419 - 420) وانظر: الفتح (8/ 640).
(5)
تفسير الطبري (28/ 78).
(6)
المصدر السابق (28/ 81).
على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق»
(1)
.
قلت: التقييد بالمعروف لمن جاء بعده صلى الله عليه وسلم.
وبعد هذا الاستعراض ترى أن أركان بيعة النساء كانت على شرائع الدين وأصوله، ولعلك تسأل نفسك لم جاءت البيعة بالمناهي دون الأوامر؟
(2)
فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي؛ لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها».
المسألة الخامسة: كيفية البيعة:
1 -
بيعة النساء بالكلام فحسبُ:
المتأمل للأحاديث السابقة يرى أن بيعة النساء تمت بالكلام فحسب دون مصافحة كما هو حال الرجال، يدل على ذلك حديث أميمة بنت رقيقة المتقدم
(3)
(1)
(8/ 240) وانظر: الفتح (1/ 89).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان (1/ 29) 53 الدُبّاء: القرع اليابس منه. والحَنْتم: الجرار الخضر تصنع من الطين والشعر، والنَقِير: النخلة تنقر، فيتخذ منه وعاء. والمزفت: ما طلي بالزفت. انظر: الفتح (1/ 134).
(3)
ص (415 - 416).
وفيه جوابه صلى الله عليه وسلم عليهن لمّا قلن له: هلم نبايعك يا رسول الله؟ فقال: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي المائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» .
وحديث عائشة
(1)
وفيه: «فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد بايعتك. كلامًا. ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: «قد بايعتك» واللفظ للبخاري، ولفظ مسلم:«وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلقن فقد بايعتكن» ولا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام، قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن:«قد بايعتكن» . كلامًا.
يقول الثعالبي في تفسيره
(2)
ولا تستغرب أن تكون بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء بالكلام فقط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حدّث بحديث لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، أخرجه الروياني في المسند
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
من طريق أبي العلاء، عن معقل بن يسار يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن
(1)
تقدم ص (410).
(2)
(4/ 294).
(3)
(2/ 323)1283.
(4)
(20/ 211)486.
يمس امرأة لا تحل له» واللفظ للطبراني.
قال المنذري: «رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح»
(1)
وقال الهيثمي: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح»
(2)
وصححه الألباني في الصحيحة
(3)
. وهو كما قال.
قال ابن حجر عند شرح حديث عائشة المتقدم: «(قد بايعتك). كلامًا. أي: يقول ذلك كلامًا فقط لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة، قوله:(ولا والله) القسم لتأكيد الخبر، وكأن عائشة أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية، فعند ابن خزيمة)
(4)
، وابن حبان
(5)
والبزار
(6)
، والطبري
(7)
، وابن مردويه
(8)
، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن، عن جدته أم عطية في قصة المبايعة قال:«فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: «اللهم اشهد» وكذا الحديث الذي بعده حيث قالت فيه «فقبضت منا امرأة يدها
…
«فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن، ويمكن الجواب عن الأول: بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة، وإن لم تقع المصافحة.
(1)
الترغيب والترهيب (3/ 26).
(2)
مجمع الزوائد (4/ 326).
(3)
(1/ 447)226.
(4)
(3/ 112)1722.
(5)
(7/ 314)3041.
(6)
مسند البزار (1/ 374)252.
(7)
(28/ 81).
(8)
عزاه له السيوطي في الدر المنثور (8/ 139).
وعن الثاني: بأن المراد بقبض اليد التأخر عن القبول»
(1)
.
وقد جاءت روايات ضعيفة لا تقاوم الروايات الصحيحة في كيفية المبايعة؛ منها ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى يبايع النساء أتى ببرد قطري، فوضعه على يده، فقال: إني لا أصافح النساء.
قلت: رجاله ثقات؛ لكنه مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف، وقد أورده الحافظ في الفتح
(2)
، وتخريج الكشاف
(3)
وسكت عنه، وضعفه الألباني في الضعيفة
(4)
.
وأخرج ابن عبد البر في التمهيد
(5)
من طريق سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصافح النساء، وعلى يده ثوب.
وأخرج أيضًا من طريق سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن حازم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع لا يصافح النساء إلا وعلى يده ثوب.
وكلاهما مرسل.
(6)
.
وسكت الحافظ عنه في الفتح؛ ولا يخفى ضعفه؛ للإعضال بين أبان بن
(1)
الفتح (8/ 636).
(2)
(8/ 636).
(3)
(4/ 169).
(4)
(4/ 337)1858.
(5)
(12/ 244).
(6)
الفتح (8/ 637).
صالح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبان مات سنة بضع عشرة ومائة
(1)
.
ويظهر مما تقدم أن بيعة النساء تكون بالكلام فقط دون مصافحة خلاف بيعة الرجال.
2 -
البيعة بالكتابة:
أخرج البخاري في صحيحه
(2)
من طريق سفيان، قال: حدثني عبد الملك بن دينار قال: لما بايع الناس عبد الملك كتب إليه عبد الله بن عمر: «إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما استطعت، وإن بَنِيَّ قد أقروا بذلك» .
وفيه أن البيعة تؤخذ كتابةً؛ لفعل ابن عمر، وكما أنها تؤخذ من النساء مشافهة؛ فإنها تؤخذ أيضًا مكاتبةً؛ إذ لا محظور شرعي في المسألة، والله تعالى أعلم. لكن بيعتها!! على ما تقدم من بيعة النساء.
(1)
ينظر: تهذيب التهذيب (1/ 82) 168، التقريب (103)138.
(2)
كتاب الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام للناس (6/ 2633)6779.
المطلب الرابع: بيعة النصرة والمَنَعَة
أخرج أحمد في المسند
(1)
، والبزار في المسند
(2)
، وابن حبان في الصحيح
(3)
والبيهقي في الكبرى
(4)
من طرق عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خُثَيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتَّبَّع الناس في منازلهم بعكاظ ومَجَنّة، وفي المواسم بمني، يقول:«من يؤوين؟ ومن ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة» حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مُضَر فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتننك، ويمشي بين رجالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله له من يثرب، فآويناه وصدّقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعًا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرَد في جبال مكة ويُخَاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلًا حتى قدموا عليه في المواسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم
(1)
(22/ 346)14456.
(2)
كشف الأستار (1756).
(3)
(14/ 172)6274.
(4)
(8/ 146)16333.
وأبناءكم، ولكم الجنة»
…
واللفظ لأحمد، وقد رواه بأتم من هذا.
وإسناده صحيح على شرط مسلم، وزال ما يخشى من تدليس أبي الزبير محمد بن مسلم؛ لتصريحه بالتحديث عند أحمد
(1)
.
وتسمى هذه البيعة بيعة العقبة الثانية، وجملة من شهدها ثلاثة وسبعون رجلًا، وامرأتان من النساء: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار، والثانية: أسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي إحدى نساء بني سَلِمة وهي أم منيع
(2)
.
ولكن ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعته قال لهم جميعًا: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا، ليكونوا على قومهم بما فيهم»
(3)
.
والنقيب هو مقدم قومه والناظر عليهم، وسُمي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار الذين تقدموا لأخذ البيعة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم نقباء؛ لضمانهم إسلام قومهم، ونصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، والنقيب الضامن، وقيل: لتقدمهم على قومهم
(4)
.
وهناك رواية تشير إلى أن الأنصار لم يختاروا النقباء بأنفسهم، وإنما كان ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الوحي، ثم بايعوا -أي الأنصار- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم:«إن موسى عليه السلام أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيبًا، فلا يجدن منكم أحد في نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لي جبريل» قال مالك بن أنس رحمه الله:
(1)
المسند (22/ 349)14457.
(2)
السيرة لابن هشام (1/ 454)، وانظر: البداية والنهاية (3/ 166)، إقناع الأسماع للمقريزي (1/ 35).
(3)
المصادر المتقدمة.
(4)
ينظر: مشارق الأنوار (2/ 23)، النهاية (5/ 100) مادة (ن ق ب).
حدثني شيخ من الأنصار: أن جبريل عليه السلام كان يشير إلى من يجعله نقيبًا، قال مالك: كنت أعجب كيف جاء من قبيلة رجلان، ومن قبيلة رجل؟ حتى حدثني هذا الشيخ أن جبريل كان يشير إليهم يوم البيعة يوم العقبة»
(1)
.
ومن هنا يُعْلِم أن البيعة انعقدت بأهل الحل والعقد النقباء، ولمن حضر على السمع والطاعة، فتنبه
(2)
، ولا مانع من أن تشهد المرأة مثل ذلك؛ لإقراره صلى الله عليه وسلم المرأتين.
وما تقدم من أنواع البيعة جاءت السنة بإثباته للنساء والرجال على حد سواء، وأمّا بيعة الهجرة، وبيعة الجهاد، وبيعة الصبر وعدم الفرار فهي للرجال دون النساء، كما ذكر ذلك شراح الحديث وأهل العلم
(3)
، ولذا لم أوردها في هذا المبحث.
(1)
ينظر: الطبقات الكبرى (1/ 222)، السيرة الحلبية (2/ 176)، الفصول في اختصار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير (99).
(2)
سيأتي مزيد لبيان هذه المسألة ص (437) فما بعدها.
(3)
ينظر: فتح الباري (13/ 194)، عمدة القارئ (24/ 271).
المبحث الثاني: بيعة المرأة لولي الأمر
إن البيعة لولي الأمر من أبرز جوانب العمل السياسي الذي تمارسه الأمة، إذ أنها في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم، وقد سبقت إنشاء الدولة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وأداة إعلانه التزامه بالمنهج والشريعة والشورى، وهي صيغة تمكين الأمة لا خضوعها، فالبيعة هي الوجه الآخر للشورى، بل هي إحدى صورها، وهي ليست ممارسة قهرية بل اختيارية حرة؛ لأن البيعة، وإدارة تولي السلطة، ووجود إدارة سياسية في المجتمع الإسلامي تنظّم شؤونه، وتدير مصالحه هو شرط التمدن الإسلامي، وتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تُضيع مقاصد الشرع، وبالتالي تعود الجاهلية، وإجراءات البيعة تنقسم إلى مستويين متتابعين متلازمين:
1 -
بيعة الانعقاد: وبموجبها ينعقد للشخص المبايع السلطان، ويكون له بها الولاية الكبرى دون غيره، حسمًا للخلاف حول من يتولى أمر المسلمين، وهذه البيعة هي التي يقوم بها أهل الحل والعقد، ودلائل هذه البيعة واضحة تمامًا في انعقاد البيعة للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين- فقد كان أهل الاختيار يقومون باختيار الإمام، ثم يبايعونه بيعة انعقاد أولية.
2 -
البيعة العامة أو بيعة الطاعة: وهي بيعة شعبية عامة للكافة من الأمة، أي: بيعة سائر المسلمين للخليفة، وهذا ما تم بالنسبة للخلفاء الراشدين جميعًا، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن بايعه أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، دُعي المسلمون للبيعة العامة في المسجد، فصعد المنبر بعد أن أخبرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه باختيارهم له، ومبايعتهم إيّاه، وأمرهم بمبايعته فبايعه
المسلمون، وما حدث مع أبي بكر الصديق حدث مع كل الخلفاء الراشدين
(1)
.
(2)
.
وقال الدسوقي في حاشيته: «وبيعة أهل الحل بالحضور والمباشرة بصفقة اليد، وإشهاد الغائب منهم، ويكفي العامي اعتقاد أنه تحت أمره؛ فإن أضمر خلاف ذلك فسق، ودخل تحت قوله عليه السلام: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية
…
(3)
»
(4)
.
وهذه البيعة هي التي تقصدها معظم الكتابات تأسيسًا على الممارسة في عصور الملك المتتالية، وهي التي تتبادر للذهن إذا أطلقت كلمة البيعة دون تحديد.
• وقبل أن آتي إلى بيان حكم المسألة بالنسبة للمرأة، لا بد أن نعرف من هم أهل الحل والعقد؟
عرف صاحب نهاية المحتاج أهل الحل والعقد بأهم: «العلماء والرؤساء
(1)
ينظر: البداية والنهاية (6/ 108)، الاختيار للوظيفة العامة في النظام الإسلامي لإبراهيم عبد الصادق محمود (1/ 48)، البيعة في النظام السياسي والإسلامي لأحمد صديق عبد الرحمن (68).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 272) وانظر: إعانة الطالبين للنووي (10/ 43)، البحر الرائق (6/ 299).
(3)
أخرجه مسلم كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن
…
(3/ 1475)185.
(4)
حاشية الدسوقي (4/ 298).
ووجهاء الناس الذين يتيسر اجتماعهم»
(1)
.
• وبعد أن عرضت مستويات البيعة، فإنه مما لا شك فيه أن المرأة تدخل دخولًا أوليًّا في القسم الثاني في بيعة الطاعة، أو البيعة العامة شأنها في ذلك شأن عوام المسلمين؛ وأنه يجب عليها السمع والطاعة لولي الأمر في السر والجهر ما لم يأمر بمعصية، ولا تعتقد خلاف ذلك؛ شأنها في ذلك شأن الرجل؛ لأن الأحاديث التي همت عن الخروج على الإمام، وفسخ بيعة السمع والطاعة عامة؛ جاءت بـ «من» الشرطية، وهي أعلى صيغ العموم، كما قرر ذلك الأصوليون
(2)
.
وقد أخرج البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من حديث ابن عباس مرفوعًا: «من كره من أميره شيئًا فليصبر؛ فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية» .
وأخرج مسلم
(5)
من طريق نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» .
قال الحافظ: «والمراد بالميتة الجاهلية -وهي بكسر الميم- أي الموت كموت
(1)
(7/ 390) وانظر: روضة الطالبين (10/ 43)، البحر الرائق (6/ 2909)، مواهب الجليل (6/ 279).
(2)
ينظر: أصول السرخسي (1/ 15)، إرشاد الفحول (247)، المدخل لابن بن ران (1/ 239).
(3)
كتاب الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» (6/ 2588)6645.
(4)
كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين
…
(3/ 1477)1849.
(5)
حديث رقم (1851).
أهل الجاهلية على ضلال، وليس له إمام مطاع؛ لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافرًا بل يموت عاصيًّا، ويحتمل أن يكون التشبيه على ظاهره، ومعناه أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن هو جاهليًّا، وأن ذلك ورد مورد الزجر والتنفير وظاهره غير مراد»
(1)
.
• وأمّا بيعة الانعقاد فيشترط أن تكون من أهل الحل والعقد، ومن شروط أهل الحل والعقد الذكورة، بل حكى الجويني الإجماع على ذلك في غياث الأمم
(2)
فقال: «ما نعلمه قطعًا أن النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة، فإن ما روجعن قط، ولو استشير في هذا الأمر امرأة لكان أحرى الناس وأجدر من هذا الأمر فاطمة رضي الله عنها ثم نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ونحن بابتداء الأذهان نعلم أنه ما كان لهن في هذا المجال مخاض في منقرض العصور، وكرّ الدهور» . وقال الماوردي في الأحكام السلطانية
(3)
:
«ويعتبر في تقليد هذه الوزارة -أي وزارة التفويض- شروط الإمامة إلا النسب وحده» ومن شروط الإمامة العظمى كما سيأتي
(4)
الذكورة، ومن أدل الأدلة على ذلك أن استخلاف الخلفاء الراشدين)
(5)
لم يؤثر فيه أن امرأة واحدة من أمهات المؤمنين ولا الصحابيات شاركن في أخذ البيعة، بل اكتفت النساء ببيعة الرجال -ولا يجتمعون على ضلالة- ولا في بيعة من جاء بعدهم مع وفرة الدواعي التي تؤيد
(1)
(13/ 7).
(2)
(3)
(4)
ص (515).
(5)
ينظر: حكم تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء للحاج محمد أحمد (59 - 62).
مشاركة المرأة، وانتفاء الموانع في ذلك الوقت حين بلغت المرأة شأنًا عظيمًا برفع الإسلام لمكانتها، والقرب من مشكاة النبوة، وقد أخرج البخاري
(1)
في حديث طويل من حديث ابن عباس وفيه قول عمر: «كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئًا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقًا من غير أن يدخلهن في شيء من أمورنا» .
فتكون عدم مشاركتهن
(2)
إجماعًا من الصحابة ومن بعدهم من المسلمين، وقد أخرج أحمد في المسند
(3)
، وأبو داود في السنن
(4)
، وابن ماجه في السنن
(5)
، والترمذي في السنن
(6)
، وابن حبان في صحيحه
(7)
، والحاكم في المستدرك
(8)
، من حديث العرباض بن سارية وفيه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» .
قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح وليس له علة، ووافقه الذهبي. وأبو نعيم فيما نقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم
(9)
،
(1)
كتاب اللباس، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس والبسط (5/ 2197)5505.
(2)
حاولت الباحثة الفاضلة: أسماء محمد زيادة أن توجد مبررًا لغياب مشاركة المرأة في البيعة في عهد الخلفاء الراشدين، فأبعدت و-وفقها الله- فيما حققته. يُنْظر كتابها «دور المرأة السياسي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين» (191 - 213).
(3)
(28/ 367)17142.
(4)
(4/ 200)4607.
(5)
(1/ 15)42.
(6)
(5/ 44)2676.
(7)
(1/ 179)5.
(8)
(1/ 174)329.
(9)
(2/ 109).
والبزار فيما نقله عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم
(1)
. وصححه الألباني
(2)
في صحيح سنن أبي داود.
وخلاصة هذه المسألة أن للمرأة حقًا في بيعة السمع والطاعة ولو ح ضرت البيعة جاز لها ذلك لأن نسيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرو أم منيع شهدتا بيعة العقبة الثانية، وسميتا من أهلها؛ وبايعتا بيعة السمع والطاعة، لكن بيعة الانعقاد تمت على يد النقباء الاثني عشر. وفقنا الله للصواب، وهدانا لما اختلف فيه من الحق بإذنه؛ إنه سبحانه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(1)
(2)
(4/ 200)4607.
الفصل الثاني
حق المرأة في مناصحة الولاة أو الاحتساب على أصحاب السلطة
الفصل الثاني حق المرأة في مناصحة الولاة أو الاحتساب على أصحاب السلطة
لقد مرّ -أيّها القارئ الكريم- فيما مضى دور المرأة الجليل في الدعوة إلى الله، على المستوى الفردي والجماعي
(1)
، وما أولته من عناية للعلم جعلتها تصاف كبار علماء عصرها، وثني أجلاء العلماء ركبهم عندها، فأفتت، وناظرت، وراجعت العلماء وطلاب العلم حتى إن كثيرا منهم رجع إلى رأيها، واستضاء بعلمها
(2)
، وستجدها الآن صاحبة الرأي المستنير، والحجة القوية التي تأمر بها السلطان بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، ولا غرو فإن الإسلام يربي أفراده على القوة وقول الحق ولو على أنفسهم يقول تعالى:
(3)
.
يقول ابن النحاس الدمشقي: «قلت: وفي ذكره تعالى (والمؤمنات) هنا دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء، كوجوبه على الرجال
(1)
ص (319).
(2)
ص (303).
(3)
التوبة: (71).
حيث وجدت الاستطاعة»
(1)
.
وأفتى الفقهاء بأن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتساوى فيه النساء والرجال
(2)
.
وسأدلل فيما سيأتي على ما بذلته المرأة في تطبيق هذه الشعيرة على أصحاب السلطة وكبار القوم؛ لتعلم أن الإسلام حباها مكانة لا تساميها مكانة:
1 -
أخرج البخاري في صحيحه
(3)
من طريق يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار أنه سمعهما يذكران أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق بنت عبدالرحمن بن الحكم، فانتقلها عبد الرحمن، فأرسلت عائشة إلى مروان -وهو أمير المدينة-:«اتق الله وارددها إلى بيتها» . قال مروان في حديث سليمان: إن عبدالرحمن بن الحكم غلبني
(4)
. وقال القاسم بن محمد: أو ما بلغكِ شأن فاطمة بنت قيس؟ قالت: لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة. فقال مروان: إن كان بك شر فحسبك ما بين هذين من الشر
(5)
.
وفي الحديث أمر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أمير المدينة برد المطلقة
(1)
تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين (20).
(2)
تفسير القرطبي (8/ 203)، إحياء علوم الدين للغزالي (2/ 474).
(3)
كتاب الطلاق، باب: قصة فاطمة بنت قيس قول الله عز وجل {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الطلاق: 1 (5/ 2038)5015.
(4)
قال الحافظ في الفتح: «وقول مروان إن عبد الرحمن غلبني أي لم يطعن في ردها إلى بيتها، وقيل: مراده غلبني بالحجة؛ لأنه احتج بالشر الذي كان بينهما» (9/ 476).
(5)
قال الحافظ في الفتح: «(فقال مروان بن الحكم إن كان بكِ شر) أي: إن كان عندك أن سبب خروج فاطمة ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر، فهذا السبب موجود ولذلك قالا: «فحسبك ما بين هذين من الشر» (9/ 476).
البائنة إلى بيتها، وقد عارضت في ذلك حديث فاطمة بنت قيس فإنها أفتت بانتقال المطلقة البائنة عن بيتها
(1)
.
2 -
أخرج مسلم في صحيحه من طريق أبي نوفل قال: رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة
(2)
، قال: فجعلت قريش تمر عليه والناس، حتى مرّ عليه عبد الله بن عمر فوقف عليه، فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أخاك عن هذا، أمّا والله لقد كنت أفاك عن هذا، أمّا والله إن كنت ما علمت صوامًا قوامًا وصولًا للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير
(3)
. ثم نفذ عبد الله بن عمر، فبلغ الحجاج موقف عبد الله وقوله، فأرسل إليه، فأنزل عن جذعه، فألقي في قبور اليهود، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول لتأتيني، أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك. قال: فأبت. وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إليّ من يسحبني بقروني. قال: فقال: أروني سِبْتيّ
(4)
، فأخذ نعليه ثم انطلق يتوذف
(5)
حتى دخل عليها. فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله. قالت:
(1)
انظر تفصيل المسألة وأدلة الفريقين في: شرح النووي (10/ 95)، الفتح (9/ 477)، عمدة القارئ (20/ 310).
(2)
قال النووي: «عقبة المدينة هي عقبة بمكة» شرح صحيح مسلم (6/ 98).
(3)
قال النووي: «فيه استحباب السلام على الميت في قبره وغيره، وتكرير السلام ثلاثًا كما كرر ابن عمر، وفيه الثناء على الموتى بجميل صفاتهم المعروفة، وفيه منقبة لابن عمر لقوله بالحق في الملأ، وعدم اكتراثه بالحجاج؛ لأنه يعلم أنه يبلغه مقامه عليه، وقوله، وثناؤه عليه
…
» شرح صحيح مسلم (16/ 98).
(4)
بكسر السين المهملة، وإسكان الموحدة، وتشديد آخره، وهي النعل التي لا شعر عليها. ينظر: مشارق الأنوار (2/ 203) مادة (س ب ت)، شرح النووي (16/ 99).
(5)
يتوذف أي: يتبخبر. انظر: مشارق الأنوار (2/ 2830)، النهاية (5/ 170)، مادة (و ذ ف).
رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له يا ابن ذات النطاقين، أنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعام أبي بكر من الدواب، وأمّا الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابًا ومبيرًا
(1)
، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إيّاه. قال: فقام عنها ولم يراجعها.
الله أكبر ما أجرأ أسماء رضي الله عنها في الجهر بكلمة الحق عند السلطان الجائر! ولا عجب فهي بنت أبيها رضوان الله عليهم أجمع.
لكنها الجرأة في مكانها المناسب، لا الحماقة والخروج عن الحكمة أو الحكام.
3 -
أخرج الإمام أحمد في المسند
(2)
عن يحيى بن إسحاق السيلحيني، وقتيبة بن سعيد، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(3)
من طريق سعيد بن كثير بن عفير ثلاثتهم عن ابن لهيعة، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد قال: سمعت أم الطفيل -قال قتيبة: امرأة أبيِّ بن كعب- أنها سمعت عمر بن الخطاب، وأُبيَّ بن كعب يختصمان، فقالت أم الطفيل: أفلا يسأل عمر بن الخطاب سُبيعة الأسلمية؟ توفي عنها زوجها وهي حامل، فوضعت بعد ذلك بأيام، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم. واللفظ لأحمد.
وفي لفظ آخر له
(4)
: «فقالت أم الطفيل لعمر ولي: قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
المبير أي: المهلك. انظر: مشارق الأنوار (1/ 104)، النهاية (1/ 161)، مادة (ب و ر). قال النووي:«واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد، وبالمبير الحجاج بن يوسف» شرح صحيح مسلم (16/ 100).
(2)
(45/ 76)27109.
(3)
(6/ 157)3384.
(4)
سُبيعة الأسلمية أن تنكح إذا وضعت».
قال الهيثمي في المجمع
(1)
: «رواه أحمد والطبراني أنتم منه، وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات» .
واختُلِف في إسناده على ابن لهيعة، وأصح ما ورد عنه ما أوردتُهُ من الرواية؛ لأن يحيى بن إسحاق من قدماء أصحاب ابن لهيعة، وقد صححوا سماع قتيبة منه
(2)
، فإسناده حسن.
وحديث سُبيعة الأسلمية أخرجه البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
.
وفي الحديث احتساب أم الطفيل زوج أبيٍّ على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضوان الله عليهم- مع علو مكانته، وعظيم منزلته، إلا أن أم الطفيل راجعته لمّا وجدت رأيه يخالف من أرسله الله تعالى ليطاع بإذنه، لكن الملاحظة أيضًا، أنها لم تكن سيئة الأدب معه، وهذا هو الهدى الواجب مراعاته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 -
أخرج مسلم في صحيحه
(5)
من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد
(6)
من عنده، فلما أن كان
(1)
(5/ 2).
(2)
ينظر: تهذيب الكمال (15/ 4871) 3513، المختلطين للعلائي (65) 26، ميزان الاعتدال (4/ 166) 4535، تهذيب التهذيب (5/ 327)648.
(3)
كتاب الطلاق، باب: «واللاتي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم
…
«(5/ 2037)5012.
(4)
كتاب الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل (2/ 1122)1484.
(5)
كتاب، باب: النهي عن لعن الدواب وغيرها (4/ 2006)2598.
(6)
قال ابن الأثير «الأنجاد جمع نجد بالتحريك- وهو متاع البيت من فرش ونمارق وستور» النهاية (5/ 18) مادة (ن ج د).
ذات ليلة قام عبد الملك من الليل فدعا خادمه، فكأنه أبطأ عليه، فلعنه، فلما أصبح، قالت له أم الدرداء سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته. فقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة» .
وأخرجه أحمد في المسند
(1)
من طريق معمر، عن زيد بن أسلم قال: كان عبد الملك يرسل إلى أم الدرداء، فتبيت عند نسائه، ويسألها عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث بنحوه. وإسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
ولم تمنع أم الدرداء رضي الله عنها استضافة عبد الملك بن مروان إيّاها، ولا منزلته من الإنكار عليه يوم أخطأ، ودللت على إنكارها رضي الله عنها وفيه حرص الصحابة على تعليم أهليهم الخير، يظهر ذلك من تحديث أم الدرداء عن زوجها -رضوان الله عليهم-.
على أن أُمَّ الدرداء لم تُسءِ الأدب مع عبد الملك في إنكارها عليه، رضي الله عنها، وهذا أدبٌ ينبغي مراعاته.
وإن كان الإسلام كما سيأتي
(2)
منع المرأة من الولاية العظمى إلا أنه جعلها عضوًا فاعلًا، وعنصًرا نشطًا يأمر وينهي، ويسمع له ولا سيما إن كان ما تذكره مبنيًا على أصول الشريعة وقواعدها، وقد دللت فيما مضى، والله ولي التوفيق.
(1)
(45/ 517)27529.
(2)
ص (515).
حكم تولي المرأة لولاية الحسبة
لا شك أن النصوص الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامة تستوعب كل مسلم عاقل بالغ قادر رجلًا كان أو امرأة يقول ابن القيم: قد استّقر في عرف الشارع أن الأحكام المذكورة بصيغة المذكّرين إذا أطلقت، ولم تقترن بالمؤنث، فإنها تتناول الرجال والنساء؛ لأنه يغلب المذكر عند الاجتماع
(1)
.
فعلى المرأة أن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وقد تقدم أمرها الولاة والخلفاء، وتقدم أيضًا دورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقِّ عامة الناس والأقارب والعلماء وطلبة العلم.
أمّا أن تلي المرأة ولاية الحسبة على النساء والرجال، فإن للعلماء في المسألة قولين:
القول الأول: المنع:
يقول المجيلدي: «ومن شروط المحتسب أن يكون ذكرًا؛ إذ الداعي إلى اشتراط الذكورية أسباب لا تُحصَى، وأمور لا تُسْتَقْصى»
(2)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
قوامة الرجال على النساء، يقول تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
(1)
إعلام الموقعين (1/ 92 - 93) باختصار.
(2)
التيسير في أحكام التسعير (42).
النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}
(1)
قال البغوي: «أي مسلّطون على تأديبهن، والقوّام والقيّم بمعين واحد، والقوّام أبلغ، وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب»
(2)
.
ويقول السيوطي في تفسير الآية: «قوّام: الناظر في الشيء الحافظ له، واستدلّ بها على أن المرأة لا يجوز لها أن تلي القضاء، كالإمامة العظمى؛ لأنه جعل الرجال قوّامين على النساء، فلم يجز أن يقمن على الرجال»
(3)
.
يقول فضل إلهي: «وهكذا لا يجوز تعيينهن محتسبات على السوق؛ لأن هذا يجعلهن قوّامات على الرجال الذين جعلهم الله تعالى قوّامين عليهن
…
ولا يظنن أحد أن الآية الكريمة تتحدّث عن قِوامة الرجل على زوجته فحسب، بل المراد -والله أعلم- قِوامة صنف الرجال على صنف النساء»
(4)
.
2 -
منع النساء من الاستقلال بالتصرّف في بعض شؤون الخاصة، ومن ذلك أنه ليس لهن تزويج أنفسهن بغير إذن أولياء أمورهن، وكذلك ليس لهن تزويج غيرهن من النساء، واستدلوا بما أخرجه أحمد في المسند
(5)
، وأبو داود في السنن
(6)
، والترمذي في السنن
(7)
، وابن ماجه في السنن
(8)
، والدارقطني في السنن)
(9)
، والحاكم
(1)
النساء: (34).
(2)
تفسير البغوي (1/ 422). وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 416)، تفسير القاسمي (5/ 130).
(3)
الإكليل في استنباط التنزيل (19).
(4)
مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (119)، وانظر: التحرير والتنوير (5/ 38).
(5)
(40/ 243)24205.
(6)
(2/ 229)2083.
(7)
(3/ 407)1102.
(8)
(1/ 605)1879.
(9)
(3/ 221)10.
في المستدرك
(1)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إذا نكَحَت المرأة بغير أمر مَوْلاها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها، فلها مهرها ما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» واللفظ لأحمد.
قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في إرواء الغليل
(2)
.
يقول الإمام الخطابي: قوله (أيما امرأة) كلمة استيفاء واستيعاب، وفيه إثبات الولاية على النساء كلهن، ويدخل فيها البكر والثيب والشريفة والوضيعة، وفيه بيان أن المرأة لا تكون ولِيّة نفسها
(3)
.
وأخرج ابن ماجه في السنن
(4)
، والدارقطني في السنن
(5)
، والبيهقي في الكبرى
(6)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» .
قال الألباني في صحيح سنن ابن ماجه
(7)
: «صحيح دون جملة الزانية» وصححه في الإرواء
(8)
.
3 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الفلاح عمن ولوا أمرهم امرأة، أخرج البخاري
(9)
من
(1)
(2/ 182)2706.
وتتبع محققو مسند الإمام أحمد (40/ 243) 24205 طرقه؛ لإثبات صحته، فَيُنْظر.
(2)
(6/ 108)1840.
(3)
معالم السنن (3/ 196) باختصار.
(4)
(1/ 606)1882.
(5)
(3/ 227)25.
(6)
(7/ 110)13410.
(7)
(8)
(6/ 107)1841.
(9)
كتاب المغازي: باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر (4/ 1610)4163.
حديث أبي بكرة قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» .
ولا يقال إن هذا يختص بالإمامة العظمى
(1)
؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد فهم الصحابي من لفظ الحديث العموم فاستدل به، ولأنها نكرة في سياق النفي فتعم. وفي تعيين الاحتساب على الأسواق وغيرها إسناد أمر الناس إليها.
4 -
يقول د. فضل إلهي: «متطلبات الحسبة تتنافى مع طبيعة الأنثى»
(2)
وقد ذكر علماء الأمة أن من شروط المحتسب أن يكون ذا قوة وصرامة، يقول الماوردي:«ومن شروط المحتسب أن يكون حرًا عدلًا ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة»
(3)
.
وأين المرأة المسلمة من هذا كله، هل تكلف. متابعة الخبثاء، ومطاردة الأشرار، ومقاتلة العابثين، والمفسدين؟!.
القول الثاني: جواز تعيين المرأة ولاية الحسبة:
وإليه ذهب محمد كمال الدين إمام في كتابه «أصول الحسبة» وظافر القاسمي في «نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي»
(4)
.
(1)
سيأتي زيادة تفصيل للمسألة ص (515).
(2)
مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (125).
(3)
الأحكام السلطانية (241). وانظر: الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى (285)، معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة القرشي (51 - 52).
(4)
واستدلوا بما يأتي:
1 -
الاحتجاج بعموم النصوص الدالة على فرضية الحسبة. والجواب أن النساء في النصوص خوطبن بهذه الشعيرة على المستوى الشخصي، ولم يأت نص في توليها ولاية الحسبة، بل جاء النص على أنه ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.
2 -
الاحتجاج بما نُسب إلى الفاروق من تعيين الشفاء رضي الله عنهما محتسبة على السوق.
وبداية لا بد من تثبيت العرش ثم النقش، وأثر عمر أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(1)
عن دحيم، عن رجل سماه، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر رضي الله عنه استعمل الشفاء على السوق، قال: ولا نعلم امرأة استعملها غير هذه.
وإسناده ضعيف؛ لجهالة أحد رجاله، وضعف ابن لهيعة
(2)
، والانقطاع بين يزيد بن أبي حبيب وعمره)
(3)
.
قال ابن العربي: «وقد روي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح، فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث»
(4)
. ولا أعتقد أن هذا من دسائس المبتدعة؛ لأن الإمامين المحققين ابن عبد البر، والحافظ أورداه في كتابيهما كما سيأتي، ولم يتعقباه، فيبعد أن يغفلا عنه.
وبعد أن تبين ضعفه، فاعلم أنه لا حجة فيه.
(1)
(6/ 4)3179.
(2)
ينظر: الكامل (4/ 144) 977، تهذيب التهذيب (5/ 327)648.
(3)
ينظر: جامع التحصيل (300) 891، تهذيب التهذيب (11/ 278)515.
(4)
أحكام القرآن (3/ 482).
وعلى فرض ثبوته فإن القاضي أبا العباس أحمد بن سعيد المجيلدي قال: «إن الحكم للغالب، والنادر لا حكم له، وتلك القضية من الندور بمكان»
(1)
.
أو تكون توليتها على بعض أمر السوق فيما يختص بأمور النساء لا على العموم كما بيّن ابن عبد البر
(2)
، ونقله عنه الحافظ في الإصابة
(3)
: «وكان عمر يقدمها في الرأي، ويرضاها، ويفضلها، وربما ولاها شيئًا من أمر السوق» وكلمة «ربما» تدل على التقليل، و «شيئًا» على التخصيص، وقد صدرت من إمام في الحديث، وتابعه حافظ عصره عليه، فتنبه.
قال القاضي المجيلدي: «ولعلّه في أمر خاص يتعلق بأمور النسوة»
(4)
.
3 -
الاحتجاج بقيام سمراء بنت نيك بالاحتساب في السوق، أخرج الطبراني
(5)
في الكبير عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن محمد بن يزيد الواسطي، عن أبي بَلْج يحيى بن أبي سليم قال: رأيت سمراء بنت نهيك وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم، عليها درع غليظ، وخمار غليظ، بيدها سوط تؤدب الناس، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
قال الهيثمي في المجمع
(6)
: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» .
قلت: إسناده صحيح. وجوّد إسناده الألباني
(7)
.
وسمراء بنت فيك صحابية كما يدل عليه هذا الحديث، وقد ذكرها الذهبي
(1)
التيسير في أحكام التسعير (43).
(2)
الاستيعاب (7/ 727)11373.
(3)
(4/ 1869)3398.
(4)
التيسير في أحكام التسعير (43).
(5)
(24/ 311)785.
(6)
(9/ 264).
(7)
الرد المفحم (155)، جلباب المرأة المسلمة (102).
في التجريد
(1)
وقال: «أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وعمرت» وترجم لها ابن عبد البر في الاستيعاب
(2)
.
وأمّا الحافظ فأحال في ترجمتها في القسم الأول في الإصابة
(3)
إلى القسم الثالث ثم أنسي، فلم يذكرها فيه ولا في غيره.
وقد تقدم ثبوت الأثر عن سمراء، لكنه لا يصح الاستدلال به على تعيين المرأة ولاية الحسبة؛ لأنه لم يرد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدًا من خلفائه الراشدين ولّاها ولاية الحسبة، غاية ما في الأمر أنها كانت تقوم بالاحتساب في السوق، وقيامها رضي الله عنها بذلك لا يدل على تعيينها والية على الحسبة.
قال د. فضل إلهي: «لا يستبعد ولا يستغرب قيام امرأة معمّرة مسنّة بالاحتساب تطوعًا في بيئة يحترم ويُوقر الصغير فيها الكبير»
(4)
.
ومن هنا يتبين -وفقك الله- أن على المرأة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتسابًا وتطوعًا لا ولاية، على الرجال والنساء، كما أن لولي الأمر أن يعينها محتسبة في الأماكن المخصصة للنساء فقط، سواءٌ كان ذاك المكان سوقًا أو مؤسسة، لتقوم بواجب الأمر والنهي، أمّا أن تعيّن على ولاية الاحتساب المراقبة الرجال، وأمرهم، ونهيهم فالراجح المنع؛ لقوة أدلة الفريق الأول، وسلامتها من المعارضة، وموافقتها لتعاليم الإسلام التي تبعد المرأة عن الرجال، وتأمرها بالقرار، والله الموفق لكل خير.
(1)
(2/ 278).
(2)
(4/ 1863)3386.
(3)
(7/ 712)11332.
(4)
مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (136).
الفصل الثالث
حق المرأة في الأمان والإجارة
الفصل الثالث حق المرأة في الأمان والإجارة
• تأتي الإجارة والأمان بمعنى واحد، والأمان والأمن لغة معناه: طمأنينة النفس، وزوال الخوف، ويطلق على الحالة التي يكون عليها الإنسان
(1)
.
• والأمان اصطلاحًا: تحقيق الأمن والحماية لمن طلبها
(2)
.
والمستأمن -بكسر الميم- الطالب للأمان، وهو من يدخل دار غيره بأمان لمدة محدودة، أو بلاد غيره بأمان سواء كان مسلمًا أو حربيًا
(3)
.
• والدليل على مشروعيته قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}
(4)
.
قال الزمخشري رحمه الله: «المعنى إذا جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله، ثم إذا لم يسلم أوصله إلى ديار قومه التي يأمن فيها على
(1)
ينظر: المفردات (26)، اللسان (83/ 2) مادة (أ م ن).
(2)
ينظر: المبدع (3/ 489)، الذخيرة (3/ 445).
(3)
حاشية ابن عابدين (4/ 166).
(4)
التوبة: (6).
نفسه وماله»
(1)
.
ثم بيّن كيف يعطي الأمان، وما يجب على مانح الأمان فعله.
• وقد أوضح ابن كثير رحمه الله سببها فقال: «والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة، أو تجارة، أو طلب صلح، أو مهادنة، أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام وحتى يرجع إلى داره و مأمنه ووطنه»
(2)
.
• وقد ذهب جمهور العلماء على نفاذ أمان المرأة وإجارتهما، بل نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال الحافظ:«قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا ذكره عبد الملك -يعني: ابن الماجشون- صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره، أن أمر الأمان إلى الإمام. وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يسعى بذمتهم أدناهم»
(3)
دلالة على إغفال هذا القائل. انتهى. وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال: هو إلى الإمام إن أجازه جاز، وإن رده رد»
(4)
.
واستدل جمهور العلماء بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(5)
، ومسلم
(6)
من حديث أم هانئ بنت أبي طالب
(1)
الكشاف (2/ 174).
(2)
تفسير القرآن العظيم (2/ 337).
(3)
سيأتي تخريجه بعده.
(4)
الفتح (6/ 273).
(5)
أبواب الجزية والموادعة، باب: أمان النساء وجوارهن (3/ 1157)3000.
(6)
كتاب الصلاة، باب: استحباب الركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه (1/ 498)336.
تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: مرحبًا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفًا في ثوب واحد. فقلت: يا رسول الله زعم ابن أمي عليّ أنه قاتلٌ رجلًا قد أجرته فلان بن هبيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» قالت أم هانئ: وذلك ضحى. واللفظ للبخاري.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده
(1)
هذا الحديث بسند صحيح على شرط مسلم من طريق عَقِيل بن أبي طالب، عن فاخِتة أم هانئ، قالت: لما كان يوم فتح مكة، أَجَرْت حموين لي من المشركين، إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه رَهْجَة -الغبار-
(2)
في مِلْحَفة متوشحا بها، فلما رآني، قال:«مرحبَا بفَاخِتة أم هانئ» قلت: يا رسول الله أجرت حموين
(3)
لي من المشركين، فقال:«قد أجرنا من أجرت، وأمَّنا من أمنت» ثم أمر فاطمة، فسكبت له ماء، فتغسل به
…
الحديث.
2 -
أخرج ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(4)
، والطبراني في الكبير
(5)
، والحاكم في المستدرك
(6)
من طرق عن عبد الله بن شبيب، عن أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن أنس بن مالك أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجها أبو
(1)
(44/ 460)26892.
(2)
ينظر: النهاية (2/ 281)، لسان العرب (2/ 284) مادة (ر هـ ج).
(3)
انظر: بيان أسماء المبهمين في الفتح (1/ 470).
(4)
(1/ 398)555.
(5)
(22/ 246)1049.
(6)
(4/ 49)6842.
العاص بن الربيع كافر، ثم لحق أبو العاص بن الربيع بالشام فأسر المسلمون أبا العاص، فقالت زينب: قد أجرت أبا العاص.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت» واللفظ لابن أبي عاصم.
وسكت عنه الحاكم والذهبي، ولم أجده في مجمع الزوائد.
وإسناده ضعيف؛ لضعف عبد الله بن شبيب، قال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث
(1)
. وقال ابن حبان: يقلب الأخبار ويسرقها، ولا يجوز الاحتجاج به؛ لكثرة ما خالف أقرانه في الروايات عن الأثبات
(2)
. وقال ابن عدي: حدث بالمناكير
(3)
.
وقد تابعه أبو الزنباع روح بن الفرج، وأحمد بن رشدين عند الطبراني في الكبير
(4)
، والمقدام عند الطبراني في الأوسط
(5)
، وعبيد بن شريك عند الحاكم في المستدرك
(6)
، أربعتهم عن يحيى بن بكير، عن عبد الله بن السمح، عن عباد بن كثير، عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب به بمثله، لكنها متابعة س اقطة؛ في إسنادها عباد بن كثير، قال الحافظ:«متروك، قال أحمد: روى أحاديث كذب»
(7)
.
قال الهيثمي في المجمع
(8)
. «رواه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار،
(1)
عزاه له ابن عدي في الكامل (4/ 262) 1098، وابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين (2/ 127)2043.
(2)
المجروحين (2/ 47).
(3)
الكامل (4/ 262)1098.
(4)
(22/ 426)1048.
(5)
(9/ 21)9006.
(6)
(4/ 48)6841.
(7)
التقريب (482)3156.
(8)
(5/ 329).
وفيه عباد بن كثير الثقفي وهو متروك».
وله شاهد من حديث أم سلمة أخرجه الطبراني في الأوسط
(1)
والكبير
(2)
والحاكم في المستدرك
(3)
مطولًا وفيه: «ثم إن أبا العاص بن الربيع لحقها (أي: زينب) بالمدينة، فأرسل إليها أن خذي من أبيك أمانًّا، فأطلعت رأسها من باب حجرتها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس الصبح. فقالت: أيّها الناس أنا زينب، وإني قد أجرت أبا العاص، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة. قال: «إني لم أعلم بهذا حتى سمعته الآن، وإنه يجير على المسلمين أدناهم» واللفظ للطبراني في الكبير.
وقال في الأوسط: «لا يروى هذا الحديث عن أم سلمة إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة» .
قال الهيثمي
(4)
: «رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات» .
قال الحافظ عن ابن لهيعة: «صدوق، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون»
(5)
والحديث من غير رواية العباد له عنه.
وله شواهد أخرى تركت إيرادها اختصارًا، والحديث بمجموع طرقه حسن.
3 -
أخرج الترمذي
(6)
عن يحيى بن أكثم، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن
(1)
(5/ 110)4822.
(2)
(4/ 49)6843.
(3)
(3/ 263)5038.
(4)
(5/ 329).
(5)
التقريب (538)3587.
(6)
(4/ 141)1579.
كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن المرأة لتأخذ للقوم يعني تجير على المسلمين» .
قال الترمذي: حديث حسن غريب، وسألت محمدًا فقال: هذا حديث صحيح، وكثير بن زيد قد سمع من الوليد بن رباح، والوليد بن رباح سمع من أبي هريرة وهو مقارب الحديث.
وحسنه الألباني في صحيح جامع الترمذي
(1)
.
قلت: في إسناده يحيى بن أكثم
(2)
، وعبد العزيز بن أبي حازم
(3)
، وكثير بن زيد
(4)
، والوليد بن رباح
(5)
كلهم قال الحافظ عنهم في التقريب: «صدوق» وزاد في كثير: «يخطئ» .
4 -
وتقدم
(6)
أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أخذت الأمان لزوجها عكرمة بن أبي جهل عام الفتح، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أنه ذكر اسم عكرمة من بين الذين أمر بقتلهم ولو وُجِد تحت أستار الكعبة.
5 -
أخرج البخاري
(7)
، ومسلم
(8)
من حديث علي بن أبي طالب وفيه: قال
(1)
(2)
7557.
(3)
4116.
(4)
5646.
(5)
7472.
(6)
ص (327).
(7)
أبواب الجزية والموادعة، باب: ذمة المسلمين وجوارهم واحدة يسعى بها أدناهم (3/ 1157)3001.
(8)
كتاب العتق، باب: تحريم تولي العتيق غير مواليه (2/ 1147)1370.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» .
(1)
.
وقال في «الأموال»
(2)
: «وجاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في النساء» .
ومن كل ما تقدم ترى تضافر الروايات؛ لإثبات هذا الحق للمرأة، ويتضح مدى احترام الإسلام وتكريمه لها، حين أعطاها حق الإجارة والأمان لمن شاءت، ما لم يكن المستأمن فيه شبهة التجسس على المسلمين شأنها في ذلك شأن الرجل، وهذا حق أعطيت إياه لم يعط لها من قبل أي قانون دولي لا في القديم ولا في الحديث.
(1)
غريب الحديث (2/ 104) ينظر (2/ 168) مادة (ذ م م)، الفتح (6/ 274).
(2)
الفصل الرابع المرأة والجهاد
وفي الفصل مبحثان:
المبحث الأول: جهاد الكفاية.
المبحث الثاني: الجهاد العيني.
توطئة:
• لقد فرض الرب جل وعلا القتال على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة
(1)
(2)
.
• قال الإمام أحمد: لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد
(3)
، وأخرج البخاري
(4)
، ومسلم
(5)
من حديث ابن مسعود قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» . قال: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين» . قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» . قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني. واللفظ للبخاري.
(1)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 319)، التفسير الكبير للرازي (6/ 23)، تفسير ابن كثير (2/ 288).
(2)
البقرة: (216).
(3)
عزاه له ابن قدامة في المغني (8/ 348).
(4)
كتاب الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها (1/ 197)504.
(5)
كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (1/ 88)85.
المبحث الأول: جهاد الكفاية
الجهاد في الإسلام فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذا في قول عوام أهل العلم كما جاء في الشرح الكبير
(1)
، إلا في حالات معينة يتعين فيها الجهاد، وسيأتي مزيد بيان لهذا فيما بعد
(2)
.
• واشترط العلماء لوجوب جهاد الكفاية سبعة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر، ووجوب النفقة
(3)
.
• وقد نقل ابن بطال الإجماع على عدم وجوب جهاد الكفاية على المرأة، وقال في شرحه على صحيح البخاري
(4)
عند حديث عائشة رضي الله عنها: «جهادكن الحج» : «هذا الحديث يدل أن النساء لا جهاد عليهن واجب، وأنهن غير داخلات في قوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}
(5)
وهذا إجماع من العلماء، وليس في قوله عليه السلام:«جهادكن الحج» . دليل أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد، وإنما فيه أنه الأفضل لهن. وإنما كان الحج أفضل من الجهاد؛ لأنهن لسن من أهل القتال للعدو،
(1)
المغني مع الشرح الكبير (10/ 366)، وانظر: الأم (4/ 161)، الهداية شرح البداية (2/ 135)، شرح فتح القدير (5/ 442)، الجهاد في الإسلام للدكتور: عبد الحليم محمود.
(2)
ص: (491) فما بعدها.
(3)
ذكرها ابن قدامة في المغني (9/ 163).
(4)
كتاب الجهاد، باب: جهاد النساء (3/ 1053)2720.
(5)
التوبة: (41).
ولا قدرة لهن عليه، ولا قيام به.
وليس للمرأة أفضل من الاستتار، وترك المباشرة للرجال بغير قتال، فكيف في حال القتال التي هي أصعب؟
والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال، والاستتار عنهم، فلذلك كان أفضل لهن من الجهاد»
(1)
.
وقال الحافظ في الفتح
(2)
بعد أن نقل قول ابن بطال بنحوه: «وقد لمح البخاري بذلك في إيراده الترجمة محملة، وتعقيبها بالتراجم المصرحة بخروج النساء إلى الجهاد» .
وعلل الكاساني الحنفي رحمه الله عدم إيجاب القتال الكفائي على المرأة بقوله: «إن بِنْيَتَها لا تحتمل الحرب عادة»
(3)
.
ولا أعلم خلافًا بين أهل العلم في عدم وجوب الجهاد على المرأة
(4)
.
وهذا من رحمة الرب جل وعلا بالمرأة؛ لأنه سبحانه وتعالى خلقها بصفات جسدية، ونفسية تتناسب مع مسؤوليتها المنوطة بها، والتي لا تقل في الأهمية عن مسؤولية الرجل إن لم تكن أهم، فوظيفتها لا تنقطع ولا تتوقف حتى في حال خروج الرجل لا بد للحياة أن تستمر، فالأولاد يحتاجون إلى تربيتها، ورعايتها، ولمساتها الحانية، وحضنها الدافئ، فجاء شرع الله مراعيًا في حكمه خلقها ووظيفتها؛
(1)
شرح ابن بطال (4/ 202).
(2)
(6/ 95).
(3)
البدائع (7/ 98).
(4)
ينظر: الأم (4/ 162)، الكافي لابن قدامة (4/ 253)، المبدع (3/ 307)، الهداية شرح البداية (2/ 135)، شرح فتج القدير (5/ 442)، الشرح الكبير (2/ 174)، التاج والإكليل (4/ 538).
فله الحمد كالذي نقول وخيرًا مما نقول.
وفي المطلب ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الأدلة على جواز خروج المرأة الجهاد الكفاية.
المسألة الثانية: شروط خروج المرأة الجهاد الكفاية.
المسألة الثالثة: أعمال المرأة في الجهاد.
المسألة الأولى: الأدلة على جواز خروج المرأة لجهاد الكفاية:
قتال المسلمين للكفار، وإن كان فرض كفاية على الرجال المسلمين دون النساء، إلا أن هذا لا يمنع من اشتراك المسلمة في القتال إذا رغبت في ذلك، وكان في اشتراكها مصلحة للمسلمين؛ لأن اشتراكها مباح لها، وليس بواجب عليها، والأدلة على ذلك:
1 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث أنس قال: «لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم س ليم وإنما لمشمرتان أرى خَدَم
(3)
سُوقِهما تَنْقُزَان القرب -وقال غيره: تَنْقُلان القرب- على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملأها، ثم تجيئان فنفرغانها في أفواه القوم» واللفظ للبخاري، وبوّب عليه «باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال» وبوّب عليه النووي «باب: غزوة النساء مع الرجال».
(1)
كتاب الجهاد، باب: غزو النساء وقتالهن مع الرجال (3/ 1055)2724.
(2)
كتاب الجهاد، باب: غزو النساء مع الرجال (3/ 1443)1811.
(3)
قال الحافظ: «بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة- وهي الخلاخيل، وهذه كانت قبل الحجاب، ويحتمل أنها كانت عن غير قصد للنظر» الفتح 7816. وانظر: شرح الكرماني (6/ 152)، عمدة القارئ (14/ 166).
2 -
ما أخرجه البخاري في صحيحه
(1)
من حديث ثعلبة بن أبي مالك قال: إن عمر بن الخطاب قسّم مُرُوطًا
(2)
بين نساء من نساء المدينة، فبقي مِرْطٌ جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك -يريدون أم كلثوم بنت علي- فقال عمر: أم سَلِيط أحق - وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: فإنها كانت تَزْفِر
(3)
لنا القرب يوم أحد. وبوّب عليه «باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو» .
3 -
أخرج البخاري
(4)
من حديث الرُبيِّع بنت مُعوِّذ قالت: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة
(5)
. وبوّب عليه: «باب مداواة النساء الجرحى في الغزو» .
4 -
أخرج البخاري)
(6)
، ومسلم)
(7)
من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان
(1)
كتاب الجهاد، باب: حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو (3/ 1056)2725.
(2)
مروط: جمع مِرْط -بكسر الميم- كساء من صوف أو خزٍّ أو كتان. انظر: غريب الحديث للخطابي (/ 576)، مشارق الأنوار (1/ 474)، النهاية (4/ 273)(م ر ط).
(3)
تزفر: بفتح أوله، وسكون الزاي، وكسر الفاء أي: تحمل، وزنًا ومعنى.
انظر: العين للخليل بن أحمد (7/ 361)، مشارق الأنوار (1/ 390) مادة (ز ف ر)، الفتح (6/ 80).
(4)
كتاب الجهاد (3/ 1056)2726.
(5)
قال العيني في العمدة (14/ 169): «كانوا يوم أحد يجمعون الرجلين والثلاثة من الشهداء على دابة، وتردهن النساء إلى مواضع قبورهم (يعني: بالمدينة)» قلت: كان ذلك قبل أن يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن الشهداء في مصارعهم، يشهد له ما أخرجه النسائي بسند صحيح في السنن (4/ 79) من طريق نُبَيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا قد نقلوا إلى المدينة.
(6)
كتاب الجهاد، باب: الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء (3/ 1027)2636.
(7)
كتاب الجهاد، باب: فضل الغزو في البحر (3/ 1518)1912.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج
(1)
هذا البحر ملوكًا على الأسرة -أو مثل الملوك على الأسرة، شك إسحاق- قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه، ثم استيقظ، وهو يضحك. فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله» كما قال في الأول. قالت: فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. قال: «أنت من الأولين» فركبت البحر زمن معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت. واللفظ للبخاري.
وبوّب عليه البخاري في كتاب الجهاد ببابين: باب: الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء، وباب: غزو المرأة في البحر
(2)
.
5 -
أخرج مسلم في صحيحه
(3)
من حديث أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم، ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى.
6 -
جاء في البداية والنهاية
(4)
لابن كثير: «وعن أم كثيّر امرأة همّام بن
(1)
جاء مفسرًا في صحيح مسلم (3/ 1519) 1912 من طريق محمد بن يحيى بن حبان، أنس بن مالك، عن أم حرام، وفيه قال صلى الله عليه وسلم:«أريت قومًا من أمتي يركبون ظهر البحر» .
ينظر: غريب الحديث للخطابي (2/ 307)، النهاية (1/ 206) مادة (ث ب ج).
(2)
(ث/ 155).
(3)
كتاب الجهاد، باب: غزوة النساء مع الرجال (3/ 1443)1810.
(4)
(7/ 46)، وانظر: تاريخ الطبري (3/ 401)، الكامل لابن الأثير (2/ 261).
الحارث النخعي قالت: شهدنا القادسية في زمن عمر بن الخطاب، مع سعد بن أبي وقاص مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس، شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي، ثم أتينا القتلى فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيان، فنوليهم ذلك -تعني استلابهم- لئلا يكشفن عن عورات الرجال».
7 -
أخرج سعيد بن منصور في سننه
(1)
من حديث عبد الله بن قرط الأزدي قال: «غزوت الروم مع خالد بن الوليد، فرأيت نساء خالد بن الوليد، ونساء أصحابه مشمرات يحملن الماء للمهاجرين يرتجزن» وصحح إسناده الألباني
(2)
.
ومن مجموع الأدلة يتبين أن اشتراك النساء في القتال مع محارمهن كان معروفًا مألوفًا من الصحابة الكرام، ولم ينقل لنا إنكار له، فيكون ذلك إجماعًا سكوتيًّا على جواز مشاركة النساء للرجال في الجهاد.
المسألة الثانية: شروط خروج المرأة لجهاد الكفاية:
تقدم أن هذا الضرب من الجهاد مباح للمرأة غير واجب عليها، لكن لخروجها لهذا الجهاد شروط عدة هي:
1 -
أن يكون الخروج بإذن زوجها:
قال الكاساني رحمه الله: «ولا يباح للعبد أن يخرج -أي: للقتال- إلا بإذن
(1)
(1/ 2/ 331)2788.
(2)
الرد المفحم (154)، وانظر مزيدًا في أسماء الصحابيات اللاتي شاركن في الجهاد في «دور المرأة السياسي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين» لأسماء محمد زيادة (226 - 326)، و «دور الصحابيات في المجتمع الإسلامي من خلال كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد» ، لعصمة أحمد (102) وما بعدها.
مولاه، ولا المرأة إلا بإذن زوجها؛ لأن خدمة المولى، والقيام بحقوق الزوجية كل ذلك فرض عين، فكان مقدمًا على فرض الكفاية»
(1)
.
2 -
أن يكون في خروجها فيه مصلحة:
لقد دلت الأحاديث النبوية المتقدمة على إباحة خروج المرأة للجهاد مع المقاتلين لتقوم بخدمتهم، ورعاية شؤونهم، فخروجها مقيد بالمصلحة، وبهذا صرح الفقهاء، يقول الإمام محمد بن الحسن الشيباني في كتابه «السير الكبير»: «ولا بأس بأن يحضر منهن الحرب العجوز الكبيرة، فتداوي الجرحى، وتسقي الماء، وتطبخ للغزاة إذا احتاجوا إلى ذلك
…
»
(2)
وقال ابن قدامة: «فأما المرأة الطاعنة في السن وهي الكبيرة، إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء، ومعالجة المرضى، فلا بأس به»
(3)
.
3 -
ألا يكون في خروجها مفسدة:
ويشترط في خروج المرأة للمشاركة في القتال ألَّا يكون في خروجها مفسدة لها ولا لغيرها، كما لو كانت المرأة شابة، ولهذا قال الإمام محمد بن الحسن:«ولا بأس بأن يحضر منهن الحرب العجوز الكبيرة»
(4)
.
وقد نصت القاعدة الفقهية على أن: «درء المفاسد أولى من جلب المصالح» فإن كان في خروج المرأة فتنة منعت من الخروج.
وقال الإمام السرخسي تعليقًا على قول الإمام محمد بن الحسن: «ولا بأس أن
(1)
بدائع الصنائع (3/ 320).
(2)
(1/ 142).
(3)
المغني (9/ 175).
(4)
السير الكبير (1/ 185).
تحضر منهن الحرب العجوز الكبيرة» قال: «فالشواب يمنعن من الخروج، الخوف الفتنة، والحاجة ترتفع بخروج العجائز»
(1)
.
وقال ابن قدامة: «ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا الطاعنة في السن، لسقي الماء، ومعالجة الجرحى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وجملته أنه يكره دخول النساء الشواب أرض العدو؛ لأنهن لسن من أهل القتال، وقلما ينتفع بمن فيه، لاستيلاء الخور والجبن عليهن، ولا يؤمن ظفر العدو بهمن، فيستحلون ما حرم الله منهن
…
فإن قيل: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج معه من تقع عليها القرعة من نسائه، وخرج بعائشة مرات. قيل: تلك امرأة واحدة يأخذها لحاجته إليها، ويجوز مثل ذلك للأمير عند حاجته، ولا يرخص لسائر الرعية لعلا يفضي إلى ما ذكرنا»
(2)
.
4 -
إذن الإمام للمرأة بالخروج:
والإمام هو الذي يأذن للمرأة في الخروج مع المقاتلين في ضوء تحقق الشروط السابقة حسب اجتهاده، فلا يكفي إذن ولي المرأة لها بالخروج، لتخرج فعلًا للمشاركة في القتال دون اعتبار لرأي الإمام، ويدل على هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف
(3)
، وابن سعد في الطبقات
(4)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(5)
، والطبراني في الأوسط
(6)
والكبير
(7)
، من طرق عن حميد بن عبد الرحمن، عن حسن
(1)
السير الكبير شرح السرخسي (1/ 185).
(2)
المغني (9/ 175).
وانظر: الهداية شرح البداية (2/ 137)، البحر الرائق (5/ 13).
(3)
(6/ 538)33653.
(4)
(8/ 308).
(5)
(6/ 138)3365.
(6)
(4/ 363)4443.
(7)
(25/ 176)431.
بن صالح، عن الأسود بن قيس، عن سعيد بن عمرو القرشي أن أم كبشة امرأة من بني عذرة قالت: يا رسول الله ائذن لي أن أخرج في جيش كذا وكذا. قال: «لا» . قلت: يا رسول الله إني لست أريد أن أقاتل، إنما أريد أن أداوي الجريح والمريض- أو أسقي المريض. فقال:«لولا أن تكون سنة، ويقال فلانة خرجت، لأذنت لك، ولكن اجلسي» واللفظ لابن أبي شيبة، وزاد ابن سعد:«لا يتحدث الناس أن محمدًا يغزو بامرأة» .
قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أم كبشة إلا بهذا الإسناد، تفرد به الحسن بن صالح.
وقال الهيثمي في المجمع
(1)
: «رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجالهما رجال الصحيح» .
قلت: إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين غير حسن بن صالح ثقة من رجال مسلم
(2)
. وصحح إسناده الألباني في الصحيحة
(3)
.
وجزم الحافظ في الإصابة
(4)
أن حديث أم كبشة ناسخ لما تقدمه من الإذن للنساء بالغزو؛ لأنه كان يوم الفتح.
وسبحان من لا يسهو، ولا أدري كيف فات الحافظ ما سيأتي وجزم بأن حديث أم كبشة ناسخ، ولكن كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه، والدليل على أن حديث أم كبشة ليس بناسخ، وإنما ذاك راجع إلى رأي الإمام ما يلي:
(1)
(5/ 323).
(2)
التقريب (239)1260.
(3)
(6/ 903)2887.
(4)
(8/ 283).
1 -
لم يأت في رواية أن حديث أم كبشة كان بعد الفتح.
2 -
مشاركة أم سليم للمسلمين يوم حنين، واتخاذها خنجرًا
(1)
، يدفع النسخ ويمنعه، ومن المعلوم أن غزوة حنين كانت بعد فتح مكة.
3 -
دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأم حرام أن يجعلها الله من الذين يركبون البحر للجهاد في سبيل الله
(2)
، وفي دعائه صلى الله عليه وسلم إقرار لها على المشاركة في الغزو. فتنبه.
• ومما يدل على اعتبار إذن الإمام -أيضًا- ما أخرج أبو داود
(3)
من طريق ليلى بنت مالك، وعبد الرحمن بن خلاد، عن أم ورقة بنت نوفل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا بدرًا قالت: قلت له: يا رسول الله، أئذن لي في الغزو معك، أمرض مرضاكم، لعل الله أن يرزقني شهادة. قال:«قري في بيتك فإن الله تعالى يرزقك الشهادة» قال: فكانت تسمى الشهيدة. قال وكانت قد قرأت القرآن، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تتخذ في دارها مؤذنًا، فأذن لها. قال: وكانت دبرت غلامًا لها وجارية، فقاما إليها بالليل فغماها بقطيفة لها حتى ماتت، وذهبا، فأصبح عمر، فقام في الناس فقال: من كان عنده من هذين علم، أو من رآهما فليجيء بهما. فأمر بهما فصلبا، فكانا أول مصلوب بالمدينة.
وإسناده حسن كما تقدم.
ومما تقدم يُعلم أن خروج المرأة للجهاد لابد فيه من إذن الإمام، وفقًا لما يرتأيه من مصلحة خروجها أو عدمه.
(1)
سيأتي ص (484).
(2)
تقدم ص (474).
(3)
(1/ 161) 591 وقد تقدم تخريجه بأوسع من هنا ص (163 - 164).
المسألة الثالثة: أعمال المرأة في الجهاد:
وإذا اشتركت المسلمة مع الرجل في الجهاد؛ فإن عملها يتحدد في ضوء السنة النبوية، ومما مضى من الأدلة يتبين ما يأتي:
1 -
سقي المسلمة للمقاتلين، يدل على ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس، ولقد رأيت عائشة وأم س ليم وإنما المشمرتان أرى خدم سوقهما، تنقلان القرب على متوهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم
…
والحديث الذي أخرجه البخاري وفيه أن أم سَليط كانت تزفر القرب يوم أحد.
وعلى حديث أم سليط بوّب البخاري في كتاب الجهاد باب: حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو
(1)
.
2 -
مداواة الجرحى، ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري من حديث الرُبيِّع بنت مُعوِّذ قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة» وبوّب عليه «باب: مداواة النساء الجرحى في الغزو». وحديث أنس الذي أخرجه مسلم وفيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء، ويداوين الجرحى
(2)
.
وأخرج مسلم في صحيحه
(3)
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كتب إلى نجْدة الحروري جوابًا عن سؤاله وفيه: «وقد كان صلى الله عليه وسلم يغزو بهن فيداوين الجرحى» .
(1)
تقدم تخريج الحديثين ص (473).
(2)
تقدم تخريج الحديثين ص (472 - 473).
(3)
كتاب الجهاد والسير، باب: النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم
…
(3/ 1444)1812.
وأخرج
(1)
-أيضًا- من حديث أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.
قال ابن بطال في شرحه
(2)
لحديث الربيّع بنت معوذ: «قال المهلب: فيه مباشرة المرأة غير ذي محرم منها في المداواة وما شاكلها من إلطاف المرضى، ونقل الموتى.
فإن قيل: كيف جاز أن يباشر النساء الجرحى، وهم غير ذوي محارم منهن؟
فالجواب أنه يجوز ذلك للمتجالات
(3)
منهن، لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل تقشعر منه الجلود، وقابه النفوس، ولمسه عذاب للامس والملموس، وأما غير المتجالات منهن فيعالجن الجرحى بغير مباشرة منهن لهم، بأن يصنعن الدواء، ويضعه غيرهن على الجرح، ولا يمسسن شيئًا من جسده» ثم استدل رحمه الله على اتفاقهم أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها، أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس، بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري
(4)
، وفي قول الأكثر: تيمم
(5)
. ثم قال: «وهذا يدل من قولهم إنه لا يجوز عندهم مباشرة غير ذوي المحارم؛ لأن حالة الموت أبعد من التسبب إلى دواعي اللذة والذريعة إليها من حال
(1)
المصدر السابق (3/ 14447)1813.
(2)
شرح ابن بطال (4/ 102).
(3)
المتجالات: الكبيرات في السن.
انظر: النهاية (1/ 278)، لسان العرب (1/ 288)، مادة (ج ل ل).
(4)
عزاه له ابن قدامة في المغني (2/ 202).
(5)
قال به سعيد بن المسيب، والنخعي، ومالك، وأحمد، وأصحاب الرأي. وهو الراجح.
انظر: شرح ابن بطال (4/ 102)، المدونة (1/ 186)، المبسوط (10/ 161)، المغني (2/ 202).
الحياة، فلما اتفقوا أنه لا يجوز للأجنبي غسل الأجنبية الميتة مباشرًا لها دون ثوب يسترها، دل بأن مباشرة الأحياء الأحسّ أولى بأن لا تجوز، والله أعلم».
وقد أورد الحافظ في الفتح
(1)
قول ابن بطال وتعقبه فقال: «قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت؛ أن غسل الميت عبادة، والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات» .
وقال في الفتح
(2)
عند باب: هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل؟ في كتاب الطب:«وأما حكم المسألة فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجسّ باليد وغير ذلك» .
فإلى اللائي توسعن في معالجة الرجال وملامستهم بغير ضرورة، وإلى اللذين توسعوا أيضًا؛ أقول لهم: اتق الله، والزم الدليل، وعض عليه بالناجذ، فإن أخذه نجاة، وتركه مهلكة.
• فإن قيل: أليس للمرأة حق أن تقاتل كما يقاتل الرجل، وتصافه في الجيش، وتناصفه المسؤولية؟
الأصل كما تقدم أن عمل المرأة مقصور على ما صرحت به الأدلة من سقي المقاتلين، ومداواة الجرحى، والقيام على المرضى، وصنع الطعام. وإن حضرت النساء المعركة مع الرجال؛ فإنهن يكن في صفوف على حدة في مؤخرة الجيش، دليل ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في المسند
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
من حديث عمران
(1)
(6/ 80).
(2)
(10/ 136).
(3)
(33/ 162)19937.
(4)
(18/ 243)609.
بن حُصيّن الطويل وفيه: «قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغزوا بي فلان مع فلان» قال: فصف الرجال، وكانت النساء من وراء الرجال» وإسناده ضعيف؛ لإبهام الراوي عن عمران.
لكن لا يخفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعزل النساء عن الرجال، ويجعل صفوفهن في المؤخرة كما في صلاة النساء جماعة مع الرجال، بل جعل خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها، فإذا كان الحال هذا في الصلاة مع وجود الأمن فكيف بالقتال؟
فإن قيل: ألا يشرع لها القتال؟
يقال: بوّب البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد «باب: غزو النساء وقتالهن مع الرجال» ثم أورد تحته حديث أنس قال: لما كان يوم أحد اهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنما لمشمرتان، أرى خَدَم سوقهما تَنْقُزان القرب -أو: تنقلان القرب- على متوهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم
(1)
.
قال الحافظ في الفتح
(2)
بعد أن أورد الأدلة على مشاركة الصحابيات في الجهاد، دون تصريح بأنهن قاتلن- وقد تقدمت فيما مضى: «
…
ولم أر في شيء من ذلك التصريح بأن قاتلن، ولأجل ذلك قال ابن المنير: بوّب على قتان، وليس هو في الحديث فإمّا: أن يريد أن إعانتهن للغزاة غزو، وإما أن يريد أنهن ما ثبتن لسقي الجرحى ونحو ذلك، إلا وهن بصدد أن يدافعن عن أنفسهن وهو الغالب.
(1)
مضى تخريجه ص (472).
(2)
(6/ 78).
وقد وقع عند مسلم
(1)
من وجه آخر عن أنس أن أم سليم اتخذت خنجرًا يوم حنين فقالت: «اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه» ويحتمل أن يكون غرض البخاري بالترجمة أن يبين أنهن لا يقاتلن، وإن خرجن في الغزو، فالتقدير بقوله (وقتالهن مع الرجال) أي: هل هو سائغ، أو إذا خرجن مع الرجال في الغزو يقتصرن على ما ذكر من مداواة الجرحى ونحو ذلك».
والمتتبع لمشاركة النساء الرجال في القتال يرى أن ذلك يقع منهن إذا كانت الدائرة على المسلمين، فخروجهن ابتداءً كان للسقي والإطعام والمداواة، ولكن إن طال المسلمين هزيمة، أو كاد يتغلب عليهم عدو شرع للنساء القتال بما يتحملنه ويقدرن عليه، والأدلة على ذلك كثر منها:
1 -
ما جاء في ترجمة أم عمارة نَسيبة بنت كعب وقتاها يوم أحد، وقد جاء في طبقات ابن سعد
(2)
: «
…
فكانت أم سعيد بن ربيع تقول: دخلت عليها (أي: أم عمارة) فقلت: «حدثيني خبرك يوم أحد. قالت: خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انجزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أباشر القتال، وأذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وأرمي بالقوس حتى خلصت إليّ الجراح
…
» ثم ذكر قصة جرح ابن قميئة لها.
حتى قال لها رسول الله: «
…
ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟».
وجرحت يوم أحد ثلاثة عشر جرحًا.
وشهدت قتال مسيلمة باليمامة، وجرحت يومئذ اثنا عشر جرحًا ما بين طعنة،
(1)
كتاب الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال (3/ 1442)1809.
(2)
(8/ 415).
وضربة، وقطعت يدها، وذلك لما الحزم الأعراب، وتحصن بنو حنيفة بحديقة الموت، وقد آلت -رحمها الله- أن تقتل مسيلمة لقتله لولدها
(1)
.
2 -
أخرج ابن سعد في الطبقات
(2)
من طريق هشام بن عروة أن صفية بنت عبدالمطلب جاءت يوم أحد، وقد انهزم الناس، وبيدها رمح تضرب في وجوه الناس، وتقول: انهزمتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يا زبير المرأة» وكان حمزة قد بقر بطنه فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تراه. وكانت أخته.
3 -
وذكر الطبري في تاريخه
(3)
أن النساء قاتلن يوم اليرموك، فخرجت جويرية ابنة أبي سفيان في جولة، وكانت مع زوجها، وأصيبت بعد قتال شديد، وكان قتالها حين كرّ الروم على المسلمين حتى كادوا ينالون منهم. إلى أن قلب الله الدائرة على أعدائه، وأورث المسلمين أرضهم وديارهم.
4 -
أخرج سعيد بن منصور في السنن
(4)
، والطبراني في الكبير
(5)
من حديث مهاجر الأنصاري أن أسماء بنت يزيد الأنصارية شهدت اليرموك مع الناس، فقتلت سبعة من الروم بعمود فسطاطها».
قال الهيثمي في المجمع)
(6)
: «رواه الطبراني، ورجاله ثقات» وحسن إسناده الألباني
(7)
؛ لأن فيه مهاجر بن أبي مسلم قال الحافظ عنه: «مقبول»
(8)
وقد جرى
(1)
انظر: الاستيعاب (4/ 1948) 4190، الإصابة (8/ 265) 12178، البداية (6/ 326).
(2)
(8/ 41)، وانظر: تاريخ الطبري (2/ 529)، البداية والنهاية (4/ 483).
(3)
(2/ 338).
(4)
(213/ 307)2787.
(5)
(24/ 157)403.
(6)
(6/ 213).
(7)
الرد المفحم (155).
(8)
التقريب (975) 6974، وانظر: تهذيب الكمال (28/ 582)6217.
ابن القيم كما تقدم
(1)
على تحسين حديث من كان مثل مهاجر.
وكل ما تقدم دليل على أن للمرأة تحمل السلاح في الجهاد، والقتال للدفاع عن نفسها كما فعلت أم سليم، أو عند الحاجة وكون الدائرة على المسلمين كما فعلت أم عمارة، وصفية، وأسماء، والنساء اللاتي شهدن اليرموك.
فكل ما للمرأة في الحرب أن تقوم بعمل الهلال الأحمر كما كان نساء الصحابة -رضوان الله عليهن- يفعلن، ولها أن تحمل السلاح عند الحاجة كما مضى من الأدلة، أمّا إذا كانت لا تبغي من الالتحاق بالجيش إلا أن تلبس كسوة الجندي، وتمشي بها مزهوة هنا وهناك معتبرة هذا شارة من شارات الرقي المزعوم، فسخافة لا تمت إلى الحد بصلة، وشؤون الحياة لا تحتمل هذا الهزل؟!.
ومن عجب أنك ترى في زمن انتكاس الفطر من ينادي بتقليد المرأة رئاسة الجيوش، وفيالق الفرسان، ووضع الخطط، وقد شهدنا حربين عالميتين في مدى أربعين عامًا-وهي أوروبية غربية- فلم نرَ ولم نقرأ، ولم نسمع أن امرأة كانت في إحداها تقود الرجال، وتدير المعارك، وترسم لهم الخطط؟ فإذا كان هؤلاء قد نصبوا أوروبا لهم قدوة، وسنوا سنتها، فليت شعري من لقنهم الهتاف بذلك، ما دامت أوروبا لم تأخذ به بعد في شؤونها الحربية؟ وبئس القوم من تحميهم نساؤهم
…
ويستدل بعضهم بخروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائدة جيش المعارضة -كذا زعموا-، وقد أبعدوا، والله، النجعة، قال ابن حزم رحمه الله: «وأمّا أم المؤمنين و الزبير وطلحة، ومن كان معها فما أبطلوا إمامة علي قط، ولا
(1)
ص (126).
طعنوا فيها، ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة، ولا أحدثوا إمامة أخرى، ولا جددوا بيعة لغيره، هذا ما لا يقدر أحد أن يدعيه بوجه من الوجوه، فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي، ولا خلافًا عليه، ولا نقضًا لبيعته. إنما فمضوا لسد الفتق الحادث من قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلمًا»
(1)
.
فخروج أم المؤمنين لم يكن حربًا ولا فسخ بيعة، وإنما كان للإصلاح بين الناس، وأيّدها في خروجها طلحة والزبير -رضوان الله عليهم- فاجتهدت رأيها، ثم ندمت عليه رضي الله عنها يقول شيخ الإسلام:«وظنت عائشة أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها»
(2)
.
إن نظام الإسلام السياسي في إعفائه الإناث عن المسؤولية العسكرية يراعي فيهن التكوين الطبيعي، والاستعداد النفسي في جانبين رئيسين:
الأول: جسمي، يراعى فيه حدود قدرات الإناث البدنية التي تبدو واضحة الأول وهلة
(3)
، فلا يصل -غالبًا- للمهمة العسكرية، ومعاناتها الصحية؛ لهذا غلب على الجندية في عصورها المختلفة طابع الرجولة؛ فلا تزال حتى في هذا العصر الذي تطورت فيه الآلة الحربية تفتقر إلى القوة الجسمية، والمهارات الحركية التي تتعارض بوضوح مع الطبيعة الأنثوية، فلا تزال القطع والمعدات الحربية محتاجة في تشغيلها
(1)
الفصل في الملل والنحل (4/ 238).
(2)
منهاج السنة النبوية (4/ 316).
(3)
ينظر: علم النفس التطوري لسامي عريفج (138)، جوانب التعارض بين عنصر الأنوثة في المرأة والعمل السياسي لعدنان با حارث (83).
إلى كمال البنية الجسمية العامة، و لذا فإن الأسلحة بشكل عام -ولا سيما المعقدة منها- قد هُيِّئت فنيًا لاستخدامات الرجل، وأعدت تقنيًا حسب قدراته وطبيعته الجسمية
(1)
، فإذا ما قُدِّمت الفتاة المتجندة إلى تلك القطعة الحربية قام التنافر بينهما، ورغم بروز هذه الطبيعة الأنثوية العامة يبقى لكل قاعدة شواذ، والحكم دائمًا في مثل هذه الأمور للأغلب الأعم.
الثاني: نفسي، يراعى فيه محدودية طاقة التحمل النفسي عند الإناث؛ لأن الحياة العسكرية تتسم بشدة ضغوطها النفسية على الفرد، وتمدده بصورة مباشرة من خلال قسوة التجارب القتالية في سلامته النفسية، التي تعكس بالتالي آثارها السلبية في جوانب صحته العامة حين لا يكون له من القوى النفسية ما يكفي لحفظ اتزانه الداخلي، وقد عاش هذه المعاناة والاضطرابات النفسية حوالي ثلث الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب بلادهم مع فيتنام، فرغم اشتراك الجنسين في بحمل هذه المعاناة إلا أن أثرها في الإناث أعظم، وفعلها فيهن أبلغ
(2)
.
بناء على هذه الحقائق الفطرية في كيان الإناث، وما تعكسه من آثار سلوكية واضحة على الجانبين النفسي والجسمي بما يحد من تمام عطائهن العسكري بوجه عام، يمكن تفسير أسباب تخلفهن العسكري العام من جهة العدد، والقيادة، فرغم الانفتاح القانوني الذي يشهده العالم المعاصر أمام مشاركة النساء في الميادين العسكرية المختلفة، وانخراط فئات منهن في غالب قطاعات السلك العسكري،
(1)
ينظر: علم النفس العسكري لعبد اللطيف حسين وعز الدين جميل (28، 305، 323)، مقومات الشخصية العسكرية لمحمد سعيد (19).
(2)
ينظر: علم النفس العسكري (19)، دراسة انتشار الحالات النفسية لدى الكويتيين في مرحلة ما بعد العدوان العراقي لبدر محمد (289)، جوانب التعارض بين عنصر الأنوثة في المرأة والعمل السياسي (87).
حتى أمكن تكوين فرق نسائية متكاملة في بعض البلاد
(1)
، إلا أن مجمل أعدادهن لا تزال قليلة إذا ما قوبلت بأعداد الذكور؛ ففي حرب الولايات المتحدة الأمريكية مع فيتنام -وهي من حروب النصف الثاني من القرن العشرين- شارك ثلاثة ملايين من الرجال عبر سنوات الحرب مقابل سبعة آلاف امرأة، يعني نسبة (0. 2%) فقط
(2)
.
فإلى أولئك الزاجين بالجنس اللطيف في الثكنات العسكرية، والصفوف القتالية، منصِّبين أنفسهم دعاة لتحريرها زعموا، لابسين جلود الضأن على قلوب الذئاب، كلامهم أحلى من العسل، وحقيقته أَمرُّ من الصَبِر، أقول لهم على لسان كل مجندة: أراحتكم تطلبون، وأمنكم تريدون من وراء كل ضعيفة لطيفة؟!!
أثقلتم عواتقنا بما قد ضرنا منكم.
وحطمتم أنوثتنا، دفنتم كل معناها.
لبسنا زي عسكركم، وقد فتلت سواعدنا.
وفوق الكتف حُمِّلنا سلاحًا من ذخيرتكم.
وناديتم بأن الحق عندكم، وأن العدل دينكم.
فيا لله كم قُتِلت نضارتنا، وأُنْسينا منازلنا.
حمينا صفكم يا قبح منظركم.
رجالًا قد تترستم بأنثى خاب مسعاكم.
(1)
ينظر: المرأة في القديم والحديث لعمر رضا كحالة (3/ 10)، جوانب التعارض بين عنصر الأنوثة في المرأة والعمل السياسي (88).
(2)
ينظر: نحو استراتيجية قومية لإعادة تأهيل الأسرى لمحمد حجاز (80).
المبحث الثاني: الجهاد العيني
تقدم فيما مضى أن حكم الجهاد في الإسلام الكفاية، إن قام به البعض سقط الإثم عن الباقين إلا أنه قد يتعين على جميع أفراده المكلفين في بعض الحالات وهي:
1 -
التقاء جيش المسلمين بجيش الكفار:
فإذا التقيا حرم على من حضر القتال من أفراد الجيش الفرار، وتعيّن عليه المقام والقتال لقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
(1)
.
ويبدو أن هذه الحالة لا تشمل المرأة المسلمة إذا كانت قد خرجت مع جيش المسلمين؛ لأن عملها في هذا الخروج القيام بخدمة المقاتلين لا القتال، اللهم إلا إذا قصدها بعض الكفار فتقاتله دفاعًا عن النفس، أو تضطر لقتال الكفار دفاعًا عن قائد الجيش كفعل أم عمارة رضي الله عنها
(2)
.
2 -
إذا استنفر الإمام قومًا أو عين شخصًا:
قال ابن قدامة: «ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع
…
الثالث: إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير معه لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ
(1)
الأنفال: (15 - 16).
(2)
ينظر: المفصل في أحكام المرأة لعبد الكريم زيدان (4/ 396).
انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}
(1)
.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الجهاد يتعين بتعيين الإمام للشخص ولو عبدًا أو امرأة، ويخرجون ولو منعهم المولى والزوج، وإلى هذا ذهب الصاوي في حاشيته، والدردير في شرحه عليها
(2)
.
إلا أنه ليس للإمام أن يعين من لا يوجب الشرع جهاده؛ ولاسيما أن الغرض منه الدفاع عن الدين والحرمة والأنفس وهو قتال اضطرار
(3)
؛ فكيف تستنفر من شُرِع الجهاد للدفاع عنها.
3 -
النفير العام:
إذا هجم الكفار على بلد من بلاد المسلمين صار دفعه فرض عين على كل مسلم ذكرًا كان أو أنثى حرًا كان أو عبدًا، قال في الهداية شرح البداية
(4)
: «فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع، تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى؛ لأنه صار فرض عين، وملك اليمين، ورق النكاح لا يظهر في حق فروض الأعيان كما في الصلاة والصوم بخلاف ما قبل النفير؛ لأن بغيرهما مقنعًا فلا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج» ومعنى كلام المرغيناني: أن المرأة تحب عليها الصلاة والصيام، وتقوم بهذين الفرضين حتى لو لم يأذن الزوج، لكونها من الفروض العينية، فكذلك الجهاد إذا صار فرض عين كما في حالة النفير العام.
(1)
التوبة: (38).
(2)
حاشية الصاوي مع الشرح الصغير للدردير (2/ 175).
(3)
مجموع الفتاوى (28/ 359).
(4)
(2/ 135). وانظر: بدائع الصنائع (7/ 98)، البحر الرائق (5/ 76)، الموافقات للشاطبي (1/ 477)، نظرية الجهاد في الإسلام لعبد العزيز صقر (147).
ودليل جهاد الدفع ما أخرجه الحاكم في المستدرك
(1)
من طريق يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن صفية بنت عبد المطلب قال عروة: وسمعتها تقول أنا أول امرأة قتلت رجلًا، كنت في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان معنا في النساء والصبيان حين خندق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، فقلت لحسان: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدل على عوراتنا، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقم إليه فاقتله. فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت صفية: فلما قال ذلك، ولم أر عنده شيئًا، احتجزت وأخذت عمودًا من الحصن، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن. فقلت: يا حسان أنزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني أنه أسلبه إلا أنه رجل. فقال: ما لي بسلبه من حاجة. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
قلت: فيه محمد بن عبد الجبّار النيسابوري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئًا، قال الحافظ عنه:«مقبول»
(2)
.
• وأخرجه أبو يعلي في المسند
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
والأوسط
(5)
، والقزويني في التدوين
(6)
، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق
(7)
من طرق
(1)
(4/ 56)6867.
(2)
التقريب (868)6103.
(3)
(2/ 43)683.
(4)
(24/ 321)809.
(5)
(4/ 116)3754.
(6)
(3/ 283).
(7)
(12/ 429).
عن إسحاق بن محمد الفروي، عن أم عروة بنت جعفر بن الزبير، عن أبيها، عن جدتها صفية بنت عبد المطلب بنحوه.
قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق أم عروة بنت جعفر بن الزبير، عن أبيها، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات»
(1)
.
• وأخرجه الطبراني في الكبير
(2)
من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل النساء يوم الأحزاب أطمًا من آطام المدينة، وذكر القصة بنحوها.
قال الهيثمي في المجمع
(3)
: «رواه الطبراني ورجاله إلى عروة رجال الصحيح، ولكنه مرسل» قلت: وهو كما قال.
فالقصة بمجموع طرقها حسنة، ولها شواهد أخر أوردها الحافظ في الإصابة
(4)
.
ومن هنا يتبين أن العدو إذا هجم على بلاد المسلمين وجب على المرأة أن تدفعه بما تطيق، والله ولي التوفيق.
(1)
(6/ 115).
(2)
(24/ 319)804.
(3)
(62/ 134).
(4)
(7/ 744)11405.
الفصل الخامس المرأة والقضاء
توطئة:
وفي مثل هذه الأزمنة كثرت المطالبات بتولية المرأة القضاء مثلها في ذلك مثل الرجل، وجاءت مؤتمرات المرأة لتعزيز هذا المطلب، والمناداة به، وفي تقرير المؤتمر العالمي للمرأة ببكين عام (1416 هـ - 19995 م) جاء ما نصه:«وفي عالم يتسم باستمرار عدم الاستقرار وبالعنف، ثمة حاجة ملحة إلى تنفيذ نُهَج تعاونية تجاه السلم والأمن. ووصول المرأة إلى هياكل السلطة، ومشاركتها الكاملة فيها على قدم المساواة، ومشاركتها الكاملة في جميع الجهود التي تبذل من أجل منع المنازعات وتسويتها، كلها أمور أساسية لصون وتعزيز السلام والأمن، ورغم أن المرأة بدأت تؤدي دورًا هامًا في حل النزاعات وحفظ السلام، وفي آليات الدفاع، والشؤون الخارجية، فإنها ما زالت ممثلة تمثيلًا ناقًصا في مناصب صنع القرار، وإذا أريد للمرأة أن تنهض بدور متساو في تأمين السلم وصيانته، فيجب تمكينها سياسيًّا واقتصاديًّا، ويجب أن تكون ممثلة على جميع مستويات ص نع القرار تمثيلًا كاملًا»
(1)
.
تعريف القضاء:
وقبل عرض أقوال الفقهاء، لا بد أن يحرر مصطلح القضاء.
القضاء لغة: يطلق على معان منها: الحكم، والأداء، والإنماء، والتبليغ، والهلاك، والفراغ، والصنع، والتقدير
(2)
.
(1)
نقلًا عن رسالة الدكتوراه لفؤاد بن عبد الكريم العبد الكريم «قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية» (845 - 846) وقد أورد المؤلف نقولات أخرى فراجعها إن رمت الزيادة.
(2)
ينظر: لسان العرب (15/ 186) مادة (ق ض ي).
قال الأزهري: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء، وتمامه
(1)
.
وأمّا في الاصطلاح فهو: الفصل بين الناس في الخصومات حسمًا للتداعي، وقطعًا للنزاع بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة
(2)
.
(1)
تهذيب اللغة (6/ 123).
(2)
نظام القضاء في الإسلام لمحمد عبد القادر (6).
حكم تولي المرأة القضاء
فقد اختلف العلماء رحمهم الله في جواز أن تكون المرأة قاضية، وفي كون الذكورة شرطًا في منصب القضاء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: عدم جواز ولاية المرأة للقضاء مطلقًا:
أصحابه عدم جواز ولاية المرأة للقضاء مطلقًا، وإذا وليت يأثم المُوَلّي وتكون ولايتها باطلة، وقضاؤها غير نافذ، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من المالكية
(1)
والشافعية
(2)
والحنابلة
(3)
، وزمر من الأحناف
(4)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
(5)
.
والآية تفيد حصر القوامة في الرجال؛ لأن المبتدأ المعرف بلام الجنس منحصر في خيره إلا أنه هنا حصر إضافي أي بالنسبة للنساء
(6)
، فتكون القوامة للرجال على
(1)
ينظر: المنتقى للباجي (5/ 182)، بداية المجتهد (2/ 460).
(2)
ينظر: المجموع (20/ 150)، مغني المحتاج (4375)، الفتح (1/ 128).
(3)
ينظر: المعني (9/ 39)، المقنع (3/ 609)، الأحكام السلطانية للماوردي (83).
(4)
ينظر: شرح فتح القدير (7/ 298)، البحر الرائق (6/ 278).
(5)
النساء: (34).
(6)
ينظر: نظام القضاء في الإسلام للمرصفاوي (27).
النساء لا العكس، وجاءت الآية بصيغة المبالغة في قوله تعالى:{قَوَّامُونَ} ليدل على أصالتهم في هذا الأمر
(1)
.
فعلى هذا لا تحوز ولاية المرأة القضاء؛ لأن من كان في حاجة إلى القوامة عليه، فلا يصح أن يكون قوّامًا على من هو قوّام عليه، ونوقش هذا الاستدلال بأن المراد بالقوامة في هذه الآية ولاية تأديب الزوج زوجته، بدليل تركيب الآية وسياقها؛ فإما نصت على أمور تتعلق بالأسرة: كإنفاق الزوج، وما يجب على زوجته من طاعة، وهذا يدل أن المراد بالقوامة: قوامة الرجال على زوجاتهم بما يخص الأسرة، لا قوامة الرجال على النساء في سائر الولايات.
وأجيب عن المناقشة بأن المقرر عند الأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولفظ الآية عام في القيام عليهن في كل الأمور إلا ما دل الدليل على إخراجه من هذا العموم، وهو الولايات الخاصة ككونها وصية على أولادها، أو ناظرة على وقف، وما إلى ذلك
(2)
.
فدلت الآية على عدم جواز تولي المرأة للقضاء، يقول محمد عبد القادر:«أمّا قول: إن القوامة في هذه الآية متعلقة بالمسؤولية في الأسرة، وليست عامة فالحجة تبقى قائمة كذلك، فإن كانت المرأة عاجزة عن إدارة شؤون أسرة تتكون من مجموعة أفراد، فمن باب أولى أن تكون أكثر عجزًا عن إدارة شؤون الناس، والفصل في خصوماتهم، ومنازعاتهم، وحل مشاكلهم»
(3)
.
2 -
استدلوا بحديث أبي بكرة، وفيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا
(1)
ينظر: فتح القدير للشوكاني (1/ 410).
(2)
ينظر: نظام القضاء في الإسلام للمرصفاوي (28).
(3)
القضاء في الإسلام (35).
أمرهم امرأة»
(1)
.
وهذا الحديث دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، فلا يحل للمرأة أن تلي من أمور المسلمين العامة شيئًا -والقضاء منها- وذلك أن تَجَنُّب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب كما هو منطوق الحديث، ونحن مأمورون باكتساب ما يكون سببا للفلاح
(2)
. وكلمة (قوم) نكرة في سياق النفي فتعم.
قال الحافظ: «في الحديث أن المرأة لا تلي الإمارة أو القضاء»
(3)
وجاء فيه: «احتج بحديث أبي بكرة من قال: لا يجوز أن تولى المرأة القضاء، وهو قول الجمهور»
(4)
.
ونوقش هذا الحديث بأن المراد بالأمر في الحديث الإمامة العظمى، بدليل سبب وروده، ويجاب عنه بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
3 -
أخرج أبو داود في سننه
(5)
، وابن ماجه في السنن
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
من طرق عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» واللفظ لأبي داود.
وقال: «وهذا أصح شيء فيه. يعني حديث ابن بريدة: القضاة ثلاثة» .
(1)
يأتي تخريجه (520).
(2)
ينظر: سبل السلام (4/ 237).
(3)
فتح الباري (8/ 128).
(4)
فتح الباري (13/ 56).
(5)
(3/ 299)3573.
(6)
(2/ 776)2315.
(7)
(10/ 116)20141.
ورجاله ثقات رجال مسلم غير أن خلف بن خليفة اختلط في الآخر، قال الحافظ:«صدوق اختلط في الآخر، وادعى أنه رأى عمرو بن حريث الصحابي، فأنكر عليه ذلك ابن عيينة وأحمد»
(1)
لكنه لم يتفرد به، فذلك يدل أنه قد حفظ، تابعه الأعمش كما أخرج الترمذي عنه في السنن
(2)
، والحاكم في المستدرك
(3)
عن سهل بن عبيدة، عن ابن بريدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فذكره بنحوه.
قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي.
قلت: فيه شَرِيك بن عبد الله النخَعي، قال عنه الحافظ:«صدوق يخطئ كثيرًا، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة»
(4)
.
وتتبع الألباني طرقه في الإرواء
(5)
وصححه بمجموع طرقه.
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث: (رجل
…
ورجل)، فدل بمفهومه على خروج المرأة
(6)
.
4 -
أن النبي وخلفاءه الراشدين ومن بعدهم لم يولوا امرأة قضاء ولا ولاية، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبًا
(7)
.
5 -
أن الإجماع كان قائمًا على انعقاد بطلان ولاية المرأة القضاء وإثم موليها،
(1)
التقريب (299)1741.
(2)
(3/ 613)1322.
(3)
(4/ 102)7013.
(4)
التقريب (436)2803.
(5)
(8/ 236)2614.
(6)
ينظر: نيل الأوطار (8/ 274).
(7)
ينظر: المغني (9/ 39)، مواهب الجليل (4/ 202).
فلا يعتد برأي من قال بجواز توليتها بعد انقراض عصر الإجماع من غير دليل شرعي)
(1)
.
6 -
حضور المرأة مجلس القضاء لا يتفق مع آداب الإسلام في صيانة المرأة، والمحافظة على كرامتها، وحسن سمعتها، فإن القاضي يحضره محافل الخصوم والرجال، وقد تحتاج للجلوس مع الخصم، فتقع في الخلوة التي حرّمها الشارع، وعاطفتها أقوى من الرجل فتنفعل بسرعة، وهذا يتنافى مع القضاء الذي يحتاج إلى التدبر والروية وتحكيم العقل مع الشرع
(2)
.
القول الثاني: جواز تولّي المرأة القضاء فيما عدا الحدود والقصاص:
ذهب الأحناف إلى أن للمرأة أن تلي القضاء فيما عدا الحدود والقصاص، أي: أن ما تحوز شهادتهما فيه يجوز لها القضاء فيه
(3)
، واستدلوا على قولهم؛ بأن القضاء من باب الولاية كالشهادة، والمرأة أهل للشهادة في غير الحدود والقصاص، فتكون أهلًا للقضاء في غير الحدود والقصاص.
ونوقش هذا الدليل بأن الولاية في الشهادة مغايرة للولاية في القضاء؛ لأن الشهادة ولاية خاصة، والقضاء ولاية عامة، فلا بد أن تكون الأهلية في الشهادة مغايرة للأهلية في القضاء وإلا كان العامي الجاهل الذي تقبل شهادته أهلًا للقضاء
(4)
، كما أن الشهادة إبانة للحق دون إلزام، والقضاء إبانة للحق مع الإلزام به، فالشهادة غير ملزمة بعكس القضاء.
(1)
الأحكام السلطانية للماوردي (83).
(2)
ينظر: المهذب (2/ 290)، المغني (9/ 39)، الفتح (13/ 147).
(3)
ينظر: بدائع الصنائع (7/ 3)، شرح فتح القدير (7/ 252)، حاشية ابن عابدين (4/ 311).
(4)
ينظر: نظام القضاء في الإسلام للمرصفاوي (34).
القول الثالث: جواز تولّي المرأةَ القضاء مطلقَا:
ذهب ابن جرير الطبري
(1)
، وابن حزم
(2)
، وابن القاسم من المالكية
(3)
إلى أن الذكورة ليست شرط جواز ولا صحة، فيجوز أن تتولى المرأة القضاء مطلقًا، وإذا وليت لا يأثم المولي، وتكون ولايتها صحيحة، وأحكامها نافذة سواء أكان القضاء في الحدود أم في غيرها.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(4)
، ومسلم
(5)
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته» .
ووجه الدلالة من الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت للمرأة في بيت زوجها القيام على إدارته ورعاية وتدبير شؤونه عامة، والراعي من يتولى رعاية غيره، والقضاء رعاية للغير، فيدل هذا على أنها أهل لسائر الولايات، فيصح توليتها
(1)
عزاه له ابن قدامة في المغني (9/ 39) وابن رشد في بداية المجتهد (2/ 406).
(2)
المحلى (9/ 429).
(3)
عزاه له الباجي في المنتقى (5/ 182)، وابن رشد في بداية المجتهد (2/ 460).
(4)
كتاب الأحكام، باب قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (6/ 2611)6719.
(5)
كتاب الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر (3/ 1459)1820.
القضاء
(1)
.
ونوقش هذا الاستدلال بأن ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة هو الولاية الخاصة، من رعاية بيت الزوج، والقيام بتدبير شؤونه، أما القضاء فإنه رعاية وولاية عامة
(2)
.
2 -
أن المرأة يجوز لها الإفتاء، فيجوز لها القضاء بجامع الإخبار بالحكم في الكل
(3)
.
ونوقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الإفتاء ليس ملزمًا للمستفتي، فهو إخبار عن حكم شرعي، بخلاف القضاء، فإنه ملزم للمتقاضي، فالقضاء إخبار عن حكم شرعي مع الإلزام.
وبأن القضاء ولاية بخلاف الإفتاء فإنه ليس كذلك
(4)
.
3 -
القياس على ولاية الحسبة: واستدلوا بأثر الشَّفَّاء عندما ولاها عمر حسبة السوق، وسمراء بنت فيك عندما كانت تدخل السوق وتأمر وتنهي، وقد تقدم الإجابة عنهما
(5)
.
4 -
الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يقم دليل المنع، فكل من يصلح للفصل في الخصومة، فإنه يجوز ولايته القضاء، والمرأة قادرة على الفصل في الخصومة، وعليه يصح توليتها القضاء؛ لأن أنوثتها لا تحول دون فهمها للحجج وإصدار الحكم.
ونوقش بأن دليل المنع قائم، وقد أخرج المرأة عن أصل الإباحة، وهذا الدليل
(1)
ينظر: المحلى (9/ 429)، السلطة القضائية في الإسلام لشوكت عليان (118).
(2)
ينظر: نظام القضاء في الإسلام لـ د. محمد عواد (75)، السلطة القضائية لـ د. محمد البكر (358).
(3)
ينظر: المغني (9/ 39)، الحاوي الكبير للماوردي (16/ 156).
(4)
ينظر: القضاء في الإسلام للمرصفاوي (33)، نظام الإسلام في القضاء (74).
(5)
ص (453 - 456).
هو ما استدل به الجمهور من الكتاب والسنة، والإجماع على عدم جواز توليتها القضاء، هذا بالإضافة إلى أن المرأة لا يتأتى منها الفصل في الخصومات على وجه الكمال للنقصان الطبعي فيها، ولانسياقها وراء العاطفة، والعوامل الطبعية التي تعتريها بتوالي الأشهر والسنين من حمل وإرضاع، فتؤثر فيها بلا شك
(1)
.
5 -
استدل ابن حزم
(2)
على إجازة كون المرأة قاضية بإجازة كونها وصية ووكيلة، ولم يأت نص من منعها أن تلي الأمور.
وأجيب عن هذا القياس بأنه فاسد؛ لأن الوكالة: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة من التصرفات الشرعية
(3)
، فلا ولاية فيها إلا على الأموال، والتصرفات الشرعية، شأنها شأن الوصاية، فالوصاية والوكالة من قبيل الولاية الخاصة في التصرف عن الغير -أو في ماله- نيابة عنه، بقيامه وصيًّا على مال الصغير لأبوته، أو بتعيين القاضي، أو بتوكيل الموكل له في إجراء عقد ما، بخلاف القضاء فإنه ولاية عامة، منع منه المرأة الحديث «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»
(4)
.
وقد حكى أبو بكر بن العربي مناظرة جرت في هذه المسألة فقال: «وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية ببغداد في مجلس السلطان (عضد الدولة) فماحلَ ونَصَر (ابنُ طرار) لما ينسب إلى ابن جرير، على عادة القوم التجادل على المذاهب، وإن لم يقولوا بها،
(1)
ينظر: نظام القصاء في الإسلام للمرصفاوي (32).
(2)
ينظر: المحلى (8/ 528).
(3)
ينظر: الفروع (4/ 258)، الروض المربع (2/ 239).
(4)
يأتي تخريجه ص (520).
استخراجَا للأدلة، وتمرنًا في الاستنباط للمعاني؛ فقال أبو الفرج بن طرار: الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها، وسماع البينة عليها، والفصل بين الخصوم فيها، وذلك يمكن من المرأة كإمكانه من الرجل.
فاعترض عليه القاضي أبو بكر، ونقض كلامه بالإمامة العظمى، فإن الغرض منها حفظ الثغور، وتدبير الأمور، وحماية البيضة، وقبض الخراج، ورده على مستحقيه، وذاك يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل.
فقال له أبو الفرج بن طرار: هذا هو الأصل في الشرع، إلا أن يقوم دليل على منعه.
فقال له القاضي: لا نسلم أنه أصل الشرع. ثم قال القاضي أبو بكر: ليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء، فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجالس، وتخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير؛ لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، وإن كانت متجالّةً بَرْزَةً لم يجمعها والرجال مجلس تزدحم فيه معهم، وتكون منظرة لهم، ولم يفلح قط من تصور هذا، ولا من اعتقده»
(1)
.
• ومن هنا يتضح أن الراجح هو رأي الجمهور القائلين باشتراط الذكورة فيمن يتولى القضاء؛ لقوة أدلتهم، وسلامتها من الاعتراض، وهذا هو ما يتفق مع أصول الشريعة وفروعها، وعليه العمل في عهد الرسالة، وعهد الصحابة، والتابعين، وهذه العصور هي الأقرب لعصر الوحي، وأصحابها بلا شك أدرى بأسرار التشريع، ومقصود الشرع.
إلا أنه إذا ابتليت الأمة فتولى القضاء في بلد من البلاد الإسلامية امرأة، جاز
(1)
أحكام القرآن (3/ 483).
-والله أعلم- التقاضي لها فيما دون الحدود والقصاص كما هو رأي الأحناف؛ لئلا تتعطل مصالح الناس، فإنهم إن لم يفعلوا ما سارت أمورهم؛ وما تحصلوا على مصالحهم، مع بقاء الإثم على ولي الأمر بتولية من لا تجوز ولايته، وكذلك تأثم المرأة إذا رضيت بتوليها القضاء.
ويبقى في حق المسلمين عدم الرضا بذلك، ومناصحة ولي الأمر. والله تعالى أسأل أن يوفقنا للعمل بكتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الفصل السادس المرأة والولايات العامة
وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: أقسام الولايات العامة.
المبحث الثاني: حكم تولي المرأة الولايات العامة.
توطئة:
عندما تبتعد الأمة عن منبعها الصافي، وموردها العذب، لا شك أنها تشرب داء ينخر قواها، ويفت في عضدها، وأخشى أن تندم ولات حين مناص، ذاك أن الناعقين بمؤتمرات المرأة والمطالبين بجميع ما تدعوهم إليه، سيدندنون في كل مؤتمر على التأكيد على المساواة التامة بين النساء والرجال في المناصب السياسية، وإليك بعضًا منها:
- جاء في المؤتمر العالمي للمرأة المنعقد في نيروبي (1405 هـ - 1985 م): «ينبغي تشجيع النساء، وتوفير الحوافز لهن، وأن تساعد كل منهن الأخرى على ممارسة حقها في الانتخاب، وترشيح نفسها، والاشتراك في العملية السياسية بكل مستوياتها على قدم المساواة مع الرجل» .
- وجاء في المؤتمر العالمي للمرأة في بكين (1416 هـ - 1995 م): «نحن على اقتناع أن تمكين المرأة ومشاركتها الكاملة على قدم المساواة في جميع جوانب حياة المجتمع، بما في ذلك المشاركة في عملية صنع القرار، وبلوغ موقع السلطة أمور أساسية لتحقيق المساواة والتنمية والسلم» .
- وجاء في مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية/ كوبنهاجن (1415 هـ - 1995 م): «تشجيع تغيير المواقف والهياكل والسياسات العامة، والقوانين والممارسات، بغية إزالة جميع العقبات التي تحول دون مشاركة النساء مشاركة كاملة في الحياة السياسية
…
بما في ذلك صوغ السياسات والبرامج العامة وتنفيذها ومتابعتها»
(1)
.
وتعجب حين ترى بني جلدتنا، وأصحاب لغتنا ينادون بما جاء في المؤتمر،
(1)
انظر جميع ما تقدم وزيادة في الرسالة العلمية القيمة «قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية» لـ د. فؤاد العبد الكريم (843 - 849).
وإن صادم النص متناسين قول الرب: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(1)
وسأعرض -إن شاء الله- في هذا الفصل تحريرًا للمسألة وأقوال أهل العلم فيها، مع بيان الراجح بالتدليل والتعليل.
تعريف الولايات العامة:
الولايات جمع ولاية.
والولاية لغة:
بفتح الواو وتكسر، وبالفتح: النصرة، والنسب والعتق، وبالكسر: الإمارة، أو الفتح للمصدر، والكسر للاسم
(2)
.
ومن مشتقات الولاية الوَليّ -بفتح الواو وكسر اللام، جمعه: أولياء- كل من ولي أمرًا أو قام به ذكرًا كان أو أنثي. وقد يؤنث بالهاء فيقال: ولية
(3)
.
أمّا في الاصطلاح:
فقد تنوعت تعاريف الفقهاء للولاية بمعناها الخاص والعام:
عرّفها ابن عابدين بمعناها الخاص فقال: «تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى»
(4)
. وعرّفها الشيخ مصطفى الزرقاء بقوله: «قيام شخص كبير راشد على شخص قاصر، في تدبير شؤونه الشخصية والمالية»
(5)
.
• وأمّا الولاية العامة بمعناها العام، وهو المعنى السياسي المطلوب في هذا
(1)
النور: (63).
(2)
ينظر: لسان العرب (15/ 407)، مادة (و ل ي).
(3)
معجم لغة الفقهاء (510)، وانظر: المعجم الوسيط (2/ 1058)، لسان العرب (15/ 406) مادة (و ل ي).
(4)
حاشية در المحتار (3/ 55).
(5)
المدخل الفقهي العام (2/ 817).
الفصل، فقد تعددت تعاريف المعاصرين لها:
- عرفها محيد أبو حجير بأنها سلطة شرعية عامة مستمدة من اختيار عام، أو بيعة عامة، أو تعيين خاص من ولي الأمر، أو من يقوم مقامه، تخول لصاحبها تنفيذ إرادته على الأمة جبرًا في شأن مصالحها العامة في ضوء اختصاصه
(1)
.
- وعرّفها د. عبد المجيد متولي بأنها السلطة الملزمة في شأن من شؤون الجماعة كولاية الحكم، وسن القوانين، والفصل في الخصومات، وتنفيذ الأحكام، والهيمنة على القائمين بذلك. وبعبارة أخرى: فهي -حسب الاصطلاح الفقهي الحديث- القيام بعمل من أعمال السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية
(2)
.
ويستفاد من التعريفين:
أ- شمول الولاية العامة للسلطات الثلاث الكبرى: التشريعية، والتنفيذية والقضائية.
ب- شمول الولاية العامة للتعيينات الخاصة في الأمور العامة: وهي التعيينات السياسية كالجيش والسلطة والمخابرات وولاية الحسبة.
جـ- من سمات الولاية العامة البارزة عمومية قراراتها على الفئات، وإلزامية تلك القرارات.
(1)
المرأة والحقوق السياسية لمجيد أبو حجير (87).
(2)
مبادئ نظام الحكم في الإسلام (714).
المبحث الأول: أقسام الولايات العامة
قسمها الماوردي إلى أربعة أقسام:
1 -
من تكون ولايته عامة في الأعمال العامة: كالوزراء فمن فوقهم.
2 -
من تكون ولايته عامة في الأعمال الخاصة: كأمراء الأقاليم والبلدان.
3 -
من تكون ولايته خاصة في الأعمال العامة: كقاضي القضاة، وقائد الجيوش، وحامي الثغور، ومستوفي الخراج، وجابي الصدقات.
4 -
من تكون ولايته خاصة في الأعمال الخاصة: كقاضي بلد أو إقليم أو مستوفي خراجه
(1)
.
ويمكن إرجاعها إلى قسمين:
1 -
الولايات العامة السياسية: وهي السلطات الثلاث الكبرى: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية من إمامة عظمى، ووزارة، وإمارة، وشرطة، ومخابرات، وسفارة، وسلطة قضائية.
2 -
الولايات العامة الدينية: كولايات الصلوات، والحج، والصدقة.
(1)
الأحكام السلطانية (21).
المبحث الثاني: حكم تولي المرأة الولايات العامة
اتفق فقهاء الإسلام جميعًا -على اختلاف مذاهبهم-
(1)
على عدم جواز تولي المرأة لمنصب الإمامة العظمى أو الولاية العامة، وأن الذكورة شرط فيمن يتولى هذا المنصب.
قال ابن حزم: «وجميع أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة»
(2)
. وقال الماوردي: «يعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده»
(3)
.
واستدلوا بما يأتي:
أولًا: أدلة القرآن:
1 -
(4)
.
ووجه الدلالة من الآية: أن الله سبحانه وتعالى حصر القوامة في الرجال دون
(1)
ينظر: شرح السنة للبغوي (10/ 77)، المغني (9/ 39)، المجموع (19/ 192)، بداية المجتهد (2/ 460)، الأحكام السلطانية (83)، الفتح (8/ 128)، حاشية ابن عابدين (5/ 440)، نيل الأوطار (8/ 273).
(2)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 179).
(3)
الأحكام السلطانية (22).
(4)
النساء: (34).
النساء، فالرجل قيم المرأة أي: رئيسها، وكبيرها، والحاكم عليها، يلزمها بحقوق الله تعالى من المحافظة على الفرائض، والكف عن المفاسد.
قال الشوكاني في معنى: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : «أي: إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء، والسلاطين، والحكام»
(1)
.
قال الطاهر بن عاشور في تفسيره
(2)
: فقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} أصل تشريعي كلي تتفرع عنه الأحكام التي في الآيات بعده، فهو كالمقدمة، وقوله:{فَالصَّالِحَاتُ} تفريع عنه مع مناسبته لما ذكر من سبب نزول: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}
(3)
والحكم الذي في هذه الآية حكم عام جيء به لتعليل شرع خاص فلذلك فالتعريف في (الرجال) و (النساء) للاستغراق
…
».
وهذا الذي قرره ابن عاشور في تفسير الآية بأن القوامة لجنس الرجال على جنس النساء قاعدة عامة تشمل القوامة داخل البيت وخارجه، وهو ما ذهب إليه المفسرون كالزمخشري في الكشاف
(4)
، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن
(5)
،
(1)
فتح القدير (1/ 460).
(2)
(4/ 102).
(3)
النساء: (32)، وسبب نزول الآية ما أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 322) 26779، والترمذي في السنن (5/ 237) 3022 من حديث أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال، ولا نغزو، ولنا نصف الميراث، فأنزل الله:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . واللفظ لأحمد. وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن الترمذي (3022).
(4)
(1/ 217).
(5)
(5/ 169).
وابن كثير في تفسيره
(1)
، وأبو السعود في تفسيره
(2)
رحمهم الله جميعًا-.
وقال العلامة المودودي -رحمه الله تعالى-: «هذا النص يقطع بأن المناصب الرئيسية في الدولة رئاسة كانت، أو عضوية مجلس شورى لا تفوض إلى النساء»
(3)
، وحقيقة المجالس التشريعية ليس وظيفتها بمجرد التشريع وسن القوانين، بل هي بالفعل تسير دفة السياسة في الدولة، فهي التي تؤلف الوزارات وتحلها، وتضع خطة الإدارة، وهي التي تفرض أمور المال والاقتصاد، وبيدها أزمة أمور الحرب والسلم.
بذلك كله لا تقوم هذه المجالس مقام الفقيه والمفتي، بل تقوم مقام القوام لجميع الدولة. وقال أيضًا:«إن القرآن لم يقيد قوامة الرجال على النساء بالبيوت، ولم يأت بكلمة (في البيوت) في الآية، مما لا يمكن بدونه أن يحصر الحكم في دائرة الحياة العائلية، ولو قبلنا بذلك القول: أمن شك في أن قوامة الدولة أخطر شأنًا، وأكثر مسؤولية من قوامة البيت؟ فهل أنتم تظنون بالله أنه يجعل المرأة قوّامًا على مجموعة ملايين من البشر، ولم يشأ أن يجعلها قواما داخل بيتها»
(4)
.
وقد ذهب بعضهم
(5)
إلى عدم التسليم بهذا الدليل في منع تولية المرأة الولايات العامة معللًا ما يذهب إليه بأمرين:
(1)
(1/ 432).
(2)
(1/ 692).
(3)
نقلًا عن المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام لعبد المجيد الزنداني (85)، وسيأتي مزيد بحث في المرأة ومجلس الشورى ص (426).
(4)
نقلًا عن المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام لعبد المجيد الزنداني (85 - 86).
(5)
مكانة المرأة في القرآن والسنة د. محمد بتاجي (244).
أ- سبب نزول الآية، فيقصر عليه ولا يتعداه إلى غيره، وسبب نزولها أخرجه ابن أبي حاتم
(1)
من طريق خلف بن أيوب العامري، عن أشعث بن عبد الملك، عن الحسن قال:«جاءت امرأة تستعدي على زوجها أنه لطمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القصاص» فأنزل الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فرجعت بغير قصاص.
وإسناده ضعيف؛ لضعف خلف بن أيوب، ضعفه ابن معين
(2)
، ثم إنه مرسل.
وعلى فرض صحته فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما قررّ ذلك الأصوليون
(3)
وإلا تعطل كثير من آي القرآن عن الإعمال، وأدى ذلك إلى إهمالها.
ب- أن الآية خاصة في نطاق الأسرة، وقد تقدم أن هذا التعليل أبلغ في منع توليها الولايات العامة؛ لأنها إن لم تكن قوّامة على أسرتها فمن باب أولى على دولتها، ويكون هذا من باب التنبيه بالأدبي على الأعلى.
2 -
(4)
.
(1)
(3/ 490)5246.
(2)
ينظر: تهذيب التهذيب (3/ 127) 283، التقريب (298)1736.
(3)
ينظر: الفصول في الأصول للجصاص (99)، المحصول للرازي (3/ 189)، القواعد والفوائد الأصولية لعلي بن عباس الحنبلي (240).
(4)
البقرة: (228).
يقول الشيخ السعدي في تفسير الآية: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي: رفعة ورياسة كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ومنصب النبوة، والقضاء، والإمامة الصغرى والكبرى، وسائر الولايات للرجال، وله ضعف ما لها في كثير من الأمور كالميراث ونحوه»
(1)
.
فإن قيل: السياق يقصر الدرجة على الأمور العائلية؟ قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السياق
(2)
.
3 -
قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}
(3)
.
دلت الآية على تكليف المرأة بالقرار في البيت، فهو الأصل فيها فلا تخرج إلا لحاجة؛ لأنه الأمر المناسب لفطرتها، وأراد الشارع من تشريع هذا الحكم مصلحة عائدة إلى جهتين: المرأة فمصلحتها فردية بحفظ كرامتها وعفتها وشرفها، والمجتمع بدرء خطر الانحلال الجماعي المسبب للعقوبة العامة بسبب تفلت بعض أفراده من الالتزام بالأوامر، والوقوع في المحظور. والواقع شاهد هذا. وزعم بعضهم أن هذه الآية خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردّ العلماء على ذلك، يقول القرطبي: «معنى هذه الآية أمر بلزوم البيت، فإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء
(1)
تيسير الكريم الرحمن (1/ 183). وقد مضى تحقيق القول في معنى (درجة) ص (344) فما بعدها.
(2)
انظر: بحث «تخصيص العموم بالسياق، وترك العموم لأجل السياق» في البحر المحيط للزركشي (3/ 380).
(3)
الأحزاب: (33).
البيوت، والانكفاف عن الخروج إلا للضرورة»
(1)
.
ومن أصرّ - بعد هذا- على ادعاء الخصوصية في هذه الآيات بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإنا سائلوه: ما العلة في منع نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج، وأمرهن بالقرار دون سائر النساء؟! هل تفوقت نساء المؤمنين على أمهات المؤمنين!!.
ثم إن كانت الآيات بهذا الصدد مختصة بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فهل أذن الله السائر المسلمات أن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى؟!
ولذلك نص العلماء على أن دلالة الاقتران يضعف فيها اتحاد الحكم، أي: قد يقترن واجب مندوب بحرف عطف، كما قد يقترن خاص بفرد مع أمر عام كما في هذه الآية
(2)
.
فإذا كان الإسلام أمر المرأة بالقرار في البيت، وأذن لها في الخروج لحاجة، فكيف يوليها الحكم والإمامة التي تستلزم الخروج من المنزل والاختلاط بالرجال!
ثانيًا: أدلة السنة:
1 -
ما أخرجه البخاري في صحيحه
(3)
من حديث أبي بكرة قال: لقد نفع الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم. قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» .
(1)
الجامع لأحكام القرآن (14/ 117) وانظر: روح المعاني للألأوسي (22/ 6)، نيل الأوطار 09/ 243).
(2)
راجع ضعف دلالة الاقتران على اتحاد الحكم في: إرشاد الفحول (413).
(3)
كتاب المغازي، باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى (4/ 1610)4163.
• قال البغوي في شرح السنة
(1)
: «اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إمامًا ولا قاضيًّا» قال الخطابي: «في الحديث أن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء»
(2)
.
قال الصنعاني: «فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقومها توليتها؛ لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب»
(3)
.
• ومعلوم أن إيراد الطلب على صورة الخبر أبلغ في الطلب كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}
(4)
والمعي ليتربصن، كأن فعلهن الشدة الامتثال قد وقع، وكذلك هنا فالمراد لا تولوا فإن وليتم لن تفلحوا فوجب ألا يولوا أمرهم إلا الرجل لجلب الفلاح.
• وقد دل عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وتطبيقهم الواقعي على تفسير هذا النص القولي حيث لم يثبت أنه قد وليت امرأة ولاية عامة في القرون المفضلة مع وفرة الدواعي، وانتفاء الموانع، فكان هذا من أوضح الأدلة على حرمة تولي المرأة للولاية العامة.
• فإن قيل: جاءت الرواية عند الإمام أحمد في المسند
(5)
، وابن حبان في الصحيح
(6)
، والحاكم في المستدرك
(7)
بقوله: «تملكهم» فيه دلالة على أن المراد الإمامة
(1)
(10/ 77).
(2)
أعلام الحديث (2/ 64).
(3)
سبل السلام (4/ 1496).
(4)
البقرة: (228).
(5)
(5/ 47)20496.
(6)
(10/ 375)4516.
(7)
(4/ 324)7790.
العظمى
(1)
، فيرد عليه من وجهين:
أولهما: إن الروايات الأخرى جاءت بـ «ولوا أمرهم» كما تقدم، وعند ابن أبي شيبة في المصنف
(2)
، وابن حزم في المحلى)
(3)
«أسندوا أمرهم» والروايات يفسر بعضها بعضًا، وهذه ظاهرة في الإمامة الصغرى والعظمى وما انبثق عنهما من الوظائف السياسية، وتفسير لفظ هذا الحديث برواياته المختلفة قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم بتطبيقه العملي حيث لم يول امرأة ولاية عامة صغيرة أو كبيرة، وكذا فعل أصحابه -رضوان الله عليهم-.
ثانيهما: ما فهمه راوي الحديث الصحابي أبو بكرة رضي الله عنه فإنه يوضح المراد من الحديث، حيث قال: «نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعدما كدت ألحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم
…
»
(4)
وجاء عند الحاكم
(5)
«عصمني الله بشيء سمعته
…
» ولم يدع أحد أن عائشة رضي الله عنها كانت ولايتها على الجيش من باب الإمامة العظمى، بل كانت ولاية عامة على قوم مخصصين فحسب
(6)
.
• فإن قيل: بل المراد في الحديث الإمامة العظمى، إذ يفهم هذا من اسم الجنس المضاف في قول النبي صلى الله عليه وسلم «أمرهم» والمعنى كل أمورهم، فالجواب:
(1)
ينظر: المرأة بين الفقه والقانون لمصطف السباعي (39 - 40)، مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة لمحمد بتاجي (245 - 246).
(2)
(7/ 538)377.
(3)
(9/ 360).
(4)
تقدم تخريجه ص (452).
(5)
المستدرك (4/ 324).
(6)
انظر تعليقًا نفيسًا حول استدلال أبي بكرة بالحديث عند الحافظ في الفتح (13/ 56).
هذا بعيد، إذ قرر علماء أصول الفقه
(1)
أن الاسم المضاف إلى معرفة يفيد العموم الصادق بواحد من جزئياته، هذا إذا كان اسمًا مفردًا، فكيف إذا كان اسم جنس؟! وإفادته للعموم تعني شموله لسائر أفراده المندرجة تحته سواءٌ جمعت أو أفردت واحدة واحدة
…
وذلك كقوله «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته»
(2)
إذ المفهوم إجماعًا كما هو المعمول اتفاقًا أن هذا الحكم (طهارة ماء البحر) ي شمل كل جزء في ماء البحر كما يشمله كله، لا أنه لا يكون طهورًا إلا إذا جمع ماؤه كله، فهذا لم يقل به أحد من العلماء، ولا فرق بين اسم الجنس المضاف في قوله «ماؤه» واسم الجنس المضاف في قوله «أمرهم» .
• فإن قيل: لا نسلم بأن الإضافة في قوله «أمرهم» للعموم، بل هي للعهد الذكري أو الذهني، بدليل سبب هذه المقالة، وهو تولي بنت كسرى الولاية العظمى، فالجواب:
بل هي للعموم لا للعهد من وجوه:
أ- ما سبق بيانه من الأدلة.
ب- الأدلة الأخرى التي تمنع المرأة من الولاية في أصغر الوحدات الاجتماعية وهي الأسرة.
ج- الإجماع العملي منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نهاية قرون قوة المسلمين، إذ لم
(1)
ينظر: المحصول لابن العربي (74)، اللمع في أصول الفقه للشيرازي (206)، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة لعبد الرحمن حسن (34).
(2)
أخرجه أبو داود في السنن (1/ 21) 83، والترمذي في السنن (1/ 101) 59، وابن ماجه في السنن (1/ 136)، والنسائي في المجتبى (1/ 50) 59 من حديث أبي هريرة وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في الإرواء (1/ 25)9.
تول المرأة على صغير أو كبير إلا في شذوذات التاريخ مما لا يصلح دليلًا، أو ما يكون قصصًا وهمية لا مستند لها كقصة الشفاء بنت عبد الله
(1)
.
د- فهم السلف وعلى رأسهم الخلفاء والصحابة كأبي بكرة رضي الله عنه.
هـ- ما فهمه جمهور الفقهاء والعلماء القدامى والمعاصرين في الاستدلال عليه بمنعها من تولي كل الولايات العامة. قال الشوكاني في نيل الأوطار: «فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقومها توليتها؛ لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب»
(2)
. وقال الصنعاني: «فيه دليل على عدم جواز تولية المرأة شيئًا من الأحكام العامة بين المسلمين»
(3)
.
وقالت لجنة الفتوى بالأزهر: «
…
هذا الحكم المستفاد من الحديث وهو منع المرأة من الولايات العامة: الإمامة الكبرى، والقضاء، وقيادة الجيوش وما إليها من سائر الولايات العامة ليس حكما تعبديا يقصد مجرد امتثاله دون أن تعلم حكمته، وإنما هو من الأحكام المعللة بمعان واعتبارات لا يجهلها الواقفون على الفروق الطبيعية بين نوعي الإنسان الرجل والمرأة»
(4)
.
• نَفْيُ الفلاح في الحديث بـ «لن» يعني الاستمرار للنفي في حين أن الفاعل «قوم» نكرة، والنكرة أشمل من المعرف بـ (ال) كقولك:(لن ينجح رجل) يكون نفي الفلاح عن كل رجل بخلاف (لن ينجح الرجل) إذ قد يعهد للسامع.
ثم إن النفي للفعل المضارع، وفعل جملة الصفة «تملكهم» مضارع أيضًا، مما يجعل نفي الفلاح حاضرًا ومستقبلًا عن قوم تملكهم الآن أو مستقبلًا؛ فلا يقال بعد:
(1)
تقدمت ص (453).
(2)
نيل الأوطار (9/ 168).
(3)
سبل السلام (4/ 123).
(4)
مجلة العربي عدد (144) رمضان 1390 هـ - 1970 م ص (33 - 34).
العبرة بخصوص السبب، كيف وقد قرر جمهور علماء الأصول أن العام يحمل على عمومه؛ لأن خصوص السبب لا يقضي على عموم اللفظ، والأحكام تستقى من نصوص التشريع لا من الحوادث الخاصة التي وردت عليها إلا بقرينة قائمة أو حجة جازمة
(1)
.
على أن إصرار البعض على اعتبار خصوص السبب يُعَدُّ قدحًا في الشريعة لا تحمد عقباه؛ إذ قد يؤدي إلى بطلان كون الشريعة عامة، ثم إن عدول الشارع عن الخاص المسؤول عنه أو عن الحادثة الخاصة إلى العموم دال على إرادة التشريع العام
(2)
.
2 -
أخرج مسلم في صحيحه
(3)
من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تستعملي. قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» .
قال النووي رحمه الله: «هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف الولاية»
(4)
.
ووجه الدلالة هنا حجب النبي صلى الله عليه وسلم الولاية عن الضعيف، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضعف المرأة فيما أخرجه أحمد في المسند
(5)
، وابن ماجه في السنن
(6)
،
(1)
ينظر: المرأة والحقوق السياسية لمجيد أبو حجير (210)، المرأة وحقوقها السياسية لعبد المجيد الزنداني (99).
(2)
المناهج الأصولية للدكتور فتحي الدريني (654).
(3)
كتاب الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة (3/ 1457)1825.
(4)
شرح مسلم (12/ 210).
(5)
(15/ 416)9666.
(6)
(3/ 1213)3618.
والنسائي في الكبرى
(1)
، وابن حبان في صحيحه
(2)
، والحاكم في المستدرك
(3)
من طرق عن ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اللهم إني أُحَرِّجُ حق الضعيفين: اليتيم والمرأة» .
وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، قال الألباني في الصحيحة
(4)
«وهو كما قالا، لولا أن ابن عجلان، لم يحتج به مسلم، وإنما أخرج له في المتابعات، فهو حسن الإسناد» .
وقد قام الدليل على أنه لا يولى من كان أصل طبعه الضعف كما في قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}
(5)
.
3 -
إن إقصاء المرأة عن مثل هذه المهام تكريم لها، كما أن الفروض العينية التي كلفها بما الشارع الحكيم لا تقل أهمية عن فروض الكفاية التي تتطلع إليها، فإن فيها من حجم التكاليف والمهام ما يغنيها عن التطلع إلى المزيد، بل إن الشارع الحكيم يمنع هذه المناصب من سألها وحرص عليها، أخرج البخاري في صحيحه
(6)
من حديث أبي موسى قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا رسول الله. وقال الآخر مثله، فقال:«إنا لا نولِّي هذا من سأله، ولا من حرص عليه» ، ووجْه الدلالة في هذا الحديث أنه لو كان تولي الوظائف العامة
(1)
(5/ 363)9150.
(2)
(12/ 376)5565.
(3)
(1/ 131)211.
(4)
(3/ 12)1015.
(5)
القصص: (26).
(6)
كتاب الأحكام، باب: ما يكره من الحرص على الإمارة (6/ 2614) 6730، الذخيرة للقرافي (4/ 246).
حقًا للمسلم بمعنى إلزام الدولة بإجابته إذا طلبه لما كان طلبه سببًا لمنعه منه؛ لأن الحقوق لا تسقط بالمطالبة بل تتأكد، وهذا يدل على أن هذه المناصب تكاليف ومشاق، وليست مواقع حقوق واستمتاع يطالب بها الناس، ثم إن الشارع الحكيم حين يقدم للولايات أناسًا ويؤخر آخرين إنما يصنع ذلك للمصلحة، فيقدم لكل نوع من الولايات من هو أقوم بمصالحها «ورب كامل في ولاية ناقص في أخرى كالنساء ناقصات في الحروب كاملات في الحضانة»
(1)
.
ولهذا ألزم بعض العلماء الإمام أن يعزل القاضي إذا وجد من هو أولى منه بالقضاء حتى لا يفوت على المسلمين مصلحة. فهل مرّ على التاريخ الإسلامي بل وحتى التاريخ البشري أن كانت هناك امرأة هي أولى بولاية عامة من سائر الرجال؟!
ثالثًا: اتفاق أهل العلم على منع المرأة من الولايات العامة:
قال الجويين: «وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إمامًا، وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها فيه»
(2)
.
قال ابن حزم في الفصل
(3)
: «وجميع أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة» .
وقال البغوي في شرح السنة
(4)
: «واتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إمامًا ولا قاضيًّا» .
(1)
الذخيرة للقرافي (4/ 246).
(2)
الإرشاد إلى قواطع الأدلة (427).
(3)
(4/ 179).
(4)
(10/ 77).
وقال ابن قدامة المقدسي في المغني
(1)
(2)
.
وقد أخرج البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لمسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
(1)
(9/ 380). وانظر: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة (88)، الأحكام السلطانية (31 - 32)، المرأة والحقوق السياسية في الإسلام لمجيد أبو حجير (309 - 310).
(2)
راجع: مجلة العربي، سبتمبر: 1970 م.
(3)
كتاب الصلح، باب: إذا اصطلحوا على جور فالصلح مردود (2/ 959)2550.
(4)
كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور (3/ 1343)1718.
قال النووي: «وهذا الحديث ينبغي أن يعتني بحفظه، واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك»
(1)
.
(2)
.
وما لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء بعده، ولا عن الصحابة، ولا أمراء الأجناد من التابعين في تولية النساء ولاية من ولايات المسلمين، أو تقليدهن إمارة قلّت أو جلّت، فَمَنْ عَملَ ذلك فهو محدِثٌ في دين الله بدعة تُرَدُّ عليه.
رابعًا: الأدلة العقلية:
1 -
إن الإمام لا يستغني عن الاختلاط بالرجال، والتشاور معهم في الأمور، والمرأة ممنوعة من الاختلاط بالرجال والخلوة بهم؛ لأن حالها مبني على الستر والقرار في البيت
(3)
، وتعتمد الممارسة السياسية على أسلوب الاتصال الإنساني الواسع العميق بين الساسة والجمهور بما يكفل وحدتهم الاجتماعية، وحمايتهم من التأثيرات الخارجية
(4)
. فهي علاقة إنسانية من الدرجة الأولى، تخضع بصورة أساسية للخبرة التراكمية التي تبنيها الممارسة الواقعية، وتمحصها التجربة العملية، فلا تغني فيها المعرفة العلمية بالقواعد والأصول السياسية -مهما كانت متفوقة- دون فنيِّات
(1)
شرح صحيح مسلم (12/ 258).
(2)
الفتح (5/ 357).
(3)
ينظر: غياث الأمم للجويني (91)، حاشية تحفة المحتاج للهيثمي (9/ 75)، حاشية ابن عابدين (1/ 512).
(4)
ينظر: حول علم النفس السياسي لمحمد أحمد نابلسي (82).
الممارسة التطبيقية؛ لأن المسألة السياسية ليست من العلوم المشاعة التي تؤخذ كما تؤخذ النظرية العلمية، بل هي علاقات إنسانية وتفاعلات تراكمية ترتبط بخصوصيات الأمم الثقافية فلا تستعار ولا تقتبس فإذا كان كمال العلم وأعلى مراتبه لا يحصل إلا بالمخالطة والاحتكاك، فإن أدن مراتب القدرة السياسية لا تحصل إلا بالدربة والمعاطاة.
ومن هنا تظهر قوة العلاقة بين العمل السياسي وبين البروز الاجتماعي بحيث تحتاج المرأة إلى قدر من الصفاقة الخلقية، والجراءة الشخصية التي تؤهلها للممارسة السياسية، ولهذا لحقت رياح التغريب بغالب النساء والفتيات المطالبات اليوم بالعمل السياسي، وأخذت من بعيدًا عن ضوابط الأخلاق التي يرسمها منهج الإسلام للمرأة المسلمة ضمن خصوصيات حضارته ونظامه للحكم، الذي قضى بتأخير جملة الإناث مطلقًا في كل مناشط الحياة العامة عن الرجال.
إن الشارع الحكيم في تعامله مع أحكام النساء ضيق أسباب بروزهن الاجتماعي حتى منعهن من وسط الطريق
(1)
، وربط مصالحهن الخارجية بأوليائهن فلا تسافر إحداهن إلا مع محرم لها
(2)
، وأعفاها عن المشاركة العبادية في الحياة العامة
(1)
أخرج أبو داود في السنن (4/ 369) 5272، والطبراني في الكبير (19/ 261) 580 من حديث أبي أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها به» . وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (5272).
(2)
أخرج البخاري في صحيحه (3698) 1038 من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة أن تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة» .
كحضور الجمعة والجماعات وشهود الجنائز
(1)
، ولم يرض لها مهما بلغت من العلم والفضل أن تتقدم على ذكر حر أو عبد نافلة أو فريضة، ومن هذه الجهة كان خبير النساء عبر التاريخ الإسلامي مبنيًّا على الستر والصون، فكيف تكون صاحبة ولاية عامة تحكم فيها الرجال والنساء؟!
2 -
إن الإمام بحكم منصبه عليه قيادة الجيش، وإقامة أمر الجهاد، والنظر في أمور المسلمين، والمرأة بحكم تكوينها الخَلْقي لا تصلح للقهر والغلبة والعساكر، وتدبير الحروب، وإظهار السياسة غالبًا
(2)
، ومن ثم فهي لا تصلح أن تلي منصب الإمامة.
3 -
إن المرأة بحكم تكوينها الخلقي تعتريها عوامل طبعية من حمل وولادة وإرضاع وحيض
…
وهذه توهن قواها وتفكيرها، وتحول دون تفرغها للأمور المهمة التي تخص الدولة
(3)
.
وجاء في فتوى علماء الأزهر: «
…
إذا حكمنا بالقياس وهو إلحاق النظير بالنظير لاشتراكهما في علة الحكم، لكان الواجب هو حرمان المرأة من الولاية، والوظائف العامة؛ لأن كثيرًا من الأحكام في الشريعة الإسلامية تميز بين الرجل والمرأة، وعلتها هي (ضعف) الأنوثة؛ لأن مهمة الأمومة حضانة النشء وتربيته، وهذه قد جعلتها ذات تأثير خاص بدواعي العاطفة، وهي مع ذلك تعرض لها
(1)
انظر: حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة (581 - 593).
(2)
ينظر: شرح السنة للبغوي (10/ 77)، حاشية زين الدين قاسم الحنفي على كتاب المسايرة للكمال بن الهمام (275).
(3)
انظر: جوانب التعارض بين عنصر الأنوثة في المرأة والعمل السياسي من المنظور التربوي الإسلامي لـ د. عدنان با حارث (27 - 34) فقد أفاد وأجاد جزاه الله خيرًا.
عوارض طبيعية متكررة عليها في الأشهر والأعوام من شأنها أن تضعف قواها المعنوية، وتوهن عزيمتها في تكوين الرأي والتمسك به، والقدرة على الكفاح، لذلك جعلت القوامة على النساء للرجال، وجعل حق الطلاق للرجل دوفا، ومنعتها الشريعة من السفر من غير محرم أو زوج أو رفقة مأمونة، ولو كان سفرها لأداء فريضة الحج»
(1)
.
فإذا كان الفارق الطبيعي بينهما قد أدى في الإسلام إلى التفرقة في هذه الأحكام التي لا تتعلق بالشؤون العامة للأمة، فإن التفرقة بمقتضاه في الولايات العامة تكون من باب أولى أحق وأوجب؛ لأن كثيرًا من الأحكام تعفي المرأة من معالجة ما هو دون السياسة والحكم من أمور وواجبات خارج البيت، منها صلاة الجمعة والجماعة.
4 -
إن المرأة مرهفة الحس والعاطفة، سريعة التأثر والانفعال، مجبولة على الرفق والحنان، وهذه الصفات إن كانت لازمة في مضمار الأمومة والحضانة فقد تكون ضارة في مضمار القيادة والرئاسة وإدارة أمور الأمة
(2)
، والسياسة تعارض الطبيعة العاطفية لدى الأنثى، ويمكن رصد هذه الناحية الفطرية في الطبيعة النسائية من حيث تأثر توجيهات الإناث واختيارات من الفكرية والسلوكية بسلطان العاطفة الجياشة التي تدخل بقوة استفحالها الفطري في قرارهن من جهة، وفي سلوكهن من جهة أخرى، حتى لا يكاد يخرج أداؤهن الواقعي عن طبيعة الانفعال العاطفي، الذي يظهر أشد ما يكون قوة ومضاءً عند الأزمات المهيجة للعواطف، والمثيرة للانفعالات، فلا تتناسب حدّة هذه الطبيعة الفطرية مع طبيعة الأداء السياسي الذي
(1)
راجع: مجلة العربي، سبتمبر:1970.
(2)
الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن عمر (245).
يتوقف نجاحه على مزيد من التجرد العاطفي مقابل مزيد من الإمعان العقلي
(1)
.
خامسًا: الواقع:
يقول الزنداني: «إن دلالة الإحصاء لعدد النساء اللاتي تمكَّنَّ من شغل منصب الولاية العامة كالرئاسة، والمحافظة، والنيابة العامة، وقيادة الشرطة، والمصانع، والشركات في المجتمعات التي تمنح لهن هذا الحق، وتضعهن على قدم المساواة مع الرجل يبدو ضئيلًا مقارنة بالرجال، مع أن النسبة السكانية لعدد النساء أكثر من النسبة السكانية لعدد الرجال، ولا يمكن أن نعزو سبب هذا إلى القوانين والتربية، فإن القوانين في تلك البلاد أو التربية لا تقيم اعتبارًا لاختلاف الجنسين، إنما يرجع السبب الحقيقي إلى الاختلاف الفطري بين الرجال والنساء، الذي تجاهله كثير من الناس اتباعًا للأهواء أو مكابرة للفطرة التي أرغمتهم على التسليم بحقائقها. فلماذا لم تتمكن المرأة من الوصول إلى مركز رئاسة الدولة بنسبة تتناسب مع عدد النساء في المجتمعات التي تمنحها هذا الحق، وتربيها عليه؟!!، وتكاد النسبة في هذا الموقع لا تزيد عن 1%، فلماذا أخذ الرجل 99% إنها الفطرة المتمثلة في التركيب البدني والنفسي والهرموني والعصبي.
ولماذا لم تحصل المرأة في هذه الدول من مقاعد الوزراء والمحافظين على نسبة قد لا تزيد على 5%؟ ولماذا أخذ الرجل 95& من هذه المواقع؟ لا بد أن السبب يرجع إلى الاختلاف الفطري في تركيب الرجل والمرأة»
(2)
.
وقد بلغت النساء في المراتب القيادية في الغرب 1% رغم أن ثلث خريجي
(1)
ينظر: عنصر الأنوثة في المرأة والعمل السياسي من المنظور التربوي الإسلامي لعدنان حسن با حارث (26).
(2)
المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام (79).
الجامعات من النساء فلم تبلغ من إلا هذه النسبة، وإذا سألت عن البقية تحدهن موظفات، وعاملات، وعارضات أزياء، وفي سوق الرقيق الأبيض
(1)
.
وقد نيل من إسرائيل في حكم (جولدا مائير) حتى كادت تنتهي، لولا ما فعلته أمريكا، ما يدلل على ضعف المرأة، وعدم قدرتها على التخطيط للحروب. وقد أجرت «إنديرا غاندي» يوم حكمت الهند انتخابات لترى أيختارها قومها للحكم أم لا؟ فسقطت في الانتخابات، وجرّت الهند إلى الويلات
(2)
.
وكما تعارضت الأنوثة شرعيًّا وتاريخيًا مع القيام بالمناصب السياسية العامة، فإنها أيضًا تتعارض بصورة واضحة في واقع الحياة السياسية المعاصرة من جهة ضعف حضور النساء السياسي، وتمكنهن القيادي، رغم الانفتاح السياسي الكبير الذي تشهده نساء هذا العصر، وإعلانات حقوق الإنسان، ورفع شعارات المساواة، وصدور القوانين العربية والعالمية التي تسمح للإناث بالمشاركة السياسية، وتولي جميع المناصب القيادية على قدم المساواة الكاملة بالرجال، ودعم ذلك كله بالمؤتمرات العالمية، والندوات المحلية بما لا يدع مجالًا للشك في صدق هذا التوجه نحو تمكين نساء العالم سياسيًّا واجتماعيًّا إلا أن واقع الإحصاءات العالمية الحديثة يشير بوضوح إلى تخلف حضور النساء السياسي على جميع المستويات، وفي جميع الدول قاطبة بما فيها الدول الصناعية المتقدمة بشكل يبعث على خيبة الأمل مقابل الجهود الكبيرة الرامية لدعمهن الاجتماعي وتمكينهن السياسي، فإن تمثيلهن في البرلمانات حتى عام (1990 م) لا يزيد في العالم عن (14%) ولا يتجاوز في الدول
(1)
مجلة النهضة، العدد (871) 14/ 7/ 1984 م ص (58).
(2)
ينظر: مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة (251).
المتقدمة عن (13%)
(1)
وكذلك تولي المناصب الوزارية فإن حضورهن فيها لا يكاد يتعدى (5. 7%) حتى عام 1994 م. وأما منصب رئيسة دولة فقد بلغ أقصى مداه التاريخي عام 1994 م حين اجتمع في عام واحد لأول مرة عشر نسوة في مناصب رئاسة الدولة
(2)
، ضمن (177) دولة يعني نسبة (5. 6%) والذي يظهر من خلال التتبع أن النساء اللاتي وصلن إلى مناصب قيادية مهمة في العصر الحاضر قليلات جدًّا، كما أنه لم يحصل لهن إلا بعد بداية النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تبلغ امرأة منصب رئيس وزراء بريطانيا التي تعتبر واجهة الحضارة الغربية إلا مرة واحدة عبر تاريخها الطويل
(3)
، ومن العجيب أن حكومة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، والتي تمثل في المنطقة العربية الإسلامية الامتداد الديمقراطي الغربي لم تتسع لأكثر من وزيرة واحدة مقابل سبعة عشر وزيرًا ضمن الحكومة المؤلفة عام 1999 م
(4)
.
والأمم المتحدة التي ما فتئت منذ زمن تنادي بحقوق النساء العامة، وتتابع الدول بقوة القانون الدولي في تنفيذ قراراتها الجماعية الخاصة بتمكين النساء السياسي والاقتصادي، تعجب حين تعلم أن نسبة النساء في إدارتها العليا حتى عام 1993 م لا تتجاوز (13%) وأما منصب الوكالة للأمين العام فلا تكاد نسبتهن تتعدى (2. 3%) وهذه نسب متدنية المنظمة تتبنى الدفاع عن المرأة والتمكين ها
(5)
.
(1)
ينظر: جوانب التعارض بين عنصر الأنوثة في المرأة والعمل السياسي لـ د. عدنان با حارث (50).
(2)
الأمم المتحدة، المرأة في العالم 1995 م اتجاهات وإحصاءات (151).
(3)
جوانب التعارض بين عنصر الأنوثة في المرأة والعمل السياسي (50).
(4)
الانتخابات الإسرائيلية أيار، مايو: 1999 م لأحمد خليفة وخالد عايد (114 - 115).
(5)
الأمم المتحدة، المرأة في العالم 1995 م (154 - 155).
ومن هنا يظهر جليًّا أن الأنوثة بما تحمله من النقص الفطري هي العائق الحقيقي أمام تمكين النساء السياسي؛ إذ لا ينقص هؤلاء النسوة -في الغالب- الذكاء الفطري، أو المعرفة السياسية، وإنما تنقصهن الذكورة التي تفرض نفسها بدافع الطبيعة الفطرية بين أمم لا تؤمن بالفروق الجنسية، فإذا اجتمع إلى هذا التخلف الواقعي: الحكم الشرعي والعامل التاريخي فإن تخلف النساء السياسي يصبح سمة عليهن، وإقحامهن في المناصب السياسية شذوذ يتعارض مع أنوثتها.
وعلى هذا فتصوير أمر الولاية في الواقع على أنها أنانية من الرجل واستبداد منه، وعنفوان من قبله ما هو إلا نوع مجازفة، وانسياق غريب، وخطير وراء الإرهاب الفكري والإعلامي الغربي العام، وذوبان ثقافي في الشعارات الثقافية الوافدة
…
وهل التكامل بين الرجل والمرأة بتسخير كل واحد منهما نفسه لما
خلق لأجله أنانية من الرجل؟! ألست تتألم أن يصور مناط البحث على أنه صراع جنسي بين الزوجين (الجنسين) على نمط نظرية الصراع الطبقي الماركسي الهالكة؟ كيف وربك يقول: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}
(1)
.
رأيٌ مخالفٌ لجمهور الأمة:
يعزو كثير من كتاب هذا الزمن جواز تولية الإمامة العظمى لابن جرير الطبري، ولم أقف عليه في كتبه، بل ولم يصرح العلماء بعزوه له اللهم إلا ما تقدم من نقل مذهبه في جواز توليها القضاء مطلقًا، وأوردتُ مناظرة جرت بين أبي بكر بن الطيب المالكي وأبي الفراج بن طرار وفيه إيماء إلى أن ابن طرار
(1)
النساء: (32).
لا يذهب لمنعها
(1)
.
وهناك فرقة من فرق الخوارج لم تشترط الذكورة المنصب الإمامة العظمى، حيث أجاز شبيب بن يزيد الخارجي، وفرقته المسماة (بالشبيبة) أن تتولى المرأة منصب الإمامة
(2)
.
أدلة المجيزين ولاية المرأة العامة:
1 -
لا يوجد هناك دليل منقول أجاز الخوارج بموجبه إمامة المرأة، إلا أنه يمكن القول بأنهم أجازوا لها الخروج انتصارًا للشريعة، وقيامًا بأمر الرعية، مستدلين بخروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى البصرة مع جندها إلا أنهم في حقيقة الأمر قد أنكروا وعابوا على عائشة رضي الله عنها هذا الخروج، بل و كفروها بسببه، فكيف يستقيم هذا الحكم مع استدلالهم بصحة الخروج؟!!
(3)
.
والذي يتبين في هذا الشأن أهم ما أنكروا وعابوا على عائشة رضي الله عنها إلا لأنها خرجت بدون محرم لها، وهذا توجيه سيئ من الخوارج.
يقول البغدادي: «أنكرتم على أم المؤمنين عائشة خروجها إلى البصرة مع جندها الذي كل واحد منهم محرم لها؛ لأنها أم جميع المؤمنين في القرآن لقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}
(4)
وزعمتم أنا كفرت بذلك، وتلوتم عليها قول الله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}
(5)
فهلّا تلوتم هذه
(1)
تقدم ص (506 - 507)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 483).
(2)
ينظر: الكامل للمبرد (3/ 246)، الفرق بين الفرق لعبد القاهر بن طاهر البغدادي (89).
(3)
ينظر: الفرق بين الفرق (99).
(4)
الأحزاب: (6).
(5)
الأحزاب: (33).
الآية على غزالة أم شبيب؟ هلا قلتم بكفرها، وكفر من خرجن معها من نساء الخوارج إلى قتال جيش الحجاج؟ فإن أجزتم لهن ذلك؛ لأنه كان معهن أزواجهن أو بنوهن وأخوتهن، فقد كان مع عائشة أخوها عبد الرحمن، وابن أختها عبد الله بن الزبير، وكل واحد منهم محرم لها، وجميع المسلمين بنوها، وكل واحد محرم لها، فهلّا أجزتم لها ذلك؟ على أن من أجاز منكم إمامة غزالة فإمامتها لائقة به وبدينه، والحمد لله على العصمة من البدعة»
(1)
.
ثم إن خروج عائشة رضي الله عنها لم يكن لأجل الحرب، أو منازعة عليّ في الخلافة، وإنما أنكرت عليه منعه من قتل قتلة عثمان رضي الله عنه وترك الاقتصاص منهم، وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه، فاختلفوا بسبب ذلك، ولتعلق الناس بها رضي الله عنها وشكايتهم إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة، وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت مهتدية بقوله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}
(2)
، وقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
(3)
.
والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثي حر أو عبد، فلم يرد الله بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح، ولكن جرت مطاعنات وجراحات
(1)
الفرق بين الفرق (92).
(2)
النساء: (114).
(3)
الحجرات: (9).
حتى كاد يفين الفريقان، فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر أخته عائشة، فلما احتملها إلى البصرة وخرجت في ثلاثين امرأة حتى أُوصلت إلى المدينة برة تقية مجتهدة مصيبة مثابة، ومأجورة فيما تأولت وفعلت
(1)
.
ثم إن صنيع عائشة رضي الله عنها ليس فيه دليل شرعي يصح الاستناد إليه، فإنه كان عن اجتهاد منها، وكانت مخطئة فيه، وقد أنكر عليها بعض الصحابة هذا الخروج
(2)
، فاعترفت بخطئها وندمت على خروجها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«فإن عائشة لم تقاتل، ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها»
(3)
.
2 -
يستدل المجيزون بحكم بلقيس لليمن، وذكر الله تعالى حكمها في كتابه حيث قال عز من قائل سبحانه على لسانها:{قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
(4)
.
وفي الآية الكريمة دليل على أن المرأة يمكن أن تدير الملك، وتكون حاكمة
(1)
ينظر: أحكام القرآن للقرطبي (3/ 569)، الفتح (13/ 56)، العواصم من القواصم (83).
(2)
ينظر: الإمامة والسياسة لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (1/ 55)، الكامل في التاريخ لابن الأثير (3/ 117)، البداية والنهاية (7/ 238).
(3)
منهاج السنة النبوية (4/ 316).
(4)
ينظر: البرهان في أصول الفقه (1/ 331)، الإبهاج للسبكي (2/ 276)، إرشاد الفحول (401).
وتحسن السياسة، وذلك لما أظهرته بلقيس من حصافة الرأي.
ويمكن الجواب عن هذا بأوجه ثلاثة:
الأول: أن ذكر القرآن لما عليه الحال في سبأ، وحكم المرأة لها كان في معرض الحكاية عن حالهم لا عن التشريع، وقد وردت في آيات مكية.
الثاني: أن هذه القصة حكاية عن شرع من قبلنا، والمعلوم عند العلماء أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه
(1)
، وقد جاءت النصوص بخلافه كما تقدم.
الثالث: أن الهدهد استنكر أمرين في مملكة سبأ: الأول أنهم كانوا يعبدون الشمس. والثاني: أن امرأة تملكهم. قال تعالى على لسان الهدهد: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
(2)
ثم إن حكمها لقومها كان قبل إسلامها مع سليمان لله رب العالمين، ولم يأت في القرآن إقرار سليمان لحكمها بعد إسلامها، وما جاء من زواجه منها، أو زواجها من ملك همدان فإسرائيليات لم تثبت.
3 -
الناظر إلى تاريخ مصر في نهاية حكم الأيوبيين يجد أن شجرة الدر وهي أم خليل جارية الملك صالح قد بويعت بالخلافة إثر مقتل توران شاه الملك المعظم، فقد وثب إليه غلمان أبيه الملك الصالح وذلك في المحرم في سنة ثمان وأربعين وستمائة للهجرة.
وقد عقد لها على أنها القائمة بأمور السلطة في مصر، وقدم لها الأتراك ونائبها
(1)
النمل: (23 - 24).
(2)
ينظر: البداية والنهاية (13/ 212)، أعلام النساء لعمر كحالة (2/ 286).
عز الدين أيبك التركماني فروض الولاء والطاعة، وحلفوا على ذلك.
وأجيب عنه بأوجه:
الأول: أنه ليس في هذه الواقعة التاريخية أي سند شرعي أو دلالة شرعية، يستدل بها في أيامنا هذه على حق المرأة في تولي رئاسة الدولة، بل هي مصادمة للنص مخالفة له، فلا يستدل بها، ولا يعول عليها.
الثاني: إن أهل عصرها أنكروا على قومها، ولما بلغ الخليفة المستنصر بالله أبو جعفر وهو ببغداد أن أهل مصر قد سلطنوا عليهم امرأة، أرسل يقول لأمراء مصر:«أعلمونا إن كان لم يبق عندكم من الرجال من يصلح للسلطنة، فنحن نرسل لكم من يصلح لها، أما سمعتم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» وأنكر عليهم إنكارًا عظيمًا، وهددهم، وحضهم على الرجوع عن توليتها مصر، فلما بلغ شجرة الدر ذلك خلعت نفسها من السلطة برضاها من غير إكراه بعد أن حكمت بالديار المصرية نحو ثلاثة أشهر إلا أيامًا»
(1)
.
الثالث: نوقش بأن تغلب المرأة على السلطة لا يمنحها أهلية الإمامة ووجوب طاعتها فيما تأمر به أو تنهى عنه، وإنما يجب الخروج عليها حال الاستطاعة؛ لأنها مغتصبة لحق ليس لها، ومن غير اختصاصها ومهامها، وعلى الرعية إعادة الأمور إلى نصابها.
فلا يصح افتراض طاعتها لكي لا يتخذ هذا الافتراض ذريعة إلى ش رعية وجودها، وإنما ينفذ تصرفها العام فيما يوافق الحق لضرورة الرعايا ومصلحتهم، مع
(1)
ينظر: البداية والنهاية (13/ 190)، أعلام النساء لعمر كحالة (2/ 288).
وجوب القطع بأنه لا ولاية ولا إمامة لها، وشأنها في هذا شأن تصرفات البغاة وأئمة الجور حينما لا يتساوى دفع المفسدتين
(1)
.
وقد قرر فقهاء الشافعية أن إمامة المرأة على الولاية تنعقد في حال وحيدة وهي: «استيلاء شخص متغلب على الإمامة، ولو غير أهل لها كصبي أو امرأة بأن قهر الناس بشوكته وجنده»
(2)
.
ولكن إذا قويت شوكة المسلمين وجندهم توجّب عليهم خلعها، إذ لا يجوز بقاء حكمها، لزوال الضرورة الاستثنائية التي اقتضته، إذ يتوجب عليهم عندئذ الرجوع إلى حكم الأصل؛ لأن بقاء المرأة على ذلك المنصب في هذه الحالة فيه مفسدة غالبة لا يجوز الإبقاء عليها.
ولا يضير اتفاق الأمة وإجماع الأئمة الأقوال الشاذة؛ لأن مسائل الإجماع في الفقه الإسلامي لا تكاد تخلو من أقوال شاذة
(3)
تعارضها إلا أنها لا تقوم لها، ولا تضر الإجماع في شيء. ومن جهة أخرى لا تسوِّغ هذه الأقوال الشاذة لأحد -خاصة من أهل العلم- التقليد فيما تبين له خطؤه
(4)
، فليس كل من قال قولًا توبع عليه، إذ الحق هو المعتبر دون الرجال، ونبش كتب التراث على نوادر الفقهاء، وغرائب أقوالهم مسلك مذموم في الشريعة، يأباه طالب الحق المتجرد عن الهوى.
(1)
ينظر: الأحكام للعز بن عبد السلام (1/ 68).
(2)
فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب (2/ 155).
(3)
ألف الإمام محمد بن الحسن الجوهري كتابًا كاملًا في أقوال بعض العلماء التي خالفوا فيها الإجماع سماه «نوادر الفقهاء» ص (25 - 313).
(4)
ينظر: الاجتهاد للجويني (114)، معنى قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي للسبكي (71 - 73)، إعلام الموقعين لابن القيم (12/ 187 - 188).
يقول عبد الرحمن بن مهدي: «ليس بإمام في العلم من أخذ بالشاذ من العلم»
(1)
وقال إبراهيم بن أدهم: «من حمل شواذ العلماء حمل شرًا كثيرًا»
(2)
.
فالزم -وفقك الله- الجماعة، وانظر إلى صحة الدليل، ووجْهِ الدلالة منه على حسب قواعد اللغة، وفهم السلف الصالح، وفقنا الله وإياك للحق، وجعلنا من الدعاة إليه
(3)
.
(1)
عزاه له أبو حفص الواعظ في تاريخ أسماء الثقات (1/ 270) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 64).
(2)
عزاه له الهروي في ذم الكلام وأهله (4/ 104).
(3)
انظر: تفصيلًا أكثر في أسماء المبيحين لولايات المرأة ولاية عامة من المعاصرين وأدلتهم والرد عليها في: المرأة والحقوق السياسية في الإسلام لمجيد محمود أبو حجير، وأصل هذا الكتاب رسالة ماجستير في القضاء الشرعي من الجامعة الأردنية، ولاية المرأة في الفقه الإسلامي لمحمد أنور.
الفصل السابع المرأة ومجلس الشورى
مجلس الشورى هو المجلس الذي يضم أهل الحل والعقد في الدولة. وليتضح الفصل في حكم عضوية المرأة في مجلس الشورى.
سيتناول هذا الفصل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف «أهل الشورى» .
المبحث الثاني: وظائف مجلس الشورى.
المبحث الثالث: حكم عضوية المرأة في مجلس الشورى.
المبحث الأول: تعريف «أهل الشورى»
عرف الفقهاء القدامى أهل الشورى بأهم أهل الحل والعقد، وأوردوا تعاريف كثيرة منها:
1 -
نقل القرطبي في الجامع لأحكام القرآن
(1)
تعريف ابن خويز بنداد فقال: «واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح العباد وعمارتها» .
2 -
وعرّفهم الرملي في نهاية المحتاج
(2)
بقوله: «أهل الحل والعقد: من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم» وفسّر الشبر املسي في حاشيته على نهاية المحتاج «وجوه الناس» بقوله: «ووجوه الناس من عطف العام على الخاص، فإن وجوه الناس عظماؤهم بإمارة أو علم أو غيرهما» .
3 -
وعرفهم القلقشندي في صبح الأعشى
(3)
: «القضاة، والعلماء، وأهل الخير، والصلحاء، وأرباب الرأي، والنصحاء» .
وواضح من هذه التعاريف المتقدمة أن مجلس الشورى يضم أصحاب
(1)
(4/ 161).
(2)
(7/ 410).
(3)
(2/ 5).
الولايات العامة، وهم أصحاب السلطات الثلاثة: التنفيذية، والقضائية، والتشريعية، وهؤلاء هم أولو الأمر في الدولة.
4 -
وعرفهم الدكتور فتحي الدريني من المعاصرين بقوله: «أهل الاختيار أو أعضاء مجلس الشورى هم الذين يمثلون الأمة تمثيلًا كاملًا من الرؤساء ذوي النفوذ والمكانة فيها، والفقهاء المجتهدين، وأرباب الكفاءات العلمية المتخصصة، والخبرة المكتسبة في شتى الشؤون السياسية، والاقتصادية، والزراعية، والتجارية، والصناعية، والصحية، والتشريعية، ورؤساء المهن، إذ لكل من هذه الفئات مصالحه التي لا يحسن القيام عليها إلا من كان خبيرًا بها، وهذا من باب توسيد الأمر إلى أهله»
(1)
.
ومما سبق يتبين أن أهل الشورى هم أهل العلم والرأي من أبناء الأمة في كافة الشؤون الدنيوية والدينية، بحيث يكون رأيهم الاجتهادي عند الإجماع ملزمًا للأمة حاكمها ومحكومها، وعند الاختلاف خاضعًا للأغلبية، أو ترجيح الحاكم.
(1)
خصائص التشريع الإسلامي (485).
المبحث الثاني: وظائف مجلس الشورى
(1)
أولًا: الوظيفة التشريعية: يقوم مجلس الشورى الإسلامي بسن القوانين والأنظمة التي تحتاجها الدولة في جميع مرافقها بما يوافق روح الشريعة الإسلامية، ولا تصدم بنص وارد في القرآن وصحيح السنة
(2)
.
وهذه الوظيفة التشريعية التي يقوم بها مجلس الشورى الإسلامي مبنية على أن المجلس -وأعضاءه من أولي الأمر- مؤتمن على إقامة الحكم على أساس ش رعي، مستمد من القرآن والسنة، وذلك هو المقصود الأول من انتخاب الأمة له.
ثانيًا: الوظيفة المالية: وما تأذن للسلطة التنفيذية أن تقوم بجباية الإيرادات وصرف المصروفات المبينة في القانون، وهي مقررة في النظامين النيابي والرئاسي.
(1)
نقلًا عن د. قحطان الدوري من كتابه (الشورى بين النظرية والتطبيق) ص (213 - 217) حيث قارن بين وظائف مجلس الشورى الإسلامي والبرلمان في الدستور الوضعي.
وانظر: نظام الحكم في الإسلام لـ د. محمد فاروق (372)، الإسلام وأوضاعنا السياسية لعبد القادر عودة (232 - 235).
(2)
يمر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه بالمراحل الآتية:
1 -
اقتراح القوانين. 2 - مناقشة القانون والتصويت عليه. 3 - التصديق. 4 - الإصدار. راجع بتفصيل الشورى بين النظرية والتطبيق للدكتور. قحطان الدوري (213 - 214).
وهذه الوظيفة تبين في الإسلام على أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى سلطة الأمة التي منحت هذا المجلس التكلم باسمها، والحفاظ على مصالحها.
ثالثًا: الوظيفة السياسية: للمجلس الإشراف على تنفيذ القوانين في كل مرافق الدولة، ومراقبة ذلك مراقبة دقيقة، بالسؤال، ومناقشة موضوع عام، وإجراء تحقيق، والاستجواب، أضف إلى مسؤولية الرئيس الجنائية والسياسية، وهذه الوظائف أمر مقرر في الإسلام بناء على: أن الأمة صاحبة الحق في تنصيب الإمام ومراقبته وعزله، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو حق لأي فرد، فكيف بمن يمثل الأمة جميعًا في مجلس.
رابعًا: انتخاب رئيس الدولة: إن انتخاب الرئيس بالطريقة المباشرة أو غير المباشرة جائز إلا أن المرجّح الطريقة غير المباشرة، وهي أن مجلس الشورى هو الذي يتولى أمر اختيار الإمام ومبايعته البيعة الخاصة، وبعدها تتم البيعة العامّة من الناخبين
(1)
.
(1)
وهذا ما قرره جمهور الفقهاء وعلماء الإسلام، قال البغدادي في أصول الدين (279):«قال الجمهور الأعظم: إن طريق ثبوتها الاختيار من الأمة باجتهاد أهل الاجتهاد منهم، واختيارهم من يصلح لها» .
انظر بالتفصيل: النظريات الإسلامية لـ د. عبد الكريم زيدان (28 - 30)، النظريات الإسلامية لـ د. محمد الريس (171 - 190).
المبحث الثالث: حكم عضوية المرأة في مجلس الشورى
اختلف العلماء المعاصرون في حكم كون المرأة عضوا في مجلس الشورى (البرلمان) على رأيين:
الرأي الأول:
ذهب بعض المعاصرين إلى جواز أن تُنْتَخب المرأة لعضوية مجلس الشورى
(1)
.
1 -
2 - 3 - 4 من القرآن الكريم:
واستدلوا بما يأتي:
1 -
قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ
(1)
منهم د. عبد الحكيم عبد الله في كتابه الحريات العامة (301)، د. منير البياتي في كتابه الدولة القانونية (376)، د. حمد الكبيسي في الشورى في الإسلام (3/ 1091)، الشيخ محمد شلتوت في كتابه من هدي القرآن (292)، د. مصطفى السباعي في المرأة بين الفقه والقانون (155). ود. عبد الحميد متولي في كتابه مبادئ نظام الحكم في الإسلام (245)، والشيخ يوسف القرضاوي في فتاوى معاصرة (2/ 382).
وانظر: مزيدَ سردٍ لأسماء المعاصرين المجيزين في «المرأة والحقوق السياسية في الإسلام» ، لمجيد محمود أبو حجير (438، 457).
لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
.
فدلت الآية على مشروعية مبايعة النساء كالرجال، وفي تفسير هذه الآية يقول الشيخ محمد شلتوت:«وقد كانت هذه المبايعة من فروع استقلال النساء في المسؤولية، بايعهن على خصوص وعموم» .
وأجاب المانعون عن الاستدلال بالآية بأنه ليس فيها حجة تؤهل الإناث العضوية أهل الاختيار والشورى؛ لأنها بيعة إيمانية أخلاقية تتعهد فيها المرأة بالالتزامات الإيمانية، وليست بيعة لترشيح النبي صلى الله عليه وسلم للقيادة السياسية، فتأهيله عليه السلام للقيادة لا يفتقر إلى شورى أو موافقة من الأمة، وإنما يستمد سلطته من النبوة، في حين كانت بيعة الرجال سياسية يلتزمون فيها الجهاد إضافة إلى التزامهم الإيماني والأخلاقي
(2)
.
وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجب على الإمام مبايعة النساء بهذه الطريقة؛ ولهذا لم تكن بيعة النساء الإيمانية ضمن اهتمامات الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم رغم حرصهم الشديد على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت أن امرأة جاءت تبايع خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هن كسائر عموم الأمة تبع لأهل الحل والعقد، يلزمهم الانقياد لطاعته في المعروف
(3)
.
قال الشيخ محمد أبو زهرة: «ما نوع هذه المبايعة؟ أهي مبايعة على الولاية؟ كلا، كان يبايعهن على ألا يشركن بالله، ولا يزنين، ولا يأتين بفاحشة فهي له معاهدة
(1)
الممتحنة: (12).
(2)
انظر: مزيد تفصيل في: حق المرأة في البيعة ص (405) فما بعدها.
(3)
انظر المسألة بالتفصيل ص (421) فما بعدها.
على القيم الدينية، وليست معاهدة على ولاية بأية صورة من الصور»
(1)
.
(2)
.
2 -
(3)
.
ففي هذه الآية دلالة على مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للأمور المهمة العامة
(4)
.
وأجيب عن الاستدلال بأن الآية ليس فيها دلالة على مشاركة النساء للرجال في شؤون الحكم والسياسة، إذ أنها قد جاءت في معرض التوحيد وأنه ليس في الوجود معبود إلا الله تعالى، ونفي زعم النصارى ببنوة سيدنا المسيح عليه السلام لله تعالى، وألوهيته، فالاستدلال بها على المسألة استدلال في غير محله.
3 -
قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
(1)
نقلًا عن «المرأة والحقوق السياسية في الإسلام» (312).
(2)
المصدر السابق (460).
(3)
آل عمران: (61).
(4)
الشورى في الإسلام، للدكتور محمد الكبيسي (3/ 1088).
وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
(1)
.
ووجه الدلالة من الآية: أنها محكمة تعني أن الرجال والنساء شركاء في سياسة المجتمع، وأن السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية ليست إلا أوامر بالمعروف ونهي عن المنكر، أحيانًا بالتشريع، والاجتهاد، ومعرفة الأحكام، وأخرى بالفصل في الخصومات، وثالثة بالتنفيذ والإلزام
(2)
.
وأجاب الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد عن هذا الاستدلال بقوله: «إن الاستدلال بالآية الكريمة استدلال مردود، فليس فيها ما يشير إلى مباشرة المرأة للحقوق السياسية، ولم يذهب أحد من المفسرين القدامى
(3)
إلى القول بذلك»
(4)
.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: «وإتيان هذا الدليل في تولية المرأة للولايات العامة هو من باب إدخال الخلاف في الدليل، وهو نوع من المصادرة على الاستدلال»
(5)
.
إن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة إيمانية، والرجل والمرأة فيها سواء، ليست ولاية سياسية ورد منع المرأة عنها، وقد قدمتُ في هذا البحث إثبات حق المرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(6)
.
(1)
التوبة: (71).
(2)
ينظر: مبدأ المساواة لفؤاد أحمد (196)، الحقوق السياسية للمرأة لمحمد جعفر (59)، الحقوق السياسية للمرأة لعبد الحميد الشواري (87).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (10/ 123)، تفسير القرطبي (4/ 31)، تفسير ابن كثير (1/ 102)، فتح القدير (2/ 381).
(4)
مبدأ المساواة في الإسلام (229).
(5)
نقلًا عن: المرأة والحقوق السياسية في الإسلام لمجيد أبو حجير (281).
(6)
ص (443).
4 -
(1)
.
ووجه الدلالة منها: أنها قد تضمنت اعترافًا بأن للمرأة أن تجادل في شؤونها، وتحاور في حقوقها، خاصة فيما يتعلق بها
(2)
.
وأجيب عن الاستدلال: بأنه لا يلزم من كون المرأة مجادلة ومدافعة عن حقوقها أن يكون لها حق تولي الولايات العامة، ومنها عضوية مجلس الشورى، فالآية جاءت في معرض بيان حكم عام نزل على سبب خاص (وهو الظهار) وغاية ما يستفاد من الآية إثبات حق المرأة في إبداء رأيها في المسائل والشؤون التي تمس حياتها الاجتماعية، والاقتصادية وغيرها، وهي أبعد ما تكون عن موضوع المرأة والسياسة
(3)
.
5 -
6 من السنة:
وقد استدلوا بآيات أخر أعرضت عن إيرادها لضعف دلالتها على المطلوب
(4)
.
5 -
واستدلوا بقبول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمان أم هانئ وقال لها: «قد أجرنا من
(1)
المجادلة: (1).
(2)
ينظر: مبدأ المساواة د. فؤاد أحمد (198)، الإسلام عقيدة وشريعة لمحمد شلتوت (227)، المرأة بين القرآن والسنة لمحمد عزة دروزة (38).
(3)
ينظر: المرأة وحقوقها السياسية لرعد كامل (26)، المرأة والحقوق السياسية في الإسلام لمجيد أبو حجير (463).
(4)
انظر: المرأة والحقوق السياسية في الإسلام لمجيد أبو حجير (464 - 467)، المرأة وحقوقها السياسية لرعد كامل (26 - 32).
أجرت يا أم هاني»
(1)
وقبول إجارة زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العاص بن الربيع
(2)
.
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ للمرأة الحقوق السياسية، بأن جعل لها الأمان في السلم والحرب.
وأجاب عن هذين الاستدلالين: الدكتور عبد الغني محمود بقوله: «الاستدلال بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لابنته زينب وأم هانئ لا يدل على جواز إسناد الولايات العامة للمرأة؛ لأن أمان زينب كان لزوجها أبي العاص ب ن الربيع، وأمان أم هانئ كان لرجل أو رجلين من أحمائها، فهذه حوادث فردية، وحرصًا على الروابط العائلية لم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم تمزيقها؛ لعل الله يهدي من استجار بهما إلى الإسلام، خاصة أن الأمان شرع لسماع كلام الله لعل ذلك يكون سبيل هداية للكافرين، قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}
(3)
»
(4)
.
والإجارة مقصورة على إعطاء الأمان فحسب، ولا يقاس عليها تحويز عضوية المرأة لمجلس الشورى لورود المنع من ذلك عند جمهور الفقهاء والعلماء كما سيأتي
(5)
أولًا، ولاختلاف العلة بين الحكمين ثانيًا، إذ العلة في حكم إعطاء الأمان
(1)
تقدم تخريجه ص (460).
(2)
تقدم تخريجه ص (461 - 463).
(3)
التوبة: (6).
(4)
حقوق المرأة في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية (63).
(5)
ص (559).
من المسلم أو المسلمة هي الإسلام
(1)
، وأما العلة في منع المرأة من الولايات العامة هي الأنوثة فيكون قياسًا مع الفارق، وهو فاسد.
6 -
ما أخرجه البخاري في صحيحه
(2)
من حديث المسور بن مخرمة ومروان في قصة صلح الحديبية، وفيه: «
…
فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«قوموا فانحروا، ثم احلقوا» قال: فو الله ما قام منهم رجل حين قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: «يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم، حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَهُ، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غما
…
».
ووجه الدلالة منه: مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأم سلمة، يدل على حق المرأة في الشورى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشاور النساء، ويأخذ برأيهن، فيجوز للمرأة أن تكون عضوًا في مجلس الشورى؛ لتعطي رأيها كما فعلت أم سلمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
ويجاب عن هذا الاستدلال: بأن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها لا يمكن أن يستفاد منها أن المرأة يجوز أن تكون عضوًا في مجلس الشورى،
(1)
دليلة قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} التوبة: 6.
(2)
كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط (2/ 974)3581.
(3)
ينظر: قواعد نظام الحكم في الإسلام لمحمود الخالدي (185)، الإسلام وحقوق المرأة السياسية لرعد الحيالي (28).
تعطي رأيها في المسائل السياسية والاقتصادية، وغيرها من الأمور التي تهم الأمة، فالمرأة يجوز أن تشاور ولكن في مجال اختصاصها، أو فيما يتعلق بشؤون النساء، أو في الأمور الخاصة عدا ما يتعلق بالأمور والولايات العامة، ويشترط ألا يؤدي ذلك إلى خلوة محرمة أو اختلاط.
وما فعلته أم سلمة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه أنها كانت في مجلس شورى أبدت فيه رأيها الحكيم، إنما زوج شكى لزوجه ما لقيه، يدل على ذلك لفظ الحديث، فأشارت عليه بالرأي السديد، ولا يمانع أحد من أن يشاور الحاكم زوجته فيما يلقاه إن كانت ذات رأي سديد كأم سلمة، قال السهيلي في الروض الأنف:«وفيه أيضًا إباحة مشاورة النساء، وذلك أن النهي عن مشاورتهن إنما هو عندهم في أمر الولاية خاصة»
(1)
.
والرسول صلى الله عليه وسلم استشار بريرة رضي الله عنها في حادثة الإفك عن سيرة أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها الطاهرة المطهرة
(2)
.
• وقد أجاب الدكتور محمد أبو حجير عن هذا الاستدلال بقوله: «إن مقام استشارته صلى الله عليه وسلم أم سلمة في أمر المسلمين كان بصفته إمامًا حاكمًا للمسلمين، وليس رسولًا مبلغًا شرع الله؛ لأنه لو كان في هذه المسألة رسولًا مبلغًا لانصاع المسلمون ابتداءً، وهو ما لم يكن، فيكون الاستدلال بهذه الحادثة مردودًا؛ لأنها ليست تشريعًا صادرًا من الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب فيه على الحكام الاستعانة بآراء النساء السياسية، أو تقليدهن واليات على أمور المسلمين من نحو توليتهن على الوزارات التنفيذية أو
(1)
الروض الأنف (6/ 492).
(2)
صحيح البخاري كتاب التفسير، باب:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} النور: 12 (4/ 1774)4473.
غيرها من السلطات العامة»
(1)
.
(2)
.
7 -
دليل الإجماع:
قال الأستاذ محمد الحجوي: «ووقع الإجماع بعد النبي صلى الله عليه وسلم على أن المرأة لا تتولى شأن الخلافة العظمى، فكان إجماعًا ضمنيًّا -أي: سكوتيًّا
(3)
- على أن تكون المرأة تتولى ما عدا ذلك»
(4)
.
وأجاب عنه د. مجيد أبو حجير
(5)
بقوله: «إن مثل هذا الإجماع الضمني
(1)
المرأة والحقوق السياسية في الإسلام (315).
(2)
جوانب التعارض بين عنصر الأنوثة في المرأة والعمل السياسي من المنظور التربوي الإسلامي (63 - 64).
(3)
الإجماع السكوتي هو: «أن يبدي المجتهد رأيه في مسألة، ويعرف هذا الرأي ويشتهر، ويبلغ الآخرين فيسكتوا ولا ينكروه صراحة، ولا يوافقوا عليه صراحة مع عدم المانع من إبداء الرأي بأن تمضي مدة كافية للنظر في المسألة، ولا يوجد ما يحمل المجتهد على السكوت من خوف أحد أو هيبة له أو غير ذلك من الموانع» الوجيز في أصول الفقه لـ د. عبد الكريم زيدان (184).
(4)
المرأة بين الشرع والقانون (75).
(5)
المرأة والحقوق السياسية في الإسلام لمجيد أبو حجير (422).
السكوتي الذي يزعمه الأستاذ الحجوي لم يرد، ولو على لسان فقيه واحد من الفقهاء المجتهدين، ثم سكت عن رأيه بقية المجتهدين بلا إنكار أو موافقة صريحة في كل الأعصار والأمصار؛ ليصح جواز تولي المرأة ما دون رئاسة الدولة من الولايات العامة، بل قام الإجماع التام والصريح قولًا وعملًا
(1)
على منع المرأة من كل الولايات العامة عند جمهور الفقهاء والعلماء، وعلة التحريم في سند هذين الإجماعين -العلمي والفقهي- واحدة وهي الأنوثة ولذلك لم تول ولو امرأة واحدة في تاريخ الدولة الإسلامية وعلى مرِّ عصورها على أية ولاية عامة مما يدحض قول الحجوي المتقدم».
8 -
دليل القياس:
قال المجيزون لنيابة المرأة في مجلس الشورى: كون المرأة منتخبة لا يعدو أن تكون وكيلة عن الأشخاص الذين تمثلهم، ووكالة المرأة جائزة كما جاز نصبها وصية، وناظرة وقف.
ومن يستعرض أقوال الفقهاء في شروط أهل الشورى أو أهل الحل والعقد يجد أنها تدور على العدالة والعلم والرأي، ولم نجد أحدًا منهم يجعل الذكورة شرطًا في هذا الباب، بل شرطهم صفة الشهود
(2)
.
وأجاب الدكتور قحطان الدوري على دليل القياس بقوله: «إذا قلنا باستفادة شروط المُنْتَخب من شروط الوكيل فهذا لا يتم لما يأتي:
1 -
لأنه يصطدم بالآية الكريمة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} التي تشير إلى أن
(1)
تقدم ص (527).
(2)
ينظر: الشورى في الإسلام (3/ 1087)، المرأة بين الشرع والقانون (76 - 77).
الشورى يجب أن تكون بين المسلمين، فلا يجوز أن يكون المنتخب من غير المسلمين، وهذا بخلاف عقد الوكالة الذي يجوز فيه أن يكون الوكيل غير مسلم.
2 -
لأن الفقهاء وضعوا شروطًا لأهل الشورى أهل الحل والعقد وهي: الإسلام، والعدالة، والعلم، والرأي، والحكمة، والذكورة، والبلوغ، وعدم الحجر بسفه
(1)
، وهذه لا يشترط الفقهاء وجودها في الوكيل، الذي أجازوا أن يكون صبيًا مميزًا أو عبدًا أو كافرًا أو امرأة»
(2)
.
- ثم إن كون المرأة وصية، ووكيلة، وناظرة وقف لا يعدو كونه ولاية خاصة، فلا تمنع الأنوثة من ممارستها كالإفتاء، بخلاف عضوية مجلس الشورى فإنها ولاية عامة.
9 -
دليل المعقول:
واستدل المجيزون بأن اشتراك المرأة في المجالس النيابية مما يتفق مع أهليتها، وحقوقها السياسية، والاجتماعية، واستقلال شخصيتها، وكل ذلك مما قرره لها القرآن نصًا صريحًا وضمنًا.
وإلى هذا فإنا نصف المجتمع وكل ما يتقرر في هذه المجالس يتناولها كما يتناول الرجل على السواء، فمن حقها أن يكون لها رأي فيه مثله، ولا سيما أن المرشحين للمجالس أفراد قليلون جدًّا، وليس في هذا ما يمنع جمهور النساء ولا جمهور الرجال عن أعمالهم المعتادة، وكثير من النساء يشتغلن خارج بيوتهن في أشغال متنوعة من غير إنكار عليهن كالتعليم، والتمريض، والآلات الكاتبة
…
(1)
انظر تفصيل هذه الشروط في المرأة والحقوق السياسية في الإسلام لمجيد أبو حجير (422 - 430).
(2)
الشورى بين النظرية والتطبيق (107 - 108).
وهذه الأعمال تشغل عددًا منهن أكثر بكثير مما يمكن أن تشغله النيابة التي لن تتاح إلا لأفراد قلائل جدًّا منهن، فضلًا عن أنها تشغل من أوقاتهن أقل بكثير مما تشغله تلك الأشغال
(1)
.
ويجاب عن هذه المناقشة بقول لجنة فتوى كبار علماء الأزهر: «إن الشريعة الإسلامية تمنع المرأة كما جاء في الحديث الشريف «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»
(2)
أن تلي شيئًا من هذه الولايات، وفي مقدمتها ولاية سن القوانين التي هي مهمة أعضاء البرلمان، هذا، وليس من الولايات العامة التي تمنع المرأة ما يعهد به إلى بعض النساء من الوظائف، والأعمال كالتدريس للبنات، وعمل الطبيبة والممرضة في علاج المرضى من النساء وتمريضهن، فإن هذه الأعمال وما شابهها ليس فيها معنى الولاية العامة الذي هو سلطان الحكم، وقوة الإلزام»
(3)
.
10 -
دليل التاريخ الإسلامي:
استدل المجيزون لعضوية المرأة في مجلس الشورى بالسوابق التاريخية التالية:
1 -
ما أخرجه البخاري
(4)
من حديث عائشة أن فاطمة رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة، وفَدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
المرأة في القرآن والسنة لمحمد دروزة (51).
(2)
تقدم تحريجه، والكلام على دلالته ص (168، 452، 520).
(3)
نقلًا عن الحركات النسائية لمحمد خميس (115).
(4)
كتاب المغازي، باب: غزوى خيبر (4/ 1549)3998.
ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئًا، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته، فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها عليّ ليلًا، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا
…
» الحديث.
ووجه الدلالة أن فاطمة رضي الله عنها لم ترض عن سياسة أبي بكر، وكف علي عن مبايعة أبي بكر رضي الله عنهما.
وأجيب عن هذا الاستدلال بأنه لا يستدل من الحادثة بأي دلالة شرعية على جواز نيابة المرأة في البرلمان؛ إذ لم تكن فاطمة رضي الله عنه عضوًا في مجلس أهل الحل والعقد، لا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن أبي بكر، ولا منعت الناس من مبايعة أبي بكر، وما وقع بينها وبين أبي بكر كان بسبب منعها من الإرث، وهو سبب شخصي، اعتمد فيه أبو بكر على النص
(1)
.
ثم إن الموقف لم يكن قاصرًا على فاطمة رضي الله عنها وحدها، فقد أثاره أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن فردّت عليهن عائشة بالخير، ومنعتهن من المطالبة، أخرج مسلم في صحيحه
(2)
من حديث عائشة أنها قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر فيسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلم، قالت
(1)
انظر تفصيل الحادثة والإجابة عن موقف فاطمة رضي الله عنه في فتح الباري (6/ 202 - 208).
(2)
كتاب الجهاد والسير، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركناه فهو صدقة» (3/ 1379)1758.
عائشة لهن: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» ؟!.
يقول ابن كثير في تلك الحادثة:
1 -
(1)
.
2 -
استدلوا بفعل عائشة رضي الله عنها يوم الجمل.
وقد مضى إيراد الحادثة والإجابة عن الاستدلال عنها بما يغني عن الإعادة هنا
(2)
.
3 -
استدلوا بتولية الشفاء بنت عبد الله الحسبة في السوق زمن عمر. وقد مضى إيراد الأثر، والإجابة عنه
(3)
.
4 -
ما أثر من استشارة عبد الرحمن بن عوف النساء في أمر انتخاب الخليفة والبيعة له بعد وفاة عمر رضي الله عنه.
يقول شيخ الإسلام: «بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيّام، وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان، وأنه شاور حتى العذارى في خدورهن»
(4)
.
وقال ابن كثير في استشارة عبد الرحمن القوم في تولية عثمان رضي الله عنهما: «حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في
(1)
البداية والنهاية (6/ 302).
(2)
ص (537) فما بعدها.
(3)
ص (453).
(4)
منهاج السنة النبوية (6/ 350).
المكاتب»
(1)
ولم أقف على سند رواية عبد الرحمن رضي الله عنه لنقدها من حيث الصحة والضعف.
وعلى فرض صحته يقال: إن النسوة اللواتي استشارهن سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في أمر انتخاب الخليفة الثالث أدلين برأيهن مع الأمة فيمن يصلح للخلافة، ولم يشاركن مع أهل الاختيار والعقد للإمام في البيعة الخاصة، فلا يلزم من هذا أن تكون المرأة عضو مجلس شورى.
جاء عند ابن كثير أن عبد الرحمن بن عوف استشار النساء في خدورهن، والولدان في المكاتب، فهل يعني هذا أن يطالب الصبيان بحقوقهم في عضوية مجلس الشورى؟!.
الرأي الثاني:
ذهبت لجنة فتوى كبار علماء الأزهر، ومجموعة من المعاصرين إلى حرمة عضوية المرأة في مجلس الشورى
(2)
.
1 -
2 - 3 من القرآن الكريم:
واستدلوا بما يأتي:
1 -
(3)
.
(1)
البداية والنهاية (7/ 146).
(2)
ينظر: الحركات النسائية لمحمد خميس (107 - 123) ونقل فيها فتوى علماء الأزهر، حقوق المرأة المسلمة لنديم الملّاح (101)، المرأة في ظل الإسلام لعبد الأمير الجمري (216)، نظرية الإسلام للمودودي (297)، وانظر مزيد سردِ لأسماء المانعين عند مجيد أبو حجير في المرأة والحقوق السياسية في الإسلام (458).
(3)
النساء: (34).
ووجه الدلالة من الآية: أن المرأة لا تكون من أهل الشورى؛ لأن الرجل أكفأ من النساء، فكانت القوامة له؛ فلا تقدم المرأة على الرجال ولا تؤمَّر. وقد يقول قائل: إن الآية متعلقة بالمسؤولية في الأسرة، وليست عامة، فالحجة تبقى قائمة كذلك، فإن كانت المرأة عاجزة عن إدارة أسرة تتكون من مجموعة أفراد لا تعدو أصابع اليدين، فمن باب أولى أن تكون أكثر عجزًا في إدارة شؤون الناس
(1)
.
وقد مضى
(2)
بيان نقاش أوسع حول هذه الآية فيما مر.
2 -
قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} .
فالقرآن كلّف المرأة بالبقاء في بيتها، ولا تخرج منه إلا لحاجة، وهي مأمورة بالاحتجاب، وعدم الاختلاط بالرجال، فيجب أن تبتعد عن زحمة الحياة السياسية، وهذه الآيات ليست مقصورة على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لكان لسائر المسلمات أن يتبرجن
(3)
.
3 -
(4)
.
يقول ابن عطيّة: «لا تتمنوا ما حدّد الله في تفضيله؛ فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به، فهي نصيبه، قد جعل الجهاد، والإنفاق، وسعي المعيشة،
(1)
ينظر: النظام السياسي لـ د. محمد أبو فارس (120)، المرأة والحقوق السياسية في الإسلام لمجيد أبوحجير (480).
(2)
ص (515).
(3)
مضى عرض الدليل بأوسع من هذا ص (519).
(4)
النساء: (32).
وحمل الكلف كالأحكام، والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال، وجعل الحمل ومشقته، وحسن التبعل، وحفظ غيب الزوج، وخدمة البيوت للنساء»
(1)
.
ونوقش وجه الاستدلال: بأن سبب نزول الآية ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره
(2)
، وسعيد بن منصور في تفسيره
(3)
، وأحمد في المسند
(4)
، والترمذي في السنن
(5)
، والطبري في التفسير
(6)
، وأبو يعلي في المسند
(7)
، والطبراني في الكبير
(8)
، والحاكم في المستدرك
(9)
من طرق عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال، ولا نغزو، ولنا نصف الميراث؟ فأنزل الله:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} » واللفظ لأحمد.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، إن كان سمع مجاهد من أم سلمة، ووافقه الذهبي.
وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن الترمذي
(10)
.
(1)
المحرر الوجيز (2/ 45).
(2)
(1/ 156).
(3)
(4)
(44/ 320)26736.
(5)
(5/ 327)3022.
(6)
(5/ 47).
(7)
(12/ 393)6959.
(8)
(23/ 280)609.
(9)
(2/ 335)3195.
(10)
ويجاب بما تقدم
(1)
أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يؤكد هذا ما ثبت من أقوال المفسرين
(2)
من نهي المرأة عن تمني الخلافة، وما دونها من الولايات العامة، فيكون قصد الشارع أعم من خصوص سبب نزول الآية، فيحمل حكم الآية على عمومها، وإن كانت قد نزلت على سبب خاص.
4 -
5 من السنة:
4 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»
(3)
.
ووجه الدلالة من الحديث الاخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الفلاح لقوم يسندون إلى امرأة منهم أمرًا من أمورهم كعضوية مجلس الشورى، والمسلمون مأمورون باكتساب ما يكون سببًا للفلاح، ومنهيّون عن كل عمل يجلب الخسران المبين. وقد سبقت الإشارة إلى أن الحديث معلل عند العلماء القدامى والمعاصرين بالأنوثة، والتي كان لأجلها منعها من تولي الولايات العامة، ومنها النيابة في مجلس الشورى (أهل الحل والعقد)
(4)
.
5 -
ما أخرجه البخاري في صحيحه
(5)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله» .
(1)
ص (405).
(2)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (10/ 84)، تفسير ابن كثير (1/ 499)، زاد المسير لأبي الفرج بن الجوزي (2/ 116).
(3)
تقدم تخريجه ص (186، 452، 520) وقد تفدم تفصيل وجه الدلالة منه.
(4)
تقدم ص (405) وقد أورد د. مجيد أبو حجير أدلة أخرى أعرض عن ذكرها؛ لضعف دلالتها. فراجعه إن رمت المزيد (483 - 488).
(5)
كتاب الرقاق، باب: رفع الأمانة (5/ 2382)6131.
ووجه الدلالة: أن المرأة ليست أهلًا للولايات العامة، ومنها العضوية في مجلس الشورى؛ لنقص أهلية قوامتها السياسية بأنوثتها؛ فلا يوسّد إليها عضوية مجلس الشورى، مع وجود من هو أكمل منها أهلية سياسية من الرجال الأكفاء
(1)
.
6 -
دليل الواقع الشرعي والتاريخ:
قالت لجنة كبار علماء فتوى الأزهر: «هذه قصة سقيفة بني ساعدة
(2)
في اختيار الخليفة الأول بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، قد بلغ فيها الخلاف أشده، ثم استقر الأمر لأبي بكر، وبويع بعد ذلك البيعة العامة في المسجد، ولم تشترك امرأة مع الرجال في مداولة الرأي في السقيفة، ولم تدع لذلك، كما أنها لم تدع، ولم تشترك في تلك البيعة العامة»
(3)
.
وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة
(4)
عهد إلى ستة من خيار الصحابة بينهم ابنه عبد الله أن يختاروا من بينهم خليفة على أن يكون بينهم ابنه عبد الله برأيه فقط، ولا يختار خليفة، ولم يتخذ عمر من النساء أحدًا، رغم وجود جمهور عظيم من فضليات النساء وعالمات الأمة.
7 -
دليل الإجماع:
قالت لجنة فتوى كبار علماء الأزهر: «الولاية العامة ومن أهمها مهمة عضو البرلمان، وهي ولاية سن القوانين والهيمنة على تنفيذها، فقد قصرتها الشريعة
(1)
ينظر: المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام لمجيد أبو حجير (501).
(2)
ينظر: تاريخ الطبري (2/ 233)، البداية والنهاية (5/ 246).
(3)
نقلًا عن الحركات النسائية لمحمد خميس (109).
(4)
ينظر: تاريخ الطبري (3/ 201)، البداية والنهاية (5/ 342).
الإسلامية على الرجال إذا ما توافرت فيهم شروط معينة.
وقد جرى التطبيق العملي على هذا من فجر الإسلام إلى الآن؛ فإنه لم يثبت أن شيئًا من هذه الولايات قد أسند إلى المرأة لا مستقلة ولا مع غيرها من الرجال، وقد كان في نساء الصدر الأول مثقفات فضليات، وفيهن من تفضل كثيرًا من الرجال كأمهات المؤمنين.
ومع أن الدواعي الاشتراك النساء مع الرجال في الشؤون العامة كانت متوافرة، لم تطلب المرأة أن تشترك في شيء من تلك الولايات، ولم يطلب منها الاشتراك، ولو كان لذلك مسوّغ من كتاب أو سنة لما أهملت مراعاته من جانب الرجال والنساء باطراد»
(1)
.
8 -
دليل القياس:
تقول لجنة فتوى كبار علماء الأزهر: «إذا حكمنا القياس وهو إلحاق النظير بالنظير لاشتراكهما في علة الحكم، لكان الأوجب هو حرمان المرأة من الولاية والوظائف العامة؛ لأن كثيرًا من الأحكام في الشريعة الإسلامية تميز بين الرجل والمرأة، وعلتها هي ضعف الأنوثة؛ لأن مهمة الأمومة حضانة النشأ وتربيته، وهذه قد جعلتها ذات تأثير خاص بدواعي العاطفة، وهي مع ذلك تعرض لها عوارض طبيعية، تتكرر عليها في الأشهر والأعوام من شأنها أن تضعف قوقا المعنوية، وتوهن عزيمتها في تكوين الرأي والتمسك به والقدرة على الكفاح، لذلك جعلت القوامة على النساء للرجال، وجعل حق الطلاق للرجل دونها، ومنعتها الشريعة من السفر من غير محرم أو زوج أو رفقة مأمونة ولو كان سفرها لأداء
(1)
نقلًا عن الحركات النسائية لمحمد خميس (108).
فريضة الحج.
فإذا كان الفارق الطبيعي بينهما قد أدى في نظر الإسلام إلى التفرقة بينهما في هذه الأحكام التي لا تتعلق بالشؤون العامة للأمة، فإن التفرقة بمقتضاه في الولايات العامة تكون من باب أولى أحق وأوجب؛ لأن كثيرًا من الأحكام تعفي المرأة من معالجة ما هو دون السياسة والحكم من أمور وواجبات خارج البيت»
(1)
.
يقول د. مصطفى السباعي: «ثم ماذا نفعل بالأمومة؟ هل نحرم النائبة أن تكون أمًّا؟ وذلك ظلم لفطرتها وغريزتها، وظلم للمجتمع نفسه، أم نسمح لها بذلك على أن تنقطع عن عملها النيابي مدة ثلاثة أشهر كما تفعل المدرسات والموظفات؟ وهل نسمح لها أن تقطع أيام الوحم، وقد تمتد شهرين فأكثر، وطبيعة المرأة في تلك الأيام غير هادئة ولا هانئة، بل تكون عصبية المزاج، تكره كل شيء؟ فماذا بقي لها بعد ذلك من أيام العمل الخالصة، وقد تكون الدورة البرلمانية خلال هذه الأشهر التي تنقطع فيها عن العمل الخارجي
…
ويقول: أنا لا أفهم ما هي الفائدة التي تحنيها الأمة من نجاح بضعة مرشحات في النيابة: أيفعلن ما لا يستطيع الرجال أن يفعلوه؟ أيحللن من المشاكل ما يعجز الرجال عن حلها؟ أم لأجل أن يطالبن بحقوقهن؟ إن كانت حقوقًا كفلها الإسلام فكل رجل مطالب بالدفاع عنها، وإن كانت حقوقًا لا يقرها الإسلام فلن تستجيب الأمة لهن، وهي تحترم دينها وعقائدها.
يقولون: إن الفائدة من ذلك إثبات كرامة المرأة، وشعور المرأة بإنسانيتها! ونحن نسأل: هل إذا منعن من ذلك كان دليلًا على ألا كرامة لهن ولا إنسانية؟
(1)
نقلًا عن الحركات النسائية لـ د. محمد خميس (108).
أليست قوانيننا تمنع الموظف من الاشتغال بالتجارة؟ فهل يعني ذلك أنه فاقد الأهلية أو ناقصها؟!
إن مصلحة الأمة قد تقتضي تخصيص فئات منها بعمل لا تزاول غيره، وليس في ذلك غض من كرامتها، أو انتقاص من حقوقها، فلماذا لا يكون عدم السماح للمرأة بالاشتغال بالسياسة هو من قبيل المصالح التي تقتضيها س عادة الأمة، كما تقتضي تفرغ الجندي لحراسة الوطن دون اشتغاله بالسياسية!! وهل تفرغ الأم لواجب الأمومة أقل خطرًا في المجتمع من تفرغ الجندي للحراسة، وتفرغ الموظف للإدارة دون التجارة»
(1)
.
الترجيح:
والذي يترجح بعد عرض الآراء والأدلة ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني المانع للمرأة من المشاركة في عضوية مجلس الشورى، وذلك لقوة أدلتهم الشرعية الصريحة بالمنع.
ومن هذا المنطلق يخرج العوام من الرجال، وجملة النساء والصبيان عن عضوية أهل الحل والعقد، لتبقى الشورى خالصة للخاصة من أفذاذ الرجال، ممن يستطيع أن يقف للحق في وجه الباطل، وينافح عن الأمة، ويتحمل واجب المطالبة السياسية بالالتزام الشرعي، وتنفيذ القرارات الحكيمة؛ إذ ليست المسألة مجرد صوت يدلى به، أو رأي يقوله دون مسؤولية يتحملها، وعبء ينوء به فإن الغُنْم بالغرم، وعلى هذا جرى عمل الأمة منذ فجر التاريخ الإسلامي يقصرون الشورى في الخلَّص من الرجال.
(1)
المرأة بين الفقه والقانون (159).
وقد اقترح الشيخ عبد المجيد الزنداني في كتابه «المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام»
(1)
إنشاء مجلس شورى نسائي 100% يمثل بنات جنسها؛ إذ من الظلم أن عضويتها في مجالس البرلمان مخيبة لآمال المرأة، ولا تعبر عن حجمها السكاني، فتمثيلها في هذه المجالس لا يزيد على 15% في معظم بلدان العالم.
ويقترح الشيخ تشكيل مجلس شورى نسائي يكون من صلاحياته اتخاذ القرار فيما يتعلق بشؤون المرأة والأولاد، والدفاع عن حقوق المرأة المهضومة، والتصدي لكل دعوات الإفساد للدين والأخلاق والأسرة والمجتمع، ومن ثم ترفع توصياته لمجلس الشورى.
وأعتقد أن على مجلس الشورى قبل إصدار تشريعاته إجراء دراسة كاملة لما يُطْرح، يقوم بها أهل الخبرة والاختصاص، فإذا كان الأمر متعلقًا بالمرأة فإن الدارسة لها لا شك أنها ستكون امرأة لها خبرها واطلاعها بأمور النساء.
وإذا تقرر حصر قضية أهل الشورى في صفوة رجال الأمة فإن لهؤلاء، وللإمام ونوابه من المسؤولين الحق في مشاورة عاقلات النساء وفضلياتهن -فرادى وجماعات- فيما تحتاجه الأمة -خاصًا بالنساء - مما لا يطلع عليه الرجال، ولا يمكن لهم أن يعرفوه إلا من جهتهن؛ فقد أمر الله تعالى بمشاورتهن في مسألة الرضاعة والفطام؛ لكونهما ألصق بمهام النساء، ويكون ذلك بقدر الحاجة التي يفتقر إليها صواب صنع القرار السياسي الخاص بمن، ويحقق المصلحة الشرعية والاجتماعية العامة، وليس لمجرد المشاركة السياسية، بشرط أن يكون كل ذلك في غير تبرج أو
(1)
باختصار.
اختلاط، أو بروز سياسي عام
(1)
.
كما تستطيع المرأة أن تُسْهم في أعمال مجلس الشورى، وإن لم تكن عضوًا فيه، كأن تشير على المسؤول بما تراه صوابًا، أو تذكره بما هو مطلوب منه، أو تلفت نظره إلى أمور تقع في المجتمع، وتحب إزالتها أو منع وقوعها مستقبلًا، أو تقوم بنشر ما تعتقد صلاحه للمرأة في وسائل النشر إن كانت أهلًا له، مذيلة ما تنشره بتوصيات تسهم في نهضة الأمة ولا تصادم نصوصها الشرعية.
كما تستطيع أن تستنبط الأحكام الاجتهادية المتعلقة بشؤون الدولة إذا كانت أهلًا للاجتهاد، وتقوم بنشرها بين الناس، وتعرضها على ولاة الأمور. وهذه الأمور هي في الحقيقة من أعمال مجلس الشورى، ولكن تستطيع المرأة أن تشارك فيها وهي في بيتها
(2)
. فالحمد لله الذي رفع عنّا معاشر النساء عبء المسؤوليات السياسية، وجعلنا مُرَبِّيات الساسة، ومخرِّجات الأمراء، والعلماء وأهل الحل والعقد.
(1)
ينظر: المرأة بين الفقه والقانون للسباعي (156)، المرأة المسلمة بين الإسلام والقوانين العالمية (149)، حكم تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء (55)، أهل الحل والعقد لعبد الله الطريقي (41)، جوانب التعارض بين عنصر الأنوثة في المرأة والعمل السياسي لعدنان با حارث (77).
(2)
ينظر: المفصل في أحكام المرأة لعبد الكريم زيدان (24/ 334).
الباب الثالث حقوق المرأة المالية
وتتناول الفصول المتعلقة بالحقوق المالية للمرأة في الإسلام الآتي:
الفصل الأول: حق المرأة في الصداق.
الفصل الثاني: حق المرأة في النفقة.
الفصل الثالث: حق المرأة في الإرث.
الفصل الرابع: حق المرأة في التعاقدات المالية.
الفصل الخامس: المرأة والغنيمة.
الفصل السادس: المرأة والدية.
توطئة:
الاستقراء الدقيق للنصوص الشرعية، التي جاءت بخصوص مباشرة التصرفات المالية، يوقف على حقيقة مفادها أنه لا يوجد فرق بين الرجل والمرأة في الأهلية المالية، وما يتبعها من تصرفات، ذلك أن الإسلام أباح لها كل ما أباح للرجل سواء بسواء، وجعل لها كالرجل حق مباشرة العقود المالية بكافة ألوانها، وجعلها صاحبة الحق المطلق على ملكها، ولم يجعل للرجل أيًّا كانت صفته أو قرابته منها أي سلطان عليها، فلها أن تتملك الأرض، والمباني، وكافة الممتلكات، والأموال، ولها أن تمارس التجارة من بيع، أو شراء، أو مساقاة، أو مزارعة، أو شركة، أو مضاربة، وسائر تصرفات الكسب الحلال، ولها توكيل غيرها فيما لا تريد مباشرته بنفسها، ولها أن تضمن غيرها، وأن يضمنها غيرها، ولها أن توصي لمن تشاء ممن هو أهل للوصية، ويصح أن تكون وصيًّا، لا فرق في ذلك بينها وبين الرجل.
وستأتي الأدلة تباعًا تؤكد أن المرأة تملك مالها ويحق لها التصرف فيه كالرجل، سواء أكانت متزوجة أم لم تكن؛ لأن الزوج ليست له ولاية على أموالها، ولأن الأنوثة بحد ذاتها لم تكن سببًا في الحجر عليها.
وستجد لسانك أثناء القراءة في ثنايا الفصول يلهج بالحمد والثناء للرب جل وعلا على أحكامة العادلة، إذ إن البشر لما حكموا ظلموا، فقد تحملت المرأة في الغرب الأغلال باعتبارها مخلوقًا ناقص الأهلية، وهذا الأمر بقي شائعًا في أوروبا وملحقاتها حتى فترة قريبة، إذ قضت دساتيرهم بأنه لا يجوز للمرأة أن تتصرف بمالها وما تملك -إذا كانت متزوجة- إلا بإذن زوجها وموافقته، ومن أخطر الوسائل
الظالمة لحقوق النساء -خاصة- ما هو شائع الآن في المجتمع الغربي من جواز الوصية بالتركة لأي كان، وحرمان الورثة -أو بعضهم- من ذلك، حتى جوّزوا الوصية لكلب أو قط؟!
(1)
.
(1)
ينظر: حقوق المرأة في الشريعة الإسلامية لإبراهيم النجار (63).
الفصل الأول حق المرأة في الصداق
وسيتناول هذا الفصل سبعة مباحث:
المبحث الأول: أمر بالله تعالى بإعطاء النساء صداقهن.
المبحث الثاني: أدلة مشروعية الصداق.
المبحث الثالث: مقدار الصداق.
المبحث الرابع: استحقاق الزوجة كامل الصداق.
المبحث الخامس: استحقاق الزوجة نصف الصداق.
المبحث السادس: متعة المطلقات.
المبحث السابع: حكم تحديد ولي الأمر للصداق، وإلزام الناس به.
المبحث الأول: أَمْر بالله تعالى بإعطاء النساء صداقهن
الصداق من أبرز الحقوق المالية للمرأة، فرضه الله تعالى في النكاح على الزوج، تكريمًا لها، وإظهارًا لصدق رغبة الزوج فيها، وحتى تبرز المرأة مطلوبة من قبل الرجل لا طالبة له، ولا يخفى ما في ذلك من صون لكرامتها، ورفع لشأنها، ولم يفرض المهر بدلًا للبضع كالثمن في البيع، أو أجرة له، وإنما جعله الله بمثابة العطية والهدية التي يقدمها الزوج لزوجته حين العقد عليها، يدل على ذلك قول الحق تبارك وتعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}
(1)
.
قال القرطبي في تفسيره
(2)
: «أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم
…
قوله تعالى (نحلة) النحلة -بكسر النون، وضمها لغتان- وأصلها من العطاء، نحلت فلانًا شيئًا أعطيته، فالصداق عطية م ن الله تعالى للمرأة، وقيل: نحلة، أي: عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع. وقال قتادة: معنى (نحلة) فريضة واجبة
…
وقال الزجاج: نحلة تدينا، والنحلة: الديانة، والمال. يقال: هذا نِحْلَتُهُ أي دينه، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهلية
…
».
وهو حق مالي خالص للمرأة، وتأمل قول الرب جل وعلا: {وَآتُوا النِّسَاءَ
(1)
النساء: (4).
(2)
(5/ 24).
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
(1)
.
• {وَآتُوا النِّسَاءَ} إمّا خطاب لأولياء النساء؛ لأن العرب في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئًا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئًا لك النافجة: مال يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى ع ن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله.
والقول الثاني: إن الخطاب للأزواج، أمروا بإيتاء النساء مهورهن؛ لأنه لا ذكر للأولياء ههنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج. ولا مانع من حمل الآية على المعنيين، فخاطب الله كلا من الأزواج والأولياء بإيتاء النساء صدقاتهن
(2)
.
• {صَدُقَاتِهِنَّ} أضاف الرب جل وعلا الصداق للنساء؛ وفيه دليل على تملك المرأة المهر بالعقد
(3)
.
• ثم عقب الرب جل ذكره الأمر بقوله: {نِحْلَةً} أي عطية من الله للنساء حيث أوجب المهور لهن، وحرم على الأولياء الأخذ منها إلا بطيب نفس من المرأة، وقيل في معنى نحلة: ديانة وشريعة، وقيل: طيبة بإعطائكم لهن نفوسكم
(4)
.
• وقوله {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} يقول الرازي: «معنى الآية: فإن وهبن لكم شيئًا من الصداق عن طيبة النفس، من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن، أو سوء معاشرتكم معهن، فكلوه، وأنفقوه، وفي الآية
(1)
النساء: (4).
(2)
ينظر: الكشاف (1/ 502)، التفسير الكبير للرازي (6/ 149)، تفسير أبي السعود (2/ 143).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (1/ 98).
(4)
ينظر: تفسير القرطبي (5/ 24)، تفسير ابن كثير (1/ 453).
دليل على ضيق المسلك في هذا الباب، ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس. فقال: فإن طبن، ولم يقل: فإن وهبن، أو سمحن، إعلامًا بأن المراعي هو تحافي نفسها عن الموهوب طيبة»
(1)
.
• ثم أباح الله -بعد أن ضَيّقَ مسلك الأخذ، وقَنّن شروطه- الأكل وأكده بقوله:{فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وهو مبالغة في الإباحة، وإزالة التبعة.
(2)
.
• وقد ذكر الرب في كتابه أن الرجل إن أراد تزوج امرأة بدل أخرى، وقد أعطى التي تحت يديه (قنطارًا) أي: مالًا كثيرًا، فلا يحل له أن يأخذ من القنطار شيئًا، وشيئًا نكرة تدل على العموم حتى لو كان يسيرًا فضلًا عن الكثير، فإذا نهى باذل القنطار عن الأخذ ما ظنك بما دونه
(3)
.
• ثم قال: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وهذا استئناف مسوق لتقرير النهي، والتنفير من المنهي عنه، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: أتأخذونه باهتين وآثمين، والبهت الكذب، والله تعالى فرض للمرأة المهر، فمن استرده كأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتانًا، ويأثم على ما فعله إنما قد أبان الله أمر أخذه، بأنه
(1)
التفسير الكبير (6/ 149).
(2)
النساء: (20 - 21).
(3)
ينظر: تفسير أبي السعود (2/ 159).
بأخذه بات لمن أخذه ظالم
(1)
.
• ثم استفهم استفهامًا إنكاريًّا فقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} إنكار لأخذه إثر إنكار، وتنفير منه غِبَّ تنفير، وقد بولغ فيه حيث وجه الإنكار إلى كيفية الأخذ إيذانًا بأنه مما لا سبيل له إلى التحقق والوقوع أصلًا؛ {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} حال من فاعل {تَأْخُذُونَهُ} تأخذونه مفيدة تأكيد النكير، وتقرير الاستبعاد أي على أي حال تأخذونه وقد جرى بينكم وبينهن أحوال منافية له من الحلوة والجماع، فيكون المساق في معرض التعجب فقال:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} فلأي وجه، ولأي معنى تفعلون هذا؟ فإنها بذلت نفسها لك، وجعلت ذاقا لذاتك، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئًا بذله لها بطيبة نفسه إن هذا لا يليق البتة. من له طبع سليم، وذوق رفيع
(2)
.
فتبين بهذا كله أن المهر حق خالص للمرأة لا يجوز أن يأخذ أحد منه شيئًا حتى تعطيه شيئًا منه طيبة به نفسها، وإلا أثم الآخذ إثمًا بينا.
ألا فليتق الله ولاة أمور النساء وأزواجهن من أكل أموالهن، فقد حرّج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الضعيفين: المرأة واليتيم
(3)
، فهل يطيب أن تأكل ما حرّم الله وحرّجه رسوله صلى الله عليه وسلم؟!.
(1)
تفسير الطبري (4/ 314)، المصدر السابق.
(2)
ينظر: تفسير الرازي (10/ 14).
(3)
تقدم تخريجه ص (526).
تعريف الصداق:
الصداق لغة: مهر المرأة
(1)
وفيه لغات: صداق -بفتح الصاد وكسرها- وصدقة -بفتح الصاد، وضم الدال- وصدقة -بسكون الدال فيهما، مع ضم الصاد وفتحها- وله أسماء: الصداق، والصدقة - والمهر، والنحلة، والفريضة، والأجر، والعلائق، والعقر، والحباء، وقد نُظِمت في بيت:
صداق ومهر نحلة وفريضة
…
حباء وأجر ثم عقر علائق
(2)
واصطلاحًا هو: المال الذي يجب في عقد النكاح على الزوج لزوجته إمّا بالتسمية أو بالعقد
(3)
.
(1)
ينظر: لسان العرب (10/ 197)، القاموس المحيط (1048)، مادة (ص د ق).
(2)
المبدع (7/ 130).
(3)
ينظر: شرح منتهى الإرادات (3/ 5)، حواشي الشرواني (7/ 375)، العناية على الهداية (3/ 204).
المبحث الثاني: أدلة مشروعية الصداق
الصداق ثابت للمرأة بالكتاب والسنة، والإجماع.
فمن الكتاب:
1 -
قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} .
قال القرطبي: هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه
(1)
.
2 -
قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}
(2)
.
يقول الشنقيطي: «ثم بيّن أن من نكحتم منهن، واستمتعتم بما يلزمكم أن تعطوها مهرها»
(3)
.
3 -
قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(4)
.
(1)
تفسير القرطبي (5/ 24).
(2)
النساء: (24).
(3)
النساء: (24).
(4)
أضواء البيان (1/ 238).
يقول ابن كثير: «وادفعوا مهورهن بالمعروف أي عن طيب نفس منكم»
(1)
.
ومِن السنة:
1 -
ما أخرجه مسلم
(2)
في صحيحه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقِيّة، ونَشّا. قالت: أتدري ما النش؟ قال: لا. قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه.
قال النووي: «واستدل أصحابنا هذا الحديث على أنه يستحب كوْن الصداق خمسمائة درهم، والمراد في حق من يحتمل ذلك. فإن قيل: فصداق أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان أربعة آلاف درهم، وأربعمائة دينار
(3)
؟ فالجواب أن هذا القدر تبرع به النجاشي من ماله إكرامًا»
(4)
.
2 -
أخرج البخاري
(5)
، ومسلم
(6)
من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها.
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 476).
(2)
كتاب النكاح، باب: الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، وغير ذلك من قليل وكثير، واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به (2/ 1040)1426.
(3)
أخرجه أبو داود في السنن (2/ 235) 2107، والحاكم في المستدرك (2/ 198) 2741 من حديث أم حبيبة. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1835).
(4)
شرح صحيح مسلم (9/ 215).
(5)
كتاب النكاح، باب: من جعل عتق الأمة صداقها (5/ 1956)4798.
(6)
كتاب النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمه، ثم يتزوجها (2/ 1043)1365.
3 -
أخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث أنس قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف، وتزوج امرأة من الأنصار: «كم أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب. واللفظ للبخاري.
4 -
أخرج مسلم
(3)
في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل نظرت إليها؛ فإن في عيون الأنصار شيئًا؟» قال: قد نظرت إليها. قال: «على كم تزوجتها؟» قال: على أربع أواق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على أربع أواق؟» كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه» قال: فبعث بعثًا إلى بني عبس، بعث ذلك الرجل فيهم.
وما سيأتي من الأدلة بعد هذا المبحث دليل على مشروعية الصداق.
وأمّا الإجماع:
فقد نقل الإجماع على وجوب المهر في النكاح القرطبي في تفسيره
(4)
، وابن قدامة في المغني
(5)
.
(1)
كتاب النكاح، باب: الوليمة ولو بشاة (5/ 1983)4872.
(2)
كتاب النكاح، باب: الصداق
…
(2/ 1043)1427.
(3)
كتاب النكاح، باب: ندب من أراد النكاح إلى أن ينظر إلى وجهها وكفيها (2/ 1040)1424.
(4)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 24).
(5)
(10/ 97).
المبحث الثالث: مقدار الصداق
المهر إمّا أن يكون متفقًا عليه بين الطرفين، ومذكورًا في العقد فيسمى عند الفقهاء (المهر المسمى)، أو غير متفق عليه فيجب فيه ما يسمى بمهر المثل، وسأذكر بعون الله كلا النوعين فيما يأتي:
1 -
المهر المسمى: الأصل في مقدار المهر المسمى أن يكون حسبما اتفق عليه طرفا عقد النكاح، فلم تحدد الشريعة مقدارًا معينًا من المهر، بل «كل ما كان مالًا جاز أن يكون صداقًا» كما قال ذلك ابن قدامة
(1)
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}
(2)
.
ويطلق المال عند الجمهور على النقد، والعين، والمنفعة
(3)
.
والعلماء يستحبون تسميته؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفعًا للخصومة، يقول أبو بكر بن محمد الحسيني:«والمستحب ألا يعقد عقد النكاح إلا بصداق؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يعقد إلا بمسمى: ولأنه أدفع للخصومة»
(4)
.
وإذا كان الأصل في المهر أن يكون مسمى، فهل هناك حد لأكثره وأقله؟
(1)
المغني (7/ 161).
(2)
النساء: (24).
(3)
ينظر: المغني (10/ 101)، نهاية المحتاج (3/ 220).
(4)
كفاية الأخيار (2/ 111).
اتفق العلماء على أنه لا حد لأكثره، بل قال ابن عبد البر في التمهيد
(1)
: «وأجمع العلماء على أنه لا تحديد في أكثر الصداق لقول الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}
(2)
.
وقال القرطبي في تفسير الآية: «الآية دليل على جواز المغالاة في المهور؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح»
(3)
.
والقنطار المال الكثير
(4)
(5)
.
وأما قليله فالراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء: إسحاق، وأبو ثور، وفقهاء المدينة من التابعين
(6)
، والشافعية
(7)
، والحنابلة
(8)
، والظاهرية
(9)
من أنه لا حد لأقله.
(1)
(2/ 186). وانظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 76)، إكمال المعلم (5/ 202)، المغني (7/ 161)، الفتح (9/ 122)، سبل السلام (3/ 149).
(2)
النساء: (20).
(3)
تفسير القرطبي (5/ 99).
(4)
ينظر: تفسير الطبري (4/ 313)، تفسير القرطبي (4/ 30)، تفسير ابن كثير (1/ 467).
(5)
المفردات (407)، مادة (ق ط ر).
(6)
بداية المجتهد (2/ 14).
(7)
ينظر: المجموع (16/ 326)، حواشي البجيرمي (3/ 403).
(8)
ينظر: المغني (10/ 99)، المبدع (7/ 132).
(9)
المحلي (9/ 494).
واستدل الجمهور بعموم الأدلة من الكتاب والسنة الواردة في ذكر الصداق. حيث لم يحدد مقداره.
واستدلوا أيضًا بما يأتي:
1 -
ما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي. قال: فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: «وهل عندك من شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله. فقال: «اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئًا» فذهب، ثم رجع. فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزاري -قال سهل: ما له رداء- فلها نصفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك شيء» فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليًّا، فأمر به فدعي فلما جاء قال:«ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا عددها. فقال: «ملكتكها بما معك من القرآن» .
وبوّب عليه البخاري في كتاب النكاح، باب: «التزويج على القرآن بغير
(1)
كتاب النكاح، باب: تزويج المعسر لقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النور: 32)(5/ 1956)4799.
(2)
كتاب النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير، واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به (2/ 1040)1425.
صداق»
(1)
قال الحافظ: «أي على تعليم القرآن وبغير صداق عيني مالي»
(2)
.
وقال أيضا: «واستدل به على جواز المنفعة صداقًا ولو كان تعليم القرآن. قال المازري
(3)
: هذا ينبني على أن الباء للتعويض، كقولك: بعتك ثوبي بدينار، وهذا هو الظاهر، وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه لكونه حاملًا للقرآن لصارت المرأة معن الموهوبة، والموهوبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم
(4)
ويدل على هذا أيضًا ما تقدم من زواج أم سليم بأبي طلحة، وكان مهرها إسلامه، وبوّب عليه النسائي باب التزويج على الإسلام
(5)
.
2 -
أخرج مسلم
(6)
من حديث جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر، والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر حتى في عنه عمر
(7)
في شأن عمرو بن حريث.
والشاهد من الحديث: «نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق» وكان ما يقدمونه من الطعام مهرًا للمرأة.
(1)
(5/ 1977).
(2)
الفتح (9/ 205).
(3)
المعلم (2/ 108).
(4)
الفتح (9/ 212).
(5)
المجتبى (6/ 114).
(6)
كتاب النكاح، باب: نكاح المتعة، وبيان أنه أبيح ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة (2/ 1022)1405.
(7)
قال النووي: «(استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر) هذا محمول على أن الذي استمتع في عهد أبي بكر وعمر لم يبلغه النسخ، وقوله (حتى نهانا عنه عمر) يعني حتى بلغه النسخ» شرح صحيح مسلم (9/ 183).
• ولا شك أن الأفضل عدم الإجحاف بالمرأة في مهرها، وعدم المغالاة فيه؛ لأن من بركة المرأة يُسْرَ مهرها، أخرج الإمام أحمد في المسند
(1)
، والبزار في المسند
(2)
، والطبراني في الأوسط
(3)
، وفي الصغير
(4)
، وابن حبان في الصحيح
(5)
والحاكم في المستدرك
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
من طرق عن أسامة بن زيد، عن صفوان بن سليم، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن من يُمْن المرأة تيسير خِطْبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها» واللفظ لأحمد.
قال الطبراني في الصغير: لم يرو هذا الحديث عن صفوان بن سليم إلا أسامة بن زيد، تفرد به ابن المبارك وعبد الله بن وهب.
وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقد أخرج مسلم لأسامة بن زيد في المتابعات، ولم يحتج به.
وقال الهيثمي: «رواه أحمد، وفيه أسامة بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات»
(8)
. وقد أخطأ الهيثمي في تعيين أسامة بن زيد، فقال: ابن أسلم، والصواب أنه الليثي.
وإسناد الحديث حسن، فيه أسامة بن زيد الليثي، قال الحافظ عنه: «صدوق
(1)
(41/ 27)2447.
(2)
(3)
(4/ 62)3612.
(4)
(1/ 285)469.
(5)
(9/ 405)4095.
(6)
(2/ 197)2739.
(7)
(7/ 235)14135.
(8)
(4/ 255).
يهم»
(1)
وحسنه الألباني في الإرواء
(2)
.
• أخرج الدارمي في السنن
(3)
، وأبو داود في السنن
(4)
، والترمذي في السنن
(5)
، والنسائي في المجتبى
(6)
، وابن حبان في صحيحه
(7)
، والحاكم في المستدرك
(8)
، والبيهقي في الكبرى
(9)
، والضياء في المختارة
(10)
من طرق عن محمد بن سيرين، عن أبي العجفاء السلمي قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإما لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه، ولا أُصْدِقت امرأة من بناته فوق ثنتي عشرة أوقية ألا وإن أحدكم ليغالي بصداق امرأته حتى يبقى لها في نفسه عداوة، حتى يقول كلفت لك علق القربة»
(11)
واللفظ للدارمي.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(1)
التقريب (124)319.
(2)
(6/ 350)1928.
(3)
(2/ 190)2200.
(4)
(2/ 235)2106.
(5)
(3/ 422)1114.
(6)
(2/ 87)3349.
(7)
(10/ 481)1259.
(8)
(2/ 191)2725.
(9)
(7/ 234)14125.
(10)
(1/ 412)293.
(11)
قال ابن الاثير في النهاية: «علق القربة هو حبلها الي تتعلق به» (3/ 290) مادة (ع ل ق).
قال الحاكم: «صحيح الإسناد، وأبو العجفاء السلمي، اسمه هرم بن حيان، وهو من الثقات، ووافقه الذهبي، ولكن تعقبه في اسم أبي العجفاء فقال: «قلت: بل هرم بن نسيب» وقيل في اسمه غير ذلك.
وصححه الألباني في الإرواء
(1)
. وهو كما قال.
• وأخرج عبد الرزاق في مصنفه
(2)
، والنسائي
(3)
في المجتبى من طريق داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة قال: كان الصداق إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أواق.
وإسناده صحيح، وبوّب عليه النسائي «باب القسط في الأصدقة» .
ولتعلم النساء أن الخير كل الخير في اقتفاء السلف الصالح؛ فإن تيسير المهور مكرمة، ويمن كما ورد في الأثر، فلتجعل ناصيتها على الرجل مباركة، ولا يعتقدن أن السنة في خاتم الحديد، أو عود الأراك، بل خير الأمور أوسطها؛ فلا غلو ولا مجافاة، وقد كان مهر رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجاته، ومهور بناته سطة: ثنتي عشرة أوقية.
قال ابن قدامة: «فلا يستحب الزيادة على هذا -أي خمسمائة درهم- وهو المقدار الذي ورد في مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم»
(4)
.
2 -
مهر المثل: هو المهر الذي يساوي مهر نظيرات المرأة المقصودة بالنكاح، أو المنكوحة من قريباتها، أو غيرهن من النساء اللاتي يماثلها في الصفات المعتبرة في النكاح
(5)
.
(1)
(6/ 347)1927.
(2)
(6/ 177)10406.
(3)
(6/ 117)3348.
(4)
المغني (7/ 163) وانظر: المجموع (15/ 483).
(5)
ينظر: المغني (10/ 150) تكملة المجموع (6/ 375)، شرح فتح القدير (3/ 367).
وقد سنه الشرع تحاشيًّا لوقوع الخلاف والنزاع بين أطراف العقد بسبب الصداق، في بعض الأحوال منها:
1 -
إذا لم يحدد المهر في العقد أو سكت عنه.
2 -
إذا اتفق أطراف العقد على أن لا مهر ها
(1)
.
3 -
إذا حدد في العقد مهر لا يصلح أن يكون مهرًا شرعًا، كما لو جعل المهر خمرًا أو خنزيرًا.
4 -
إذا دخل الرجل بالمرأة في نكاح فاسد.
فإذا كان الحال كذلك وجب للمرأة مهر المثل، قال ابن عابدين: «ثم اعلم أن اعتبار مهر المثل المذكور حكم كل نكاح صحيح لا تسمية فيه أصلًا
…
وحكم كل نكاح فاسد بعد الوطء سمي فيه مهرًا أو لا»
(2)
.
ودليل مهر المثل أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف»
(3)
، وأحمد في المسند
(4)
، وأبو داود في السنن
(5)
، وابن ماجه في السنن
(6)
، والترمذي في السنن
(7)
، والنسائي في
(1)
وفي كلا الحالتين تسمى فيهما المرأة المفوِّضة -ويجوز فيه فتح الواو، وكسرها- والتفويض الإهمال، كأنها أهملت المهر حيث لم يسمه، والتفويض على ضربين:
1 -
تفويض البضع، وهو الذي ينصرف إطلاق التفويض إليه، وهو أن يزوج الأب ابنته البكر، أو تأذن
المرأة لوليها في تزويجها بلا مهر.
2 -
تفويض المهر وهو أن يتزوجها على ما شاءت أو شاء أجنبي ونحو ذلك والنكاح في كلا الحالتين
صحيح، ويجب مهر المثل بالعقد. ينظر: المبدع (7/ 167)، حواشي الشرواني (7/ 335).
(2)
حاشية الرد المحتار (3/ 7).
(3)
(3/ 555)17110.
(4)
(7/ 174)4099.
(5)
(2/ 237)2114.
(6)
(1/ 609)1891.
(7)
(3/ 450)1145.
المجتبى
(1)
، وابن حبان في صحيحه
(2)
، والطبراني في الكبير
(3)
، والحاكم في المستدرك
(4)
، والبيهقي في الكبرى
(5)
من طرق عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق؟ فقال: لها الصداق كاملًا، وعليها العدة، ولها الميراث. فقال معقل بن سنان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بَروع بنت وَاشِق بمثل ذلك. واللفظ لأبي داود.
قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح.
وصححه الألباني في الإرواء
(6)
.
قال ابن قدامة: وجملته أن النكاح يصح من غير تسمية صداق في قول عامة أهل العلم، وقد دل على هذا قول الله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}
(7)
ثم استدل بحديث ابن مسعود
(8)
.
(1)
(6/ 122)3356.
(2)
(9/ 408)4098.
(3)
(20/ 231)542.
(4)
(2/ 197)2738.
(5)
(7/ 245).
(6)
(6/ 357)1939.
(7)
البقرة: (236).
(8)
المغني (7/ 183) وانظر: نيل الأوطار (6/ 318)، سبل السلام (3/ 150).
المبحث الرابع: استحقاق الزوجة كامل الصداق
تستحق الزوجة كامل المهر في حالتين:
الأولى: إذا طلقها زوجها بعد دخوله بها:
فإذا دخل الرجل بزوجته ووطنها فلا خلاف بين أهل العلم
(1)
في استحقاقها جميع المهر؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}
(2)
وذهب ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وغير واحد
(3)
إلى أن معنى الإفضاء الجماع.
وبما أخرجه البخاري، ومسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين:«حسابكما على الله، أحد كما كاذب، لا سبيل لك عليها» . قال: يا رسول
(1)
ينظر: المبسوط (5/ 49)، بدائع الصنائع (3/ 291)، المغني (7/ 191)، بداية المجتهد (2/ 17)، كفاية الأخبار (1/ 37).
(2)
النساء: (20 - 21).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 478) وانظر: تفسير الطبري (4/ 314)، الدر المنثور (2/ 467)، التفسير الكبير للرازي (10/ 12).
الله مالي!، قال:«لا مال لك؛ إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك» واللفظ للبخاري.
مسألة: مهر من خلا بها زوجها، ولم يدخل بها بعد:
اختلف أهل العلم في الخلوة التي يقع فيها الوطء، وعلى هذه المسألة بوّب البخاري في صحيحه:«باب المهر للمدخول عليها، وكيف الدخول»
(1)
.
يقول الحافظ: «(باب المهر للمدخول عليها) أي: وجوبه واستحقاقه، وقوله (وكيف الدخول) يشير إلى الخلاف فيه»
(2)
.
وللعلماء في المسألة أقوال أشهرها:
القول الأول: ثبوت كامل المهر بالخلوة:
ذهب الحنفية
(3)
، والحنابلة)
(4)
، وهو قديم قول الشافعي)
(5)
إلى ثبوت كامل المهر بالخلوة، واشترط الأحناف أن تكون الحلوة حقيقية أو صحيحة «والخلوة الصحيحة هي التي لا يمنع فيها مانع من الوطء طبعًا أو شرعًا، فالمرض المانع من الوطء من جهته أو جهتها مانع طبعًا، وكذلك القرن، والرتق، والحيض، والإحرام، وصوم رمضان، وصلاة الفرض»
(6)
.
(1)
(5/ 2045).
(2)
الفتح (9/ 405).
(3)
ينظر: الجامع الصغير لمحمد بن الحسن (178)، البحر الرائق (3/ 165).
(4)
ينظر: المغني (7/ 192)، المبدع (937).
(5)
المغني (7/ 192).
(6)
الاختبار لتعليل المحتار (3/ 103).
ولا يصح كلام الأحناف إذا وجد شخص ثالث، أو كانا في مكان لا يصلح للخلوة.
أما إذا كان أحدهما مريضًا أو صائمًا صوم فرض أو حاجًا، فالخلوة صحيحة، ويتحقق بها الدخول، وهذا مذهب الحنابلة؛ لأن المريض قد لا يمنعه المرض من المعاشرة، والمحرم أو الصائم قد يرتكب المحظور
(1)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}
(2)
قال الجصاص في أحكامه
(3)
: «وقد أخبر أن الإفضاء اسم للخلوة، فمنع الله تعالى أن يأخذ منه شيئا بعد الخلوة، وقد دل على أن المراد هو الخلوة الصحيحة التي لا يكون ممنوعا فيها من الاستمتاع؛ لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض، وهو الموضع الذي لا بناء فيه، ولا حاجر يمنع من إدراك ما فيه، فأفاد بذلك استحقاق المهر بالخلوة على وصف، وهي التي لا حائل بينها، ولا مانع من التسليم والاستمتاع إذ كان لفظ الإفضاء يقتضيه» ونوزع الاستدلال بحمل معنى الإفضاء على الجماع كما فسره غير واحد، وقد تقدم.
2 -
ما أخرجه البخاري
(4)
من حديث ابن عمر في قصة المتلاعنين وفيه: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فأبيا، ففرق بينهما. قال الرجل: مالي! قال: «لا مال لك، إن كنت صادقًا فقد دخلت بها، وإن كنت
(1)
ينظر: المغني (7/ 192).
(2)
النساء: (21).
(3)
(2/ 147).
(4)
كتاب الطلاق، باب: المهر للمدخول عليها (5/ 2045)5034.
كاذبًا فهو أبعد منك».
قال الحافظ: «والجواب عن حديث الباب أنه ثبت في الرواية الأخرى في حديث الباب: «فهو بما استحللت من فرجها» فلم يكن في قوله «دخلت عليها» حجة لمن قال مجرد الدخول يكفي»
(1)
.
3 -
أخرج الدارقطني في سننه
(2)
، والبيهقي في الكبرى
(3)
من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كشف خمار امرأة، ونظر إليها، وجب الصداق دخل بها، أو لم يدخل بها» واللفظ للدارقطني
قال البيهقي: «وهذا منقطع، وبعض رواته غير محتج به» . ويشير البيهقي إلى ابن لهيعة إلا أنه لم يتفرد به
(4)
.
لكن للحديث علة أخرى وهي الإرسال، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان تابعي.
وضعف الحديث الألباني في الإرواء
(5)
.
وأجيب عن الحديث أنه لم يثبت.
4 -
ما أخرجه الدارقطني في سننه
(6)
، ومن طريقه البيهقي
(7)
من طريق
(1)
الفتح (9/ 405).
(2)
(3/ 307)232.
(3)
(7/ 256)14264.
(4)
ذكر الألباني من تابع ابن لهيعة في السلسلة الضعيفة (3/ 86)1019.
(5)
(6/ 356)1936.
(6)
(3/ 307)230.
(7)
(7/ 255) 15258 وله متابعات أخر أوردها البيهقي.
عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال:«إذا أجيف الباب، وأرخيت الستور، فقد وجب المهر» .
وإسناده صحيح.
5 -
ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف
(1)
، وابن أبي شيبة في مصنفه
(2)
والبيهقي في الكبرى
(3)
من طرق عن قتادة، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس أن عمر وعليًّا قالا:«إذا أرخيت الستور، وغلقت الأبواب فقد وجب الصداق» قال الحسن: «ولها المهر، وعليها العدة» واللفظ لعبد الرزاق، ورجاله ثقات.
فهذا حكم من عمر وعلي رضي الله عنهما بثبوت المهر بالدخول؛ ولعمر سنة متبعة، وكذا عليٌّ رضي الله عنه؛ لكونه أحد الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا باتّباع سنّتهم.
(4)
.
(1)
(6/ 285)10863.
(2)
(3/ 519)1669.
(3)
(7/ 255)14259.
(4)
المغني (7/ 191).
قلت: أثر زرارة بن أوفي، أخرجه البيهقي
(1)
وقال: «هذا مرسل، زرارة لم يدركهم» لكنه صح عن عمر وعليّ رضي الله عنهما كما تقدم.
6 -
واحتجوا أيضًا بأن الغالب عند إغلاق الباب وإرخاء الستر على المرأة وقوع الجماع، فأقيمت المظنة مقام المنة؛ لما جبلت عليه النفوس في تلك الحالة من عدم الصبر عن الوقاع غالبا لغلبة الشهوة، وتوافر الدواعي لوقوع الجماع؛ ولأن الخلوة هي التي يمكن للقاضي التحقق منها، أما ما وراء ذلك فيصعب التحقق منه عند النزاع
(2)
؛ ولأنه استحل منها ما لا يحل لغيره من خلوة أو المس أو تقبيل أو نظر لما لا ينبغي إلا للزوج
(3)
.
القول الثاني: لا يستقر المهر بالخلوة فقط:
ذهب مالك
(4)
، والشافعي في الجديد
(5)
، وداود
(6)
بأن المهر لا يستقر بالخلوة فحسب، بل لا بد من الوطء.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} والإفضاء هنا الجماع، وهذا ما رجحه ابن جرير الطبري ونقله عن غير واحد من السلف كما تقدم
(7)
.
(1)
الكبرى (7/ 255).
(2)
ينظر: الحاوي (12/ 174)، المغني (7/ 191)، الفتح (9/ 405).
(3)
ينظر: الممتع للشيخ محمد بن عثيمين، مركز فجر للطباعة (5/ 318).
(4)
ينظر: المدونة (5/ 321)، الاستذكار (5/ 435).
(5)
ينظر: المهذب (2/ 57)، حاشية البحيرمي (3/ 423)، الفتح (9/ 405).
(6)
المحلى (9/ 483).
(7)
ص (598).
2 -
قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} ، والمطلقة التي خلا بها من غير وطء مطلقة قبل المسيس.
3 -
حديث الملاعنة وفيه «لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها» .
4 -
إن تأكد المهر يتوقف على استيفاء المستحق بالعقد وهو منافع البضع، واستيفاء منافعه يكون بالوطء -أي الدخول- ولا يحصل هذا الاستيفاء بمجرد الخلوة الصحيحة بين الزوجين بلا دخول، فلا يتأكد المهر بها.
الراجح:
والراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من ثبوت المهر بالخلوة؛ لقوة أدلته، وحجته، يقول ابن قدامة:«وإذا خلا بها بعد العقد فقال: لم أطأها وصدقته، لم يلتفت إلى قولهما، وكان حكمهما حكم الدخول في جميع أمورها إلا في الرجوع إلى زوج طلقها ثلاثًا، أو في الزيت فإنما يجلدان ولا يرجمان»
(1)
.
ومن هنا لتعلم أخي المرأة أن لها المهر كاملًا إن خلا ما بعد العقد، فلو أراد أن يطلقها؛ فإما تطالب بما ترجح سابقًا مستدلة بأدلة أصحابه، لا سيما في وقت كثر فيه الطلاق بعد العقد بعد خلوة صحيحة، والناظر في حال أهل زماننا يجد أن المرأة بعد عقدها يكثر الرجل التردد عليها، ويخرجان ويدخلان سويا، بل قد يتجاوز هذا كله في سفرها معه، فأحببت التنبيه على هذا، لتعلم المرأة أن الشرع كفل لها كامل الحق، وأوفر الحظ.
(1)
المغني (7/ 191).
مسألة: إذا توفي أحد الزوجين قبل الدخول:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين بعد اتفاقهم على ثبوت الإرث لها:
القول الأول:
أن الزوجة تستحق المهر كاملًا إذا كان المهر قد سمي، ولها مهر مثلها إن لم يكن قد سمي، وهذا مذهب الحنفية
(1)
، وصحيح مذهب الحنابلة
(2)
، ومروي عن الشافعي قال الترمذي: «
…
وروي عن الشافعي أنه رجع بمصر بعدُ عن هذا القول، وقال بحديث بروع بنت واشق»
(3)
وحكاها ابن عبد البر عن الشافعي في رواية البويطي عنه
(4)
.
واستدلوا بما تقدمه
(5)
من حديث ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق. فقال:«لها الصداق كاملًا وعليها العدة، ولها الميراث» فقال معقل بن سنان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت وَاشِق بمثل ذلك.
قال الشوكاني في نيل الأوطار
(6)
(1)
ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 63)، شرح فتح القدير (3/ 325).
(2)
ينظر: المغني (7/ 189)، المبدع (7/ 167).
(3)
السنن (3/ 451). وانظر: المهذب (2/ 60).
(4)
الاستذكار (5/ 426).
(5)
ص (597).
(6)
(6/ 318).
القول الثاني:
ذهب مالك
(1)
، والشافعي
(2)
إلى أنه لا مهر لها، لأنها فرقة وردت عن تفويض صحيح قبل فرض ومسيس؛ فلم يجب لها مهر كفرقة الطلاق.
ونوزعوا في هذا الاستدلال، قال ابن قدامة بعد إيراده حديث بروع بنت واشق:«وهو نص في محل النزاع؛ ولأن الموت معني يكمل به المسمى فكمل به مهر المثل للمفوضة كالدخول، وقياس الموت على الطلاق غير صحيح؛ فإن الموت يتم به النكاح، فيكمل به الصداق، والطلاق يقطعه ويزيله قبل إتمامه، ولذلك وجبت العدة بالموت قبل الدخول، ولم تحب بالطلاق، وكمل المسمى بالموت، ولم يكمل بالطلاق»
(3)
.
وضعفوا حديث ابن مسعود المتقدم، وقد تبين صحته.
الراجح:
والراجح القول الأول؛ لأن كل قياس مقابل النص فاسد، ورحم الله أبا عبد الله الشافعي حين قال بعد إيراده حديث بروع بنت واشق:«فإن كان ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أولى الأمور بنا، ولا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم وإن كثروا، ولا في قياس، فلا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم» .
وانظر -رحمك الله- إلى إنصاف الشرع للمرأة فقد فرض لها المهر زيادة على الإرث مقابل العدة. فلله الحمد على نعمة العظيمة.
(1)
ينظر: تفسير القرطبي (3/ 199)، الاستذكار (5/ 426).
(2)
ينظر: الأم (5/ 68)، الإقناع للماوردي (1/ 141).
(3)
المغني (7/ 189).
المبحث الخامس: استحقاق الزوجة نصف الصداق
إذا وقع الطلاق قبل الوطء والخلوة الصحيحة لزم نصف المهر المسمى، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم
(1)
، وفي ذلك يقول الرب جل وعلا:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}
(2)
.
يقول الشيخ السعدي في تفسيره
(3)
: «أي: إذا طلقتم النساء قبل المسيس وبعد فرض المهر، فللمطلقات من المهر المفروض نصفه، ولكم نصفه. هذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة بأن تعفو عن نصفها لزوجها إذا كان يصح عفوها (أو يعفو الذي بيده عقد النكاح) وهو الزوج على الصحيح؛ لأنه الذي بيده حل عقدته، ولأن الولي لا يصح أن يعفو عن ما وجب للمرأة لكونه غير مالك ولا وكيل، ثم رغب في العفو، وأنّ من عفا كان أقرب لتقواه، لكونه إحسانًا موجبًا لشرح الصدر، ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف، وينسي الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة؛ لأن معاملة الناس فيما بينهم على
(1)
ينظر: الأم (5/ 71)، المغني (7/ 173)، روضة الطالبين (7/ 314)، البحر الرائق (3/ 168)، الثمر الداني (1/ 469).
(2)
البقرة: (237).
(3)
درجتين إما عدل وإنصاف واجب، وهو أخذ الواجب وإعطاء الواجب. وإمّا فضل وإحسان وهو إعطاء ما ليس بواجب، والتسامح في الحقوق، والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة ولو في بعض الأوقات خصوصًا لمن بينك وبينه معاملة أو مخالطة».
فإن طلق الرجل المرأة قبل الدخول عليها أو الخلوة بها، وبعد العقد المسمى فيه المهر وجب لها النصف إلا أن تعفو المرأة عن حقها فيسقط عن الرجل الواجب، أو يعفو هو عن حقه فيكون المهر كاملًا للمرأة، وأوضح الرب جلا وعلا أن العفو أقرب للتقوى، فأقربهما للتقوى من عفا.
المبحث السادس: متعة المطلقات
ومن حقوق المرأة المطلقة حق المتعة.
والمتعة: مبلغ من المال يختلف باختلاف حال الزوج يسرًا وعسرًا، يدفعه الزوج لمطلقته
(1)
.
وفي هذا المبحث مطلبان:
المطلب الأول: مقدار المتعة.
المطلب الثاني: مذاهب العلماء في حكمها.
المطلب الأول: مقدار المتعة
يقول ابن عبد البر: «لم يختلف العلماء أن المتعة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه بقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}
(2)
وقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}
(3)
أنها غير مقدرة ولا محددة، ولا معلوم مبلغها، ولا معروف قدرها معرفة وجوب لا يتجاوزه، بل هي على الموْسِع بقدره، وعلى المُقْتِر
(1)
ينظر: النهاية (4/ 292)، لسان العرب (8/ 303)، مادة (م ت ع).
(2)
البقرة: (241).
(3)
البقرة: (236).
أيضًا بقدره، متاعًا بالمعروف كما قال الله عز وجل لا يختلف العلماء في ذلك»
(1)
.
ومتّع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبين رازقييّن، أخرج البخاري في صحيحه
(2)
من طريق عباس بن سهل، عن أبيه وأبي أسيد قالا: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شَراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين
(3)
.
قال ابن التين: «متعها بذلك إما وجوبًا وإما استحبابًا»
(4)
.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف
(5)
، وابن جرير في التفسير
(6)
عن سفيان، عن إسماعيل بن علية، عن ابن عباس قال:«أرفع المتعة الخادم، ثم دون ذلك الكسوة، ثم دون ذلك النفقة» .
وإسناده صحيح على شرط البخاري. وصححه الألباني
(7)
.
وأخرج ابن أبي شيبة
(8)
في المصنف أن عبد الرحمن بن عوف متع امرأته، التي
(1)
الاستذكار (6/ 118). انظر: المبسوط للسرخسي (6/ 61)، تفسير القرطبي (3/ 229)، الفتح (9/ 406).
(2)
كتاب الطلاق، باب: من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟ (5/ 2012)4956.
(3)
قال الحافظ: «والرازقية ثياب من كتان بيض طوال. قاله أبو عبيدة. وقال غيره: يكون في داخل بياضها زرقة، والرازقي: الصفيق» الفتح (9/ 272).
(4)
عزاه له الحافظ في الفتح (9/ 359)، والعيني في عمدة القارئ (20/ 232).
(5)
(4/ 141)18715.
(6)
(2/ 533).
(7)
إرواء الغليل (6/ 361).
(8)
(4/ 141) 18708 - 18709 - 18710.
طلق، جارية سوداء.
وأخرج -أيضًا-: أن أنس بن مالك متع امرأته بثلاث مئة.
وأخرج أن الحسن بن علي متع امرأته بعشرة آلاف.
وأورد آثارًا أُخَرَ عن السلف الصالح يمكن مراجعتها إن رمت الزيادة.
المطلب الثاني: مذاهب العلماء في حكم المتعة
اختلف العلماء في حكم المتعة على أقوال:
القول الأول: وجوب المتعة لكلِّ مطلقةٍ:
وجوب المتعة لكل مطلقة، وبهذا قال علي بن أبي طالب، والحسن، وسعيد بن جبير، وأبو قلابة، والزهري، وقتادة، والضحاك، وأبو ثور
(1)
. وأحمد بن حنبل في رواية حنبل عنه
(2)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
(3)
.
وقد دل قوله (حقًا) على الوجوب، وقوله (على المتقين) تأكيد للإيجاب
(4)
، وابتدأها بقوله (وللمطلقات) وظاهرها يدل على أن المتعة حق لكل مطلقة على مطلقها المتقي سواء أطلقت قبل الدخول أم لا، فرض لها صداق أم لا، ويدل لهذا العموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
(1)
عزاه لمن تقدم ابن عبد البر في الاستذكار (6/ 120)، وابن قدامة في المغني (7/ 184).
(2)
المغني (7/ 184).
(3)
البقى: (241).
(4)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 137).
وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}
(1)
مع قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} وقد تقرر في الأصول أن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم يعم حكمه جميع الأمة إلا أن يقوم دليل على الخصوصية
(2)
.
2 -
(3)
.
دل قوله تعالى (ومتعوهن) على الوجوب؛ لأنه أمر، والأمر يدل على الوجوب حتى يقوم الدليل على الندب، ولا دليل هنا على الندب؛ وقوله (حقًا على المحسنين) تأكيد لإيجابه؛ إذ جعلها من شرط الإحسان، وعلى كل أحد أن يكون محسنًا
(4)
، ثم تأمل (حقًا)(وعلى) فإن الحقية تقتضي الثبوت، و (على) كلمة إلزام وإثبات، والجمع بينهما يقتضي التأكيد
(5)
.
3 -
(6)
وظاهر عموم الآية يشمل المفروض لها
(1)
الأحزاب: (28).
(2)
انظر: أضواء البيان (1/ 151).
(3)
البقرة: (236).
(4)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 137).
(5)
بدائع الصنائع (2/ 302).
(6)
الأحزاب: (49).
الصداق وغيره إن طلق قبل المسيس
(1)
.
4 -
ما تقدم
(2)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها، ويكسوها ثوبين رازقيين.
قال ابن التين: متعها بذلك إما وجوبًا وإما استحبابًا.
وأجيب عن هذا الاستدلال باحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يسم لها صداقًا فمتعها، ويحتمل أنه كان سمي لها فمتعها إحسانًا منه وتفضلًا
(3)
.
القول الثاني: المتعة مستحبة لكل مطلقة، لا واجبة:
أن المتعة مستحبة لكل مطلقة، وليست بواجبة، لا فرق بين المطلقة قبل الدخول أو بعده، والمفروض لها وغير المفروض لها، ذهب إلى هذا شريح، والليث بن سعد، وابن أبي ليلى»)
(4)
، ومالك
(5)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} قالوا: فلو كانت واجبة لكانت حقًا على كل أحد، ولم تقصر على المحسنين والمتقين.
وأجيب بأنه إنما ذكر المتقين، والمحسنين تأكيدًا لوجوبها، وليس تخصصيهم بالذكر نفيًّا عن غيرهم كما قال تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وهو هدى للناس كافة
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (1/ 151).
(2)
ص (611).
(3)
ينظر: سبل السلام (3/ 153).
(4)
عزاه لمن تقدم الماوردي في الحاوي (13/ 101).
(5)
ينظر: الاستذكار (6/ 121).
وليس لأحد أن يقول: لست متقيًّا، لوجوب التقوى على جميع الناس
(1)
.
2 -
لو كانت المتعة واجبة لَعَيَّن القدر الواجب فيها، ولكانت مقدرة معلومة كسائر الفرائض في الأموال، فلما لم تكن كذلك خرجت من حد الفروض إلى حد الندب والإرشاد والاختيار وصارت كالصلة والهدية
(2)
.
وأجاب الشنقيطي عن هذا الدليل، فقال بعد أن ذكره:«ظاهر السقوط، فنفقة الأزواج والأقارب واجبة، ولم يعين فيها القدر اللازم»
(3)
.
وليس في ترك تحديد الرب جل وعلا لها ما يسقط وجوبها كنفقات البنين والزوجات، قال الله عز وجل:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(4)
ولم يحدد شيئًا مقدرًا فيما أوجب من ذلك، بل قال عز وجل:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}
(5)
كما قال في المتعة: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} .
القول الثالث: وجوب المتعة للمفوِّضة:
وجوب المتعة للمفوِّضة، وهي المطلقة قبل الدخول التي لم يفرض لها مهر دون غيرها من المطلقات وقال به ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء وجابر
(1)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 138)، أضواء البيان (1/ 152).
(2)
ينظر: الاستذكار (6/ 121).
(3)
أضواء البيان (1/ 152).
(4)
البقرة: (233).
(5)
الطلاق: (7).
بن زيد، والشعبي، والزهري، والنخعي
(1)
، وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه
(2)
، والشافعي
(3)
، وأحمد
(4)
في رواية الجماعة عنه.
واستدلوا بما يأتي:
(5)
ثم قال:
(6)
.
(7)
.
وناقش الطبري هذا الاستدلال في تفسيره
(8)
فقال: «فإن قال قائل: فإن الله
(1)
ينظر: الاستذكار (6/ 122)، المغني (7/ 183).
(2)
ينظر: الجامع الصغير لمحمد بن الحسن (183)، المبسوط للسرخسي (5/ 82)، البحر الرائق (3/ 166).
(3)
ينظر: الأم (5/ 255)، المهذب (2/ 63)، حاشية البجيرمي (3/ 426).
(4)
ينظر: المغني (7/ 185)، المبدع (7/ 16).
(5)
البقرة: (236).
(6)
البقرة: (237).
(7)
ينظر: المغني (7/ 185).
(8)
(2/ 535).
-تعالى ذكره- قد خصص المطلقة قبل المسيس إذا كان مفروضًا لها بقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} إذ لم يجعل لها غير نصف الفريضة. قيل: إن الله -تعالى ذكره- إذا دل على وجوب شيء في بعض تنزيله، ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه الكفاية عن تكريره حتى يدل على بطول فرضه، وقد دل بقوله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} على وجوب المتعة لكل مطلقة فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة، وليس في دلالته على أن للمطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها دلالة على بطول المتعة عنه؛ لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم والمتعة؛ فلما لم يكن ذلك محالًا في الكلام، كان معلومًا أن نصف الفريضة إذا وجب لها، لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة، ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالًا، وكان الله -تعالى ذكره- قد دل على وجوب ذلك لها، وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى ثبت وصح وجوهما لها، هذا إذا لم يكن على أن للمطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل المسيس دلالة غير قول الله -تعالى ذكره-:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} ، فكيف وفي قول الله تعالى ذكره:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى} الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها، وذلك أن الله تعالى ذكره لما قال:{أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} علم أن النصف الآخر هو المفروض له، وأنا المطلقة المفروض لها قبل المسيس لأنه قال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا
لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}، ثم قال تعالى ذكره:{وَمَتِّعُوهُنَّ} فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعًا: المفروض لهن وغير المفروض لهن، فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين سئل البرهان عن دعواه من أصل أو نظير، ثم عكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في شيء منه قولًا إلا ألزم في الآخر مثله» وقد نقلت النص بأكمله لنفاسته، فتأمله.
الراجح من الأقوال:
أن المتعة واجبة لكل مطلقة على حسب يسار الزوج وإعساره، ومرجع التقدير فيها الاجتهاد في ضوء ما تعارف الناس عليه، وهذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، والعصور، والبلاد، ورجح هذه الرواية شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
، و الشنقيطي
(2)
، فهل رأيت دينًا أكرم المرأة كالإسلام، فأوجب على الزوج المتعة في حق كل مطلقة جبرًا لخاطرها، وتطييبًا لنفسها، فصار التمتيع كالمرهم لجرح القلب لكي يتسامح الناس، فيقال: إن فلانًا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر، وهو آسف عليها، معترف بفضلها؛ لا أنه رأى عيبًا فيها أو رابه شيء من أمرها.
(1)
مجموع الفتاوى (32/ 27).
(2)
أضواء البيان (1/ 152).
المبحث السابع: حكم تحديد ولي الأمر للصداق، وإلزام الناس به
وإذا كان الشرع قد رغب في التيسير في المهور ونبذ المغالاة، فهل معن هذا أن لولي الأمر التدخل في تحديد المهر إذا رأى إسراف الناس ومجاوزتهم الحد، وحملهم على أعلى حد للمهر.
الذي يترجح أنه ليس لولي الأمر التدخل في تحديد حد أعلى للمهر للأدلة التالية:
1 -
(1)
.
واختلف أهل العلم في تأويل (قنطار) فقال بعضهم هو ألف ومائتا أوقية، وقال آخرون: اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار، وقال آخرون: مائة رطل من ذهب، وقال آخرون: ملء مسك ثور ذهبًا، وأرجح ما قيل في ذلك أن القنطار هو المال الكثير
(2)
.
يقول ابن العربي المالكي في تفسير الآية: «فيه جواز كثرة الصداق، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يقللون فيه»
(3)
ويقول القرطبي: «قوله تعالى:
(1)
النساء: (20).
(2)
انظر عزو جميع ما تقدم من الأقوال عند ابن جرير في تفسيره (3/ 199 - 203).
(3)
أحكام القرآن (1/ 364).
{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} دليل على جواز المغالاة في المهور؛ لأن الله لا يمثل إلا بمباح»
(1)
ويقول ابن كثير: «في هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل»
(2)
.
2 -
ما قاله القرطبي رحمه الله بأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح.
3 -
لو أن إعطاء القنطار للمرأة مهرًا، أو الالتزام به في الذمة من المحرمات شرعًا، لما في الله تعالى عن استرداد شيء منه بعد إعطائه، أو بعدم الوفاء بإيتائه للمرأة إن كان في الذمة؛ لأن الوفاء بالتزام الحرام لا يجوز؛ ولأن معطي الحرام لا يمنع من استرداده.
4 -
إجماع العلماء
(3)
على أنه لا حد لأكثر المهر المسمى.
5 -
قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}
(4)
.
دون تقييد كلمة «بأموالكم» بقلة أو كثرة، فيدخل في مفهوم «بأموالكم» المال الكثير، فيجوز جعله مهرًا. يقول القرطبي: «فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى (بأموالكم) في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح
…
قال الشافعي: كل ما جاز أن يكون ثمنًا لشيء، أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقًا، وهذا قول جمهور أهل العلم، وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها كلهم أجازوا الصداق بقليل المال وكثيره»
(5)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 99).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 466).
(3)
انظر ص (589) فما بعدها.
(4)
النساء: (24).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 128) وانظر: التفسير الكبير للرازي (10/ 38).
6 -
إن الأصل الأصيل في الشريعة الإسلامية عدم المساس بحرية الإنسان في دار الإسلام ما دامت حريته تحول وتتحرك في حدود المباحات، ولا ضرر فيها على الآخرين؛ لأن ما أباحته الشريعة أوكلته إلى حرية الفرد، إن شاء فعله، وإن شاء تركه، إلا إذا اقتضت المصلحة العامة المؤكدة، أو الضرورة المعتبرة شرعًا لظروف خاصة أمرًا غير ذلك، أما بدون هذا المبرر الشرعي فليس من حق ولي الأمر التدخل في حرية الإنسان في تحريم ما أباحه الله له، أو ما استحبه دون إيجابه.
7 -
إذا حدد ولي الأمر المهر، وألزم الناس به، فسيلجأ الناس إلى اعتماد مهرين: الأول: مهر السر، والثاني: مهر العلانية، وسيكون ذلك سببًا للنزاع والخلاف بين الزوجين ولا سيما عند الفرقة بينهما، وقد يمتد النزاع بين عائلتي الزوجين إذا وقعت الفرقة بسبب وفاة أحدهما، وذلك بأن يتمسك أحد الطرفين مهر العلانية؛ لأنه الأصلح له لكونه هو الأقل عادة، ويمكن إثباته، بينما يتمسك الطرف الآخر بمهر السر؛ لأنه أكثر من مهر العلانية.
8 -
الزواج والمهر من أخص خصوصيات الرجل والمرأة، فلا يجوز التدخل في ذلك مطلقًا ما داما يعقدان عقد النكاح وفق الضوابط الشرعية، وقد اتفقا ورضيا بالمهر الذي سمياه في عقد النكاح تسمية صحيحة.
9 -
تحديد حد أعلى للمهر سيجعل النساء إحدى امرأتين: إمّا أن يكون الحد الأعلى أقل مما تطمح إليه نظرًا لحالتها الاجتماعية، أو مواصفاتها، فتلجأ هي وأولياؤها إلى المطالبة بمهر أكثر من المقرر، وفي حالة الامتناع س ترغب بنفسها عنه.
وقد تطمح بعض النسوة إلى الحد الأعلى في المهور مع أنها لا تستحق هذا المهر إمّا لوسطها الاجتماعي أو أي سبب آخر، وهذا يؤدي إلى عزوف الخطاب عنها، وقلة رغبتهم فيها.
10 -
لم ينقل إلينا أن تحديد المهر جرى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه الراشدين، مع قلة ذات اليد، ولم يطالب الفقهاء بوضع حد له، فدل على أن الله أطلق المهر، فلا مساغ لتحديده
(1)
.
• ولعل سائلًا يسأل: وما السبيل إلى اعتدال الناس في المهور؟
فالجواب أن ذلك ممكن تحقيقه عن طريق الآتي:
1 -
توعية الناس بالغرض من الزواج، فهو وسيلة لتكثير النسل، وتكوين أسرة مسلمة تعبد الله في أرضه و تقيم شرعه، وإحصان للرجل، وإعفاف للمرأة، وسكن ومودة، فالزواج إذن وسيلة لتحقيق مقاصد شرعية عليا، ولا شك أن التعجيل بإيجاد هذه الوسيلة يعجل في تحقيق هذه المقاصد، ولا ينبغي لعاقل أو عاقلة أن يجعل المهر العالي عائقًا لهذا كله.
2 -
على العلماء وطلبة العلم أن يبينوا للعوام أنَّ مِنْ عضْل ولي الأمر: المغالاة في المهر لا سيما إن وجد للأيم الكفء.
3 -
الزواج معني سامٍ لا بيع وشراء، إنما هو إقامة لسنة من سنن الإسلام، وهدي سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.
4 -
الاقتداء بالسلف الصالح، وضرب الأمثلة للناس بما كانوا عليه من قلة المهور، وحرصهم على الرجل الكفء المرضي دينًا وخلقًا.
5 -
تدريس الآيات والأحاديث المرغبة في الاعتدال في المهور في مناهج التعليم، ونشرها في وسائل الإعلام، ومدارستها في المساجد.
(1)
انظر: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم (7/ 73 - 76).
الفصل الثاني حق المرأة في النفقة
يشتمل هذا الفصل على مبحثين:
المبحث الأول: تعريف النفقة.
المبحث الثاني: أقسام النفقة.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: نفقة القرابة.
المطلب الثاني: نفقة الملك.
المطلب الثالث: النفقة الزوجية.
المبحث الأول: تعريف النفقة
كما كفل الإسلام للمرأة بداية عرسها المهر، فإنه يكفل لها في أثنائه النفقة عليها، وتمتد النفقة من قبل الرجل على مولودته، وابنته، وأمه، ومن قرب منه من الأصول كما سيأتي بيانه.
تعريف النفقة:
• النفقة في اللغة: مأخوذة من مادة النفوق. تقول: نفق الفرس والدابة أي: مات أو هلك.
أو من النَّفاق تقول: نفق البيع نفاقًا إذا راج
(1)
.
ويستفاد مما سبق أن النفقة إهلاك المال لمصلحة الآخر، وروجانه في يده.
• وفي الشرع: عرّفها الأحناف بقولهم: الإوراد على الشيء. ما به بقاؤه
(2)
.
وعرّفها ابن عرفة المالكي: ما به قوام معتاد حال الآدمي دون سرف
(3)
.
وعرّفها الشافعية بأنها: طعام مقدر لزوجة وخادمها على زوج، ولغيرهما من أصل وفرع ورقيق وحيوان ما يكفيه
(4)
.
(1)
ينظر: مختار الصحاح (2/ 118)، لسان العرب (12/ 235) مادة (ن ف ق).
(2)
حاشية ابن عابدين (3/ 572).
(3)
الخرشي على مختصر خليل (4/ 18).
(4)
حاشية الشرقاوي على شرح التحرير (2/ 303).
وعرّفها الحنابلة بأنها: كفاية من يمونه خبزًا وأدمًا وكسوة ومسكنًا وتوابعها
(1)
.
والناظر فيما سبق يجد أن التعاريف متفقة من حيث المعنى والغرض وإن اختلفت عباراتها في الظاهر بالنسبة للألفاظ.
ثم إن هذه التعريفات تجمع الأمور المتفق عليها كالطعام والشراب، واللباس، والسكن، ويظهر بجلاء تام أن تعريف الحنفية، والشافعية، والحنابلة للنفقة أدق وأشمل؛ لتضمنها كل ما ينفقه الإنسان على نفسه وغيره، وتناولها الأقسام النفقة الواجبة، وأنواعها المختلفة وعدم تخصيصها بالنفقة الزوجية فحسب.
ولم يفرد الفقهاء فيما وقع نظري عليه تعريفًا خاصًا للنفقة الزوجية اكتفاء تعاريفهم للنفقة تعريفًا عامًا، ولكن يمكن استخلاص تعريف لها من ثنايا السطور، ومن مجموع ما كتبوه على النحو التالي:
ما يجب على الزوج شرعًا نحو زوجته من طعام وشراب وملبس ومسكن وفراش وخدمة وما يتبع ذلك حسب العرف في إطار القواعد الشرعية
(2)
.
(1)
كشاف القناع (5/ 532).
(2)
انظر: أحكام النفقة الزوجية في الشريعة الإسلامية لمحمد يعقوب (21).
المبحث الثاني: أقسام النفقة
تنقسم النفقة باعتبار أسبابها إلى ثلاثة أقسام:
1 -
نفقة قرابة .... 2 - نفقة ملك .... نفقة زوجية.
وفي الآتي حديثٌ عن هذه الأقسام.
المطلب الأول: نفقة القرابة
وهي النفقة التي تحب للقريب المعسر على قريبه الموسر بسبب الرحم المحرمية الواصلة بينهما على اختلاف بين الفقهاء في حصتها.
واختلف الفقهاء في تحديد القرابة الموجبة للإنفاق: فذهب المالكية
(1)
والشافعية
(2)
إلى أنها قرابة الولادة مطلقًا، وذهب الأحناف
(3)
إلى أنها القرابة المحرمة للزواج لا غير، وذهب الحنابلة
(4)
إلى أنها القرابة التي يكون فيها القريب وارثًا لقريبه فتجب للأصول على الفروع والعكس، كما تحب بين سائر الأقارب من كانوا وارثين بالفرض أو التعصيب كالإخوة والأعمام وأبنائهم.
حكم نفقة القرابة:
حكمها الوجوب.
(1)
ينظر: حاشية الدسوقي (2/ 522).
(2)
ينظر: مغني المحتاج (3/ 446).
(3)
ينظر: بدائع الصنائع (4/ 30).
(4)
ينظر: كشف القناع (5/ 557).
أدلة على وجوها من السنة:
والدليل على ذلك:
1 -
أخرج ابن ماجه في السنن
(1)
، والطحاوي في شرح معاني الآثار
(2)
و مشكل الآثار
(3)
، والطبراني في الأوسط
(4)
عن عيسى بن يونس، ثنا يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال:«أنت ومالك لأبيك» واللفظ لابن ماجه.
قال البزار: صحيح. وقال المنذري: إسناده ثقات
(5)
.
وصححه عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الكبرى
(6)
. وقال البوصيري: إسناد صحيح، رجاله ثقات على شرط البخاري
(7)
. قلت: وهو كماقال. وصححه الألباني في الإرواء
(8)
، وتتبع شواهده.
• وله شاهد أخرجه أحمد في المسند
(9)
، وأبو داود في السنن
(10)
، وابن ماجه
(1)
(2/ 768)2291.
(2)
(4/ 158).
(3)
(2/ 230).
(4)
(4/ 31)3534.
(5)
نقله عنه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 203).
(6)
(1/ 201)1204.
(7)
مصباح الزجاجة (3/ 37).
(8)
(3/ 323)838.
(9)
(11/ 261)6678.
(10)
(3/ 289)3530.
في السنن
(1)
، والبيهقي في الكبرى
(2)
من طرق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: أتي أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي يريد أن يَجْتَاح مالي؟ قال: «أنت ومالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أموال أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئًا» .
وإسناده حسن؛ لأنه من رواية عمرو بن شعيب وقد تقدم تحقيق القول في روايته
(3)
.
وبوّب على الحديث أبو داود: «باب: في الرجل يأكل من مال ولده» وابن ماجه «باب: ما للرجل من مال ولده» .
وقال الترمذي بعد أن أخرج حديث عائشة بنحو حديث عبد الله بن عمرو: «
…
والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم قالوا: إن يد الوالد مبسوطة في مال ولده يأخذ ما شاء، وقال بعضهم: لا يأخذ من ماله إلا عند الحاجة إليه»
(4)
.
وقال الخطابي: «فيه من الفقه أن نفقة الوالدين واجبة على الولد إذا كان واجدًا لها، واختلفوا في صفة من يجب لهم النفقة من الآباء والأمهات. فقال الشافعي: إنما يجب ذلك للأب الفقير الزمن، فإن كان له مال أو كان ص حيح البدن غير زمن فلا نفقة له عليه.
وقال سائر الفقهاء: نفقة الوالدين واجبة على الولد، ولا أعلم أن أحدًا منهم
(1)
(2/ 769)2291.
(2)
(7/ 480).
(3)
ص (198 - 200).
(4)
السنن (3/ 639).
اشترط فيها الزمانة كما اشترط الشافعي»
(1)
.
وقال ابن قدامة في المغني
(2)
: «وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ويتملكه مع حاجة الابن إلى ما يأخذه، ومع عدمها صغيرًا كان الولد أو كبيرًا بشرطين:
أحدهما: ألا يجحف بالابن، ولا يضر به، ولا يأخذ شيئًا تعلقت به حاجته.
الثاني: ألّا يأخذ من مال ولده، فيعطيه الآخر، نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، وذلك لأنه ممنوع من تخصيص بعض ولده بالعطية من مال نفسه؛ فلأن يمنع من تخصيصه. ما أخذ من مال ولده الآخر أولى.
2 -
أخرج مسلم
(3)
في صحيحه من حديث جابر قال: أعتق رجل من بني عذرة عبدًا له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مال غيره؟ فقال: لا. فقال: «من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم» فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثم قال:«ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك» قال النووي: «في هذا الحديث فوائد، منها: الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب، ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قُدِّم الأوكد فالأوكد»
(4)
.
3 -
أخرج البخاري في صحيحه
(5)
من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(1)
معالم السنن (12/ 323).
(2)
(5/ 395).
(3)
كتاب الزكاة، باب: الابتداء في النفقة بالنفس، ثم أهله، ثم القرابة (2/ 692)997.
(4)
شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 83).
(5)
كتاب النفقات، باب: وجوب النفقة على الأهل ولاعيال (5/ 2048)5040.
«أفضل الصدقة ما ترك غين، واليد العليا خير من اليد السفلي، وابدأ بمن تعول. تقول المرأة: إما أن تطعمي، وإما أن تطلقني. ويقول العبد: أطعمي واستعملي. ويقول الابن: أطعمني؛ إلى من تدعي؟!. فقالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة.
وبوّب البخاري على هذا الحديث في كتاب النفقات، باب: وجوب النفقة على الأهل والعيال.
قال العين في عمدة القارئ
(1)
4 -
أخرج مسلم في صحيحه
(2)
من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه» .
قال النووي: «ومن عالهما قام عليهما بالمؤونة والتربية ونحوهما، مأخوذ من العول وهو القرب، ومنه ابدأ بمن تعول»
(3)
.
5 -
أخرج عبد بن حميد في مسنده)
(4)
، وأحمد في المسند
(5)
، وابن أبي الدنيا في العيال
(6)
، وابن حبان في صحيحه
(7)
، والخطيب في تاريخ بغداد
(8)
من طرق
(1)
(21/ 14).
(2)
كتاب البر والصلة، باب: فضل الإحسان إلى البنات (4/ 2027)2631.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 180).
(4)
1378.
(5)
(19/ 480)12498.
(6)
(1/ 256)110.
(7)
(2/ 191)4471.
(8)
(11/ 80) عند ترجمة عبد الكريم بن إبراهيم (5758).
عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس أو غيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عال ابنتين أو ثلاث بنات، أو أختين أو ثلاث أخوات حتى يينِّ أو يموت عنهن كنت أنا وهو كهاتين» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى.
وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والشك في صحابيه لا يضر، وقد جاء من طريق ثابت وغيره دون شك.
وصححه الألباني في الصحيحة
(1)
.
• وأخرج الإمام أحمد في المسند
(2)
، والطبراني في الكبير
(3)
من حديث أم سلمة رضي الله عنها وفيه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنفق علي ابنتين، أو أختين، أو ذواتي قرابة، يحتسب النفقة عليهما حتى يغنيهما الله م ن فضله عز وجل، أو يكفيهما كانتا له سترًا من النار» واللفظ لأحمد.
قال الهيثمي: «رواه أحمد والطبراني، وفيه محمد بن حميد المدني وهو ضعيف»
(4)
وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب
(5)
. وما قبله شاهد له.
وفيه دليل صريح على النفقة على الأخوات.
6 -
أخرج النسائي في المجتبى
(6)
، والدارقطني في السنن
(7)
، وابن حبان في
(1)
(1/ 592)296.
(2)
(44/ 134)26516.
(3)
(23/ 102)938.
(4)
مجمع الزوائد (8/ 157).
(5)
(2/ 412)1974.
(6)
(5/ 61)2532.
(7)
(3/ 44)186.
صحيحه
(1)
، والحاكم في المستدرك
(2)
، والبيهقي في الكبرى
(3)
، والمقدسي في المختارة
(4)
من طرق عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن جامع بن شداد، عن طارق المحاربي قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس، وهو يقول:«يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك» وهو عند النسائي مختصر. واللفظ له.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال المقدسي: إسناده صحيح. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي
(5)
.
• الإجماع:
(6)
.
• شروط وجوب نفقة القرابة:
اشترط أهل العلم لوجوب نفقة الأقارب شروطًا فيما يلي تفصيلها:
(1)
(8/ 130)3341.
(2)
(2/ 668)4219.
(3)
(6/ 20)10879.
(4)
(8/ 127)141.
(5)
(5/ 61)2532.
(6)
نقله عن ابن المنذر ابن قدامة في المغني (8/ 169)، وابن مفلح في المبدع (8/ 213).
أ- ما يشترط لوجوب نفقة الفرع:
1) أن يكون الأصل قادرًا على الإنفاق على الفرع، وقد اتفق الفقهاء بأن نفقة الآباء على أبنائهم لا يشترط لوجوبها يسر الآباء، وإنما الشرط في وجوبها هو القدرة فقط حتى ولو كان الأب معسرًا، ولا يسقط وجوبها عن الأب إلا إذا كان عاجزًا بحيث تكون نفقته على غيره من الأصول أو الفروع، فإنه في هذه الحالة يسقط عنه الوجوب، ويعتبر في حكم المعدوم؛ لأنه لا يسوغ عقلًا أن توجب عليه نفقة غيره، وهو يأخذ نفقته من غيره.
2) أن يكون الفرع فقيرًا، لأن الأصل أن يتحمل الإنسان نفقه نفسه.
3) أن يكون الفرع عاجزًا عن التكسب ويتحقق ذلك ما يلي:
أ- الصغر.
ب. المرض الذي يحول دون العمل والكسب.
ج- طلب العلم الذي يشغل صاحبه عن التكسب.
د- الأنوثة والمراد بها التي لا تتكسب ما يفي بحاجتها
(1)
.
ب- شروط وجوب نفقة الأصول:
1) أن يكون الأصل فقيرًا لا مال له.
2) أن يكون الفرع موسرًا أو قادرًا على العمل والتكسب.
ويلاحظ بالنسبة للنفقة الواجبة للأصول على فروعهم بأن عجز الأصول عن
(1)
ينظر: مختصر الخرقي (1/ 113)، المهذب (2/ 165)، المبسوط للسرخسي (5/ 224)، بدائع الصنائع (14/ 30)، المغني (5/ 395)، المبدع (8/ 213)، روضة الطالبين (9/ 83)، نيل الأوطار (7/ 129).
الكسب ليس مشروطًا فيها، فتجب نفقة الأب على ابنه ما دام محتاجًا حتى ولو كان الأب قادرًا على التكسب، وكذلك الحد وإن علا من جهة الأب أو من جهة الأم؛ لأنه سبحانه في عن إيذاء الآباء، وفي إلزامهم بالعمل مع غناهم إيذاء؛ ولأن الولد كسب أبيه.
جـ- ما يشترط لنفقة الحواشي:
1) عجزهم عن التكسب مع فقرهم.
2) يسار من تحب عليه النفقة؛ لأن النفقة بذل وتحمل، ولن يتحقق ذلك إلا إذا كان الباذل المتحمل موسرًا يسرًا يمكنه من تحمل عبء الإنفاق على غيره.
3) اتحادهما في الدين.
4) أن يكون المنفق وارثًا للمنفق عليه بفرض أو تعصيب
(1)
.
ومن هنا يتبين أن نفقة المرأة: الأم وإن علت، والبنت وإن نزلت، والأخت، المحتاجات حق على القريب الموسر؛ تطالبه به، وتعطى إياه، منة ورحمة من الله لها.
المطلب الثاني: نفقة المِلْك
تكلم الفقهاء في هذا النوع على أصناف ثلاثة: الرقيق، والحيوان، والجماد.
وسأخص الصنف الأول منها بالذكر؛ لارتباطه بالخدم من جهة انتفاع الإنسان منه بالخدمة؛ ولأن أهل العلم نصوا على وجوب نفقة الخادم؛ ولا يكاد بيت يخلو منهم ولا سيما في بعض البلدان.
(1)
المصادر السابقة.
حكم نفقة المِلْك:
نقل الطحاوي الإجماع على أن الزوج ليس له إخراج خادم المرأة من بيته، فدل على أنه يلزمه نفقة الخادم على حسب الحاجة إليه
(1)
.
وقال الشافعي
(2)
، والكوفيون
(3)
: يفرض لها ولخادمها النفقة إذا كانت ممن تخدم. وقال ابن قدامة: «وعلى الزوج نفقة الخادم ومؤونته من الكسوة والنفقة»
(4)
.
الأدلة على ما تقدم:
1 -
ما أخرجه البخاري
(5)
، ومسلم
(6)
من طريق المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألناه عن ذلك، فقال: إني سابت رجلًا فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «أعيرته بأمه؟!» ثم قال: «إن إخوانكم خولكم
(7)
، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطْعمه مما يأكل، وليُلْبِسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن
(1)
ذكر ما تقدم الحافظ في الفتح (9/ 507)، والعيني في عمدة القارئ (21/ 12) بلفظه، وانظر نحو كلام الطحاوي في: مختصر اختلاف العلماء (2/ 371).
(2)
ينظر: روضة الطالبين (9/ 45)، حواشي الشرواني (8/ 336).
(3)
ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 182)، البحر الرائق (4/ 199).
(4)
المغني (8/ 160)
(5)
كتاب العتق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون» (2/ 899)2407.
(6)
كتاب الإيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (3/ 1282)1661.
(7)
قال الحافظ: «الخول -بفتح المعجمة، والواو- هم الخدم، سموا بذلك لأنهم يتخولون الأمور أي يصلحونها، ومنه الخولي لمن يقوم بإصلاح البستان» الفتح (5/ 174)، وانظر: النهاية (1/ 102) مادة (خ و ل).
كلفتموهم فأعينوهم» واللفظ للبخاري.
قال النووي: «(هم إخوانكم) الضمير في «هم إخوانكم» يعود إلى المماليك، والأمر بإطعامهم مما يأكل السيد، وإلباسهم مما يلبس محمول علي الاستحباب، لا على الإيجاب وهذا بإجماع المسلمين، وأما فعل أبي ذر في كسوة غلامه مثل كسوته فعمل بالمستحب، وإنما يجب على السيد نفقة المملوك، وكسوته بالمعروف، بحسب البلدان، والأشخاص، سواء كان من جنس نفقة السيد ولباسه، أو دونه أو فوقه، حتى لو قتر السيد على نفسه تقتيرًا خارجًا عن عادة أمثاله إمّا زهدًا، وإمّا شحًا لا يحل له التقتير على المملوك، وإلزامه موافقته إلا برضاه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كان ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره»
(1)
.
(2)
.
2 -
أخرج مسلم
(3)
من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «للمملوك طعامه وكِسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» .
قال ابن عبد البر في الجمع بين هذا الحديث وما تقدم من حديث أبي ذر: «من جعل قوله «بالمعروف» وهذه زيادة وردت في الموطأ في حديث أبي هريرة»، معارضًا لقوله «أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون» قالوا: المعروف أن العبد لا يساوي سيده في مطعم ولا ملبس، وحسبه أن يكسوه، ويطعمه ما يعرف
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 133).
(2)
الفتح (5/ 175).
(3)
كتاب الإيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (3/ 1284)1662.
لمثله من المطعم والملبس. قالوا: وقوله «أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون» هو أمر معناه الندب والاستحسان، وليس ذلك عليهم بواجب، وعلى هذا مذهب العلماء قديمًا وحديثًا لا أعلم بينهم فيه اختلافًا»
(1)
.
قلت: فمردُّ الإنفاق على الخدم العرف، ومن زاد عليه كان متطوعًا.
3 -
أخرج البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاء به، وقد ولي حره ودخانه فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهًا
(4)
قليلًا، فليضع في يده منه أكلة أو أُكلتين» واللفظ لمسلم.
وبوّب عليه البخاري باب: الأكل مع الخادم، قال الحافظ:«أي على قصد التواضع، والخادم يطلق على الذكر، والأنثى، أعم من أن يكون رقيقًا أو حرًا، محله فيما إذا كان السيد رجلًا أن يكون الخادم إذا كان أنثى ملكه أو محرمه أو ما في حكمه وبالعكس»
(5)
.
قال النووي: «وفي هذا الحديث الحث على مكارم الأخلاق، والمواساة في الطعام لا سيما في حق من صنعه أو حمله؛ لأنه ولي حره ودخانه، وتعلقت به نفسه،
(1)
التمهيد (24/ 290).
(2)
كتاب الأطعمة، باب: الأكل مع الخادم (5/ 2078)5144.
(3)
كتاب الإيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه (3/ 1284)1663.
(4)
المشفوه: القليل، وأصله الماء الذي تكثر عليه الشفاه حتى يقل، فقوله:«مشفوهًا قليلًا» أي: قليلًا بالنسبة لمن اجتمع عليه. ينظر: غريب الحديث للحربي (2/ 820)، النهاية (2/ 488) مادة (ش ف هـ)، الفتح (9/ 582).
(5)
الفتح (9/ 582).
وشم رائحته، وهذا كله محمول على الاستحباب»
(1)
.
4 -
ما تقدم
(2)
من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني. ويقول العبد: أطعمني واستعملني. ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟ قالوا: يا أبا هريرة هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت؟ قال: الا. هذا من كيس أبي هريرة.
وبوّب عليه البخاري باب: وجوب النفقة على الأهل والعيّال.
ووجه الدلالة: «ويقول العبد: أطعمني واستعلمني» ووقع في رواية الإسماعيلي: «ويقول خادمك أطمعني وإلا فبعني»
(3)
.
فما دام أن الخادم محتبس لخدمة مخدومه، وجب على المخدوم إطعامه وكسوته.
ومن مجموع الأحاديث يتبين أن من حقوق المرأة المالية إذا كانت خادمةً: إطعامها وكسوها بالمعروف، حقٌّ على مستخدمها، ما لم يكن بينهما شرط بأن أجرها طعامها وكسوقا وهذا جائز عند الفقهاء
(4)
، أو يشترط المخدوم أن على الخادم طعامه وكسوته، بل إن العلماء استحبوا مساواة المخدوم بالخادم في المأكل والملبس كما تقدم، وإجلاس الخادم مع مخدومه للأكل معه، وإن لم يُجْلِسْه ناوله من المطعوم؛ لأن للعين حظًا في المأكول فينبغي صرفها بإطعام صاحبها من ذلك الطعام لتسكن نفسه. فهل رأيت دينًا أولى جميع أفراده هذه العناية كهذا الدين الذي ختم الله به الملل، ورضيه للعباد دينًا؟!.
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 135).
(2)
ص (631).
(3)
الفتح (9/ 411).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى (32/ 165)، إغاثة اللهفان (2/ 30)، إعلام الموقعين (1/ 334).
المطلب الثالث: نفقة الزوجية
النفقة الزوجية ما يجب على الزوج شرعًا نحو زوجته من طعام وشراب وملبس وفراش وخدمة، وما يتبع ذلك حسب العرف في إطار القواعد الشرعية
(1)
.
وفي هذا المطلب عشر مسائل:
المسألة الأولى: حكمها، وأدلة وجوبها.
المسألة الثانية: سبب وجوب النفقة الزوجية.
المسألة الثالثة: مقدار النفقة الزوجية.
المسألة الرابعة: توابع النفقة الزوجية.
المسألة الخامسة: امتناع الزوج عن الإنفاق.
المسألة السادسة: نفقة زوجة الغائب.
المسألة السابعة: نفقة الزوجة المريضة.
المسألة الثامنة: نفقة الزوجة الموظفة.
المسألة التاسعة: نفقة الناشز.
المسألة العاشرة: نفقة المعدات من طلاق.
المسألة الأولى: حكمها، وأدلة وجوبها:
اتفق الفقهاء
(2)
على أن حكم النفقة الزوجية الوجوب بوصفها حكمًا وأثرًا
(1)
ينظر: أحكام النفقة الزوجية (21).
(2)
ينظر: بدائع الصنائع (4/ 23)، المهذب (2/ 166)، المغني (8/ 156)، مجموع الفتاوى (26/ 114)، حواشي الشرواني (18/ 301)، التاج والإكليل (4/ 187).
من آثار عقد الزواج الصحيح، وحقًا من حقوقه الثابتة للزوجة على زوجها بمقتضى عقد النكاح المعتبر شرعًا.
ولذلك تحب على الزوج حتى ولو كانت الزوجة غنية، مسلمة كانت أم كتابية؛ لأن سبب وجوبها هو الزواج الصحيح، وهو أمر متحقق في جميع الزوجات.
واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة، والإجماع، والمعقول.
أدلة الكتاب:
1 -
قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}
(1)
.
يقول القرطبي: «أي لينفق الزوج على زوجته، وعلى ولده الصغير، علي قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعًا عليه، ومن كان فقيرًا فعلي قدر ذلك»
(2)
.
2 -
قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
(3)
.
وتأمل تصدير الآية بـ (على) التي معناها الإلزام والحتمية، والمولود له هو الأب، فعليه رزق وكسوة الوالدات.
3 -
قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ
(1)
الطلاق: (7).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (18/ 170).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 284).
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
(1)
.
يقول الشيخ السعدي: «تقدم أن الله هي عن إخراج المطلقات من البيوت، وهنا أمر بإسكان، وقدر إسكان بالمعروف، وهو البيت الذي يسكنه مثله ومثلها بحسب وجد الزوج وعسره»
(2)
.
وهذه الآية تدل على أن الزوج المطلق مطالب شرعًا بإسكان زوجته المطلقة ما دامت في العدة، لما تعارف عليه العلماء من كون الأمر يدل على الوجوب، وإذا كان الإسكان واجبًا على الزوج لزوجته المطلقة حال قيام عدتها، فمن باب أولى أن يكون مطالبًا شرعًا بنفقة الزوجة التي لم تطلق.
4 -
(3)
.
(4)
.
فالله تعالى أثبت قِوَامة الرجل على المرأة، وأناط ذلك بأمرين:
(1)
الطلاق: (6).
(2)
(3)
النساء: (34).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 169).
الفضيلة
(1)
، والنفقة.
أدلة السنة:
5 -
ما أخرجه البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من حديث عائشة أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
قال النووي: «في هذا الحديث فوائد منها: وجوب نفقة الزوجة. ومنها: وجوب نفقة الأولاد الفقراء الصغار»
(4)
وكذا قال الحافظ
(5)
.
وهذا الحديث أصل عظيم في باب النفقات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للزوجة الحق في أخذ النفقة من مال الزوج -إذ قصّر في الإنفاق عليها-، قَبِل الزوج أو لم يقبل، علم أو لم يعلم، وحدد ذلك بالمعروف.
6 -
ما أخرجه مسلم
(6)
في صحيحه من حديث جابر الطويل في صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه قال في خطبة عرفة: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله
(7)
، ولكم عليهن ألّا يوطئن
(1)
سيأتي تحقيق القول في معنى الآية ص (916).
(2)
كتاب النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف (5/ 2052)5049.
(3)
كتاب الأقضية، باب: قضية هند (3/ 1338)1714.
(4)
شرح النووي (12/ 7).
(5)
الفتح (9/ 509) وسيأتي مزيد بيان له عند مقدار النفقة ص (648).
(6)
كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 886)1218.
(7)
اختلف في معنى (كلمة الله) وصحح النووي أن المراد بها قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} النساء: 3. شرح صحيح مسلم (8/ 184).
فرشكم أحًدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
يقول النووي: «وفيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وذلك ثابت بالإجماع»
(1)
.
وقد أفاد لفظ (هن) أن حق النفقة ثابت بمقتضى الإلزام، وسبحان من أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فقرر في كلماتٍ قليلة تحمل قواعد الحقوق والواجبات الزوجية، وذلك بما تَحْمله من معانٍ عظيمة!.
7 -
ما أخرجه الإمام أحمد في المسند
(2)
، وابن ماجه في السنن
(3)
، والنسائي في الكبرى
(4)
، والطبري في التفسير
(5)
، والطبراني في الكبير
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
من طريق حكيم بن معاوية، عن أبيه معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سأله رجل: ما حق المرأة على زوجها؟ قال: «تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تجر إلا في البيت» واللفظ لأحمد.
وإسناده حسن، فيه حكيم بن معاوية قال الحافظ عنه:«صدوق»
(8)
.
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم (8/ 184).
(2)
(33/ 217)20013.
(3)
(1/ 593)1850.
(4)
(5/ 375)9180.
(5)
(5/ 66).
(6)
(19/ 427)1038.
(7)
(7/ 466)1547.
(8)
التقريب (266)1486.
وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه
(1)
، وله طرق، لم أوردها اختصارًا، يرتقي بها الحديث إلى الصحة.
وفي الحديث النص على الطعام والكسوة، وجعلها حقًا من حقوق المرأة.
8 -
ما تقدم
(2)
من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلي، وابدأ بمن تعول» .
قال الحافظ: «وابدأ بمن تعول» أي بمن يجب عليك نفقته، يقال عال الرجل أهله إذا مَانَهُمْ، أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة، وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب»
(3)
.
وبوّب عليه البخاري باب: وجوب النفقة على الأهل والعيال.
والأهل في الترجمة: الزوجة، وعطف العيال عليها من العام بعد الخاص
(4)
.
• الإجماع:
قال ابن قدامة: «نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة، والإجماع»
(5)
ونقل الإجماع أيضًا النووي في شرح صحيح مسلم
(6)
، وروضة الطالبين
(7)
، والحافظ في الفتح
(8)
، وابن الهمام في شرح فتح القدير
(9)
.
(1)
(2)
ص (631).
(3)
الفتح (9/ 500).
(4)
ينظر: الفتح (9/ 500)، عمدة القارئ (21/ 14).
(5)
المغني (8/ 156).
(6)
(8/ 184).
(7)
(9/ 40).
(8)
(9/ 500).
(9)
(4/ 379).
• المعقول:
ويستدل على وجوب النفقة الزوجية من المعقول أخذًا من القواعد الشرعية المتفق على صحة العمل بها، ومنها: أن من حبس لحق غيره تكون نفقته واجبة عليه
(1)
.
المسألة الثانية: سبب وجوب النفقة الزوجية:
إذا كانت نفقة الزوجة واجبة على زوجها فلا بد أن يكون لهذا الوجوب سبب؛ لأن الأحكام الشرعية تناط بأسبابها، وتدور معها وجودًا أو عدمًا.
وذهب جمهور الفقهاء الأحناف
(2)
، والمالكية
(3)
، والشافعي في مذهبه الجديد
(4)
، والحنابلة
(5)
إلى أن النفقة تحب بالتمكين التام لا بمجرد العقد، والتمكين يكون إذا سلمت المرأة نفسها إلى زوجها، وتمكن من الاستمتاع بها، ونقلها إلى حيث يريد، وهي من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي بنت ست سنين، ودخل بها بعد سنتين
(6)
، ولم ينقل أنه أنفق عليها قبل الدخول، ولو كان حقًا لها لما منعها إياه، ولو وقع لنقل إلينا
(7)
.
(1)
ينظر: بدائع الصنائع (4/ 15)، المغني (8/ 156)، الفتح (9/ 500).
(2)
ينظر: بدائع الصنائع (4/ 16)، فتح القدير (4/ 384)، حاشية ابن عابدين (2/ 886).
(3)
ينظر: حاشية الدسوقي (2/ 508)، التاج والإكليل (4/ 181).
(4)
ينظر: تكملة المجموع شرح المهذب (17/ 76)، مغني المحتاج (3/ 435).
(5)
ينظر: المغني (8/ 159)، المبدع (8/ 201).
(6)
أخرج قصة بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة مع بيان سنها البخاري في صحيحه في كتاب الفضائل باب: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وقدومها المدينة وبنائه بها (3/ 1414)3681.
(7)
ينظر: المغني (7/ 435)، مغني المحتاج (3/ 435).
2 -
حديث جابر المتقدم
(1)
فربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العقد والاستمتاع، ووجوب النفقة، فدل على أن النفقة تحصل بمجموع الأمرين
(2)
.
وقد قالها صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل وفاته ببضعة وثمانين يومًا.
3 -
أن النفقة تحب لاحتباس المرأة لحق الزوج ومصلحته، والاحتباس الموجب للنفقة هو الذي يمكن معه استيفاء الزوج حقوقه الزوجية، والتمكن من الاستمتاع بها متى أراد، والقاعدة تنص على أن كل من حبس لمصلحة غيره و منفعته، فنفقته واجبة على من كان حبسه لمصلحته ومنفعته، ولذلك استحق القاضي وغيره من عمال الدولة الإسلامية رزقهم من بيت المال؛ لتفرغهم الأعمالهم؛ لمنفعة ومصلحة المسلمين
(3)
.
4 -
أن العقد يوجب المهر، والتمكين يوجب النفقة
(4)
.
المسألة الثالثة: مقدار النفقة:
اختلف الفقهاء في تقدير النفقة على أقوال، منها:
القول الأول: ما ذهب إليه جمهور العلماء أبو حنيفة
(5)
، ومالك
(6)
، والشافعي
(1)
ص (644).
(2)
ينظر: الإقناع للشربيني (2/ 484).
(3)
ينظر: بدائع الصنائع (4/ 16)، حاشية ابن عابدين (2/ 886).
(4)
ينظر: الكافي في فقه الحنابلة (3/ 95).
(5)
ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 181)، البحر الرائق (4/ 193).
(6)
ينظر: الاستذكار (6/ 122)، تفسير القرطبي (3/ 160).
في القديم
(1)
، وأحمد
(2)
إلى أن النفقة مقدرة بالكفاية تختلف باختلاف من تحب له النفقة بمقدارها.
واستدل الجمهور بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(3)
.
والله تعالى أطلق في كتابه الرزق والكسوة وشرط في ذلك المعروف، والرزق شيء غير محدد، وإنما هو لبيان الكفاية والوفاء، فالقول بالتحديد زيادة على النص، والزيادة عليه أمر غير جائز شرعًا، ولو كان سبحانه يريد تحديد النفقة، لبيَّنه سبحانه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة
(4)
.
2 -
ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها، وقوله صلى الله عليه وسلم لهند:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
قال النووي: «في هذا الحديث فوائد منها
…
أن النفقة مقدرة بالكفاية لا بالأمداد، ومذهب أصحابنا أن نفقة القريب مقدرة بالكفاية كما هو ظاهر هذا الحديث، ونفقة الزوجة مقدرة بالأمداد على الموسر كل يوم مدان، وعلى المعسر مد، وعلى المتوسط مد ونصف وهذا الحديث يرد على أصحابنا»
(5)
.
وقال شيخ الإسلام: «فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف، ولم يقدر لها نوعًا ولا قدرًا، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبيّن لها القدر والنوع كما بيّن فرائض الزكاة
(1)
ينظر: فتح الباري (9/ 500)، الإقناع للشربيني (2/ 485).
(2)
ينظر: المغني (8/ 157)، الكافي في فقه الحنابلة (3/ 361).
(3)
البقرة: (233).
(4)
ينظر: أحكام النفقة الزوجية (45).
(5)
شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 7).
والديات
…
وإذا كان الواجب هو الكفاية بالمعروف، فمعلوم أن الكفاية تتنوع بحالة الزوجة في حاجتها، وبتنوع الزمان، والمكان، وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره، وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف، ولا كفاية طعامه كطعامه، ولا طعام البلاد الحارة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير المعروف في بلاد الفاكهة والحمير»
(1)
.
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر هندًا بأخذ كفايتها من مال زوجها من غير تقدير معين بل قيد ذلك الأخذ بالكفاية والحاجة، وهي أمر غير مقدر.
3 -
لم يحفظ عن أحد من الصحابة قط تقدير النفقة لا بد ولا برطل، بل الذي اتصل به العمل في كل مصر وعصر ما تقدم أنه بالمعروف
(2)
.
القول الثاني: ذهب الشافعي في الجديد
(3)
، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة
(4)
إلى أنها مقدرة بمقدار محدد. فقال القاضي أبو يعلى: إن المقدار الواجب هو رطلان من الخبز في كل يوم اعتبارًا بالكفارات، وهذا المقدار لا يختلف في الكمية بسبب اليسار ولا الإعسار، وإنما يختلف في الصفة والجودة.
أما الشافعية فقدَّروها بمد، ومد ونصف، ومدين على حسب حالة الزوج يسرًا وعسرًا، وتوسطًا بين الأمرين.
واستدلوا بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} .
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 87).
(2)
ينظر: زاد المعاد (5/ 493).
(3)
ينظر: الفتح (9/ 500)، مغني المحتاج (3/ 426).
(4)
ينظر: المغني (8/ 157)، زاد المعاد (5/ 493).
والنفقة نفقتان: نفقة الموسر، ونفقة المقتر عليه رزقه وهو الفقير، وأقل ما يلزم المقتر من نفقة امرأته المعروف ببلدها، وأقل ما يعده لها ما لا يقوم بدن أحد على أقل منه، وذلك مد النبي صلى الله عليه وسلم في كل يوم من طعام البلد الذي يقتاتون.
وإن كان زوجها موسعًا عليه في الرزق فرض لها مدّين بمد النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما كان أقل الفرض مدًا بالدلالة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في دفعه إلى الذي أصاب أهله في شهر رمضان بعرق فيه خمسة عشر أو عشرون صاعًا لستين مسكينًا، فكان ذلك مدًا لكل مسكين، وإنما جعل أكثر ما فرض مدان؛ لأن أكثر ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في فدية الكفارة للأذى مدين لكل مسكين، وبينهما وسط فلا يقصر عن هذا، ولم يتجاوز هذا
(1)
.
ورد الجمهور على الشافعية فقالوا: إن قياس النفقة على الكفارة غير صحيح؛ لأن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار، ولأن تحديد التقدير في الكفارات ليس لكونها نفقة واجبة، بل لكونها عبادة محضة كالزكاة فكانت مقدرة بنفسها
(2)
.
قال شيخ الإسلام: «ثم من الفقهاء من يقول: إن نفقة الزوجة مقدرة بالشرع، والصواب ما عليه الجمهور أن ذلك مردود إلى العرف كما قال لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
(3)
.
قال الحافظ: «والراجح من حيث الدليل أن الواجب الكفاية، ولا سيما وقد نقل بعض الأئمة الإجماع الفعلي في زمن الصحابة والتابعين على ذلك، ولا يحفظ
(1)
ينظر: الأم (5/ 88).
(2)
ينظر: المغني (8/ 158).
(3)
مجموع الفتاوى (22/ 329).
عن أحد منهم خلافه»
(1)
.
ما يراعى في تقدير النفقة:
تقرر فيما مضى أن نفقة الزوجة معتبرة بالكفاية على رأي الجمهور، فما الذي يراعى في هذا التقدير والاعتبار؟
هل يراعى حال الزوج، أو حال الزوجة، أو هما معًا؟
- فإن كان الزوجان متفقين في اليسر، فالاتفاق بين الفقهاء قائم على أن النفقة الواجبة هنا تكون نفقة الموسرين، ويبذل الزوج للزوجة ما يتناسب مع حاليهما.
- أما إن كانا معسرين، فإن الفقهاء متفقون على وجوب النفقة المقدرة بنفقة المعسرين؛ لأن الزوجة بعسرها يكفيها الكفاف، ولا ينقص ذلك من قدرها شيئًا؛ لتعودها على تلك الحالة، وكذلك الحال بالنسبة للزوج؛ فإنه نظرًا لعسره لا يستطيع أن يبذل غير ما في مقدوره من نفقة المعسرين، وفي الوقت ذاته يكون هذا التقدير ملائمًا لحال كل من الزوجين فلا إفراط ولا تفريط.
- وكذلك الشأن بالنسبة لحال التوسط والاعتدال فيهما، فتكون النفقة الواجبة للزوجة هي نفقة المتوسطين.
وهذه الصور الثلاث محل اتفاق بين الفقهاء.
• أمّا لو كان حال الزوجين مختلفًا بأن كان الزوج موسرًا، والزوجة معسرة أو العكس؛ فإن هذه الحالة محل اختلاف بين الفقهاء، والراجح ما ذهب إليه الحنابلة
(2)
،
(1)
الفتح (9/ 500).
(2)
ينظر: المغني (8/ 157)، المبدع (8/ 186).
والمالكية في المعتمد
(1)
، والحنفية
(2)
في رواية أن المعتبر في تقدير النفقة حال الزوجين معًا، وتكون النفقة نفقة المتوسطين.
وجمعوا بين أدلة من اعتبر حال الزوج كقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}
(3)
ومن اعتبر حال الزوجة لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(4)
، والمعروف الكفاية؛ ولأنه سبحانه سوى بين النفقة والكسوة على قدر حالها، فكذلك النفقة
(5)
؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم لهند «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
(6)
فاعتبر كفايتها دون حال زوجها.
قال ابن قدامة: «ولنا أن فيما ذكرناه جمعًا بين الدليلين، وعملًا بكلا النصين، ورعاية لكلا الجانبين فيكون أولى»
(7)
.
والعمل بالنصين أولى من إعمال أحدهما وإهمال الآخر.
ويمكن أن تصل النفقة الواجبة للزوجة على زوجها بطريقين:
الأولى: التمكين ومنها يتولى الزوج إعداد وتوفير النفقة الزوجية بأنواعها الثلاثة: المطعم الذي تحتاج إليه، والكسوة اللائقة، والمسكن الشرعي المناسب الذي
(1)
ينظر: حاشية الدسوقي (2/ 509)، التاج والإكليل (4/ 182).
(2)
ينظر: حاشية ابن عابدين (3/ 584).
(3)
البقرة: (233).
(4)
البقرة: (233).
(5)
ينظر: المغني (8/ 157).
(6)
تقدم ص (643) فما بعدها.
(7)
المغني (8/ 157).
من شروطه أن يكون خاليا من الضرة؛ لأن وجود الضرة في ذاته إيذاء لها كما هو معروف، وأن يكون خاليًا من أهله إذا تضررت من وجودهم
(1)
.
فإذا قصر الزوج في الإنفاق، أو ماطل فللمرأة أن ترفع الأمر إلى القاضي، ومتى ثبت هذا التقصير عند القاضي مع قيام الزوجية بينهما، وعدم وجود مسقط للنفقة انتقل الوجوب إلى التمليك.
الثانية: التمليك وفيه يفرض القاضي مقدارًا من المال يكفي لطعامها، وكسوتها، وسكناها وتعطى ذلك المقدار كل شهر أو كل أسبوع على حسب اتفاقهما، أو على حسب العرف السائد مع مراعاة الأحوال غلاء ورخصًا واختلاف الأمكنة والأزمنة
(2)
.
المسألة الرابعة: توابع النفقة الزوجية:
نفقة خادم الزوجة:
الراجح في المسألة ما ذهب إليه جمهور الفقهاء أبو حنيفة
(3)
، ومالك
(4)
، والشافعي
(5)
، وأحمد
(6)
من أن الزوج إذا كان موسرًا فعليه إيجاد خادم لزوجته إذا كانت ممن تخدم لكونها ذات قدر، وليس من شأنها الخدمة، أو مريضة.
أما إذا كان الزوج معسرًا فلا تجب عليه نفقة خادم لزوجته؛ لأن الواجب على
(1)
ينظر المصادر المتقدمة.
(2)
ينظر: المبسوط (5/ 181)، كشاف القناع (5/ 542)، حاشية منهاج الطالبين (4/ 71).
(3)
ينظر: البحر الرائق (4/ 198).
(4)
ينظر: الكافي لابن عبد البر (298).
(5)
ينظر: إعانة الطالبين (4/ 74)، حواشي الشرواني (3/ 315).
(6)
ينظر: المغني (8/ 160)، الإنصاف (8/ 238).
الزوج المعسر هو أدنى الكفاية، أو الوسط، والخادم يعتبر إجحافًا في حق المعسر فلا يلزم به الزوج المعسر؛ لأن في إلزامه به حرجًا وتكليفًا عليه.
واستدلوا:
1 -
بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(1)
، ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادمًا ما دامت تحتاجه فأشبه النفقة
(2)
.
2 -
ما بوّب عليه البخاري في صحيحه
(3)
في كتاب النفقات باب: خادم المرأة، وأورد حديث علي بن أبي طالب قال: إن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا. فقال: «ألا أخبرك ما هو خير لك منه، تسبحين الله عند منامك ثلاثًا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبرين الله أربعًا وثلاثين» .
قال الحافظ: «أي هل يشرع ويلزم إخدامها؟ ذكر فيه حديث عليّ
…
قال الطبري: يؤخذ منه أن كل من كانت لها طاقة من النساء على خدمة بيتها في خبز أو طحن أو غير ذلك، أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفًا أن مثلها يلي ذلك بنفسه؛ ووجه الأخذ أن فاطمة لما سألت أباها صلى الله عليه وسلم الخادم، لم يأمر زوجها بأن يكفيها ذلك إما بإخدامها خادمًا، أو باستئجار من يقوم بذلك، أو يتعاطاه بنفسه، ولو كانت كفاية ذلك إلى علي لأمره به، كما أمره أن يسوق إليها صداقها قبل الدخول، مع أن سوق الصداق ليس بواجب إذا رضيت المرأة أن تؤخره، فكيف يأمره بما ليس بواجب عليه، ويترك أن يأمره بالواجب
…
ونقل الطحاوي الإجماع على أن الزوج ليس له إخراج خادم المرأة من بيته، فدل على أنه يلزمه نفقة الخادم على
(1)
النساء: (19).
(2)
ينظر: المغني (8/ 160).
(3)
(5/ 2051)5047.
حسب الحاجة إليه»
(1)
.
ولا يكون الخادم للزوجة إلا ممن يحلّ له النظر إليها، فيكون امرأة، أو ذا رحم محرم من الزوجة؛ لأن الخادم يلزم المخدوم في غالب أحواله، فلا يسلم من النظر إليه.
هل يجب للمرأة أكثر من خادم؟
وحيث تقرر أن على الزوج نفقة خادم الزوجة بالشروط السالف ذكرها، فهل لها أكثر من خادم إن احتاجت إليه؟
ذهب جمهور الفقهاء الحنفية
(2)
، والحنابلة
(3)
، والشافعية
(4)
إلى أنه لا يجب عليه أكثر من خادم؛ لأن المستحق إخدامها وهو يحصل بواحد، فالزيادة عليه نوع من الترف.
علاج الزوجة:
بالرجوع إلى الكتاب والسنة نجدهما يوجبان الطعام، واللباس، والسكن دون التطبيب، أمّا الفقهاء فيرون أن الزوج غير ملزم بعلاج زوجته لا ثمن دواء، ولا أجرة طبيب بحجة أن هذه المصاريف لا تدخل في النفقة شرعًا.
يقول ابن قدامة: «ولا يجب عليه (أي على الزوج) شراء الأدوية ولا أجرة الطبيب؛ لأنه يراد لإصلاح الجسم، فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من
(1)
الفتح (9/ 507).
(2)
ينظر: حاشية ابن عابدين (3/ 588).
(3)
ينظر: المغني (8/ 160).
(4)
ينظر: تكملة المجموع شرح المهذب (17/ 137).
الدار، وحفظ أصولها، وكذلك أجرة الحجّام والفاصد»
(1)
.
ونوقش بأن قياس نفقة التطبيب على نفقة عمارة الإيجار، وحفظ أصله، قياس مع الفارق؛ لأن علاقة الزواج ليست علاقة إِجَارٍ، وإنما علاقة نكاح مبنية على المودة والرحمة، والمرأة ليست مستأجرة له، وإنما هي شريكة العمر بعقد العمر، يقول تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}
(2)
.
ولا يخفى بعد ما ذكره الفقهاء، أن الراجح اعتبار الأدوية وأجرة الطبيب من توابع النفقة الزوجية، والدليل على ذلك:
1 -
قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وإنفاق الزوج على علاج زوجه لا شك أنه من مظاهر العشرة بالمعروف.
2 -
إذا أوجب الفقهاء على الزوج نفقة الخادم فمن باب أولى إيجاب علاجها؛ فحاجتها إلى التطبيب أشد من حاجتها للخدمة.
3 -
من مظاهر المودة والرحمة مسارعة الزوج لعلاج زوجته، وليس من المودة والرحمة أن يتركها الزوج تتلوى وتئن من المرض دون إسعافها بعرضها على الطبيب، وهي محتاجة إلى ذلك، وهو قادر عليه
(3)
.
يقول د. محمد يعقوب: «ويرى البعض أن نفقة التمريض واجبة على الزوج إذا كان الأمر يتعلق بالأمراض العادية والتي قلما يخلو إنسان منها. أما العمليات
(1)
المغني (8/ 161)، وانظر: مغني المحتاج (3/ 431)، الفتاوى الهندية (1/ 549)، حاشية الدسوقي (2/ 511).
(2)
الروم: (21). وانظر: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم (7/ 185).
(3)
المصدر السابق.
الجراحية التي تدعو إلى المال الوفير فيلزم فيها التفرقة بين ما إذا كان الزوج فقيرًا، وكانت غنية فإنها لا تحب عليه.
أما إذا كان غنيًا وهي فقيرة فإنها تحب عليه»
(1)
.
ولا شك أن الدين الذي شمل إحسانه جميع أفراده، لن يسقط حق علاج الزوجة مع أنه يثبت الخيرية لمن كان خير الناس لأهله.
جَهاز الزوجة:
الجهاز
(2)
كل شيء يحتاج إليه البيت من الأثاث والأدوات وغيرها.
يذهب جمهور العلماء من الأحناف
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
إلى أن الزوج هو المكلف بإعداد جهاز الزوجة من فرش، وغطاء، ومتاع ولوازم، فلا يلزمها إعداد شيء من ذلك من مالها الخاص لا من مهرها الذي تسلمته، ولا من غيره مما تملكه من الأموال؛ لأن مهرها حق خالص لها استحقته بموجب عقد الزواج، فلا تجبر على إنفاق شيء منه لجهازها.
يقول ابن حزم: «ولا يجوز أن تحبر المرأة على أن تتجهز إليه بشيء أصلًا لا من صداقها الذي أصدقها، ولا من غيره، ولا من سائر مالها، والصداق كله لها تفعل فيه كله ما شاءت لا إذن للزوج في ذلك ولا اعتراض. وهو قول أبي حنيفة،
(1)
أحكام النفقة الزوجية (65).
(2)
يقال له: الشوار عند المالكية -بتليث الشين- ومعناه في اللغة متاع البيت، ولفظ الجهاز هو المستعمل في كتب الأحناف. ينظر: المدونة الكبرى (4/ 218)، ترتيب القاموس (2/ 773).
(3)
ينظر: مختصر اختلاف العلماء (2/ 365)، بدائع الصنائع (2/ 309)، البحر الرائق (3/ 200).
(4)
ينظر: إعانة الطالبين (3/ 349)، حاشية البجيرمي (3/ 408).
(5)
ينظر: الفروع (5/ 243).
والشافعي، وأبي سليمان وغيرهم»
(1)
ثم أخذ ابن حزم بالرد علي المالكية
(2)
الذين رأوا أن على المرأة أن تتجهز للرجل بما يصلح الناس في بيوتهم من المهر الذي قبضته، ولا يلزمها أن تنفق على جهازها أكثر من المهر الذي تَسَلَّمَتْهُ إلا إذا شُرِط عليها ذلك، أو قضى به العرف، ولا يخفى ضعفه.
ودليل الجمهور:
1 -
قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}
(3)
فالمهر حق خالص للزوجة متى سمي حتى ولو كان عظيمًا، ولا يحل للزوج أخذ شيء منه إلا بطيب نفس منها، والجهاز تشترك فيه المنافع، فكان على الزوج لا عليها.
2 -
(4)
.
فافترض الله على الرجال أن يعطوا النساء صدقاتهن نحلة، ولم يبح للرجال منها شيئًا إلا بطيب أنفس النساء
(5)
.
وإذا كان الراجح أن الزوجة لا تحبر ولا تلزم بتجهيز بيتها من مهرها ولا من مال غير مهرها، فإن الصواب أنها لا تمنع من الإسهام بمالها لشراء جهازها وما يحتاجه البيت من لوازم، ويكون هذا منها على وجه التبرع، والاختيار المحض لا على سبيل الإلزام والإيجاب، وتبقى هذه الأشياء مملوكة لها، وإنما ينتفع بها الزوج،
(1)
المحلى (9/ 507).
(2)
ينظر: التلقين للقاضي عبد الوهاب (1/ 290)، مواهب الجليل (3/ 523).
(3)
النساء: (20).
(4)
النساء: (4).
(5)
ينظر: المحلى (9/ 507).
ويستعملها بإذن الزوجة ورضاها، فإن لم يكن صراحة فدلالة
(1)
.
• وإن طلق الزوج زوجه واختلفا في الجهاز أو في متاع البيت وموجوداته، فالقول قول الزوج، لأنها بالطلاق صارت أجنبية فزالت يدها، والتحقت بسائر الأجنبيات.
ولكن إذا أقامت الزوجة البينة على ما تدّعيه من ملكية موجودات البيت، فالحكم يكون لها بموجب بينتها حسب القواعد العامة في الإثبات
(2)
.
المسألة الخامسة: امتناع الزوج عن الإنفاق:
قضت القواعد الشرعية بوجوب إنفاق الزوج على زوجته، وأنه لا يحل له العدول عنه مهما كان، ولكن بعض الأزواج ممن لا خلاق لهم، ولا ضمير يردعهم، تسيطر عليه أهواؤه، وتسول له نفسه الأمارة بالسوء أن يُقَصِّر في هذا الواجب الشرعي لضعف دينه، وقلة إيمانه.
ولكن الشريعة الغراء لم تترك هذا العمل بدون أن تضع له حلًا جذريًا، فإن الزوج إن امتنع من الإنفاق على زوجته لا يخلو الأمر من أن يكون موسرًا أو معسرًا؛ فإن كان موسرًا فإن حاله لا يخلو من أحد أمرين:
1 -
أن يكون له مال ظاهر معروف، فإن قدرت الزوجة على ماله أخذت منه قدر كفايتها بغير إذنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند زوجة أبي سفيان عندما شكت إليه شح زوجها:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» وبوّب عليه البخاري في كتاب النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل للمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف
(3)
.
(1)
ينظر: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم (7/ 147).
(2)
ينظر: بدائع الصنائع (2/ 309).
(3)
(5/ 2052).
(1)
.
وإذا لم تقدر الزوجة على الأخذ منه، فلها أن ترفع أمرها إلى القاضي، وتطلب فرض النفقة، أو حبسه حتى ينفق، فإن قام بالنفقة فهو المطلوب، وإن أبي حُبس، فإن صبر على الحبس أخذ الحاكم النفقة من ماله إن كان من جنس النفقة، وإن كان من غير جنسها كالعروض والعقار، فإن الجمهور يرون أن المال يباع لتدفع النفقة للزوجة منه على قدر كفايتها؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند «خذي ما يكفيك» ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين مال ومال.
قال الخطابي: يؤخذ من حديث هند جواز أخذ الجنس وغير الجنس
(2)
.
2 -
أن يكون الزوج معسرًا، وهو الشخص العاجز الذي لا يستطيع الوفاء لزوجته بما أوجبه الله لها من نفقة شرعية بأي وجه من الوجوه
(3)
. فإذا ادعي الزوج الإعسار في نفقة زوجته، ولم يكن له مال ظاهر، وصدقته زوجته علي دعواه، فإنه يحكم بعسره اتفاقًا لعدم المعارض لدعواه، أما لو كذبته زوجته في دعواه فقد ذهب الشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
إلى أن القول قول الزوجة إذا عرف للزوج مال، ويطلب منها اليمين، لتقوية دعواها؛ لأن الأصل بقاء ماله ويسره، وإن لم يعرف للزوج مال
(1)
الفتح (9/ 508).
(2)
أعلام الحديث (2/ 48).
(3)
ينظر: روضة الطالبين (9/ 175)، كشاف القناع (5/ 535)، حاشية ابن عابدين (3/ 575).
(4)
ينظر: الإقناع للشربيني (2/ 488)، حاشية البجيرمي (4/ 116).
(5)
ينظر: المغني (8/ 167)، المبدع (8/ 186).
يكون القول للزوج بيمينه؛ لأنه منكر؛ والأصل عدم المال، وغالبًا ما يبقى الشيء على أصله.
• ولو أعسر الزوج في نفقة زوجته بعد أن كان موسرًا، فهل يفرق بينهما بسبب الإعسار؟ في المسألة قولان:
القول الأول:
ذهبت المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
، وهو قول أهل الظاهر
(4)
ورجّحه الصنعاني في سبل السلام
(5)
إلى أن الزوجة لو طلبت التفريق بينها وبين زوجها المعسر في نفقتها فإنها تحاب لطلبها، ويفرق القاضي أو من يقوم مقامه بينهما.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} .
والرب جل وعلا أثبت قوامة الرجال على النساء لأمرين:
1 -
{بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
2 -
{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} .
والباء هنا إمّا للسببية فتكون النفقة من أسباب القوامة؛ لأنه يترتب على زوال
(1)
ينظر: تفسير القرطبي (5/ 169)، مواهب الجليل (3/ 489).
(2)
ينظر: روضة الطالبين (9/ 75)، حواشي الشرواني (8/ 336).
(3)
ينظر: المغني (8/ 167)، المبدع (8/ 208).
(4)
ينظر: المحلى (9/ 508).
(5)
(3/ 226).
السبب زوال المسبب، كما يصح أن تكون الباء للمقابلة، فتقابل القوامة بالإنفاق، فإذا انعدمت النفقة من قبل الرجل كان للمرأة طلب التفريق من زوجها المعسر في النفقة.
(1)
.
2 -
قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
(2)
.
يقول الجصاص: «ومن الناس من يحتج
…
بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} في إيجاب الفرقة بين المعسر العاجز عن النفقة وبين امرأته؛ لأن الله تعالى إنما خيره بين أحد شيئين إما إمساك بمعروف، أو ت سريح بإحسان، وترك الإنفاق ليس معروف فمتى عجز عنه تعين عليه التسريح فيفرق الحاكم بينهما»
(3)
.
3 -
قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}
(4)
.
والزوج المعسر إذا أمسك زوجته مع عجزه عن الإنفاق عليها كان ضارًا معتديًّا، وعلى القاضي دفع هذا الضرر والعدوان التفريق بينهما
(5)
.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 169).
(2)
البقرة: (228).
(3)
أحكام القرآن (2/ 98).
(4)
البقرة: (230).
(5)
ينظر: أحكام القرآن للجصاص (2/ 99).
ونوقش هذا الاستدلال وما قبله بأن الآيتين لا يصلحان للاستدلال علي المدعى؛ لأنه ليس فيهما دلالة على التفريق بين الزوجين بالإعسار؛ لأن المضارة والعدوان لا يكونان إلا إذا كان للشخص فيهما دخل واختيار، والإعسار ليس منافيًا للإمساك بالمعروف، فالإحسان في العشرة فيما يدخل تحت قدرة العبد واختياره
(1)
.
4 -
ما أخرجه البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلي، وابدأ بمن تعول «تقول المرأة: إما أن تطعمني، وإما أن تطلقني. ويقول العبد: أطعمني، واستعملني. ويقول الابن: أطعمني إلى من تدعني؟ قالوا: يا أبا هريرة هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت؟ قال: لا هذا من كيس أبي هريرة.
وقد ورد الجزء الأخير مرفوعا عند أحمد في المسند
(2)
، والنسائي في الكبرى
(3)
. وأطال محققوا المسند تضعيف الرواية المرفوعة، فراجعه إن رمت الزيادة.
ووجه الدلالة: «إما أن تطعمني أو تطلقني» فجُعِل للمرأة حق في طلب التفريق بينها وبين زوجها عند عدم إنفاقه عليها.
ونوقش هذا الاستدلال بأنه ليس في قول أبي هريرة ما يدل على إلزام الزوج المعسر بطلاق زوجته، وكيف يكون هذا وهو كلام عام لا يختص بمعسر وحده؛ بل يشمل الموسر كذلك، ولا خلاف في أن الزوج الموسر إذا لم ينفق على زوجته لا يجبر
(1)
المصدر السابق.
(2)
(16/ 479)10818.
(3)
(5/ 385)9211.
على الفراق بل يحبس لعدم إنفاقه عليها
(1)
.
5 -
ما أخرجه الشافعي في الأم
(2)
، وعنه البيهقي في الكبرى
(3)
من طريق مسلم بن خالد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا. وصححه الألباني في الإرواء
(4)
، ورجاله ثقات رجال الشيخين غير مسلم بن خالد الزنجي قال الحافظ:«فقيه صدوق كثير الأوهام»
(5)
لكنه توبع عليه، فقد جاء في العلل
(6)
لابن أبي حاتم «سمع أبي ذكر حديث حماد، عن عبيد الله بن عمر
…
قال أبي: نحن نأخذ بهذا في نفقة ما مضى» فالإسناد هذا يرتقي للحسن.
ونوقش الاستدلال بأن عمر بعثه للموسرين لا المعسرين.
6 -
ما أخرجه الشافعي في الأم
(7)
، وعبد الرزاق في المصنف
(8)
، وسعيد بن منصور في سننه
(9)
، والدارقطني في السنن
(10)
، والبيهقي في الكبرى
(11)
من طرق
(1)
ينظر: فتح القدير (4/ 201).
(2)
(5/ 91).
(3)
(7/ 469)15484.
(4)
(7/ 2281)2159.
(5)
التقريب (938)6669.
(6)
(1/ 406).
(7)
(5/ 107).
(8)
(7/ 96)12357.
(9)
(2/ 82)2022.
(10)
(3/ 297)193.
(11)
(7/ 469)15485.
عن أبي الزناد قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق علي امرأته. قال: يفرق بينهما. قال أبو الزناد: قلت: سنة. قال سعيد: سنة. قال الشافعي: والذي يشبه قول سعيد سنة أن يكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم: غايته أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيب
(1)
.
(2)
.
7 -
قياس الإعسار بالنفقة على الحب والعنة، وقالوا: إذا ثبت الفسخ بالعجز عن الوطء فالضرر الناتج من عدم الوطء أقل من الضرر الحادث من عدم الإنفاق، إذ الضرر الحاصل من عدم الوطء لا يخرج غالبا عن فقد لذة يقوم البدن بدونها، أما الضرر المترتب على عدم الإنفاق قد يؤدي إلى هلاك البدن
(3)
.
ونوقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن المسيس والاستمتاع لا يصيران دينًا على الزوج لزوجته عند عدم حدوثهما، بخلاف النفقة الزوجية فإنها تكون دينًا لها عليه، لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء.
ولأن الجب والعنة من العيوب التي لا يرجى زوالها بخلاف الإعسار فقد يجعل الله بعد عسر يسرًا.
(1)
زاد المعاد (5/ 512).
(2)
المحلى (10/ 95).
(3)
ينظر: المغني (8/ 163).
ثم إن الاستمتاع والتناسل أمران مقصودان من النكاح أصالة بخلاف المال، فإنه ليس مقصودًا لذاته في النكاح بل هو أمر تابع، ولازم من لوازمه.
القول الثاني:
ذهب الحنفية
(1)
، والظاهرية
(2)
إلى أنه لا يفرق بين الزوجين لإعسار الزوج بنفقة زوجته، بل تؤمر الزوجة بالاستدانة عليه بعد فرض النفقة لها عليه، وتصبر حتى يوسر.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
(3)
.
وإذا لم يجر الزوج النفقة على زوجته لإعساره، تكون دينًا عليه في ذمته وتسري عليها أحكام الديون، والله سبحانه بيّن أن المدين إذا أعسر، وعجز عن سداد ما عليه من الديون فإنه ينظر حتى يستيسر، ولو كان يتعلق بالعجز عن السداد والوفاء أمر آخر غير الانتظار إلى الميسرة لبينه القرآن الكريم، والمرأة مأمورة بالإنظار بالنص
(4)
.
ونوقش الاستدلال بأن الآية خاصة بالديون غير النفقة، ويدل على ذلك مورد الآية وسبها، وهذا لا تصلح للاستدلال على المدعي.
2 -
(5)
.
(1)
ينظر: فتح القدير (4/ 201)، حاشية ابن عابدين (3/ 591).
(2)
ينظر: المحلى (10/ 92).
(3)
البقرة: (280).
(4)
ينظر: المبسوط (5/ 190)، شرح فتح القدير (4/ 291)، زاد المعاد (5/ 516).
(5)
الطلاق: (7).
ووجه دلالة الآية أن الرجل إذا أُعسر، وليس في وسعه ما يمكنه من تحصيل النفقة لا يجب عليه التكلف لأجل الإنفاق؛ لأن الله سبحانه لم يكلفه بغير ما في وسعه، وإن كان معسرًا بنفقة زوجته لم يأثم؛ لعدم وجوب النفقة عليه حال إعساره، فلا يكون إعساره بغير ما وجب عليه سببًا للتفريق بينه وبين زوجته.
ونوقش الاستدلال بأن الآية لا تدل على عدم التفريق بين الزوجين بالإعسار؛ لأنه لا يلزم من عدم تكليف المعسر بالإنفاق على زوجته عدم جواز التفريق؛ لأنه شرع لدفع الضرر عن المرأة، وتخليصها من ذلك الزوج الذي لا يستطيع الإنفاق عليها
(1)
.
3 -
ما أخرجه مسلم
(2)
في صحيحه من حديث أبي الزبير، عن جابر قال:«دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسًا ببابه لم يؤذن لأحد منهم. قال: فأذن لأبي بكر، فدخل. ثم أقبل عمر فاستأذن، فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا حوله نساؤه واجمًا ساكتًا. قال: فقال: لأقولن شيئًا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «هن حولي كما ترى يسألني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرًا، أو تسعًا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}
…
الحديث.
ووجه الدلالة أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قاما يضربان ابنتيهما
(1)
ينظر: أحكام النفقة الزوجية (93).
(2)
كتاب الطلاق، باب: بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بنية (2/ 1103)1478.
بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سألتاه نفقة لا يجدها، ومن المحال أن يضر با طالبتين للحق، ويقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدل على أنه لا حق لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الإعسار، وإذا كان طلبهما لها باطلًا فكيف تمكن المرأة من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبه، ولا يحل لها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى صاحب الدين أن ينظر المعسر إلى الميسرة
(1)
.
ونوقش الاستدلال بأن الزجر عن المطالبة بما ليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدل على عدم جواز فسخ النكاح لأجل إعسار الزوج بنفقة زوجته، وأما إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر على ضربهما؛ فلما علم من أن للآباء تأديب الأبناء إذا أتوا ما لا ينبغي، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يفرط فيما يجب عليه من الإنفاق، فلعلهن طلبن زيادة على ذلك، كما أنه لم يرو أن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبن الفسخ، ولم يجبن إليه
(2)
، وكيف يمكن احتمال القول بذلك، وقد خيرهن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كما جاء في قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}
(3)
فاخترنه صلوات الله وسلامه عليه.
4 -
لم يزل في الصحابة المعسر والموسر، وكان معسروهم أضعاف أضعاف موسريهم، فما مكن النبي صلى الله عليه وسلم امرأة واحدة قط من الفسخ بإعسار زوجها، ولا أعلمها أن الفسخ حق لها فإن شاءت صبرت، وإن شاءت فسخت، وهو يشرع الأحكام عن الله تعالى بأمره، فهب أن الأزواج تركن حقهن، أفما كان فيهن امرأة
(1)
ينظر: زاد المعاد (5/ 519).
(2)
ينظر: سبل السلام (3/ 225).
(3)
الأحزاب: (28).
واحدة تطالب بحقها
(1)
.
وقد تناظر فيها الإمام مالك وغيره. فقال: ليس الناس اليوم كذلك، إنما تزوجته رجاءً
(2)
.
ومعنى كلامه: أن نساء الصحابة -رضوان الله عليهم- كنّ يردن الله والدار الآخرة، ولم يكن مرادهن الدنيا، فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن، أما نساء اليوم فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم، وصار هذا المعروف كالمشروط في العقد، وكان عرف الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد، والشرط العرفي في أصل مذهب مالك كاللفظي. قاله ابن القيم
(3)
.
5 -
القاعدة الشرعية تنص على ارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين، إذا لم يكن هناك مفر من ارتكاب أحدهما، والحكم بالفرقة الزوجية إبطال الحق الزوج بالكلية، وإلزام الزوجة بالانتظار على زوجها حتى يوسر، والاستدانة عليه تأخير لحقها بعض الوقت، وتأخير الحق أهون شأنًا من الإبطال، فوجب أن يصار إليه.
(4)
.
6 -
لو تعذر من المرأة الاستمتاع بمرض متطاول، وأعسرت بالجماع، لم
(1)
زاد المعاد (5/ 519).
(2)
المحلى (10/ 97).
(3)
زاد المعاد (5/ 517).
(4)
زاد المعاد (5/ 520).
يمكن الزوج من فسخ النكاح، بل يوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء، فكيف يمكنوها من الفسخ بإعساره عن النفقة؟!
(1)
.
الراجح:
• وبالنظر في أدلة كلا الفريقين يترجح ما قاله ابن القيم: «والذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غرّ المرأة بأنه ذو مال، فتزوجته على ذلك، فظهر مُعْدمًا لا شيء له، أو كان ذا مال وترك الإنفاق على امرأته، ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها، ولا بالحاكم أن لها الفسخ، وإن تزوجته عالمة بعسرته، أو كان موسرًا ثم أصابته جائحة اجتاحت ماله ف لا فسخ لها في ذلك، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن»
(2)
.
وفي ترجيح ما ذهب إليه ابن القيم ارتكاب أخف الضررين، ودفع أعلى المفسدتين، ثم إن المطلع على مذهب الأحناف، والظاهرية يرى رفع يد الزوج المعسر عن زوجته لتكتسب وتنفق على نفسها بالطرق المشروعة، كما أنه أثبت لها حق الاستدانة على زوجها بإذن من القاضي أرضي الزوج أم لم يرض، ما دامت الاستدانة بغرض الإنفاق على نفسها فترة الإعسار.
ولو طال إعسار الزوج ولحق الزوجة الضرر بالإعسار؛ فلا شك في أن لقول الجمهور حظه من النظر، ونصيبه بالأخذ.
(1)
ينظر: المحلى (10/ 92)، زاد المعاد (5/ 521)، فتح القدير (4/ 202).
(2)
زاد المعاد (5/ 521).
المسألة السادسة: نفقة زوجة الغائب:
إذا غاب الزوج وترك زوجته بلا نفقة سواء كانت غيبته لخروجه عن بلده مدة السفر، وراجعت الزوجة القاضي ليفرض لها نفقة عليه، وأقامت البينة على ذلك بأن حلفت بأن زوجها الغائب لم يعطها النفقة، ولا كانت ناشزًا، ولا مطلقة مضت عدتها، فإن كان للزوج مال ظاهر حكم لها القاضي بالنفقة، ونفذ الحكم في ماله الظاهر سواء كان من جنس النفقة كالمأكل والكسوة، أم لم يكن من جنسها كالعقار وغيره، وإن لم يكن له مال ظاهر حكم عليه بالنفقة واستدانت عليه، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء: مالك
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
أن الغائب الحاضر بالنسبة لأحكام النفقة.
واستدلوا بما أخرجه البخاري، ومسلم من حديث عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مِسيِّك، فهل عليِّ حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال:«لا إلا بالمعروف»
(4)
.
وبوّب عليه البخاري في كتاب النفقات، باب: نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها، ونفقة الولد
(5)
.
وبما أخرجه الشافعي في الأم من طريق ابن عمر، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا؛ فإن
(1)
ينظر: التاج والإكليل (4/ 201)، حاشية الدسوقي (2/ 246).
(2)
ينظر: فتاوى ابن الصلاح (2/ 455)، إعانة الطالبين (4/ 84).
(3)
ينظر: المغني (8/ 182)، كشاف القناع (5/ 470).
(4)
تقدم تخريجه ص (643) فما بعدها.
(5)
(5/ 2051)5044.
طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا. وصححه الألباني في الإرواء
(1)
.
المسألة السابعة: نفقة الزوجة المريضة:
إذا كانت الزوجة مريضة فإنها تنقسم إلى قسمين:
1 -
أن تمرض قبل الزفاف مرضًا لا يمكنها من الانتقال إلى منزل الزوج، فلا نفقة لها في هذه الحالة؛ لعدم تحقق الاحتباس الموجب للنفقة الذي يمكن معه استيفاء أحكام الزواج من الاستمتاع والخدمة والمؤانسة.
2 -
أن تزف سليمة إلى زوجها، ثم تمرض بعد ذلك عنده مرضًا يمنعها من بذل نفسها لزوجها للاستمتاع بها؛ لأن موجب النفقة قد تم فعلًا وتحقق، والمرض شيء عارض، ومن المعروف في الشريعة الإسلامية أن النفقة من الحقوق الواجبة للزوجة على الزوج وجوبًا مستمرًا ما دامت الحياة الزوجية قائمة، والحقوق الدائمة لا تسقط بالأمور العارضة، كما أن حسن المعاشرة يوجب أن يتحمل كل من الزوجين الآخر في مرضه وسقمه، ثم إن ما تعذر عليه من الاستمتاع سبب لا تنسب فيه المرأة إلى تفريط، وإلى هذا ذهب الأحناف
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
المسألة الثامنة: نفقة الزوجة الموظفة:
يحسن التنبيه قبل البدء في عرض أقوال الفقهاء بالنسبة لنفقة الزوجة الموظفة أن أشير إلى أن الإسلام كفل للمرأة حقها في التملك، وحرية التصرف فقال:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ولم يوجب عليها نفقة في بيت أبيها، ولا بيت زوجها، كما أباح لها العمل في الميادين النسائية
(1)
تقدم تخريجه ص (665).
(2)
ينظر: بدائع الصنائع (4/ 19)، البحر الرائق (4/ 197).
(3)
ينظر: المجموع شرح المهذب (17/ 77)، مغني المحتاج (3/ 437).
(4)
ينظر: كشاف القناع (3/ 305)، شرح منتهى الإرادات (3/ 353).
وفق الضوابط الشرعية
(1)
، وانخرطت كثير من النساء في العمل في هذه الميادين، ودخلن سلك التوظيف. غير أن بعض أصحاب النفوس الضعيفة سولت لهم أنفسهم أمرًا، فأحدقت ببعض الموظفات عيون طامعة تتطلع إلى ما في أيديهن من رواتب ظنًا من بعضهم أن المرأة ليست أهلًا للتملك، واعتقاًدا من آخرين أن المرأة لا يحق لها التصرف في مالها أو راتبها، واستغلالًا من الجميع؛ لضعف المرأة، وقلة حيلتها.
ولعل في مقدمة هؤلاء الذين تشربت أنفسهم الطمع، وسيطر على قلوبهم الحرص حتى غطى على بصائرهم: الأولياء والأزواج، فاستخدموا حيلًا شتى لأكل من حرّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، فيعمد أحدهم إلى الاستيلاء على بطاقة السحب المصرفي ليسحب كدح المسكينة، ويرجع لها فضلته، مظهرًا المنة والفضل، أو يقترض مبالغ ضخمة من البنك باسم الموظفة، ثم يجعلها مثقلة بالديون؛ لتقتطع من راتبها من غير طيب نفس منها، بل إن بعض الآباء يحبس ابنته عن الزواج معللًا فعلته الشنعاء بالخوف على مالها؛ وإذا به اللص الأول لهذا المال، وجمع في فعلته جريمتين شنعاوين: ظلمها المالي، وظلمها النفسي، فأي ذنب فعل؟!.
وقد تقاسي المسكينة وطأة زوج لا يخاف الله فيها فيمتنع عن الإنفاق لدفعها للنفقة، ويرضى أن يقتات على ظهر امرأة، فأي رجولة زعم؟! أيحسب هؤلاء أنهم يربون شاة حلوبًا تغدو عليهم بإناء، وتروح بآخر، ألا فليتق الله الأولياء، وليحذروا من أكل أموال الناس بالباطل، وليتذكروا قول الرب سبحانه:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(2)
.
(1)
سيأتي ص (895).
(2)
البقرة: (188).
• واختلف الفقهاء في نفقة الزوجة العاملة التي تشتغل بمهنة أثناء النهار، وتقوم بأشغال البيت، ومطالبه بالليل أو العكس، هل يجب على زوجها نفقتها أو لا؟
وللإجابة عن هذا التساؤل نقول لا يخلو حال الزوج من أحد أمرين:
1 -
إما أن يكون خروج الزوجة للعمل برضا الزوج وإذنه، وعلمه لتساعده على متطلبات الحياة، ومشكلات العصر، وفي هذه الحالة يكون للزوجة النفقة على زوجها؛ لأن عملها كموظفة وإن كانت قد فوتت علي الزوج شيئًا من حق التمكين التام، والاحتباس الكامل إلا أنه تفويت جزئي لا يخرج عن دائرة رضاه وعلمه، وهذا الحق الفائت حق خالص له من حقه أن يتصرف فيه بما يشاء.
ولذا ضعف علاء الدين الحصكفي ما جاء في المجتبى قال في الدر المختار:
(1)
.
ويتأكد حق النفقة إذا اشترطت الزوجة على زوجها في عقد النكاح الخروج للعمل أو الاستمرار فيه، فإنه يلزم الزوج الوفاء به، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(2)
.
(1)
(3/ 577).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح، باب: الشروط في النكاح، وقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط. وقال المسور بن مخرمة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صهرًا له فأثن عليه في مصاهرته، فأحسن قال:«حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي» (5/ 1978)4856.
وإذا لم يف الزوج به، وطالبته الزوجة ولم يرضَ بذلك، فإن لها الفسخ
(1)
.
2 -
وإما أن يكون خروج الزوجة للعمل بدون إذن الزوج ورضاه، أو شرط عليها في العقد أن تترك عملها، ففي هذه الحالة لا يكون للزوجة نفقة على زوجها لعدم رضاه بعملها، وعدم تحقق كمال الاحتباس والتمكين الموجب للنفقة، ولأن عملها واحترافها بعد علمها بعدم رضا الزوج، وعدم امتثالها لأوامره يُعَدُّ نشوزًا، والنشوز مسقط للنفقة على الراجح
(2)
.
وبعد هذا لا يحل للرجل أن يتنصل من المسؤولية، ويتهرب من الإنفاق على من أخذها بأمان الله، واستحل فرجها بكلمة الله، فعليه أن يعيد الحق لأهله، وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب.
المسألة التاسعة: نفقة الناشز:
• النشوز في اللغة مأخوذ من النشز، وهو المرتفع من الأرض، فكأن المرأة ارتفعت عن طاعة زوجها، وامتنعت عن فراشه
(3)
.
• ومن النشوز عند الفقهاء:
1 -
أن تمتنع الزوجة من الانتقال إلى منزل الزوجية ابتداء بغير حق شرعي، وقد دعاها إلى الانتقال، وأعد لها المسكن الذي يليق بها.
2 -
خروجها من منزله بغير إذنه أو حق شرعي، وإذا استمرت علي ذلك
(1)
ينظر: فتح الباري (9/ 217)، أثر راتب الزوجة الموظفة في الحياة الزوجية، دراسة فقهية، رسالة دكتوراه من جامعة الملك سعود للدكتور عبد العزيز الدبيش (202).
(2)
ينظر: الأحوال الشخصية لأبي زهرة (278)، أحكام النفقة الزوجية (12)، وسيأتي مزيد تفصيل حول نفقة المرأة الناشز بعده «المسألة التاسعة» .
(3)
ينظر: المفردات (493)، لسان العرب (5/ 417)، مادة (ن ش ز).
طالت المدة أو قصرت فلا نفقة لها، وإذا عادت إلى طاعة زوجها واستقرت في مسكنه أنفق عليها، وسقط ما مضى من النفقة وقت خروجها.
3 -
امتناعها من الوطء بلا عذر أو غيره من الاستمتاعات كالقبلة واللمس وغيرها سواء كان المنع في بيت الزوج أو بيتها.
4 -
امتناعها من السفر معه إذا كان الطريق مأمونًا، ولم تخش حدوث ضرر أو مشقة لا تتحمل عادة
(1)
.
• ذهب جمهور العلماء: مالك
(2)
، والشافعي
(3)
، وأصحاب الرأي
(4)
، والحنابلة
(5)
إلى أن الناشز لا نفقة لها ولا سكنى.
وقيّد ابن عبد البر النشوز الذي تسقط به نفقة الزوجة بعدم الحمل، قال:«ومن نشزت عنه امرأته بعد دخوله بها سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملًا»
(6)
.
وهذا تقييد صحيح، فالنفقة للولد، ولا يمكن إيصالها إليه إلا بالإنفاق عليها.
قال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا خالف هؤلاء إلا الحكم، ولعله يحتج بأن نشوزها لا يسقط مهرها فكذلك نفقتها
(7)
.
(1)
ينظر: بدائع الصنائع (4/ 19)، روضة الطالبين (9/ 59)، المغني (9/ 295)، مغنى المحتاج (3/ 435).
(2)
ينظر: الكافي لابن عبد البر (255)، التاج والإكليل (4/ 188).
(3)
ينظر: المهذب (2/ 70)، الإقناع للشربيني (2/ 432).
(4)
ينظر: بدائع الصنائع (4/ 22)، البحر الرائق (4/ 195).
(5)
ينظر: المغني (8/ 189)، المبدع (8/ 194).
(6)
ينظر: الكافي (255).
(7)
عزاه له ابن قدامة في المغني (8/ 189).
واستدل الجمهور بما يأتي:
1 -
(1)
.
ووجه الدلالة من الآية أن الله قد أذن للزوج في هجر زوجته في المضجع الخوف نشوزها، فكان مباحًا له ترك الإنفاق عليها إذا نشزت من باب أولى
(2)
؛ مع أن الحظ في الصحبة قاسم يشترك فيه الزوجان، بينما الإنفاق حق خالص للزوجة، فكان إسقاط الحق الخالص للزوجة أولى
(3)
.
2 -
ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألّا يوطئن فرشكم أحًدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»
(4)
.
قال ابن العربي: «وفي هذا دليل أن الناشز لا نفقة لها ولا كسوة»
(5)
وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على صورة من صور النشوز، وعلق الرزق والكسوة بعدمها.
3 -
قال ابن قدامة: «ولنا أن النفقة إنما تحب في مقابلة تمكينها، بدليل أنها لا تحب قبل تسليمها إليه، وإذا منعها النفقة كان لها منعه التمكين. فإذا منعته التمكين
(1)
النساء: (34).
(2)
ينظر: الأم (5/ 74).
(3)
ينظر: المبسوط (5/ 186).
(4)
تقدم تخريجه ص (644).
(5)
أحكام القرآن (1/ 535).
كان له منعها من النفقة»
(1)
.
والنفقة إلزام وغرم وجب على الزوج مقابل احتباس الزوجة، فإذا نشرت وألزم بالنفقة كان إلزامًا بدون مقابل، وفيه من الإجحاف بالزوج ما فيه.
• ومما تقدم تعلم أن الناشز لا نفقة لها على الراجح. وإن كان لها ولد فعليه نفقة ولده؛ لأنها واجبة له، فلا يسقط حقه بمعصيتها. وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء
(2)
.
المسألة العاشرة: نفقة المعدات من طلاق:
تعريف الطلاق:
يحسن بدءًا قبل إثبات حق المطلقة المعتدة في النفقة أن ينبه على بعض التعريفات:
الطلاق: حل قيد النكاح في الحال أو في المآل بلفظ مشتق من مادة الطلاق أو ما في معناها.
الطلاق الرجعي:
هو الذي يملك الزوج فيه مراجعة زوجته، ولو لم ترض ما دامت في العدة دون حاجة إلى مهر وعقد جديدين.
المطلقة طلاقًا بائنًا بينونة صغرى:
هو الطلاق الذي لا يملك الزوج معه مراجعة زوجته إلا بإذنها، وبعقد، ومهر جديدين، ويكون دون ثلاث طلقات.
المطلقة المبتوتة أو البينونة الكبرى:
وهي من بت زوجها طلاقها، وأصبحت لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. وتكون طلقاتها ثلاثًا
(3)
.
(1)
المغني (8/ 189).
(2)
المصادر المتقدمة.
(3)
ينظر: المغني (7/ 268، 272، 301)، المطلع لمحمد بن أبي الفتح (349).
وأهل العلم اتفقوا في نفقة المعتدات على ما يأتي:
1 -
لا نفقة للمطلقة قبل الدخول؛ لأنه لا عدة لها؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}
(1)
.
2 -
وجوب النفقة للمطلقة الرجعية؛ يقول ابن عبد البر: «لا خلاف بين علماء الأمة أن اللواتي لأزواجهن عليهن الرجعة لهن النفقة، وسائر المؤونة على أزواجهن، حوامل كن أو غير حوامل؛ لأنهن في حكم الزوجات في النفقة والسكن والميراث ما كنّ في العدة»
(2)
.
فالمطلقة الرجعية لها النفقة والسكنى؛ لأن الطلاق الرجعي يعتبر امتدادًا للزوجية؛ لقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}
(3)
.
يقول ابن كثير: «{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} أي في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضًا الخروج؛ لأنها متعلقة لحق الزوج أيضًا
…
{وَتِلْكَ
(1)
الأحزاب: (49).
(2)
الاستذكار (6/ 165).
(3)
الطلاق: (1).
حُدُودُ اللَّهِ} أي شرائعه ومحارمه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} ، أي يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ، أي بفعل ذلك، وقوله:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة، لعل الزوج يندم على طلاقها، ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها، فيكون ذلك أيسر وأسهل»
(1)
.
وتأمل الآية تقف على الآتي:
أ- {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} أضاف البيوت إلى الزوجات، وهي للأزواج؛ لتأكيد النهي بيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن.
ب- قوله سبحانه بعد نواهيه {وَتِلْكَ} إشارة إلى ما ذكر من الأحكام، وما في اسم الإشارة من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجتها، وبعد منزلتها.
جـ- {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} أظهر حدود الله في الثانية مع أن الموضع موضع إضمار، والإظهار في حيز الإضمار لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلة الحكم
(2)
.
واستدلوا -أيضًا- بما أخرجه أحمد في المسند
(3)
، والنسائي في المجتبى
(4)
،
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 379).
(2)
ينظر: تفسير أبي السعود (9/ 261).
(3)
(45/ 53)27100.
(4)
(6/ 144)3403.
والطبراني في الأوسط
(1)
والكبير
(2)
من طرق عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أنا بنت آل خالد، وإن زوجي فلانًا أرسل لي بطلاقي، وإني سألت أهله النفقة والسكنى، فأبوا علي. قالوا: يا رسول الله إنه قد أرسل إليها بثلاث تطليقات. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» واللفظ للنسائي. وصححه الألباني
(3)
.
3 -
الحامل المطلقة طلاقًا بائنًا تجب لها النفقة، يقول ابن عبد البر:«إن كانت المبتوتة حاملًا فالنفقة لها بإجماع العلماء»
(4)
لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
(5)
.
(6)
فالنفقة لها لأجل الحمل.
• وأمّا المطلقة المبتوتة غير الحامل وكذا المختلعة؛ لأن جمهور الفقهاء يعدون الخلع طلاقًا بائنًا
(7)
، فإنه لا نفقة لها ولا سكنى على الراجح من أقوال أهل العلم،
(1)
(7/ 144)7109.
(2)
(24/ 378)935.
(3)
صحيح سنن النسائي (3403).
(4)
الاستذكار (18/ 69).
(5)
الطلاق: (6).
(6)
التفسير الكبير (30/ 33).
(7)
ينظر: المغني (7/ 249)، فتح الباري (9/ 400)، زاد المعاد (5/ 198).
وإلى هذا ذهب أحمد في المشهور عنه
(1)
، وأبو ثور
(2)
، وأبو داود
(3)
ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
، وتلميذه ابن القيم
(5)
.
واستدلوا بما أخرجه مسلم في صحيحه
(6)
من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:«ليس لك عليه نفقة» فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال:«تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني» قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم، خَطَباني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد» فكرهته، ثم قال:«أنكحي أسامة» فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت.
وأخرج -أيضًا- من طريق أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني، وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ منه شيئًا. قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا نفقة لك ولا سكنى» .
ووقع في رواية الجماعة إلا البخاري أنها طلقها زوجها ثلاثًا، فلم يجعل لها
(1)
ينظر: المغني (8/ 132)، المبدع (8/ 192).
(2)
عزاه له ابن قدامة في المغني (8/ 132)، والحافظ في الفتح (9/ 390).
(3)
ينظر: المحلى (10/ 291)، مختصر اختلاف العلماء (1/ 149)، المغني (8/ 132).
(4)
مجموع الفتاوى (33/ 33).
(5)
زاد المعاد (4/ 522).
(6)
كتاب الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها (2/ 1114)1480.
رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى
(1)
.
وقد تقدم
(2)
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» .
ثم إن هذا الحكم موافق لما جاء في كتاب الله عز وجل قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}
(3)
.
فأمر الله سبحانه الأزواج الذين لهم عند بلوغ الأجل الإمساك والتسريح بألا يخرجوا أزواجهم من بيوتهن، وأمر أزواجهم ألّا يَخْرُجن، فدّل على جواز إخراج من ليس لزوجها إمساكها بعد الطلاق، فإنه سبحانه ذكر هؤلاء المطلقات أحكامًا متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك، وأنه في الرجعيات خاصة لقوله:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} والأمر الذي يرجى إحداثه ها هنا: المراجعة، واقتضت حكمة أحكم الحاكمين، و أرحم الراحمين ببقاء الزوجة في بيتها لعل الزوج يندم، ويزول الشر الذي نزغه الشيطان
(1)
أبو داود (2/ 286) 2286، وابن ماجه (1/ 656) 2036، والترمذي (3/ 484) 118، والنسائي (6/ 208) 3548، وانظر تفنيد ابن القيم للمطاعن الواردة على حديث فاطمة بنت قيس، فقد أفرده في زاد المعاد (4/ 528 - 542) بمبحث نفيس، قلّ أن تجده عند غيره.
(2)
ص (683).
(3)
الطلاق: (1 - 2).
بينهما، فتتبعها نفسه، فيراجعها.
وهكذا يكون السياق خاصًا بالمطلقات الرجعيات يرشد لذلك القرينة في قوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ا} وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وما الإمساك بالمعروف إلا حيث تكون الرجعة ممكنة.
وإذا كان الطلاق بائنًا بينونة كبرى فلا إحداث ولا إمساك، وكيف يكون الإمساك ممكنًا أو الرجعة وقد قال تعالى في شأن المبتوتة:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
(1)
.
وعلى هذا التخريج يتضح أن المتحدث عنهن في آية الطلاق من المطلقات الرجعيات لا غير.
ولا سبيل إلى إقحام المبتوتة إلا بتفكيك الضمائر واختلافها مع مفسرها، وهو ما لا تحتمله بلاغة القرآن ونظمه الفصيح
(2)
.
يقول ابن القيم: «
…
وكان قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما النفقة والسكن للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» مشتقًا من كتاب الله عز وجل، ومفسرًا له، وبيانًا لمراد المتكلِّم منه، فقد تبين اتحاد قضاء النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله عز وجل، والميزان العادل معهما أيضًا لا يخالفما»
(3)
.
(1)
البقرة: (36).
(2)
ينظر: زاد المعاد (5/ 526 - 528).
(3)
المصدر السابق.
الفصل الثالث حق المرأة في الإرث
يشتمل هذا الفصل على مبحثين:
المبحث الأول: ميراث المرأة في الكتاب والسنة.
المبحث الثاني: شبهة حول ميراث المرأة، والرد عليها.
توطئة:
لقد تقدم فيما مضى أن المرأة في الجاهلية لم تكن ترث؛ لكونها تُوْرَث هي في جملة التركة، والذي يورث لا يرث، بل لا إرث له ولا ملك، ومعلوم أن العرب في جاهليتهم قبل الإسلام كانوا لا يرون المرأة أهلًا للإرث من أقاربها؛ لأنها لا تحمل سيًفا، ولا تدافع عن قبيلة، ولا تعزو، ولا تحوز الغنائم، وخشوا على المال أن ينتقل إلى الغريب إن هي تزوجته، فحرموها الإرث والمهر والوصية
(1)
؛ وأكلوا مالها ظلمًا وعدوانًا حتى أشرقت شمس الإسلام لتزيل غياهب ظلام الجاهلية، وتثبت حق المرأة في الإرث أمًّا كانت أو زوجة أو أختًا أو بنتًا، وجاءت آيات القرآن لتؤكد حق المرأة في الميراث، وكذا الأحاديث النبوية.
(1)
ينظر: حقوق المرأة في الإسلام لمحمد عرفة (139).
المبحث الأول: ميراث المرأة في الكتاب والسنة
الأدلة من الكتاب:
1 -
(1)
.
وقد أثبت الله حق النساء في الميراث، وأكده من عدة نواحٍ:
أ- أفرد سبحانه وتعالى ذكر النساء بعد ذكر الرجال، ولم يقل: للرجال والنساء نصيب؛ لعلا يستهان بأصالتهن في هذا الحكم، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم التوريث
(2)
.
ب- قوله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} ، فليس أدل من ذلك على أن حق المرأة في الإرث ثابت، ولو من القليل التافه الذي خلفه الميت، مما لا يَدَعُ مجالًا للشك أو الريب أو التهرب من إعطاء المرأة لما تستحقه بعطاء الله لها.
جـ- قوله: «نصيبًا مفروضًا» فبالرغم من أن ذكر نصيب المرأة جاء في أول الآية وللنساء نصيب، إلا أن الله تعالى كرر ذكر هذا النصيب مع توكيده بكلمة (مفروضًا) لإزالة أي لبس، ولإثبات هذا الحق ثبوتًا قطعًا
(3)
.
(1)
النساء: (7).
(2)
ينظر: تفسير أبي السعود (2/ 146)، فتح القدير (1/ 426).
(3)
ينظر: تفسير أبي السعود (2/ 147)، شبهات في طريق المرأة المسلمة لعبد الله الجلالي (43 - 44).
2 -
أثبت القرآن حق الأم في الإرث فقال عزّ من قائل سبحانه: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
(1)
.
3 -
وأثبت حق الزوجة، فقال سبحانه:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}
(2)
.
4 -
(3)
.
5 -
وأثبت حق الأخت، فقال سبحانه:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}
(4)
وقال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا
(1)
النساء: (11).
(2)
النساء: (12).
(3)
النساء: (11).
(4)
النساء: (12).
وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(1)
.
الأدلة مِنَ السنة:
1 -
أخرج البخاري
(2)
من طريق عطاء، عن ابن عباس قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع.
2 -
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الفرائض، باب: ميراث البنات
(3)
، ومسلم
(4)
من حديث سعد بن أبي وقاص قال: مرضت بمكة مرضًا أشفيت منه على الموت، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت: يا رسول الله إن لي مالًا كثيرًا، وليست ترثني إلا ابنتي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فالشطر. قال: «لا» قلت: الثلث؟ قال: «الثلث كثير، إنك إن تركت ولدك أغنياء، خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة إلا أُجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى امرأتك» الحديث. واللفظ للبخاري.
• وأخرج البخاري -أيضًا- في ميراث البنات
(5)
من طريق الأسود بن يزيد قال: أتانا معاذ بن جبل باليمن معلمًا وأميرًا، فسألناه عن رجل توفي، وترك ابنته وأخته، فأعطى الابنة النصف، والأخت النصف.
(1)
النساء: (176).
(2)
كتاب الوصايا، باب: لا وصية لوارث (3/ 1008)2596.
(3)
(6/ 2476)6352.
(4)
كتاب الوصية، باب: الوصية بالثلث (3/ 1250)1628.
(5)
3 -
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الفرائض، باب: ميراث ابنة ابن مع ابنة
(1)
، وباب: ميراث الأخوات مع البنات عصبة
(2)
من طريق هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن بنت وابنة ابن وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعي، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم:«للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الخبر فيكم» واللفظ في الموضع الأول من البخاري.
4 -
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الفرائض، باب: ميراث الأخوات والأخوة
(3)
، ومسلم في صحيحه في كتاب الفرائض، باب: ميراث الكلالة
(4)
من طريق محمد بن المنكدر قال: سمعت جابرًا قال: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا مريض، فدعا بوضوء فتوضأ، ثم نضح عليّ من وضوئه، قال: فأفقت، فقلت: يا رسول الله، إنما لي أخوات، فنزلت آية الفرائض. ولفظ مسلم: حتى نزلت آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}
(5)
.
5 -
أخرج أبو داود في السنن
(6)
، وابن ماجه في السنن
(7)
، والترمذي
(1)
(6/ 2477)6355.
(2)
(6/ 2479)6361.
(3)
(5/ 2479)6362.
(4)
(3/ 1234)1616.
(5)
النساء: (176).
(6)
(3/ 121)2892.
(7)
(2/ 908)2720.
في السنن
(1)
، والدارقطني في السنن
(2)
، والحاكم في المستدرك
(3)
، والبيهقي في الكبرى
(4)
من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قُتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالًا، ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال:«يقضي الله في ذلك» فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعطِ أمهما الثمن، وما بقي فهو لك.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وإسناده حسن، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل مختلف فيه، والراجح أنه حسن الحديث إذا لم يخالفه
(5)
، ولم يخالف هنا. وحسنه الألباني في الإرواء
(6)
.
5 -
أخرج عبد الرزاق في مصنفه
(7)
، وابن أبي شيبة في مصنفه
(8)
، وأحمد في
(1)
(4/ 414)2092.
(2)
(4/ 79)37.
(3)
(4/ 370، 380) 7954، 7995.
(4)
(6/ 229)12092.
(5)
ينظر: تهذيب التهذيب (6/ 13) 19، التقريب (542)3617.
(6)
(6/ 121)1677.
(7)
(9/ 397)17764.
(8)
(5/ 416)27550.
المسند
(1)
، وأبو داود في السنن
(2)
، وابن ماجه في السنن
(3)
، والترمذي في السنن
(4)
، وابن الجارود في المنتقى
(5)
، والطبراني في الكبير
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
، والمقدسي في المختارة
(8)
من طرق عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما أرى الدية إلا للعَصبَة؛ لأنهم يعقلون عنه، فهل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا؟ فقال الضحاك بن سفيان الكلابي، وكان استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعراب: كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أَشْيَمَ الضِّبَابي من دية زوجها. فأخذ بذلك عمر بن الخطاب. واللفظ لأحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
قال الترمذي: حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم.
وقال المقدسي في المختارة: إسناده صحيح.
وبوّب عليه أبو داود: باب في المرأة ترث من دية زوجها.
6 -
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، باب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
(1)
(25/ 22)15745.
(2)
(3/ 129)2927.
(3)
(2/ 883)2642.
(4)
(4/ 27)1415.
(5)
966.
(6)
(8/ 299)8139.
(7)
(8/ 134)16265.
(8)
(8/ 85)86.
آتَيْتُمُوهُنَّ}
(1)
من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت الآية.
وقد أوردتُ نزرًا يسيرًا من الأحاديث النبوية التي تثبت حق المرأة في الإرث، وإلا فكتب السنة ملأى بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه في إثبات حقها، فراجع كتب الفرائض منها إن رمت الزيادة.
(1)
النساء: (19).
المبحث الثاني: شبهة حول ميراث المرأة، والرد عليها
المطلع على توصيات المؤتمرات العالمية للمرأة يقف على المطالبة بمساواة المرأة بالرجل في حق الميراث، ويعتبر عدم المساواة من باب التمييز ضد المرأة، وفي هذه الإجراءات لمز بأحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بميراث المرأة، مما جعل بعضًا من الدول الإسلامية المشاركة في هذه المؤتمرات وغير المشاركة تعترض على هذه الإجراءات والتوصيات، وتبين أن هذا الأمر من الأحكام الشرعية القطعية التي لا تقبل الأخذ والرد، ومن الدول المعترضة: ليبيا، ومصر، وإيران، وموريتانيا، والمغرب، وتونس في كل من المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في القاهرة: 1994 م - 1415 هـ، والمؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة ببكين: 1995 م - 1416 هـ
(1)
.
وبدأ الناعقون الذي ينعقون بما لا يعقلون يرددون كالأبواق توصيات المؤتمرات، ويتولى دعاة جهنم إثارة الشبهات؛ ليطفئوا نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره؛ لأن الزبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وأجزم أن مثير الشبهة لديه جهل تام بأحكام الشرع، ولو درس علم الفرائض الخجل من هذه المطالبة، وإليك تفنيد دعواه، وإبطال شبهته:
1 -
إنّ التفاوت بين الذكور والإناث في بعض مسائل الميراث تحكمه معايير ثلاثة:
(1)
ينظر: رسالة الدكتوراه للدكتور فؤاد العبد الكريم «قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية دراسة نقدية في ضوء الإسلام» 817 - 841.
أولها: درجة القرابة بين الوارث -ذكرًا أو أنثى- وبين المورِّث -المتوفى- فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما بعدت الصلة قل النصيب في الميراث دون ما اعتبار لجنس الوارثين.
ثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال
…
فالأجيال التي تستقبل الحياة، وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، وتخفف من أعبائها، بل وتصبح أعباؤها عادة مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة أو الأنوثة للوارثين والوارثات.
ثالثها: العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله، والقيام به حيال الآخرين، وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتًا بين الذكر والأنثي
…
لكنه تفاوت لا يفضي إلى أي ظلم للأنثى أو انتقاص إنصافها
(1)
.
2 -
لا بد أن تُعْلَم الحكمة من كون نصيب المرأة على النصف من نصيب الرجل، ذلك أن النصيب في الإرث مبني على الأعباء الاقتصادية في الحياة العائلية، لكل منهما؛ فالرجل مكلف شرعًا كما مرّ بدفع المهر
(2)
، والالتزام بالنفقة
(3)
، وإن طلق زوجته كان لها المتعة
(4)
، فالرجل في شريعة الإسلام هو الملتزم بأعباء الأسرة من الناحية المالية، فكان من العدالة أن يكون لهذا الرجل حظ من الإرث أكثر من
(1)
ينظر: التحرير الإسلامي للمرأة للدكتور: محمد عمارة (68).
(2)
ص (581).
(3)
ص (623) فما بعدها.
(4)
ص (610).
حظ المرأة، ليستعين به على أداء هذه التكاليف
(1)
، أما المرأة فتأخذ نصيبها من الميراث دون أدنى مشاركة أو أدني مسؤولية مالية، ويمكن بيان الأمر بصورة حسابية على النحو التالي:
لو توفي رجل -مثلًا- وترك بنتًا وابنًا، وترك لهما مبلغ ستة آلاف، فإن نصيب الابن أربعة آلاف، والبنت ألفان، فإذا تزوج الولد فإن عليه أن يعطي زوجته مهرًا، وأن يعد لها منزلًا، وينفق عليها من ماله، أما أخته فإنه ليس عليها أن تنفق على زوجها، أو تدفع له مهرًا، بل إن زوجها هو المطالب بالنفقة عليها، وإذا لم تتزوج فنفقتها على أبيها أو أخيها أو أقرب الناس إليها، ففي هذه الحالة تكون الأربعة آلاف له ولزوجته وأولاده، فيكون نصيبه مساويًا نصيب أخته، أو أقل منها
(2)
.
قال الإمام النووي رحمه الله في بيان الحكمة من تفضيل الرجال على النساء في الإرث: «حكمته أن الرجال تلحقهم مؤن كثيرة في القيام على العيال، والضيفان، والأرقاء والقاصدين، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات وغير ذلك. والله أعلم»
(3)
.
وقال الشنقيطي: «الحكمة في تفضيل الذكر على الأنثى في هذه الآية، أي قوله تعالى:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، هي ما أشار إليه في آية أخرى، بقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا
(1)
ينظر: شبهات في طريق المرأة المسلمة لعبد الله الجلالي (43)، أوضاع المرأة في القرآن لعبد المنعم سيد حسن (307)، حقوق الإنسان في الإسلام لمحمد الزحيلي (222)، المرأة وحقوقها في الإسلام لمحمد الصادق العفيفي (124).
(2)
ينظر: المرأة المسلمة أمام التحديات لأحمد الحصين (51).
(3)
شرح صحيح مسلم (11/ 53).
مِنْ أَمْوَالِهِمْ}
(1)
لأن القائم على غيره، المنفق ماله عليه مترقب للنقص دائمًا، والمَقُوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائمًا، والحكمة في إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة جبرًا لنقصه المترقب ظاهرة جدًّا»
(2)
.
وختامًا يمكن القول بأن مال الميراث لم يتسبب فيه أحدهما البتة، وما سعيا في تحصيله عرفًا، وإنما هو تمليك من الله ملكهما إيّاه تمليكًا جبريًا، فاقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين وإن أدليا بسبب واحد؛ الترقب الذكر للنقص، والمرأة للزيادة، وهذه حكمة ظاهرة لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته.
3 -
إن استقراء حالات الميراث ومسائله كما جاءت في علم الفرائض -المواريث- يكشف عن حقيقة قد تذهل الكثيرين عن أفكارهم السابقة والمغلوطة في هذا الموضوع
…
فهذا الاستقراء لحالات ومسائل الميراث يبين لنا:
1 -
أن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل، وهي:
أ- وجود البنت مع الابن، وذلك لقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(3)
.
ب- وجود الأب مع الأم عند عدم وجود أولاد ولا زوج أو زوجة، وذلك لقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}
(4)
ففرض للأم الثلث، ويكون الباقي وهو الثلثان للأب.
جـ- وجود الأخت الشقيقة أو لأب، مع الأخ الشقيق أو لأب، وذلك لقوله
(1)
النساء: (34).
(2)
أضواء البيان (1/ 308).
(3)
النساء: (11).
(4)
النساء: (11).
تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(1)
.
د- الزوج والزوجة، وذلك لقوله عز وجل:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}
(2)
فإذا مات أحد الزوجين وترك الآخر، يكون الميراث كما يلي: عند عدم الولد يكون نصيب الزوج النصف، ونصيب الزوجة الربع، وعند وجود الولد يكون نصيب الزوج الربع، ونصيب الزوجة الثمن
(3)
.
2 -
وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث المرأة فيها مثل الرجل تمامًا ومن ذلك:
أ- حالة ميراث الأم مع الأب مع وجود ولد ذكر؛ فالأب يأخذ السدس، والأم كذلك تأخذ السدس، والابن يأخذ الباقي تعصيبًا.
ب- ميراث الإخوة لأم مع الأخوات لأم دائمًا في الميراث يقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}
(4)
فهذه الآية ظاهرة الدلالة على تساوي حظ المرأة مع الرجل، إن كانت الأخوّة من جهة الأم.
3 -
وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، ومن هذه:
أ- فرض الثلثين مفيد للمرأة عن التعصيب للرجل أحيانًا، ومثاله:
إذا ماتت المرأة عن ستين ألفًا، والورثة (زوج، أب، أم، بنتان) فيكون نصيب الزوج الربع أي
(1)
النساء: (176).
(2)
النساء: (12).
(3)
ينظر: ميراث المرأة وقضية المساواة لصلاح الدين سلطان (18)، خصائص النساء لأم عمرو بدوي (112).
(4)
النساء: (12).
12 ألفًا
(1)
، ونصيب الأب السدس أي 8 آلاف، والباقي تعصيبًا (ولم يبق شيء)، ونصيب الأم السدس أي 8 آلاف، ونصيب البنتين الثلثين أي 32 ألفًا لكل بنت 16 ألفًا.
وإذا افترضنا المسألة نفسها ولكن بدل البنتين ابنان، فسيكون نصيب الورثة كما يلي:
نصيب الزوج الربع أي: 15 ألفًا، ونصيب الأب السدس أي 10 آلاف، ونصيب الأم السدس أي 10 آلاف، ونصيب الابنين الباقي تعصيبًا أي 25 ألفًا (لكل ابن 12500) فيتضح من هذا المثال أن نصيب البنت (16) ألفًا، كان أكثر من نصيب الابن (12500).
ب- فرض النصف أفاد الإناث عن التعصيب للرجل أحيانًا، ومثاله:
إذا ماتت المرأة عن 156 ألفًا، والورثة (زوج، أب، أم، بنت)
(2)
فيكون نصيب الزوج الربع أي: 36 ألفًا، ونصيب الأب السدس أي: 24 ألفًا + الباقي تعصيبًا (لم يبق شيء)، ونصيب الأم السدس أي: 24 ألفًا، والبنت النصف أي: 72 ألفًا.
وإذا افترضنا المسألة نفسها ولكن بدل البنت ابن فسيكون نصيب الابن (65 ألفًا) وهو الباقي تعصيبًا، فيكون أقل من نصيب البنت.
(1)
المفترض أن يكون نصيبه 15 ألفًا، ولكن المسألة فيها عول، فنقسم التركة على مجموع الأسهم،
أي 60 على 15=4 آلاف، ويضرب في سهم كل واحد؛ ليتحمل جميع الورثة النقص. والعول في الفرائض: أن تزيد سهام المسألة عن أصلها زيادة يترتب عليها نقص أنصبة الورثة. ينظر: التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية للشيخ صالح الفوزان (161) أحكام المواريث لمحمد عبد الحميد (165).
(2)
المسألة فيها عول.
جـ- فرض الثلث قد يكون أحظ للمرأة من التعصيب للرجل أحيانًا:
ومثاله: الإرث (48) ألفًا، والورثة (زوجة، أم، أختان لأم، أخوان شقيقان) فيكون نصيب الزوجة الربع: أي: 12 ألفًا، ونصيب الأم السدس أي 8 آلاف، ونصيب الأختين لأم الثلث أي 16 ألفًا لكل أخت 8 آلاف، ونصيب الأخوين الشقيقين الباقي تعصيبا أي 12 ألفًا، لكل أخ ستة آلاف.
ففي هذا المثال أخذت كل واحدة من الأختين لأم (8 آلاف) وهما الأبعد قرابة، على حين أخذ كل من الأخوين الشقيقين ستة آلاف.
4 -
الحالات التي ترث فيها المرأة، ولا يرث نظيرها من الرجال:
ومثال هذه الحالات:
أ- بنت الابن وابن الابن و مثال هذه الحالة:
إذا كانت التركة 195 ألفًا، والورثة (زوج، أب، أم، بنت، بنت ابن) فيكون نصيب الزوج الربع أي: 39 ألفًا
(1)
، ونصيب الأب السدس أي 26 ألفًا + الباقي تعصيبًا (ولم يبق شيء)، ونصيب الأم السدس أي 26 ألفًا، ونصيب البنت النصف أي 78 ألفًا، ونصيب بنت الابن السدس أي 26 ألفًا.
وإذا افترضنا المسألة نفسها، ولكن بدل بنت الابن (ابن الابن) فسيكون نصيب الزوج الربع أي: 45 ألفًا، ونصيب الأب السدس أي 30 ألفًا، ونصيب البنت النصف أي 90 ألفًا، ونصيب ابن الابن الباقي تعصيبًا، ولم يبق شيء.
فهنا أخذت بنت الابن بفرض السدس 45 ألفًا، ولم يأخذ ابن الابن شيئًا، وإذا قيل إن ابن الابن هنا له وصية واجبة، فإن هذا خلاف رأي الجمهور
(2)
.
(1)
المسألة فيها عول.
(2)
ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي (5/ 175).
ب- الأخت لأب والأخ لأب و مثال هذه الحالة:
إذا كانت التركة (84) ألفًا، والورثة (زوج، أخت شقيقة، أخت لأب) فيكون نصيب الزوج النصف أي: 36 ألفًا
(1)
، ونصيب الأخت الشقيقة النصف أي 36 ألفًا، ونصيب الأخت لأب السدس أي 12 ألفًا.
وإذا افترضنا المسألة نفسها، ولكن بدل الأخت لأب أخ لأب، فسيكون نصيب الزوج النصف أي: 42 ألفًا، ونصيب الأخت الشقيقة النصف أي 42 ألفًا، ونصيب الأخ لأب الباقي تعصيبًا، ولم يبق شيء.
فهنا أخذت الأخت لأب بفرضها السدس أي 12 ألفًا، ولم يأخذ نظيرها وهو الأخ لأب شيئًا، ولا توجد له وصية واجبة؛ لأنه ليس من فرع ولد الميت.
جـ- ميراث الجدة: فكثيرًا ما ترث، ولا يرث نظيرها من الأجداد، ومثاله:
(أب أم، وأم أم) فأب الأم ممنوع؛ لأنه جد غير وارث، وأم الأم ترث السدس فرضًا + الباقي ردًا عليها.
وهكذا هناك عشرات الأمثلة التي تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترث هي ولا يرث نظيرها من الرجال، في مقابل أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل؛ لأسباب تتوافق مع الروافد الأخرى من الأحكام الشرعية التي تتكامل أجزاؤها في توازن دقيق، ولا يظلم طرف على ح ساب آخر؛ لأنها شريعة الله تعالى الحكيم الخبير
(2)
.
• ونظرًا للحقوق المالية التي كفلها الإسلام للمرأة في ظله؛ جعلت منصفي الغرب يرونه أنموذجًا حريًّا أن يُقتدى به، ولا غرو فإن م شرعه الله:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
(3)
ومن أقوالهم في ذلك:
(1)
المسألة فيها عول.
(2)
ينظر للاستزادة كتاب: ميراث المرأة وقضية المساواة لصلاح الدين سلطان، فقد أفاد صاحبه وأجاد.
(3)
الملك: 14.
• قالت «أني بيزنت» مؤلفة كتاب «الأديان المنتشرة في الهند» : «ما أكبر خطة العالم في تقدير نظريات النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالنساء» . وبعد أن سردت كثيرًا من الآيات التي تحث على رعاية المرأة وإكرامها قالت: «ولا تقف تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم عند حدود العموميات، فقد وضع قانونًا لوراثة النساء، وهو قانون أكثر عدلًا، وأوسع حرية من ناحية الاستقلال الذي يمنحها إيّاه القانون المسيحي الإنكليزي الذي كان معمولًا به إلى ما قبل نحو عشرين سنة، فما وضعه الإسلام للمرأة يعتبر قانونًا نموذجيًّا فقد تكفل بحمايتهن في كل ما يملكنه من أقاربهن وإخوان وأزواجهن»
(1)
.
(2)
…
فسبحان من حكم فعدل.
(1)
نقلًا عن المرأة بين الفقه والقانون لمصطفى السباعي (214).
(2)
ترجمة عادل زعيتر (474).
الفصل الرابع حق المرأة في التعاقدات المالية
الفصل الرابع حق المرأة في التعاقدات المالية
ضمن الإسلام للنساء حقوقهن في تملك المال، والضِّياع، والدور ونحوها بأي سبب من أسباب التملك المشروع، وأباح لها أن تمارس التجارة، وسائر تصرفات الكسب المباح، ولها أن تقب الهبات من أموالها، وأن تتصدق
(1)
، وأن توصي منه لمن تشاء من غير ورثتها في حدود الثلث، وأن تخاصم غيرها إلى القضاء، ولها أن تفعل ذلك بنفسها أو بمن توكله عنها باختيارها، ومما يدل على ذلك قوله تبارك تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}
(2)
.
فأمر الله تعالى أولياء اليتامى أن يدفعوا إليهم أموالهم بشرط بلوغهم وإيناسهم رشدهم من غير تفرقة بين الذكر والأنثى، فدل ذلك على أهلية المرأة وحقها في التصرف بأموالها، وأن يدفع إليها ما ورثته بعد بلوغها وإيناس رشدها وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
في المشهور عنهم وهو الراجح لظاهر دلالة الآية. وستقف من الأدلة على إثبات أحقيتها في البيع والشراء، والتعاقدات المالية عمومًا:
(1)
مضى ص (192).
(2)
النساء: (6).
(3)
ينظر: المبسوط للسرخسي (24/ 161)، البحر الرائق (8/ 91).
(4)
ينظر: روضة الطالبين (4/ 182)، المجموع شرح المهذب (13/ 372).
(5)
ينظر: المغني (4/ 512)، المبدع (4/ 305).
1 -
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، باب: الشراء والبيع مع النساء
(1)
، ومسلم في كتاب العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق
(2)
، من طريق عروة بن الزبير، قالت عائشة: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اشتري وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق» ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم من العشي، فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:«ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق» واللفظ للبخاري.
وبوّب عليه البخاري «باب الشراء والبيع مع النساء» قال العيني: «مطابقته للترجمة في قوله» اشتري «يخاطب به عائشة، والبيع والشراء كان في بريرة حيث اشترتها عائشة من أهلها، وصدق البيع والشراء هنا من النساء مع الرجال»
(3)
.
2 -
أخرج أبو عبيد في الأموال
(4)
، والطحاوي في شرح معاني الآثار
(5)
من طريق الليث بن سعد، والإمام أحمد في المسند
(6)
من طريق ابن إسحاق، وابن حبان في صحيحه
(7)
، والطبراني في الكبير
(8)
من طريق عمرو بن الحارث، والبيهقي في
(1)
(2/ 756)2047.
(2)
(2/ 1141)1504.
(3)
عمدة القارئ (11/ 280).
(4)
(5)
(2/ 23).
(6)
(25/ 494)16086.
(7)
(8)
(24/ 263)263.
السنن الكبرى
(1)
من طريق أنس بن عياض، وابن عبد البر في الاستيعاب
(2)
من طريق وهيب بن خالد خمستهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عتبة، عن رائطة امرأة عبد الله بن مسعود وأمِّ ولده، وكانت امرأة صَنَاع اليد قال: فكانت تنفق على ولده من صنعتها. قالت: فقلت لعبد الله بن مسعود: لقد شغلتني أنت وولدك عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدّق معكم بشيء. فقال لها عبد الله: والله ما أحب -إن لم يكن في ذلك أجر- أن تفعلي. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني امرأة ذات صنعة أبيع منها، وليس لي ولا لولدي ولا لزوجي نفقة غيرها، وقد شغلوني عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدّق بشيء، فهل لي من أجر فيما أنفقت؟ قال: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنفقي عليهم؛ فإن لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم» واللفظ لأحمد.
قال الهيثمي في المجمع
(3)
: «رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، ولكنه ثقة، وقد توبع» .
قلت: أمّا تدليس ابن إسحاق فقد انتفى؛ لأنه صرح بالتحديث عند الإمام أحمد؛ لكنه صدوق
(4)
، قد توبع، كما تقدم، فالإسناد صحيح.
وفيه اشتغال زوج عبد الله بن مسعود بالبيع والشراء، بل وفضلها على زوجها وولدها، وإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.
(1)
(4/ 178)7549.
(2)
(13/ 13).
(3)
(3/ 118).
(4)
التقريب (825)5762.
3 -
أخرج مسلم
(1)
من أثر طويل من طريق ابن أبي مليكة، أن أسماء قالت:
…
وفيه: فجاءني رجل فقال: يا أم عبد الله إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك، قالت: إني إن رخصت لك ذلك، أبي ذاك الزبير فتعال: فاطلب إليّ والزبير شاهد. فجاء، فقال: يا أم عبد الله إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. فقالت: مالك بالمدينة إلا داري؟ فقال لها الزبير: مالك أن تمنعي رجلًا فقيًرا يبيع، فكان يبيع إلى أن كسب، فبعته الجارية، فدخل عليّ الزبير، وثمنها في حجري، فقال: هبيها لي. قالت: إني قد تصدقت بهما. قال ابن حزم: «فهذا الزبير وأسماء بنت الصديق قد أنفذت الصدقة بثمن خادمها، وبيعها بغير إذن زوجها» .
وقد مرّ في البحث
(2)
أن مال المرأة ملك لها، تتصرف فيه كيف شاءت، وكانت الجارية ملكًا لأسماء فباعتها، ولم يفتقر ذلك لإذن الزبير زوجها رضي الله عنهما.
3 -
أخرج مسلم
(3)
من طريق عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرعكن لحوقًا بي، أطولكن يدًا» قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا. قالت: فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها، وتصدّق. وأخرجه الحاكم في مستدركه
(4)
من طريق عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه أسرعكن لحوقًا بي أطولكن يدًا. قالت عائشة: فكنا إذا
(1)
في صحيحه كتاب السلام، باب: جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق (4/ 1716)2182.
(2)
ص (192) فما بعدها.
(3)
كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل زينب أم المؤمنين رضي الله عنها (4/ 1907)2452.
(4)
(4/ 26)6776.
اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينت بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا يدًا، فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة. قال: وكانت زينت امرأة صناعة اليد، فكانت تدبغ وتخرز، وتصدق في سبيل الله عز وجل.
قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وفي الحديث أن زينب رضي الله عنها كانت تدبغ وتخرز، وتبيع ذلك؛ لتتصدق به في سبيل الله، فكوفئت بسرعة لحاقها بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
4 -
ذكر ابن الأثير في أسد الغابة
(1)
، والحافظ في الإصابة
(2)
أن مليكة والدة السائب بن الأقرع كانت تبيع العطر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5 -
وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب
(3)
أن أسماء بنت مخرمة كانت تبيع العطر بالمدينة.
ومن هنا يتّضح أن المرأة المسلمة كانت تقوم بالمعاملات المالية من بيع وشراء، وينفذ تصرفها في مالها دون الحاجة لإذن وليها، وفي ظل شريعة الإسلام تحررت المرأة من عوامل الحجر والوصاية الظالمة.
يقول د. محمد البوطي: «وإذ قد ثبت أن التملك حق للمرأة، كما هو حق للرجل دون تفريق، فذلك يستلزم أن مصادر الملكية بالنسبة إليهما واحدة، ومن المعلوم أن مصادر الملكية إحراز المباحات، والعقود المالية، والتولد من المملوك
(1)
(7/ 270).
(2)
(8/ 124)11772.
(3)
(4/ 1837) عند ترجمة الربيع بنت معوذ (3336).
والخلفية -أي الميراث- والهبات وما في حكمها من الصدقات، فهذه المصادر هي مصادر التملك لكل من الرجل والمرأة على السواء»
(1)
.
وسيأتي مزيد بيان لهذا الفصل في حقها في العمل
(2)
، لارتباط بعضهما مع بعض.
(1)
المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني (53).
(2)
ص (575) فما بعدها.
الفصل الخامس حق المرأة في الغنيمة
الفصل الخامس حق المرأة في الغنيمة
إن المرأة المسلمة عضو فعّال في مجتمعها، تُسْهِم في إصلاحه والدفاع عنه، فتجدها في السلم القارّة في بيتها، المراعية لشؤون رعيتها، وفي الحرب مشاركة بدواء الجرحى، وسقي العطشى، وقد مر في حقها في الجهاد من الأدلة ما برهن على فاعليتها، وصدق عاطفتها، ورسوخ إيمانها، ودفاعها عن الدعوة، وصاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام؛ فلا تعجب حين تطالع هذا الفصل ضمن حقوقها المالية.
• واختلف أهل العلم في المرأة التي تحضر الغزو هل يسهم
(1)
لها أو لا على قولين:
القول الأول: ذهب الأوزاعي
(2)
إلى أن المرأة يسهم لها كالرجل إن شهدت الغزو.
واستدل بما يأتي:
1 -
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف
(3)
، وأحمد في المسند
(4)
، وأبو داود في
(1)
قال ابن الأثير: «فيه كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم من الغنيمة شهد أو غاب. السهم في الأصل واحد السهام التي يضرب بها في الميسر وهي القداح، ثم سمي ما يفوز به الفالج سهمه، ثم كثر حتى سمي كل نصيب سهمًا» النهاية (2/ 429) مادة (س هـ م).
قال ابن المنذر: «وأجمعوا أن للفرس سهمين، وللرجل سهمًا» الإجماع (82).
(2)
ينظر: سنن الأوزاعي (413)، سنن الترمذي (4/ 126)، الرد على سير الأوزاعي (37 - 38)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 431).
(3)
(6/ 537).
(4)
(37/ 21)22332.
السنن
(1)
، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني
(2)
، والنسائي في الكبرى
(3)
، والبيهقي في الكبرى
(4)
من طرق عن رافع بن سلمة، عن حشرج بن زياد، عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سادس ست نسوة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا، فجئنا، فرأينا فيه الغضب، فقال:«مع من خرجان، وبإذن من خرجتن؟!. فقلنا: يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر، ونعين به في سبيل الله، ومعنا دواء الجرحى، وتناول السهم، ونسقي السويق. قال: «قمن» حتى إذا فتح الله عليه خيبر، أسهم لنا كما أسهم للرجال. قال: فقلت لها يا جدة، وما كان ذلك؟ قالت: تمرًا واللفظ لأبي داود.
وفي إسناده حشرج بن زياد الأشجعي، قال الذهبي:«لا يعرف»
(5)
وقال الحافظ: «مجهول»
(6)
.
وضعف إسناده الخطابي في معالم السنن
(7)
، والألباني في ضعيف سنن أبي داود
(8)
.
وعلى فرض صحته، فقد أجاب عنه العلماء، فقال البيهقي في الكبرى:«إخبارها عن عين ما أعطاهن دلالة على كونه رضخًا» .
(1)
(3/ 74)2729.
(2)
(6/ 81).
(3)
(5/ 227)8879.
(4)
(6/ 332)12694.
(5)
الميزان (2/ 309)2075.
(6)
لسان الميزان (7/ 199)2675.
(7)
(2/ 142).
(8)
(3/ 74)2729.
وقال ابن القيم في حاشية السنن
(1)
2 -
ما أخرجه سعيد بن منصور في السنن
(2)
، وأبو داود في المراسيل
(3)
من طريق سعيد بن أبي هلال، أن ابن شبل حدثه أن سهلة بنت عاصم ولدت يوم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تساهلت» ثم ضرب لها بسهم. فقال رجل من القوم: أعطيت سهلة مثل سهمي.
وإسناده ضعيف، فيه ابن شبل لم يسم، وقال الذهبي
(4)
والحافظ
(5)
«لا يعرف» ثم إنه مرسل كما قال ذاك الذهبي
(6)
.
قال ابن قدامة في المغني
(7)
: «
…
ولذلك عجب الرجل الذي قال: أعطيت سهلة مثل سهمي. ولو كان هذا مشهورًا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما عجب منه».
القول الثاني: ما ذهب إليه مالك
(8)
بأن النساء لا سهم لهن ولا رضخ.
واستدل بأن النساء لا جهاد عليهن، وإنما يجب السهم والرضخ لمن كان
(1)
(3/ 102).
(2)
(1/ 2/ 330)2784.
(3)
(1/ 224)280.
(4)
الميزان (7/ 452)10807.
(5)
التقريب (1248)8545.
(6)
الميزان (7/ 452)10807.
(7)
(9/ 205).
(8)
ينظر: المدونة (3/ 33)، النوادر والزيادات (3/ 186).
مقاتلًا
(1)
. ويجاب عنه بأنه قياس في مقابل النص، فلا يؤخذ به.
القول الثالث: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء: الليث، والثوري
(2)
، والكوفيون
(3)
، والشافعي
(4)
، وأحمد
(5)
بأن النساء لا يسهم لهن، ولكن يُرْضَخ لهن.
والرَضْخ: العطية
(6)
. يقول ابن قدامة في المغني
(7)
واستدلوا بما يأتي:
1 -
ما أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد، باب: النساء الغازيات يرضخ لهن، ولا يسهم
(8)
، من طريق يزيد بن هرمز، أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال، وفيه: «فكتب إليه ابن عباس (يعني: لنجدة) كتبت تسألني
(1)
ينظر: شرح ابن بطال لصحيح البخاري (4/ 120).
(2)
عزاه لهما الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء (1/ 340)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 194)، وابن قدامة في المغني (9/ 204).
(3)
ينظر: الرد على سير الأوزاعي (37)، مختصر اختلاف العلماء (1/ 430)، المبسوط للسرخسي (10/ 45).
(4)
ينظر: الأم (4/ 165)، شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 190).
(5)
ينظر: المغني (9/ 204)، المبدع (3/ 366).
(6)
ينظر: مشارق الأنوار (1/ 366)، اللسان (3/ 19)، المصباح المنير (288) مادة (ر ض خ).
(7)
(9/ 204).
(8)
(3/ 1444)1812.
هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهمن فيداوين الجرحى، ويُحْذَيْنَ
(1)
من الغنيمة، وأمّا بسهم فلم يضرب لهن
…
».
قال النووي: «وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ، ولا تستحق السهم»
(2)
.
2 -
قال ابن قدامة: «
…
ولأنهما (أي: المرأة، والمملوك) ليسا من أهل القتال، فلم يسهم لهما كالصبي. قالت عائشة: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة
(3)
.
ومن هنا يتبين أن المرأة إذا شهدت الغزو لعلاج الجرحى، ومداوة العطشى يرضخ لها من الغنيمة؛ للنص؛ وتطييبًا لخاطرها؛ وتقديرًا لجهدها.
فهل رأيت دينًا احترم المرأة وأعطاها حقها في السلم والحرب الإسلام؟!
(1)
يحذين: أي يعطين.
ينظر: مشارق الأنوار (1/ 234)، النهاية (1/ 344) مادة (ح ذ و).
(2)
شرح صحيح مسلم (12/ 190).
(3)
تقدم تخريج الحديث ص (470)، وقوله في المغني (9/ 205).
الفصل السادس حق المرأة في الدِيَّة
الفصل السادس حق المرأة في الدِيَّة
لم يحفظ الإسلام حق المرأة في حياتها فحسب، بل وحفظه بعد مماتها؛ لأنه ساوى بين المرأة والرجل في أصل الإنسانية، وكفل لكل منهما حقوقه، وألزمه بواجبات تتناسب مع خلقته، وحين يعتدى عليه فتتلف روحه أو جزء منه، فإن الإسلام يلزم المتعدي بلوازم سواءٌ كان مخطئًا أو عامدًا.
• ومن تلك اللوازم الدية: والدية أصلها: وَدْية، تقول: ودى القتيل يديه إذا أعطى وليه ديته، وهي: المال الواجب بالجناية على الجاني في نفس أو طرف أو غيرهما
(1)
.
وتسمى الدية بـ (العقل) وأصل ذلك: أن القاتل كان إذا قتل قتيلًا جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول، أي شدها بعقالها؛ ليسلمها إليهم
(2)
.
• قال ابن قدامة: «كتاب الديات: الأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}
(3)
(4)
.
ودية المرأة على النصف من دية الرجل، ونقل ابن المنذر
(5)
، والقرطبي
(6)
،
(1)
ينظر: فتح الباري (12/ 187)، التعاريف للمناوي (346)، فتح القدير (1/ 175).
(2)
ينظر: النهاية (3/ 278) مادة (ع ق ل)، فتح القدير (1/ 175).
(3)
النساء: (92).
(4)
المغني (8/ 289).
(5)
الإجماع (116).
(6)
تفسير القرطبي (5/ 325).
وابن عبد البر
(1)
الإجماع على ذلك.
يقول الشافعي: «لم أعلم مخالفًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا في أن دية المرأة نصف دية الرجل وذلك خمسون من الإبل»
(2)
.
قال القرطبي: «وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل. قال أبو عمر: إنما صارت ديتها -والله أعلم- على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا إنما هو في دية الخطأ، وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
(3)
(4)
.
وكما جرت عادت مقلِّدي المستشرقين الجهلة بالشريعة وأحكامها بدأوا يدندنون حول موضوع دية المرأة، متمسكين بخيوط أوهي من خيوط بيت العنكبوت، مثيرين التساؤلات، ومبدين الاستغرابات، ومطالبين بالمساواة؛ ولنقض شبهتهم؛ أُورد الآتي:
1 -
إن كان قتل الخطأ فيه الدية، فإن قتل العمد فيه القصاص، ويستوي في الثاني منهما الذكور والإناث، قال ابن عبد البر: «وأما جمهور العلماء، وجماعة أئمة الفتيا بالأمصار فمتفقون على أن الرجل يقتل بالمرأة، كما تقتل به لقول الله عز وجل:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
(5)
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون
(1)
التمهيد (17/ 358).
(2)
الأم (6/ 106).
(3)
المائدة: (45).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 326).
(5)
المائدة: (45).
تتكافأ دماؤهم»
(1)
.
ودليله -أيضًا- ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الديات، باب: قتل الرجل بالمرأة
(2)
، ومسلم في صحيحه في كتاب القسامة، والمحاربين والديات، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات وقتل الرجل بالمرأة
(3)
، من حديث أنس بن مالك قال: أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر. قال: فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبها رمق. فقال لها:«أقتلك فلان؟» فأشارت برأسها أن لا: ثم قال لها الثانية، فأشارت برأسها أن لا. ثم سألها الثالثة فقالت: نعم، وأشارت برأسها، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين. واللفظ لمسلم.
(4)
.
(1)
جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد (11/ 587) 7012، وأبو داود في السنن (3/ 80) 2751، والبيهقي في الكبرى (8/ 29) 15688 من طرق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا بلفظه عند أبي داود.
وسنده حسن؛ لأجل أنه من رواية عمرو بن شعيب، وقد تقدم تحقيق القوق في روايته ص (198) لكن له شاهد من حديث عليّ أخرجه أحمد في المسند (1/ 122) 993 ومن طريقه أبو داود في السنن (4/ 180) 4530. وفيه:«المؤمنون تكافأ دماؤهم» وحسن إسناده الحافظ في الفتح (12/ 261) ورجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي حسان الأعرج، فمن رجال مسلم، وهو صدوق، وروايته عن علي مرسلة: ينظر: جامع التحصيل (280) 764، التقريب (1133)8105.
(2)
(6/ 2524)6491.
(3)
(3/ 1299)1672.
(4)
شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 158).
ومن هنا يتَّضح أن العقوبات المعنوية التي تعد أشد أثرًا، وأنكى ألمًا يتساوى فيها الرجال والنساء، فتقاد المرأة بالرجل، ويقاد بها، ولا شك أن العقوبات المادية أقل منها بمراحل، وعقوبة القتل العمد القصاص إلا أن يعفو أهل المقتول، فيقتص من القاتل رجلًا كان أو امرأة، للمقتول أيَّا كان منهما؛ لأننا هنا بصدد روح إنسانية في مقابل روح إنسانية أخرى، والرجل والمرأة في الإنسانية سواء.
2 -
وإذا كان القتل خطأ، أو عفا أهل المقتول وطلبوا الدية؛ فإن الدية لا تعد ثمنا مقابل المقتول؛ لأن الإنسان لا يقدر بمال، لكن الدية منحة ربانية روعي فيها الخسارة المالية التي تلحق الأسرة في فقد رجل يعولها أو سيعولها إن أنس الرشد، وبلغ مبلغ الرجال، بخلاف المرأة التي تعال وينفق عليها؛ فإذا كان الغنم بالغرم، فلا تخفاك حكمة اللطيف الخيبر، ويدلل على هذا أن الإسلام لم يفرق في دية الجنين بين كونه أنثى أو ذكرًا، إذ قضى فيه بغرة
(1)
: عبد أو أمة، وعلة عدم هذه التفرقة أن الجنين ذكرًا كان أم أنثى لم يكن قد دخل بعد في المسؤولية في نظام النفقات في الأسرة؛ لأنه لم يولد حيًّا حتى يصبح بعد ذلك كاسبًا، فحكمه على التساوي الأصلي بين الذكر والأنثى في الديات.
ودليل هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الديات، باب: جنين المرأة، وأن العقل على الوالد، وعصبة الوالد لا على الولد
(2)
، ومسلم في صحيحه في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ، وشبه العمد على عاقلة الجاني
(3)
من حديث أبي هريرة قال: اقتتلت
(1)
يأتي تفسيرها بعد هاشيتين.
(2)
(6/ 2532).
(3)
(3/ 1309)1681.
امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرّة: عبد أو وليدة
(1)
، وقضى أن دية المرأة على عائلتها. واللفظ للبخاري، وزاد في رواية خالد بن عبد الرحمن عند البخاري في كتاب الطب، باب: الكهانة
(2)
: «فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل
(3)
؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هذا من إخوان الكهان» .
قال النووي: «
…
واعلم أن المراد بهذا كله إذا انفصل الجنين ميتًا، أما إذا انفصل حيا ثم مات، فيجب فيه كمال دية الكبير فإن كان ذكرًا وجب مائة بعير، وإن كان أنثي فخمسون»
(4)
.
فإذا مات الجنين في بطن أمه غرم القاتل قيمة العبد أو الأمة سواءٌ كان الجنين ذكرًا أو أنثى، وما ذاك إلا لمراعاة نظام النفقات، فتنبه.
(1)
قال النووي: «وقد فسر الغرة في الحديث بعبد أو أمة، قال العلماء: وأو هنا للتقسيم لا للشك، والمراد بالغرة عبد أو أمة وهو اسم لكل واحد منهما. قال الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا: أعتق رقبة، وأصل الغرة: بياض في الوجه. ولهذا قال أبو عمرو: المراد بالغرة الأبيض منهما خاصة، ولا يجزئ الأسود، قال: ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائدًا على شخص العبد والأمة لما ذكرها، ولا اقتصر على قوله «عبد أو أمة» هذا قول أبي عمرو، وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء أنه تجزئ فيها السوداء ولا تتعين بالبيضاء» شرح صحيح مسلم (11/ 176)، وانظر: النهاية (3/ 353) مادة (غ ر ر).
(2)
(5/ 2172)5426.
(3)
قال العيني: «يطل بضم الياء آخر الحروف، وفتح الطاء، وتشديد اللام- هكذا في رواية الأكثرين، ومعناه: يهدر
…
وفي رواية الكشميهني: بطل -بالباء الموحدة- من البطلان» عمدة القارئ (21/ 275).
(4)
شرح صحيح مسلم (11/ 176).
3 -
إن من أعظم ما انفردت به شريعة الإسلام - فيما أعلم- أن جعلت دية القتل الخطأ وما في حكمه على عاقلة الجاني.
والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الديات، باب: العاقلة)
(1)
من طريق أبي جحيفة قال: سألت عليا رضي الله عنه هل عندكم شيء ما ليس في القرآن؟ فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه، وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: «العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر» .
• وما تقدم -أيضًا- من حديث أبي هريرة: «وفيه: (وقضى أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن دية المرأة على عاقلتها» .
يقول الشوكاني: «
…
وعاقلة الرجل قراباته من قبل الأب، وهم عصبته، وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول، وتحميل العاقلة الدية ثابت بالسنة، وهو إجماع أهل العلم كما في الفتح
(2)
، وتضمين العاقلة مخالف لظاهر قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ}
(3)
فتكون الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة مخصصة لعموم الآية؛ لما في ذلك من المصلحة؛ لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله، لأن تتابع الخطأ لا يؤمن، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول، وعاقلة الرجل عشيرته، فيبدأ بفخذه الأدنى، فإن عجزوا ض م إليهم الأقرب فالأقرب المكلف الذكر الحر من عصبة النسب، ثم السبب، ثم في بيت المال»
(4)
.
وقد راعت الشريعة في إيجاب الدية على العاقلة أمرين مهمين:
(1)
(6/ 2531)6507.
(2)
(12/ 246).
(3)
الأنعام: (164).
(4)
نيل الأوطار (7/ 243).
الأول: أن عصبة الرجل هم قراباته من قبل أبيه خاصة، وقد أعفيت القرابات من ناحية الأم في إشارة واضحة لاختصاص الذكورة بالنفقات والغرامات المالية.
الثاني: أن الذين يسهمون في العاقلة كل مكلف ذكر، وتخرج المرأة من تحمل شيء منها، قال ابن المنذر:«وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة، والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان من العاقلة»
(1)
.
وفي هذا دليل على أن الإسلام راعي جانب النفقة، والكسب، فجعل للمرأة نصف دية الرجل.
4 -
أن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبدالعزيز، وعروة بن الزبير، والزهري، وقتادة، وابن هرمز
(2)
، قال ابن عبد البر: وهو قول فقهاء المدينة السبعة، وجمهور أهل المدينة، ومالك
(3)
، وأحمد بن حنبل
(4)
. قالوا: تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل إصبعها كإصبعه، وسنها كسنه، وموضحتها كموضحته
(5)
، ومنقلتها كمنقلته
(6)
.
(1)
الإجماع (120).
(2)
عزاه لمن تقدم ابن عبد البر في التمهيد (17/ 358)، والقرطبي في التفسير (6/ 207)، وابن قدامة في المغني (8/ 315).
(3)
ينظر: التمهيد (17/ 358)، الاستذكار (8/ 64).
(4)
ينظر: المغني (8/ 315)، المبدع (8/ 350).
(5)
قال محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي: «الموضحة: التي تبدي وضح العظم أي: بياضه» المطلع (367).
(6)
قال ابن الأثير: «المنقلة من الجراح ما ينقل العظم عن موضعه» النهاية (1/ 3107).
واستدلوا بما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
(1)
، والدارقطني في السنن
(2)
، والنسائي في المجتبى
(3)
من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» .
وإسناده ضعيف، فيه علتان:
الأولى: عنعنة ابن جريج، فإنه مدلس عدّه الحافظ في المرتبة الثالثة
(4)
.
الثانية: ضعف إسماعيل بن عياش في روايته عن الحجازيين
(5)
، وهذه منها. وضعف الحديث الألباني في الإرواء
(6)
.
• وقال الحافظ في التلخيص
(7)
• قال ابن قدامة: «ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك إلا عن علي، ولا نعلم ثبوت ذلك عنه، ولأن ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه الذكر والأنثى.
(1)
(9/ 396)17756.
(2)
(3/ 91)38.
(3)
(8/ 44)4805.
(4)
طبقات المدلسين (37)83.
(5)
التقريب (142)477.
(6)
(7/ 308)2254.
(7)
(4/ 25).
فأما الثلث نفسه فهل يستويان فيه، على روايتين إحداهما: يستويان فيه؛ لأنه لم يعتبر حد القلة، ولهذا صحت الوصية به.
وروي أنهما يختلفان فيه وهو الصحيح، لقوله «حتى يبلغ الثلث» وحق للغاية، فيجب أن تكون مخالفة لما قبلها»
(1)
.
• وفي ختام هذا الفصل يتبين أني لم أتطرق لحق المرأة في التبرعات المالية، وقد سبقتْ دراسة هذا بالتفصيل في فصل الحقوق الشرعية
(2)
، فلتحمد النساء الله تعالى على ما مَنَّ به عليهن من نِعَمٍ عظيمة، فله الحمد كما ينبغي الجلال وجهه، وعظيم سلطانه.
(1)
المغني (8/ 314).
(2)
ص (192).
الباب الرابع حقوق المرأة الاجتماعية
ويحتوي على خمسة فصول:
الفصل الأول: حق المرأة أُمًّا.
الفصل الثاني: حق المرأة بنتًا.
الفصل الثالث: حق المرأة زوجةً.
الفصل الرابع: حق المرأة في العمل.
الفصل الخامس: شبهات حول قضايا المرأة الاجتماعية.
توطئة:
الإنسان مدني بطبعه، يأنس بالناس كما يأنسون إليه، ويحتاج لتقدير من حوله، وتعزيز مكانته بينهم، والإسلام يضمن لأفراده صغارًا وكبارًا ذكورًا وإناثًا حقوقهم الاجتماعية، ويرفلون في عدله، ويشربون من سلسبيل تعاليمه، وستقف جليًّا من خلال هذه الفصول على تعزيز الإسلام لمكانة المرأة الاجتماعية أيًّا كانت: أمًا، أو بنتًا أو زوجةً، أو عضوًا في مجتمع تعدّ أساسًا فيه، وتركيزه على إثبات حقوقها الاجتماعية الشرعية أو المعنوية من خلال هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أُمرنا باتباعه، واقتفاء أثره، ولتحمد نساءُ المؤمنين الرب -جل ذكره، وتعالى اسمه- على نعمه العظيمة علينا معاشر النسوة.
وفي الآتي حديثٌ عن هذه الحقوق في خمسة فصولٍ.
الفصل الأول حق المرأة أُمًّا
الفصل الأول حق المرأة أُمًّا
لقد أوصى الله تعالى في مواضع من كتابه بالإحسان إلى الوالدين، وقرنه بالأمر بعبادته، وبالنهي عن الشرك به، وأمر بالشكر لهما متصلًا بالشكر له، وتأّمل تبويبات العلماء حول آي البر وأحاديثه:«باب: بر الوالدين»
(1)
وإيرادهم الآيات والأحاديث الدالة على وجوب البر التي تدل على عظيم قدرهما، وعدّ الإسلام ضده وهو «عقوق الوالدين» من كبائر الذنوب، وأورد العلماء أحاديثه في كتب الكبائر
(2)
.
وسأشير هنا إلى ما جاء في بر الوالدين على وجه العموم، وما خُصَّتْ به الأم من مزيد عناية، وتأكيد؛ بتقديم حقها في البر:
1 -
(3)
.
وتأمل -رحمك الله- الآية الموصية بير الوالدين لتطالع عظيم حقهما، ورفيع
(1)
ينظر: مصنف ابن أبي شيبة (5/ 218)، صحيح مسلم (4/ 1974)، سنن ابن ماجه (2/ 1206)، سنن الترمذي (4/ 309).
(2)
ينظر: الكبائر للذهبي (40)، الزواجر (2/ 66).
(3)
الإسراء: (23 - 24).
قدرهما عند الله تعالى:
أ- افتتحت الآية بـ (وقضى) والقضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ، وقضاء الله هنا قضاؤه الشرعي، والدليل عليه أن الواحد منا إذا أمر غيره بشيء، فإنه لا يقال إنه قضى عليه، إلا إذا أمره أمرًا جزمًا، وحكم عليه بذلك الحكم على سبيل البت والقطع
(1)
، فكان التعبير بـ (قضى) عند الوصاية ببر الوالدين آكد من التعبير بغيرها من الألفاظ.
ب- اختيار مقام الربوبية في الأمر بالبر والإحسان للوالدين؛ مشعر بالخلق والملك والتدبير للعبد، ولزوم السمع والطاعة للرب سبحانه.
جـ- القرن بين إخلاص العبادة لله سبحانه، وبر الوالدين يدل على شدة تأكيد وجوب برهما، ورفيع منزلتهما.
واعلم أنه تعالى أَمر الإنسان بعبادته سبحانه، ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين لأن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده، والسبب الظاهري هو الأبوان، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري
(2)
.
د- {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا} إمّا مركبة من أن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها، ولذلك دخل الفعل نون التأكيد، ومعنى {عِنْدَكَ} عندك في كنفك وكفالتك، وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخر عنه للتشويق إلى وروده، فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان، ونبه بـ {الْكِبَرَ} لأنه وقت حاجتهما إليك، وأتى
(1)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (20/ 147).
(2)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (20/ 148).
بـ {عِنْدَكَ} لتأكيد هذه الحاجة»
(1)
، يقول الرازي:«معناه أفما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر»
(2)
.
هـ- ثم كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء:
الأول: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وهذا مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف.
الثاني: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} يقال: نهره، وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. فإن قيل: المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بطريق الأولى، فلِمَ قدم المنع من التأفيف ثم أتبعه بالمنع من الانتهار؟ قيل: المراد من قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} المنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، والمراد من قوله {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه، والتكذيب له.
الثالث: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} ولما منع الله تعالى الإنسان بالآية المتقدمة من ذكر القول المؤذي الموحش، والنهي عن القول المؤذي لا يكون أمرًا بالقول الطيب أردفه بأن أمره بالقول الحسن، والكلام الطيب فقال:{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} والمراد منه أن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم والاحترام. قال عمر بن الخطاب: هو أن يقول له يا أبتاه، يا أماه، وسئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ.
الرابع: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} والمقصود منه المبالغة في التواضع. وفي {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} وجهان:
(1)
ينظر: تفسير أبي السعود (5/ 166).
(2)
التفسير الكبير (20/ 151).
الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فرخيه إليه للتربية خفض لهما جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد ترك الطيران، وترك الارتفاع خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه.
الخامس: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ولم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال، بل أضاف إليه تعليم الأفعال، وهو أن يدعو لهما بالرحمة، فيقول: رب ارحمهما، ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا، ثم يقول:{كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ، أي افعل بهما يا رب هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إليّ في تربيتهما إيّاي، والتربية هي التنمية
(1)
.
فانظر إلى مراعاة نفسيات الوالدين في الآية بالقول والفعل؛ واحرص على أن تحفظ باب الجنة، ولا تضيعه.
وقد خص الرب جل وعلا الأم بالذكر فقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}
(2)
.
يقول الشيخ السعدي: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} أي عهدنا إليه، وجعلناه وصية عنده، سنسأله عن القيام بها، وهل حفظها أم لا فوصيناه {بِوَالِدَيْهِ} وقلنا له: {اشْكُرْ
(1)
ينظر فيما تقدم التفسير الكبير للرازي (20/ 154).
(2)
لقمان: (14).
لِي} بالقيام بعبوديتي، وأداء حقوقي، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي {وَلِوَالِدَيْكَ} بالإحسان إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما، وإجلالهما، والقيام بمؤونتهما، واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه بالقول والعمل، فوصيناه بهذه الوصية، وأخبرناه أن {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك، وكلفك بهذه الحقوق فيسألك هل قمت بها، فيثيبك الثواب الجزيل، أم ضيعتها فيعاقبك العقاب الوبيل، وذلك السبب الموجب لبر الوالدين في الأم فقال {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق من حيث يكون نطفة من الوحم والمرض والضعف والثقل وتغير الحال، وثم وجع الولادة ذلك الوجع الشديد {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وهو ملازم لحضانة أمه، وكفالتها، ورضاعها، أفما يحسن من تحمل على ولده هذه الشدائد مع شدة الحب، أن يؤكَّد على ولده، ويوصى إليه بتمام الإحسان إليه»
(1)
.
2 -
ما أخرجه البخاري
(2)
، ومسلم
(3)
من طريق أبي عمرو الشيباني قال: أخبرنا صاحب هذه الدار، وأومأ بيده إلى دار عبد الله، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» قال: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين» قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني.
قال الطبري: «إنما خصّ صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها عنوان على ما سواها
(1)
تفسير السعدي (648).
(2)
كتاب الأدب، باب: البر والصلة، وقول الله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (5/ 2227)5625.
(3)
كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (1/ 89)85.
من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى خرج وقتها من غير عذر مع خفة مؤونتها، وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برًا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك»
(1)
.
قال الحافظ: «وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين، وأن أعمال البر يفضل بعضها على بعض» وقال أيضًا: «وقال ابن التين: تقديم البر على الجهاد يحتمل وجهين:
أحدهما: التعدية إلى نفع الغير.
والثاني: أن الذي يفعله يرى أنه مكافأة على فعلهما، فكأنه يرى أن غيره أفضل منه. فنبهه على إثبات الفضيلة فيه. قلت: والأول ليس بواضح، ويحتمل أنه قُدم لتوقف الجهاد عليه، إذ من بر الوالدين استئذانهما في الجهاد، لثبوت النهي عن الجهاد بغير إذنهما»
(2)
.
3 -
ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة
(3)
، ومسلم في صحيحه في كتاب البر، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به
(4)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» ثم قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك» .
(1)
نقله عنه العيني في عمدة القارئ (14/ 79).
(2)
الفتح (2/ 10).
(3)
(5/ 2227)5626.
(4)
(4/ 1974)2548.
(1)
.
وقال القرطبي: «المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة»
(2)
.
ونقل المحاسبي الإجماع على أن الأم مقدمة في البر على الأب
(3)
.
4 -
ما أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: الجهاد بإذن الوالدين
(4)
وفي كتاب الأدب، باب: لا يجاهد إلا بإذن الأبوين
(5)
، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: بر الوالدين، وأنهما أحق به
(6)
، من حديث عبد الله بن عمرو يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد. فقال: «أحيٌّ والداك؟ قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد» واللفظ للبخاري في الموضع الأول منهما. وفي رواية لمسلم
(7)
من طريق ناعم مولى أم سلمة، عن عبد الله بن عمرو أنه قال «فأحسن صحبتهما» وفي
(1)
شرح صحيح البخاري (9/ 108).
(2)
المفهم (6/ 54).
(3)
نقله عنه النووي في شرح صحيح مسلم (16/ 102)، والحافظ في الفتح (10/ 403)، والعيني في عمدة القارئ (22/ 83).
(4)
(3/ 1094)2842.
(5)
(5/ 2228)5627.
(6)
(4/ 975)2549.
(7)
(4/ 1975)2549.
رواية أبي داود
(1)
، والنسائي
(2)
، وصححها الألباني
(3)
من حديث عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، فقال:«ارجع عليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما» .
قال الحافظ: «قوله: (ففيهما فجاهد) أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما، ويستفاد منه جواز التعبير عن الشيء بضده إذا فُهِم المعين؛ لأن صيغة الأمر في قوله (فجاهد) ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما لهما، وليس ذلك مرادًا قطعًا، وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد، وهو تعب البدن والمال، ويؤخذ منه أن كل شيء يتعب النفس يسمى جهادًا
…
قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية فإذا تعين الجهاد فلا إذن»
(4)
.
5 -
وكما أنه يقدم أمر الوالدين في الجهاد، فإنه يقدم في صلاة التطوع، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، باب: إذا دعت الأم ولدها في الصلاة
(5)
، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة والآداب، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به
(6)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان جريج يتعبد في صومعة، فجاءت أمه -قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته، كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها
(1)
(3/ 17)2528.
(2)
(7/ 143)4163.
(3)
صحيح سنن أبي داود (2528).
(4)
الفتح (6/ 140 - 141).
(5)
(1/ 404)1148.
(6)
(4/ 1976)2550.
قال الحافظ: «وفي الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع؛ لأن الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم وبرها واجب. قال النووي وغيره: إنما دعت عليه فأجيبت؛ لأنه كان يمكنه أن يخفف ويجيبها، لكن لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا وتعلقاتها.
كذا قال النووي، وفيه نظر لما تقدم من أنها كانت تأتيه، فيكلمها. والظاهر أنها كانت تشتاق إليه فتزوره، وتقتنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف ثم يجيبها؛ لأنه خشي أن ينقطع خشوعه
…
واختلف أهل العلم هل تقطع الصلاة الإجابة دعوة الأم أم لا؟ والراجح أنها لا تقطع في الفرض، وأمّا إذا كانت الصلاة نفلًا، وعلم تأذي الوالد بالترك وجبت الإجابة وإلا فلا»
(1)
.
6 -
بل إن الرب سبحانه وتعالى جعل بر الوالدين م ن أكبر الأسباب المكفرة
(1)
الفتح (6/ 483) وانظر: شرح النووي (16/ 105)، عمدة القارئ (7/ 282).
للذنوب، أخرج الإمام أحمد في المسند
(1)
وابن حبان في صحيحه
(2)
، والحاكم في المستدرك
(3)
والسهمي في تاريخ جرحان
(4)
من طريق أبي معاوية، عن محمد بن سُوقَة؛ عن أبي بكر بن حفص، عن ابن عمر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله إني أذنبت ذنبًا كبيرًا، فهل لي توبة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألك وَالِدان؟ «قال: لا. قال: «فلك خالة؟» قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فبّرها إذن» واللفظ لأحمد.
وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وفي الحديث تعليم لكيفية التوبة بأنه ينبغي أن يزيد عليها حسنة؛ لتكون ماحية للسيئة. وفيه أن الخالة بمنزلة الأم.
7 -
بل أوجب الإسلام بر الوالد المشرك أو المخالف دون طاعته في معصية الله، يقول تعالى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}
(5)
.
وأخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب: صلة الوالد المشرك
(6)
، ومسلم في صحيحه في كتاب الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين
(1)
(8/ 241)4624.
(2)
(2/ 177)435.
(3)
(4/ 171)7261.
(4)
(5)
لقمان: (15).
(6)
(5/ 2230)5634.
والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين)
(1)
من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها؟ قال: نعم. قال ابن عيينة فأنزل الله تعالى فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}
(2)
. واللفظ للبخاري.
8 -
كما عدّ الإسلام عقوق الوالدين من الكبائر، بل إن التسبب في مسبتهما كبيرة.
أ- أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر
(3)
، ومسلم في صحيحه في كتاب الأقضية، باب: النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات
…
(4)
من حديث المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» واللفظ للبخاري.
قال الحافظ: «
…
قيل: خص الأمهات بالذكر؛ لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء، لضعف النساء، ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك»
(5)
.
ب- أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر
(6)
، ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها
(7)
(1)
(2/ 696)1003.
(2)
الممتحنة: (8).
(3)
(5/ 2229)5630.
(4)
(3/ 1341)593.
(5)
الفتح (5/ 68).
(6)
(5/ 2229)5631.
(7)
(1/ 91)87.
من حديث أبي بكرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ «فقلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» وكان متكئًا فجلس فقال: «ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور» فما زال يقولها حتى قلنا: «لا يسكت» واللفظ للبخاري.
جـ- بل نهى الإسلام عن التسبب في لعن الوالد، وعده من أكبر الكبائر، فكيف إذا صرح الولد بسبهما؟! أخرج البخاري في كتاب الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه
(1)
، من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه» .
قال ابن بطال: «هذا الحديث أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم، والأصل في هذا الحديث قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
(2)
.
ومما تقدم يتبين وجوب الإحسان إلى الوالدين عمومًا، وإلى الأم على وجه الخصوص؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها ثلاثة أضعاف ما للأب، فيحسن إليها بالقول والفعل، ويكف أذاه عنها، بل لا يتسبب في أن يكون سببًا لإيذائها، وإن اختلف الدين بين الوالد والولد وجب بر الوالد لعظيم حقه، ما لم يأمر بمعصية، فتنبه -حفظك الله- لحق الأم، والزم رجليها فَثَّم الجنة، أعانني الله وإيّاك على برهما، وأداء حقهما.
(1)
(5/ 2228)5628.
(2)
الأنعام: (108)، وانظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (5/ 102).
الفصل الثاني حق المرأة بنتًا
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: الأمر بالإحسان للبنات.
المبحث الثاني: تسوية البنت مع الذكر في العطية.
المبحث الثالث: حرية البنت في اختيار الزوج.
المبحث الرابع: تحريم العَضْل.
لا يحفظ الإسلام حق المرأة كبيرة فحسب عند شيب الرأس، وكبر الولد، بل يحفظه -أيضًا- للمرأة منذ نعومة أظافرها، وصغر سنها، فيوجب حفظ حياتها كما مرّ
(1)
، بل ويجعل هذه الحياة كريمة تليق بها، وسيتضح ذلك جليًّا من خلال مباحث هذا الفصل.
(1)
ص (40) فما بعدها.
المبحث الأول: الأمر بالإحسان إلى البنات
أتت النصوص الشرعية مختلفة الألفاظ، متحدة المعاني في الأمر بالبر بالبنات، والإحسان إليهن، وتأمل ما سيأتي لتقف على رفيع قدر البنت، وتغتبط أن رُزِقتها؛ لتنال عظيم الأجر، ورفيع القدر إن شاء الله.
1 -
الإحسان إلى البنات ستر من النار: أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة
(1)
، وفي كتاب الأدب، باب: رحمة الولد، وتقبيله، ومعانقته
(2)
، ومسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة والآداب، باب: فضل الإحسان إلى البنات
(3)
من حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: جاءتني امرأة، ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إيّاها، فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها و لم تأكل منها شيئًا. ثم قامت فخرجت وابنتاها. فدخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له سترًا من النار» واللفظ لمسلم.
(1)
(2/ 513)1351.
(2)
(5/ 2234)5649.
(3)
(4/ 2027)2629.
وفي الحديث من الفوائد المتعلقة بالمبحث:
1 -
تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبًا عن القيام بمصالح أنفسهن، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن، وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال
(1)
.
2 -
الابتلاء يكون بالخير كما يكون بالشر، يقول تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
(2)
والبنات خير إن أُحْسِن إليهن، لتسببهن في دخول المحسن الجنة، والنجاة من النار.
قال النووي تبعًا لابن بطال: «إنما سماه ابتلاء؛ لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك، ورغب في إبقائهن، وترك قتلهن بما ذكر من الثواب الموعود به من أحسن إليهن، وجاهد نفسه في الصبر عليهن»
(3)
.
وقال الحافظ: «قال شيخنا في «شرح الترمذي» : يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار، أي من اختبر بشيء من البنات لينظر ما يفعل أيحسن إليهن أو يسيء، ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى، فإن من لا يتقي لا يأمن أن يتضجر من وكله الله إليه، أو يقصر عما أمر بفعله، أو لا يقصد بفعله امتثال أمر الله، وتحصيل ثوابه. والله أعلم»
(4)
.
3 -
في الحديث فضل الإحسان إلى البنات، وقد اختلف في المراد بالإحسان هل يقتصر به على قدر الواجب، أو بما زاد عليه؟ قال الحافظ: «والظاهر الثاني؛ فإن
(1)
ينظر: شرح الكرماني (10/ 102)، فتح الباري (10/ 429)، عمدة القارئ (8/ 278).
(2)
الأنبياء: (35).
(3)
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (8/ 201)، شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 179).
(4)
فتح الباري (10/ 429).
عائشة أعطت المرأة التمرة، فآثرت بها ابنتيها، فوصفها النبي صلى الله عليه وسلم ما أشار إليه من الحكم المذكور، فدل على أن من فعل معروفًا لم يكن واجبًا عليه، أو زاد على قدر الواجب عليه عدّ محسنًا، والذي يقتصر على الواجب وإن كان يوصف بكونه محسنًا، لكن المراد من الوصف المذكور قدر زائد، وشرط الإحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره، كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث، والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله».
• وفسّرت الأحاديث النبوية معنى الإحسان، أخرج الإمام أحمد في المسند
(1)
، والبخاري في الأدب المفرد
(2)
، والبزار كما في كشف الأستار
(3)
، والطبراني في الأوسط
(4)
، والبيهقي في الشعب
(5)
من طرق عن علي بن زيد، عن محمد بن المُنْكَدر قال: حدثني جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كنّ له ثلاث بنات يُؤْويهنَّ، ويرحمهنّ، ويَكْفُلُهُن وجبت له الجنة البتة» قال: قيل: يا رسول الله، فإن كانت اثنتين؟ قال:«وإن كانت اثنتين» قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة. لقال: واحدة. واللفظ لأحمد.
قال الهيثمي في المجمع
(6)
: «رواه أحمد، والبزار، والطبراني في الأوسط بنحوه، وزاد «ويزوجهن» من طرق، وإسناد أحمد جيد».
(1)
(22/ 150)14247.
(2)
78.
(3)
(4)
(5/ 90)4760.
(5)
(7/ 469)11025.
(6)
(8/ 157).
قلت: إسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد بن جدعان
(1)
، لكنه توبع، تابعه سفيان بن حسين وهو ثقة في غير الزهري
(2)
عند ابن أبي شيبة في المصنف
(3)
، والبزار في المسند
(4)
، وأبي يعلى في المسند
(5)
، وأيوب السختياني الثقة الثبت الحجة
(6)
عند الطبراني في الأوسط
(7)
كلاهما عن محمد بن المنكدر به بنحوه. فالحديث بمجموع طرقه صحيح. وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد
(8)
.
ومن الحديث يؤخذ أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة فقط
(9)
.
• وقد بيّن حديث جابر المتقدم بعض صور الإحسان: الإيواء، والرحمة، والكفالة، وبيّنها -أيضًا- ما أخرج أحمد في المسند
(10)
، والبخاري في الأدب المفرد
(11)
، وابن عبد الحكم في فتوح مصر
(12)
، وأبو يعلى في المسند
(13)
من طرق عن عبدالله بن يزيد المقرئ، عن حَرْملة بن عمران، عن أبي عُشّانة المَعافري، قال:
(1)
التقريب (696)4768.
(2)
التقريب (393)2450.
(3)
(5/ 221)25434.
(4)
(5)
(4/ 147)2210.
(6)
التقريب (158)610.
(7)
(5/ 226)5157.
(8)
(9)
ينظر: الفتح (10/ 443).
(10)
(28/ 622)17403.
(11)
76.
(12)
(13)
(3/ 299)1764.
سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت له ثلاث بنات، فصبر عليهنّ فأطعمهن، وسقاهن، وكساهن مِنْ جِدَته كن له حجابًا من النار» واللفظ لأحمد.
وإسناده صحيح.
وهذه الأوصاف المتقدمة يجمعها لفظ «الإحسان» وقد تقدم
(1)
إيراد الخلاف في المراد بالإحسان هل يقتصر به على قدر الواجب أو بما زاد عليه.
جـ- جاء في رواية عمر بن عبد العزيز للحديث عند مسلم
(2)
عن عائشة قالت: «
…
فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبي ش أنا، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار» فأثيبت المرأة على رحمتها الفطرية لابنتيها بالعتق من النار، ودخول الجنة، فكيف بمن يرحم بنات لا نسب له بهن ولا سبب.
2 -
الإحسان إلى البنات سبب مرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة:
قد يخطر على بال قارئ الحديث الأول أن الإحسان إلى البنات منجاة من النار فحسب، لكن تأتي الأدلة لتبين أن الإحسان إلى البنات سبب مرافقة رسولنا صلى الله عليه وسلم في الجنة.
أخرج مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة والآداب، باب: فضل الإحسان إلى البنات
(3)
من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه» .
(1)
ص: (757).
(2)
(4/ 2027)2630.
(3)
(4/ 2027)2631.
قال النووي: «ومعنى (عالهما) قام عليهما بالمؤونة والتربية ونحوهما، مأخوذ من العول وهو القرب، ومنه «ابدأ بمن تعول» »
(1)
.
3 -
بل إن الإحسان إلى البنت وملاطفتها يتعدى أسوار المنازل ليظهر للناس، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته
(2)
، ومسلم في صحيحه في كتاب الصلاة، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة
(3)
من حديث أبي قتادة قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلّى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها» واللفظ للبخاري.
قال الحافظ: «
…
وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة، وهو رحمة الولد، وولد الولد ولد، ومن شفقته صلى الله عليه وسلم ورحمته لأمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط، فيضعها بالأرض، وكأنها كانت لتعلقها به لا تصبر في الأرض، فتجزع من مفارقته، فيحتاج أن يحملها إذا قام. واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد؛ لأنه تعارض حينئذ المحافظة على المبالغة في الخشوع، والمحافظة على مراعاة خاطر الولد فقدم الثاني، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لبيان الجواز»
(4)
.
فها هو أخشع المصلين، وأقربهم لرب العالمين يحمل أمامة في صلاته ليقتدي به أهل السنة في محبة البنات، والإحسان إليهن.
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 180).
(2)
(5/ 2235)5650.
(3)
(1/ 385)543.
(4)
الفتح (10/ 429).
المبحث الثاني: تسوية البنت مع الذكر في العطية
أتت الأوامر النبوية بوجوب العدل بين الأولاد في الهبة، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الهبة، باب: الهبة للولد، وإذا أعطى بعض ولده شيئًا لم يجزْ حتى يعدل بينهم، ويعطي الآخر مثله، ولا يشهد عليه
(1)
، ومسلم في صحيحه في كتاب الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة
(2)
، من طريق حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان بن بشير: أفما حدثاه عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا. فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال: لا. قال: فارجعه» وأخرجا
(3)
من طريق الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال:«أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا. قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» قال: فرجع فردّ عطيته. واللفظ للبخاري.
وجاء لمسلم
(4)
من رواية: أبي حيان، عن الشعبي، عن النعمان وفي آخره:
(1)
(2/ 913)2446.
(2)
(3/ 1241)1623.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب: الإشهاد في الهبة (2447). ومسلم بحديث رقم (1624).
(4)
«فلا تشهدني إِذَنْ فإني لا أشهد على جور» .
وفي رواية
(1)
داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن النعمان وفي آخره: قال: «فأشهد على هذا غيري» ثم قال: «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء» قال: بلى. قال: «فلا إِذَنْ» .
وأخرج
(2)
من حديث جابر «وإني لا أشهد إلا على حق» .
• وذهب إلى وجوب التسوية بين الأولاد في العطية البخاري وبه صرّح في الترجمة، وهو قول طاووس
(3)
، والثوري
(4)
، وأحمد
(5)
، وإسحاق
(6)
، ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة لرواية «فأرجعه» وعن أحمد: تصح، وعنه يجوز التفاضل إن كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته، ودَيْنه أو نحو ذلك دون الباقين.
يقول ابن القيم: «ومن العجب أن يحمل قوله (اعدلوا بين أولادكم) على غير الوجوب، وهو أمر مطلق مؤكد ثلاث مرات، وقد أخبر الآمر به أن خلافه جور، وأنه لا يصلح، وأنه ليس بحق وما بعد الحق إلا الباطل، هـ ذا والعدل واجب في كل حال، فلو كان الأمر به مطلقًا لوجب حمله على الوجوب، فكيف وقد اقترن به
(1)
(2)
(3)
قال ابن عبد البر في التمهيد (7/ 229): «قال سفيان ونقلت عن طاووس أنه قال: لا يجوز للرجل أن يفضل بعض ولده، ولو كان رغيفًا محترقًا» ، وعزاه له القرطبي في تفسيره (6/ 214) والحافظ في الفتح (5/ 253).
(4)
عزاه له ابن عبد البر في التمهيد (7/ 227) والحافظ في الفتح (5/ 253).
(5)
ينظر: المغني (5/ 387)، المبدع (5/ 372).
(6)
عزاه له ابن عبد البر في التمهيد (7/ 227)، والحافظ في الفتح (5/ 253).
عشرة أشياء تؤكد وجوبه فتأملها في القصة»
(1)
.
وقال ابن قدامة: «
…
وهو دليل على التحريم، لأنه سماه جورًا، وأمر برده، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم فمنع منه كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها»
(2)
.
• وذهب أبو حنيفة
(3)
، ومالك
(4)
، والشافعي
(5)
إلى أن التسوية مندوبة لا واجبة، وأنه إن فضل بعضهم صح وكره.
واحتج هؤلاء:
1 -
بقوله صلى الله عليه وسلم: «فأشهد على هذا غيري» قالوا: ولو كان محرمًا أو باطلًا، لما قال هذا الكلام
(6)
.
وأجيب عن هذا الاستدلال، بأن قوله صلى الله عليه وسلم:«أشهد على هذا غيري» ليس بأمر؛ لأن أدنى أحوال الأمر الاستحباب والندب، ولا خلاف في كراهة هذا، وكيف يجوز أن يأمره بالإشهاد مع أمره برده، وتسميته جورًا، وحمل الحديث على هذا حمل لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على التناقض والتضاد، ولو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإشهاد غيره امتثل بشير أمره، وإنما هذا تهديد له، فيفيد ما أفاده النهي عن إتمامه كقول الله تعالى:
(1)
تحفة المولود (229).
(2)
المغني (5/ 387).
(3)
ينظر: المبسوط للسرخسي (12/ 56)، حاشية ابن عابدين (4/ 444).
(4)
ينظر: التمهيد (7/ 231)، شرح الزرقاني (4/ 54).
(5)
ينظر: المهذب (1/ 446)، شرح النووي (11/ 67).
(6)
ينظر: شرح النووي (11/ 76).
{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}
(1)
وكقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}
(2)
وحاشاه له عليه السلام أن يبيح لأحد الشهادة على ما أخبر به هو أنه جور، وأن يمضيه ولا يرده، هذا ما لا يجيزه مسلم
(3)
.
2 -
واستدلوا بما أخرجه مالك في الموطأ
(4)
، والبيهقي في السنن
(5)
من طريق مالك، ومن طريق شعيب
(6)
، كلاهما عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: «إن أبا بكر الصديق كان نحلها جادّ
(7)
عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية، ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منك، وإني كنت نحلتك جادّ عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هما أخواك، وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله، قالت عائشة: فقلت: يا أبت والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بطن بنت خارجة، أراها جارية» وصحح إسناده الحافظ في الفتح
(8)
، وصححه الألباني في الإرواء
(9)
، والإسناد صحيح
(1)
الكهف: (29).
(2)
فصلت: (40).
(3)
ينظر: المحلى (9/ 144 - 145)، المغني (5/ 388).
(4)
(2/ 752)1438.
(5)
(6/ 169)11728.
(6)
(6/ 178)11784.
(7)
قال في النهاية (1/ 244): «الجداد بالفتح، والكسر- صرام النخل، وهو قطع ثمرتها، .... ومنه الحديث» أنه أوصى بجادّ مائة وسق .... الجاد بمعنى المجدود أي: نخل يجد منه ما يبلغ مائة وسق مادة (ج د د).
(8)
(5/ 215).
(9)
(6/ 61)1619.
على شرط الشيخين.
قالوا: فهذا أبو بكر رضي الله عنه أعطى عائشة دون سائر ولده، ورأى ذلك جائزًا، ورأته هي كذلك، ولم ينكره عليهما أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وأجاب ابن قدامة: «وقول أبي بكر لا يعارض النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحتج به معه.
ويحتمل أن أبا بكر رضي الله عنه خصها بعطيته لحاجتها، وعجزها عن الكسب والتسبب فيه مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من فضائلها، ويحتمل أن يكون قد نحلها ونحل غيرها من ولده، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك، ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه؛ لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه، وأقل أحوالها الكراهة والظاهر من حال أبي بكر اجتناب المكروهات»
(2)
.
وأجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك
(3)
.
3 -
واحتجوا بإجماع العلماء على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز أن يخرج جميع ولده عن ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم
(4)
. قال الحافظ: «ولا يخفى ضعفه؛ لأنه قياس مع وجود النص»
(5)
.
• والراجح القول الأول؛ لقوة أدلته، وخلوها من المعارضة.
(1)
ينظر: شرح معاني الآثار (4/ 88)، الاستذكار (7/ 227).
(2)
المغني (5/ 388).
(3)
ينظر: الفتح (5/ 254).
(4)
ينظر: التمهيد (7/ 230).
(5)
الفتح (5/ 254).
• واختلفوا في صفة التسوية:
ذهب الثوري، وابن المبارك
(1)
، وأبو حنيفة
(2)
، ومالك
(3)
، والشافعي
(4)
إلى التسوية بين الأولاد، فيعطى الذكر مثل الأنثى، قال إبراهيم: كانوا يستحبون أن يسووا بينهم حتى في القبل
(5)
.
واستدلوا:
1 -
بقوله صلى الله عليه وسلم: «أكل ولدك نحلت» وفي رواية مسلم: «ألك ولد سواه؟ قال: نعم» وقوله: «فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم»
(6)
ولفظ الولد يشمل الذكور والإناث.
وجاء في رواية لمسلم «أكل بنيك» قال الحافظ: «ولا منافاة بينهما؛ لأن لفظ الولد يشمل ما لو كانوا ذكورًا، أو إناثًا وذكورًا، وأما لفظ البنين فإن كانوا ذكورًا فظاهر، وإن كانوا إناثًا وذكورًا فعلى سبيل التغليب، ولم يذكر ابن سعد)
(7)
لبشير والد النعمان ولدًا غير النعمان، وذكر له بنتا اسمها أبية بالموحدة تصغير أبي»
(8)
.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم علّل العدل بين الأولاد بقوله: «أيسرك أن يكونوا إليك في
(1)
عزاه لهما المروزي في اختلاف العلماء (1/ 274)، وابن عبد البر في التمهيد (7/ 230)، وللثاني منهما ابن قدامة في المغني (5/ 388).
(2)
ينظر: المبسوط للسرخسي (12/ 56)، حاشية ابن عابدين (4/ 444).
(3)
ينظر: التمهيد (7/ 231)، شرح الزرقاني (4/ 54).
(4)
ينظر: المهذب (2/ 446).
(5)
عزاه له ابن قدامة في المغني (5/ 388).
(6)
تقدم تخريج الروايات ص (763).
(7)
الطبقات (1/ 406).
(8)
الفتح (5/ 252).
البر سواء» فقال: فسوُّوا بينهم، والبنت كالابن في استحقاق برها، وكذلك في عطيتها.
3 -
ولأنها عطية في الحياة فاستوى فيها الذكر والأنثى كالنفقة والكسوة
(1)
.
4 -
خرج الحارث في مسنده
(2)
، وابن عدي في الكامل
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
والبيهقي في الكبرى
(5)
، والخطيب في تاريخ بغداد
(6)
من طرق عن إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف الرحبي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء» واللفظ للطبراني.
واستنكره ابن عدي فقال في ترجمة سعيد هذا: «لا أعلم يروي عنه غ ير إسماعيل بن عياش، ورواياته بإثبات الأسانيد لا بأس بها، ولا أعرف له شيئًا أنكر ما ذكرته من حديث عكرمة عن ابن عباس» .
وفيه سعيد بن يوسف متفق على ضعفه
(7)
.
قال الحافظ في التخليص: «وفي إسناده سعيد بن يوسف وهو ضعيف وذكر
(1)
ينظر: المغني (5/ 388).
(2)
زوائد الهيثمي (1/ 512)454.
(3)
(3/ 380)808.
(4)
(11/ 354)11997.
(5)
(6/ 177)11780.
(6)
(11/ 107)5801.
(7)
ينظر: الضعفاء والمتروكون للنسائي (53) 274، تهذيب الكمال (4/ 91) 173، التقريب (392)2538.
ابن عدي في الكامل أنه لم يرو له أنكر من هذا»
(1)
وغفل رحمه الله عن هذا مع جلالة قدره فحسن إسناده في الفتح
(2)
.
وضعف الحديث الألباني في الإرواء
(3)
.
5 -
أخرج ابن عدي في الكامل
(4)
، وتمام في فوائده
(5)
، والبيهقي في شعب الإيمان
(6)
، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق
(7)
من طرق عن عبد الله بن معاذ، عن معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك أن رجلًا كان جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له، فأخذه فقبله، واجلسه في حجره، ثم جاءت بنية له، فأخذها فأجلسها إلى جنبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فما عدلت بينهما» . واللفظ لابن عدي. وقال: وهذا لا أعلم يرويه عن معمر بهذا الإسناد غير عبد الله بن معاذ
…
ثم قال: «لعبد الله بن معاذ أحاديث حسان غير ما ذكرت، وأرجو أنه لا بأس به» .
وإسناده حسن فيه عبد الله بن معاذ الصنعاني صاحب معمر، قال الذهبي
(8)
والحافظ
(9)
عنه: صدوق. زاد الحافظ: تحامل عليه عبد الرزاق.
وفي الحديث وجوب المساواة بينهما في القبل، فكيف بالعطية؟!.
(1)
(3/ 72).
(2)
(5/ 253).
(3)
(6/ 67)1628.
(4)
(4/ 239)1067.
(5)
(2/ 237)1616.
(6)
(6/ 410)8700.
(7)
(13/ 396).
(8)
الكاشف (1/ 599)2992.
(9)
التقريب (548) 3653، وانظر: تهذيب الكمال (16/ 159)3580.
• وذهب عطاء، وشريح، وإسحاق، ومحمد بن الحسن
(1)
، واختاره الإمام أحمد
(2)
، إلى القسمة بينهما حسب قسمة الله تعالى الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين.
واستدلوا:
1 -
بأن الله قَسم بين الذكر والأنثى فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وأولى ما اقتدي به قسمة الله.
2 -
ولأن العطية في الحياة إحدى حالي العطية فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كحالة الموت، لأن العطية استعجال لما يكون بعد الموت فينبغي أن تكون على حسبه، كما أن معجل الزكاة قبل وجوها يؤديها على صفة أدائها بعد وجوبها، وكذلك الكفارات المعجلة.
3 -
ولأن الذكر أحوج من الأنثى من قبل أفما إذا تزوجا جميعًا فالصداق، والنفقة، ونفقة الأولاد على الذكر والأنثى لها ذلك، فكان أولى بالتفضيل لزيادة حاجته، وقد قسم الله تعالى الميراث ففضل الذكر مقرونًا بهذا المعنى فتعلل به، ويتعدى ذلك إلى العطية في الحياة
(3)
.
• وكل ما مضى من تعليلات قياس مقابل النص، فظاهر النص الأمر بالتسوية في العطية، بل تعدى حديث أنس الأمور المادية إلى المعنوية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدل بينهما في المعنويات، ومرّ أن بشيرًا والد النعمان لم يكن له من الولد إلا
(1)
عزاه لمن تقدم ابن عبد البر في التمهيد (7/ 234)، وابن قدامة في المغني (5/ 388).
(2)
ينظر: المغني (5/ 388)، المبدع (5/ 372).
(3)
ينظر: المغني (5/ 389).
النعمان وأُبية، ومع ذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدل والسوية، فلا يلتفت عن النص إلى غيره.
يقول ابن حزم: «
…
فقوله عليه السلام «اعدلوا بين أولادكم»
…
وكذلك هذا القول منه عليه الصلاة والسلام إيجاب للتسوية بين الذكر والأنثى، وليس هذا من المواريث في شيء، ولكل نص حكمه»
(1)
.
• ومن هنا يترجح القول الأول لقوة أدلته.
(1)
المحلى (9/ 149).
المبحث الثالث: حرية البنت في اختيار الزوج
لقد حفظ الإسلام حق المرأة في اختيار الزوج، واحترم إرادتها فيه، إذ أن هذا الموقف هو أدق المواقف في حياتها، وأمسُّها بمستقبلها، وهل هناك ما هو أدل على احترام الإسلام رأي المرأة في هذا الموطن مما أخرجه البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله إني قد كبرت، ولي عيال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير نساء ركن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» واللفظ لمسلم.
فها هي المرأة تبدي صفحة العذر عن بلوغ أقدس منزلة تبلغها المرأة المسلمة، وهي منزلة أمومة المؤمنين، والارتباط برسول رب العالمين، ومع ذلك أكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيها إكبارًا قلّد قريشًا بأسرها شهادة عليا إلى يوم الدين.
وأخرج البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: لا يُنْكِح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها
(3)
، ومسلم في صحيحه في كتاب النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت
(4)
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
كتاب النكاح، باب: حفظ المرأة زوجها في ذات يده والنفقة (5/ 2052)5050.
(2)
كتاب الفضائل، باب: من فضائل نساء قريش (4/ 1959)2527.
(3)
(5/ 1974)4843.
(4)
(2/ 1036)1419.
قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر
(1)
، ولا تنكح البكر حتى تستأذن»
قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت» .
وأخرجا
(2)
من حديث عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية يُنْكِحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم تستأمر» فقالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحي؟ فقال رسول الله: «إذنها إذا هي سكتت» .
غير أن في المسألة تفصيلًا يذكر:
أولًا: البكر الصغيرة:
يجوز للأب تزويج البكر الصغيرة قبل البلوغ بدون إذنها، لأنها لا إذن لها، قال الحافظ في الفتح:«إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها»
(3)
وقد دلّ على ذلك القرآن، والسنة، والإجماع.
أدلة القرآن:
1 -
(4)
.
فجعل للائي لم يحضن عدة ثلاثة أشهر، ولا تكون العدة ثلاثة أشهر إلا من الطلاق في نكاح أو فسخ، فدل ذلك على أنها تزوج وتطلق، ولا إذن لها، فيعتبره
(5)
.
(1)
قال الحافظ: «تستأمر: أصل الاستثمار طلب الأمر، فالمعنى لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ويؤخذ من قوله تستأمر أنه لا يعقد إلا بعد أن تأمر بذلك» الفتح (9/ 308). ينظر: النهاية (1/ 66) مادة (أ م ر).
(2)
صحيح البخاري (4844)، صحيح مسلم (1420).
(3)
الفتح (9/ 193).
(4)
الطلاق: (4).
(5)
ينظر: المغني (7/ 31)، الجوهر النقي (7/ 114).
2 -
وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} والأيّم: الأنثى التي لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة
(1)
.
أدلة السُّنَّة:
1 -
ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: إنكاح الرجل ولده الصغار لقوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فجعل عدها ثلاثة أشهر قبل البلوغ
(2)
، ومسلم في صحيحه في كتاب النكاح، باب تزويج الأب البكر الصغيرة
(3)
، من حديث عائشة قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين.
وأخرجاه
(4)
بسياق أتم من هذا من طريق عروة، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين، قالت: فقدمنا المدينة، فوعكت شهرًا، فوفي شعري جميمة
(5)
، فأتتني أم رومان، وأنا على أرجوحة ومعي صواحبي، فصرخت بي فأتيتها، وما أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي، فأوقفتني على الباب، فقلت: هه هه حتى ذهب نفسي، فأدخلتني بيتًا فإذا نسوة من الأنصار. فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي،
(1)
ينظر: المفردات (32)، لسان العرب (12/ 39) مادة (أ ي م).
(2)
(5/ 1973)4840.
(3)
(2/ 1039)1422.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، باب: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وقدومها المدينة، وبنائه بها (3/ 1414) 3681، ومسلم في الموضع نفسه المتقدم ص (775) حديث رقم (1422).
(5)
يقول النووي: «وجميمة: تصغير جمة، وهي الشعر النازل إلى الأذنين ونحوهما: أي صار إلى الحد بعد أن كان قد ذهب بالمرض» شرح على صحيح مسلم (9/ 207).
وأصلحني، فلم يرعي إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمنني إليه. ومعلوم أنها لم تكن في تلك الحال ممن يعتبر إذنها.
2 -
تزويج عليّ رضي الله عنه ابنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي صغيرة.
وأخرج القصة مطولة سعيد بن منصور في سننه
(1)
، والحاكم في المستدرك
(2)
، والبيهقي في الكبرى
(3)
.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
الإجماع:
قال ابن المنذر: «أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز إذا زوَّجها من كفء»
(4)
كما حكى ابن بطال
(5)
، والحافظ
(6)
عن المهلب نقل الإجماع أيضًا.
ولا بد هنا من التنبيه لعدة أمور:
1 -
الحكمة من جواز تزويج الصغيرة المصلحة المترجحة في ارتباطها بالكفء، والخوف من تفويتها، قال النووي: «واعلم أن الشافعي وأصحابه قالوا: يستحب ألا يزوج الأب والجد البكر حتى تبلغ، ويستأذنها؛ لئلا يوقعها في أسر
(1)
(1/ 1/ 173)520.
(2)
(3/ 153)4684.
(3)
(7/ 64)13172.
(4)
عزاه له ابن قدامة في المغني (7/ 30)، والشوكاني في النيل (6/ 136).
(5)
شرح صحيح البخاري (5/ 108).
(6)
الفتح (9/ 96).
الزوج وهي كارهة. وهذا الذي قالوه لا يخالف حديث عائشة؛ لأن مرادهم أنه لا يزوجها قبل البلوغ إذا لم تكن مصلحة ظاهرة يخاف فوقا بالتأخير، كحديث عائشة، فيستحب تحصيل ذلك الزوج؛ لأن الأب مأمور بمصلحة ولده فلا يفوتها. والله أعلم»
(1)
.
2 -
إنه مع ما ذكر من الأدلة فإن الأفضل أن يتريث الأب حتى تكبر البنت، قال الشافعي في القديم:«أستحب للأب ألا يزوجها حتى تبلغ؛ لتكون من أهل الإذن؛ لأنه يلزمها بالنكاح حقوق»
(2)
.
3 -
إنه وإن جاز العقد عليها وهي صغيرة إلا أنه لا يمكّن منها حتى تصلح للوطء
(3)
.
4 -
إن البنت إذا بلغت ولم ترضَ بالزوج كان لها الخيار في الفسخ، وهذا قال أهل العراق
(4)
.
5 -
(5)
.
فعلى أولئك الذين يحجرون على بناتهم لمن يحبونه، أو يميلون إليه ويسمون
(1)
شرح النووي (9/ 206).
(2)
المجموع شرح المهذب (15/ 58).
(3)
ينظر: الفتح (9/ 96)، نيل الأوطار (6/ 137).
(4)
ينظر: شرح النووي (9/ 206)، شرح فتح القدير (3/ 274).
(5)
شرح النووي (9/ 206).
أزواجهن، وهن صغارٌ، مستدلين بفعل أبي بكر وتزويجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يتأملوا التنبيهات المذكورة، سائلين أنفسهم عن المصلحة الراجحة، وهل مَنْ سَمَّوْهم أزواجًا لبناتهم هم مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عمر.
إن تحديد مصائر حياة الناس أمر صعب يحتاج إلى مزيد روية ونظر، فلا تستعجل أيّها الأب بإيقاع الظلم؛ فإنه ظلمات يوم القيامة.
ثانيًا: البالغ الثيب
(1)
:
وهذه لا يجوز تزويجها بغير إذنها، وإذا الكلام، بخلاف البكر فإذا الصمات، ولا يجوز لأحد من الأولياء إجبارها على النكاح، سواء كان الولي أبًا أو جدًا أو غيرهما، وهذا قول عامة أهل العلم. يقول الحافظ:«ورَدُّ النكاح إذا كانت ثيبًا فَزُوِّجت بغير رضاها إجماع، إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت»
(2)
وقال ابن قدامة: «وقال إسماعيل بن إسحاق: لا أعلم أحدًا قال في البنت بقول الحسن، وهو قول شاذ خالف فيه أهل العلم والسنة»
(3)
.
والدليل:
1 -
ما تقدم
(4)
ذكره من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن» قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:«أن تسكت» .
(1)
الثيب: المرأة فارقت زوجها، أو دُخِل بها. وقد يطلق على المرأة البالغة وإن كانت بكرًا مجازًا واتساعًا. وأصل الثَّوْب: رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها، سميت به لأنها تثوب عن الزوج.
ينظر: النهاية (1/ 231)، المطلع (233) مادة (ث ي ب).
(2)
الفتح (9/ 99).
(3)
المغني (7/ 34).
(4)
ص (773) فما بعدها.
وبوّب عليه البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: لا يُنْكِح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها
(1)
.
يقول النووي: «
…
وأمّا الثيب فلا بد فيها من النطق بلا خلاف سواءٌ كان الولي أبًا أو غيره؛ لأنه زال كمال حيائها بممارسة الرجال، وسواء زالت بكارتها بنكاح صحيح، أو فاسد، أو بوطء شبهة، أو بزنى»
(2)
.
2 -
ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: إذا زوّج ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود
(3)
من طريق مُجَمّع وعبد الرحمن ابني يزيد بن جارية، عن خنساء بنت خِدَام الأنصارية أن أباها زوّجها، وهي ثيِّب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه.
قال البغوي: «فإن زَوَّجها وليها بغير إذنها، فالنكاح مردود»
(4)
.
وأمْر الثيب إلى نفسها، ويحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، لأن الأمر صريح في القول، والنطق، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقًا، ولو زوجت بغير إذنها، وأرادت فسخ نكاحها كان لها ذلك.
ثالثا: البكر البالغة:
وهذه فيها قولان مشهوران:
أحدهما: أن البكر تستأذن تطييبًا لخاطرها؛ لا أن إذنها شرط في صحة العقد
(1)
(5/ 1794)4843.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 204).
(3)
(5/ 1974)4845.
(4)
شرح السنة (9/ 31).
كالثيب، وإلى هذا ذهب مالك
(1)
، والشافعي
(2)
، وإسحاق
(3)
، وهي رواية عن أحمد واختارها الخرقي والقاضي وأصحابه
(4)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
حديث أبي هريرة مرفوعًا «لا تنكح الأيّم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن»
(5)
.
2 -
ما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت
(6)
من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها» .
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيم أحق بنفسها من وليها، فعلم أن ولي البكر أحق بها من نفسها، وإلا لم يكن لتخصيص الأيم بذلك معنى. وأيضًا: فإنه فرّق بينهما في صفة الإذن، فجعل إذن الثيب النطق، وإذن البكر الصمت، وهذا كله يدل على عدم اعتبار رضاها وأنها لا حق لها مع أبيها.
والجواب: أنه ليس في ذلك ما يدل على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها ورشدها، بل تركوا العمل بنص الحديث وظاهره، وتمسكوا بدليل خطابه، ومفهومه، ولو سلم أنه حجة، فلا يجوز تقديمه على المنطوق الصريح كما سيأتي
(7)
،
(1)
ينظر: المدونة الكبرى (4/ 158)، التمهيد (19/ 72).
(2)
ينظر: الأم (5/ 18)، الفتح (9/ 101).
(3)
عزاه له ابن عبد البر في الاستذكار (5/ 388)، وابن قدامة في المغني (7/ 34).
(4)
ينظر: المغني (7/ 34)، الإنصاف (8/ 64).
(5)
تقدم تخريجه ص (773).
(6)
(2/ 1037)1421.
(7)
ص (601).
وهذا أيضًا إنما يدل إذا قلت: إن للمفهوم عمومًا، والصواب أنه لا عموم له
(1)
.
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم «والبكر يستأذنها أبوها» عقب قوله: «الأيم أحق بنفسها من وليها» قطعًا لتوهم هذا القول، وأن البكر تزوج بغير إذنها أو رضاها، فلا حق لها في نفسها البتة، فوصل إحدى الجملتين بالأخرى دفعًا لهذا التوهم
(2)
.
والثاني: أنه يشترط إذنها كما يشترط إذن الثيب، فلا يجوز إجبارها على النكاح، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه
(3)
، والثوري، والأوزاعي، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر
(4)
، وهو الرواية الثانية عن أحمد، واختاره أبو بكر عبد العزيز
(5)
.
واستدلوا بما يأتي:
1 -
حديث أبي هريرة المتقدم
(6)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن» وقوله «لا تنكح البكر حتى تستأذن» نهى يتناول الأب وغيره عن تزويج البكر دون استئذان، والنهي صريح في المنع فحمله على الاستحباب بعيد جدًا. والنبي صلى الله عليه وسلم فرّق بين البكر والثيب، فذكر لفظ «الإذن» للبكر، وجعل إذنها صماتها، ولفظ «الأمر» للثيب، وإذنها النطق، فهذان هما الفرقان اللذان فرّق بهما النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدمه، وذلك لأن البكر لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها، بل
(1)
ينظر: الذخيرة (1/ 88)، المحصول للرازي (2/ 654).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (32/ 22)، زاد المعاد (5/ 98).
(3)
ينظر: المبسوط للسرخسي (4/ 215)، بدائع الصنائع (2/ 242).
(4)
عزاه لمن تقدم ابن قدامة في المغني (7/ 34).
(5)
ينظر: المغني (7/ 34)، الإنصاف (8/ 64).
(6)
ص (773).
تخطب إلى وليها، ووليها يستأذنها، فتأذن له؛ لا تأمره ابتداء، بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها، وأما الثيب فقد زال عنها حياء البكر، فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها
(1)
، وتأمر الولي أن يزوجها، فهي آمرة له، وعليه أن يطيعها، فيزوجها من الكفؤ إذا أمرته بذلك، فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذن للبكر، فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يزاد عليه ما ليس منه
(2)
.
2 -
أخرج أحمد في المسند
(3)
، وأبو داود في السنن
(4)
، وابن ماجه في السنن
(5)
، والنسائي في الكبرى
(6)
، وأبو يعلى في المسند
(7)
، والطحاوي في شرح معاني الآثار
(8)
، والبيهقي في الكبرى
(9)
من طريق جرير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم. واللفظ لأحمد.
وإسناده صحيح على شرط البخاري، وصححه ابن القطان فيما نقله الحافظ الزيلعي في نصب الراية
(10)
.
(1)
وقد تقدم خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم أم هانئ ص (773)، وخطبة أبي طلحة لأم سليم ص (323).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (32/ 22 - 28).
(3)
(4/ 275)2469.
(4)
(2/ 232)2096.
(5)
(1/ 602)1875.
(6)
(3/ 284)5387.
(7)
(4/ 404)2526.
(8)
(4/ 365).
(9)
(7/ 117)13447.
(10)
(3/ 190).
قال الحافظ: «وأما الطعن في الحديث فلا معنى له، فإن طرقه يَقْوى بعضها ببعض»
(1)
وأطال ابن القيم النفس في الرّد على من طعن في الحديث في حاشية السنن
(2)
.
قال ابن القيم في الزاد
(3)
: «وهذه غير خنساء، فهما قضيتان قضى في إحداهما بتخيير الثيب، وقضى في الأخرى بتخيير البكر» .
3 -
أخرج الإمام أحمد في المسند
(4)
، والدارقطني في السنن
(5)
، والبيهقي في الكبرى
(6)
من طريق ابن إسحاق، حدثني عمر بن حسين بن عبد الله مولى آل حاطب، عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن ابن عمر، قال: توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال: وأوصى إلى أخيه قُدامة بن مَظْعون قال عبد الله: وهما خالاي، قال: فخطبت إلى قدامة بن مَظْعون ابنة عثمان بن مظعون، فزوَّجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة -يعني إلى أمها- فأرْغبها في المال، فحطت إليه، وحطَّت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا، حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله، ابنة أخي، أوصى بها إليّ فزوَّجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر، فلم أُقَصِّر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هي
(1)
الفتح (6/ 196).
(2)
(3/ 40).
(3)
(5/ 95).
(4)
(10/ 284)6136.
(5)
(3/ 230)37.
(6)
(7/ 120)1347.
يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها» قال: فانتُزِعت والله مني بعد أن مَلَكْتها، فزوّجوها المغيرة. واللفظ لأحمد.
قال الألباني: «وهذا إسناد جيد، رجاله رجال الشيخين غير ابن إسحاق، وقد صرّح بالتحديث وقد توبع، فرواه الدارقطني
(1)
، والحاكم
(2)
عن ابن أبي ذئب، عن عمر بن حسين به نحوه مختصرًا، وفيه عند الحاكم «لا تُنْكِحوا النساء حتى تستأمروهن، فإذا سكتين فهو إذنهن» وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا
(3)
.
وإسناده حسن، من أجل محمد بن إسحاق المطلي، قال الحافظ عنه:«صدوق يدلس»
(4)
.
4 -
قالوا: تزويجها مع كراهتها للنكاح مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ومعلوم أن إخراج مالها كله بغير رضاها، أسهل عليها من تزويجها من لا تختاره بغير رضاها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يُكْرِهها على مباضعة من تكره مباضعته ومعاشرة من تكره معاشرته، والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بعضها له، ونفورها عنه، فأي مودة ورحمة في ذلك
(5)
.
5 -
وقالوا: إن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع، وأما جعل البكارة
(1)
(3/ 230)39.
(2)
(2/ 181)2703.
(3)
السلسلة الصحيحة (3/ 444).
(4)
التقريب (825)5762.
(5)
ينظر: مجموع الفتاوى (22/ 24)، زاد المعاد (5/ 96).
موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام، فإن الشارع لم يجعل البكارة سببًا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع
(1)
.
6 -
أنه موافق لمصالح الأمة، ولا يخفى مصلحة البنت في تزويجها من ترضاه، وتختاره، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضد ذلك ممن تبغضه وتنفر عنه، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح، وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره
(2)
. قال الشاه ولي الله الدهلوي: «لا يجوز أن يحكم الأولياء فقط؛ لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها؛ ولأن حارَّ العقد وقارَّه
(3)
راجعان إليها»
(4)
.
• والقول الراجح هو القول الثاني القائل بوجوب استئذان البكر في التزويج، لقوة أدلته، وسلامتها من المعارضة، وموافقتها لمصالح الأمة.
بل نقل العلماء أن على الولي إعلام البكر بأن إذنها صماتها، قال الحافظ في الفتح:«قال ابن المنذر: يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن»
(5)
(6)
.
(1)
المصدران السابقان.
(2)
زاد المعاد (5/ 96).
(3)
أي: ضرر العقد ونفعه. ينظر: لسان العرب (5/ 85).
(4)
حجة الله البالغة (2/ 127).
(5)
الفتح (9/ 193).
(6)
إكمال إكمال المعلم (4/ 30).
• وإلى أولئك الذين تعسفوا مع بناتهم، وتأذي بناهم بذلك الظلم، أورد قصة قرأها في كتاب «المرأة العربية»
(1)
ذلك أن فتاة زوجها أبوها وهي حدَثة بغير إذنها، فقالت:
أيا أبتا تمنّيتني وابتليتني
…
وصيّرت نفسي في يَدَي من يهينها
أيا أبتا لولا التحرج قد دعا
…
عليك مجابًا دعوة يستدينها
وليقرأ:
فلينظر الآباء كيف
…
يكون تزويج البنات
يستأذنون البكر في التز
…
ويج مثل الثيبات
حتى يعشن مع الرجال
…
منعمات راضيات
طعم الحياة مع السجو
…
ن أمرّ من طعم الممات
(2)
• وربما يتوهم البعض أن للمرأة أن تزوج نفسها، وأن ذلك حق من حقوقها ما دام أن الشارع اعتبر رضاها، لكن مما ينبغي أن يعلم، أنه مع ثبوت حق المرأة في قبول من ترضاه من الأزواج فإن هذا الحق مقيد بإذن وليها، فإن النكاح لا يصح إلا بولي على رأي جمهور العلماء
(3)
، وأن المرأة لا تملك تزويج نفسها ولا غيرها
(4)
.
(1)
(2)
أستاذ المرأة لمحمد بن سالم البيجاني (214).
(3)
الفتح (9/ 187).
(4)
انظر أدلة وجوب الولي في النكاح، وفائدته للمرأة في: زاد المعاد (5/ 99)، أحكام الزواج للدكتور عمر الأشقر (117 - 158)، عودة الحجاب لمحمد أحمد (2/ 344 - 369).
المبحث الرابع: تحريم العَضْل
وإن كان القول الراجح يقضي بعدم جواز إجبار الولي المرأة على الزواج ممن لا تريده، فإنه لا يجوز له عضلها عن الزواج.
والعَضْل هو: منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحد منهما في صاحبه
(1)
.
وقد حرّم الإسلام العَضْل فقال سبحانه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(2)
.
وسبب نزول الآية ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: من قال: «لا نكاح إلا بولي» لقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}
(3)
من طريق الحسن قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه، قال: زوجت أختًا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها، جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك، وفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدًا. وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}
(1)
ينظر: المغني (7/ 24).
(2)
البقرة: (232).
(3)
(5/ 1972)4837.
فقلت: الآن أفعل يا رسول الله. قال: فزوجها إيّاه.
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «
…
وإذا رضيت رجلًا، وكان كفؤًا لها، وجب على وليها -كالأخ، ثم العم- أن يزوجها به، فإن عضلها أو امتنع عن تزويجها زوّجها الولي الأبعد منه، أو الحاكم بغير إذنه باتفاق العلماء، فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه، ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤًا باتفاق الأئمة، وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية، والظلمة الذين يزوجون نساءهم لمن يختارونه لغرض؛ لا لمصلحة المرأة، ويكرهوها على ذلك، أو يُخْجِلوها حتى تفعل، ويعضلوها عن نكاح من يكون كفؤًا لها لعداوة أو غرض، وهذا كله من عمل الجاهلية، والظلم والعدوان، وهو مما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتفق المسلمون على تحريمه، وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة لا في أهوائهم كسائر الأولياء والوكلاء ممن تصرف الغيرة، فإنه يقصد مصلحة من تصرف له، لا يقصد هواه، فإن هذا من الأمانة التي أمر الله أن تؤدي إلى أهلها فقال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}
(2)
(3)
.
• وقد ذكر سماحة العلامة ابن باز رحمه الله صورة من صور العضل المبنية على الحمية حيث قال: «ومن المسائل المنكرة في هذا ما يتعاطاه الكثير من البادية،
(1)
الفتح (9/ 188).
(2)
النساء: (58).
(3)
مجموع الفتاوى (32 - 52 - 53).
وبعض الحاضرة من حجر ابنة العم ومنعها من الترويج من غيره، وهذا منكر عظيم، وسنة جاهلية، وظلم للنساء، وقد وقع بسبه فتن كثيرة، وشرور عظيمة من شحناء، وقطعية رحم، وسفك دماء، وغير ذلك»
(1)
.
ألا فليتق الله الأولياء فيمن تحت أيديهم من النساء، ولا يعضلوهن لأهواء نفوسهم، أو لمتاع دنيا زائف، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ودعوة المظلوم محابة.
(1)
نصيحة وتنبيه على مسائل النكاح مخالفة للشرع (5).
الفصل الثالث
حق المرأة زوجةً
وسيتناول هذا الفصل خمسة مباحث:
المبحث الأول: لزوم الإحسان، والعشرة بالمعروف.
المبحث الثاني: حقوق المرأة الجنسية.
المبحث الثالث: حفظها من الأنكحة الفاسدة.
المبحث الرابع: حق المرأة في الحضانة.
المبحث الخامس: حقوق المرأة المعنوية.
وحين تنتقل المرأة من بيت والديها اللذين حثهما الإسلام على الإحسان إليها إلى بيت زوجها تأتي التوجيهات الشرعية لهذا الزوج بوصايا عديدة تحفظ لها كرامتها. وسيتناول هذا الفصل في مباحثه هذا الموضوع.
المبحث الأول: لزوم الإحسان، والعشرة بالمعروف
أوصى الإسلام بالإحسان للزوجة، ووجوب عشرها بالمعروف، ومن الأدلة على ذلك:
1 -
(1)
.
يقول ابن كثير: «وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها، مثله كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه»
(2)
، وفي حال كراهة الرجل لزوجته يوصي القرآن بها، ويعلق عليها الخير الكثير إن صبر الزوج عليها، وعسى الله أن يُحْدِث بعد ذلك أمرًا.
(1)
النساء: (19).
(2)
التفسير (1/ 467).
(1)
.
وقوله: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} علة للجزاء أقيمت مقامه للإيذان بقوة استلزامها إيّاه، كأنه قيل فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة، فلعل لكم فيما تكرهونه خيرًا كثيرًا، ليس فيما تحبونه؛ فإن النفس قد تكره ما هو أصلح في الدين، وأحمد عاقبة، وأدى إلى الخير، وتحب ما هو بخلافه، فليكن نظركم إلى ما فيه خير وصلاح دون ما تقوى أنفسكم
(2)
.
فالله تعالى أوصى الرجل بالعشرة بالمعروف حتى مع الكراهة، وعلّق سبحانه الخير الكثير على الصبر على من تكرهون من النساء إن كانت الكراهة من قبلكم دون تسبب للمرأة فيها.
وقلِّب بين معاني الآية بصرك، واملأ منها يدك، وروِّ من معينها قلبك، ثم انظر هل تقيم على وجدانك، أو تقر على عاطفتك فيما تكره من امرأتك؟ وما ظنك بأمر تكرهه ثم تظل على لجاجك فيه بعد أن مناك الله بالخير الكثير من ورائه؟ وأين ذلك من حسن الثقة، وتمام الإيمان بالله!
2 -
وحين تكثر المشاكل بين الزوجين، وتصل الأمور إلى منتهاها، وتستغلق الأزمة يأتي الحل الأمثل لمثل هذه الحياة بقول تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
(3)
.
يقول ابن كثير: «{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي إذا طلقتها
(1)
الكشاف (1/ 522).
(2)
ينظر: تفسير أبي السعود (2/ 158).
(3)
البقرة: (229).
واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدها باقية بين: أن تردها إليك ناويًا الإصلاح بها، والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك، وتطلق سراحها محسنًا إليها لا تظلمها من حقها شيئًا، ولا تضار بها»
(1)
.
فحمى الإسلام حق الزوجة في حال كره الرجل لها، وفي اختيار طلاقها، فلله الحمد والمنة.
3 -
أخرج الدارمي في السنن
(2)
، والترمذي في السنن
(3)
وابن حبان في صحيحه
(4)
، والبيهقي في الكبرى
(5)
والشعب
(6)
، وأبو نعيم في الحلية
(7)
من طرق عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وإذا مات صاحبكم فدعوه» واللفظ للترمذي.
وقال: حديث حسن غريب صحيح من حديث الثوري، ما أقل من رواه عن الثوري. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي
(8)
، والصحيحة
(9)
. قلت: إسناده صحيح على شرط البخاري.
(1)
التفسير (1/ 273).
(2)
(2/ 212)2260.
(3)
(5/ 709)3895.
(4)
(9/ 484)4177.
(5)
(7/ 468)15477.
(6)
(6/ 415)8718.
(7)
(7/ 138).
(8)
(5/ 389).
(9)
(9/ 169)1174.
قال المباركفوري: «(خيركم خيركم لأهله) أي: لعياله وذوي رحمه، وقيل: لأزواجه وأقاربه، وذلك لدلالته على حسن الخلق (وأنا خيركم لأهلي) فأنا خيركم مطلقًا، وكان أحسن الناس عشرة لهم، وكان على خلق عظيم» (وإذا مات صاحبكم) أي واحد منكم، ومن جملة أهاليكم (فدعوه) أي: اتركوا ذكر مساويه، فإن تركه من محاسن الأخلاق، ودلهم صلى الله عليه وسلم على المجاملة وحسن المعاملة مع الأحياء والأموات»
(1)
.
4 -
ما أخرجه ابن ماجه في السنن
(2)
، والترمذي في السنن
(3)
من طريق زائدة، عن شبيب بن غَرْقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، قال: حدثي أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، وذكَّر، ووعظ، فذكَر في الحديث قصة، فقال:«ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا، ألا إن لكم على نسائكم حقًا، ولنسائكم عليكم حقًا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن، وطعامهن» واللفظ للترمذي.
وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومعنى قوله «عوان عندكم» يعني أسرى بين أيديكم.
(1)
تحفة الأحوذي (10/ 269).
(2)
(1/ 594)1851.
(3)
(3/ 467)1163.
وصححه ابن القيم في الزاد
(1)
، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي
(2)
. وفي إسناده سليمان بن عمرو بن الأحوص قال الحافظ عنه: «مقبول»
(3)
أي حيث يتابع وإلا فلين الحديث كما هو اصطلاحه، وقد تقدم
(4)
تحقيق القول فيمن كان هذا حاله، من فئة التابعين، وترجيح ابن القيم تحسين حديثه.
وللحديث شاهد من حديث جابر تقدم
(5)
.
وعلى كل فرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالنساء في محفل عظيم في أواخر حياته، وذكر أنهن عوان عند الرجال، فَلَزِم الإحسان إليهن.
5 -
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف
(6)
، وأحمد في المسند
(7)
، والقضاعي في مسند الشهاب
(8)
، والترمذي في السنن
(9)
، وابن حبان في صحيحه
(10)
، والحاكم في المستدرك
(11)
، والبيهقي في الشعب
(12)
من طرق عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا، أحسنهم خُلقًا،
(1)
(4/ 46).
(2)
(3)
التقريب (411) 2613، وانظر: تهذيب التهذيب (4/ 186)363.
(4)
ص (126).
(5)
ص (644).
(6)
(6/ 165)30369.
(7)
(12/ 364)7402.
(8)
(9)
(3/ 466)1162.
(10)
(9/ 483)4176.
(11)
(1/ 3).
(12)
(1/ 61)27.
وخِيارهم خيارهم لنسائهم».
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين، وهو صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي
(1)
: «حسن صحيح» .
وهذا الإسناد حسن؛ رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي فمن رجال السنن، وروى له البخاري مقرونًا، ومسلم متابعة، وهو حسن الحديث
(2)
، والحديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وقد تقدم حديث عائشة فيما قبله
(3)
وهو شاهد له.
وله شاهد -أيضًا- أخرجه أحمد في المسند
(4)
، والترمذي في السنن
(5)
، والنسائي في الكبرى
(6)
من طرق عن خالد الحذّاء، عن أبي قِلابة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وألطفهم بأهله» واللفظ لأحمد.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ولا نعرف لأبي قلابة سماعًا من عائشة، وقد روى أبو قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع لعائشة عن عائشة غير هذا الحديث، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجَرْمي.
(1)
(2)
ينظر: تهذيب التهذيب (9/ 333) 619، التقريب (884)6228.
(3)
ص (795).
(4)
(4/ 242)24204.
(5)
(5/ 9)2612.
(6)
(5/ 364)9154.
والإسناد ضعيف؛ لانقطاعه، وما قبله شاهد له.
وتأمل -حفظك الله- الحديث تجد أن أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وقد ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة، ولا يتصور في مؤمن يحكِّم شرع الله أن يجفو القريب، ويصل البعيد، ويحسن إليه، ومَنْ في بيته يعاني ظلمه وتسلطه، ولا شك أن الزوجة من أقرب الناس للرجل فهي لباسه وسكنه ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.
6 -
ما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الرضاع، باب: الوصية بالنساء
(1)
من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يَفْرُكْ
(2)
مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا، رضي منها آخر».
قال النووي: «
…
بل الصواب أنه في، أي ينبغي ألّا يبغضها؛ لأنه إن وجد فيها خلقًا يكره، وجد فيها خلقًا مرضيًّا بأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة أو جميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك»
(3)
.
وقال الشوكاني: «
…
فيه الإرشاد إلى حسن العشرة، والنهي عن البغض للزوجة بمجرد كراهة خلق من أخلاقها، فإنها لا تخلو مع ذلك عن أمر يرضاه منها، وإذا كانت مشتملة على المحبوب والمكروه. فلا ينبغي ترجيح مقتضي الكراهة على مقتضى المحبة»
(4)
.
ثم إن الإنسان لا يكاد يجد محبوبًا ليس فيه ما يكره، فليصبر على ما يكره لما
(1)
(2/ 1091)1469.
(2)
لا يفرك أي: لا يبغض. ينظر: مشارق الأنوار (2/ 151)، النهاية (3/ 441) مادة (ف ر ك).
(3)
شرح صحيح مسلم (10/ 58).
(4)
نيل الأوطار (6/ 359).
يحب، ورحم الله القائل:
ومن يتتبع جاهدًا كل عثرة
…
يجدها، ولا يسلم له الدهرَ صاحبُ
فانظر إلى حماية الإسلام للمرأة ففي الآية يحث الله تعالى على الصبر على الزوجة عند الكره لها، ويأمر بمعاشرتهما بالمعروف، ويعلق على ذلك الخير الكثير، والحديث يحث الرجلَ على عدم التركيز على السلبيات والغض عن الحسنات بل إن أبغضَ خلقًا نظر في الآخر.
المبحث الثاني: حقوق المرأة الجنسية
وتمثلت هذه الحقوق فيما يخص علاقة المرأة الجنسية بزوجها، وفي هذا المبحث أربعة مطالب:
المطلب الأول: حق المرأة في الجماع.
المطلب الثاني: أوقات الوطء وهيئاته.
المطلب الثالث: حكم العزل.
المطلب الرابع: حفظ الأسرار الخاصة بين الزوجين.
المطلب الأول: حق المرأة في الجماع
وإن كان على المرأة حق إجابة الرجل إذا دعاها لفراشه، فإنَّ أبت فإن فعلها كبيرة، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها
(1)
، ومسلم في صحيحه في كتاب النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها
(2)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح» واللفظ لمسلم.
فعلى الرجل أيضًا أن يشبع رغبات زوجته؛ لأن هذا عدل أمرنا الله بأدائه،
(1)
(5/ 1994)4897.
(2)
(2/ 1059)1436.
أخرج مسلم في صحيحه
(1)
من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» ومن العدل أن يعطي حق الآخر كما يأخذ حقه، وإلا فالتطفيف فعله، وقد حذر الرب جل وعلا منه فقال:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}
(2)
.
يقول ابن القيم: «وقد اختلف الفقهاء هل يجب على الزوج بجامعة امرأته، فقالت طائفة: لا يجب عليه ذلك؛ فإنه حق له فإن شاء استوفاه، وإن شاء تركه بمنزلة من استأجر دارًا إن شاء سكنها، وإن شاء تركها.
وهذا من أضعف الأقوال، والقرآن والسنة والعرف والقياس يرده، أما القرآن فإن الله سبحانه وتعالى قال:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(3)
فأخبر أن للمرأة من الحق مثل الذي عليها، فإن كان الجماع حقًا للزوج عليها، فهو حق على الزوج بنص القرآن، وأيضًا فإنه سبحانه وتعالى أمر الأزواج أن يعاشروا الزوجات بالمعروف، ومن ضد المعروف أن يكون عنده شابة شهوتها تعدل شهوة الرجل أو تزيد عليها بأضعاف مضاعفة، ولا يذيقها لذة الوطء مرة واحدة، ومن زعم أن هذا من المعروف كفاه طبعه ردًا عليه، والله سبحانه وتعالى إنما أباح للأزواج إمساك نسائهم على هذا الوجه لا على غيره فقال تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
(4)
.
(1)
كتاب الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية
…
(3/ 1458)1827.
(2)
المطففين: (1 - 3).
(3)
البقرة: (228).
(4)
البقرة: (229).
وقالت طائفة: يجب عليه وطؤها في العمر مرة واحدة؛ ليستقر لها بذلك الصداق، وهذا من جنس القول الأول، وهذا باطل من وجه آخر؛ فإن المقصود إنما هو المعاشرة بالمعروف، والصداق دخل في العقد تعظيمًا لحرمته، وتفريقا بينه وبين السفاح، فوجوب المقصود بالنكاح أقوى من وجوب الصداق.
وقالت طائفة ثالثة: يجب عليه أن يطأها في كل أربعة أشهر مرة، واحتجوا على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى أباح للْمُوْلي تربص أربعة أشهر، وخير المرأة بعد ذلك إن شاءت أن تقيم عنده، وإن شاءت أن تفارقه، فلو كان لها حق في الوطء أكثر من ذلك، لم يجعل للزوج تركها في تلك المدة، وهذا القول وإن كان أقرب من القولين اللذين قبله، فليس بصحيح، فإنه غير المعروف الذي لها وعليها، وأما جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر فنظرًا منه سبحانه للأزواج، فإن الرجل قد يحتاج إلى ترك وطء امرأته مدة لعارض من سفر، أو تأديب، أو راحة نفس، أو اشتغال بهم؛ فجعل الله سبحانه وتعالى له أجلًا أربعة أشهر، ولا يلزم من ذلك أن يكون الوطء مؤقتًا في كل أربعة أشهر مرة.
وقالت طائفة: بل يجب عليه أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها ويكسوها ويعاشرها بالمعروف بل هذا عمدة المعاشرة، ومقصودها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرها بالمعروف، فالوطء داخل في هذه المعاشرة ولابد قالوا: وعليه أن يشبعها وطْأً إذا أمكنه ذلك كما عليه أن يشبعها قوتًا، وكان شيخنا رحمه الله يرجح هذا القول ويختاره»
(1)
.
(1)
روضة المحبين (217).
وقد اتفق الفقهاء على أن للمرأة فسخ النكاح إذا ثبتت عِنّة
(1)
الرجل
(2)
.
وإن امتنع الرجل من وطء الزوجة مع قدرته، ضرب الحاكم له أمد الإيلاء أربعة أشهر؛ فإن فاء وإلا لزمه الطلاق
(3)
.
المطلب الثاني: أوقات الوطء وهيئاته
حرّم الإسلام في أوقات الوطء وهيئاته ما فيه مضرة على الذكر والأنثى، وما ذاك إلا لحفظ الحقوق الإنسانية.
• فحرم إتيان المرأة في حيضتها، أو دبرها يقول تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
(4)
.
(1)
قال القونوي في أنيس الفقهاء (165): «العنين من لا يقدر على الجماع، أو يصل إلى الثيب دون البكر، أو لا يصل إلى امرأة واحدة بعينها فحسب، وإنما يكون ذلك لمرض به، أو لضعف في خلقته، أو لكبر سنه، أو لسحر فهو عنين في حق من لا يصل إليها لفوات المقصود» وانظر لسان العرب (3/ 290) مادة (ع ن ن)، المطلع (319).
(2)
ينظر: التمهيد (13/ 226)، بدائع الصنائع (2/ 323)، روضة الطالبين (7/ 195)، المغني (7/ 143).
(3)
ينظر: المغني (5/ 108).
(4)
البقرة: المغني (5/ 108).
أخرج أحمد في المسند
(1)
، وأبو داود في السنن
(2)
، وابن ماجه في السنن
(3)
والترمذي في السنن
(4)
، والنسائي في الكبرى
(5)
، وابن الجارود في المنتقى
(6)
والطحاوي في شرح معاني الآثار
(7)
، والبيهقي في الكبرى
(8)
من طرق عن حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنًا فصدّقه، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» واللفظ لأحمد.
وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة
…
وضعف محمد (يعني البخاري) هذا الحديث من قبل إسناده، وأبو تميمة الهجيمي اسمه طريف بن مجالد.
وضعفه البغوي فيما نقله عنه المناوي
(9)
، وقال الذهبي في الكبائر: ليس إسناده بالقائم
(10)
.
وصححه الألباني في الإرواء
(11)
.
(1)
(15/ 164)9290.
(2)
(4/ 15)3904.
(3)
(1/ 209)3904.
(4)
(1/ 242)135.
(5)
(5/ 323)9017.
(6)
107.
(7)
(2/ 26).
(8)
(7/ 198)13902.
(9)
فيض القدير (6/ 24).
(10)
(11)
(7/ 86)2006.
قلت: هذا الإسناد ضعيف؛ لانقطاعه، لأن أبا تميمة لا يعرف له سماع من أبي هريرة
(1)
، وفيه حكيم الأثرم «فيه لين»
(2)
قاله الحافظ.
لكن للحديث شواهد يرتقي بها للحسن أوردها الألباني في الإرواء، ومحققو مسند أحمد
(3)
.
• ومواقعة المرأة أثناء الحيض تتسبب في كثير من الأمراض الصحية للرجل والمرأة على حد سواء، ولا غرو فإن الله لا يحرم على عباده إلا ما كان خبيثًا.
وقد ذكر الدكتور البار بعض الأضرار الصحية لمواقعة الحائض منها:
ما يختص بالمرأة:
1 -
يقذف الغشاء المبطن للرحم بأكمله أثناء الحيض، وبفحص دم الحيض تحت المجهر نجد بالإضافة إلى كرات الدم الحمراء والبيضاء قطعًا من الغشاء المبطن للرحم، ويكون الرحم متقيحًا نتيجة لذلك، تمامًا كما يكون الجلد مسلوخًا، فهو معرض بسهولة لعدوان البكتريا الكاسح، ومن المعلوم طبيًا أن الدم هو خير بيئة لتكاثر المكروبات ونموها، وتقل مقاومة الرحم للميكروبات الغازية نتيجة لذلك، ويصبح دخول الميكروبات الموجودة على سطح القضيب يشكل خطرًا داهمًا على الرحم.
2 -
ومما يزيد الطين بلة أن مقاومة المهبل لغزو البكتريا تكون في أدنى مستواها أثناء الحيض، إذ يقل إفراز المهبل للحامض الذي يقتل الميكروبات،
(1)
قاله البخاري في التاريخ الكبير (3/ 16)67.
(2)
التقريب (267)1489.
(3)
وانظر أحاديث أخر في تحريم إتيان الحائض، أو المرأة في دبرها في: آداب الزفاف للألباني (99 - 106)، تحفة العروس للإستنبولي (137 - 142).
ويصبح الإفراز أقل حموضة إن لم يكن قلوي التفاعل، وليس ذلك فحسب بل إن جدار المهبل المكون من عدة طبقات من الخلايا يرق أثناء الحيض، فيكون إدخال القضيب ليس إلا إدخالا للميكروبات في وقت لا تستطيع فيه أجهزة الدفاع أن تقاومها.
3 -
امتداد الالتهابات إلى قناتي الرحم تسدها، أو تؤثر على ش عيراتها الداخلية التي لها دور كبير في دفع البويضة من المبيض إلى الرحم، وذلك يؤدي إلى العقم أو إلى الحمل خارج الرحم.
4 -
كما بيّن الدكتور أن المرأة الحائض تكون في حالة جسمية ونفسية لا تسمح لها بالجماع، فإن حدث فإنه يؤذيها أذىً شديدًا.
وأما ما يتعلق بجانب الرجل فيمكن تلخيصه:
بأن إدخال القضيب إلى المهبل المليء بالدماء يؤدي إلى تكاثر الميكروبات، والتهاب قناة مجرى البول لدى الرجل، وتنمو الميكروبات السبحية والعنقودية على وجه الخصوص في مثل هذه البيئة الدموية.
وتنتقل الميكروبات من قناة مجرى البول إلى البروستاتا والمثانة، والتهاب البروستاتا سرعان ما يزمن لكثرة قنواتها الضيقة الملتفة، والتي نادرًا ما يصلها الدواء بكمية كافية لقتل الميكروبات المختفية في تلافيفها، فإذا أزمن التهاب البروستاتا فإن الميكروبات سرعان ما تغزو بقية الجهاز البولي التناسلي، فتنتقل إلى الحالبين، ومنه إلى الكلى، وما أدراك ما التهاب الكلى المزمن إنه العذاب حتى يحين الأجل
…
ولا علاج
(1)
.
(1)
ينظر: نظرية الفكر في الإسلام (106).
• وتأمل -رحمك الله- فيما مرّ بك
(1)
من عادة اليهود، ومن قلدهم من العرب في الجاهلية أنهم لا يؤاكلون الحائض ولا يساكنوها، فنهى الإسلام عن ذلك، كما حرم إتيان الحائض، وسمح بالتمتع بما دون الفرج، وقد تقدم
(2)
هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مباشرة الحائض فيما دون الفرج، فكان دين الإسلام دين الوسطية وخير الأمور أوسطها، فحفظ صحة المرأة الجسمية والنفسية حين منع وطأها، وكذا حين أباح مباشرتها فيما دون الفرج.
• وأما إتيانها في دبرها: فقد قال ابن القيم رحمه الله: «وأما الدبر فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء، ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها فقد غلط
…
(ثم ساق أخبار النهي عنه) وقال: وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين:
أحدهما: إنه إنما أباح إتياها في الحرث وهو موضع الولد لا في الحش الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله:{مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} الآية {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضًا لأنه قال: {أَنَّى شِئْتُمْ} أي: من أين شئتم: من أمام أو من خلف، قال ابن عباس:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} يعني الفرج، وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض الانقطاع النسل، والذريعة القريبة جدًّا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
وأيضًا فللمرأة حق على الرجل في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوت حقها، ولا يقضي وطرها، ولا يحصل مقصودها، وأيضًا فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم
(1)
ص (29).
(2)
ص (136).
يخلق له، وإنما الذي هيئ له الفرج، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون ع ن حكمة الله وشرعه جميعًا.
وأيضًا فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم؛ لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن، وراحة الرجل منه، والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي
…
وأيضًا فإنه محل القذر والنجو، فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه»
(1)
.
ويقول د. جمال باصهبي في التحذير من وطء المرأة في الدبر: «
…
وكما تقول دراستهم فإن أكثر الجراثيم المسببة للالتهاب المجاري البولية، وبالتالي الألم أثناء الاتصال الجنسي هي جرثومة (الأشر بشياء كولاي) والتي توجد في البراز، وتجد طريقها إلى المجاري البولية والمهبل بإتيان المرأة في دبرها
(2)
.
المطلب الثالث: تحريم العزل
(3)
وإن كان الإسلام قد أباح العزل، وعلى هذا بوّب البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب العزل
(4)
، ومسلم في كتاب النكاح، باب:
(1)
زاد المعاد (4/ 262).
(2)
نقلًا من مقال للدكتور بعنوان «أسباب الألم أثناء الاتصال الجنسي عند المرأة» من موقع. Sehha.com
(3)
العزل: هو عزل الماء من موضع الولد عند الجماع حذار الحمل، أو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج.
ينظر: مشارق الأنوار (2/ 80)، النهاية (3/ 230) مادة (ع ز ل)، الفتح (9/ 308).
(4)
(5/ 1998)4912.
حكم العزل
(1)
وأوردا حديث جابر رضي الله عنه فيه: كنا نعزل والقرآن ينزل. واللفظ لمسلم.
لكن شرط العزل إذن الزوجة إن كانت حرة، قال ابن عبد البر:«لا أعلم خلافًا أن الحرة لا يعزل عنها زوجها إلا بإذنها»
(2)
.
وإلى وجوب إذن الزوجة ذهب أبو حنيفة
(3)
، ومالك
(4)
، وأحمد
(5)
، وللشافعية
(6)
في المسألة قولان. واستدل الجمهور على ذلك:
1 -
بما أخرجه أحمد في المسند
(7)
، وابن ماجه في السنن
(8)
، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ
(9)
، ومن طريقة البيهقي في الكبرى
(10)
من طريق إسحاق بن عيسى، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن مُحَرَّر بن أبي هريرة، عن أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن العَزْل عن الحرة إلا بإذنها. واللفظ لأحمد.
(1)
(2/ 1065)1440.
وانظر: بقية الأحاديث عند البخاري ومسلم. والخلاف في حكم العزل في الفتح (9/ 308)، عون المعبود (6/ 155).
(2)
الاستذكار (6/ 228).
(3)
ينظر: المبسوط للسرخسي (4/ 197)، البحر الرائق (8/ 222).
(4)
ينظر: التمهيد (3/ 150)، القوانين الفقهية (141).
(5)
ينظر: المغني (7/ 227)، الإنصاف (8/ 348).
(6)
ينظر: الفتح (9/ 803)، التنبيه (159).
(7)
(1/ 339)212.
(8)
(1/ 620)1928.
(9)
(1/ 385).
(10)
(7/ 231)14102.
وقد تصحف في مطبوع سنن ابن ماجه من «محرر» إلى «مَحَرِّز» .
وتحرف في البيهقي إسحاق بن عيسى إلى «إسحاق بن حسن» .
(1)
.
والشاهدان المذكوران موقوفان خلافًا لما يوهم صنيع المؤلف، ثم إن مدار إسنادهما على سفيان بن محمد الجوهري، ولم أجد له ترجمة.
وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند
(2)
، وضعفه الألباني في الإرواء
(3)
.
قلت: وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة، ورواية العبادلة عنه أعدل من غيرها»
(4)
، وهو هنا من غير رواية العبادلة.
2 -
لأن لها في الولد حقًا، وعليها في العزل ضررًا فلم يجز إلا بإذنها
(5)
.
3 -
لأن في العزل تفويتًا لكمال لذتها، ولها حق في الجماع كالرجل فاشترط إذنها
(6)
.
ومن هنا يتضح حرص الإسلام على حفظ حق المرأة ليس فيما يحمي حياتها
(1)
مصباح الزجاجة (2/ 122).
(2)
(1/ 138)212.
(3)
(7/ 70)2007.
(4)
ينظر: تهذيب التهذيب (5/ 327) 648، التقريب (538).
(5)
ينظر: المغني (7/ 227).
(6)
ينظر: الفتح (9/ 803)، البحر الرائق (8/ 222).
فحسب بل وفيما تكتمل به لذتها.
المطلب الرابع: حفظ الأسرار الخاصة بين الزوجين
ورعاية للأمانة، وحفظًا للسر، وتقديرًا للخصوصية، فإن من حق كلا الزوجين على الآخر ألا يحدث بما يحصل بينهما؛ لأن اللابس والملبوس لا يدخل بينهما غريب، والله تعالى يقول:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}
(1)
.
• أخرج مسلم في صحيحه في كتاب النكاح، باب: تحريم إفشاء سر المرأة
(2)
، من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه ثم ينشر سرها» .
• وأخرج أحمد في المسند
(3)
، والطبراني في الكبير
(4)
كلاهما من طريق شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده، فقال:«لعل رجلًا يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها» فأرمَّ القوم، فقلت: أي والله يا رسول الله، إنهم ليقلن، وإنهم ليفعلون، قال:«فلا تفعلوا، فإنما مِثلُ ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق، فغشيها والناس ينظرون» واللفظ لأحمد.
• قال الهيثمي في المجمع: «رواه أحمد والطبراني، وفيه شهر بن حوشب،
(1)
البقرة: (187).
(2)
(2/ 1060)1437.
(3)
(45 - 564)27583.
(4)
(24/ 102)414.
وحديثه حسن، وفيه ضعف»
(1)
.
وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد في المسند
(2)
، وسنده ضعيف لجهالة أحد رجاله حيث جاء في إسناده «عن رجل من الطُّفَاوة» .
وقد ساق له الألباني في آداب الزفاف
(3)
شواهد أخر، ثم قال:«فالحديث بهذه الشواهد صحيح أو حسن على الأقل» .
قال الشوكاني في النيل
(4)
: «والحديثان يدلان على تحريم إفشاء أحد الزوجين لما يقع بينهما من أمور الجماع، وذلك لأن كون الفاعل لذلك من أشر الناس، وكونه بمنزلة شيطان لقي شيطانة، فقضى حاجته منها، والناس ينظرون، من أعظم الأدلة الدالة على تحريم نشر أحد الزوجين للأسرار الواقعة بينهما الراجعة إلى الوطء ومقدماته، فإن مجرد فعل المكروه لا يصير به فاعله من الأشرار، فضلًا عن كونه من أشرهم، وكذلك الجماع بمرأى من الناس لا شك في تحريمه، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الرجل، فجعل الزجر المذكور خاصًا به، ولم يتعرض للمرأة؛ لأن وقوع ذلك الأمر في الغالب من الرجال. قيل: وهذا التحريم إنما هو في نشر أمور الاستمتاع، ووصف التفاصيل الراجعة إلى الجماع، وإفشاء ما يجري من المرأة من قول أو فعل حالة الوقاع، وأما مجرد ذكر نفس الجماع، فإن لم يكن فيه فائدة ولا
(1)
(4/ 294). وقد ضعف شهر بن حوشب جماعة من أهل العلم. ينظر في ترجمته: التاريخ الكبير (4/ 258) 2730، الجرح والتعديل (4/ 382) 1668، تهذيب التهذيب (4/ 324) 635، التقريب (441)2846.
(2)
(16/ 573)10977.
(3)
(4)
(6/ 350 - 351).
إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة، ومن التكلم بما لا يعني، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وقد ثبت في الصحيح
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» فإن كان إليه حاجة، أو ترتبت عليه فائدة فلا كراهة في ذكره، وذلك نحو أن تنكر المرأة نكاح الزوج لها، وتدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك».
فلتهنأ المسلمات بشرع رب العالمين الذي ضمن لهن أسرار المعاشرة، ولتبكِ الغربيات على أنفسهن حين انتهكت خصوصياتهن باسم التقدم والمدنية؟!.
(1)
جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره من حديث أبي هريرة (5/ 2240).
المبحث الثالث: حفظها من الأنكحة الفاسدة
الإسلام دين الإنسانية، يحفظ من تحته من كل ما يضر بجسده أو روحه، وكما حرّم ما يلحق الضرر بجسد العبد، فإنه حرم ما يلحق الضرر بنفسه، فلا تعجب وأنت تقرأ تحريم الإسلام أنواع الأنكحة الفاسدة التي تجعل من المرأة نزوة شهوانية تؤز الرجل لقضاء وطره فحسب، بينما تتحمل المرأة كثيرًا من تبعات هذا الزواج الفاسد؛ ولذا حرّم الإسلام هذه الأنكحة. وفي الآتي حديثٌ عن الأنكحة الفاسدة، وذلك في أربعة مطالب:
المطلب الأول: نكاح المتعة.
المطلب الثاني: نكاح الشغار.
المطلب الثالث: نكاح المحلل.
المطلب الرابع: النكاح العرفي.
المطلب الأول: نكاح المتعة
وهو أن يتزوج الرجل المرأة مدة، فإذا انتهت وقعت الفرقة، سواءً كانت المدة معلومة أو مجهولة
(1)
.
(1)
ينظر: بدائع الصنائع (5/ 37)، المغني (7/ 136)، الفتح (9/ 167).
ونكاح المتعة عند القائلين به لا ميراث فيه، وتقع الفرقة بانقضاء الأجل من غير طلاق
(1)
.
• وقد اتفق أئمة علماء الأمصار من أهل الرأي والآثار من فقهاء أهل السنة على تحريم نكاح المتعة
(2)
، قال ابن قدامة:«هذا قول عامة الصحابة والفقهاء»
(3)
.
والمبطل في نكاح المتعة هو التصريح بالتأجيل في العقد، فإذا نراه في قلبه، ولم يصرّح به فإنه لا يبطل النكاح، وخالف الأوزاعي فأبطل النكاح بالقصد، بدعوى أنه نكاح متعة
(4)
.
والفرق بينهما أن نكاح المتعة ينفسخ بانقضاء المدة بخلاف الثاني، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرًا.
وحرّم العلماء نكاح المتعة، وحكموا ببطلانه للأدلة الآتية:
1 -
(5)
.
وقد نزعت عائشة والقاسم بن محمد وغيرهما في تحريم المتعة ونسخها بهذه الآية؛ لأن الله حرّم الفروج إلا بنكاح صحيح أو ملك يمين، وليست المتعة نكاحًا
(1)
ينظر: الاستذكار (16/ 294)، المغني (7/ 136).
(2)
ينظر: المصدران السابقان، المبسوط للسرخسي (4/ 27)، شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 189).
(3)
المغني (7/ 136).
(4)
وانظر القائلين بجوازه وأدلتهم ومناقشتها في المصادر المتقدمة، وأضواء البيان (1/ 237).
(5)
المؤمنون: (3 - 7).
صحيحًا، ولا ملك يمين
(1)
.
ومعلوم أن المستمتع بها ليست مملوكة ولا زوجة، فمبتغيها إذن من العادين بنص القرآن، أما كونها غير مملوكة فواضح، وأما كونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث والعدة والطلاق والنفقة، ولو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق، ووجبت لها النفقة
(2)
.
2 -
ما أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيرًا
(3)
، ومسلم في كتاب النكاح، باب: نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة
(4)
من حديث علي أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء. فقال: مهلًا يا بن عباس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية. واللفظ لمسلم.
3 -
أخرج مسلم
(5)
من طريق عبد العزيز بن عمر، عن الربيع بن سيرة الجهني، عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما أتيتموهن شيئًا» وأخرج من طريق الزهري، عن الربيع، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح عن متعة النساء.
(1)
ينظر: الاستذكار (5/ 507).
(2)
ينظر: أضواء البيان (1/ 237).
(3)
(5/ 1966)4825.
(4)
(2/ 1022)1407.
(5)
وانظر تحرير زمن تحريم نكاح المتعة عند ابن القيم في الزاد (5/ 111)، والحافظ في الفتح (9/ 73 - 75).
ومكانة المرأة في الإسلام أسمى من أن تكون سلعة مستأجرة، ينتهي عقدها بانتهاء مدتها، بل هي المعززة المكرمة المحفوظة الحق، فلله الحمد على تمام نعمته.
المطلب الثاني: نكاح الشِغار
الشِغار في اللغة: الحلو، يقال: بلد شاغر إذا خلا من السلطان، وأمر شاغر إذا خلا من مدبره، وأصله مأخوذ من شغور الكلب، يقال: قد شغر الكلب، إذا رفع إحدى رجليه للبول لخلو الأرض منها
(1)
.
وفي الاصطلاح: أن يزوج الرجل وليته على أن يزوجه الآخر وليته، ليس بينهما صداق
(2)
.
وجاء النهي عنه في السنة:
1 -
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: الشغار
(3)
، ومسلم في صحيحه في كتاب النكاح، باب: تحريم نكاح الشغار وبطلانه
(4)
من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار. والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق.
واختلف أهل العلم في تفسير الشغار الوارد في الحديث، هل هو مرفوع لرسول الل صلى الله عليه وسلم-هـ، أو هو تفسير من أحد رواته: ابن عمر، أو نافع، أو مالك؟
ومال
(1)
الحاوي للماوردي (11/ 443)، اللسان (4/ 417) مادة (ش غ ر).
(2)
ينظر: الفائق (1/ 17)، النهاية (2/ 842)، أنيس الفقهاء (147) مادة (ش غ ر).
(3)
(9/ 1966)4822.
(4)
(2/ 1034)1415.
الحافظ ابن حجر إلى كونه مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، وساق الأدلة على ذلك
(1)
.
قال الحافظ: «ذكر البنت في تفسير الشغار مثال، وقد تقدم في رواية أخرى ذكر الأخت، قال النووي
(2)
أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات، وبنات الأخ وغيرهن كالبنات في ذلك»
(3)
.
2 -
أخرج مسلم في صحيحه
(4)
من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا شغار في الإسلام.
• ونقل ابن عبد البر
(5)
، والنووي
(6)
إجماع العلماء على تحريمه، لكنهم اختلفوا في حكمه، قال الشوكاني في النيل: «قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته، فالجمهور على البطلان. وفي رواية عن مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده
(7)
، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي. وذهب الحنفية إلى صحته ووجوب المهر
(8)
، وهو قول الزهري، ومكحول، والثوري، والليث، ورواية عن أحمد
(9)
، وإسحاق وأبي ثور هكذا في الفتح
(10)
. قال: وهو قوي
(1)
ينظر: الفتح (9/ 267).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 201).
(3)
الفتح (9/ 68).
(4)
(2/ 1035)1415.
(5)
التمهيد (14/ 72).
(6)
شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 201).
(7)
ينظر: التمهيد (14/ 70)، التاج والإكليل (3/ 512).
(8)
ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 105)، بدائع الصنائع (2/ 278).
(9)
ينظر: المغني (7/ 134)، المبدع (7/ 83).
(10)
(9/ 68).
على مذهب الشافعي لاختلاف الجهة. لكن قال الشافعي: النساء محرمات إلا ما أحل الله أو ملك يمين، فإذا ورد النهي عن نكاح تأكد التحريم. أ. هـ. وظاهر ما في الأحاديث من النهي والنفي أن الشغار حرام باطل»
(1)
.
• ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز: «والصواب الذي نفتي به، ونعتقد أنه الحق أن عقد الشغار باطل مطلقًا، ولو سمي فيه مهر مكافئًا، والواجب على من فعله أن يجدد النكاح إن كانت المرأة تريده، وإذا كانت لا تريده المرأة وجب عليه طلاقها بطلقة واحدة، وأمّا إذا كانت تريده، والأخرى تريد زوجها ف لا مانع من تحديد النكاح بعقد شرعي، ومهر شرعي ليس فيه اشتراط امرأة أخرى في كلا العقدين، ويجتنبها، ويبتعد عنها حتى يجدد النكاح في حضرة شاهدين، وولي، بمهر جديد إذا كانت ترغب فيه، ويرغب فيها، أما إذا كانت لا ترغب فيه، فإنه يطلقها بطلقة واحدة طاعة لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذرًا مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وتحريم الإسلام النكاح الشغار فيه حفظ لحقوق المرأة، ومنع الظلم الواقع عليها من قبل وليها من أجل مصلحته، أو مصلحة ولده، ويسميه العوّام في هذه الأيام «نكاح البدل» وتذوق المرأة المبتلاة به طعم الأمرين؛ لأن وقوع مشكلة في أحد البيوت القائمة عليه، إيذان بوقوع المشكلة في البيت الآخر، ومن ذاق مرارة هذا النكاح أدرك الحكمة الجلية في تحريم الإسلام له، ثم إن إسقاط حق المرأة في المهر ظلم لها، كيف وقد في الله عن أخذ شيء منه إلا بطيب نفس منها؟! وحرّج رسول الله صلى الله عليه وسلم مالها.
(1)
وانظر: الأدلة على بطلان نكاح الشغار، ومناقشة من أمضاه وأوجب مهر المثل عند شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي (29/ 344، 32/ 162).
(2)
نقلًا عن موقع الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
المطلب الثالث: نكاح المحلِّل
وهذا النكاح هو الذي يقصد الزوج بنكاحه فيه تحليل المطلقة ثلاثًا، سواء كان ذلك بالقول، أو بالتواطؤ، أو القصد، فإن المقصود في العقود معتبرة، والأعمال بالنيات، والشرط المتواطأ عليه الذي دخل عليه المتعاقدان كالملفوظ، والألفاظ لا تراد لعينها، بل للدلالة على المعاني فإذا ظهرت المعاني والمقاصد، فلا عبرة بالألفاظ؛ لأنها وسائل، وقد تحققت غايتها، فترتب عليها أحكامها
(1)
.
والأدلة على تحريم هذا النوع:
1 -
ما أخرجه أحمد في المسند
(2)
، والبراز في المسند
(3)
، والبيهقي في الكبرى
(4)
من طرق عن عثمان بن محمد، عن المَقْبُري، عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحِلَّ، والمُحَلَّل له.
وحسن إسناده ابن القيم في الزاد
(5)
، قلت: فيه عثمان بن محمد الأخنسي قال الحافظ «صدوق له أوهام» )
(6)
وليس هذا من أوهامه، لوروده من طرق أخرى.
2 -
ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف
(7)
، والدارمي في السنن
(8)
، والترمذي
(1)
ينظر: رواية المجتهد (2/ 44)، زاد المعاد (5/ 110)، عون المعبود (6/ 62)، نيل الأوطار (6/ 277).
(2)
(14/ 42)8287.
(3)
(4)
(7/ 208)13964.
(5)
(5/ 110).
(6)
التقريب (668)4547.
(7)
(3/ 553)17089.
(8)
(2/ 211)2258.
في السنن
(1)
، والنسائي في الكبرى
(2)
، والبيهقي في الكبرى
(3)
من طرق عن أبي قيس، عن هُزَيل بن شرحبيل، عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحافظ في التلخيص
(4)
: «وصححه ابن القطان، وابن دقيق العيد على شرط البخاري» قلت: وهو كما قالا.
وصححه الألباني في الإرواء
(5)
.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: «وإنما لعنهما لما في ذلك من هتك المروءة، وقلة الحمية، والدلالة على خسة النفس وسقوطها، أما بالنسبة إلى المحلل له فظاهر، وأما بالنسبة إلى المحلل؛ فلأنه يعير نفسه بالوطء لغرض الغير، فإنه إنما يطؤها ليحللها لوطء المحلل له، ولذلك مثله صلى الله عليه وسلم بالتيس المستعار»
(6)
(7)
.
وفي تحريم الإسلام لنكاح التحليل صيانة لحق المرأة من أن تكون ألعوبة بيد الرجل، وفتح الفرص لها لتجرب حياة أخرى، فتكون قادرة إما على الاستمرار مع الحياة الجديدة، أو العودة لبيت الزوجية الأول، فسبحان الحكيم العليم.
(1)
(3/ 428)1120.
(2)
(3/ 354)5609.
(3)
(7/ 208).
(4)
(31/ 170).
(5)
(6/ 308)1897. وانظر شواهد أخرى أوردها رحمه الله في الموضع نفسه.
(6)
انظر: تخريج هذا الحديث عند الألباني رحمه الله في المرجع السابق.
(7)
(4/ 221).
المطلب الرابع: النكاح العرفي
إن المتتبع لأحوال الأمة ولا سيما في المائة الأخيرة يقف على بعد كثير من الناس عن مشكاة النبوة، ووقوع أنواع من الظلم على المرأة، ولعل «الزواج العرفي» أحد أنواع ظلم المرأة الاجتماعي، وإليك بيانه وأحكامه.
• والزواج العرفي اصطلاح حديث يطلق على عقد الزواج غير الموثق بوثيقة رسمية سواء كان مكتوبًا أو غير مكتوب
(1)
.
والسبب في تسميته بهذا الاسم، أن هذا العقد اكتسب مسماه من كونه عرفًا اعتاد عليه أفراد المجتمع المسلم منذ عهد الرسول صلوات الله عليه وسلامه وما بعد ذلك.
يقول د. محمد عزمي: «فلم يكن المسلمون في يوم من الأيام يهتمون بتوثيق الزواج، ولم يكن ذلك يعني إليهم أي حرج، بل أطمأنت نفوسهم إليه، فصار عُرفًا عُرف بالشرع، وأقرهم عليه، ولم يرده في أي وقت من الأوقات
(2)
.
• وقبل الشروع في بيان أنواعه لا بد أن يعلم أن الشريعة الإسلامية لم تشترط أن يجري عقد الزواج على يد قاض أو مأذون، ويستطيع العاقدان إجراء العقد بنفسيهما من غير احتياج إلى وسيط يقوم بإجرائه، ويكفي في انعقاده النطق بالإيجاب والقبول مشافهة بحضور شاهدين، ولم يكن يطالب المسلمون بتسجيل عقد الزواج، كل ما طلبته الشريعة الإشهاد عليه، واستحبت إعلانه وإشهاره. يقول
(1)
مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد (369) ص: 149.
(2)
العقد العرفي (11).
شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا يفتقر تزويج الولي إلى حاكم باتفاق العلماء»
(1)
.
وابتدأت كتابة العقود عندما بدأ المسلمون يؤخرون المهر أو شيئًا منه، وأصبحت هذه الوثائق التي يدون فيها مؤخر الصداق وثيقة لإثبات الزواج.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «لم يكن الصحابة يكتبون صداقات؛ لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخروه فهو معروف، فلما صار الناس يزوجون على المؤخر، والمدة تطول وينسى صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق، وفي أنها زوجة له»
(2)
.
وقد نشأ من عدم تسجيل عقود الزواج مشكلات كثيرة لا يخلو كتاب من كتب الفقه من الإشارة إليها، والحديث عنها.
فبعض الذين يضعف الإيمان في نفوسهم يدّعون الزوجية باطلًا وزورًا ويقيمون على ادعائهم شهودًا لا يتورعون عن الكذب والزور، وآخرون ينتفون من الزوجة تهربًا من الحقوق المترتبة عليها كمؤخر مهر، أو إسقاط شرط شرطته الزوجة.
وقد نصّت معظم قوانين الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية على وجوب توثيق عقد الزواج، واشترطت شروطًا لا بد من توافرها لإجراء العقد، وهذه الشروط ليست شروطًا شرعية؛ لأن مدوني القوانين ليس لهم أن يُنْشئوا حكمًا شرعيًّا دينيًّا يحل حرامًا، أو يحرم حلالًا، بل هو شرط يترتب عليه أثر قانوني لا دخل له في الحكم الشرعي.
(1)
مجموع الفتاوى (32/ 34).
(2)
المصدر السابق (32/ 121)، وينظر أيضًا (33/ 158).
وإذا انتفت هذه الشروط القانونية أو انتفى بعضها فإن الزواج يقع صحيحًا، وإن كان القانون له حق فرض العقوبة المناسبة على المخالف لمخالفته المنصوص عليه
(1)
.
• ومما تقدم اعلم -وفقك الله- أن الزواج العرفي ينقسم إلى نوعين:
النوع الأول:
عقد يتوفر فيه أركان النكاح وشروطه من الإيجاب والقبول الدال على رضا الزوجين، والولي، والإشهاد، ولم يخل من المهر، وخلا من التأقيت، لكنه لم يسجل في المحكمة الشرعية، ولم يجر على يد مأذون، ولم تصدر فيه وثيقة زواج.
• والأسباب التي تدعو بعض الأزواج إلى إجراء العقود بعيدًا عن المأذون الشرعي، والمحاكم الشرعية تعود إلى أمور:
1 -
إن بعض الأزواج لا تتوافر فيهم الشروط القانونية التي يجب توافرها حين العقد، كأن يكون من أحد الزوجين أقل من السن المنصوص عليه في القانون.
2 -
إن بعض الأزواج قد لا يملك الإثباتات الرسمية اللازمة لإجراء عقد الزواج، كأن لا يكون لديه جواز سفر أو هوية شخصية.
3 -
قد يرغب بعض الأزواج كتمان زواجه لما يحدثه الإعلان من إشكالات له، كما لو كان متزوجًا وله أولاد.
4 -
أن تكون الزوجة مستحقة لمعاش من زوجها الأول، وتريد أن تحتفظ به، لأنه يسقط بالزواج إن وثق
(2)
.
(1)
ينظر: الزواج في الشريعة الإسلامية لعلي حسب الله (78)، أحكام الزواج في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور عمر الأشقر (174 - 175).
(2)
ينظر: أحكام الزواج لعمر الأشقر (176) الزواج العرفي لحامد الشريف (9/ 11)، الزواج العرفي حكمه وأنواعه في بنك الفتاوى في موق «إسلام أون لاين» .
• ومال كثير من المعاصرين
(1)
إلى أن هذا النوع نكاح صحيح لاشتماله على أركان النكاح وشروطه، وإن حذروا من غباته ومخاطره، وما يترتب عليه من أمور محرمة كمخالفة ولي الأمر مع أن طاعته واجبة فيما ليس بمعصية، يقول تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
(2)
ومن مخاطره: عدم استطاعة الزوجين إثبات عقد النكاح مع الرغبة في إثباته لسبب من الأسباب، فيتضرر الأولاد بسبب ذلك ضررًا بالغًا، كأن يهلك الوالدان قبل تسجيل عقد النكاح، أو يتوفى الزوج، ولا تستطيع الزوجة إثبات الزواج، أو ينتفي أحد الزوجين من الزواج والأولاد، فيتضرر الزوج الآخر، والخاسر الكبير في الغالب الزوجة، فقد يغرر بها الزوج، فترتبط به بعقد عرفي، ثم يهجرها بعد ذلك، ولا تستطيع أن تثبت زواجها منه، فيضيع ميراثها، و مؤخر مهرها، ونفقة عدتها، وتزداد المشكلة سوء إن رزقت منه بأطفال لا يعترف بهم، فتقع بين نارين، فهي من جهة فقدت العائل الذي ينفق عليها، وعلى ولدها، ومن جهة أخرى لا تستطيع أن تثبت نسب أولادها إلى أبيهم، ويحرمون بسبب ذلك حق الجنسية والتعليم والتطبيب.
فعلى أخواتي النساء أن يكن أكثر حذرًا؛ لكيلا يقعن في حبائل من ينصبون من الشباك، ثم يتركن بعد ذلك يندبن حظهن العاثر، وما وقع لهن كان بكسب أيديهن.
(1)
منهم: د. عمر الأشقر في كتابه أحكام الزواج (177)، والشيخ حسنين مخلوف في فتاوى شرعية (2/ 55)، والشيخ جاد الحق شيخ الأزهر في بحوث وفتاوى إسلامية معاصرة (1/ 268)، والشيخ يوسف القرضاوي في حلقة على الإنترنت في موقع المنتدى، والشيخ عبد اللطيف مفتي الديار المصرية في مجلة اليوسف المصرية بتاريخ (1/ 10/ 1984 م).
(2)
النساء: (59).
النوع الثاني:
أن يكتب الرجل والمرأة بينهما ورقة دون شهود، وأحيانًا يكون هناك شاهدان في الغالب يكونان من الأصدقاء وبدون مهر، ولا ولي، ولا إشهار، ولا توثيق
(1)
، وقد ظهر من هذا النوع أنواع أُخَر كزواج الكاسيت وهذا النوع لا يحتاج إلى ورقة أو شهود، وإنما يكتفي الطرفين بوجود كاسيت (أي: شريط تسجيل صوتي) ويسجل عليه كل منهما الكلمات التي يرددها المأذون الشرعي، ويحتفظ كل منهما بنسخة منه.
وزواج الوشم عبارة عن كتابة وثيقة الزواج بالوشم على الجلد.
وزواج الطوابع أسهل الأنواع حيث يقوم كل طرف بلصق طابع بريد على جبين الآخر، فيصيران زوجين
(2)
!!
• وهذا الزواج إذا تم من دون ولي، ولا شهود، ولا إعلان فهو باطل بإجماع العلماء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «نكاح السر الذي يتواصى بكتمانه، ولا يشهدون عليه أحدًا، باطل عند عامة العلماء وهو من جنس السفاح»
(3)
.
ويقول الشيخ عبد الرحمن النجدي: «وإن خلا الزواج من الإشهاد والإعلان فهو باطل عند عامة المسلمين»
(4)
.
(1)
ينظر: زواج باطل لمحمد فؤاد شاكر (32)، زواج المسيار (102).
(2)
من مقال «هل يصبح الزوج فريند بديلًا عن الزواج السري» من موقع للكبار فقط. www.elekbar.com
(3)
مجموع الفتاوى (33/ 158).
(4)
حاشية الروض المربع (6/ 278).
• حتى وإن حضر شاهدان، ولم يحضر الولي فإن النكاح باطل عند جمهور العلماء مالك
(1)
، والشافعي
(2)
، وأحمد
(3)
، وهو القول الراجح الذي تقتضيه الأدلة، ومنها:
1 -
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
(4)
.
قال الحافظ في الفتح
(5)
: «هي أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معن
…
وذكر ابن المنذر: أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك».
2 -
قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}
(6)
.
قال القرطبي: «والقراء على ضم التاء من تنكحوا الثانية، في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي. قال محمد بن علي بن الحسين: النكاح بولي في كتاب الله، ثم قرأ:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ}
(7)
.
(8)
- ما أخرجه الدارقطني في السنن
(9)
، وابن حبان في صحيحه من حديث
(1)
ينظر: المدونة الكبرى (4/ 177)، التمهيد (8489).
(2)
الأم (5/ 168)، حاشية البجيرمي (3/ 338).
(3)
ينظر: المغني (7/ 6)، المبدع (7/ 27).
(4)
البقرة: (232).
(5)
(9/ 187).
(6)
البقرة: (221).
(7)
الجامع لأحكام القرآن (3/ 72).
(8)
(3/ 226)23.
(9)
(3/ 386)4075.
عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» .
وحسن إسناده الألباني، وأطال في تتبع طرقه وشواهده رحمه الله في الإرواء
(1)
.
4 -
أخرج أحمد في المسند
(2)
، وأبو داود في السنن
(3)
، وابن ماجه في السنن
(4)
، والترمذي في السنن
(5)
، والحاكم في المستدرك
(6)
من طرق عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أيَّما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها مهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» واللفظ للترمذي.
وقال: هذا حديث حسن.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقد تابع أبا عاصم على ذكر سماع ابن جريج من سليمان بن موسى، وسماع سليمان بن موسى من الزهري، عبد الرزاق بن همام، ويحيى بن أيوب، وعبد الله بن لهيعة، وحجاج بن محمد المصيصي.
(1)
(6/ 258)1858.
(2)
(42/ 199)25326.
(3)
(2/ 329)2083.
(4)
(1/ 605)1879.
(5)
(3/ 407)1102.
(6)
(2/ 182)2706.
قلت: إسناده حسن، من أجل سليمان بن موسى الأموي، قال الحافظ عنه:«صدوق فقيه في حديثه بعض لين، خلط قبل موته بقليل»
(1)
.
وصححه الألباني في الإرواء
(2)
وتكلم على شواهده ومتابعاته، وكذا محققو مسند الإمام أحمد
(3)
.
وعلى كل فقد جهدت للحصول على نسب يتبين بها انتشار هذا النوع، ولكني لم أظفر بمرادي؛ لأن هذا النوع سري لا يمكن تتبع حالاته عن طريق موثق، إلا أن ما قرأته في الشبكة العنكبوتية يدل على انتشاره المخيف في أروقة الجامعات ولاسيما المختلطة، وهذه الظاهرة حديثة ابتدعها جند الشيطان وأولياؤه، ليخربوا بها الأمة من قبل شبابها وبخاصة في ظل هذا الاختلاط المتفشي، وهوجاء الشهوات المستعرة.
وهذا الزواج يغيب فيه مراقبة الرب، ومخالفة الشرع، وغياب الضمير، وتغلب الشهوة
…
إن الشرع لا يحارب العواطف والشهوات، ولكنه يرضيها ويهذبها؛ لتكون في خدمة الإنسانية جمعاء، وتكون بيتًا مسلمًا مستقرًا تحويه المودة، وتكتنفه الرحمة، ويسوده الهدوء العاطفي الذي يكفل إنجاح عملية بناء هذه اللبنة المباركة التي يتكون منها المجتمع، وينتظر منها تكامل نجاحه وعزته.
فإليك أخي المسلمة أهمس بهذه الوصية، لا تكوني ألعوبة في يد أهل الأهواء، ولا يغرنك تغير المسميات في زمن انقلاب المثل، فلو سُمي زواجًا فإن حقيقته السفاح، وعاره يلحق الآباء والأبناء، وبين يدي الساعة أقوام يسمون الحرام بغير اسمه ترويجًا له، فقد سموا الربا فوائد مادية، والغناء فنًا، والعلاقات
(1)
التقريب (414)2630.
(2)
(6/ 243)1840.
(3)
(40/ 435)24372.
المحرمة صداقة، والسفاح زواجًا عرفيًّا، فهيهات هيهات أن تقبله فتاة عفيفة رضيت الإسلام منهجًا لها، وسمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثًا» .
والمتأمل للأنكحة الفاسدة، يرى حماية الإسلام للمرأة من شهوات الرجل ونزواته، أو استغلاله للولاية التي جعلها الله بيده، فلله الحمد والمنة
(1)
.
(1)
كنت أعزم على إيراد «زواج المسيار» وكلام العلماء حوله، فظفرت بدراسة وافية شافية قدمها الأستاذ: عبد الملك ابن يوسف المطلق حوله، وسمها بـ «زواج المسيار دراسة فقهية واجتماعية نقدية» في سبع وأربعين ومائتي ورقة، خلص منها إلى جوازه لمن احتاج إليه، ولم يجد حلًا سواه، وأوجب اتخاذ الوسائل والطرق اللازمة لمنع انتشاره في المجتمع. فراجعه إن رمت الفائدة.
المبحث الرابع: حق المرأة في الحضانة
الحضانة: بكسر الحاء المهملة وفتحها- من حضن الصبي حضنًا وحضانة أي: جعله في حضنه، أو رباه فاحتضنه، والحضن -بكسر الحاء- هو ما دون الإبط إلى الكشح. وقيل: هو الصدر والعضدان وما بينهما
(1)
.
والحضانة في الاصطلاح: تربية الولد، أو معاقدة على حفظ من لا يستقل بحفظ نفسه كالطفل، وعلى تربيته وتعهده كي يقوى على النهوض بتبعات الحياة والاضطلاع بمسؤولياتها
(2)
.
• إن أسمى ألوان التربية تربية الطفل في أحضان والديه، إذ ينال من رعايتهما وحسن قيامهما عليه، ما يبني به جسمه، وينمي عقله، ويزكي نفسه، ويعده للحياة.
فإذا حدث أن افترق الوالدان وبينهما طفل، فالأم أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط
(3)
فيها ذكرًا كان أو أنثى، ولم يقم بالولد وصف يقتضي تخييره.
قال ابن قدامة: «وهذا قول يحيى الأنصاري، والزهري، والثوري،
(1)
ينظر: اللسان (13/ 122) مادة (ح ض ن)، الفقه على المذاهب الأربعة (1094).
(2)
ينظر: التعاريف للمناوي (283)، فقه السنة لسيد سابق (2/ 328).
(3)
شروط الحضانة: البلوغ، والعقل، والإسلام، والأمانة، والخلق، والقدرة على التربية بألا تكون مريضة مرضًا يمنعها من كفالة المولود، والحرية، وألا تكون متزوجة.
وانظر: تفصيل هذه الشروط في: الفقه على المذاهب الأربعة (1094 - 1096) فقه السنة لسيد سابق (2/ 330 - 332)، المفصل في أحكام المرأة لعبد الكريم زيدان (10/ 30 - 53).
ومالك
(1)
، والشافعي
(2)
، وأبي ثور، وإسحاق، وأصحاب الرأي
(3)
، ولا نعلم أحد خالفهم»
(4)
.
والدليل على ذلك:
1 -
ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف
(5)
، وأحمد في المسند
(6)
، وأبو داود في السنن
(7)
، والدارقطني في السنن
(8)
، والحاكم في المستدرك
(9)
، والبيهقي في الكبرى
(10)
من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطيني له وِعَاء، وحِجْري له حِوَاء وثديي له سِقاءً، وزعم أبوه أنه ينزعه مني؟ قال:«أنت أحق به ما لم تنكحي» واللفظ لأحمد.
وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي.
قلت: إسناد الحديث حسن للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد تقدم تحقيق القول فيه
(11)
.
(1)
ينظر: الكافي لابن عبد البر (1/ 296)، مواهب الجليل (4/ 23).
(2)
ينظر: روضة الطالبين (9/ 98)، حواشي الشرواني (8/ 353).
(3)
ينظر: بدائع الصنائع (4/ 41)، البحر الرائق (4/ 179).
(4)
المغني (8/ 191).
(5)
(7/ 153)12596.
(6)
(11/ 310)6707.
(7)
(2/ 283)2276.
(8)
(3/ 304)218.
(9)
(2/ 255)2830.
(10)
(8/ 4)15541.
(11)
ص (126).
وحسّنه الألباني في الإرواء
(1)
.
قال ابن القيم في الزاد
(2)
وقال الشوكاني في النيل
(3)
: «قوله «أنت أحق به» فيه دليل على أن الأم أولى بالولد من الأب، ما لم يحصل مانع من ذلك كالنكاح؛ لتقييده صلى الله عليه وسلم للأحقية بقوله «ما لم تنكحي» وهو مجمع على ذلك كما حكاه صاحب البحر، فإن حصل منها النكاح بطلت حضانتها، وبه قال مالك، والشافعية والحنفية والعترة. وقد حكى ابن المنذر الإجماع عليه»
(4)
.
2 -
ما أخرجه مالك في الموطأ
(5)
، وعنه البيهقي في الكبرى
(6)
، وابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة
(7)
عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار، فولدت له عاصم بن عمر، ثم إنه فارقها، فجاء عمر قباء، فوجد ابنه عاصمًا يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضده، فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام، فنازعته إيّاه حتى أتيا أبا بكر الصديق. فقال عمر: ابي. وقالت المرأة: أبي. فقال أبو بكر: خلِّ بينها وبينه. قال:
(1)
(7/ 244)2187.
(2)
(5/ 435).
(3)
(7/ 139).
(4)
وانظر الخلاف في سقوط الحضانة بالنكاح عند ابن القيم في الزاد (5/ 454 - 462).
(5)
(2/ 767)1458.
(6)
(8/ 5)15543.
(7)
(1/ 422).
فما راجعه عمر الكلام.
ورجال الإسناد ثقات إلا أن القاسم بن محمد لم يدرك عمر. قال ابن عبد البر: «هذا خبر منقطع في هذه الرواية، ولكنه مشهور مروي من وجوه منقطعة، ومتصلة، تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل. وزوج عمر بن الخطاب أم ابنه عاصم: هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري
…
وفيه دليل على أن عمر كان مذهبه في ذلك خلاف مذهب أبي بكر، ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكم والقضاء، ثم كان بعد في خلافته يقضي به ويفي، ولم يخالف أبا بكر في شيء منه ما دام الصبي صغيرًا لا يميز، ولا مخالف لهما من الصحابة»
(1)
وللأثر شاهد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
(2)
عن ابن جريج قال: أخبري عطاء الخرساني، عن ابن عباس قال: طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية أم ابنه عاصم، فلقيها تحمله محسر، ولقيه قد فُطِم ومشي، فأخذ بيده لينتزعه منها، ونازعها إيّاه حتى أوجع الغلام، وبكى، وقال: أنا أحق بابني منك. فاختصما إلى أبي بكر، فقضى لها به. وقال: ريحها، وحجرها، وفِراشُها خير له منك حتى يشبَّ، ويختار لنفسه. ومحسر: سوق بين قباء والمدينة. وزعم لي أهل المدينة إنما لقي جدته الشموس تحمله بمحسر.
وإسناده ضعيف، لأن رواية عطاء بن أبي مسلم الخراساني عن ابن عباس مرسلة
(3)
، قال العلائي:«لم يسمع من ابن عباس شيئًا»
(4)
فيتقوى بما قبله.
3 -
لأن الأم أقرب إلى الطفل، وأشفق عليه، وأقوم على مصالحه، لذا جعلت
(1)
التمهيد (7/ 289).
(2)
(4/ 154)12601.
(3)
ينظر: تهذيب الكمال (20/ 107)3941.
(4)
جامع التحصيل (238)522.
الحضانة لها.
جاء في مغني المحتاج: «والحضانة نوع ولاية وسلطة، ولكن الإناث أليق بها؛ الأمن أشفق وأهدى إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للأطفال»
(1)
.
وفيما يأتي كلام عن هذا الموضوع في مطلبين:
المطلب الأول: أجرة الحضانة.
المطلب الثاني: مدة الحضانة.
المطلب الأول: أجرة الحضانة
وإذا كانت الحضانة من حقوق النساء، فإن الإسلام يجعل عليها أجرًا لمن يتولاها، وأجرة الحضانة مثل أجرة الرضاع لا تستحقها الأم ما دامت زوجة أو معتدة لأبي ولدها المحضون؛ لأن لها نفقة الزوجية، أو نفقة العدة إذا كانت زوجة أو معتدة، ولوجوب الحضانة عليها ديانة؛ نظرًا لقيام النكاح، وأما إن لم تكن زوجة ولا معتدة؛ فإن على الأب أجرة الرضاع، وأجرة الحضانة، ونفقة المحضون
(2)
.
• أمَّا أجرة الرضاع فلقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
(1)
(3/ 425). وانظر خلاف الفقهاء فيمن يلي الحضانة إن لم توجد الأم أو قام بها مانع، المغني (8/ 200)، زاد المعاد (5/ 449 - 450)، المفصل (10/ 47).
(2)
تقدم في النفقة على الأولاد ص (627).
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
(1)
.
وفي قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} قولان: أحدهما: أنه عام في كل أم، والثاني: أن المراد منه المطلقات، والدليل على ذلك وجهان:
1 -
أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آية الطلاق، فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات ظاهرًا، وسبب التعليق بين هذه الآية وبين ما قبلها أنه إذا حصلت الفرقة حصل التباغض والتعادي، وذلك يحمل المرأة على إيذاء الولد من وجهين أحدهما: أن إيذاء الولد يتضمن إيذاء الزوج المطلق. والثاني: أنها ربما رغبت في التزوج بزوج آخر، وذلك يقتضي إقدامها على إهمال أمر الطفل، فلما كان هذا الاحتمال قائمًا ندب الله الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم.
2 -
ما ذكره السدي قال: المراد بالوالدات المطلقات؛ لأن الله تعالى قال بعد هذه الآية {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا لأجل الرضاع
(2)
.
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وذكر أبو الفرج هل هو عام في جميع الوالدات أو يختص بالمطلقات على قولين، والخصوص قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل، وآخرين، والعموم قول أبي سليمان الدمشقي، والقاضي أبي يعلى في آخرين. قال القاضي: ولهذا نقول لها أن تؤجر نفسها
(1)
البقرة: (233).
(2)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (6/ 100)، أحكام الجصاص (2/ 106)، الدر المنثور (1/ 686).
لرضاع ولدها سواء كانت مع الزوج أو مطلقة.
قلت: الآية حجة عليهم، فإما أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا زيادة على ذلك، وهو يقول تؤجر نفسها بأجرة غير النفقة، والآية لا تدل على هذا بل إذا كانت الآية عامة دلت على أنها ترضع ولدها مع إنفاق الزوج عليها كما لو كانت حاملًا فإنه ينفق عليها، وتدخل نفقة الولد في نفقة الزوجية؛ لأن الولد يتغذى بغذاء أمه، وكذلك في حال الرضاع، فإن نفقة الحمل هي نفقة المرتضع، وعلى هذا فلا منافاة بين القولين فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع كما ذكر في سورة الطلاق وهذا مختص بالمطلقة»
(1)
.
(2)
.
يقول ابن كثير: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أي إذا وضعن حملهن، وهن طوالق، فقد بن بانقضاء عدن، ولها حينئذ أن ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه، ولكن بعد أن تغذيه باللبأ، وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للمولود غالبًا إلا به، فإن أرضعت استحقت أجر مثلها، ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة، ولهذا قال:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، وقوله تعالى:{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} ، أي ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف من غير إضرار ولا مضارة، كما
(1)
مجموع الفتاوى (34/ 65).
(2)
الطلاق: (6).
قال تعالى في سورة البقرة: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} أي وإن اختلف الرجل والمرأة فطالبت المرأة في أجرة الرضاع كثيرًا، ولم يجبها الرجل إلى ذلك، أو بذل الرجل قليلًا ولم توافقه عليه، فليسترضع له غيرها، فلو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها»
(1)
.
ومن هنا يتبين أن الولد إن كان في حضن أمه بعد فراقها لأبيه، فإن الشرع يلزمه بأجرة الرضاعة، وتقدم الأم إذا طلبت أجر مثلها على المتبرعة، يقول ابن قدامة في المغني
(2)
: «وأما الدليل على وجوب تقديم الأم إذا طلبت أجر مثلها على المتبرعة فقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(3)
وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
(4)
ولأن الأم أحنى، وأشفق، ولبنها أمرأ من لبن غيرها، فكانت أحق به من غيرها كما لو طلبت الأجنبية رضاعة بأجر مثلها؛ ولأن في رضاع غيرها تفويتا لحق الأم في الحضانة، وإضرارًا بالولد، و لا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب، والإضرار بالولد؛ لغرض إسقاط حق أوجبه الله تعالى على الأب
…
فأما إن طلبت الأم أكثر من أجر مثلها، ووجد الأب من ترضعه بأجر مثلها أو متبرعة جاز انتزاعه منها؛ لأنها أسقطت حقها باشتطاطها،
(1)
التفسير (4/ 384).
(2)
(8/ 200).
(3)
البقرة: (233).
(4)
الطلاق: (6).
وطلبها ما ليس لها فدخلت في عموم قوله: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} .
• وأمّا أجرة الحضانة فقد اختلف فيها الفقهاء وذهب الجمهور الأحناف
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
إلى أن للأم المطلقة أجرة الحضانة إن طالبت بها، وهي من مال الولد المحضون إن كان له مال، فإن لم يكن له مال فمن مال أبيه، أو من تلزمه نفقته.
جاء في الدر المختار
(4)
: «(أجرة الحضانة إذا لم تكن منكوحة ولا معتدة الأبيه) وهي غير أجرة إرضاعه ونفقته كما في البحر
…
وقال نجم الأئمة: المختار أنه عليه السكنى في الحضانة، وكذا إن احتاج الصغير إلى خادم يلزم الأب به».
ثم إن الأحناف، والشافعية ذهبوا إلى وجوب أجرة مسكن للأم الحاضنة تحضن فيه الولد إن لم يكن لها مسكن، ويعتبر هذا من أجرة الحضانة التي تستحقها، فإن كان لها مسكن تسكن فيه، ويمكنها أن تحضن فيه الولد ويسكن تبعًا لها، فلا تستحق أجرة مسكن مع أجرة حضانتها
(5)
.
يقول سيد سابق: «
…
وكما تحب أجرة الرضاع، وأجرة الحضانة على الأب، تحب عليه أجرة المسكن، أو إعداده إذا لم يكن للأم مسكن مملوك لها تحضن فيه الصغير».
(1)
ينظر: البحر الرائق (4/ 222)، حاشية ابن عابدين (3/ 556).
(2)
ينظر: نهاية المحتاج (7/ 214)، مغني المحتاج (3/ 452).
(3)
ينظر: كشاف القناع (3/ 326).
(4)
(3/ 561).
(5)
ينظر: الدر المختار (3/ 560)، نهاية المحتاج (7/ 214).
وكذلك تحب عليه أجرة خادم
(1)
، أو إحضاره إذا احتاجت إلى خادم وكان الأب موسرًا. وهذا بخلاف نفقات الطفل الخاصّة من طعام، وكساء، وفراش، وعلاج ونحو ذلك من حاجاته الأوليّة التي لا يستغني عنها، وهذه الأجرة تحب من حين قيام الحاضنة بها، وتكون دينًا في ذمة الأب لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء»
(2)
.
وتأمل في نصوص الشرع وأقوال الفقهاء في حفظ حق المرأة المطلقة الحاضنة، تحد أن لها أجرة الرضاعة، والحضانة، مع أن قرب ولدها غاية مناها، ومنتهى سؤها لوالده، ومع ذلك يحفظ الإسلام حقها المالي، ويراعي عاطفتها فيجعلها أولى الناس بالولد، ويوجب على الرجل دفع الأجرة، ومثلها كمثل أم موسى ترضع ولدها، وتأخذ أجرها.
وإذا تبين ذلك، فاعلم أن الولاية على الطفل نوعان:
نوع يقدم فيه الأب على الأم ومن في جهتها وهي ولاية المال، والنكاح.
ونوع تقدم فيه الأم على الأب وهي ولاية الحضانة والرضاع، وقدم كل من الأبوين فيما جعل له من ذلك؛ لتمام مصلحة الولد، وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه، وتحصل به كفايته. ولما كان النساء أعرف بالتربية وأقدر عليها،
(1)
وإلى هذا ذهب الأحناف والشافعية؛ والظاهر أنهم يفرقون بين مصالح المحضون وبين خدمته، فمصالحه: حفظه وتربيته وتهذيبه، وعليها تأخذ الأم أجرة الحضانة، لأن الحضانة للحفظ والنظر في مصالح المحضون، وأمّا خدمته: بتنظيف بدنه وملابسه، فعلى الوالد إخدامه إن كان موسرًا، أو إعطاء الأم أجرة تستأجر بها خادمًا.
ينظر: الدر المختار (3/ 561)، مغني المحتاج (3/ 452).
(2)
فقه السنة (2/ 333)
وأصبر، وأرأف، وأفرغ لها، قدِّمت الأم على الأب.
ولما كان الرجل أقوم بتحصيل مصلحة الولد، والاحتياط له في البضع، قدِّم الأب على الأم.
فتقديم الأم في الحضانة من محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال، والنظر لهم، وتقديم الأب في ولاية المال والتزويج كذلك
(1)
.
المطلب الثاني: مدة الحضانة
تنتهي الحضانة إذا استغني الصغير أو الصغيرة عن خدمة النساء، علىي اختلاف بينهم في تحديد فترة الاستغناء.
• الأحناف قالوا مدة الحضانة للغلام قدرها بعضهم بسبع سنين، وبعضهم بتسع سنين. قالوا: والأول هو المفتى به، ومدها في الجارية على قولين: أحدها: حتى تحيض. والثاني: حتى تبلغ حدّ الشهوة، وقدرت بتسع سنين، فإذا كان الولد في حضانة أمه فلأبيه أن يأخذه بعد هذا السن، فإذا بلغ الولد عاقلًا رشيدًا كان له أن ينفرد ولا يبقى في حضانة أبيه، إلا أن يكون فاسد الأخلاق، فلأبيه ضمه وتأديبه، ولا نفقة للبالغ إلا أن يتبرع والده بما. وأما الأنثى فإن كانت بكرًا ضمها لنفسه
(2)
.
• وذهب المالكية
(3)
إلى أن مدة حضانة الغلام من حين ولادته حتى يبلغ، ومدة حضانة الأنثى حتى تتزوج، ويدخل بها الزوج.
(1)
ينظر: زاد المعاد (5/ 437).
(2)
ينظر: بدائع الصنائع (2/ 42)، أحكام القرآن للجَصاص (1/ 405)، شرح فتح القدير (3/ 316).
(3)
ينظر: الاستذكار (7/ 290).
ولا تخيير عند الأحناف والمالكية؛ استدلالًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت أحق به ما لم تنكحي» ولو خير الطفل لم تكن هي أحق به إلا إذا اختارها.
ويجاب عنه بأن استدلالهم لا يتأتى لهم بوجه من الوجوه؛ لأن الأحناف قالوا إن الأب أحق بالغلام والجارية إذا استغنى، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حكم له بالأم ما لم تنكح، ولم يفرق بين أن تَنْكِح قبل بلوغ الصبي السن الذي يكون عنده أو بعده، فخالفوا نص الحديث.
وثانيًا: أن الحديث اقتضى أمرين:
أحدهما: أنها لا حق لها في الولد بعد النكاح.
والثاني: أنها أحق به ما لم تنكح، وكونها أحق به له حالتان:
1 -
أن يكون الولد صغيرًا لم يميز، فهي أحق به مطلقًا من غير تخيير.
2 -
أن يبلغ سن التمييز، فهي أحق به أيضًا، ولكن هذه الأولوية مشروطة بشرط، والحكم إذا عُلِق بشرط صدق إطلاقه اعتمادًا على تقدير الشرط، وحينئذ فهي أحق به بشرط اختياره لها، وغاية هذا أنه تقييد للمطلق بالأدلة الدالة على تخييره.
ولو حمل على إطلاقه، وليس بممكن، لاستلزم ذلك إبطال أحاديث التخيير، وأيضًا إن قيدتموه بأنها أحق به إذا كانت مقيمة، وكانت حرة، ورشيدة وغير ذلك من القيود التي لا ذكر لشيء منها في الأحاديث البتة، فتقييده بالاختيار الذي دلت عليه السنة، واتفق عليه الصحابة أولى
(1)
.
(1)
ينظر: زاد المعاد (5/ 476 - 477).
• وذهب الشافعية إلى أن الحضانة ليس لها مدة معلومة، فإن الطفل متى ميز بين أبيه وأمه، واختار أحدهما كان له، سواء كان ذكرًا أو أنثى.
واستدلوا بما أخرجه الشافعي في الأم
(1)
، وأحمد في المسند
(2)
، وابن ماجه في السنن
(3)
، والترمذي في السنن
(4)
، والطحاوي في مشكل الآثار
(5)
، وابن حزم في المحلى
(6)
من حديث أبي هريرة: خيّر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا وامرأة وابنًا لهما، فخيّر الغلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا غلام هذا أبوك، وهذه أمك اختر» واللفظ لأحمد.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح
…
والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. قالوا: يخير الغلام بين أبويه إذا وقعت بينهما المنازعة في الولد، وهو قول أحمد وإسحاق. وصحح إسناد الحديث الشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند، وهو كما قال فإسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي ميمونة الفارسي الآبّار، روى له أصحاب السنن وهو ثقة
(7)
.
• وله قصة أخرجها عبد الرزاق في المصنف
(8)
، والحميدي في المسند
(9)
،
(1)
(5/ 92).
(2)
(12/ 307)7352.
(3)
(2/ 878)2351.
(4)
(3/ 683)1357.
(5)
(6)
(1/ 326).
(7)
التقريب (1213)8474.
(8)
(7/ 157)12611.
(9)
(2/ 464)1083.
والدارمي في السنن
(1)
، وأبو داود في السنن
(2)
، والنسائي في المجتبى
(3)
، والبيهقي في الكبرى
(4)
من طرق عن ابن جريج، أخبريني زياد، عن هلال بن أسامة، أن أبا ميمونة سَلْمي مولى من أهل المدينة رجل صدق قال: بينما أنا جالس مع أبي هريرة، جاءته امرأة فارسية معها ابن لها، فادعياه، وقد طلقها زوجها، فقالت: يا أبا هريرة، ورطنت له بالفارسية: زوجي يريد أن يذهب بابي، فقال أبو هريرة: استهما عليه
(5)
، رطن لها بذلك، فجاء زوجها فقال: من يحاقي في ولدي، فقال أبو هريرة: اللهم إني لا أقول هذا إلا أني سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا قاعد عنده فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقان من بئر أبي عنبة، وقد نفعي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استهما عليه، فقال زوجها: من يحاقي في ولدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت» فأخذ بيد أمه فانطلقت به» واللفظ لأبي داود.
وصححه ابن القطان فيما نقله الحافظ
(6)
عنه، وكذا الألباني في الإرواء
(7)
.
(1)
(2/ 223)2293.
(2)
(2/ 283)2277.
(3)
(6/ 185)3496.
(4)
(8/ 3)15536.
(5)
واختلف في تقديم القرعة على التخيير، والراجح ما قاله ابن القيم في الزاد (5/ 469):«إنما قدم التخيير؛ لاتفاق ألفاظ الحديث عليه، وعمل الخلفاء الراشدين به، وأما القرعة فبعض الرواة ذكرها في الحديث، وبعضهم لم يذكرها، وإنما كانت في بعض طرق أبي هريرة رضي الله عنه، فقدِّم التخيير عليها، فإذا تعذر القضاء بالتخيير، تعينت القرعة طريقًا للترجيح إذا لم يبق سواها» وانظر: نيل الأوطار (7/ 140)، عون المعبود (6/ 266).
(6)
التلخيص الحبير (4/ 12).
(7)
(7/ 202)2193.
قلت: إسناده صحيح، وزال ما يخشى من تدليس ابن جريج؛ لتصريحه بالسماع.
قالوا: والحديث المتقدم حجة في تخيير الأنثى، لأن كون الطفل ذكرًا لا تأثير له في الحكم بل هي كالذكر، ثم إن لفظ الصبي ليس من كلام الشارع، وإنما الصحابي حكي القصة، وأنها كانت في صبي، فإذا نقّح المناط تبين أنه لا تأثير؛ لكونه ذكرًا
(1)
.
• أخرج أحمد في المسند
(2)
، وأبو داود في السنن
(3)
، والنسائي في الكبرى
(4)
، والدارقطني في السنن
(5)
، والحاكم في المستدرك
(6)
، والبيهقي في الكبرى
(7)
، وابن الأثير في أسد الغابة
(8)
من طرق عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن جده رافع بن سنان أنه أسلم، وأبت امرأته أن تسلم
(9)
، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ابنتي، وهي فَطِيم أو شبهه. وقال رافع: ابنتي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اقعد ناحية» وقال لها: «اقعدي ناحية» فأقعد الصبية بينهما، ثم قال:«ادْعُوَاها» فمالت إلى أمها. فقال النبي
(1)
ينظر: مغني المحتاج (1/ 131)، عون المعبود (6/ 266).
(2)
(39/ 168)23757.
(3)
(2/ 273)2244.
(4)
(4/ 83)6385.
(5)
(4/ 43).
(6)
(2/ 225)2828.
(7)
(8/ 3)15538.
(8)
(2/ 192).
(9)
ينظر: الخلاف في ثبوت الحضانة للأم الكافرة فيك المدونة (2/ 359)، المغني (11/ 412)، نيل الأوطار (7/ 141)، حاشية ابن عابدين (5/ 253)، الإقناع (2/ 194).
-صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهْدِها» فمالت إلى أبيها، فأخذها. واللفظ لأحمد.
قال الحاكم: «صحيح الإسناد» ولم يخرجاه.
قال الشوكاني: «وفي إسناده اختلاف كثير، وألفاظه مختلفة، ورجح ابن القطان رواية عبد الحميد بن جعفر
(1)
. وقال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. ولكن قد صححه الحاكم. وذكر الدارقطني أن البنت المخيرة اسمها عميرة. وقال ابن الجوزي: رواية من روى أنه كان غلامًا أصح. وقال ابن القطان: «لو صح رواية من روى أنها بنت لاحتمل أنهما قصتان لاختلاف المخرج»
(2)
.
قلت: إسناده حسن، فيه عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع من رجال مسلم، صدوق
(3)
.
وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(4)
.
والحديث نص على تغيير الجارية كالغلام.
وأجيب عنه بأنه جاء في لفظ الحديث أن الجارية كانت «فطيمًا» وهذا قطعًا دون السبع، والظاهر أنه دون الخمس، وأنتم لا تخيرون من له دون السبع
(5)
، وأجاب الشافعية بأن السن المعتبرة عندهم في التخيير التمييز، والجارية ميزت ولذا خيرت.
(1)
قال الحافظ في تهذيب التهذيب (6/ 104) 233: «ورجح ابن القطان أن حديث عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن جده (وفيه أن المخير صبية) غير حديث عبد الحميد بن سلمة، عن أبية عن جده (وفيه أن المخير صبي). وانظر: المسند (39/ 166) 23755، لاختلاف السياق فيهما، وأُنْكِر على من خلطهما، ومن أعلّ حديث أبي جعفر بابن سلمة» .
(2)
نيل الأوطار (7/ 140).
(3)
ينظر: تهذيب التهذيب (6/ 101) 225، التقريب (564)3780.
(4)
(5)
ينظر: زاد المعاد (5/ 471).
• وأمّا الحنابلة فقالوا: مدة الحضانة سبع سنين للذكر والأنثى، ولكن إذا بلغ الصبي سبع سنين، واتفق أبواه أن يكون عند أحدهما فإنه يصح، وإن تنازعا خير الصبي، فكان مع من اختار فيها بشرط ألا يعلم أنه اختار أحدهما لسهولته، وعدم التشدد عليه في التربية فيشب فاسدًا، وأما الأنثى فإنها متى بلغت سبع سنين فأكثر كانت من حق أبيها؛ لأن الغرض من الحضانة الحفظ والصيانة والحفظ للجارية بعد السبع في الكون عند أبيها؛ لأنها تحتاج إلى حفظ، والأب أولى بذلك؛ فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها؛ ولأنها إذا بلغت السبع قاربت الصلاحية للتزويج، وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي ابنة سبع، وإنما تخطب الجارية من أبيها؛ لأنه وليها، والمالك لتزويجها
(1)
.
• والراجح بعد النظر في أدلة القوم أن القول قول الشافعية؛ لقوة الدليل، والتعليل في تغيير الغلام والجارية بعد التمييز بين الأب والأم إن توفرت فيهما شروط الحضانة، ولا شك أن الأم إذا توفرت فيها شروط الحضانة كانت قادرة على رعاية البنت وحفظها، والنظر في مصالحها، وإن جاء وقت تزويجها زوجها أبوها بمن يراه كفئًا لها.
• وعلى كل فإن تقديم أحد الأبوين على الآخرين بعد انتهاء مدة الحضانة يراعى فيه مصلحة الولد، يقول ابن القيم في الزاد
(2)
: «فمن قدمناه بتخيير أو قرعة بنفسه، فإنما نقدمه إذا حصلت به مصلحة الولد، ولو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت عليه، ولا التفات إلى قرعة، ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإنه
(1)
ينظر: المغني (8/ 193)، الإنصاف (9/ 419)، وذكر ابن القيم حكمًا أخرى في تسليم الجارية لأبيها بعد السبع في الزاد (5/ 472).
(2)
(5/ 476).
ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك، لم يلتفت إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له، وأخير، ولا تحتمل الشريعة غير هذا
…
والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}
(1)
.
وقال الحسن: علموهم، وأدبوهم، وفقهوهم، فإذا كانت الأم تتركه في المكتب، وتعلمه القرآن، والصبي يؤثر اللعب، ومعاشرة أقرانه، وأبوه يمكنه من ذلك، فإنها أحق به بلا تخيير ولا قرعة، وكذلك العكس، ومن أخل أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطّله، والآخر مراع له، فهو أحق به وأولى
…
قال شيخنا (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم، والنكاح، والولاء، سواء كان الوارث فاسقًا أو صالحًا، بل هذا من جنس الولاية التي لابد فيها من القدرة على الواجب، والعلم به، وفعله بحسب الإمكان. قال: فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته، ولا تقوم بها، وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرّة، فالحضانة هنا للأم قطعًا، قال: ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقًا، ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقًا، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقًا، بل لا يقدم ذو العدوان والتفريط على البر العادل المحسن».
• ولذا فإن الواجب على كل رجل وامرأة أن يفقها قضية التخيير عند انتهاء مدة الحضانة، وأن الحكمة منها مصلحة الولد، فيراعيان هذه المصلحة ويحمدا الله أن كفل لابنهما ما يترتب عليه حفظ مصالحه، والقيام بشؤونه.
(1)
التحريم: (6).
المبحث الخامس: حقوق المرأة المعنوية
المرأة عاطفة تتدفق، ومشاعر تتألق، جعلها الإسلام سكن الوالد، ومحضن الولد، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفق بها، وشبهها بالقوارير فقال:«رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير»
(1)
.
يقول الحافظ في الفتح
(2)
وقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الجانب في النساء فأشبعه، دل على ذلك حسن عشرته، وطيب قربه، ودماثة أخلاقه، ولا غرو فقد زكاه ربه، وامتدح خلقه فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
(3)
وإنك لتعجب حين ترى بعض الرجال يرى أنه أعطى المرأة حقها فأطعمها، وكساها، وأسكنها، لكن لم يرعَ يومًا نفسيتها، ولم يتفهم حاجاتها المعنوية، ومتطلباتها النفسية، وستقف من خلال ما سيأتي على ضرورة مراعاة نفسية المرأة، والحفاظ على معنوياتها. من خلال هدي
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، باب: ما يجوز من الشعر والرجز والحداء
…
(5/ 2276) 5797، ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل، باب: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهن (4/ 1811)2323.
(2)
(10/ 545).
(3)
القلم: (4).
رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع زوجاته
(1)
:
1 -
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله:
وكان هديه صلى الله عليه وسلم في بيته مع أزواجه أحسن الهدي وأتمه وأكمله، فقد كان يقضي عامة وقته الذي في بيته في مهنة أهله، ومساعدتهم في أعمالهم، رفقًا بهم، ورحمة وشفقة عليهم، أخرج البخاري في كتاب الأدب، باب: كيف يكون الرجل في أهله؟
(2)
من طريق الأسود قال: سألت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة. وأخرج ابن حبان
(3)
من طريق عروة قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين أي شيء كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: ما يفعل أحدكم في مهنة أهله يخصف
(4)
نعله، ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه.
2 -
استقراؤه صلى الله عليه وسلم لحال زوجته:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: غيرة النساء ووجدهن
(5)
، ومسلم في كتاب الفضائل، باب: في فضائل عائشة
(6)
، من طريق
(1)
تعدّ الأستاذة ريم السويلم بحث الدكتوراه بعنوان: «أحاديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيته دراسة ورواية» .
(2)
(5/ 2245)5692.
(3)
(12/ 490)5676.
(4)
قال ابن الأثير: «يخصف نعله، أي: كان يخرزها» النهاية (2/ 38) مادة (خ ص ف).
(5)
(5/ 2004)4930.
(6)
(4/ 1890)2439.
عروة، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علّ غضبى» قالت: فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: «أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى. قلت: لا ورب إبراهيم» قالت: أجل، والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك» واللفظ لمسلم.
• وفي الحديث إن من فطنة الرجل، ورِقّة عاطفته، ويقظة إحساسه، استقراءه لحال زوجته، من فعلها، وقولها، وحركاتها، فيما يتعلق بالميل إليه وعدمه، والحكم بما تقتضيه القرائن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جزم برضا عائشة وغضبها بمجرد ذكرها لاسمه وسكوتها
…
! فبنى على تغير الحالتين من الذكر والترك، تغير الحالين من الرضا والغضب
(1)
.
وهذا تأصيل للمنهج العلمي الصحيح القائم على الملاحظة، والتتبع، ثم استنتاج الحقيقة، والتحقق منها، وليس المنهج القائم على الظن والشك المفضي للخلاف والشقاق.
• كما أن فيه من الحكمة إشعار الحبيب بما ينوب خاطره من الوداد والعتاب، والعناية بمعرفة دلائل الرضا والأسى
…
والفرح والحزن
…
لحسن التصرف مع أسبابها
…
وما يورثه ذلك من علاج للخلافات الزوجية، والمشكلات الأسرية، ليهنأ الزوجان بحياة آمنة
…
هادئة
…
سعيدة.
• غضب عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم لفرط غيرتها عليه، أو العوارض الحياة اليومية، ومكابدة متاعبها وأعبائها ونحو ذلك، مما لا حرج في التأثر به مع بقاء أصل المحبة، ولولا ذلك لكان غضبها معصية، وهجره كبيرة، إذ ليس
(1)
ينظر: فتح الباري (9/ 407)، عمدة القارئ (20/ 210)، إرشاد الساري (11/ 515).
كهجر أحد من الناس.
وعندما تأمل قولها: أجل -وهي تقال في التصديق- والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك، حصر لطيف جدًّا
…
أخبرت أما في حال الغضب الذي يسلب العاقل اختياره. ورأيه، لا تنفك عن المحبة العظيمة المستقرة في قلبها، الممتزجة بروحها، الصادقة في عواطفها، وإن كانت تترك التسمية اللفظية، وتعبر عنها بالهجران؛ لتدل على أنها تتألم من هذا الصدود الذي لا اختيار لها فيه، فقلبها معلق بذاته الكريمة صلى الله عليه وسلم، ممتلئ مودة ومحبة
(1)
.
• وفي اختيارها رضي الله عنه ذكر إبراهيم عليه السلام دون غيره من الأنبياء دلالة على مزيد فطنتها، وحدّة ذكائها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، كما نص عليه القرآن الكريم، فلما لم يكن لها بد من هجر الاسم الشريف أبدلته بما هو منه بسبيل حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة
(2)
.
• قال ابن بطال: فيه الصبر على النساء، وما يبدو منهن من الجفاء، والحرج عند الغيرة، لما جبلن عليه منها، وأنهن لا يملكنها، فعفي عن عقوبتهن على ذلك
…
وعذرهن الله فيه
(3)
.
3 -
مراعاة الغيرة عند المرأة:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: الغيرة
(4)
، من حديث
(1)
ينظر: إكمال المعلم (7/ 446)، شرح الأبيّ (6/ 262)، فتح الباري (9/ 408)، عمدة القارئ (20/ 211).
(2)
فتح الباري (9/ 408)، عمدة القارئ (20/ 210).
(3)
شرح ابن بطال (7/ 352).
(4)
(5// 2003)4927.
أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين
(1)
بصحفة
(2)
فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم
(3)
، فسقطت الصحفة، فانفلقت
(4)
فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول:«غارت أمكم» ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت.
• وفي الحديث ما كان عليه نبي الأمة صلى الله عليه وسلم من رفق عظيم، وصبر جميل، وتصرف حكيم مع نسائه الضرائر، وأثر ذلك الخلق القويم في تهدئة المشاعر الثائرة، واحتواء الأزمات الطارئة، وعلاجها وتفادي الأضرار المحتملة.
ولنقترب أكثر
…
وندلف إلى بيت الحبيب صلى الله عليه وسلم
…
فإذا الخادم يحمل طعامًا صنعته ضرة عائشة رضي الله عنها ليأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها
…
والبيت مليء رجالًا من أصحابه
…
وعائشة مشغولة بإعداد الطعام لضيوف زوجها
…
فترى الخادم بين يديه الصحفة، فتتحرك حمية الغيرة في خواطرها
…
وتحتدم عواطفها
…
وتغتم لمرآه
…
فلا تملك نفسها حتى تضرب إناء ض رتها، فيتصدع، ويتناثر على الأرض بما فيه
…
على مرأى ومسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وهو يلمح ذلك
(1)
الراجح أنها زينب بنت جحش. ينظر تحقيق القول في المبهمة في: الفتح (5/ 159)، إرشاد السارس (11/ 512).
(2)
الصحفة كالقصعة إناء، وأعظم القِصَاع الجفنة، ثم القَصْعة تشبع العشرة، ثم الصفحة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة.
(3)
هي عائشة رضي الله عنها، وأبهمت تفخيمًا لشأنها. ينظر: الفتح (5/ 157).
(4)
أي: انكسرت: ينظر: مشارق الأنوار (2/ 195)، النهاية (3/ 472) مادة (ف ل ق).
بطمأنينة وهدوء
…
ويتنفس هموم حبيبته
…
ويعذر الغيرى
…
ويعرض عن لومها وعتابها
…
ويضرب عن تأديبها ولو بالكلام
…
ويهوي بتواضعه الجمِّ إلى فلق الصحفة، وأشلاء الطعام فيجمعها من الأرض وهو يردد
…
ويتودد
…
بأرق عبارة
…
وأعذب بيان
…
وأجمل اعتذار «كلوا، غارت أمكم» وقوله صلى الله عليه وسلم «غارت أمكم» اعتذارًا منه صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يحمل صنيعها على ما يذم، بل يجرى على عادة الضرائر من الغيرة، فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها
(1)
.
وفي الحديث عدله صلى الله عليه وسلم وإنصافه حيث غرّم عائشة رضي الله عنها الصحفة لتعديها عليها، وعليه بوّب البخاري في صحيحه في كتاب المظالم، باب: إذا كسر قصعة أو شيئًا لغيره
(2)
.
4 -
وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لم تكن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحنوه على زوجاته، ووفاؤه لهن مقصورًا على حال الحياة فحسب، بل تعدت تلك المحبة والوفاء حال الحياة لتبقى بعد وفاة الزوجة، أخرج البخاري في صحيحه في مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها
(3)
، ومسلم في الفضائل، باب: من فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها
(4)
من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت
: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت
(1)
ينظر: الفتح (5/ 126).
(2)
(2/ 877).
(3)
(3/ 1389)3607.
(4)
(4/ 1888)2435.
له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة. فيقول: «إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد» وزاد مسلم: «فأغضبته يوما فقلت: خديجة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني قد رزقت حبها» .
وأخرجا
(1)
من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاح لذلك فقال:«اللهم هالة بنت خويلد» فَغِرت، فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشِّدقين
(2)
، حمشاء الساقين
(3)
، هلكت في الدهر، فأبدلك الله خيرًا منها.
• وفي روايات الحديث وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها يظهر ذلك في:
- التصريح بحبها: فجاء في رواية مسلم: «إني قد رزقت حبها» وفي هذا التعبير وصف حبها بالرزق الذي تنعم به معها، ولم يقل «رزقت حبي» فكأنه شُرف صلى الله عليه وسلم بحبها. قال النووي:«قوله «رزقت حبها» فيه إشارة إلى أن حبها فضيلة حصلت».
- الحنين إلى ذكرياتها:
من أحب شيئًا
…
أحب محبوباته
…
وما يشبهه، وما يعيد الذكرى إليه. ولما
(1)
رقم حديث البخاري (3610)، ورقم حديث مسلم (2437).
(2)
حمراء الشدقين: أي عجوز كبيرة جدًّا، قد سقطت أسنانها من الكبر، ولم يبق لشدقها بياض من الأسنان، إنما فيه حمرة لثتها.
(3)
حمشاء الساقين: من الحمش أي الدقة، والمراد قليلة اللحم في الساقين.
استأذنت «هالة» عرف النبي صلى الله عليه وسلم استئذان خديجة؛ لتشابههما فارتاح للصوت لما سمعه، وحملته الذكرى الجميلة إلى رياض خديجة فارتاح نفسًا بها، وتنفس عبر ماضيها.
وفي استئذان هالة بنت خويلد رضي الله عنها على الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على جواز السلام على الرجل الأجنبي، وزيارة المعرفة، ما لم تكن مصافحة أو خلوة، والتزمت المرأة الحجاب الشرعي؛ لرضا النبي بمجيء هالة، وارتياحه لزيارتها، وسروره بسلامها وتحيتها.
وهذا الترحيب والإكرام
…
رعاية لحق أختها خديجة رضي الله عنها ووفاء بعهدها، وهو من حسن الإيمان
(1)
.
- كثرة ذكرها، والثناء عليها:
وهو دليل على عمق المحبة ورسوخها
…
وسبق في رواية البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «إنها كانت
…
وكانت» وقولها «كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة» .
- بر معارفها وإكرام صواحبها بعد موتها:
والإحسان إليهم، وإرسال الهدايا والتحف إليهن، وتعاهدهم بها، وهذا مشعر باستمرار حبّه لها.
وجاء في رواية البخاري في كتاب الأدب، باب: حسن العهد من الإيمان
(2)
من حديث عائشة قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد هلكت قبل
(1)
ينظر: إكمال المعلم (7/ 443)، الفتح (7/ 175).
(2)
(5/ 2237)5658.
أن يتزوجني بثلاث سنين لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قَصَب، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهدي في خلتها منها».
فهل رأيت برًا ووفاء للنساء كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هـ- مؤانسة النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه:
ولعل من أصرح الأدلة على ذلك حديث أم زرع
(1)
، وبوّب عليه البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: حسن المعاشرة مع الأهل
(2)
. وفي آخر الحديث بعد سماع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أزواج النساء قال: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع» .
وفي الحديث حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس، والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى الإثم، وفيه المزاح أحيانًا، وبسط النفس به، ومداعبة الرجل أهله، وإعلامه بمحبته لهم، وحاله معهم، وتذكيرهم بذلك، لا سيما عند وجود ما يغلب عليهن من كفران العشير، وجحود الإحسان
(3)
.
6 -
صبره صلى الله عليه وسلم على نسائه، ومداراته لهن:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التيمم
(4)
، ومسلم في صحيحه في كتاب الطهارة، باب: التيمم
(5)
من حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
حديث طويل حدثته عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إحدى عشرة امرأة تعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا. وانظر شرحه مستوفي في: شرح النووي (15/ 212)، الفتح (9/ 323)، عمدة القارئ (20/ 170)، إرشاد الساري (11/ 466).
(2)
(5/ 1988)4893.
(3)
ينظر: أعلام الحديث (3/ 200)، شرح ابن بطال (7/ 298)، إكمال المعلم (7/ 470)، الفتح (9/ 344).
(4)
(1/ 127)327.
(5)
(1/ 279)367.
في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء
(1)
-أو بذات الجَيْش
(2)
- انقطع عقد لي
(3)
، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر، فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله وبالناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي، قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. قالت: فعاتبني أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول. وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء. فأنزل الله آية التيمم، فتيممّوا. فقال أُسَيْد بن الحُضَير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر؟ قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. واللفظ لمسلم.
• ومن فوائد الحديث: استحضار آثار الابتلاءات الفردية والجماعية والاعتبار بها، وما يترتب عليها، نلمح مشاعر الحسرة والقلق تهز كيان الجارية الصديقة عائشة رضي الله عنها حينما أضاعت عقدا استعارته من أختها!!.
ونلمح الشعور بالضعف، والضيق والاضطراب الذي طوّق الركب ورجال العسكر
…
لا نحبا سهم من أجل عقد زهيد (من جَزْع ظفار))
(4)
لا تربو قيمته على اثني عشر درهمًا
…
مع معاناة وعثاء السفر، ومشقة الرّحلة، وأنهم ليسوا على
(1)
البيداء: كل مفازة لا شيء بها. ينظر: مشارق الأنوار (1/ 151) مادة (ب ي د) معجم ما استعجم (1/ 291).
(2)
موضع بين مكة والمدينة وراء ذي الحليفة. ينظر: أخبار مكة (4/ 226)، الفتح (1/ 570)، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية لعاتق البلادي (202).
(3)
جاءت في رواية لمسلم (367): «أنها استعارت من أسماء قلادة» .
(4)
انظر: تحقيق القول في شأن العقد عند الحافظ في الفتح (1/ 435).
ماء
…
وليس معهم ماء، فعظم الأمر عليهم؛ لما تقرر عندهم من شرطية الوضوء ووجوبه عليهم.
وتمضي الساعات الحرجة
…
واللحظات العصيبة ما بين ملتمس للعقد، ومرتقب للماء؛ لتهب نسمات الفرج الرخية مع تباشير الصبح الندية:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
(1)
وتجد عائشة عقدها أقرب ما يكون إليها، تحت بعيرها الذي كانت تركبه. وتنزل آيات الرخصة في ذروة الحاجة إليها؛ ليستبشر بها الصحابة، والأمة بأسرها، فتأمل كيف صارت البلية نعمة أبدية، والمحنة منحة ربانية!! وآل أمر القلادة التي سَخِطها الناس، وتبرموا منها إلى بركة وخير ويسر:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}
(2)
.
• وفيه ما كان عليه من حلم عظيم، واستشعار لعظمة الأمانة، فقد اهتم لأمر ضياع العقد الذي تقلدته عائشة، واستجدى الحل النافع لأمره، فبعث في أثره «رجالًا يبتغونها» وفي رواية أبي داود
(3)
«فبعث أسيد بن حضير، وأناسًا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة» استنفر الرجال، واستبصر الصبر الجميل، وأحسن الظن بالله، فظفر بخيرين: القلادة، وآيات التيمم.
• وفيه بيان حال خيار هذه الأمة، وحال نبيهم صلى الله عليه وسلم في تلك الشدة، فقد استثقل الناس ما حلّ بهم، حتى شكوا أمرهم إلى أبي بكر الصديق الذي ضاق ذرعًا، وأسي من صنيع ابنته.،. فأتاها معاتبا ومؤدبًا قالت: «فعاتبني أبو بكر، وقال
(1)
الشرح: (5).
(2)
النساء: (19).
(3)
(1/ 86)317.
ما شاء الله أن يقول. «ومما قاله لها كما في رواية: «في كل مرة تكونين عناءً»
(1)
وسمّت المعاتب «أبا بكر» ولم تقل أبي؛ لأن الأبوة مظنة الحنو والعطف، وما وقع من أبيها مغاير لذلك في الظاهر، فأنزلته منزلة الأجنبي
(2)
. هذا شأن الناس، فما شأن نبيهم صلى الله عليه وسلم؟!.
لقد تحمل أمرها بصدر رحب، وحكمة بالغة، إن ما أشغل الركب، لا يكاد يكون شيئًا في التاريخ النبوي الحافل بالمتاعب والمصائب، وحينما يعتريه الأمر، يقضي فيه بحكمة، وصبر، ثم يستلقي بذهنه المكدود، وجسمه المهدود على أرق ضجاع، وألطفه على فخذ الحبيبة عائشة رضي الله عنها وينام قرير العين حتى يصبح.
هدوء، وتماسك، ورفق، وثبات، ينم عن رسوخ عقيدته الراسخة، وحكمته البالغة، فتأمل القصة لتجد أن الصبر مفتاح الفرج.
7 -
تقديره صلى الله عليه وسلم لحاجات النساء النفسية:
• أخرج البخاري في صحيحه في كتاب العيدين، باب: الحراب والدراق يوم العيد
(3)
، ومسلم في صحيحه في كتاب العيدين، باب: الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد
(4)
من حديث عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
رواه الطبراني في الكبير (23/ 121)159. وقال القسطلاني. إسناده جيد حسن. المواهب اللدنية (4/ 108).
(2)
ينظر: عمدة القارئ (4/ 4)، إرشاد الساري (1/ 576).
(3)
(1/ 323)907.
(4)
(2/ 607)892.
وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث
(1)
، فاضطجع على الفراش، وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«دعهما» ، فلما غفل غمزتهما فخرجتا.
وقالت: وكان يوم عيد يلعب السودان بالدّرق
(2)
، والحِرَاب
(3)
، فإمّا سألت النبي صلى الله عليه وسلم، وإمّا قال:«تشتهين تنظرين؟» فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدّي على خده، وهو يقول:«دونكم يا بني أَرْفِدة» حتى إذا مللت قال: «حسبك» قلت: نعم. قال: «فاذهبي» .
وفي الحديث تقدير النبي صلى الله عليه وسلم للحاجات النفسية الفطرية في حياة الناس
(4)
كالرغبة في الترويح واللعب، والفرح والسرور، والإذن الشرعي فيها بقدر معتدل مصون من الإسراف والعبث والفساد، فإن العبد يسعى إلى تحقيق مطالب الروح كما يؤدي وظائف الجسد بتوازن شرعي لا إفراط فيه ولا تفريط، فلئن واظب على الجد والحزم في العبادة ربما يكل ويتعب ويمل، ومراوحة النفس بين الجد واللهو النافع يمنحها مزيدًا من الإقبال على الدين والنشاط للعمل.
(1)
بُعاث: بضم الباء- يوم مشهور مذكور من أيام الجاهلية، كان فيه حرب بين الأوس والخزرج.
ينظر: أعلام الحديث للخطابي (3/ 1700)، النهاية في غريب الحديث (1/ 139)، اللسان (2/ 117) مادة (ب ع ث).
(2)
الدَّرق: ضرب من الترسة، الواحدة دَرَقة، تتخذ من الجلود.
ينظر: لسان العرب (10/ 95)، مختار الصحاح (85) مادة (د ر ق).
(3)
الحِرَاب: جمع حَرْبة وهي سلاح يتخذ في الحرب قدره دون الرُّمْح الكامل، وليس بعريض النصل.
ينظر: مشارق الأنوار (1/ 235)، لسان العرب (1/ 303) مادة (ح ر ب).
(4)
ينظر: شرح ابن بطال (2/ 549)، إكمال المعلم (3/ 308)، الاستقامة (1/ 288)، روضة المحبين (1/ 291).
واقرأ حول هذه الفائدة في: منطلقات الإسلام في إقراره اللهو والترفيه (121)، وشواهد السيرة على مشروعية الترفيه (127).
إن اعتراف الحبيب صلى الله عليه وسلم بحرص عائشة الجارية الفتية المحبة للهو، والطرب بلا ازدراء أو احتقار، من أعظم الأدلة على واقعية هذا الدين، ومراعاته للطبيعة الإنسانية، والجوانب العاطفية حتى إنه يسخر نفسه الكريمة، ويذللها لعائشة كيما تروي شوقها للعب والمرح، فتعتلي قامته، وتضع خدّها على خده، وتنظر وينتظر، تطلبًا لسعادتها، واستجلابًا لمودتها.
• وأخرج ابن ماجه في سننه
(1)
وابن أبي الدنيا في الإشراف في منازل الأشراف
(2)
، والطبراني في الصغير
(3)
، والخطيب في تاريخ بغداد
(4)
كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة، عن تمامة بن عبد الله، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ ببعض المدينة، فإذا هو بجَوَار يضربن بدفهن، ويتغنين ويقلن:
نحن جَوَارٍ من بني النجار
…
يا حبذا محمد من جار
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله يعلم إني أحبكن» واللفظ لابن ماجه.
وإسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه
(5)
.
• وأخرج البخاري في صحيحه في الأدب، باب: الانبساط إلى الناس
(6)
، ومسلم في صحيحه في الفضائل، باب: في فضائل عائشة أم المؤمنين
(7)
من حديث
(1)
(1/ 612)1899.
(2)
446.
(3)
(1/ 65)78.
(4)
(13/ 57)7030.
(5)
(2/ 136)1899.
(6)
(5/ 2270)5779.
(7)
(4/ 1890)2440.
عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعن
(1)
منه، فيُسَرِّ بُهُن
(2)
إليّ، فيلعبن معي» واللفظ للبخاري.
وفي الحديث أن النبي أحسن الأمة خُلقًا، وأبسطهم وجهًا فكان يلاطف الأهل، ويمازح الصغار، ويفاكههم، ويسأل عن لُعَبهم، مؤانسة لهم، واهتمامًا بشأنهم، وتقديرًا لحاجتهم للهو، فينبغي للمؤمنين الاقتداء بحسن عشرته وطلاقته
(3)
صلى الله عليه وسلم.
8 -
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل زوجته في معتكفه:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الاعتكاف، باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد
(4)
، وباب: زيارة المرأة زوجها في اعتكافه
(5)
.
ومسلم في صحيحه في كتاب السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليًّا بامرأة وكانت زوجة أو محرمًا له أن يقول: هذه فلانة؛ ليدفع ظن السوء به
(6)
، من طريق علي بن الحسين، أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند
(1)
قال الحافظ في الفتح (10/ 527): «ومعناه أنهن يتغيبن منه، ويدخلن من وراء الستر، وأصله من قمع التمرة أي: يدخلن في الستر كما يدخلن التمرة في قمعها» .
(2)
قال الحافظ: «فيسربهن: أي يرسلهن» . المصدر السابق.
(3)
ينظر: شرح ابن بطال (9/ 304)، شرح الكرماني (21/ 6).
(4)
(2/ 715)1930.
(5)
(2/ 717)1933.
(6)
(4/ 1712)2175.
باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:«على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا» واللفظ للبخاري في الموضع الأول منه.
وفي الحديث جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في ليل أو نهار، وحسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم حيث خرج من اعتكافه لإيصال زوجته، وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن، والاحتياط من كيد الشيطان، والاعتذار، وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدي به فلا يفعلوا فعلًا يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم»
(1)
.
9 -
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى إجابة دعوة الطعام حتى تصحبه زوجته:
أخرج مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب: ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه صاحب الطعام، واستحباب إذن صاحب الطعام للتابع
(2)
، من حديث أنس أن جارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيًّا، كان طيب المرق، فصنع الرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء يدعوه، فقال:«وهذه؟» لعائشة. فقال: لا
(3)
. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. فعاد يدعوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهذه؟» لعائشة. قال: «لا» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» ثم عاد يدعوه. فقال رسول الله: «وهذه» ؟ قال: نعم. في الثالثة. فقاما
(1)
ينظر: شرح النووي (14/ 156)، الفتح (4/ 285)، عمدة القارئ (11/ 150).
(2)
(3/ 1609)2037.
(3)
قال الحافظ في الفتح (9/ 561): «
…
فيجاب عنه بأن الدعوة لم تكن لوليمة، وإنما صنع الفارسي طعامًا بقدر ما يكفي الواحد، فخشي إن أذن لعائشة أن لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم».
يتدافعان
(1)
حتى أتيا منزله.
قال النووي: «
…
فكره صلى الله عليه وسلم الاختصاص بالطعام دونها، وهذا من جميل المعاشرة، وحقوق المصاحبة، وآداب المجالسة المؤكدة»
(2)
.
فانظر إلى وفائه، ومراعاته صلى الله عليه وسلم لأهل بيته، فإنه امتنع عن إجابة الدعوة؛ لكون عائشة لم يؤذن لها في المشاركة، وتأمل حلمه على الفارسي، وتقديره للداعي حيث اعتذر عن استقبال عائشة مرتين، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإجابة دون أن يقرن امتناعه بتأنيب أو توبيخ على عدم استقبال أهله؛ لتقديره الأعذار أصحابه، وتأمل إصراره على مشاركة عائشة له الطعام؛ لطيب مرق الفارسي، ومنعه نفسه من هذا المرق الطيب حتى تشاركه زوجه، فصلوات ربي وسلامه عليه كم كان عظيمًا؟!.
10 -
تواضعه صلى الله عليه وسلم لزوجاته:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب المغازي، باب: غزوة خيبر
(3)
من حديث أنس بن مالك، وفيه قال: ثم خرجنا إلى المدينة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي
(4)
لها (أي: لصفية) وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.
فانظر إلى تواضعه صلى الله عليه وسلم، وحنوه على أهل بيته، ولا غرو فقد خيّر بين أن يكون
(1)
يتدافعان أي: يمشي كل واحد منهما في إثر صاحبه. ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (13/ 209).
(2)
المصدر السابق.
(3)
(4/ 1542)3974.
(4)
يحوي: بضم أوله، وتشديد الواو- أي يجعل لها حوية، وهي كساء محشوة تدار حول الراكب.
الفتح (7/ 480).
عبدًا رسولًا أو ملكًا فاختار العبودية والرسالة صلى الله عليه وسلم.
• وتأمل في بعض ما تقدم من هديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع زوجاته، ترى أن أقواله وأفعاله توصي بحسن العشرة للنساء، والرفق بمن، ومداراتهن، وعليك بلزوم هديه، والعض بالنواجذ على سنته فإن الله سبحانه أمرنا باتباعه فقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}
(1)
واعلم أن الخير كل الخير في اقتفاء أثره، وفقك الله للحق، ومتابعة السنة.
(1)
الأحزاب: (21).
الفصل الرابع حق المرأة في العمل
وسيتناول هذا الفصل تمهيدًا، وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عمل المرأة الحقيقي في الإسلام.
المبحث الثاني: حق المرأة في العمل خارج المنزل.
المبحث الثالث: ضوابط عمل المرأة في الإسلام.
توطئة:
يكثر في هذه الأيام الحديث عن عمل المرأة، وينقسم الناس فيه بين مؤيد ومعارض، وتنشط مؤتمرات المرأة للدعوة لفتح مجالات أوسع لعمل المرأة وتعزيزه.
- جاء في تقرير المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية/ كوبنهاجن (1400 هـ - 1980 م):
- العمل على إيجاد فرص كاملة ومتكافئة للمرأة في مجال العمل، دون أن يغيب عن البال أن ذلك قد يقتضي من المرأة والرجل على السواء الجمع ما بين العمل المأجور، والمسؤوليات المنزلية، والعناية بالأطفال، حتى يتاح للنساء الحصول على الأعمال التي تتطلب مهارة عالية، والاندماج في تنمية بلدهن، بهدف العمل على توفير ظروف عمل للمرأة أفضل بوجه عام.
- ينبغي اتخاذ التدابير التي تضمن ألا تقل فرص المرأة عن فرص الرجل في سوق العمل في فترات الانتكاس الاقتصادي، والتدابير التي تتخذ -طبقًا للتشريع الاجتماعي- فيما يختص بالبطالة، لا يجوز أن تؤدي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى عدم المساواة بين المرأة والرجل.
- وجاء في تقرير المؤتمر العالمي الرابع المعني بالسكان/ مكسيكو (1404 هـ - 1984 م):
- ينبغي أن تكفل الحكومات للمرأة حرية الاشتراك في القوى العاملة، وعدم تقييدها عن الاشتراك في القوى العاملة، أو إكراهها عليه لأسباب تتعلق بالسياسة الديموغرافية أو التقاليد الثقافية، كما أنه لا ينبغي بأي حال استخدام الدور البيولوجي للمرأة في عملية التناسل كسبب للحد من حقها في العمل، وينبغي
للحكومات أن تأخذ بزمام المبادرة في إزالة أي حواجز قائمة في س بيل إعمال هذا الحق، وأن توفر الفرص والظروف التي تمكن المرأة من الجمع بين أنشطتها خارج المنزل، والأنشطة المتصلة بتنشئة الأطفال والأعمال المنزلية)
(1)
.
وتأتي المطالبات النسائية والرجالية على حد سواء منادية بضرورة تعزيز عمل المرأة، وفتح مجالات أوسع للعمل لها، ويطرز الإعلام ساحاته بعبائر تشجب تعطيل نصف المجتمع، وليت شعري: ما شأن النصف الآخر المطالب بالنفقة في الشريعة الإسلامية؟!!.
وقبل الحديث عن عمل المرأة لا بد أن أشير إلى عمل المرأة في الغرب، وأسباب خروجها للعمل وظروفه؛ لأن كثيرًا ممن ينادي بعمل المرأة دون حد أو قيد، يستدل بتجربة المرأة الغربية، وسبقها للعربية في ميدان العمل والإنتاج زعموا!.
لقد خرجت المرأة الغربية إلى ميدان العمل بعد قيام الثورة الفرنسية (1204 هـ - 1789 م) وبداية تكون الرأسمالية، وانهيار النظام الإقطاعي السائد آنذاك، فقد كان الإقطاعي يمتلك الأرض ومن عليها، أضف إلى قيام الثورة الصناعية الكبرى.
عند ذلك هاجر ملايين من القرويين والفلاحيين فارين من ملاكهم الإقطاعيين الذين كانوا يسومونهم العذاب إلى المدن الكبرى، فتتلقفهم المصانع الجديدة الباحثة عن العمال، وقد كان من حال هؤلاء العمال أنهم فروا من الظلم الإقطاعي فوقعوا في براثن الرأسمالي الجشع، الذي يعطيهم الفتات مقابل عمل
(1)
ينظر: قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية (733 - 743).
الساعات الطويلة التي لا تكفيهم سد حاجتهم فضلا عن أن يرسلوا لمن وراءهم من أهليهم.
كل هذه الظروف اضطرت النساء والأطفال القابعين في الأرياف إلى الزحف على المدن بحثًا عن لقمة العيش بأي وسيلة وأي ثمن، ومرة أخرى تلقفهم الأغنياء ليدفعوا بهم إلى أتون المصانع بأقل من ربع أجر الرجل في بعض الأحيان، وقد ساعدت هذه الظروف على رواج تجارة البغاء، وكان لذلك أسباب، تجمل في الآتي:
1 -
العوز والفقر الشديد الذي حل بالأسر القادمة من الريف، إذ أصبحت دون عائل.
2 -
بقاء الملايين من العمال دون زوجات، ولا بد من الاستجابة لنداء الغريزة الجنسية، فإن لم يكن بالزواج فالبغاء.
3 -
وجود السماسرة المستفيدين من هذه التجارة الرابحة بالنسبة لهم.
ومنذ خروج المرأة من بيتها في أوروبا، وهي تدور في الدوامة الرهيبة، تلهث وراء لقمة العيش، وتحتذب الجميلات منهن لتجارة الرقيق الأبيض الذي يعتبر من أكثر المهن تنظيمًا، يقول عضو البرلمان الفرنسي:«إن حرفة البغاء لم تعد الآن عملًا شخصيًّا، بل لقد أصبحت تجارة واسعة، وحرفة منظمة، بفضل ما تحلب وكالاتها من الأرباح»
(1)
.
«وكان من نتائج النظام الرأسمالي أن أصبحت المرأة كلًا على زوجها، وأصبح الولد عبئًا على أبيه، وتعذر على كل فرد أن يقيم أود نفسه فضلًا عن أن يعول غيره من المتعلقين به. وقضت الأحوال الاقتصادية أن يكون كل واحد من أفراد المجتمع عاملًا مكتسبًا، فاضطرت جميع طبقات النساء من الأبكار والأيامي أن يخرجن من
(1)
ينظر: عمل المرأة في الميزان للدكتور: محمد البار (113).
بيوتهن لكسب الرزق رويدًا رويدًا»
(1)
.
فالمرأة الأوروبية -في السابق- لم تخرج طائعة مختارة، وإنما خرجت مكرهة محبرة؛ سدًا للرمق، بعد أن قام النظام الرأسمالي بتحطيم الأسرة، وأخذ الرجل إلى أتون المصانع، وأقبية المناجم، فاضطرت المسكينة للخروج بحثا عن لقمة العيش، تقول إحدى الغربيات:
«إن المرأة في الغرب تجد نفسها مجبرة على العمل خارج البيت، لتحقق ما يطلبه منها المجتمع»
(2)
.
ويمكن تلخيص أسباب خروج المرأة الغربية للعمل فيما يأتي:
1 -
الأب في الغرب غير مكلف بالإنفاق على ابنته إذا بلغت الثامنة عشرة من عمرها، لذا فهو يجبرها أن تجد لها عملًا إذا بلغت هذا السن، ثم إن كثيرًا من الآباء يكلف الفتاة دفع أجرة الغرفة التي تسكنها في بيت أبيها.
2 -
البخل والأنانية المسيطرة على الرجل، إذ إنه لا يقبل أن ينفق على من لا يعمل؛ لأنه لا يرى تربية الأولاد أمرًا مهمًا، ومهمة شاقة. ولا غرو فإنه مجتمع لا ديني.
3 -
إشباع شهوات الرجل وغرائزه على حساب حاجة المرأة المادية، فهم يريدون المرأة في كل مكان؛ لتكون معهم ولهم، ويدل على ذلك تسخيرهم لها في شهواتهم الدنيئة من خلال الأفلام الداعرة، والصور العارية
…
4 -
بحث المرأة عن الحرية المزعومة من خلال الاستقلال الاقتصادي الذي
(1)
الحجاب لأبي الأعلى المودودي: (68).
(2)
واسمها (كريستيان ساينس) صحيفة المدينة، العدد (4978) تاريخ 14/ 10/ 1400 هـ.
يجعلها تستغني عن الرجل
(1)
.
وهكذا فإن المرأة الغربية عاشت امرأة لاهثة وراء لقمة العيش التي لا تضمن لها من عائلها، وليتهم يوم أخرجوها من محضنها، وكلفوها ما لا تطيق س ووا أجرها بالرجل بل على العكس من ذلك، فالمرأة الأمريكية غير المتزوجة التي يتراوح عمرها ما بين (25 - 64) سنة لا تحصل إلا على 65% من أجر الرجل، أما المتزوجة فقد بلغت نسبة أجرها 56% من أجر الرجل فقط
(2)
.
(1)
ينظر: المرأة بين الفقه والقانون، للدكتور مصطفى السباعي (62)، المرأة المسلمة لوهبي سليمان (180)، قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية (750 - 753).
(2)
اقتصاديات العمل «رونالد إيرنبرج» (397).
المبحث الأول: عمل المرأة الحقيقي في الإسلام
إنك تعجب حين تقرأ في توصيات مؤتمرات المرأة، وأفكار المنادين بتلك التوصيات عدم إقامتهم لعمل المرأة في بيتها قدرًا، بل يرونه من أسباب فقر المرأة، وضحالتها العلمية، وعملها المعتبر هو ما كان خارج المنزل، وما سوى ذلك فهو بطالة!.
والرد على هذا التصور الخاطئ يتبين من خلال ما يلي:
1 -
إن ما تقوم به المرأة من عمل داخل بيتها يعد من العمل المعتبر عند الاقتصاديين.
فالعمل في اللغة هو المهنة والفعل، يقال: عمل عملًا، أي: فعل فعلًا عن قصد. والعمل في الاقتصاد: مجهود يبذله الإنسان لتحصيل منفعة
(1)
.
والمتأمل لعمل المرأة المنزلي يجده يدخل ضمن مفهوم العمل بمعناه اللغوي والاقتصادي، بل إن الاقتصاديين أنفسهم يعتبرون صراحة العمل المنزلي عملًا منتًجا، يقول د: عبد الرحمن يسري أحمد: «إن إهمال تقدير خدمات وأعمال ربات المنزل عند حساب الناتج القومي يؤدي إلى كثير من المغالطات»
(2)
.
كما يفرد (رونالد إيرنبرج، وروبرت سميث) في كتابيهما (اقتصاديات العمل)
(1)
المعجم الوسيط (2/ 189).
(2)
التحليل الاقتصادي (28).
فصلًا كاملًا حول الإنتاج المنزلي، والأسرة، وفرص العمل، يتحدثان فيه بإسهاب عن توزيع الوقت المتاح بين العمل في المنزل وخارجه، ومن يقوم بالعمل في المنزل ونحو ذلك
(1)
.
ويؤكد تقرير للأمم المتحدة صدر عام 1985 م القيمة الاقتصادية لعمل المرأة في البيت، فيقول: «لو أن نساء العالم تلقين أجورًا نظير القيام بالأعمال المنزلية، البلغ ذلك نصف الدخل القومي لكل بلد، ولو قامت الزوجات بالإضراب عن القيام بأعمال المنزل لعمت الفوضى العالم: سيسير الأطفال في الشوارع، ويرقد الرضع في أسرهم جياعا تحت وطأة البرد القارس، وستتراكم جبال من الملابس القذرة دون غسيل، ولن يكون هناك طعام للأكل، ولا ماء للشرب.
ولو حدث هذا الإضراب
…
فسيقدر العالم أجمع القيمة الهائلة لعمل المرأة في البيت
…
إن المرأة لو تقاضت أجرًا لقاء القيام بأعمالها المنزلية لكان أجرها أكثر من 145000 دولار في السنة
…
وإن النساء الآن في المجتمعات الصناعية يساهمن بأكثر من 25% إلى 40% من منتجات الدخل القومي، بأعمالهن المنزلية»
(2)
.
بل إن عمل الأمهات في البيوت لا يقدر بثمن، وقد قامت مؤسسة مالية في الولايات المتحدة
(3)
بدراسة عمل الأم في المنزل «كالتربية، والطبخ، والإدارة المالية، والعلاج النفسي للأسرة
…
» ومحاولة تقديره بحسابات مادية على الورق، فوجدت أن الأم تستحق أجرًا سنويًّا يصل إلى 508 آلاف دولار -محسوبًا على أساس الأجور السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية- وقال المحلل المالي ريك إدمان لهذه
(1)
نقلًا عن كتاب: عمل المرأة، لسالم بن عبد العزيز السالم (52).
(2)
نقلًا عن كتاب: رسالة إلى حواء، لمحمد رشيد العويد (73).
(3)
اسم هذه المؤسسة (خدمات إدلمان المالية) وتقع في مدينة «فير فاكس» بولاية «فرجينيا» .
إلا أن محررة
(1)
في مجلة عمل المرأة الأمريكية، وصفت مبلغ نصف مليون دولار بأنه منخفض جدًّا، مشيرة إلى أن كثيرًا من الأمهات يؤدين أعمالًا أكثر من تلك التي أشارت إليها هذه الدراسة
(2)
.
وقد كان هناك تقرير صدر في الولايات المتحدة عن لجنة مكونة من دائرة الصحة، والتربية، والرعاية الاجتماعية لدراسة شؤون العاملين في ميادين العمل -ومن ذلك عمل المرأة الأمريكية، وانعكاساته على أسرتها وأطفالها- ومما جاء في هذا التقرير المهم ما يأتي:
1 -
وجاء في هذا التقرير: «والحقيقة الواضحة أن رعاية الأطفال يعتبر عملًا بكل ما يفيده مفهوم العمل؛ لأن هذه الرعاية مهمة صعبة، وذات أثر خطير على المجتمع الكبير، أكثر من أي عمل آخر تدفع له الأجور، إن المشكلة ليست في قبول الناس في مجتمعنا الأمريكي بهذه الحقيقة أو عدم قبولهم، وإنما المشكلة هي في معتقداتنا وثقافتنا الخاصة، فنحن كمجتمع لم ندرك بعد الحقيقة عن قيمنا وتقديراتنا عن النافع وغير النافع، وسوف يتحقق هذا الإدراك حين نبدأ النظر إلى اللاتي
(1)
اسمها «جودسين كولبريث» .
(2)
نقلًا عن كتاب قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية (765 - 766).
يكرسن أنفسهن للأمومة، ورعاية البيت باعتبارهن عاملات منتجات، وندفع لهن أجورًا ورواتب، مقابل هذه الرعاية، وحين نعتبر عملهن في البيت إسهامًا جليلًا في زيادة الدخل القومي».
(1)
.
2 -
إن دعامة الأسرة هي المرأة، وهذه الدعامة تتمثل في وظيفة المرأة الأساسية ألا وهي العناية بالأسرة من رعاية الأبناء، وتنشئتهم النشأة الصالحة دينيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا حتى ينشأوا أسوياء، ولا يمكن أن يقوم بهذا الدور إلا الأم.
ومن الواضح أن عمل الأنثى الأول الذي لا يصلح له غيرها هو النسل، وحفظ النوع؛ لأن تركيب الذكر ان العضوي لا يسمح لهم بحمل الجنين ولا إرضاعه، ومن الثابت أن إرهاق المرأة بالعمل يترك أثرا في مزاجها وفي أعصابها، ومن الثابت أيضًا أن ذلك الأثر ينتقل إلى جنينها في حالة الحمل، كما ينتقل إلى طفلها في حالة الرضاعة
…
ويقول مجموعة من أساتذة طب النساء والولادة في كتاب «الحمل والولادة» : «تحتاج الحامل إلى عناية شديدة من المحيطين بها في هذه الفترة بالذات، إذ تكون أكثر حساسية من أي فترة مضت، سريعة التأثر والانفعال، والميل
(1)
نقلًا عن كتاب الأمومة في الإسلام لمها الأبرش (2/ 934 - 936).
إلى الهموم والحزن لأتفه الأسباب .. وذلك بسبب التغير الفسيولوجي في كل أجزاء الجسم
…
لذا يجب أن تحاط بجو من الحنان والبعد عن الأسباب التي تؤدي إلى تأثرها وانفعالها، وخاصة من ناحية الزوج أو الذين يعيشون ويتعاملون معها»
(1)
.
وقل لي بالله هل يمكن أن تحاط بجو من الحنان في المصنع أو المتجر أو في المكتب
…
وصاحب العمل لا تهمه حالتها الفسيولوجية، ولا يعرف حاجتها البيولوجية إلى الحنان والراحة
…
إنه يعرف فقط أن عليها أن تؤدي عملا تأخذ مقابله راتبا مهما كانت ظروفها.
ثم إن المرأة بحاجة إلى أن توفر لها الفرصة الكاملة لملازمة طفلها ملازمة كاملة تسمح بأن يصنع على عينها جسمًا وعقلًا وخلقًا، لكي تغرس فيه العادات الفاضلة، وتجنبه ما قد يعرض له، أو يطرأ عليه من عادات قبيحة.
كما أن اعتماد المرأة العاملة على الخدم، وعلى دور الحضانة في رعاية وليدها لا يؤدي إلى اكتمال تنشئته، لأن الإخلاص له، والحرص على ابتغاء الكمال من كل وجه لا يتوافر في أحد توافره في الأم، فإن من وراء إخلاصها وحرصها غريزة الأمومة. وهذا الجيل الغربي من التائهين الضائعين
…
محطمي الأعصاب
…
مبلبلي الأفكار
…
قلقي النفوس، وهذه النسبة الآخذة -حسب إحصاء الغربيين أنفسهم- للانحراف والشذوذ بكل ضروبه وأنواعه، وكل هذه الظواهر والآثار، هي من آثار التجربة التي خاضها الغرب في المرأة؛ لأن هؤلاء جميعا هم أبناء العاملات والموظفات، والذين عانوا من إرهاق أمهاتهم وهم في بطونهن، ثم تعرضوا لإهمالهن بعد
(1)
نقلًا عن كتاب «عمل المرأة في الميزان» للدكتور محمد البار (91).
وانظر: في الاختلافات بين المرأة والرجل من حيث الخلقْة، واختصاص كل بما يناسبه: قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية (254 - 267)، الرجل والمرأة في الإسلام للطبيب محمد وصفي (25 - 28).
وضعهم.
وماذا يبتغي الناس من تجربة فاشلة كهذه؟ أفلا يتدبرون
(1)
(2)
.
إن الحكم على وظائف المرأة -من حمل وإرضاع ورعاية أبناء- بأنه لا شيء، وأن بقاءها في بيتها، واقتصارها على تلك الوظائف يجعلها عاطلة، يعتبر حكمًا سطحيًّا محجوبًا عن تبيين الحقائق، فإننا حين ننظر في جدول يوازن بين عمل المرأة والرجل -من حيث الجدوى على الحياة ومجد الدولة- نرى أن المرأة قد ذهبت باللب، والرجل قد قام من ذلك اللب بدور، لا يقال: إنه ثانوي ولكنه ليس في صميم اللب. فأي الدورين يكون صاحبه عاطلًا؟ إذا كان مقياس العمل والعطل هو الإنتاج للحياة؟ ماذا يكون أجر من ثمرتهما طفل؟ وأجر من ثمرته جلب حزمة من حطب، أو بضع ثمرات من شجرة قريبة؟! ولكن الحياة لا تجزي ذلك الأجر النقدي، فإن ثمر المرأة ومقامها أجلّ من أن يقدر بعرض»
(3)
.
وهذا الإنجليزي (سامويل سمائلس) وهو من أركان النهضة الإنجليزية
(1)
ينظر: حصوننا مهددة من داخلها لمحمد حسين (90 - 94).
(2)
نقلًا عن كتاب إسلامنا لسيد سابق (220).
(3)
ينظر: الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة، للبهي الخولي (230).
يقول: «إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل، مهما نشأ عنه من الثروة، فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية، لأنه يهاجم هيكل المنزل، ويقوض أركان الأسرة، ويمزق الروابط الاجتماعية، ويسلب الزوجة من زوجها، والأولاد من أقاربهم، وصار لا نتيجة له إلا تسقيل أخلاق المرأة، إذ وظيفة المرأة الحقيقة هي القيام بالواجبات المنزلية من ترتيب مسكنها، وتربية أولادها، والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام باحتياجاتها البيتية.
لكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات، بحيث أصبحت المنازل غير المنازل، وأضحت المواليد تشب على عدم التربية، وتلقى في زوايا الإهمال، وانطفأت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة، والمحبة اللطيفة، وصارت زميلته في العمل والمشاق، وصارت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالبا التواضع الفكري، والتواد الزوجي، والأخلاق التي عليها مدار حفظ الفضيلة»
(1)
.
3 -
إن البطالة الحقيقية تتمثل في خروج المرأة للعمل، وبقاء الرجال عاطلين بلا عمل، مع أن الرجل ملزم بالنفقة على المرأة في شرع الإسلام
(2)
، ففي كل بلد يوجد الآلاف من الشباب الذين لا يجدون عملًا، ومع هذا تقام حملات إعلانية ضخمة تتحدث عن نصف الأمة المشلول
…
ونصف الأمة المسجون
…
ونصف الأمة المعطل؟!.
4 -
يؤكد المناصرون لخروج المرأة دعاواهم على الجدوى الاقتصادية الخروج المرأة من بيتها، ومساهمتها كما يزعمون في رفع إنتاجية الوطن، ويكثرون من السخرية، والتشنيع بالمجتمعات الرجعية كما يسموها حيث تبقى المرأة حبيسة بيتها.
(1)
دائرة المعارف، لفريد وجدي.
(2)
ينظر مبحث النفقات ص (623) فما بعدها.
وإذا أبعدنا عن أسلوب المهاترات، والدعاوى وكان بحثنا موضوعيًّا، لنقرأ لغة الأرقام التي تعكس الجدوى الاقتصادية لعمل المرأة:
أثبتت دراسة ميدانية للدكتور/ حسين شحاته -أستاذ المحاسبة بكلية التجارة جامعة الأزهر- أن المرأة العاملة خارج بيتها تنفق من دخلها 40% على المظهر والمواصلات، أما تلك التي تعمل في بيتها فهي توفر من تكلفة الطعام والشراب ما لا يقل عن 30%، وخلصت الدراسة إلى أن المرأة التي تمكث في البيت توفر ما لا يقل عن 70% من الدخل الذي كان بالإمكان أن تحصل عليه، بل يمكنها أن تحقق دخلًا أكثر مما تحققه الموظفة؛ إذ تستطيع أن تحول بيتها إلى ورشة إنتاجية، بأن تصنع في وقت فراغها ما يحتاج إليه بيتها ومجتمعها
(1)
.
ومما يؤكد ذلك ما قالته السويسرية (بيناو لاديف) بعد تركها للعمل: «فلو حسبت أجر المربية، والمعلمين الخصوصين، ونفقاتي الخاصة، لو أني واصلت العمل، ولم أتفرغ للأسرة، لوجدنا أكثر مما أتقاضاه في الوظيفة»
(2)
.
ثم إن المرأة يمكن أن تعمل في بيتها أعمالًا تدر عليها ربحًا ماديًّا دون أن تضطر للعمل خارج المنزل؛ حيث إن العمل خارج المنزل ليس الطريق الوحيد للكسب المادي.
ففي أمريكا -مثلا- 11. 8 مليون يعملون في المنزل دوامًا كاملًا، ويحققون من خلال عملهم هذا كامل دخولهم، بينما يحقق 26. 6 مليون أمريكي دخولًا إضافية من أعمال يمارسونها في منازلهم، أي أن أكثر من 38 مليون أمريكي
(1)
عمل المرأة، لسالم السالم (72).
(2)
المرجع السابق، وانظر: وظيفة المرأة المسلمة في عالم اليوم، لخولة عبد اللطيف (75).
يحققون كسبًا ماديًّا من عملهم في المنزل
(1)
.
وهناك فكرة العمل بما يسمى بنظام [المكتب المنزلي]
(2)
وهو نظام يحقق لمن ترغب من النساء أن تمارس عملًا ما في بيتها، أو تمارس مشاريع استثمارية صغيرة، وفي نفس الوقت ترعى أسرتها، وهذا النوع من العمل منتشر في أمريكا وأوروبا، وقد أوجد في أمريكا -وحدها- 41 مليون فرصة عمل، ويحقق العاملون والعاملات منه عوائد جيدة.
وأما نوعية العمل الذي يمكن تأديته من داخل المنزل، فنذكر على سبيل المثال ما يلي:«مساعدة إدارية- تخطيط- تحرير صحفي- معالجة إدخال بيانات- تحليل مالي- باحثة إنترنت- تدقيق لغوي- مبيعات وتسويق- ترجمة لغات- طباعة- معالجة نصوص- إعلانات- تصميم فني- تصميم ديكور- صناعات تقليدية» وغيرها من المهن التي تناسب طبيعة المرأة.
وأما عن عمل المرأة في الإسلام:
فهو إدارة شؤون مملكتها، ومقر عملها، ترعى زوجها، وتربي نشأها، وتتقي الله في بيتها، ولا شك أن هذا يتلاءم مع فطرتها التي فطرها الله عليه، ومما يستدل به على ذلك كثير من نصوص القرآن والسنة، منها:
1 -
قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}
(3)
.
(1)
هذا ما ذكره دونا جاكسن في كتابه (كيف نجعل العالم مكانًا أفضل للمرأة) نقلًا عن عمل المرأة السالم السالم (73).
(2)
فكرة طرحتها مديرة اللجنة النسائية لجمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت (سعاد الجار الله) نقلًا عن قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية لفؤاد العبد الكريم (772).
(3)
الأحزاب: (33).
(1)
.
2 -
وجوب النفقة للزوجة والمعتدة من طلاق رجعي كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}
(2)
فقد كفيت المرأة النفقة حتى تنصرف لمهمتها الرئيسية في البيت، ولا تنشغل بالتكسب عنها.
وقد مرّ في البحث
(3)
في أحكام النفقات ما يجعل العاقل يبصر أن الكسب خارج البيت وظيفة الرجل، وللمرأة عليه الرزق والكسوة بالمعروف تفريغًا لها؛ الرعاية بيتها، وشؤون زوجها وولدها، فسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
3 -
(4)
.
وفي هذه الآية بيان لسبب خروجهما لهذا العمل الخارجي مما يعني أنه ليس أصل عملهما.
(1)
الجامع لأحكام القرآن (14/ 179).
(2)
الطلاق: (7).
(3)
ص (623) فما بعدها.
(4)
القصص: (33).
(1)
.
4 -
(2)
.
فالله تبارك وتعالى حذر آدم عليه السلام من أن يستمع لإبليس؛ لأنه عدو له ولزوجه، ونبهه إلى أن الشيطان سيسعى لإخراجهما من الجنة، ثم يحذر الرحمن عبده -أيضًا- من أنه إذا أخرج من الجنة فإنه يشقى، والخطاب هنا في النص القرآني ينصرف إلى آدم وحده، وفي إفراد الخطاب إليه في قوله تعالى:{فَتَشْقَى} بعد التثنية فيما تقدم من قوله تعالى: {عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} وفي قوله: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا} في هذا الإفراد بعد التثنية معنى واضح ذكره المفسرون وعلماء الشريعة يتلخص في أن آدم (ومن ثم الرجل دون المرأة) هو الذي يشقى في سبيل تدبير معاش الأسرة
(3)
.
(1)
تفسير أبي السعود (7/ 8).
(2)
طه: (116 - 119).
(3)
من محاضرة للدكتور (عيسى عبده إبراهيم) بعنوان القرآن والدراسات الاقتصادية ألقيت في عام 1380 هـ. نقلًا عن قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية (776).
قال القرطبي رحمه الله: «{فَتَشْقَى} يعني أنت وزوجك؛ لأهما في استواء العلة واحد، ولم يقل: فتشقيا؛ لأن المعني معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود، وأيضًا لما كان الكاد عليها، والكاسب لها كان بالشقاء أخص. وقيل: الإخراج واقع عليهما، والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن. ألا ترى أنه أعقبه بقوله:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} أي في الجنة {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} فأعلمه أن له في الجنة هذا كله! الكسوة والطعام والشراب والمسكن، وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو، أخرجكما من الجنة، فشقيت تعبًا ونصبًا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس
(1)
، لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة، وإنما خصه بذكر الشقاء، ولم يقل: فتشقيا؛ ليعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج، فلما كانت نفقة حواء على آدم، كذلك نفقات بناها على بني آدم بحق الزوجية، وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تحب للمرأة على زوجها هذه الأربعة: الطعام والشراب، والكسوة، والمسكن، فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور، فأما هذه الأربعة فلا بد لها منها؛ لأن بها إقامة المهجة»
(2)
.
5 -
ما أخرجه البخاري
(3)
، ومسلم
(4)
من حديث عبد الله بن عمر رضي الله
(1)
يقول الزمخشري في الكشاف: «وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحو؛ ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره الله منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها» (3/ 93).
(2)
الجامع لاحكام القرآن (1/ 253).
(3)
كتاب الأحكام، باب قوله تعالى:{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (6/ 2611)6718.
(4)
كتاب الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (3/ 1459)1829.
عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» .
فالحديث نص على رعاية المرأة لبيت زوجها وولده، مما يتطلب بقاءهما فيه، والعناية بشؤونه.
(1)
.
6 -
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب النفقات، باب: حفظ المرأة زوجها في ذات يده والنفقة
(2)
، وفي كتاب النكاح، باب: إلى من ينكح، وأي النساء خير
(3)
، ومسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل نساء قريش
(4)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» واللفظ للبخاري في كتاب النكاح.
قال الحافظ: «
…
وفيه فضل الحنو، والشفقة، وحسن التربية، والقيام على
(1)
الفتح (13/ 113).
(2)
(5/ 2052)5050.
(3)
(5/ 1955)9794.
(4)
(4/ 1958)2527.
الأولاد، وحفظ مال الزوج وحسن التدبير فيه، ويؤخذ منه مشروعية إنفاق الزوج على زوجته»
(1)
.
وتأمل ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على نساء قريش تراه فيما يتعلق باختصاصهن، ومقر عملهن أصلًا.
7 -
ما شاع من عمل النساء في بيوتهن منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، مما لا يحتاج لضرب الأمثلة والاستشهاد؛ لتواتره، وظهور أدلته.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «فالرجل يقوم بالنفقة والاكتساب، والمرأة تقوم بتربية الأولاد، والعطف والحنان، والرضاعة والحضانة والأعمال التي تناسبها، كتعليم البنات، وإدارة مدارسهن، والتطبيب لهن، ونحو ذلك من الأعمال المختصة بالنساء
…
فترك واجبات من قبل المرأة يعتبر ضياعًا للبيت، ويترتب عليه تفكك الأسرة، حسيًّا ومعنويًّا، وعند ذلك يصبح المجتمع شكلًا أو صورة لا حقيقة ومعنى»
(2)
.
وقال الشيخ صالح الفوزان: «ومنها -أي: من منافع الزوج-: قيام الزوج بكفالة المرأة وصيانتها، وقيام المرأة بأعمال البيت، وأداؤها لوظيفتها الصحيحة في الحياة، لا كما يدعيه أعداء المرأة، وأعداء المجتمع من أن المرأة شريكة الرجل في العمل خارج المنزل؛ فأخرجوها من بيتها، وعزلوها عن وظيفتها الصحيحة، وسلموها عمل غيرها، وسلموا عملها إلى غيرها، فاختل نظام الأسرة، وساء التفاهم بين الزوجين، مما سبب -كثيرًا من الأحيان- الفراق بينهما، أو البقاء على
(1)
الفتح (9/ 1126).
(2)
ينظر: قضايا تهم المرأة لعبد الله الجار الله (59)، ومجلة البلاغ عدد (798) بتاريخ 12/ 10/ 1405 هـ.
مضض ونكد»
(1)
.
• ومما تقدم يتبين أن وظيفة المرأة في بيتها أسمي من كل وظيفة، فهي تنتج العقول النيرة، والنفوس المؤمنة الطيبة، وتربي النشأ، وتبني الجيل وتغذيه بأعلى الأحاسيس الاجتماعية، التي تربي فيه روح الائتلاف مع المجتمع فيخرج إليه، وهو يألف ويؤلف، ولا تعجب حين ينيط الإسلام هذه الوظيفة العظيمة لها؛ من أجل عظمتها، وما هيأه الله فيها من قدرات تجعلها تقوم بهذه الوظيفة بكفاءة ونجاح، ويجعل منها الجنة تحت قدميها.
(1)
تنبيهات على أحكام تختص بالمؤمنات لصالح الفوزان (50).
المبحث الثاني: حق المرأة في العمل خارج المنزل
وإن كان الإسلام يحث المرأة على لزوم بيتها، والقيام بتربية ولدها إلا أنه لا يعارض عملها بشروطه
(1)
وضوابطه، والسنة والسيرة شاهدتان على هذا المبحث، ومن الأدلة على ذلك:
1 -
أخرج مسلم في صحيحه
(2)
من حديث جابر بن عبد الله قال: طُلقت خالتي فأرادت أن تجد
(3)
نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«بلى، فجدي نخلك، فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفًا» .
وفي الحديث إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمعتدة البائن
(4)
للخروج لصرام النخل، وعُلِم من مفهوم الحديث أن خالة جابر كانت تخرج قبل عدها من غير نكير عليها، فلما اعتدت أنكر رجل عليها الخروج، فرفعت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها، بل وعلل ذلك بالصدقة وفعل المعروف.
(1)
سيأتي ذكرها ص (895).
(2)
كتاب الطلاق، باب: جواز خروج المعتدة البائن، والمتوفي عنها زوجها في النهار لحاجتها (2/ 1121)1483.
(3)
تَجُد: بفتح أوله، وضم الجيم، من الجداد بالفتح، والكسر: صرام النخل، وهو قطع ثمرتها. ينظر: النهاية (1/ 244) مادة (ج د د).
(4)
ينظر: الخلاف في خروج المعتدة البائن في: شرح معاني الآثار، للطحاوي (3/ 74)، تفسير القرطبي (18/ 154)، سبل السلام (3/ 202).
يقول النووي: «وفيه استحباب الصدقة من التمر عند جداده، والهدية، واستحباب التعريض لصاحب التمر بفعل ذلك، وتذكير المعروف والبر» .
والحديث دليل أن للمرأة أن تقوم على زراعتها شأنها كالرجل.
2 -
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، باب: ذكر النساج
(1)
من حديث سهل بن سعد قال: جاءت امرأة بيردة، قال: أتدرون ما البردة؟ فقيل له: نعم، هي الشملة)
(2)
منسوج في حاشيتها. قالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي اكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا، وإنها إزاره. فقال رجل من القوم: يا رسول الله اكسنيها، فقال:«نعم» فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، ثم رجع، فطواها، ثم أرسل بها إليه. فقال القوم: ما أحسنت سألتها إياه، لقد علمت أنه لا يرد سائلًا. فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه.
وفي الحديث أن المرأة كانت تعمل بالنسج، وعليه بوّب البخاري: باب: ذكر النساج.
يقول ابن عابدين: «للوالد دفع ابنته إلى امرأة تعلمها حرفة كالتطريز، والخياطة مثلًا، وذلك حتى تستطيع أن تعول نفسها من كسبها عند الحاجة»
(3)
.
3 -
ما تقدم
(4)
في حق المرأة في التعاملات المالية من أحاديث تدلل على
(1)
(2/ 72)1987.
(2)
قال الحافظ في الفتح (3/ 143): «وفي تفسير البردة بالشملة تجوز؛ لأن البردة كساء، والشملة ما يشتمل به فهي أعم، لكن لما كان أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها» .
(3)
حاشية رد المختار (2/ 671).
(4)
ص (709) من البحث.
اشتغال النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيع والشراء دون نكير.
4 -
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب: مداواة النساء الجرحى في الغزو
(1)
، وفي كتاب الطب، باب: هل يداوي الرجل المرأة أو المرأة الرجل
(2)
من حديث الربيع بنت معوذ قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة. واللفظ في كتاب الجهاد.
قال الحافظ: «وفيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي، للضرورة. وقال ابن بطال: ويختص ذلك بذوات المحارم، ثم بالمتجالات
(3)
منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل يقشعر منه الجلد، فإن دعت الضرورة لغير المجالات، فليكن بغير مباشرة ولامس، ويدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت، ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس، بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري، وفي قول الأكثر تيمم. وقال الأوزاعي: تدفن كما هي. قال ابن المنير: الفرق في حال المداوة، وتغسيل الميت، أن الغسل عبادة، والمداوة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات»
(4)
.
• وأخرج البخاري في الأدب المفرد
(5)
من حديث محمود بن لبيد قال: لما أصيب أكحل سعد يوم الخندق، فثقل، حولوه عند امرأة يقال لها: رُفَيْدة، وكانت تداوي الجرحى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول:«كيف أمسيت» وإذا أصبح:
(1)
(3 - 1056)2726.
(2)
(5/ 2151)5355.
(3)
المتجالات: كبيرات السن. ينظر: النهاية (1/ 278)، اللسان (1/ 288) مادة (ج ل ل).
(4)
الفتح (6/ 79 - 80) وقد تقدم مزيد بيان للحديث في حق المرأة في الجهاد ص (376).
(5)
1129.
«كيف أصبحت» .
وصحح إسناده الحافظ في الإصابة
(1)
، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد
(2)
.
وقال الحافظ في الإصابة
(3)
وفي هذه الأحاديث مزاولة المرأة مهنة التطبيب.
وما تقدم من أحاديث في حق المرأة في العلم، والدعوة، والبيع والشراء
(4)
يتضح واقعية هذه الدين، ودعوة أفراده للمشاركة في تقدم المجتمع ورقيه مع المحافظة على الأولويات، وترتيب المهمات، ودون الإخلال بالواجبات الأساسيات.
(1)
(7/ 646)11175.
(2)
(3)
(7/ 646)11175.
(4)
ص: (275)، (319)، (709).
المبحث الثالث: ضوابط عمل المرأة في الإسلام
(1)
لقد وضع الإسلام لعمل المرأة منهجًا قويمًا، سليم الخطوة، بعيد النظرة عميق الإحساس، ترفرف على جنباته السلامة، والأمان، والمودة، وتحفظ به كرامة المرأة، ولا يجني المجتمع الذي يرتضي هذا المنهج ويحكمه فيه، إلا ثمرات الخير دائمة العطاء، وإليك بيان هذه الضوابط:
الضابط الأول:
أن يأذن لها وليها -زوجًا كان أم غير زوج- بالعمل، وبدون موافقة وليها لا يجوز لها العمل، لأن الرجل قوام على المرأة كما قال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}
(2)
إلا إذا منعها نكاية بها، وظلمًا مع حاجتها للعمل، فلا إذن له، كما أنه لا يحق له أن يلزمها القيام بعمل مهني لا ترضاه.
الضابط الثاني:
ألا يكون هذا العمل الذي تزاوله صارفًا لها عن الزواج الذي حث عليه الإسلام وأكده، أو مؤخرًا له بدون حاجة.
الضابط الثالث:
الإسلام يحث على الإنجاب، وكثرة النسل، والأدلة على
(1)
ينظر: المرأة بين البيت والمجتمع المحمد البهي (180)، المرأة بين الفقه والقانون لمصطفى السباعي (171)، المرأة المسلمة لوهبي سليمان (228)، حقوق المرأة في الشريعة الإسلامية لإبراهيم النجار (204)، قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية لفؤاد العبد الكريم (780).
(2)
النساء: (34).
ذلك كثيرة، كما قال عز وجل:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}
(1)
فلا ينبغي للمرأة المسلمة أن تجعل العمل صارفًا لها عن الإنجاب بحجة الانشغال بالعمل.
الضابط الرابع:
ألا يكون هذا العمل على حساب واجباتها نحو زوجها وولدها، فعمل المرأة أصلًا في بيتها، والعمل خارجه طارئ، وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم»
(2)
.
الضابط الخامس:
أن يكون عمل المرأة مشروعًا، والعمل المشروع: ما كان متفقًا مع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالبيع والشراء، والتعليم، والطب، والدعوة إلى الله
…
وأمّا الأعمال غير المشروعة فهي كل عمل ورد النهي بخصوصه في الشرع كعمل المرأة في المؤسسات الربوية، ومصانع الخمور، والرقص والغناء، والتمثيل، ومزاولة البغاء.
الضابط السادس:
أن يتفق عمل المرأة مع طبيعتها، وأنوثتها، وخصائصها البدنية والنفسية مثل الأعمال المشروعة التي ذكرت آنفًا، وأمّا الأعمال التي لا تتفق مع طبيعتها ولا أنوثتها، مثل: العمل في تنظيف الشوارع العامة، وبناء العمارات، وشق الطرق، والعمل في مناجم الفحم وغيرها من الأعمال الشاقة؛ فلا يجوز لها أن تمارسها؛ لأن ممارستها يُعَدُّ عدوانًا على طبيعتها وأنوثتها، وتكليفها ما لا تطيق،
(1)
النحل: (72).
(2)
تقدم تخريجه ص (888).
والرب جل وعلا يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(1)
والتكليف بدون التمكن ومراعاة الحلقة تكليف بما لا يطاق
(2)
.
الضابط السابع:
أن تخرج للعمل باللباس الشرعي الساتر لجميع جسدها، بأوصافه وشروطه
(3)
.
ومن شروطه:
1 -
أن يكون ساترًا لجميع البدن؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
(4)
(5)
والجلباب هو الملاءة (أي: العباءة) التي تلتحف به المرأة فوق ثيابها على أصح الأقوال
(6)
.
قال الألباني رحمه الله: «فالحق الذي يقتضيه العمل بما في آيتي النور والأحزاب، أن المرأة يجب عليها إذا خرجت من دارها أن تختمر، وتلبس الجلباب على الخمار؛ لأنه كما قلنا سابقًا أستر لها، وأبعد عن أن يصف حجم رأسها وأكتافها،
(1)
البقرة: (286).
(2)
ينظر: الإحكام للآمدي (1/ 160)، الموافقات (2/ 115).
(3)
انظر شروط اللباس الشرعي في: جلباب المرأة المسلمة للألباني، عودة الحجاب لمحمد إسماعيل مقدم (3/ 145)، أهم قضايا المرأة المسلمة لمحمد أبي يحيى (31) وما بعدها.
(4)
الأحزاب: (59).
(5)
ينظر: فتح القدير للشوكاني (4/ 34).
(6)
وقد قيل في تفسيره سبعة أقوال أوردها الحافظ في الفتح (1/ 336) وهذا أحدها، وبه جزم البغوي في تفسيره (3/ 339). وقال ابن حزم في المحلى (3/ 217):«والجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله -صلى الله عليع وسلم- هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه» وصححه القرطبي في تفسيره (12/ 309).
وهذا أمر يطلبه الشارع
…
واعلم أن هذا الجمع بين الحمار والجلباب من المرأة إذا خرجت قد أخلّ به جماهير النساء المسلمات، فإن الواقع منهن إما الجلباب وحده على رؤوسهن أو الخمار، وقد يكون غير سابغ في بعضهن؛ كالذي يسمى اليوم بـ (الإيشارب) بحيث ينكشف منهن ما حرّم الله عليهن أن يظهر من زينة باطنة
…
أفما آن للنساء الصالحات حيثما كن أن ينتبهن من غفلتهن، ويتقين الله في أنفسهن، ويضعن الجلابيب على خمرهن»
(1)
.
2 -
ألا يكون زينة في نفسه؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}
(2)
فإنه بعمومه يشمل الثياب الظاهرة إذا كانت مزينة تلفت أنظار الرجال إليها، ويشهد لذلك قوله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}
(3)
.
قال في فتح البيان
(4)
: «والتبرج أن تبدي المرأة من زينتها، ومحاسنها وما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجال» والمقصود من الأمر بالجلباب إنما هو ستر زينة المرأة، فلا يعقل حينئذ أن يكون الجلباب نفسه زينة، وهذا كما ترى بيّن لا يخفى.
ولقد بالغ الإسلام في التحذير من التبرج إلى درجة أنه قرنه بالشرك، والزين، والسرقة، وغيرها من المحرمات، وذلك حين بايع النبي النساء صلى الله عليه وسلم على ألّا يفعلن ذلك، فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: «جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: «أبايعك على ألّا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي،
(1)
جلباب المرأة المسلمة (85 - 86).
(2)
النور: (31).
(3)
الأحزاب: (33).
(4)
(7/ 274).
ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى»
(1)
.
يقول الألوسي في روح المعاني
(2)
3 -
أن يكون صفيقًا لا يشف؛ لأن الستر لا يتحقق إلا به، وأما الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنة وزينة، أخرج مسلم في صحيحه في كتاب اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات
(3)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» .
قال ابن عبد البر: «أراد النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة»
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه ص (416).
(2)
(6/ 56).
(3)
(3/ 1680)21281.
(4)
الاستذكار (8/ 307).
وقد عقد ابن حجر الهيثمي في «الزواجر»
(1)
بابًا خاصًا في لبس المرأة ثوبًا رقيقًا يصف بشرتها، وأنه من الكبائر.
4 -
أن يكون فضفاضًا غير ضيق فيصف شيئًا من جسمها؛ لأن الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع، وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البشرة، فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه، ويصوره في أعين الرجال، وفي ذلك من الفساد، والدعوة إليه مما لا يخفى، أخرج أحمد في المسند
(2)
، والبيهقي في السنن
(3)
، والمقدسي في المختارة
(4)
من حديث أسامة بن زيد قال: «كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال: مالك لم تلبس القبطية؟ قال: كسوتها امرأتي. قال: مرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها
…
واللفظ لأحمد.
وحسنه الألباني في جلباب المرأة المسلمة
(5)
.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة أن يأمر زوجته أن تجعل تحت القبطية غلالة -وهي شعار يلبس تحت الثوب-
(6)
ليمنع به وَصْفَ بدها، والأمر يفيد الوجوب
(7)
.
(1)
(1/ 127).
(2)
(5/ 205)21834.
(3)
(2/ 234)3078.
(4)
(4/ 149)1365.
(5)
(6)
ينظر: غريب الحديث لابن سلام (3/ 179)، النهاية (4/ 7) مادة (غ ل ل).
(7)
ورد الألباني على من فسّر القبطية بالثياب الشفافة من وجهين:
الأول: تصريحه في وصف القبطية بكونها «كثيفة» .
الثاني: تعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إني أخاف أن تصف حجم عظامها» .
وانظر: جلباب المرأة المسلمة (132).
5 -
ألا يكون مبخرًا مطيبًا؛ لأحاديث كثيرة تنهى النساء عن التطيب إذا خرجن من بيوتهن، منها ما أخرج الإمام أحمد في المسند
(1)
وأبو داود في السنن
(2)
، والترمذي في السنن
(3)
، والنسائي في المجتبى
(4)
، والحاكم في المستدرك
(5)
من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها؛ فهي زانية» .
وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وحسن إسناده الألباني في الصحيحة
(6)
.
وأخرج مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج متطيبة
(7)
من حديث زينب امرأة عبد الله قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا» .
ومن حديث أبي هريرة
(8)
مرفوعًا: «أيما امرأة أصابت بخورًا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» .
قال ابن دقيق العيد: «وفيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد، لما
(1)
(4/ 413)19726.
(2)
(4/ 79)4173.
(3)
(5/ 106)2786.
(4)
(8/ 153)5126.
(5)
(2/ 430)3497.
(6)
(7)
(1/ 328)443.
(8)
(1/ 328)444.
فيه من تحريك داعية شهوة الرجال»
(1)
.
قال الألباني: «فإذا كان ذلك حرامًا على مريدة المسجد، فماذا يكون الحكم على مريدة السوق والأزقة والشوارع»
(2)
.
ثم إن هذه الأحاديث عامة تشمل جميع الأوقات، وإنما خص العشاء الآخرة بالذكر في حديث أبي هريرة؛ لأن الفتنة وقتها أشد، للظلمة وخلو الطريق، بخلاف غيرها من الأوقات
(3)
.
6 -
ألا يشبه لباس الرجل، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الحدود، باب: نفي أهل المعاصي والمخنثين
(4)
من حديث ابن عباس قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء. وقال:«اخرجوهم من بيوتكم» وأخرج فلانًا، وأخرج عمر فلانًا.
وأخرج في كتاب اللباس، باب: المتشبهين بالنساء، والمتشبهات بالرجال
(5)
من حديث ابن عباس: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. قال الحافظ في الفتح:«قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس»
(6)
.
وقال ابن أبي جمرة في بهجة النفوس
(7)
: «والحكمة في لعن من تشبه؛ إخراجه
(1)
إحكام الأحكام (3/ 101).
(2)
جلباب المرأة المسلمة (139).
(3)
ينظر المرقاة لعلي القارئ (2/ 71).
(4)
(6/ 2508)6445.
(5)
(5/ 2207)5546.
(6)
الفتح (10/ 332).
(7)
ينظر: (3/ 104).
الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله:«المغيرات خلق الله»
(1)
.
7 -
ألَّا يشبه لباس الكافرات، فالرسول صلى الله عليه وسلم حذّر من التشبه بالكفار، أخرج مسلم في صحيحه
(2)
من حديث عبد الله بن عمرو أخبره قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين. فقال: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» .
8 -
ألَّا يكون لباس شهرة، أخرج أحمد في المسند
(3)
، وأبو داود في السنن
(4)
، وابن ماجه في السنن
(5)
من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة» .
وحسن إسناده الألباني في جلباب المرأة المسلمة
(6)
.
فعلى من تخرج لعملها أن تتقي ربها، وتلزم الستر، يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
(7)
.
الضابط الثامن:
ألا تخلو بالرجل الأجنبي ولا تزاحمه، وأي عمل يقوم على
(1)
أخرجه البخاري (4/ 1853) 4604، ومسلم (3/ 1678) 2125 من حديث ابن مسعود.
(2)
كتاب اللباس والزينة، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر (3/ 1647)2077.
(3)
(2/ 92)5664.
(4)
(4/ 43)4029.
(5)
(2/ 1192) 3606 - 3607.
(6)
(7)
التحريم: (6).
الاختلاط والخلوة، فإن الإسلام يحرمه ويمنعه، أخرج أبو داود في سننه
(1)
من طريق حمزة بن أبي أسيد، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق
(2)
، عليكن بحافات الطريق» فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها؛ ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة
(3)
.
وقد نبه الإمام ابن القيم على خطورة الاختلاط بين الرجال والنساء، وبين أن من آثاره انتشار الأمراض الجنسية فمما قاله حول هذا الأمر: «ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة. واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزيني، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة، ولما اختلط البغايا بعسكر موسيى، وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يوم واحد سبعون ألفًا والقصة مشهورة في كتب التفاسير)
(4)
، فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزي؛ بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات، ولو علم أولياء الأمور ما في ذلك من
(1)
(4/ 369)5272.
(2)
جاء في اللسان (10/ 56): «ليس للنساء أن يحققن الطريق، هو أن يركبن حقها وهو وسطها» مادة (ح ق ق).
(3)
(3/ 511)856.
(4)
ينظر: التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي (1/ 48)، التفسير الكبير للرازي (3/ 85)، الدر المنثور (3/ 611).
فساد الدنيا والرعية قبل الدين؛ لكانوا أشد شيء منعًا لذلك»
(1)
.
وتأمل نتائج الاختلاط ووقائعه:
أ- الحمل غير الشرعي:
- نسبة الحبالى من تلميذات المدارس الثانوية في أمريكا بلغت في إحدى المدن 48%
(2)
.
- دلت الإحصاءات على أن (120) ألف طفل أنجبتهم فتيات بصورة غير شرعية، لا تزيد أعمارهن على العشرين، وأن كثيرًا منهن طالبات في الكليات والجامعات
(3)
.
- أكدت نقابة القومية للمدرسين البريطانيين في -دراسة أجرتها- أن التعليم المختلط أدى إلى انتشار ظاهرة التلميذات الحوامل سفاحًا، وعمرهن أقل من 16 عامًا، كما تبين أن استخدام الفتيات الحبوب منع الحمل في المدارس يتزايد، كمحاولة للحد من هذه الظاهرة دون علاجها واستئصالها من جذورها
(4)
.
ومن أبلغ ما كتب بهذا الصدد مقال لكاتب أمريكي نشره قبل أيام، في صدر إحدى المجلات الفكرية الكبرى، ويحذر فيه الغرب من عواقب ذلك التدهور الذي سيحول الدول الغربية إلى دوائر إغاثة، وإعاشة لضحايا الجنس، ويستهل مقاله بقوله: «إن إحصائيات عام 1979 م تدق ناقوس الخطر
…
فعدد اللواتي يلدن سنويًّا من دون زواج شرعي وفي سن المراهقة لا يقل عن ستمائة ألف فتاة بينهن، لا أقل
(1)
الطرق الحكمية للسياسة الشرعية (288).
(2)
حصوننا مهددة من داخلها لمحمد حسين (69).
(3)
تربية الأولاد في الإسلام لعبد الله علوان (1/ 278).
(4)
إلى غير المحجبات أولًا، لمحمد سعيد (70).
من عشرة آلاف فتاة دون سن الرابعة عشرة من العمر
…
وإذا أضيف إلى ذلك عدد اللواتي يلدن بدون زواج بعد سن المراهقة فإن العدد الإجمالي يتجاوز المليون
…
ومعنى هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية تستقبل مليون طفل سنويًّا من الزنى والسفاح»
(1)
.
ب- الاغتصاب:
إن أكثر حوادث الاغتصاب تحدث في المدارس المختلطة حيث يترصد الذكور للإناث في دورات المياه، وهناك ملتقى النجاسات الحسية والمعنوية ولأجل ذلك أصدرت إحدى المدارس في نيويورك بلاغًا عممته على جميع المدرسات والطالبات، حذر من فيه من الذهاب إلى دورات المياه منفردات، وذلك بعد أن تعددت حوادث الاعتداء عليهن من قبل الطلاب الذكور في المدرسة، وعلى إثر ذلك قامت صيحات تنادي بفصل الإناث عن الذكور
(2)
.
- نشرت مجلة الطب النفسي الأمريكية عن الاعتداء الجنسي خلال العمل أن 42% من النساء العاملات يتعرضن له، وأن أقل من 7? فقط من الحوادث يرفع إلى الجهات المسؤولة، وأن 90? من المعتدى عليهن يتأثرن نفسيًّا، و 12? منهن يذهبن لطلب المعونة الطبية النفسية
(3)
.
- أكدت دراسة أجريت في النمسا (عام 1406 هـ - 1986 م) أن 30. 5% من النساء أبلغن عن تعرضهن لتحرشات خطيرة غير أخلاقية.
- كما بينت دراسة أجريت في ألمانيا (عام 1410 هـ - 1990 م) أن 6? من
(1)
نقلًا عن عمل المرأة في الميزان (131).
(2)
مجلة المجتمع الكويتية (340).
(3)
مجلة الطب النفسي الأمريكية (يناير 1994 م رجب 1414 هـ).
النساء استقلن من العمل مرة واحدة على الأقل نتيجة ذلك.
- كما أظهرت دراسة حديثة أن 21? من الفرنسيات، و 58% من النساء الهولنديات، و 74? من البريطانيات تعرضن لتحرشات غير أخلاقية في أماكن العمل، وأن 27? من النساء الإسبانيات واجهن معاكسات لفظية جارحة، واحتكاكات غير مرغوبة
(1)
.
- بل إن الأمر المثير للعجب أن هذه المضايقات والاعتداءات الجنسية، لم تسلم منها حتى موظفات هيئة الأمم المتحدة -التي تتبنى مؤتمرات المرأة- فقد قدم استفتاء إلى السكرتيرات في الأمم المتحدة حول الابتزاز الجنسي لهن أثناء العمل، وقد تم استجواب (875) منهن، وأفادت (50%) منهن بأنهن قد وقعن تحت تأثير هذه المضايقات، والاعتداءات الجنسية شخصيًّا، وذلك قبل مصادرة الاستفتاء من قبل المسؤولين في الأمم المتحدة
(2)
.
جـ- الشذوذ الجنسي:
ورغم وفرة النساء، وسهولة العثور عليهن
…
وشيوع الزبني لدرجة مخيفة في المجتمعات الغربية، فإننا نجد كثيرًا من الظواهر التي لا يمكن تفسيرها بسهولة ومنها انتشار الشذوذ الجنسي
…
وما ذاك إلا لأن كثرة المساس تميت الإحساس، فلم يعد الرجل يحن للمرأة، ولم تَعُدْ تَحِنُّ إليه؛ لأنهما سَئِمَ بعضهما من بعض، فانقلبت الفطر عندهما، وأصبح كل واحد منهما يتفنن في إشباع غرائزه بطريقة حيوانية، ومن العجب أن الشذوذ الجنسي في الحضارة الغربية أصبح أمرًا طبعيًّا لا غبار عليه إذا ما كان بين بالغين بدون إكراه
…
وتكونت آلاف الجمعيات التي تراعي شؤون الشاذين
(1)
نقلًا عن قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية (759 - 760).
(2)
نقلًا عن عمل المرأة في الميزان (189).
جنسيًّا
…
وقد بلغ عدد هؤلاء الشاذين في الولايات المتحدة الأمريكية سبعة عشر مليونًا
…
وهناك معابد وكنائس في الولايات المتحدة تزوج الرجال على الرجال، والنساء على النساء في احتفالات خاصة.
وقد خصصت بعض الجامعات في الولايات المتحدة منحًا دراسية للشاذين ومن تلك الجامعات جامعة سير جورج وليامز التي تخصص كثيرًا من منحها الدراسية للمصابين بالشذوذ الجنسي
…
ولا يمكن الحصول على تلك المنحة إلا إذا كان المتقدم مصابا بالشذوذ الجنسي
…
وفي لوس أنجلوس فقط يجتمع ثلاثمائة ألف شاذ جنسيًّا
(1)
.
د- نكاح المحرمات:
وفي السويد التي تعتبر قمة الحضارة
…
حيث أعلى مستوى المعيشة، فإن الدولة تدرس هناك قانونًا يبيح العلاقة الجنسية بين الأخ وأخته
…
ونشرت صحيفة الهير الدتريبيون في عددها الصادر في 29/ 6/ 1979 م ملخصًا لأبحاث قام بها مجموعة من الأخصائيين من القضاة، والأطباء الأمريكيين حول ظاهرة غريبة ابتدأت في الانتشار في المجتمع الأمريكي، وفي المجتمعات الغربية بصورة عامة
…
وهي ظاهرة نكاح المحرمات، ويقول الباحثون: إن هذا الأمر لم يعد نادر الحدوث، وإنما هو منتشر لدرجة يصعب تصديقها، فهناك عائلة من كل عشر عائلات أمريكية يمارس فيها الشذوذ، والأغرب من هذا أن الغالبية العظمى (85%) من الذين يمارسون هذه العلاقات الشاذة مع بناتهم وأولادهم، أو بين الأخ وأخته، أو الأبن وأمه هم من العائلات المحترمة في المجتمع
…
والناجحة في
(1)
عمل المرأة في الميزان (134).
أعمالها، والتي لا تعاني من أي مرض نفسي، وليسوا من المجرمين ولا من العتاة، وإنما هم في الغالب من رجال الأعمال أو الفنيين الناجحين في أعمالهم وحياتهم
…
(1)
؟!.
فإلى ما قاد الاختلاط، بغاء، أولاد زنى، اغتصاب، شذوذ، نكاح محرمات، وويلات وويلات
…
فهل من مدكر؟!!
• وفي ختام هذا المطلب أشيد بتجربة المملكة العربية السعودية الرائدة القائمة على منع الاختلاط، وفصل الجنسين، تطبيقًا لشرع الله، ولزومًا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنادي جميع دول الإسلام أن تتحرر من التبعية الغربية، وتعود للتمسك بالكتاب والسنة، ففيهما النجاة، وقد لحق المرأة من الاختلاط تبعات أرهقت كاهلها أضف إلى إثارة الفتن، وتأجيج الشهوة.
وإليك سياق كلمة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله مؤسس المملكة العربية السعودية: «
…
وأقبح من ذلك في الأخلاق ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن وترقيتهن، وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها حتى نبذن وظائفهن الأساسية، من تدبير المنزل، وتربية الأطفال، وتوجيه الناشئة التي هي فلذة أكبادهن، وأمل المستقبل إلى ما فيه حب الدين والوطن ومكارم الأخلاق، ونسوا واجباتهن الخلقية، من حب العائلة التي عليها قوام الأمم، وإبدال ذلك بالتهريج والخلاعة، ودخولهن في بورات الفساد والرذائل، واِدعاء أن ذلك من عمل التقدم والتمدن، فلا والله ليس هذا التمدن في شرعنا وعرفنا وعاداتنا، ولا يرضى أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أو إسلام أو
(1)
نقلًا عن عمل المرأة في الميزان (140 - 141).
مروءة أن يرى زوجته أو أحدًا من عائلته أو من المنتسبين للخير في هذا الموقف المخزي.
هذه طريقة شائكة تدفع بالأمة إلى هوة الدمار، ولا يقبل السير عليها إلا رجل خارج من دينه، خارج من عقله، خارج من عربيته.
فالعائلة هي الركن الركين في بناء الأمم، وهي الحصن الحصين الذي يجب على كل ذي شمم أن يدافع عنها.
إننا لا نريد من كلامنا هذا التعسف والتجبر في أمر النساء، فالدين الإسلامي قد شرع لهن حقوقا يتمتعن بها لا توجد حتى الآن في قوانين أرقى الأمم المتمدنة.
وإذا اتبعنا تعاليمه كما يجب فلا نجد في تقاليدنا الإسلامية، وشرعنا السامي ما يؤخذ علينا، ولا يمنع من تقدمنا في مضمار الحياة، والرقي، إذا وجهنا المرأة إلى وظائفها الأساسية، وهذا ما يعترف به كثير من الأوروبيين من أرباب الحصافة والرأي، ولقد اجتمعنا بكثير من هؤلاء الأجانب، واجتمع بهم كثير ممن نثق بهم من المسلمين، وسمعناهم يشكون مر الشكوى من تفكك الأخلاق، وتصدع ركن العائلة في بلادهم من جراء المفاسد. وهم يقدّرون لنا تمسكنا بديننا، وتقاليدنا، وما جاء به نبينا من التعاليم العالية التي تقود البشرية إلى طريق الهدى، وساحل السلامة، ويودون من صميم أفئدتهم لو يمكنهم إصلاح حالتهم هذه التي يتشاءمون منها، وتنذر ملكهم بالخراب والدمار والحروب الجائرة
…
إني لأعجب أكبر العجب ممن يدّعي النور والعلم وحب الرقي لبلاده من هذه الشبيبة التي ترى بأعينها، وتلمس بأيديها ما نوهنا به من الخطر الخلقي الحائق بغيرها من الأمم، ثم لا ترعوي عن ذلك، وتتبارى في طغياها، وتستمر في عمل كل أمر يخالف تقاليدنا
وعاداتنا الإسلامية العربية، ولا ترجع إلى تعاليم الدين الحنيف الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .. »
(1)
.
فرحمه الله كما كان عظيم السياسة، ظاهر الحنكة، عميق النظرة، قاد بلاده للتطور والنجاح والانفتاح على كل مفيد وجديد وفق ضوابط الشرع، وحذا أبناؤه حذوه في سياسته -فوفقهم الله، وأعانهم-.
(1)
جريدة أم القرى (647)، العدد (647) الجمعة 19/ 2/ 1356 هـ واقرأ مقالات أخرى له رحمه الله في عمل المرأة لسالم السالم (44 - 47).
الفصل الخامس شبهات حول قضايا المرأة الاجتماعية
ويتناول هذا الفصل أربعة مباحث:
المبحث الأول: القوامة.
المبحث الثاني: ضرب المرأة.
المبحث الثالث: تعدد الزوجات.
المبحث الرابع: الطلاق.
توطئة:
وما فَتِئ أعداء الدين الحاقدون يثيرون الشبهات حول النصوص الشرعية فيما يتعلق بقضايا المرأة الاجتماعية، مقتطعين من دلالات الكتاب والسنة المتكاملة التي يفسر بعضها بعضًا ما يغررون به أنصاف المتعلمين أو المتعالمين، ويدسون السم في العسل باسم «تحرير المرأة» زعموا، رافعين شعارات العدل والحرية، وويل أم من أطاعهم، ووظفوه لنيّاتهم الفاسدة التي أخبر عنها ربنا فقال:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}
(1)
.
وتأمل -حفظك الله- في قوله: {وَلَا يَزَالُونَ} فإن فيه معنى الدوام والاستمرار، وبيان استحكام العداوة، والإصرار على الفتنة في الدين، ثم انظر إلى غايتهم {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} الحق، إلى دينهم الباطل، وإضافة الدين للمؤمنين؛ لتذكير ما بينهما من العلاقة الموجبة لامتناع الافتراق، ثم طمأن الله قلوب عباده المؤمنين فقال:{إِنِ اسْتَطَاعُوا} إشارة إلى تصلبهم في الدين، وثبات قدمهم فيه، فكأنه قال: وأنّى لهم ذلك
(2)
.
(3)
.
(1)
البقرة: (217).
(2)
ينظر: تفسير أبي السعود (1/ 217).
(3)
الفتح: (28).
المبحث الأول: القوامة
يصور أعداء الدين «القوامة» في شريعة الإسلام على أنها تسلط الرجل على المرأة، وأنها تتعارض مع مبدأ حرية المرأة ومساواتها بالرجل
(1)
، وأن هذا المبدأ ليس إلا بعض مخلفات عهد استعباد النساء، ويرون أن تفرد الرجل بالسلطة لم يعد مقبولًا في زمان استعادت فيه المرأة مكانتها الاجتماعية، ودرست نفس المفاهيم التي يدرسها الرجل، ونالت أعلى الشهادات، واكتسبت خبرة واسعة في الحياة.
وللطعن في مفهوم القوامة في الإسلام يستشهد. ممارسات بعض أفراده، والمنتسبين إليه، وليت شعري أي ظلم ظلموا أنفسهم به حين فسروا الدين من خلال مزاولات أفراده، مع انتساب هؤلاء إلى العلم ومناداتهم به!
إن تفسير «القوامة» العلمي لا بد أن يُفهم في ضوء الكتاب والسنة على حسب ما تقتضيه مناهج البحث العلمي لا البحث المبني على أهواء النفوس المسعورة المولعة بمهاجمة الإسلام والنيل منه، ولو أن هؤلاء وظفوا أبحاثهم وطاقاتهم لتفسير القوامة الصحيح الذي حمى الله به حق المرأة، وحِفظ به كرامتها، لكان لهم أفيد.
(1)
انظر إجراءات سلب قوامة الرجال على النساء في مؤتمرات المرأة الدولية في كتاب «قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية» للدكتور: فؤاد العبد الكريم (454 - 465).
مناقشة الشبهة حول القوامة:
1 - بيان معنى القوامة:
ل ابد من بيان معنى «القوامة» وتحرير لفظه، وما عرفته العرب في لغتهم عن القوامة؛ ليفهم من خلاله الحكمة في اختيار هذا اللفظ، وجعله للرجل دون المرأة.
- قال ابن منظور: «قال ابن بريِّ: قد يجيء (القيام) بمعنى المحافظة والإصلاح، ومنه قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}
(1)
…
و (القوام) العَدْل، قال تعالى:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}
(2)
…
قال الجوهري: وقيِّم القوم الذي (يقومهم) ويسوس أمرهم. قال أبو الفتح ابن جي: قيِّم المرأة: زوجها؛ لأنه يقوم بأمرها، وما تحتاج إليه. وقام الرجل على المرأة: صانها. وفي التنزيل العزيز: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إنما هو من قولهم: قمت بأمرك. فكأنه -والله أعلم- قال: الرجال متكفلون بأمور النساء، معنيون بشؤونهن»
(3)
.
ومما تقدم من المعاني مجتمعة نخلص إلى أن (القِوامة) تأتي بمعنى المحافظة، والسياسة، والنظام، ويشتق منها (القيِّم) بمعنى الذي يسوس الأمور، ويختبر الطرق؛ ليعرف أصلحها وأنسبها.
و (القَوَام) يأتي بمعنى العدل، مما يعني أن المرشح للقوامة يجب أن يكون عادلًا مع المرأة -أمًّا، أو أختًا، أو زوجة، أو بنتًا? والعدل يتطلب منه الإنصاف من
(1)
النساء: (34).
(2)
الفرقان: (67).
(3)
لسان العرب (12/ 497) مادة (ق و م).
نفسه أولًا، فلا يتبع الهوى فيضله عن السبيل الأقوم، فيظلم، أو يبخس.
فالرجل (قِوام) أهل بيته من النساء، والذرية، والموالي، يقيم شأنهم، ويكفيهم الحاجة، ويكون (قيِّما) على سلوكهم، يرشدهم، ويدلهم إلى الأصلح.
واستخدام القرآن صيغة المبالغة في لفظ القِوامة فقال (قوّامون) لترسيخ حق الرعاية، والقيام بالشؤون.
2 - الحكمة من جعل القِوامة للرجال دون النساء:
إن مما لا ينازع فيه عاقل أن الأسرة تجمُّع يَجْمع بين جنسين، ومن مقتضى أمور الحياة أن كل تجمع لا بد له من قائد، ورئيس من بين أفراده؛ ليتولى مهام إصدار القرارات، والإشراف على تنفيذها، ومهما تكن درجة الشورى والديمقراطية في التجمع فلا غنى له في النهاية عن القائد والرئيس الذي يوازن بين المنشورات والآراء المعروضة عليه؛ ليصدر من بينها قراره التنفيذي، فليست الشورى والديمقراطية في أعلى صور تحققهما بمغنية عن منصب الزعيم القائد، وحيث كان الأمر كذلك فإنه فيما يتصل بالأسرة كتجمع فلا بد أنا محتاجة القيادة، إما أن تكون من الرجال أو من النساء، والله تعالى يخبرنا أن ج نس الرجل هو المهيأ بما أودعه الله فيه من صفات لهذه القيادة، وبما أوجبه من النفقات المالية تجاه الأسرة
(1)
.
والحكمة من جعل القوامة للرجال دون النساء، تظهر في قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}
(2)
.
(1)
ينظر: مكانة المرأة في القرآن والسنة لمحمد بتاجي (99)، طبيعة المرأة في الكتاب والسنة لعبد المنعم سيد (164)، المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني (98).
(2)
النساء: (34).
فالقوامة للرجال لسببين:
1 -
{بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي للرجال فضيلة في زيادة العقل والتدبير، ولذا جعل لهم حق القيام على النساء، كما أن للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء؛ لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة؛ فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة فيكون فيه معنى اللين والضعف، فجعل لهم حق القيام بذلك
(1)
، والمولى جل وعلا زوّد المرأة بالرقة والعطف وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة؛ لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها حتى في الفرد الواحد لم تترك لأرجحة الوعي، والتفكير، وبطئه، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية؛ ليسهل تلبيتها فورًا، وفيما يشبه أن يكون قسرا، ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج، ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك؛ لتكون الاستجابة سريعة من جهة، ومريحة من جهة أخرى -صنع الله الذي أتقن كل شيء- وزود الرجل بالخشونة والصلابة وبطء الانفعال والاستجابة، واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة؛ لأن وظائفه كلها من الصيد إلى الجهاد تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام، وإعمال الفكر قبل الخطو. وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة وأفضل في مجالها
(2)
.
ثم إن علماء الإدارة: يقولون: الرئيس رجل، ويظهر هذا جليًّا في رئاسة الدول، والوزارات، والهيئات العلمية، والشركات، بل وعلى مستوى الأسر في الغرب، فعلام يدل ذلك؟! على أن صناعة الإشراف والرياسة متوافرة في الرجل
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 169).
(2)
في ظلال القرآن (2/ 650).
بطبعه أكثر من توافرها في المرأة
(1)
.
بل إن المرأة نفسها تتوق إلى قيام هذه القِوامة على أصلها الفطري في الأسرة، وتشعر بالحرمان والنقص وقلة السعادة عندما تعيش مع رجل لا يزاول مهام القوامة، وتنقصه صفاتها اللازمة؛ فيكل إليها هذه القوامة، وهي حقيقة ملحوظة تسلِّم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام؟!.
2 -
{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، ويأتي السبب الآخر في جعل القوامة للرجل وهو الإنفاق، وفي القانون العالمي «من ينفق يشرف» وهذا ما نصت عليه الآية، وفهم العلماء من قوله تعالى:{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أن الزوج من عجز عن نفقة الزوجة لم يكن قوامًا عليها، وإذا لم يكن قوامًا عليها كان لها فسخ العقد الزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح، وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة، وهذا مذهب مالك والشافعي
(2)
.
(3)
.
- ولهذا حرّم الإسلام على غير المسلم أن يتزوج المسلمة؛ كيلا تتحقق فيها
(1)
ينظر: حقوق الإنسان في الإسلام لعلي عبد الواحد (103).
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 169) وتقدم عرض الخلاف مع الترجيح في ثبوت الفسخ بالإعسار، ص (660) وما بعدها.
(3)
المرأة في القرآن لعباس العقاد (17).
قوامته عليها، وهي أفضل منه عقيدة؛ حيث قال تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
(1)
وأي سبيل أعظم من القوامة، وحق الطاعة؟!.
- وجاء اللفظ القرآني «الرجال قوامون على النساء» ولم يقل: الذكور قوامون على الإناث؛ لأنه ليس كل ذكر قائمًا على الأنثى؛ فقد يكون الذكر طفلًا ناقص الأهلية لا يملك حق القوامة على نفسه فضلًا عن غيره، ولا يستطيع القيام على شؤونه، فكيف يكون قواما على المرأة، بل تكون المرأة والحالة هذه هي الوصية على الذكر
(2)
. فتأمل.
3 - القوامة تكليف ومسؤولية:
إن القوامة في الإسلام تكليف لا تشريف، ومغرم لا مغنم، ومسؤولية وقيادة، وليست تعسفًا واستبدادًا؛ ولذلك أمر الله الرجال بالعشرة بالمعروف مع زوجاتهم فقال:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}
(3)
.
- بل إن آية القوامِة ذاتها دليل على أن القوامة ليست تعسفًا واستبدادًا، وتأمل قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ
(1)
النساء: (141).
(2)
ينظر: المبدع (6/ 101)، المغني (6/ 143).
(3)
النساء: (19).
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}
(1)
ففصل الله تعالى مراحل طاعة المرأة للرجل بعد أن قرر قِوامته عليها، وما هذا إلا دليل قاطع على أن الإسلام يعطي أهمية كبيرة جدًّا لتنظيم ممارسة هذا الحق من قبل الرجل، فيرسم له علاج نشوز الزوجة، ولا يكله إلى حق قوامته المتقرر
- والقوامة عبء على الرجل تلزمه بالسعي في الأرض، وشق الأنفاق، وتحمل المشاق في سبيل كفالة الأسرة، وتوفير الأمن والأمان لها، فهي عبء عليه، وتقييد له تلزمه أن يوفر الأمن، وكفاية الرزق لجوهرته، وهاتان النعمتان امتنَّ الله بهما على قريش فقال:{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}
(2)
ومن البدهي أن الإنسان العاقل، المتصف برجحان عقله، إذا كان في حوزته من المقتنيات ما هو غالي الثمن، وكان مما يُغري الآخرين بسرقته والاستيلاء عليه عُنوة، جعله في حرز مكين، وموضع أمين، بعيدًا عن متناول الأيدي الآثمة التي لا تفرق بين حلال وحرام، ومن لم يفعل ذلك عُدَّ سفيهًا، قاصرًا، ليس له حق الولاية على غيره، فكيف بولي أمر المرأة، وهي أرقى وأثمن من جميع مقتنيات الأرض، أن يتهاون في شأن المحافظة عليها بشتى الوسائل، والطرق بل ويجهد في ذلك.
- ولقد فطنت المحامية الفرنسية «كريستين» إلى هذه الحقيقة حين زارت الشرق المسلم، فكتبت تقول: «سبعة أسابيع قضيتها في زيارة كل من بيروت، ودمشق، وعمان، وبغداد، وها أنا ذا أعود إلى باريس
…
فماذا وجدت؟ وجدت رجلا يذهب إلى عمله في الصباح
…
يتعب
…
يشقى
…
يعمل
…
حتى إذا كان المساء عاد إلى زوجته ومعه الخبز، ومع الخبز حب، وعطف، ورعاية لها ولصغارها. الأنثى في تلك البلاد
(1)
النساء: (34).
(2)
قريش: (4).
لا عمل لها إلا تربية جيل، والعناية بالرجل الذي تحب، أو على الأقل بالرجل الذي كان قدرها. في الشرق تنام المرأة وتحلم وتحقق ما تريد، فالرجل قد وفر لها خبزًا وحبًا وراحة ورفاهية، وفي بلادنا حيث ناضلت المرأة من أجل المساواة، فماذا حققت؟ انظر إلى المرأة في غرب أوروبا، فلا ترى أمامك إلا سلعة، فالرجل يقول لها: انهضي لكسب خبزك، فأنت قد طلبت المساواة، وطالما أني أعمل فلا بد أن تشاركيني في العمل لنكسب خبزنا معًا. ومع الكد والتعب والعمل لكسب الخبز، تنسى المرأة أنوثتها، وينسى الرجل شريكته في الحياة بلا معين ولا هدف»
(1)
.
فوا عجبي لمن يبحث عن شقاء نفسه، بل وينادي به؟!.
• أختم هذا المبحث ب
رسالة أرسلها إلى أخي المسلمة:
أولها: إن علاقة الرجل بالمرأة علاقة تكاملية لا تنافسية فليس بينهما عداء، بل المودة والرحمة والسكن هو المطلب من الارتباط:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
(2)
.
ثانيها: إن دعوة المرأة الغربية لإلغاء قِوامة الرجل عليها، لها ما يبررها، يترجم ذلك واقعها البئيس فهي تعمل وتكدح وتنفق على نفسها دون أي مسؤولية على الرجل
(3)
، وفيه من الظلم لها ما فيه؟!.
وقد عرضت بريطانية مطلقة اسمها (مانيس جاكسون) ابنها الوحيد للبيع
(1)
نقلًا عن «من أجل تحرير حقيقي للمرأة» لمحمد العويّد (95).
(2)
الروم: (21).
(3)
انظر دلائل على هذه المسألة في: قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية (254)، حقوق المرأة في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية لعبد الغني محمود (49)، من أحل تحرير حقيقي للمرأة (101).
بمبلغ ألف جنيه، والمبلغ يشمل ملابس الطفل وألعابه، وقد قالت: إما باعت ابنها؛ لأنها لا تستطيع الإنفاق عليه، وليس لديها دخل لإعاشته
(1)
.
ثالثها: القِوامة في الإسلام ليست قضية أو مسألة عرف، وعادة، أو قانون وضعه الرجل للسيطرة على المرأة، وإنما هي تشريع رباني روعي فيه خصائص الخلق والتكوين لكل منهما، وروعيت فيه مصلحة الأسرة، فوجب على المؤمن والمؤمنة السمع والطاعة:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}
(2)
.
(1)
جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر (15/ 9/ 1400 هـ).
(2)
النور: (51 - 52).
المبحث الثاني: ضرب المرأة
يثير البعض استغرابًا عجيبًا، وتساؤلات عدة حول «ضرب المرأة» وتثور قضية الضرب في ترتيبات العلاقة الأسرية والإنسانية بشكل حاد، وتأخذ موقعًا خاصًا حيث إنه وردت الإشارة إليها في نص قرآني؛ ولأن تأويلاتها التاريخية انصرفت، وانصرفت أفهام الناس وممارساتهم فيها إلى معاني اللطم والصفع والصفق والجلد وما شابه، وما يستتبع ذلك من مشاعر الألم والمهانة، بغض النظر عن قدر المهانة، ومدى هذا الألم أو الأذى البدني.
وانقسم الناس حيال هذا النص بين غال وجاف، وإليك بيان هذه الشبهة ونقضها:
(1)
.
بعد أن قرر الله سبحانه وتعالى حق القوامة للرجل، شرع في تفصيل أحوال
(1)
النساء: (34 - 35).
النساء، وبيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن، وقسمهن إلى:
1 -
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} . وتأمل أوصاف المرأة الصالحة {قَانِتَاتٌ} قال الطبري: يعني مطيعات الله ولأزواجهن
(1)
، ويقول شيخ الإسلام: هي المداومة على طاعة زوجها
(2)
.
فالمرأة الصالحة هي المطيعة لزوجها، المداومة على ذلك من غير انقطاع، ولا يكون ذلك إلا إذا أطاعته امتثالًا لأمر الله عز وجل، واختار سبحانه لفظ «قانتات» ولم يقل «طائعات» لأن مدلول اللفظ الأول نفسي شامل، وظلاله رخية ندية، وهو الذي يليق بالسكن والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة، ويتناسب مع طبيعة المؤمنة الصالحة الملازمة لكل خير بحكم إيمانا وصلاحها
(3)
.
دل على ذلك {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق فهذا يقتضي أن كل امرأة صالحة فهي ولا بد أن تكون قانتة مطيعة
(4)
.
{حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي حافظة لنفسها وبيتها، ومال زوجها، وسره، ولا شك أن المعنى يعم جميع ما ذكر، وهذا وجه من أوجه الإعجاز القرآني اللغوي إذ يعطي اللفظ القليل المعاني الكثيرة، فترتسم بذلك أبعاد الصورة التي يفهمها الإنسان وهو يتلو كتاب ربه عز وجل، ومن اللطائف أن عبر بلفظ (الغيب) ولهذا مقاصده ودلالاته، فالمرأة الصالحة تحفظ أمر نفسها وزوجها
(1)
تفسير الطبري (5/ 57).
(2)
مجموع الفتاوى (32/ 275).
(3)
ينظر: في ظلال القرآن (2/ 647).
(4)
ينظر: التفسير الكبير للرازي (10/ 72).
في غيابه، وبالأولى في حضوره؛ لأنها لا تفعل ذلك خوف سلطته وعقوبته، إنما تفعله ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته
(1)
، وفي الآية ملمح إيماني آخر جدير بالتأمل والاعتبار وهو قوله سبحانه {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} فالذي يحفظ هو الله، وما التوفيق إلا منه سبحانه، وهذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل، وفيه وجه آخر من باب إضافة المصدر إلى المفعول، ويكون المعنى أن المرأة إنما تكون حافظة للغيب بسبب حفظها الله في حدوده وأوامره، ومن ذلك طاعة زوجها
(2)
.
وهذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن شيء من سلطان التأديب
(3)
، لا الوعظ ولا الهجر ولا الضرب؛ لقيامهن بحقوق أزواجهن ابتداءً، فلله در من كانت تلك صفاتها.
• ثم بيّن الله للرجل القسم الثاني من النساء بقوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} .
ونشوز المرأة مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، والمرأة الناشز هي التي ارتفعت عن طاعة زوجها، يقول ابن الأثير:«يقال: نشزت المرأة على زوجها، فهي ناشز وناشزة إذا عصت عليه، وخرجت عن طاعته، ونشز عليها زوجها إذا جفاها وأضر بها، والنشوز كراهة كل واحد منهما صاحبه، وسوء عشرته»
(4)
فالمرأة
(1)
ينظر: تفسير الطبري (5/ 27)، تفسير ابن كثير (11/ 493).
(2)
التفسير الكبير للرازي (10/ 72).
(3)
ينظر: حقوق النساء في الإسلام، لمحمد رشيد رضا (51).
(4)
ينظر: لسان العرب (5/ 418) مادة (ن ش ز).
الخارجة عن طاعة زوجها كالناشز من الأرض الذي خرج عن الاستواء
(1)
.
(2)
.
وقال آخرون معنى تخافون أي: تعلمون وتتيقنون، وذهبوا في ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ، واحتجوا في جواز وقوع الخوف بمعنى اليقين بقول أبي محجن:
ولا تدفني بالفلاة فإنني
…
أخاف إذا ما مِتّ أن لا أذوقها
(3)
ويَرِدُ سؤال للمتأمل: لِمَّ استبدل لفظ العلم، بلفظ الخوف، أو لِمَ لَمْ يقل: واللاتي ينشزن؟
لا جرم أن في تعبير القرآن حكمة لطيفة وهي أن الله تعالى لما كان يحب أن تكون المعيشة بين الزوجين معيشة محبة ومودة وتراض والتام، لم يشأ أن يسند
(1)
النهاية (5/ 55) مادة (ن ش ز).
(2)
التفسير الكبير (10/ 73) وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 493).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (5/ 62)، المحرر الوجيز للأندلسي (2/ 48).
النشوز إلى النساء إسنادًا يدل على أن من شأنه أن يقع منهن فعلًا، بل عبر عن ذلك بعبارة تومئ إلى أن من شأنه أّلا يقع؛ لأنه خروج عن الأصل الذي يقوم به نظام الفطرة، وتطيب به المعيشة، ففي هذا التعبير تنبيه لطيف إلى مكانة المرأة، وما هو الأولى في شأنها، وإلى ما يجب على الرجل من السياسة لها، وحسن التلطف في معاملتها، حتى إذا آنس منها ما يخشى أن يؤول إلى الترفع، وعدم القيام بحقوق الزوجية فعليه أن يسلك سبل التأديب المشروعة
(1)
.
• ثم ابتدأ الرب جل وعلا في ذكر علاج نشوز المرأة مرتِّبًا لها في أمورٍ ثلاثة: الوعظ، ثم الهجر، ثم الضرب، فلا يقدم أحدهما على الآخر بل يأتي بها مرتبة، وهذا الذي يدل عليه السياق، والقرينة العقلية، إذ لو عكس استغنى بالأشد عن الأضعف، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب، وكذا الفاء في {فَعِظُوهُنَّ} لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع، فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر، والترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزاء مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر متدرِّج، فإنما النص هو الدال على الترتيب
(2)
.
(3)
.
(1)
حقوق النساء في الإسلام لمحمد رشيد رضا (51).
(2)
ينظر: روح المعاني للألوسي (5/ 25).
(3)
التفسير الكبير (10/ 73).
ومن هنا يعلم أن علاج نشوز الزوجة على مراحل ثلاثة:
1 -
{فَعِظُوهُنَّ} أي: انصحوهن بالترغيب والترهيب، فتذكر بما أوجبه الله عليها من حسن الصحبة، وجميل العشرة للزوج
(1)
.
والوعظ يختلف باختلاف حال المرأة فمنهن من يؤثر في نفسها التخويف من الله عز وجل وعقابه، ومنهن من يؤثر في نفسها التهديد والتحذير من سوء العاقبة في الدنيا شماتة الأعداء، والمنع من بعض ما ترغبه من ثياب حسنة وحلي، والعاقل من الرجال لا يخفى عليه ما يؤثر في قلب امرأته
(2)
.
2 -
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} و حين لا يؤتي الوعظ ثمرته، يأذن الله تعالى للرجل أن ينتقل من الوعظ إلى الهجر، قال الحافظ:«واختلف أهل التفسير في المراد بالهجران، فالجمهور على أنه ترك الدخول عليهن، والإقامة عندهن على ظاهر الآية، وهو من الهجران وهو البعد، وظاهره أنه لا يضاجعها، وقيل المعين: يضاجعها ويوليها ظهره، وقيل يمتنع من جماعها، وقيل: يجامعها ولا يكلمها، وقيل «اهجروهن» من الهُجر بضم الهاء، وهو الكلام القبيح أي: اغلظوا لهن في القول، وقيل: مشتق من الحجار وهو الحبل الذي يشد به البعير، يقال: هجر البعير، أي ربطه، فالمعنى أوثقوهن في البيوت، واضربوهن، قاله الطبري
(3)
وقواه، واستدل له، ووهاه ابن العربي
(4)
فأجاد»
(5)
.
(1)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 533)، تفسير القرطبي (5/ 171)، تفسير أبي السعود (2/ 174).
(2)
حقوق النساء في الإسلام (51).
(3)
تفسير الطبري (5/ 57).
(4)
أحكام القرآن (1/ 530).
(5)
الفتح (9/ 212) وانظر: تفسير القرطبي (5/ 171)، تفسير ابن كثير (1/ 493)، روح المعاني (5/ 24).
ومن هنا يتبين أن معنى الهجر: الترك، وينقسم إلى قسمين:
- هجر مضجع كما دلت عليه الآية {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} .
- أو هجر بيت، وعليه بوّب البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن. ويذكر عن مُعاوية بن حَيدة رفعه: ولا تهجر إلا في البيت
(1)
. والأول أصح. ثم أورد حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف لا يدخل على بعض نسائه شهرًا
…
الحديث.
(2)
وقال: «
…
والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، فربما كان الهجران في البيوت أشد من الهجران في غيرها، وبالعكس، بل الغالب أن الهجران في غير البيوت آلم للنفوس، وخصوصًا النساء؛ لضعف نفوسهن»
(3)
.
3 -
ثم انتقل في علاج الزوجة الناشز {وَاضْرِبُوهُنَّ} وهذه الكلمة في كتاب الله ضوابط وأحكام إليك بيانها:
أ- ألا يلجأ الرجل إلى الضرب إلا للضرورة، وبعد استنفاد وسيلة الوعظ والهجر في المضجع، وتركه مع هذا أولى تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما ضرب شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله
(4)
، ولأن خيار المسلمين لا
(1)
(5/ 1996)4906.
(2)
قال ابن الأثير في النهاية (2/ 455): «المشربة بالضم، والفتح الغرفة» مادة (ش ر ب).
(3)
الفتح (9/ 212).
(4)
جزء من حديث عائشة أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته (4/ 1813)2328.
يضربون -كما سيأتي- بل جاءت أحاديث في النهي المطلق عن ضرب النساء منها ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: ما يكره من ضرب النساء، وقول الله عز وجل:{وَاضْرِبُوهُنَّ} أي ضربًا غير مبرح
(1)
من حديث عبد الله بن زمعة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر النهار» .
قال الحافظ: «قوله (باب ما يكره من ضرب النساء) فيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقًا، بل فيه ما يكره كراهة تنزيه أو تحريم على ما سنفصله
…
(2)
.
وأخرج الحميدي في المسند
(3)
، وأبو داود في السنن
(4)
، وابن ماجه في السنن
(5)
، والنسائي في السنن
(6)
، وابن حبان في صحيحه
(7)
، والحاكم في
(1)
(5/ 1997)4908.
(2)
الفتح (9/ 212).
(3)
(2/ 386)876.
(4)
(2/ 245)2146.
(5)
(1/ 638)1985.
(6)
(5/ 371)9167.
(7)
(9/ 499)4189.
المستدرك
(1)
، والبيهقي في الكبرى
(2)
من حديث إياس بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا إماء الله «فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئِرن
(3)
النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم» واللفظ لأبي داود.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(4)
.
وتأمل «ولن يضرب خياركم» فما أشبه هذه الرخصة بالحظر.
(5)
، واعلم أن الضرب علاج، والعلاج إنما يحتاج إليه عند الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
(1)
(2/ 208)2774.
(2)
(7/ 304)14552.
(3)
ذئِرن أي: نشزن وتغيرت أخلاقهن.
ينظر: غريب الحديث (1/ 255)، اللسان (4/ 301) مادة (ذ أ ر).
(4)
(2/ 245)2146.
(5)
الفتح (9/ 214).
ب- الشريعة الإسلامية قيدت استخدام الضرب بقيود:
1 -
ألا يوالي الضرب في محل واحد، وأن يتقي الوجه، لأنه مجمع المحاسن
(1)
. وقد تقدم
(2)
من حديث معاوية القشيري قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت» قال أبو داود: ولا تقبح أن تقول: قبحك الله» قال ابن قدامة في المغني
(3)
: «وعليه أن يجتنب الوجه، والمواضيع المخوفة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف» .
2 -
ألا يضرب بسوط ولا عصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأنيب على أبلغ الوجوه
(4)
؛ ولذا جاء في الحديث النهي عن الجلد فقال: «لا يجلد أحدكم امرأته» .
وجاء عن ابن عباس وعطاء أن الضرب يكون بالسواك وما أشبهه
(5)
.
3 -
ألا يكون الضرب مبرحًا، وقد تقدم من حديث جابر
(6)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «
…
فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألّا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح».
(1)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 173).
(2)
ص (645).
(3)
(7/ 243).
(4)
ينظر: التفسير الكبير، للرازي (10/ 73)، تفسير القرطبي (5/ 73).
(5)
ينظر: تفسير الطبري (5/ 68).
(6)
ص (645).
قال النووي: «
…
وأمّا الضرب المبرح فهو الضرب الشديد الشاق، ومعناه: اضربوهن ضربًا ليس بشديد ولا شاق، والبرح المشقة»
(1)
وفسّره الفقهاء بأنه الذي لا يكسر عظمًا، ولا يشين شيئًا؛ لأن القصد منه الإصلاح والتأديب، لا التشفي والهلاك
(2)
.
فإن اعتدى الرجل في ضرب زوجته حتى أفضى إلى التلف، فقد وجب الغرم على مسائل القصاص في كتاب الحدود، يقول النووي:«فإن أفضى إلى تلف وجب الغرم؛ لأنه تبين أنه إتلاف، لا إصلاح، ثم الزوج وإن جاز له الضرب، فالأولى له العفو»
(3)
.
• ثم ختم الرب جل وعلا الآية بقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} ، فإذا رجعت المرأة عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أي: لا تطلبوا عليهن الضرب والهجران طريقًا على سبيل التعنت والإيذاء
(4)
، يقول الشيخ محمد رشيد رضا:«أي إن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية، فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيرها طريقًا، فابدؤوا بما بدأ الله به من الوعظ، فإن لم يفد فليهجر، فإن لم يفد فليضرب»
(5)
وتأمل ختم الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} بصفتي العلو والكبر لله سبحانه، وهذا في غاية الحسن. وبيانه من وجوه:
(1)
شرح صحيح مسلم (8/ 184).
(2)
ينظر: تفسير الثعالبي (1/ 370)، تفسير القرطبي (5/ 172).
(3)
روضة الطالبين (7/ 368).
(4)
ينظر: التفسير الكبير (10/ 74)، تفسير القرطبي (5/ 173)، تفسير ابن كثير (1/ 493).
(5)
حقوق النساء في الإسلام (55).
الأول: أن المقصود منه تمديد الأزواج على ظلم النساء، والمعنى أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم، وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه عليّ قاهر ينتصف لهن منكم، ويستوفي حقهن منكم، فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يدًا منهن، وأكبر درجة منهن.
الثاني: أنه تعالى مع علوه وكبريائه، لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، بل يغفر له، فإذا ثابت المرأة عن نشوزها، فأنتم أولى أن تقبلوا توبتها، وتتركوا معاقبتها.
الثالث: أنه تعالى مع علوه وكبريائه، لا يكلفكم ما لا تطيقون، فكذلك لا تكلفوهن ما لا يطقن، ثم أنتم تؤدبونهن على ذلك
(1)
.
(2)
.
• الإسلام لم يعالج نشوز الزوجة فحسب بل عالج نشوز الزوج أيضًا، يقول تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}
(3)
.
والمتأمل لما سبق يقف على الآتي:
1 -
الزوجة الصالحة القانتة لا سبيل للرجل لتأديبها بالوعظ فضلًا عن الضرب.
(1)
ينظر: التفسير الكبير (10/ 91).
(2)
تفسير القرطبي (5/ 174).
(3)
النساء: (128).
2 -
الضرب آخر مراحل علاج نشوز الزوجة، ولا يقدمه الرجل على الوعظ والهجر.
3 -
وإن أباح الإسلام ضرب المرأة للتأديب إلا أن خيار المسلمين لا يفعلونه تأسيًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 -
قَيَّدَ الإسلام ضرب المرأة بشروط وضوابط.
5 -
إنْ ضرب الرجل زوجته فأفضى إلى تلف فقد وجب الغرم.
6 -
إن أطاعت المرأة زوجها، وانفكت عن نشوزها حَرُم على الرجل إيذاؤها.
7 -
الضرب بالسواك وما شابهه أقل ضررًا من إيقاع الطلاق بالمرأة، لأن الطلاق هدم لكيان الأسرة وتمزيق لشملها، وإذا قيس بالضرر الأعظم كان ارتكاب الأخف أحسن أثرًا.
8 -
يقول العقاد: «ولا اعتراض لأحد من المتقدمين أو المتأخرين على عقوبة من هذه العقوبات جميعًا، فيما خلا العقوبة البدنية، وهو فيما يبدو لأيسر نظرة اعتراض متعجل في غير فهم، وعلى غير جدوى، وليس هذا الاعتراض بالجائز إلا على وجه واحد
…
وهو أن العالم لا تخلق فيه امرأة تستحق التأديب البدني، أو يصلحها هذا التأديب، وإنه لسخف يجوز أن يتحذلق به من شاء على نفسه
…
ولم يخل العالم الإنساني رجالًا ونساء ممن يعاقبون بما يعاقب به المذنبون، فما دام في هذا العالم امرأة من ألف امرأة تصلحها العقوبة البدنية، فالشريعة التي يفوقا أن تذكرها ناقصة، والشريعة التي تؤثر عليها هدم الأسرة مقصرة ضارة، وقد أجازت الشرائع عقوبة الأبدان للجنود، فإذا امتنع العقاب بغيرها لبعض النساء فلا غضاضة على النساء جميعًا في إباحتها، وما قال عاقل أن عقوبة الجناة تفضي إلى الأبرياء، وإلا
لوجب إسقاط جميع العقوبات من جميع القوانين»
(1)
.
9 -
إن تحرير الإسلام للمرأة من الزوج الضارب، يزداد تأكدًا حين نطلع على المجتمعات التي يغيب الإسلام عنها وعن أفرادها، فنرى كم من الرجال يضربون زوجاتهم، وكيف يضربوهن، ويتعالون عليهن. أجريت دراسة أمريكية في عام 1407 هـ - 1987 م أشارت إلى أن 79? من الرجال يقومون بضرب النساء، خاصة إذا كانوا متزوجين منهن، وكانت العينة من طلبة الجامعة، فإذا كان هذا بين طلبة الجامعة، فلا شك في أنه أعلى نسبة بين من هم دونهم تعليمًا.
- وفي دراسة أعدها المكتب الوطني الأمريكي للصحة النفسية جاء فيها أن 17% من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف هن ضحايا ضرب الأزواج أو الأصدقاء، وأن 83% دخلن المستشفيات سابقًا.
- وذكرت دراسة ألمانية أن ما لا يقل عن مائة ألف امرأة تتعرض سنويًّا لأعمال العنف النفسي أو الجسدي التي يمارسها الأزواج.
- وفي فرنسا تتعرض حوالي مليوني امرأة للضرب.
- وفي مدينة «أمستردام» في هولندا، عقدت ندوة اشترك فيها مئتا عضو يمثلون إحدى عشرة دولة، وكان موضوع الندوة «إساءة معاملة المرأة في العالم أجمع» وقالت إحدى المشاركات في الندوة:«إن مسألة إيذاء الزوجات متفشية في كل المجتمعات، وحتى زوجات القضاة والأطباء يلقين الأذى على أيدي أزواجهن، والسلطات غافلة عن هذه المشكلة المأساوية»
(2)
.
وهكذا يضرب غير المسلمين زوجاتهم، دون قيد، وحساب، ولأتفه الأسباب، فأين هم عن الإسلام الذي جعل الضرب الوسيلة الأخيرة في الإصلاح،
(1)
المرأة في القرآن لعباس العقاد (21).
(2)
ما تقدم منقول من: «من أجل تحرير حقيقي للمرأة» لمحمد العويّد (19 - 25).
ضربًا لا يقصد منه الإيلام وإطفاء الغيظ، بقدر ما يقصد منه إعلان الأسف، وعدم الرضا بالسلوك. فهو ضرب إصلاح، وعلاج، لا ضرب إيلام وإزعاج.
ورحم الله الأول حيث قال:
رأيت رجالًا يضربون نساءهم
…
فشلّت يميني يوم أضرب زينبًا
- ثم لا تجد في الإسلام بيت الطاعة، تلك الصورة الكتيبة، التي يستعين فيها الرجل بالشرطة لإذلال المرأة، من أجل إكراهها على الطاعة، أو إسقاط المفروض لها من النفقات بأنواعها
(1)
.
• وهكذا يتَّضحُ بجلاء عدل الإسلام في تشريع (الضرب) للتأديب، وضبطه، وتحديد وقته، فلله الحمد والمنة.
(1)
ينظر: المرأة في التصور الإسلامي لعبد المعتال الجبري (180).
المبحث الثالث: تعدد الزوجات
تتجه سهام النقد -أحيانًا- في الوسط الإسلامي وغيره إلى تعدد الزوجات في الإسلام، وتستهجنه الاتحادات النسائية وأوساط الأسر، والمرأة في الغالب بحكم طبيعتها تكره الضرائر، فتنعق بما ينادي به أهل الأهواء ممن كرسوا أفكارهم وأقلامهم للطعن في هذا الدين الذي تكفل الله ببقائه وإظهاره على الدين كله، فأدخلهم الشيطان في أسره وسخرهم لخدمته. ولا أعرف لماذا يثير الأعداء هذه القضية مع أن الدراسات الإحصائية أثبتت أن نسبة التعدد في الدول الإسلامية لا تتعدى (7 - 10%)
(1)
وهي نسبة ضئيلة لا تستحق هذه الضجة.
نقْضَ شبهة تعدد الزوجات:
مما ينقض هذه الشبهة الآتي:
1 -
لم ينفرد الإسلام بإباحة التعدد، بل كان التعدد مشروعًا في الأديان السماوية، يدل على ذلك في شرعة اليهود ما جاء في مواضع كثيرة من التوراة عن أبناء الأنبياء وغيرهم ممن عدوا زوجاتهم، فقد ورد في التوراة:«واتخذ لامك» لنفسه امرأتين اسم واحدة: «عاده» ، واسم الأخرى:«صلتم» »
(2)
وجاء فيها: «وإن يعقوب عليه السلام تزوج ابنة خالته: «لا بان» ، وأختها:«لبئة» ، و «بلهة» جارية «أصيل» ، و «زلفة» جارية «لبئة» »
(3)
.
(1)
صحيفة الشرق الأوسط عددها الصادر 15/ 7/ 1400 هـ.
(2)
سفر التكوين، الإصحاح الرابع (19).
(3)
سفر التكوين، الإصحاح التاسع والعشرين.
وأخرج البخاري
(1)
، ومسلم
(2)
من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على مائة امرأة -أو تسع وتسعين- كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله. فلم يقل إن شاء الله، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله. لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون» واللفظ للبخاري.
وقد يرى البعض أن الشريعة المسيحية بعيدة تمامًا عن تعدد الزوجات، لكن الحقيقة أنه لا يوجد نص واحد في النصرانية يمنع التعدد
(3)
(4)
.
إذن فأمر تعدد الزوجات ليس مقصورًا على الشريعة الإسلامية، بل هو في شرائع سابقة له، لا لشيء إلا لأن إباحة تعدد الزوجات هو الأمر الذي يتفق مع الفطرة الصحيحة، ويتناسب مع جبلة الإنسان وطبيعته، ويراعي مصالحه وحاجاته.
(1)
كتاب الجهاد، باب: من طلب الولد للجهاد (3/ 1038)2664.
(2)
كتاب الإيمان، باب: الاستثناء (3/ 1275)1654.
(3)
ينظر: تعدد الزوجات في التاريخ والشرائع السماوية لعادل أحمد (80).
(4)
مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة (162).
2 -
الإسلام أباح التعدد
(1)
، إلا أنه قيده بشرطين:
أ- تحريم الزيادة على الأربع
(2)
. بوّب البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: لا يتزوج أكثر من أربع؛ لقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: يعني مثنى أو ثلاث أو رباع، وقوله جل ذكره:{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}
(3)
.
ب- وجوب العدل.
يقول تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا}
(4)
.
وتأمل شرط الله للعدل في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، فالآية تدل على تحريم التعدد على من يخاف على نفسه ظلم زوجته؛ محاباة للأخرى؛ وتفضيلًا لها عليها، وعلى تحريمه بالأولى إذا كان عازمًا على هذا الظلم بأن كان يريد أن يضارها لكرهه لها
(5)
.
فعند الخوف من عدم العدل فضلًا عن تيقنه يحرم على العبد التعدد؛ لما فيه من
(1)
ينظر تفصيل القول في حكم التعدد هل هو على الإباحة أو الندب؟ في كتاب «أحكام التعدد في ضوء الكتاب والسنة» لإحسان العتيبي (18).
(2)
نقل القرطبي الإجماع على ذلك، ونبه على أنه لم يخالف في هذه المسألة إلا الرافضة وبعض أهل الظاهر. ينظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 17)، وانظر الحكمة في قصر الزوجات على أربع عند ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 84 - 85).
(3)
(5/ 1960).
(4)
النساء: (3).
(5)
ينظر: أضواء البيان (1/ 223)، حقوق النساء في الإسلام لمحمد رشيد رضا (65).
مفسدة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ وخلاصة القول في تقدير معنى (الخوف) في الآية، أن المسلم يجب عليه عند إرادة الزوجة الثانية -أو من بعدها- أن يقدر الأمر، ويرجع إلى شواهد حاله، ومقدرته النفسية، والمالية، والجسدية، فإن تيقن أنه لن يعدل، وجب عليه الاقتصار على الواحدة، وإن غلب على ظنه عدم العدل وجب أيضًا ألّا يعدد، ولا يباح له التعدد إلا إذا أمن الظلم، ووثق من إمكان العدل ويسره، أو غلب على ظنه.
وعلل سبحانه لمن خاف على نفسه عدم العدل وجوب الاقتصار على واحدة بقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} أي: ألا تحوروا ولا تظلموا، وهذا المعنى هو ما ذهب إليه أكابر علماء التفسير ابن جرير، والقرطبي، وابن كثير وغيرهم، وهو مذهب جماهير المفسرين
(1)
.
ووجوب العدل بين الزوجات يؤخذ أيضًا من سياق الآية يقول تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} يقول الشنقيطي في أضواء البيان
(2)
: «وقال بعض العلماء معنى الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أي إن خشيتم ذلك، فتحرجتم من ظلم
(1)
ينظر: تفسير الطبري (4/ 160)، تفسير القرطبي (5/ 20)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (32/ 70)، تفسير ابن كثير (1/ 490).
وقال الشافعي في معنى الآية: أي ألا تكثر عيالكم. وقدح فيه الزجاج، وأنكره ابن العربي. ينظر: تفسير الثعالبي (1/ 349)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 407)، فتح القدير للشوكاني (1/ 421).
(2)
(1/ 223) وانظر سبب نزول الآية والتفصيل في المسألة في كتاب «تعدد الزوجات للدكتور/ وهبة الزحيلي (9)، والعدل في التعدد للدكتور عبد الله الطيار (98).
اليتامى، فاخشوا أيضًا وتحرجوا من ظلم النساء بعدم العدل بينهن، وعدم القيام بحقوقهن، فقللوا عدد المنكوحات، ولا تزيدوا على أربع، وإن خفتم عدم إمكان ذلك مع التعدد، فاقتصروا على الواحدة؛ لأن المرأة شبيهة باليتيم؛ لضعف كل واحد منهما، وعدم قدرته على المدافعة عن حقه، فكما خشيتم من ظلمه، فاخشوا من ظلمها».
وقد أخرج أحمد في المسند
(1)
، أبو داود في السنن
(2)
، وابن ماجه في السنن
(3)
، والترمذي في السنن
(4)
، والنسائي في المجتبى
(5)
، وابن حبان في الصحيح
(6)
، والحاكم في المستدرك
(7)
من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» .
قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي، وصححه ابن دقيق العيد كما نقله الحافظ في التلخيص
(8)
، وأقره، وصححه الألباني في الإرواء
(9)
.
- والعدل الذي يطالب الإسلام الرجل به هو العدل في المبيت والإيواء
(1)
(14/ 237)8568.
(2)
(2/ 242)2133.
(3)
(1/ 633)1969.
(4)
(3/ 4417)1141.
(5)
(7/ 163)3942.
(6)
(10/ 7)4207.
(7)
(2/ 203)2759.
(8)
(3/ 201).
(9)
(7/ 80)2017.
والنفقة، لا العدل في الحب والجماع، والله تعالى يقول:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}
(1)
.
- وبوّب البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب: حب الرجل بعض نسائه أفضل من بعض
(2)
، واستشهد بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن عمر رضي الله عنه دخل على حفصة، فقال: يا بنيَّة لا يغرنَّك هذه التي أعجبها حسنها، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيّاها -يريد عائشة- فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسم.
قال العيني: «ولا حرج على الرجل إذا آثر بعض نسائه في المحبة، إذا سوى بينهن في القسم، والمحبة ما لا تحلب بالاكتساب، والقلب لا يملكها، ولا يستطاع فيها العدل، ورفع الله عز وجل فيها عن عباده الحرج، قال الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(3)
(4)
.
قال ابن قدامة: «لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أنه لا يجب التسوية بين النساء في الجماع، وهو مذهب مالك والشافعي، وذلك لأن الجماع طريقه: الشهوة
(1)
النساء: (129).
وانظر: حول تصحيح فهم بعض الناس الذين قالوا بحرمة التعدد بناءً على فهمهم القاصر لهذه الآية؛ لعدم إمكانية العدل عند د. محمد بتاجي في «مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة» (74)، والدكتور وهبة الزحيلي في «تعدد الزوجات» (15)، و د. عبد الله الطيار في «العدل التعدد» (45)، والأستاذة سوسن الحوّال في المرأة في التصور القرآني (209).
(2)
(5/ 2001)4920.
(3)
البقرة: (286).
(4)
عمدة القارئ (20/ 203).
والميل، ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك؛ فإن قلبه قد يميل إلى إحداهما دون الأخرى، قال تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} قال عبيدة السلماني: في الحب والجماع. وإن أمكنت التسوية بينهما في الجماع كان أحسن وأولى؛ فإنه أبلغ في العدل
…
ولا تحب التسوية بينهن في الاستمتاع بما دون الفرج من القُبل واللمس ونحوها؛ لأنه إذا لم تحب التسوية في الجماع، ففي دواعيه أولى»
(1)
.
3 -
إن فوائد التعدد و مصالحه ظاهرة لا مجال للمكابرة فيها، تعود بالنفع أولًا على النساء، ثم على الرجال والمجتمع، ولعل من أبرزها:
- وجود العقم عند المرأة، أو إصابتها بمرض عضال يمنع من الاستمتاع بها، فلا يكون أصلح ولا أوفق في مثل هذه الحال إلا أن يتزوج بأخرى، وتبقى الزوجة الأولى محظية عند زوجها، ترعى الولد، وتنعم بالعدل المشروط لها.
وما تقدم خير له من الانحراف، أو صب جام غضبه على أهل بيته؛ لعدم قدرتهم على تحقيق مراده وطلبه.
- كراهية الرجل لزوجته، أو شدة رغبته الجنسية وعدم إشباع الواحدة من النساء له، أو قد لا يصبر على أعذار المرأة الشهرية، أفيعذر في الانحراف الجالب للأمراض، ولأولاد الزين، ولا يؤذن له بفتح بيت آخر؛ لكفالة امرأة أخرى؟
- زيادة النساء على الرجال في بعض المجتمعات، أو زيادة عدد العوانس، والأرامل والمطلقات، ما الحل الأمثل لهن؟ أن تقتلها براثن الوحدة، أو تنحرف مع
(1)
المغني (8/ 148) وانظر تفصيلًا نفيسًا لابن القيم حول هذه المسألة في زاد المعاد (5/ 151). وقد فصّل قضايا العدل بين الزوجات د. عبد الله الطيار في كتابه (العدل في التعدد) والأستاذ إحسان العتيبي في كتابه (أحكام التعدد في ضوء الكتاب والسنة).
خدن حرم الشرع الخلوة به فضلًا عن معاشرته؟ يأتي الحل الأمثل لأمثال هؤلاء النسوة، تعدد الزوجات
(1)
.
فالتعدد تحرير للمرأة، وتقييد للرجل.
4 -
ومن العجب أن من يثير الضجة حول تعدد الزوجات من الغربيين أو أذنابهم، يجهلون أو إن شئت فقل يتجاهلون عن أن 75? من الأمريكان يخونون زوجاتهم
(2)
.
فالغرب يعتمد في نظامه على التعدد، ولكن الفرق بين تعدد الغرب الكافر والشرق المسلم، أن تعددهم غير مشروع، ويتم بطريقة لا إنسانية، تظلم فيه المرأة، ويقتات عليها، وترمي بعد الانتهاء منها، لا حق لها إلا الظلم الواقع عليها، ثم إن تعددهم ليس له حد ولا عد، فللرجل أن يطلق شهوته، ويشبع غريزته مع من شاء من النساء، وقد تصل أعدادهن إلى المئات كما حصل لنمر السياسة الفرنسية رجل الألف امرأة؟ ثم يتركها ملطخة بالخزي والعار، حاملة بين أحشائها بعضه، وفي الشرق المسلم يتم التعدد بعقد شرعي، وحقوق على الرجل للمرأة اجتماعية، ونفسية، واقتصادية، فلله الحمد والمنة.
5 -
وإليك -وفقك الله- نقولات لأقوال بعض المنصفين الغربيين في تعدد الزوجات:
- ذكرت جريدة «لندن تورث» بقلم إحدى السيدات الإنجليزيات «لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء، وقل الباحثون عن أسباب ذلك
…
(1)
ينظر: حقوق النساء في الإسلام لمحمد رشيد رضا (69)، تعدد الزوجات في التاريخ والشرائع الإسلامية لعادل أحمد (137)، تعدد الزوجات للدكتور لوهبة الزحيلي (21)، المرأة في التصور القرآني (214).
(2)
صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر 15/ 7/ 1400 هـ.
وإني كامرأة أنظر إليهن، وقلبي ينفطر حسرة، وشفقة عليهن، وإن الدواء الشافي أن يباح للرجل الزواج بأكثر من واحدة، فبذلك تصبح بناتنا ربات بيوت، وإن إرغام الرجال على الاكتفاء بواحدة جعل بناتنا شوارد، ودفعهن إلى التماس أعمال الرجال، وسوف يتفاقم الشر إن لم يبح تعدد الزوجات»
(1)
.
- ومن استطلاع للرأي جرى في الصحافة الأمريكية، ونشرت بعضه «صوت الإسلام» عن رأي الفتيات في التعدد. قالت إحداهن:«تعدد الزوجات في رابعة النهار في رعاية الله، خير من الخليلات في سواد الليل وفي رعاية الشيطان»
(2)
.
- وقالت مجلة «لواء الإسلام» المصرية إن كبير أساقفة الإنجليز أعلن أنه لا يوجد علاج لمنع التحلل الخلقي، والاخبار العائلي اللذين انتشرا بعد الحرب العالمية الثانية إلا بإباحة تعدد الزوجات، فهو على حد تعبيره الذي يمنع المرأة الإنجليزية من الانهيار النفسي، وارتكابها للجريمة والعار، ويرد إليها الكرامة والعزة، حيث لا تكون فراشًا لرجل إلا بكلمة الله»
(3)
.
6 -
ذهب جمهور العلماء
(4)
إلى جواز اشتراط المرأة على الرجل في عقد النكاح ألا يتزوج عليها
(5)
.
(1)
عن جريدة (لندن تورث) الصادرة بتاريخ 10/ 8/ 1949 م نقلًا عن كتاب «الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية» للأستاذ محمد عبد الحكيم، ومحمود الجوهري (125).
(2)
نقلًا عن «الإسلام في قفص الاتهام» لشوقي أبو خليل (24).
(3)
نقلًا عن المرأة في التصور القرآني (222).
(4)
ينظر: الاستذكار (16/ 148)، المغني (9/ 484)، فتح الباري (9/ 217)، مجموع الفتاوى (32/ 164).
(5)
انظر دراسة مستوفاة حول هذا الشرط في كتاب «حق المرأة في اشتراط عدم الزواج عليها» للدكتور: حسن أبو غدة. فقد أجاد وأفاد.
يقول د. حسن أبو غدة: «
…
ومع أني أؤيد القائلين بجواز هذا الشرط، وأوافقهم فيما ذهبوا إليه، فإني أرى أن المرأة تملك حقين في هذا الصدد:
الحق الأول: منع زوجها من الزواج عليها، وذلك بقوة القضاء وسلطته، وهذا حق أساسي لها، يمكن أن تلجأ إليه قبل غيره، وتصر عليه، وقد اكتسبته وملكته بموجب الشرط في العقد الذي وافق عليه الزوج وارتضاه.
والحق الثاني: فسخها عقد النكاح إن اختارت الفسخ وتخلّت عن حقها الأول»
(1)
.
- فهل رأيت دينًا حفظ حق النساء كدين الإسلام!
(1)
المصدر السابق (57) وقد أورد الأدلة على الحق الأول الذي ذكره (62 - 66).
المبحث الرابع: الطلاق
ويعترض بعضهم على جعل الطلاق في يد الذكور دون الإناث، في زمن الحرية والمساواة، ويريدون سلب هذا الحق من الرجل بحجة المصلحة العامة، وانقضاء عصر (الحريم) الأميّات اللاتي راعي القرآن وقت نزوله، وتشريع أحكامه، مناسبة تعاليمه لهن
(1)
، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا، بل ما شرعه الله لعباده خير وعدل ومصلحة ظاهرة لكل قرن يقول تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
(2)
.
نقْضُ الشبهة حول الطلاق:
ولنقْض هذه الشبهة أقول:
1 -
ينبغي أن تتأمل أيّها القارئ الكريم مفهوم الطلاق في الديانات المحرفة ودين الإسلام؛ ليتبين الفرق في التشريع ومراعاة المصالح، وكأني أنظر إلى أعداء الدين لرمي الإسلام بما يشينه؛ على منهجية: رمتني بدائها وانسلت: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} .
إن المدون في شرعة اليهود، وما جرى عليه العمل عندهم، أن الطلاق يباح بغير عذر، كرغبة الرجل أن يتزوج أجمل من امرأته، ولكنه لا يحسن في مثل هذه الحالة، والأعذار عندهم قسمان:
(1)
ينظر: مكانة المرأة في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة (118).
(2)
المائدة: (3).
الأول: عيوب الخلقة، ومنها: العمش، والحول، والبخر، والعرج.
الثاني: عيوب الأخلاق، وذكروا منها الثرثرة، والوقاحة، والوساخة، والزنى أقوى الأعذار عندهم، ويكفي فيه الإشاعة، وأما المرأة فليس لها أن تطلب الطلاق مهما تكن عيوب الزوج، ولو ثبت عليه الزنى ثبوتًا
(1)
.
- وأما الطلاق في المذاهب المسيحية، الراجعة إلى ثلاثة مذاهب رئيسية: الكاثوليكي، والأرثوذكسي، والبروتسنتي، فالمذهب الكاثوليكي يحرم الطلاق تحريمًا باتًا، ولا يبيح فصم الزواج لأي سبب مهما عظم شأنه، وحق الخيانة الزوجية نفسها لا تعد في نظره مبررًا للطلاق، وكل ما يبيحه في حالة الخيانة الزوجية التفرقة الجسمية، مع اعتبار الزوجية بينهما من الناحية الشرعية، فلا يجوز لواحد منهما في أثناء هذه الفرقة أن يعقد على شخص آخر؛ لأن ذلك يُعَدُّ تعددُا، والكنيسة تمنعه.
وتعتمد الكاثوليكية في مذهبها هذا على ما جاء في إنجيل مرقص على لسان المسيح، إذ يقول:«ويكون الاثنان جسدًا واحدًا، إذن ليسا بعدُ اثنين بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان»
(2)
.
والمذهبان المسيحيان الآخران الأرثودوكسي، والبروتسنتي يبيحان الطلاق في بعض حالات محددة، من أهمها الخيانة الزوجية، ولكنهما يحرمان على الرجل والمرأة كليهما أن يتزوجا بعد ذلك، وتعتمد المذاهب المسيحية التي تبيح الطلاق في حالة الخيانة الزوجية على ما ورد في إنجيل متى على لسان المسيح: «من طلق امرأته
(1)
ينظر: حقوق النساء في الإسلام لمحمد رشيد رضا (161).
(2)
مرقص إصحاح (10) آي (8) و (9).
لعلة الزني يجعلها تترى»
(1)
.
وفيما سبق ترى أن اليهود والنصارى انقسموا في الطلاق إلى غال وجاف، وجاءت شريعة الإسلام بالوسطية:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} .
2 -
خصت الشريعة الإسلامية الرجل يجعل حق الطلاق أصلًا في يده بعد ما رسمت منهجه، وضبطت طريقته، وذلك لسببين:
أ- كون الرجل في طبيعته، وفطرته أقرب من المرأة على وجه العموم إلى تحكيم النظر العقلي، وكونها فيما يقابل هذا أقرب منه إلى تحكيم العاطفة وانفعالاتهما، وأسرع في الاستجابة لها منه، مما يجعلها إن أعطيت حق الطلاق أصلًا أسرع إلى النطق به عند احتدام النزاع، ولو في مشادة وقتية يمكن أن ينتهي أثرها -دون فرقة- إذا أطاع من بيده الطلاق صوت العقل الهادئ، ولم يستجب بدافع الانفعال الوقي إلى ما تؤدي إليه المشاعر المحتدمة، وشواهد الحياة تدلنا في كل يوم على أن ثقافة المرأة وحظها الكبير من العلم لا يغيران هذه الفطرة الأصلية التي يضاف إليها ما يعتري المرأة في حالات الحيض، والحمل والولادة، والرضاع، وانقطاع الطمث من عدم توازن هرموني، يصيبها بشيء من الانحراف المزاجي يجعلها أقرب ما تكون إلى الاستجابة لدوافع الشعور الوقتي. وقد حدث في تونس أن أعطيت المرأة حق الطلاق بنفس وسائل الرجل وطرقه، فزادت نسبة الطلاق في تلك السنة أضعافًا مضاعفة، فتم تعديل القانون، وتبين أن أكثر النساء اللاتي أوقعن الطلاق، كان تطليقهن لأزواجهن بسبب ردة فعل عاطفية.
ب- والسبب الثاني: أن الرجل الذي تكلف بكل مطالب الزواج والحياة من
(1)
إنجيل متى: الإصحاح الخامس: 21 - 22. وانظر: تنبيه الأبرار بأحكام الخلع والطلاق والظهار (88 - 89).
مهر ونفقات، هو الذي تصيبه خسارة الطلاق في ماله، ومما لا شك فيه أن هذا يمثل عاملًا قويًّا يدفع الرجل عند مواطن النزاع واحتدام المشاعر إلى مزيد من التروي، وعدم التسرع في أمر الطلاق
(1)
.
3 -
أن الإسلام لم يبح الطلاق مطلقًا، بل اختلفت آراء الفقهاء في حكم الطلاق، ولعل الراجح من هذه الأقوال من رأى حظر الطلاق إلا لحاجة، وللحنابلة تفصيل حسن في حكم الطلاق، يقول ابن قدامة في المغني
(2)
: «فصل: والطلاق على خمسة أضرب: واجب: وهو طلاق المولي
(3)
بعد التربص إذا أبى الفيئة، وطلاق الحكمين في الشقاق إذا رأيا ذلك، ومكروه وهو الطلاق من غير حاجة إليه، وقال القاضي: فيه روايتان:
إحداهما أنه محرم؛ لأنه ضرر بنفسه وزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه، فكان حرامًا كإتلاف المال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا ضرر ولا ضرار»
(4)
.
والثانية: أنه مباح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وفي لفظ «ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق» رواه أبو داود
(5)
.
وإنما يكون مبغوضًا من غير حاجة إليه، وقد سماه صلى الله عليه وسلم حلالًا؛ ولأنه مزيل
(1)
ينظر: مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة (115).
(2)
(7/ 277).
(3)
المولي الذي يحلف بالله عز وجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر، يقول تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227] وبعد انقضاء المدة إمّا أن يطأ أو يطلق.
ينظر: المغني (7/ 415)، الفتح (9/ 426)، حاشية البجيرمي (4/ 46).
(4)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 66)2245. وصححه الألباني في الإرواء (3/ 408) 896. وأطال النفس رحمه الله في تخريجه.
(5)
(2/ 255) 2178 وضعفه الألباني في الإرواء (7/ 106)2040.
للنكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها، فيكون مكروهًا.
والثالث: مباح وهو عند الحاجة إليه؛ لسوء خلق المرأة، وسوء عشرتها، والتضرر بها من غير حصول الغرض بها.
والرابع: المندوب إليه وهو عند تفريط المرأة في حقوق الله الواجبة عليها، مثل الصلاة ونحوها، ولا يمكنه إجبارها عليها، أو تكون له امرأة غير عفيفة. قال أحمد: لا ينبغي له إمساكها، وذلك لأن فيه نقصًا لدينه، ولا يأمن إفسادها لفراشه، وإلحاقها به ولذا ليس هو منه، ولا بأس بعضلها في هذه الحال، والتضييق عليها؛ لتفتدي منه قال الله تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
(1)
ويحتمل أن الطلاق في هذين الموضعين واجب، ومن المندوب إليه الطلاق في حال الشقاق، وفي الحال التي تخرج المرأة إلى المخالفة لتزيل عنها الضرر.
وأما المحظور فالطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه، أجمع العلماء من جميع الأمصار وكل الأمصار على تحريمه، ويسمى طلاق البدعة؛ لأن المطلق خالف السنة وترك أمر الله تعالى ورسوله؛ قال الله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
(2)
.
(1)
النساء: (19).
(2)
الطلاق: (1). ودليله من السنة ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الطلاق، باب:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} من طريق نافع أن ابن عمر بن الخطاب طلق امرأة له، وهي حائض تطليقة واحدة، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء (5/ 2041، 5022).
واختلف أهل العلم في وقوع طلاق البدعة، جمهور الفقهاء على وقوعه مع الإثم، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتابعه تلميذه ابن القيم، وانتصر الشوكاني والشيخ أحمد شاكر لعدم وقوعه. انظر تفصيل المسألة في: مجموع الفتاوى (33/ 20)، حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (6/ 170)، زاد المعاد (5/ 227)، نيل الأوطار (7/ 4)، ونظام الطلاق في الإسلام (30).
فالطلاق لا يباح على إطلاقه في الإسلام ولا يمنع، بل له حالات يظهر منها رعاية الإسلام الأحوال الناس.
3 -
الطلاق في الإسلام آخر مراحل العلاج، فقد مضى
(1)
منهج الإسلام في علاج نشوز الزوجة بالوعظ، ثم الهجر، ثم الضرب، ومعالجة نشوز الزوج ببعث حَكَمٍ من أهله، وحكمًا من أهلها وحين لا تجدي سبل العلاج، فإن القطع هو الدواء، لكنه آخر الدواء وأكرهه، وقد حث الإسلام على عدم التسرع في إيقاع الطلاق، والصبر على النساء يقول تعالى:{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}
(2)
(3)
.
4 -
الطلاق في الإسلام له أحكام وآداب يجب الأخذ بها، ويحرم مخالفتها، وفيه من حفظ حق المرأة ما لا يخفى:
1 -
ألا يصار إليه إلا بعد مسيس الحاجة، وبعد أن تُسْتنفد الوسائل الأخرى لحل مشكلات الزوجين؛ لأن الوئام بينهما من مقاصد الشرع المطهر، وبقاء عقد النكاح مقدم على انفراطها.
2 -
الطلاق لا يقع إلا وفق الصورة الشرعية، وهو طلاق المرأة في طهر لم
(1)
ص (929).
(2)
النساء: (19).
(3)
النساء: (128).
يصبها فيه، أو وهي حامل.
3 -
إتاحة الفرصة للرجعة قبل انقضاء العدة، وتحديد العدد الذي يملك الرجل الرجعة فيه. مرتين، وإلزام الرجل بنفقة المعتدة
(1)
(2)
.
4 -
تحريم أخذ المطلق من مطلقته ما كان أعطاه إيّاها من المهر أو النفقة. يقول تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}
(3)
.
بل إن الإسلام أوجب على الزوج متعة المطلقة
(4)
.
5 -
من طلق زوجته طلاقًا بائنًا أي: طلقها ثلاث طلقات، فليس في استطاعته أن يتزوجها مرة أخرى حتى تنكح زوجًا غيره، وتذوق عسيلته، ويذوق عسيلتها يقول تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا
(1)
تقدم ص (680).
(2)
الطلاق: (1).
(3)
النساء: (20 - 21).
(4)
تقدم البحث فيها بالتفصيل (610).
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
(1)
.
6 -
يحرم عضل المرأة
(2)
من قبل وليها للرجوع إلى زوجها بعقد جديد إن كان الطلاق رجعيًا، أو من الزواج من غيره إن كان بائنًا يقول تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(3)
.
فهل رأيت شرعًا حفظ حقوق المرأة كشرعتنا، إن في طلاق الرجل للمرأة تفويت مهره ونفقته، وإلزامه بنفقه العدة، ووجوب المتعة للمرأة عليه.
5 -
إن لحل رابطة الزوجية ثلاث طرق: فسخ الحاكم للعقد، والخلع، والطلاق، والأول مشترك بينهما، والثاني خاص بالمرأة، والثالث خاص بالرجل.
والإسلام عندما جعل الطلاق في يد الرجل، فقد جعل للمرأة حقًا في فراق الرجل من طريقين:
(1)
البقرة: (229 - 230).
(2)
تقدم معنى العضل وحكمه ص (788).
(3)
البقرة: 232.
1 -
فسخ عقد النكاح: وللمرأة أن تفسخ عقد نكاحها لعيب خِلْقي في الرجل كالعنة والحب والخصاء والجنون والجذام وغيره، أو أن يمتنع الرجل ع ن أداء النفقة الزوجية، فللمرأة فسخ عقد النكاح دون أن تدفع عوضًا ماليًّا على الفسخ؛ لوجود العيب في الزوج
(1)
.
2 -
الخلع: وهو افتداء المرأة من زوجها الكارهة له بمال تدفعه إليه ليتخلى عنها؛ وللخلع شروط ثلاثة هي:
أ- أن يكون البغض من الزوجة، فإن كان الزوج هو الكاره لها، فليس له أن يأخذ منها فدية، وإنما عليه أن يصبر عليها، أو يطلقها إن خاف أن يظلمها.
ب- ألا تطلب الزوجة الخلع حتى تبلغ درجة من الضرر تخاف معها ألّا تقيم حدود الله تعالى في نفسها أو في حقوق زوجها.
ج- ألا يتعمد الزوج أذية الزوجة حتى تخالع منه، فإن فعل فلا يحل له أن يأخذ منها شيئًا أبدًا، وهو عاص
(2)
(3)
ومن السنة ما أخرجَه البخاري في صحيحه في كتاب
(1)
ينظر: المغني (7/ 29)، مغني المجتاج (3/ 165)، سبل السلام (3/ 136).
(2)
ينظر: بداية المجتهد (2/ 50)، المغني (7/ 264)، المبدع (7/ 219)، روضة الطالبين (5/ 153)، شرح فتح القدير (4/ 214)، تنبيه الأبرار بأحكام الخلع والطلاق والظهار لعلي الطهطاوي.
(3)
البقرة: (229).
وانظر تفسير الآية في: تفسير الطبري (2/ 463) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 265)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 90)، تفسير القرطبي (3/ 139).
الطلاق، باب: الخلع، وكيف الطلاق فيه، وقول الله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قبل الحديقة، وطلقها تطليقة» .
6 -
من المفارقات العجيبة: في الوقت الذي تحتج فيه المرأة الناعقة بأقوال الغربيين على الطلاق، تحتج المرأة الإنجليزية على أبدية الزواج، وتتضرر المرأة الأمريكية من مساواتها بالرجل فيه، وقد بلغت نسبة الطلاق في أمريكا أكثر من 50%، و 6. 9% في بلجيكا
(1)
.
إن جَعْلَ الطلاق حقًا للمرأة والرجل على السواء، يتم إيقاعه عند القضاء، مغالطة للواقع، وزج بالمرأة في براثن العذاب؛ لما تقدم ذكره وبما سيضرب من مثال؛ لنفترض أن زوجًا ما أراد أن يطلق زوجته، وعزم على ذلك عزمًا وثيقًا لا رجعة فيه، فقيل له: اذهب إلى القاضي لتعرض عليه ما تريد، فذهب إليه، واجتهد بداهة في تجريح الزوجة؛ ليقتنع القاضي، ويحكم له بالطلاق الذي يريده، وسيسأل القاضي الزوجة، وستجتهد هي الأخرى في تجريح الزوج ردًا على ما فعل، ودفاعًا عن نفسها، وهنا سيكون القاضي بين احتمالين لا ثالث لهما:
(1)
نقلًا عن مقال د. صلاح الدين عبد الحميد رئيس المركز الأمريكي للبحوث الإسلامية في واشنطن من مجلة الوفاق الإلكترونية بتاريخ 22/ 7/ 1426 هـ. وانظر حقائق وإحصائيات حول المرأة في الغرب في دراسة «المرأة الغربية رؤية من الداخل» في مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية.
الأول: أن يقتنع بوجهة نظر الزوج فيطلق، وهنا لا نكون قد فعلنا شيئًا سوى الإساءة إلى العلاقة الزوجية التي كانت بينهما إساءة يبعد معها أن تعود علائق المودة والرحمة، بخلاف ما لو كان قرار الطلاق مفردًا لا تشهير فيه ولا فضيحة؛ إن سلب الأزواج سلطة الطلاق وإعطاءها للمحاكم محادة لله ورسوله، وعصيان لشريعته، كما أن أصحاب العقول السليمة يمجونها إذ لا يمكن أن تكون نتائجها سوى ما حدث في أوروبا من تشهير، وفضح للخلافات الأسرية المخجلة، والوقائع الزوجية السيئة في المحاكم علانية.
الاحتمال الثاني: ألّا يقتنع القاضي بالطلاق، فيحكم برفضه، ويأمرهما باستمرار العيش مًعا (دون إرادة الزوج على الأقل) وهنا نسأل: ما هي القوة التي يملكها القاضي أو غيره لجبر الرجل على العيش الكريم مع زوجه، ومعاشرتها بالمعروف؟ هل سيسكن معهما رجل شرطة؟ أم أن المراد هو حملها على الانفصال الجسدي المشروع في القوانين الغربية
(1)
؟، والذي يتخذ كل منهما فيه لنفسه رفيقًا آخر، وخدنًا؟!.
إن نظام الإسلام في الطلاق، ورسم منهجيته نظام عادل لا يباريه أي نظام، كيف وهو نظام رب العالمين:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
وفي كل ما تقدم لا بد أن نفرق بين جمال النظام وعدالته، وسوء استخدامه، ولا يحاكم الدين من خلال تصرفات أفراده؛ لأن هذا خلاف النهج العلمي السليم.
ولأن كل نظام في الدنيا قابل لأن يساء استعماله، وكل صاحب سلطة عرضة لأن يتجاوزها إذا كان سيء الأخلاق، ضعيف الإيمان، ومع ذلك فلا يخطر على
(1)
ينظر: (الزواج قيامه وآثاره وانقضاؤه في القانون الفرنسي) ص (224)، مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة (135 - 136).
البال أن تلغي الأنظمة الصالحة، أو ينادي بإلغائها؛ لأن بعض الناس يسيء استعمالها، ويتجاوز حدود صلاحيته.
إن الإسلام أقام دعامته الأولى في أنظمته على يقظة الضمير المسلم، واستقامته، ومراقبته لربه، وسلك في سبيل تحقيق ذلك أقوم السبل، وإذا رجعنا إلى قاعدة الترجيح بين المصالح والمفاسد، لرأيت أن مصالح إعطاء الرجل حق إيقاع الطلاق تترجح على مفاسد نزعه منه، أو إشراك غيره معه
(1)
.
• وفي ختام هذا المطلب أهمس في أذن الزوجين قائلة: إن الزواج قد شرعه الله لحِكَمٍ سامية، ترجع إلى تكوين الأسر. وتكوينها إنما يكون بالمحافظة على سلامة الحياة الزوجية التي يجد الإنسان في ظلها الوارف السكينة القلبية، والتي يتبادل الزوجان في بهوها الفسيح روح المودة والمحبة، والتي يزدهر في جوها التقي نبت البنين والبنات، فينمو ويثمر؛ ليكون أثرًا صالحًا للوالدين، ولأمتهما
…
إن هذه الحياة أسمى من أن تَسْقُط عَمَدُها، ويخر سقفها، ويقطع سببها؛ لنزاع تافه، ونزعة طائشة فلا المرأة تسمع رغبة زوجها، ولا هو يصبر عليها، وذلك في حين حضور الشيطان للإفساد بينهما، فينجح في مهمته، ويندفع الرجل لإيقاع سلاحه «الطلاق» ليقطع ما أمر الله به أن يوصل، ثم لا يلبثان أن يمتلكهما الأسى والندم، فيذهب بالقلب والشعور ما يريانه على وجوه أطفالهما من الحزن والحيرة، ومظاهر اليتم والتشرد وهما على قيد الحياة، فالله الله في رعاية الميثاق الغليظ، والسكن والمودة.
(1)
راجع تفصيل القضية في (المرأة بين الفقه والقانون) للدكتور مصطفى السباعي (122 - 147).
الخاتمة والتوصيات
الخاتمة والتوصيات
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله على ما أتم وأنعم، وأعطى وأكرم، الحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
وبعد أن منَّ الله عليّ بوافر فضله، وعظيم كرمه بإنهاء هذا البحث وهو «حقوق المرأة في الكتاب والسنة النبوية» تبين أن ما وصلت إليه البشرية في مسيرتها الطويلة من مكاسب للمرأة قد تضمنته نصوص الكتاب الكريم وصحيح السنة، والقواعد والمقاصد العامة في دين الإسلام.
بل إنه مما يظهر جليًّا أنه لا شيء في نصوص الشرع يعوق مسيرة المرأة نحو مزيد من الأخذ بأسباب الكرامة الإنسانية، والتطور الحياتي النافع، بل إن مجموع ما تضمنه الإسلام هو وحده الصالح لقيادة مسيرتها في هذا الطريق نحو آفاق أرقى.
لقد حق لك أيتها المسلمة أن تتباهي وتفاخري نساء العالمين بما أسداه الإسلام إليك من تكريم، واحذري أن تبدلي نعمة الله كفرًا، وتستبدلي الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ إنك المرأة التي تهز المهد بيمينها، والعالم بيسراها، فربما ضُمَّتْ معاطفُ ثوبك على رجل الدنيا وواجدها، وما ينبئك لعل هناك أمة متعثرة تنتظر النَّصفة مِنْ وَضَح رأيه، وفيض بيانه.
إن قضية المرأة تحتاج إلى تحرير وتدليل وتعليل؛ ولن تجد تحريرًا مدعمًا بالتدليل والتعليل كما جاء في شرعة الإسلام، حيث حفظ لها كرامتها وسلامتها
مراعيًّا استعدادها الفطري، وتكوينها الخلقي.
ولم يناد بمساواتها؛ لأن كل مساواة ليست بعدل؛ إذا قضت بمساواة الناس في الحقوق على تفاوت واجباتهم، وكفاياتهم، وأعمالهم، وإنما هي كل الظلم للراجح والمرجوح.
وليس من العدل أو المصلحة أن يتساوى الرجال والنساء في جميع الاعتبارات، مع التفاوت بينهم في الحقوق والواجبات.
وهكذا يجد كل صاحب بصيرة وعاقل منصف متجرد من اتباع الهوى المعمي للبصيرة أن هناك فروقًا بين النوعين الذكر والأنثى، بعضها جذري يتعلق بأصل الخلقة، وبعضها مشتق من ركائز الفطرة، وبعضها مكتسب من طريق النشأة، وما مثل من يدعو إلى المساواة بين النوعين مساواة تامة إلا:{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}
(1)
صم عن سماع الحق، بكم لا يتفوهون به، عمي عن رؤية مسلكه.
لا بد أن تعي كل مسلمة أن دعاوى تحرير المرأة قامت في مجتمعات غربية لا تقيم لها وزنًا، ولا ترفع لها قدرًا، وكعادة كل دعوة خلت من التأصيل، وأسست بنيانها على شفا جرف هار، ننتظر -إن شاء الله- أن ينهار، وقام بإشعال فتيلها، وإذكاء نارها أناس همهم إشباع شهواتهم، وتضخيم أرصدتهم، وكانت النتيجة على تلك الموعودة بالتحرير، والمغررة بالمساواة أن باتت جسدًا بلا روح، وكيانًا متحررًا من مشاعر الفطرة، وانطلقت بلا تعقل ولا تفكر إلى مسالك أوردها المهالك، وصارت سلعة تباع وتشترى، وورقة رابحة لعبدة الدولار والدينار، وتُوجِرَ
(1)
البقرة: (171).
بأنوثتها باسم التقدم، وكشفت عورتها أمام المصورين باسم التمدن، وسلب اسم أبيها وأضيفت إلى اسم زوجها باسم الحرية.
وانتقلت هذه الدعوة -زعموا- حرية المرأة إلى البلاد الإسلامية وبخاصة العربية على أيدي المستشرقين العرب الذين تأثروا بالغرب، وعاشوا فيه، ورجع الدعاة إلى أبواب جهنم إلى مجتمعاتهم بلسان عربي ينطق فكرًا غربيًّا، ينادي بإخراج المرأة، وتغيير نمط الحياة السائد في المجتمع الذكوري، وأن تخرج حين تريد، وتعود كيفما تريد، وتخالط الرجال على كل صعيد، وجاءت دعوة «الحرية» مغلفة مضبة من ورائها دوافع خطيرة أهمها الدعوة إلى تحطيم الأسر، وتدمير الأخلاق، والقيم الإنسانية، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا في محاولة من أتباعها للقضاء على الإسلام، والذين تبنوا الدعوة إلى هذه الحرية -زعموا- يعانون من مشكلة في التركيبة الفكرية، وغبش في الرؤية الثقافية في أقل الحالات، ومشكلة هذه الثقافة أنها بحكم الشد الذي يتنازعها بين الأصالة والمعاصرة أصاب فكر أصحابها شرخ حاد، وشاء الله أن يمتحن قلوب أمة الإسلام عامة بمثل أولئك الذين ثاروا على التراث -كذا زعموا- وإنما هو الإسلام وتعاليمه باسم التقدمية -أعني الغربية- ووجهوا خطابهم إلى المرأة للتحرر، ولاقت هذه الدعوة أرضًا في بلاد الإسلام حين ضعفت صلة المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبدأت المؤثرات البيئية، والتقاليد الاجتماعية والأعراف الجاهلية تزاحم الأصول الشرعية، وتشوه معالم الدين، وصودرت كثير من الحريات باسم الهوى لا بأمر الله، ونالت المرأة النصيب الأوفر منها، وضيق عليها الخناق حتي سلبت حقوقها الشرعية فصار دعاة المرأة بين موقفي الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير، والمهاجم والمدافع.
في حين أن الإسلام جعل للمرأة قضية ثابتة، لها حقوقها وعليها واجباتها،
ولا تتقاضى حقًا، ولا تتلقى واجبًا من مخالب الفتنة الجامحة، ولا من براثن المصنع الشحيح؛ وإنما هي صاحبة هذه الحقوق والواجبات لأنها من خلق الله، على قسطاس المساواة العادلة بين الحقوق والواجبات على سنة التقسيم والتعاون لا على سنة الشقاق والتناضل بالمطالب والحقوق.
نعم لا جدال في الوظيفة المثلى التي تستقل بها المرأة، وهي حماية البيت في ظل السكينة الزوجية من جهاد الحياة، وحضانة الجيل المقبل لإعداده بالتربية الصالحة لذلك الجهاد، وليست هذه الحصة بأصغر الحصتين: ليس تدبير السكينة في الحياة بأهون من تدبير الجهاد، وليس العمل الصالح لسياسة الغد بأهون من العمل الصالح لسياسة اليوم.
ولربما ضَلَّ بعضُ القوم الطريقَ فركب كل من الجنسين رأسه في اللجاجة والشحناء: حقي وحقك، وكفايتي وكفايتك، وسلاحي وسلاحك، وانتصاري وهزيمتك، على النحو الذي سبقنا إليه الغرب القديم والحديث غير محسود على سبقه.
ولكن الأمر الذي نحن منه على أتم يقين أن من سلك هذا الطريق فقد ضل، وسيرد طائعًا أو كارهًا إلى سوائه، بعد أن ذاق وبال خطئه، وأوغل مجتمعه في ضلالته
(1)
.
وبما أني امرأة أعيش في أوساط النساء، وأتنفس مشكلاتهن، وأعي حاجاتهن، وليس راء كمن سمع، أُدرك قضيتين رئيسيتين:
أولهما: جهل المرأة بحقوقها الشرعية التي منحها الإسلام إيّاها، أو معرفتها
(1)
ينظر: المرأة في القرآن للأستاذ: عباس محمود العقاد (135).
وضعف المطالبة بها، أضف إلى الجهل. ما يراد منها ولاسيما في مثل هذه الأوقات من دعاة التغريب ومؤتمرات المرأة
(1)
.
ثانيهما: تسلط بعض الرجال على النساء، وعدم التزام الدليل، والاقتداء بسيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وتغليب العادات والتقاليد الاجتماعية على المفاهيم الشرعية، ويوظفون النصوص الشرعية كما يهوون، ويقتطعون منها ما يرون {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}
(2)
.
ومثل مجتمعاتنا الإسلامية كمثل أي مجتمع خلقه الله لا يخلو من مشاكل تريد حلولًا عاجلة أو آجلة؛ إن النظرة المثالية إلى مجتمعاتنا، وادّعاء أنها مجتمعات لا مشاكل فيها دعوى كاذبة يكشف عوارها وسوءتها الواقع، وتصويرها بأنها مجتمعُ غاب يأكل قويه ضعيفه، زور وبهتان -أيضًا- يفضحه واقع كثير من أبنائه ونسائه، والله أمرنا بالعدل فقال:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}
(3)
.
إن لدينا مشكلات تحتاج إلى علاج، وعلاجها بالرجوع إلى الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته في حجة الوداع:«وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله»
(4)
وموعظته البليغة التي ذرفت منها عيون الصحابة، ووجلت قلوبهم، وسألوه قائلين: كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات
(1)
أنصح أختي المسلمة بقراءة رسالة الدكتوراه للباحث فؤاد العبد الكريم «قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية دراسة نقدية في ضوء الإسلام» .
(2)
البقرة: 85.
(3)
الأنعام: 52.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 890)1218.
الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»
(1)
.
والأخذ بكل مفيد لا يتنافى مع ثوابتنا الشرعية، أو يمس هويتنا الإسلامية.
وأَخْلُصُ في خاتمة البحث إلى هذه التوصيات:
1 -
نشر موقف الإسلام من المرأة عالميًّا، وذلك من خلال مبادرات إسلامية العقد مؤتمرات عالمية عن قضايا المرأة، والأسرة، وحقوق الإنسان من منظور شرعي، تتبناها جهات إسلامية معتبرة.
2 -
قيام القيادات النسائية المسلمة التابعة للجهات الحكومية أو الخيرية، بتحمل المسؤولية، والتنسيق فيما بينها؛ لإصدار وثيقة للأسرة المسلمة، تؤصل فيها الرؤية الشرعية حول المرأة وحقوقها في الإسلام.
3 -
القيام بالمناشط الدعوية التثقيفية من قبل مؤسسات المجتمع ووسائل الإعلام التعريف المرأة بحقوقها الشرعية، والآليات المتبعة للوصول إلى هذه الحقوق، يقدمها كبار العلماء وطلبة العلم، والقضاة، والمسؤولون.
4 -
ضرورة إعادة النظر في خطط تعليم المرأة، بحيث تتفق مع طبيعة المرأة من ناحية، وظروف المجتمع، واحتياجات التنمية من ناحية أخرى.
5 -
اعتماد إدخال الأسرة في مناهج التعليم في المرحلة المتوسطة والثانوية للبنين والبنات، ويشتمل هذا المنهج -كصيغة مقترحة- على: مكانة المرأة في الإسلام، والمفهوم الشرعي للعلاقة بين الرجل والمرأة، وحقوق كل منهما وواجباته، والوسائل الفعالة في تربية الأولاد، وعلاج المشكلات، والشبهات الموجهة للمرأة
(1)
أخرجه أبو داود (4/ 200) 4607، وابن ماجه (1/ 15) 42، والترمذي (5/ 44) 2676، وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4607).
المسلمة وتفنيدها، كما يشتمل هذا المنهج على عرض تاريخي للجهود الرامية لإفساد المرأة والأسرة، وعولمة الحياة الاجتماعية -عمومًا- ومن ثم تقديم دراسة عن أحوال المرأة الغربية، وتقديم الإحصاءات المتعلقة
بحياتها، ورصد الظواهر في تلك المجتمعات ليتبين لهم أنه الحق.
6 -
تكوين هيئات عليا للنظر في كل ما يتعلق بالأسرة من النواحي النفسية، والثقافية، والاجتماعية، والمالية، وتفعيل دور وزارات الشؤون الاجتماعية؛ للقيام بدور فاعل للاستجابة لمتطلبات الحياة.
7 -
تفعيل دور الأئمة والخطباء، وإعطاؤهم دورات شرعية حول حقوق المرأة والرجل وواجباتهما، والإيعاز إليهم بتكثيف التوعية حول الموضوع مع التنبيه على خطورة الأيادي التغريبية على المجتمعات الإسلامية، أو طغيان العادات والتقاليد على المفاهيم الشرعية.
8 -
ضرورة العمل على إيجاد مؤسسات نسائية متخصصة (شرعيًّا- تربويًّا? اجتماعيًّا- نفسيًّا- اقتصاديًّا) من شأنها أن تحفظ حقوق المرأة، وتتبن الدفاع عن قضاياها، وتسهم في توفير الحصانة الشرعية والفكرية، والبناء التربوي للمرأة المسلمة.
9 -
إنشاء مركز متخصص للدراسات والبحوث يتعلق بشؤون المرأة والأسرة في الإسلام يتناول النواحي الشرعية والاجتماعية والنفسية، يستقطب الثلة المتميزة من الباحثين والباحثات؛ لإثراء المجتمع بالدراسات والبحوث التي تقدم النظرة الشرعية الصحيحة لكل ما يتعلق بالمرأة والأسرة ويدرس أوضاع النساء، ومشكلاتهن، ويقدم الحلول المناسبة لهن، ويركز على الآليات المتبعة للحصول على هذه الحقوق، ويعطي تصورات دقيقة عن المؤتمرات الدولية للمرأة، وما ترمي إليه،
كما يحرص هذا المركز على تقديم الاستشارات المجانية للأسرة المسلمة.
10 -
إصدار مجلات علمية متخصصة فيما يتعلق بالمرأة في الإسلام، وتكثيف توزيعها، وإقامة المسابقة عليها.
11 -
لا بد للعلماء والدعاة إلى الله والكُتَّاب أن يقوموا بدورهم، ويزيدوا من نشاطهم في مختلف أقطار العالم الإسلامي؛ لتصحيح بعض الأفكار والممارسات والعادات والتقاليد الاجتماعية التي ليست من الإسلام، واستغلها أعداؤه؛ لعرض شبههم وتوصياتهم باسم حقوق المرأة.
ولا بد من إيصال هذه الرسالة -بنفس المستوى من الحرص والقوة- إلى الغرب، حتى لا يتهم الإسلام من خلال ممارسات بعض أفراده، وهو منها براء.
12 -
مناصحة الغالين والجافين في حقوق المرأة، وبيان الموقف الصحيح منها من خلال مؤتمرات حوارية تعقد بين الطرفين يديرها علماء متخصصون في القضايا الشرعية، بهدف تصحيح الفكر لدى كل منهما.
13 -
عقد مؤتمرات خاصة بالمرأة تدعى إليها الكوادر النسائية المتخصصة من كافة أنحاء العالم الإسلامي لمناقشة مشكلات المرأة، ووضع الحلول المناسبة لها، على أن يتبن المؤتمر إحدى الجهات الإسلامية المعتبرة.
14 -
العمل على توحيد الجهود الإسلامية من خلال المؤتمرات واللجان، والمنظمات الحكومية وغير الحكومية من أجل استكمال النقص، وصياغة مواقف إسلامية موحدة إزاء ما تتضمنه المؤتمرات التي تعقدها الأمم المتحدة، والتي تثار فيها قضايا المرأة.
10 -
إنشاء قناة إعلامية تهتم بقضايا المرأة والأسرة، وتقدم البرامج النافعة والتوجيهات الناجعة، والحوارات الأسرية المثمرة، والبرامج الترفيهية الهادفة
ومعالجة مشكلات المرأة المعاصرة.
وختامًا فإنه لا فلاح للذكر والأنثى إلا برجوع كل منهما لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيامه بواجباته، وستأتيه حقوقه تبعًا؛ وليحذرا كل الحذر من مخالفة أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن في مخالفتهما الغواية والضلال، ولْتعلم المرأة أن الإصلاح منها فهي مربية الرجل، وحاضنته؛ فلتزرع فيه تعاليم الدين الموصية بالمرأة على اختلاف درجة قرابتها؛ لتقطف حقوقها كاملة.
(1)
.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
(1)
النور: (46 - 52).