المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حكم التقليد   - جواب عن سؤال في: - حكم معرفة طالب العلم - حكم التقليد

[حمد بن ناصر آل معمر]

فهرس الكتاب

حكم التقليد

- جواب عن سؤال في:

- حكم معرفة طالب العلم لدليل المسألة.

- حكم التقليد للعاميِّ.

- حكم تقليد المذاهب الأربعة.

للشيخ العلامة

حمد بن ناصر بن عثمان بن مُعَمَّر النجدي التميمي الحنبلي

المتوفى: 1225 هـ

تحقيق وتعليق

د. عبد العزيز بن عدنان العيدان

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن الله تعالى فضَّل العلم النافع وأحب أهله، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، فأعلاهم منزلة عنده أعلمهم به وبشريعته، قال تعالى:(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، وجعل خشيتَه معلَّقةً به فقال:(إنما يخشى الله من عباده العلماء)، فتنافس الناس في القرون الثلاثة المفضلة لتحصيل ذلك العلم، وتنادوا فيما بينهم إليه، واجتهدوا في التحقُّق به، وبذلوا الأموال والأوقات، وتركوا من أجله المُتع والملذات، فكثرت فيهم العلماء، وقلت البدع والضلالات، وكان لهجهم بعد التسبيح والتهليل بـ"حدثنا" و "أخبرنا"، وكانوا

ص: 5

يتعلمون العلم لنفوسهم حتى تزكو، ولقلوبهم حتى تجلو، لا للناس أو للجاه أو ليقال، وكان كيد الشيطان فيهم ضعيفًا، والمتعلم منهم من حبائله فطينًا حصيفًا؛ فظهرت السنن وأُمر بالمعروف ونُهي عن المنكر وقامت سوق الديانة، فكلما أوقد أعداء السنن نار البدع أطفوها بماء النبوة.

وكان مسلكهم في تحصيل العلم آنذاك؛ الرجوع إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن والحديث والتفقُّه فيهما، ثم العمل بمقتضى ذلك والدعوة إليه، واستمروا على ذلك زمانًا صحَّ لهم فيه المأخذ ولم يُعكِّر صفوَه معكِّر.

ولما اتَّسعت رقعة الإسلام، وطالت أطرافه بلاد الأعاجم، وتطاول العهد بالنبوة؛ كثرت الأفهام السقيمة والدواخل الفاسدة، وزاحم أهلَ العلم النافع غيرُهم، وتشعَّبت المقاصد والنيات، فعمد الشيطان بمكايده لدسِّ العلم الضار بالعلم النافع وخَلْطِ بعضه ببعض، حتى إذا ما أراد طالبٌ تحصيل العلم النافع اشتبه عليه بغيره فضلَّ وأضل.

ففي علم الحديث والسير والمغازي؛ سوَّدت الزنادقة والمبتدعة الصحائف بالأخبار الباطلة، فنهض أهل الحديث وحموا الأخبار بحفظها وبيان عللها، قال ابن سيرين: (كانوا لا

ص: 6

يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم).

وفي علم الاعتقاد؛ تكلَّم الفلاسفة ومن تأثَّر بهم بما لا يُعرف في القرون المفضلة، فحرس أهل السنة الحقَّة حمى العقيدة بمصنفاتهم، وبدَّدوا وَهَج الباطل بمواقفهم، وأتوا على بنيان الفلاسفة وأهل الكلام من قواعدهم فخرَّ عليهم السقف من فوقهم.

وفي علم الفقه ومسالك أخذه؛ سلك المقلِّدة والمتعصبة مسلكًا لم يَسبقهم إليه أحد، فتتابع أهل العلم في نقضه، ورموهم من قوس السنة ورماح الآثار، وبيَّنوا المسالك المعرِّفة بأحكام الحلال والحرام.

وهكذا في كل علم من العلوم النافعة الموصلة إلى مرضاة الله، يقيِّض الله من يحرسه من الدواخل الفاسدة، والشبه الملبِّسة، والآراء المضلِّلة، ومنذ ذلك الزمان وأهل السنة يذودون عن حياض العلم، ويجاهدون بأقوالهم وأقلامهم لتمييز النافع منه من ضده، ولإرجاع الناس في سائر العلوم إلى ما كان عليه أهل الزمان الأول، وهم في كل جولة بفضل الله منصورون، وعلى كل باطل بأمر الله ظاهرون؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم:«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» .

ص: 7

وإن ممن برى قلمه وأحضر دواته لحماية جناب العلم النافع: الشيخ حمد بن ناصر بن معمَّر، في جوابٍ له عن المسلك الصحيح في أخذ الفقه ومعرفة الحلال والحرام، وسُمِّيت الرسالة بـ (الَاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ)، وهي رسالتنا هذه

(1)

.

فقد بيَّن فيها رحمه الله أحوال الناس في معرفة أحكام الحلال والحرام والعمل بها، وأنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: المجتهد، الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد، وأن الواجب عليه الاجتهاد لا التقليد.

والقسم الثاني: من كان عاجزًا عن معرفة حكم الله تعالى في مسألة من المسائل؛ كالعامِّيِّ والمتفقِّه القاصر عن النظر: وبين أن مثل هؤلاء فرضهم التقليد.

والقسم الثالث: من كان متوسطًا بين القسمين السابقين، وهو المتفقِّه القادر على النظر والاستدلال، وكانت عنده الآلة التي يُميِّز من خلالها القول الأقرب للدليل، بحيث يشعر برجحان قول على قول: فبيَّن رحمه الله أن مثل هذا يجب عليه النظر والاستدلال والعمل

(1)

للشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بُطين جواب عن سؤالٍ قريبٌ من جواب شيخه الشيخ حمد بن معمَّر في هذه الرسالة مودعة في الدرر السنية 4/ 65.

ص: 8

بما دلَّه عليه الدليل، ولو خالف في تلك المسألة قول مذهبه الذي ينتسب إليه، وذكر كلام العلماء في ذلك.

وهذا القسم الذي أراد المؤلف بيانه والتدليل عليه والإجابة عن الشبهات الواردة عليه؛ هو الذي يطلق عليه كثير من العلماء: مرتبة الاتباع.

وبيَّن رحمه الله خطأ مَن ظن مِن المتفقهة أن المرء إما مجتهد أو مقلد، وأن متفقهة المذاهب والمتعلمين ليسوا من المجتهدين، وإنما هم في عداد المقلِّدين؛ فركنوا بسبب ذلك إلى التقليد، وأعرضوا عن العلم التليد، وسلك جماعة منهم في التعلم والتعليم مسلكًا متواكبًا مع ذلك الظن الخاطئ، فجعلوا تلك المتون - التي جعلها العلماء وسيلة لحفظ العلوم - مقاصد، وتلك المختصرات - التي أعدُّوها تنظيمًا للفهوم - قبلة، فبدَّلوا الفقه بالتقليد، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وخلطوا هذا بذاك، وظنُّوا أن ما هم عليه من التمسك بالتقليد علمًا نافعًا، حتى صار منتهى إرادة الواحد منهم فهم عبارات تلك المختصرات، وحفظ المسائل مجردة عن الدلائل، فتصرَّمت أوقاتهم في معاناة ألفاظها، والانكباب على عباراتها، وانصرف بعضهم بل وأعرض عن معرفة حكم الله تعالى في تلكم المسائل بالبحث عن دلائلها من السنن والآثار.

ص: 9

فبيَّن المؤلف رحمه الله أن الواجب على المتفقِّه القادر على النظر: الاجتهاد حسب قدرته ووسعه لمعرفة حكم الله تعالى في الوقائع والأحكام من خلال النظر في النصوص والأدلة، وذلك إنما يحصل بالدُّرْبة على مسالك الاجتهاد والنظر، وألا يقتصر المعلِّم في تعليمه على توضيح عبارات المتون والمختصرات، وبيان ما أجملته أو تخصيص ما عمَّمته، أو تقييد ما أطلقته، أو التنبيه على ما خالفت فيه راجح المذهب عند المتأخرين.

بل ينبغي على المعلِّم والمتعلِّم أن يسلكوا في التفقُّه ومعرفة الحلال والحرام مسلكًا تبرأ به ذممهم، ويقوموا بالواجب المتوجِّه إليهم، ويجمعوا بين الاستفادة من مصنفات الفقهاء، والدربة على النظر والاستدلال والبحث عن مراد الله تعالى في الأحكام.

وينبغي على المعلِّم أن يقوم بتعظيم الأحاديث والآثار في نفسه وفي نفس الدارس عنده، وأن يستنهض الملكات للنظر فيها والترجيح بينها، فيدرِّب المتفقِّه على التفقُّه والاستدلال، وعلى تقديم الدليل وتعظيمه ولو خالف مذهبه، وأن يعمل بما ترجح عنده لكونه الواجب عليه.

فإن العلماء لما صنفوا المصنفات وكتبوا المختصرات؛ قصدوا من ذلك كله تسهيل العلم على راغبيه، وجمع مسائله لطالبيه؛

ص: 10

ليتحصَّل عند طالب الفقه ملكةً يعرف من خلالها كيفية التعامل مع نصوص الوحي، ومُكْنةً يقدر من خلالها استنباط أحكام ما لم ترد فيه النصوص، فيعبد الله على بصيرة، ويأمر بالمعروف على بصيرة، وينهى عن المنكر على بصيرة.

ولم يقصدوا من كتابة المختصرات أن يكون المقصد والمنتهى فيها معرفة عباراتها والوقوف على مفاهيمها، بحيث يتشاغل الإنسان بها عن الأحاديث والآثار والتفقُّه فيهما.

فإن مثل هذا الأمر هو الذي دعا الإمام أحمد رحمه الله إلى إنكاره على وضع الكتب؛ فقد جاء عنه فيما نقله ابنه عبد الله في مسائله (ص 437)، أنه قال:(كلما جاء رجل وضع كتابًا ويترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه)، وعاب وضع الكتب وكرهه كراهية شديدة.

ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (ولما حدث قليل من هذا، لا يشبه ما أنتم عليه في زمن الإمام أحمد، اشتد إنكاره لذلك)، ثم قال:(ولما ذكر له بعض أصحابه أن هذه الكتب فيها فائدة لمن لا يعرف الكتاب والسنة، قال: إن عرفت الحديث لم تحتج إليها، وإن لم تعرفه لم يحل لك النظر فيها) ينظر: الدرر السنية 1/ 47.

ص: 11

وقد بيَّن ابن بدران سبب كراهية الإمام أحمد لوضع الكتب فقال: (اعلم أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي، وما ذلك إلا ليتوفر الالتفات إلى النقل ويزرع في القلوب التمسك بالأثر) ينظر: المدخل ص 123.

فالإمام أحمد رحمه الله إنما أراد سد الذريعة هجر السنن والآثار، ومن أجاز كتابة الكتب رأى أنها من المصالح المرسلة التي تُعين على جمع العلم وتسهيله على طلابه، وأجمع الكل على أن هذه الكتب والمصنفات إنما هي وسيلة لضبط العلم وحفظه، وأن يُحصِّل الناظر فيها على الآلة التي من خلالها يُدرك مراد الله تعالى، لا أن يُتشاغل بها عن السنن أو تُرد بها الآثار.

ومن ذلك كتابة المختصرات، فإنهم كتبوها ليجمعوا مسائل الأبواب في مذاهبهم بعبارات وجيزة، متضمنةً لمعاني كثيرة؛ فيسهل استحضار المسائل والأحكام، وتكون معينًا للمبتدي وتذكيرًا للمنتهي.

وقد بيَّن الرازي المقصود من كتابة المصنفات، فقال: (فإن قلت: فلم صُنفت كتب الفقه مع فناء أربابها؟ قلت: لفائدتين: إحداهما: استفادة طريق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيفية

ص: 12

بناء بعضها على بعض، والأخرى: معرفة المتفق عليه من المختلف فيه) ينظر: المحصول 6/ 71.

وبيَّن الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فائدة هذه المصنفات، فقال:(فإن قلت: فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب؟ قيل: يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة، وتصوير المسائل، فتكون من نوع الكتب الآلية، أما أن تكون هي المقدمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه، المدعو إلى التحاكم إليها، دون التحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}) ينظر: تيسير العزيز الحميد ص 473.

وعلى كل حال؛ فإن الناس انقسمت مسالكهم في التفقُّه منذ زمنٍ إلى ثلاثة مسالك:

الأول: الاقتصار في التفقه على مختصرات المذهب، دون العناية بالاستدلال والدربة على الترجيح بين الأقوال.

ص: 13

الثاني: التفقُّه على النصوص مباشرة دون الاستفادة من الموروث الفقهي للمذاهب الأربعة إلا قليلًا.

الثالث: وهو التوسط بين المسلكين: بحيث ينتظم المتفقِّه في مذهب من المذاهب الفقهية، يتفقَّه على مختصراتها، وينتفع بما ورَّثه فقهاؤها، وفي الوقت ذاته يكون معظِّمًا للسنة والآثار، لا يقدِّم عليها شيئًا إذا ظهرت له، ويسعى في البحث عنها والتفقه فيها.

فيجمع في هذا المسلك بين الاستفادة من المذاهب الفقهية، والعناية بالنصوص الشرعية.

فأما استفادته من المدارس الفقهية الأربعة؛ فلكونها امتازت بعناية أصحابها بها العناية الفائقة، فالكتب فيها منتظمة مسطَّرة، والمسائل منضبطة محررة، والقواعد حاضرة مقرَّرة، فحُرِّرت الأقوال، وجُمعت الشروط، وذكرت القيود، وأُبعِد القول الشاذ، ونُبِّه على القول الغريب، فانتظم الفقه بمنظومة مترابطة، رُتِّب به ذهن المتفقِّه، وأُعِين على التعلم والتفقُّه.

وأما اشتغاله بالبحث عن دلائل الكتاب والسنة والآثار والنظر فيها وتفهمها؛ فلأنه الأصل الذي تنبغي العناية به، يقول ابن رجب في بيان طريق الرسوخ في العلم: (وأما فقهاء أهل الحديث العامِلُون به، فإنَّ معظمَ همِّهم البحثُ عن معاني كتاب الله عز وجل، وما

ص: 14

يُفسِّرُهُ من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة صحيحها وسقيمِها، ثم التفقُّه فيها وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السُّنة والزهد والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومَن وافقه من علماء الحديث الرَّبَّانيين، وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغُل بما أُحدثَ من الرأي ممَّا لا يُنتفع به ولا يقع)، ثم قال:(ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه، تمكَّن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالباً؛ لأنَّ أصولها تُوجد في تلك الأصول المشار إليها، ولابدَّ أنْ يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة أهل الدين المجمَع على هدايتهم ودرايتهم؛ كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد ومن سلك مسلكَهم، فإنَّ مَن ادعى سلوكَ هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوزَ ومهالك)، ثم قال: (وملاك الأمر كله: أن يُقصد بذلك وجه الله، والتقرب إليه

بمعرفة ما أنزل على رسوله، وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفَّقه الله وسدَّده، وألهمه رشده، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، ومن الراسخين في العلم) ينظر: جامع العلوم والحكم 1/ 249.

ص: 15

‌تنبيه:

نعم؛ قد يحتاج المتعلِّم في أول الطلب إلى دراسة المختصرات دون النظر في الأدلة؛ ليتصور مسائل الفقه وتسلسلها ومعرفة مظانها في كتب الفقهاء، فيَمُرَّ على جملة الفقه مرورًا سريعًا ليحقِّق شيئًا من ذلك، وهذا لا إشكال فيه؛ مواكبة للسنة الكونية في عدم القدرة على أخذ العلم جملة.

وقد يحتاج المتفقِّه إلى حفظ المختصرات والمتون؛ ليتذكر المسائل والشروط والقيود، ويستحضر العلم في صدره، وهذا دأب كثير من العلماء، فقد حفظ الموفق ابن قدامة وأخيه أبي عمر وغيرهما مختصر الخرقي، وحفظ ابن أبي الفهم الحرَّاني وأبو طالب البصري وغيرهما متن الهداية لأبي الخطاب، وحفظ الدجيلي وابن قندس وغيرهما كتاب المقنع، وحفظ كثير من أئمة الدعوة النجدية متن زاد المستقنع، فلا غضاضة في ذلك أيضًا.

وقد يعتني المتفقِّه بعبارات المتون والمختصرات عناية فائقة، وهذا أمر لا يُعاب، وقد جرى عليه عمل المحققين؛ كما جاء في ترجمة العلامة عبد الله أبا بُطين رحمه الله، فقد قال ابن حميد عنه:(إذا قرر مسألة يقول: هذي عبارة المقنع، مثلًا، وزاد عليها المنقِّح كذا ونقص منها كذا، وأبدل لفظة كذا بهذه) ثم قال: (وبموته فُقِد

ص: 16

التحقيق في مذهب الإمام أحمد، فقد كان فيه آية، وإلى تحقيقه النهاية، فقد وصل فيه إلى الغاية) ينظر: السحب الوابلة 2/ 631.

ومع ذلك كله؛ فإن العناية بمثل هذه الأمور لا ينبغي أن تتعدى العناية بعلوم الآلة، بحيث لا تصُدُّه عن المقصد الأسمى في العلم من العناية بكتاب الله وسنة رسوله وآثار الصحابة والنظر فيها والبحث عنها، ولا يصرف همَّته لدراسة مختصرات المذهب أزمنةً طويلة دون الالتفات إلى نصوص الوحيين والبحث عن مراد الله تعالى، مع مُكْنَته على الاستنباط والفهم والترجيح، وقدرته على البحث والاطلاع.

فهذا المسلك الموصوف لك في التفقُّه هو الذي سار عليه المحققون من العلماء في كل مذهب من المذاهب، فقلَّ أن تجد عالمًا بعد القرن الرابع إلا وهو منتسب إلى أحد المذاهب الأربعة، وهو المسلك الذي يريد المؤلف رحمه الله أن يصف لك طرفًا منه في هذه الرسالة المباركة بإذن الله.

ص: 17

نسأل الله تعالى أن يبصرنا في دينه، ويرشدنا لما يحبه ويرضاه، هو ولي ذلك والقادر عليه.

والحمد لله رب العالمين

كتبه

عبد العزيز بن عدنان العيدان

11 جمادى الأولى 1439 هـ

جامع العويضة - الرياض

ص: 18

‌ترجمة المؤلف

(1)

-‌

‌ اسمه ونسبه:

الشيخ حمد بن ناصر ابن الأمير عثمان بن حمد من آل معمَّر، من العناقر من بني سعد إحدى قبائل بني تميم.

ووالد الشيخ يكون خال الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود.

-‌

‌ مولده ونشأته ومشايخه:

وُلد في مدينة العيينة سنة (1160 هـ)، ونشأ بها يأخذ مبادئ العلوم، إلى أن قُتل جدُّه سنة (1173 هـ)، فنزح منها مع والده إلى مدينة الدرعية واستوطنها، وكان عمره آنذاك أربعة عشر عامًا.

(1)

مصادر الترجمة:

-

الأعلام، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، 2/ 273.

-

مشاهير علماء نجد وغيرهم، عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، دار اليمامة، الرياض، ص 157.

-

الدرر السنية في الأجوبة النجدية، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 16/ 383.

-

علماء نجد خلال ثمانية قرون، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، دار العاصمة - الرياض، 2/ 121.

ص: 19

قرأ في الدرعية على كبار أهل العلم فيها آنذاك، منهم:

1 -

شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.

2 -

الشيخ حسين بن غنام نزيل الدرعية، صاحب التاريخ المشهور.

3 -

الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أخو الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

4 -

الشيخ حمد بن مانع.

5 -

الشيخ محمد بن علي بن غريب.

وقرأ على غيرهم حتى أدرك ونبغ نبوغًا تامًّا، وصار من علماء الدعوة ورجالها، وجلس للتدريس بمدينة الدرعية، وعُيِّن على قضاء الدرعية.

وفي عام 1221 هـ عُيِّن رئيسًا لقضاة مكة المكرمة، وصار هو العالم المشرِف على قضاء مكة وتوابعها.

-‌

‌ حياته العلمية وتلاميذه:

جلس الشيخ للتدريس في الدرعية واحتفَّ به الطلاب وجلسوا بين يديه، وصارت مجالسه ودروسه حافلة، فنفع الله به خلقًا كثيرًا.

وقُصد الشيخ حمد بالأسئلة والفتاوى من أنحاء الجزيرة

ص: 20

العربية، فجاءت فتاويه ورسائله بفوائد كثيرة تُنبئ عن حسن فهمه ودقة تعليله.

وتتلمذ له جماعة من علماء الدعوة، منهم:

1 -

ابنه الشيخ الأديب عبد العزيز بن حمد بن معمَّر.

2 -

الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.

3 -

الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.

4 -

الشيخ علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب.

5 -

الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.

6 -

الشيخ إبراهيم بن سيف الدوسري.

7 -

الشيخ عبد العزيز بن عثمان بن شبانة.

8 -

الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين.

9 -

الجد الشيخ حسن بن عبد الله بن عيدان.

10 -

الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين.

11 -

الشيخ سعيد بن حجي.

12 -

الشيخ قرناس بن عبد الرحمن بن قرناس.

وآخرون من علماء الدعوة النجدية رحمهم الله وغفر لهم.

ص: 21

-‌

‌ وفاته:

توفي رحمه الله في مكة المكرمة شهر ذي الحجة عام 1225 هـ، وصلى عليه المسلمون تحت الكعبة، وقبروه في مقبرة البياضة، رحمه الله تعالى.

ص: 22

‌وصف النسخ الخطية

صورة المخطوط

(نسخة (أ) وهي من طرف الشيخ أحمد بن عبد العزيز الجماز جزاه الله خيرًا، بخط عبد الرحمن الشبيلي، وتاريخ النسخ: 28 رجب 1304 هـ، وتقع في (17) ورقة).

ص: 23

صورة المخطوط

(نسخة (ب) من دارة الملك عبد العزيز، ورقمها (5194)، ناقصة الأول والآخر، وعدد أوراقها (6) ورقات)

ص: 24

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مسألة: ما قولكم - نوَّر الله قلوبكم لفك المعضلات، ووفقكم للأعمال الصالحات-: هل يلزم المبتدئين المتعلمين الترقِّي إلى معرفة الدليل الناصِّ على كل مسألة، ومعرفة طرقِه وصحتِه؟ أم تقليد المخرِّجين للحديث أنه صحيح أو حسن يكفيهم؟ أو العمل بالفقهيات المجردة عن الدليل يغنيهم؟ هذا فيمن طلب العلم وتأهل له.

فما الحال في العوام، هل يجزئهم مجرد التقليد؟

وأيضا: حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة، أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فأفيدونا واحتسبوا؛ فإن الحاجة ماسة إلى هذه المباحث، فإن تتفضلوا بطول الجواب، وذكر الدليل ومن قال به، فهو المطلوب.

ص: 27

الجواب وبالله التوفيق:

[وجوب طاعة الرسول دون غيره]

لا ريب أن الله سبحانه فرض على عباده طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} ، وقال تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} إلى قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} .

ولم يوجب الله على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واتفق العلماء على أنه ليس أحد معصومًا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

[نهي الأئمة عن التقليد المذموم]

وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون:

(1)

ذكر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وابن حزم في الإحكام، وابن القيم في إعلام الموقعين وغيرهم، نصوصًا كثيرة في وجوب تقديم الكتاب السنة على غيرهما، وأورد الفلَّاني المالكي (1218 هـ) في مقدمة كتابه:(إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار ص 3) نصوصًا كثيرة في ذلك، وقد صُنِّف في ذم التقليد مصنفات عديدة، فصنف المزني صاحب الشافعي كتاب "فساد التقليد"، وأبو شامة:"المؤمل في الرد إلى الأمر الأول"، وابن دقيق العيد:"التسديد في ذم التقليد"، والمجد الشيرازي:"الإصعاد في رتبة الاجتهاد"، ذكرها جميعًا السيوطي في رسالته:"الرد على من أخلد إلى الأرض"، وهذا أمر لا يحتاج إلى تقرير بل إلى تذكير.

ص: 28

فقال أبو حنيفة: (علمنا هذا رأيٌ، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه)

(1)

.

وقال معن بن عيسى: (سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشرٌ أُخطئ وأُصيب، فانظروا في قولي، فكل ما خالف الكتاب والسنة فاتركوه)

(2)

.

وقال ابن القاسم: (كان مالك يُكثِر أن يقول: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ})

(3)

.

وقال الشافعي: (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة على الطريق فهي قولي)

(4)

.

(1)

ينظر: إعلام الموقعين 2/ 143، من طريق أبي يوسف والحسن بن زياد عنه.

(2)

أخرجه ابن عبد البر بإسناده في جامع بيان العلم وفضله (1435).

(3)

علقه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1445).

(4)

وهذا مما تواتر عن الشافعي كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 40)، ولتقي الدين السبكي رسالة اسمها:(معنى قول الإمام المطلبي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي")، طُبعت ضمن الرسائل المنيرية وطُبعت مفردة.

وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده في مناقب الشافعي نحوًا من ذلك (ص 69)، من طريق حرملة عن الشافعي أنه قال:«كل ما قلت، وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى، ولا تقلدوني» .

وأخرج البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 473)، من طريق الربيع عنه أنه قال:«إذا وجدتم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي؛ فخذوا بالسنة ودعوا قولي؛ فإني أقول بها» .

ص: 29

والإمام أحمد كان يقول: (لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكًا ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا)

(1)

.

وكان يقول: (مِن قلة علم الرجل أن يُقلِّد دينه الرجال)

(2)

.

وقال: (لا تُقلِّد دينك الرجال؛ فإنهم لن يَسْلَموا مِن أن يَغْلُطوا)

(3)

.

[المقلد ليس من أهل العلم]

وقال ابن عبد البر: (أجمعَ الناس على أن المقلِّد ليس معدودًا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله)

(4)

.

(1)

ينظر: إعلام الموقعين (3/ 469).

(2)

المرجع السابق.

(3)

نقلها عنه أبو العباس الفضل بن زياد كما في العدة لأبي يعلى (4/ 1229)، والتمهيد لأبي الخطاب (4/ 408).

ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 469)، فصلًا في نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذكر الفُلَّاني في إيقاظ الهمم فصلًا فيما قاله أبو حنيفة وأصحابه في ذم التقليد (ص 149)، وفصلًا فيما قاله مالكٌ وأصحابه في ذلك (ص 196)، وفصلًا فيما قاله الشافعي وأصحابه (ص 254)، وفصلاً فيما قاله أحمد بن حنبل وأصحابه (ص 281).، وذكر السيوطي في رسالة:(الرد على من أخلد إلى الأرض) فصلًا في الحث على الاجتهاد وذم التقليد.

(4)

هكذا في إعلام الموقعين (2/ 11)، وبمعناه عن ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 992)، وعبارته:(قالوا: والمقلد لا علم له ولم يختلفوا في ذلك)، وقرره ابن القيم في مواضع أخرى من إعلام الموقعين، وكذا الشوكاني في القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد (ص 107).

ونقل القرافي في نفائس الأصول (1/ 181) عن النقشواني قوله: (التقليد قسيم العلم، ومقتضاه ألا يَصدُق في العلم على التقليد)، وأقرَّه عليه.

وقال القاضي عبد الوهاب في كتابه الملخص: (التقليد لا يثمر علمًا، فالقول به ساقط، والذي قلناه قول كافة أهل العلم، وذهب قوم من ضعفة من ينتمي للعمل وممن يفرع على نفسه من استيفاء النظر على واجبه حتى إن يكشف له به فساد مذهب قد تمت له معه رياسة أو حصل له نشوة أو عادة أو عصبية إلى صحة التقليد وأنه يثمر العلم بالمقلد فيه، والدليل على فساد ذلك أن المقلد لا يخلو أن يكون عالمًا بصحة قول من يقلده أو غيره عالم بذلك، فإن كان عالمًا فهذا ليس بمقلد؛ لأنه متبع لقول قد عرف صحته بالطريق الذي به عرف كون قائله محقًّا، وإن كان غير عالم بصحته لم يأمن أن يكون خطأ وجهلًا، فيقدم على اعتقاده ومعتقد الجهل والخطأ ليس بعالم، ولا يقال إن اعتقاده علم، فبطل بذلك كون التقليد علمًا) ينظر: الرد على من أخلد إلى الأرض ص 49.

والمراد من ذلك: أن المقلد الأعمى خارج من زمرة العلماء، وليس معدودًا من ورثة الأنبياء ولو اجتهد في التحصيل، وأن التعصب والتقليد صارا فتنة ربى عليها الصغير وهرم فيها الكبير، حتى صار أكثر الناس لا يعدُّون العلم إلا إياها، بل وصار طالب الحق لديهم مفتون مغبون والله المستعان، قاله ابن القيم في المرجع السابق.

ص: 30

[من شروط القاضي الاجتهاد]

ولهذا جعل الفقهاء من شروط القاضي أن يكون مجتهدًا، فلا يصح أن يتولاه المقلد، هذا الذي عليه جمهور العلماء

(1)

.

(1)

كذا عند المالكية كما في مواهب الجليل (6/ 88)، والشرح الكبير للدردير (4/ 129)، والشافعية كما في المجموع للنووي (20/ 150)، والبحر للروياني (11/ 155)، وكفاية النبيه لابن الرفعة (18/ 77)، والحنابلة فيما نقله المؤلف.

ولم يشترط ذلك الحنفية في المشهور عندهم، وإنما يكفي عندهم أن يقضي بفتوى غيره. ينظر: فتح القدير (7/ 256)، الاختيار لتعليل المختار (2/ 83)، لسان الحكام (ص 218)، حاشية ابن عابدين (5/ 365).

وللحنفية رواية أخرى موافِقة لقول الجمهور، نص عليها محمد بن الحسن في الأصل. ينظر: فتح القدير (7/ 256).

ص: 31

قال في «الإفصاح» : (اتفقوا على أنه لا يجوز أن يُولَّى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة؛ فإنه قال: يجوز ذلك)

(1)

.

وقال الموفق في «المغني» : (يشترط في القاضي ثلاثة شروط:

أحدها: الكمال؛ وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة.

والثاني: العدالة.

والثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية.

وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميًّا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرضَ

(2)

فصلُ الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز؛ كما يُحكم بقول المقومين.

ولنا: قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ،

(1)

ينظر: المسودة في أصول الفقه ص 538.

(2)

في (أ): الغرض من. وهو خطأ.

ص: 32

ولم يقل بالتقليد، وقال:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ، وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، وروى بُريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ» رواه ابن ماجه

(1)

،

والعامي يقضي على جهل، ولأن الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلدًا، فالحاكم أولى

(2)

انتهى

(3)

.

وقال في «الإنصاف» : (ويشترط في القاضي أن يكون مجتهدًا، هذا المذهب المشهور، وعليه معظم الأصحاب.

قال ابن حزم: يشترط كونه مجتهدًا إجماعًا. وقال: أجمعوا على أنه لا يحل لحاكمٍ ولا لمفتٍ تقليدُ رجلٍ، فلا يُحكم ولا يُفتي إلا بقوله.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2315)، وأخرجه أبو داود (3573)، والترمذي (1322)، والحاكم (7012)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه ابن الملقن والألباني، وجود إسناده ابن عبد الهادي، وجمع الحافظ ابن حجر طرقه في جزء له. ينظر: البدر المنير 9/ 552، المحرر في الحديث ص 637، التلخيص الحبير 4/ 340، إرواء الغليل 8/ 235 ..

(2)

في (أ): في الحكم وال. وهو خطأ.

(3)

ينظر: المغني 10/ 36.

ص: 33

وقال في «الإفصاح»

(1)

: الإجماع انعقد على تقليدِ كلٍّ من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم.

واختار في الترغيب: ومجتهدًا في مذهب إمامه للضرورة. واختار في «الإفصاح» : و «الرعاية» : ومقلدًا. قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تعطَّلت أحكام الناس.

وقيل في المقلد: يفتي ضرورة.

وذكر القاضي أن ابن شاقْلَا اعتُرِض عليه بقول الإمام أحمد: لا يكون فقيهًا حتى يحفظ أربعمائة ألف حديث. فقال: إن كنت لا أحفظه فإنني أفتي بقول من يحفظ أكثر منه.

قال القاضي: لا يقتضي هذا أنه كان يقلِّد أحمد؛ لمنعه الفتيا بلا علم.

قال بعض الأصحاب: ظاهره تقليده، إلا أن يُحمَل على أخذ طرق العلم منه.

وقال ابن بشَّار من الأصحاب: لا أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها. قال القاضي: هذا منه مبالغة في فضله.

وظاهر نقل عبد الله: يفتي غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله

(1)

في (أ): الإنصاف. والصواب المثبت.

ص: 34

الشيخ تقي الدين على الحاجة) انتهى ملخصًا

(1)

.

[حكم الفتوى بالتقليد]

وذكر ابن القيم في مسألة التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد؛ لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام؛ ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلِّد لا يطلق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية.

والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلِّد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلِّد العالمَ فيما يفتي به لغيره، وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا

(2)

.

والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله

(3)

.

(1)

ينظر: الإنصاف 28/ 301.

(2)

قال القاضي أبو يعلى: (ذكر ابن بَطَّة في مكاتباته إلى البرمكِي: لا يجوز له أن يفتي بما يسمع مَنْ يفتي، وإنما يجوز أن يقلد لنفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا) ينظر: العدة لأبي يعلى 5/ 1595.

(3)

ينظر: إعلام الموقعين (2/ 86).

بعد أن ذكر المؤلف مذهب الجمهور أن المقلد لا يصح أن يكون قاضيًا، ذكر خلاف العلماء في المقلد هل له أن يفتي أو لا؟

وتنظر المسألة في: صفة الفتوى ص 26، المحصول (6/ 70)، الإبهاج في شرح المنهاج 3/ 268، نهاية السول ص 402، البحر المحيط 4/ 306، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3883)، أصول الفقه لابن مفلح 4/ 1555، شرح الكوكب المنير 4/ 557، إرشاد الفحول 2/ 247، أضواء البيان 7/ 348.

ص: 35

فتبيَّن بما ذكرناه أن المقلِّد ليس بعالم، وأن التقليد إنما يُصار إليه عند الحاجة للضرورة، ولكن قد دعت الحاجة والضرورة إليه من زمن طويل، لا سيما في هذا الوقت.

[أنواع التقليد]

وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع

(1)

:

(1)

الكلام هنا في غير المجتهد، فأما من حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها سواء على الإطلاق، أو في مسألة من المسائل؛ فلا يخلو من حالين:

الأولى: أن يكون قد اجتهد في المسألة وغلب على ظنه حكمٌ: فلا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين إجماعًا، نقله غير واحد.

الثانية: إذا لم يجتهد في المسألة: فاختلفوا في جواز تقليد غيره من المجتهدين مع تمكُّنِه من الاجتهاد، على أقوال، أشهرها:

قول جمهور العلماء والأصوليين: وهو منع التقليد؛ لأنه مأمور بالتفكر والاعتبار وهو قادر عليه، فلم يجز له ترك المأمور.

وقيل: يجوز، ونسبه الرازي والآمدي والقرافي والهندي وغيرهم إلى الإمام أحمد وإسحاق تبعًا لأبي إسحاق الشيرازي، وأما الحنابلة كالمرداوي وابن النجار وغيرهما، فقد نسبوا للإمام أحمد القول بالمنع موافقةً للجمهور، ولما ذكروا القول بالجواز قالوا:(وحُكي عن أحمد)، قال شيخ الإسلام:(وما حُكي عن أحمد من تجويز تقليد العالمِ العالمَ؛ غلط عليه)، وقال أبو الخطاب:(وهذا لا يعرف عن أصحابنا).

وقيل: يجوز عند ضيق الوقت. وفي المسألة أقوال أخرى أوصلها الزركشي إلى أحد عشر قولًا.

تنبيهان:

[الأول]: لا فرق فيما تقدم بين من حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها في جميع الأبواب كحال الأئمة المجتهدين، أو حصلت له الأهلية في مسألة من المسائل، نص على ذلك الآمدي والمرداوي وغيرهما، وقال ابن الزملكاني:(فإذا كان هذا الموصوف - أي: بالاجتهاد الجزئي - يقلِّد الإمام في مسائل يسوغ له التقليد فيها، وقع له في مسألة هذه الأهلية؛ تعيَّن عليه الرجوع إلى الدليل والعمل به، وامتنع عليه التقليد).

[الثاني]: السبب في عدم بلوغ مرتبة الاجتهاد؛ هو القصور في علمي الحديث والنحو، قال السيوطي:(والمجتهد المقيَّد إنما ينقص عن المطلق بإخلاله بالحديث أو العربية)، وإلى ذلك أشار المرداوي.

ينظر: الإحكام للآمدي 4/ 204، المحصول للرازي 6/ 83، نفائس الأصول 9/ 3935، الواضح 5/ 254، نهاية الوصول للهندي 8/ 3909، المسودة ص 468، البحر المحيط 8/ 334، التحبير شرح التحرير 8/ 3987، شرح الكوكب المنير 4/ 515، الرد على من أخلد إلى الأرض ص 42.

ص: 36

[النوع الأول]

أحدها: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلَّد: فهذا لا يجوز، وقد اتفق السلف والأئمة على ذمِّه وتحريمه

(1)

.

(1)

قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر الخلاف في حكم التقليد: (وهذا النزاع إذا لم يكن تبين له القول الموافق للكتاب والسنة، فإن تبين له ما جاء به الرسول؛ لم يجز له التقليد في خلافه باتفاق المسلمين) ينظر: منهاج السنة النبوية 2/ 244.

وبيَّن الشنقيطي في أضواء البيان (7/ 351) وجه تحريم التقليد فقال: (لأن كل اجتهاد يخالف النص، فهو اجتهاد باطل، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد)، وبيَّن رحمه الله أن مثل هذه المسائل التي يظهر فيها الدليل ليست محلًّا للاجتهاد والتقليد أصلًا، وأن شروط الاجتهاد التي يذكرها الأصوليون لا تتناول هذه المسائل التي تكون نصوص الوحي فيها صحيحة واضحة.

مثاله: لو قرأ المتفقِّه في الروض المربع (1/ 260): (وإن كان المصلي في ثلاثية كمغرب، أو رباعية كظهر؛ نهض مكبرًا بعد التشهد الأول، ولا يرفع يديه)، ثم قرأ ما في البخاري (739)، من حديث نافع:«أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه» ، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإنه يجب عليه متابعة السنة، ويحرم التقليد، وهذا ما قام به عَلَمان من الأعلام:

الأول: المرداوي الحنبلي رحمه الله: فإنه لما ذكر في الإنصاف (3/ 578) أن المذهب لا يرفع يديه؛ ذكر الرواية الثانية: بالاستحباب، وقال:(وهو الصواب، فإنه قد صح عنه عليه أفضل الصلاة والسلام: أنه كان يرفع يديه إذا قام من التشهد الأول. رواه البخاري وغيره).

الثاني: النووي الشافعي رحمه الله: لما ذكر المسألة في المجموع (3/ 446)، وقَرَّر أن المشهور من نصوص الشافعي في كتبه والمشهور من مذهبه وقول أكثر أصحابه: القول بعدم استحباب الرفع؛ ذكر بعدها الأحاديث الواردة في سُنِّيَّتها، وصوَّب القول بالاستحباب، ونقل كلام البيهقي أنه قال:(ومذهب الشافعي متابعة السنة إذا ثبتت).

والرملي الذي قلَّده متأخرو الشافعية في مصر، واشتُهِر أنه أُخِذت منهم العهود ألا يقولوا إلا بقوله، لما سئل عن رفع اليدين في هذا الموضع، أجاب:(بأن استحباب رفع اليدين عنده، قال النووي: إنه الصحيح أو الصواب؛ لثبوته في صحيح البخاري وغيره) ينظر: فتاوى الرملي 1/ 146.

ص: 37

قال الشافعي رحمه الله: (أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يَدَعَها لقول أحد من الناس)

(1)

.

[النوع الثاني]

‌النوع الثاني: التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل:

فهذا مذمومٌ أيضًا؛ لأنه عملٌ على جهل، وإفتاء بغير علم، مع قدرته وتَمكُّنِه من معرفة الدليل المرشد، والله تعالى قد أوجب على عباده أن يتقوه بحسب استطاعتهم، فقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»

(2)

.

فالواجب على كل عبدٍ أن يبذُلَ جهده في معرفة ما يَتَّقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله، ولم يكلِّف الله عباده ما لا يطيقونه، بل الواجب على العبد ما يستطيعه من معرفة الحق، فإذا بذل جهده في معرفة الحق فهو معذورٌ فيما خفي عليه

(3)

.

(1)

ينظر: إعلام الموقعين (2/ 11)، وللشافعي في الرسالة ص 425 قريبًا من معناه.

(2)

أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

هذا القسم فيمن كان عنده قدرة على النظر والاستدلال، ولم تحصل له تمام أهلية الاجتهاد في هذه المسألة - ولو كان مجتهدًا في غيرها من المسائل-؛ كما لو كانت المسألة مُعتمِدة على حديث لا يتمكن من معرفة صحته أو على مسألة نحوية لا يُدرِكها.

ويعبر جماعة من الأصوليين عن المسألة: بالعالم الذي لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، هل يجوز لمثله التقليد؟ اختلفوا على قولين:

القول الأول: جواز التقليد؛ لأنه لا بد من انتفاء المعارض، والعلم بانتفائه يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة.

وقد أجاب عن ذلك الزركشي، وأورد المؤلف عن شيخ الإسلام كلامًا يُجاب به عن هذا أيضًا.

وأجاب الرازي بما يصلح أن يكون جوابًا هنا: (وغاية ما في الباب أن يقال: لعله شذ منه شيء، ولكن النادر لا عبرة به، كما أن المجتهد المطلق وإن بالغ في الطلب فإنه يجوز أن يكون قد شذ عنه أشياء).

والقول الثاني، واختاره المؤلف: عدم الجواز، بل يجب عليه أن يعرف ذلك الحكم بدليله، ولو بمراجعة المفتين؛ لما ذكره المؤلف، ولأن له صلاحية معرفة طرق الأحكام بخلاف العامي، قال شيخ الإسلام:(وأكثر علماء السنة على أن التقليد في الشرائع لا يجوز إلا لمن عجز عن الاستدلال; هذا منصوص الشافعي وأحمد، وعليه أصحابهما)، وجزم بهذا القول ابن العربي وابن المنير وغيرهم.

وقال شيخ الإسلام في بيان مذاهب الأئمة في المسألة: (وإن كان قادرًا على الاستدلال ومعرفة ما هو الراجح؛ وتوقَّى بعض المسائل فعدل عن ذلك إلى التقليد، فهو قد اختلف في مذهب أحمد: المنصوص عنه والذي عليه أصحابه: أن هذا آثم أيضًا، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، وحكي عن محمد بن الحسن وغيره: أنه يجوز له التقليد مطلقًا) ينظر: مجموع الفتاوى 20/ 225.

وقال الذهبي: (ولا ريب أن كل من أنس من نفسه فقهًا وسعة علم وحسن قصد؛ فلا يسعه الالتزام بمذهب واحد في كل أقواله؛ لأنه قد تبرهن له مذهب الغير في مسائل، ولاح له الدليل، وقامت عليه الحجة، فلا يقلد فيها إمامه، بل يعمل بما تبرهن، ويقلد الإمام الآخر بالبرهان، لا بالتشهي والغرض) ينظر: سير أعلام النبلاء 8/ 94.

وهذه المرتبة من مراتب الفقهاء هي التي يسميها بعض العلماء بـ (الاتباع)، ويقولون بأن الناس ينقسمون إلى مقلد ومتبع ومجتهد، وهذا قول ابن خويز منداد وابن عبد البر وابن القيم وابن السمعاني وابن أبي العز الحنفي، والشوكاني، والأمين الشنقيطي، وابن باز، وغيرهم، وعلى هذا فالاختلاف في الاصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وإن كان هذا النوع من المتفقهة قد يحتاج إلى التقليد في مواضع كما سيأتي في كلام الشنقيطي.

وعلى كلا القولين، فلا نزاع بين العلماء أنه لو خالف مذهبه لدليل أن ذلك لا يقدح في دينه، قال شيخ الإسلام: (وإذا كان الرجل متَّبعًا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه؛ كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه ولا عدالته بلا نزاع؛ بل هذا أولى بالحق وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ممن يتعصب لواحد معين غير النبي صلى الله عليه وسلم ينظر: مجموع الفتاوى 22/ 248.

وبهذا يُعلم غلط بعض المتفقة الذين يعيبون على من كان عنده شيء من الأهلية مخالفةَ مذهبه للدليل الذي ظهر عنده، وأنهم أولى بالعيب والقدح.

ينظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 787، المحصول للرازي 6/ 26، نفائس الأصول 9/ 3935، نهاية الوصول للهندي 8/ 3909، المحصول لابن العربي ص 155، منهاج السنة النبوية 2/ 244، البحر المحيط 8/ 333، قواطع الأدلة 2/ 340، الاتباع لابن أبي العز الحنفي ص 23.

ص: 39

[النوع الثالث:]

‌النوع الثالث التقليد السائغ:

وهو تقليد أهل العلم عند العجز عن معرفة الدليل، وأهل هذا النوع نوعان أيضًا:

[تقليد العامي]

أحدهما: من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث، ولا ينظرون في كلام العلماء: فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف، بل حكى غير واحد إجماع العلماء على ذلك

(1)

.

[تقليد المتفقه القاصر عن معرفة الدليل]

النوع الثاني: من كان محصِّلًا لبعض العلوم، قد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في كتب متأخري الأصحاب؛ كـ «الإقناع» و «المنتهى» في مذهب الحنابلة، أو «المنهاج» ونحوه في

(1)

بل حكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على وجوب التقليد على مثل هؤلاء.

ومنع منه ابن حزم والشوكاني.

قال شيخ الإسلام: (وأما تقليد العاجز عن الاستدلال؛ فيجوِّزه الجمهور، ومنع منه طائفة من أهل الظاهر).

وعلى كلا القولين: فلا يجب على العاميِّ الاجتهاد في المسألة؛ لأنه عاجز عنه، ولكن مَن منع مِن التقليد كابن حزم؛ أوجب عليه أن لا يقبل فتوى من أفتاه إلا بدليل، بحيث يعلم أن هذا الحكم المفتَى به هو حكم الله تعالى، ولا يعمل به لأنه قول فلان، وهذا ليس من التقليد عند ابن حزم، وهو تقليد عند الجمهور.

فلا يفهم من كلام ابن حزم وغيره أنه يجب على العامي الاجتهاد الذي يذكره الأصوليون، ومن ظن ذلك فقد غلط.

ينظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 942، منهاج السنة 2/ 244، البحر المحيط 8/ 332،، إرشاد الفحول 5/ 245.

ص: 42

مذهب الشافعية، أو «مختصر خليل» ونحوه في مذهب المالكية، أو «الكنز» ونحوه في مذهب الحنفية، ولكنه قاصرُ النظر عن معرفة الدليل ومعرفة الراجح من كلام العلماء: فهذا له التقليد أيضًا؛ إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه، و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}

(1)

.

(1)

هذا النوع من المتفقِّة لا يخلو من حالين:

الأولى: أن يعلم بالحجة ويظهر له الحق في المسألة تخالف مذهبه، سواء بسماع من غيره أو في قراءة أو مذاكرة: فيدخل في التقليد بعد ظهور الحجة، وهو حرام بالاتفاق كما تقدم.

الثانية: ألا يعلم بالحجة ولا يظهر له الحق، ولا يتمكن من معرفة الراجح دليلًا؛ لكون المسألة داخلة في مسائل الاجتهاد التي تتطلب نظرًا وأهلية وهو قاصر عنها: فهذا هو المقصود من هذا القسم، فيجوز له التقليد؛ لما ذكره المؤلف.

وقصور المتفقِّه عن النظر في مسألة من المسائل ينقسم إلى قسمين:

الأول: أن يكون المتفقِّه مفرطًا: وذلك بركونه إلى التقليد مدة طويلة وعزوفه عن التعلم: وهذا مذموم كما ذكر المؤلف رحمه الله، ونص الشنقيطي على أنه ليس بمعذور.

وهذا التفريط كان سببًا من أسباب قلة المجتهدين في بعض الأزمان، قال مجد الدين والد ابن دقيق العيد:(عز المجتهد في هذه الأعصار، وليس ذلك لتعذر حصول آلة الاجتهاد، بل لإعراض الناس في اشتغالهم عن الطريق المفضية إلى ذلك)

الثاني: ألا يكون المتفقِّه مفرطًا: فهذا معذور في التقليد؛ للضرورة، لأنه لا مندوحة له عنه،

وعدم التفريط يكون في صور ذكرها الشنقيطي، منها:

1 -

أن يكون لا قدرة له أصلًا على الفهم، قال شيخ الإسلام فيمن يعجز عن معرفة الحق:(والعجز قد يُعنى به العجز الحقيقي، وقد يعنى به المشقة العظيمة، والصحيح الجواز في هذين الموضعين) ينظر: الاختيارات ص 483.

2 -

أن يكون له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم.

3 -

أن يكون في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجًا؛ لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد، وقد قرره أبو الخطاب أيضًا فقال:(ليس كل من تفقَّه صار من أهل الاجتهاد على ما نجد عليه كثيراً من أهل زماننا، وأيضاً فما يصنع إذا نزلت به حادثة في حال تعلمه قبل أن ينتهي إلى حال الاجتهاد؟).

4 -

ألا يجد كفئًا يتعلم منه، وقد نص عليه شيخ الإسلام أيضًا.

ينظر: التمهيد لأبي الخطاب 4/ 400، مجموع الفتاوى 11/ 514، البحر المحيط 8/ 241، أضواء البيان 7/ 356.

ص: 43

[الرد على من منع هذا النوع من التقليد]

ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة مشهورة؛ وذلك لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد (3056)، وأبو داود (336)، وابن ماجه (572)، من حديث جابر رضي الله عنه، وفيه الزبير بن خُريق وهو لين الحديث.

وأخرجه أحمد (3056)، وأبو داود (337)، وابن ماجه (572)، وابن الجارود (128)، وابن خزيمة (273)، وابن حبان (1314)، والحاكم (630)، من طرق عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه انقطاع بين الأوزاعي وعطاء، وتابعه الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح عن عطاء، وهو ضعيف أيضًا.

فلا يخلو الحديثان من علة، ولذا ضعفه البيهقي، ولكن هذا اللفظ حسن بمجموع الحديثين، وقد صححه ابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن السكن وابن الملقن، وحسنه الألباني.

ينظر: السنن الكبرى للبيهقي 1/ 349، البدر المنير 2/ 615، التلخيص الحبير 1/ 260، صحيح أبي داود الأم 2/ 159.

ص: 44

ولم تَزَلِ العامَّة في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم يستفتون العلماء ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء يبادِرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير؛ فكان إجماعًا على جواز اتباع العاميِّ العلماءَ المجتهدين

(1)

.

(1)

استدل المؤلف بهذه الأدلة على جواز التقليد لمن لا يعرف طُرُق الأحكام الشرعية، سواء كان عاميًّا صِرفًا أو محصِّلًا لبعض العلوم ممن قَصُر نظره عن معرفة الدليل.

ونقل ابن قدامة وغيره الإجماع على جواز التقليد لمثل هؤلاء، وذكر عن بعض المعتزلة منعه.

وفي المقابل؛ ذكر ابن حزم الإجماع على منع التقليد حتى للعامي، وأنه يجب عليه معرفة حكم الله في المسألة مع حجته الشرعية، ووافقه الشوكاني، والمسألة مشهورة، وتقدم الكلام على طرف منها.

ينظر: الفصول للجصاص 4/ 281، الفقيه والمتفقه 2/ 133، الإحكام للآمدي 4/ 228، التمهيد للإسنوي ص 526، البحر المحيط 8/ 327، قواطع الأدلة 2/ 345، العدة لأبي يعلى 4/ 1225، روضة الناظر 2/ 382، أصول الفقه لابن مفلح 4/ 1539، شرح الكوكب المنير 4/ 539، إرشاد الفحول 2/ 243.

ص: 45

‌[هل يلزم تقليد الأعلم

؟]

ويلزم هذا العاميَّ أن يقلِّدَ الأعلمَ عنده، كما يلزمُه في مسألة القبلة، فإذا اجتهد مجتهدان عند اشتباه القبلة فاختلفا في الجهة، اتَّبع المقلدُ أوثقَهما عنده

(1)

.

[حكم تتبع العامي للرخص]

ولا يجوز له أن يتَّبع الرُّخَص

(2)

، بل يحرم ذلك عليه، ويَفْسُقُ به

(3)

،

قال ابن عبد البر: (لا يجوز للعامي تتبع الرُّخَص إجماعًا)

(4)

.

(1)

وسيأتي بيان الخلاف في المسألة قريبًا في مسألة حكم تقليد المفضول.

(2)

المراد بتتبع الرُّخص: أنه كلما وجد رخصة في مذهب عمل بها ولا يعمل بغيرها في ذلك المذهب، فيأخذ غرضه من أي مذهب وجده فيه.

وأما تتبع الرُّخَص الشرعية؛ كالقصر والفطر في السفر ونحو ذلك فغير مراد.

ينظر: إعلام الموقعين 6/ 205، التحبير 8/ 4090، شرح الكوكب المنير 4/ 577.

(3)

نُقل التفسيق به عن الإمام أحمد ويحيى القطان وأبو إسحاق المروزي الشافعي، ونقل البيهقي عن الأوزاعي أنه قال:«من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام» ، وحكى ابن حزم الاجماع على التفسيق به.

واختار ابن أبي هريرة: أنه لا يفسق به.

وخصَّ القاضي أبو يعلى التفسيق بحالتين: (بالمجتهد إذا لم يؤده اجتهاده إلى الرخصة واتبعها، وبالعامي المقدِم عليها من غير تقليد؛ لإخلاله بغرضه وهو التقليد) قال ابن مفلح: وفيه نظر.

قلت: القول بعدم تفسيق تتبع الرُّخص لا يعني القول بالجواز.

ينظر: السنن الكبرى 10/ 356، المسودة ص 518، الغيث الهامع ص 723، البحر المحيط 8/ 381، أصول الفقه لابن مفلح 4/ 1563.

(4)

نقله عنه ابن مفلح في أصوله 4/ 1563، والمرداوي في التحبير 8/ 4091، وصاحب التقرير والتحبير 3/ 351.

وجاء في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 927)، مسندًا عن سليمان التيمي أنه قال:«إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله» ، قال أبو عمر ابن عبد البر:(هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا والحمد لله).

وقد تناول الشاطبي مسألة تتبع الرخص، وأفرد لها فصلًا قصيرًا في بيان مفاسدها؛ كالانسلاخ من الدين، وكالاستهانة بالدين إذ يصير سيَّالًا لا ينضبط، وكانخرام قانون السياسة الشرعية، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم، ثم قال:(وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها)

وقد استشكل ابن الهمام الحنفي المنع من تَتبُّع الرُّخص، وقال:(وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته).

والجواب: أن في تتبُّع الرُّخص ميلًا مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى؛ فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه، قاله الشاطبي.

تنظر مسألة تتبع الرخص أيضًا: الموافقات 5/ 99، فتح القدير 7/ 258، أصول الفقه لابن مفلح 4/ 1563، التحبير 8/ 4090، البحر المحيط 8/ 381، إرشاد الفحول 2/ 253 التقرير والتحبير 3/ 350.

ص: 46

[حكم تمذهب العامي]

ولا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهبٍ يأخذ بعزائمه ورخصه.

قال الشيخ تقي الدين: (في الأخذ بِرُخَص المذهب وعزائمه طاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع)، وتوقَّف أيضًا في جوازه

(1)

.

(1)

حيث قال: (وجوازه فيه ما فيه) ينظر: الاختيارات ص 482.

ص: 47

وبالجملة، فالعامي الذي ليس له من العلم حظ ولا نصيب؛ فرضه التقليد، فإذا وقعت له حادثة استفتى من عَرَفَه عالمًا وعَدْلًا، أو رآه منتصِبًا للإفتاء والتدريس

(1)

.

(1)

التمذهب على نوعين:

النوع الأول: الانتساب، وهذا جائز عند جماهير العلماء، وعليه عمل الفقهاء حتى المجتهدين منهم، ومعناه: أن ينتسب الإنسان إلى مذهب من المذاهب، فيقرأ في كتبه ويعتني به ويعتزي إليه، ولا يلزم من ذلك تقليده. وقد منع منه قوم.

وهذا الانتساب هو الأصل في أتباع المذاهب، يقول ابن الجوزي:(فأما المجتهد من أصحابه، فإنه يتبع دليله من غير تقليد له، ولهذا يميل إلى إحدى الروايتين عنه دون الأخرى، وربما اختار ما ليس في المذهب أصلاً؛ لأنه تابع للدليل، وإنما ينسب هذا إلى مذهب أحمد لميله إلى عموم أقواله) ينظر: مناقب الإمام أحمد ص 666.

ويقول ابن بدران: (لا يذهب بك الوهم مما قدمنا إلى أن الذين اختاروا مذهب أحمد وقدموه على غيره من الأئمة وهم من كبار أصحابه، أنهم اختاروا تقليده على تقليد غيره في الفروع، فإن مثل هؤلاء يأبى ذلك مسلكهم في كتبهم ومصنفاتهم، بل المراد باختيار مذهبه: إنما هو السلوك على طريقة أصوله في استنباط الأحكام، وإن شئت قل: السلوك في طريق الاجتهاد مسلكه دون مسلك غيره، وأما التقليد في الفروع فإنه يترفع عنه كل من له ذكاء وفطنة وقدرة على تأليف الدليل ومعرفته، وما التقليد إلا للضعفاء الجامدين الذين لا يفرقون بين الغث والسمين، وكيف يُظن بمثل أحمد بن جعفر ابن المنادي، وأبي بكر النجاد، ومحمد بن الحسن أبو بكر الآجري، والحسن بن حامد، والقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، وأبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي، وأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، وعلي بن عبيد الله الزاغوني، وموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي، وشيخ الإسلام المجد ابن تيمية، وحفيده الإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، والمحقق شمس الدين محمد بن القيم وغيرهم، أنهم مقلدون في الفروع وكتبهم الممتلئة بالأدلة طبقت الآفاق، ومداركهم ومسالكهم سارت بمدحها الركبان، وكتبهم ملأت قلب كل منصف من الإيمان والإيقان، فتنبه أيها الألمعي ولا تكن من المقلدين الغافلين) ينظر: المدخل ص 110.

النوع الثاني: الالتزام، بمعنى: أن يلتزم الإنسان تقليد مذهب إمام بعينه لا يخرج عنه إلا في أحوال معدودة، وهو ما تطرق إليه المؤلف، ولا يخلو ذلك من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون ذلك من العاميِّ: وقد اختُلف فيه على قولين:

القول الأول: أنه ليس للعامي أن ينتسب إلى مذهبٍ إمام من الأئمة، بل الواجب عليه أن يسأل المفتين في زمانه، واختاره ابن القيم وانتصر له، وقال:(لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيرًا بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله)، ووافقه صاحب التقرير والتحرير الحنفي (3/ 351).

القول الثاني: أن العامي كغيره على ما يأتي من الخلاف، وهو قول جماعة من العلماء.

وقد استحسن المؤلف ألا يلتزم العاميُّ مذهبًا من المذاهب وأنه يسأل من يراه عالمًا عدلًا، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام الآتي.

الأمر الثاني: أن يكون الالتزام من المتفقِّه الذي ارتفع عن درجة العامي ولم يبلغ رتبة الاجتهاد: فقيل: بالجواز. وقيل: بالمنع. وقيل: بالوجوب؛ لدليل مصلحي وهو سد باب تتبع الرُّخص والتشهي.

قال ابن القيم عن القول بوجوب التمذهب بحيث يأخذ بأقواله كلها ويدع أقوال غيره: (وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإِسلام)، وذكر ابن حزم أن التزام المذاهب بدعة نشأت بعد (140 هـ).

وقال شيخ الإسلام: (جماهير العلماء لا يُوجبون على أحدٍ أن يلتزم قولَ شخصٍ بعينه غيرِ الرسول في كل شيء، إذْ في ذلك تنزيلُ ذلك الشخص منزلة الرسول)، وقال:(من كان قادرًا على الاستدلال الذي يُوصله إلى معرفة الحق في أعيان المسائل كانت هذه الطريقُ خيرًا له، وهي الواجبة عليه، دون تقليدِ شخصٍ واحدٍ في كل شيء، ومن يكن قادرًا على التقليد، فالتقليد المفضَّل لمن يثق بعلمِه ودينه أقوى من التقليد العام المتضمِّن لفضلِ شخصٍ مطلقًا)، ثم قال:(وجماعُ هذا الأصل: أن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ})، وظاهر كلامه هذا: عدم جواز التزام أحد المذاهب بالنسبة للمتفقِّه القادر على الاستدلال.

قلت: القول بالجواز إذا قُيِّد بما تقدم من تحريم التقليد عند ظهور الحق، وتحريمه على القادر على الاستدلال؛ يكون حينئذ قريبًا من القول بالمنع، ويكون القول بالجواز منحصر بما لو عجز عن الترجيح، فله أن يقلد مذهبه حينئذ.

ينظر: الإحكام لابن حزم 6/ 146، أدب المفتي والمستفتي ص 161، صفة الفتوى ص 72، المسودة ص 921، جامع المسائل المجموعة الثامنة ص 438، إعلام الموقعين 6/ 204، غاية الوصول لزكريا الأنصاري ص 160، البحر المحيط 8/ 373، الغيث الهامع 3/ 904، التحبير 8/ 4086، شرح الكوكب المنير 4/ 574، إرشاد الفحول 2/ 252، هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين للمعصومي.

ص: 48

‌[كيف يعرف المفتي

؟]

واعتبر الشيخ تقي الدين وابن الصلاح الاستفاضة بأنه أهل للفتيا، ورجَّحه النووي في «الروضة» ، ونقله عن أصحابه

(1)

.

وقال الشيخ تقي الدين: (لا يجوز أن يستفتي إلا من يفتي بعلم وعدل)

(2)

.

فعلى هذا؛ لا يكتفي بمجرَّد اعتزائه إلى العلم، ولو بمنصبِ تدريسٍ أو غيره، لا سيَّما في هذا الزمان الذي غَلَب فيه الجهل، وقَلَّ فيه طلب العلم، وتصدَّى فيه جهلةُ الطلبة للقضاء والفتيا، فتجد بعضهم يقضي ويفتي وهو لا يحسِن عبارة الكتاب، ولا يعلم صورة المسألة، بل لو طُولب بإحضار تلك المسألة -وهي في الكتاب- لم يهتدِ إلى موضعها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(1)

ينظر: أدب المفتي لابن الصلاح ص 158، المسودة ص 464، روضة الطالبين 11/ 103.

قال ابن الصلاح: (ولا يجوز له استفتاء كل من اعتزى إلى العلم، وإن انتصب في منصب التدريس أو غيره من مناصب أهل العلم بمجرد ذلك، ويجوز له استفتاء من تواتر بين الناس أو استفاض فيهم كونه أهلًا للفتوى)، وبنحوه في المسودة.

وتنظر المسألة أيضًا في: التمهيد لأبي الخطاب 4/ 403، المستصفى ص 373، شرح مختصر الروضة 3/ 663، شرح الكوكب المنير 4/ 543، الغيث الهامع ص 716، التقرير والتحرير 3/ 345، تشنيف المسامع 4/ 611.

(2)

ينظر: الفتاوى الكبرى (5/ 556). وتنظر المسألة فيما تقدم من المراجع.

ص: 51

لَقَدْ هَزُلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِها .... كُلَاهَا وَحَتَّى اسْتَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ

(1)

[منع مستور الحال من الفتيا]

قال «في شرح مختصر التحرير» : (ويلزم وليَّ الأمر منعُ مَن لم يُعرَف بعلم، أو جُهل حالُه من الفتيا، قال ربيعة: بعض من يفتي أحق بالضرب من السراق

(2)

.

[حكم فتيا مستور الحال]

ولا تصح الفتيا من مستور الحال.

[إجابة المقلد إخبار لا إفتاء]

وما يُجيب به المقلِّدَ عن حكم؛ فإخبارٌ عن مذهب إمامه لا فتيا، قاله أبو الخطاب وابن عقيل والموفق، ويعمل بخبره إن كان عدلًا؛ لأنه ناقل كالراوي

(3)

.

(1)

ذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء (4/ 1646)، عن علي بن أحمد بن سلّك الفالي المتوفى سنة (448 هـ)، أنه كان يقول الشعر، ومنه:

تصدّر للتدريس كلّ مهوس

بليد يُسمَّى بالفقيه المدرِّس

فَحُقَّ لأهل العلم أن يتمثلوا

ببيت قديم شاع في كلِّ مجلس

«لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كلاها وحتى سامها كلّ مفلس»

(2)

ينظر: الفقيه والمتفقه 2/ 324، الأحكام السلطانية للماوردي ص 281، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 227، صفة الفتوى ص 24، روضة الطالبين 11/ 108، أصول الفقه لابن مفلح 4/ 1544، التحبير 8/ 4039.

(3)

هذا متفرع عن القول بأن المقلد لا تجوز له الفتيا، فحينئذ يكون مخبرًا عن مذهب إمامه لا مفتيًا به.

ينظر: المسودة ص 516، أصول الفقه لابن مفلح 4/ 1558، التحبير 8/ 4070.

ص: 52

[حكم تقليد المفضول]

ولعاميٍّ تقليدُ مفضولٍ من المجتهدين عند الأكثر من أصحابنا؛ منهم القاضي وأبو الخطاب وصاحب «الروضة» ، وقاله الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية.

وقيل: يصح إن اعتقده فاضلًا أ و مساويًا، لا إن اعتقده مفضولًا؛ لأنه ليس من القواعد أن يَعدِل عن الراجح إلى المرجوح.

وقال ابن عقيل وابن سريج والقفال والسمعاني: يلزمه الاجتهاد، فيُقدِّم الأرجحَ، ومعناه قول الخرقي والموفق في «المقنع» ، ولأحمد روايتان

(1)

.

[وجوب تقليد الأرجح من المجتهدين إذا تبين له]

ويلزمه إن بان له الأرجح؛ تقليده في الأصح، زاد بعض أصحابنا وبعض الشافعية في الأظهر: ويقدم الأعلم على الأورع

(2)

.

(1)

وتقدم أن هذا هو اختيار المؤلف، واختاره ابن القيم، وقال:(لأنه المستطاع من تقوى الله المأمور بها كل أحد).

ينظر: التبصرة ص 415، التلخيص للجويني 3/ 465، أدب المفتي لابن الصلاح ص 159، الإحكام للآمدي 4/ 237، الفقيه والمتفقه 2/ 432، التمهيد لأبي الخطاب 4/ 403، الواضح لابن عقيل 5/ 257، المسودة ص 462، إعلام الموقعين 6/ 203، اللمع للشيرازي ص 128، قواطع الأدلة 2/ 357، التحبير 8/ 4080.

(2)

ينظر: أدب المفتي لابن الصلاح ص 160، صفة الفتوى لابن حمدان ص 81، تشنيف المسامع 4/ 609، الغيث الهامع ص 715، التحبير 8/ 4084.

ص: 53

ويخير في تقليدِ أحد مُسْتَوِيَيْنِ عند أكثر أصحابنا.

قال في «الرعاية» : ولا يكفيه من لم

(1)

تَسْكُن نفسُه إليه، بل لا بد من سكون النفس والطمأنينة به.

ويحرم عليه تتبُّع الرُّخص ويَفْسُق به.

[إذا اختلف عند المقلِّد مجتهدان]

وإن اختلف مجتهدان بأن أفتاه أحدهما بحكم والآخر بخلافه؛ تَخيَّر في الأخذ بأيهما شاء على الصحيح، اختاره القاضي والمجد وأبو الخطاب، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد

(2)

.

وقيل: يأخذ بقول الأفضل منهما علمًا ودينًا، فإن استويا؛ تخيَّر

(3)

، وهذا اختيار الموفق في الروضة

(4)

.

(1)

سقطت من (أ).

(2)

وهذا مقيَّد بما لم يؤد إلى تتبع الرخص، كما أفاده الشيخ زكريا الأنصاري في غاية الوصول (ص 161).

قال الشاطبي عن القول بالتخيير: (وأما إن كان عاميًّا؛ فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع) ثم قال: (وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي؛ فهو قائل له: "أخرجني عن هواي ودُلَّني على اتباع الحق"؛ فلا يمكن والحال هذه أن يقول له: "في مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت "، فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلت إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقايةً عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليطُ المفتي العاميَّ على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رميٌ في عماية، وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة) ينظر: الموافقات 5/ 79.

(3)

قوله: (فإن استويا؛ تخير) سقط من المطبوع.

(4)

واختار ابن القيم: أنه يجب عليه أن يتحرَّى ويبحث عن الراجح بحسبه، فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين. وذكر في المسألة سبعة مذاهب.

وتنظر المسألة في: المسودة ص 462، إعلام الموقعين 6/ 205، المعتمد 2/ 364، قواطع الأدلة 2/ 365، التحبير 8/ 4098.

ص: 54

[يحرم التساهل في الفتيا وتقليد من يُعرف به]

ويحرم تساهل مُفتٍ وتقليدُ معروفٍ به؛ لأن الفُتيا أمر خطر، فينبغي أن يَتَّبع السلف الصالح في ذلك، فقد كانوا يهابون الفتيا كثيرًا، وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: إذا هاب الرجل شيئًا لا ينبغي أن يُحمَل على أن يقول

(1)

.

(1)

رواه الأثرم عن الإمام أحمد. ينظر: الفروع 11/ 114.

ذكر المؤلف ههنا مسألتين:

المسألة الأولى: عدم التساهل في الفتيا، وهيبة السلف منها.

قال المروذي: أنكر أبو عبد الله على من يتهجم في المسائل والجوابات، وقال:(ليتق الله عبد ولينظر ما يقول؛ فإنه مسئول)، وقال:(يتقلد أمرًا عظيمًا).

وذكر ابن الصلاح أن التساهل في الفتيا سببه أحد أمرين:

1 -

أن يسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل.

2 -

أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل.

وذكر السمعاني صورتان من صور التساهل في الفتيا:

1 -

أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادئ النظر وأوائل الفكر.

2 -

أن يتساهل في طلب الرُّخص وتأول الشبه، وهذا آثَم من الأول.

وتنظر المسألة في: أخلاق العلماء للآجري ص 101، جامع بيان العلم وفضله 2/ 1120، الفقيه والمتفقه 2/ 11، أدب المفتي ص 111، إعلام الموقعين 2/ 62، الفروع 11/ 114، قواطع الأدلة 2/ 353، التحبير 8/ 4115، كشاف القناع 6/ 298.

المسألة الثانية: عدم سؤال المستفتي لمن عُرِف بالترخيص والتساهل بالفتيا.

ينظر: أدب المفتي ص 111، اللمع ص 127، نفائس الأصول 9/ 3970، البحر المحيط 8/ 382، التقرير والتحبير 3/ 341.

ص: 55

[تحرم الفتيا بالهوى أو من غير ترجيح]

قال بعض الشافعية

(1)

: من اكتفى في فُتياه بقول أو وجه في المسألة من غير نظر في الترجيح، فقد جهل وخرق الإجماع.

وذُكِر عن أبي الوليد الباجي أنه ذَكر عن بعض أصحابهم أنه كان يقول: الذي لصديقي علي أن أفتيه بالرواية التي توافقه، قال أبو الوليد: وهذا لا يجوز عند أحد يعتد به في الإجماع). انتهى كلامه في شرح المختصر ملخصًا

(2)

.

(1)

وهو ابن الصلاح. ينظر: أدب المفتي والمستفتي ص 125.

(2)

ينظر: الكوكب المنير لابن النجار 4/ 544.

وما ذكره عن الباجي نقله عنه غير واحد، وعزاه الشاطبي لكتابه «التَّبيين لسنن المهتدين» .

ينظر: أدب المفتي والمستفتي (ص: 125)، الموافقات (5/ 89)، التحبير شرح التحرير (8/ 4116).

ص: 56

وهذا الذي ذكره أبو الوليد ذكر مثله الشيخ تقي الدين وصاحب «الإنصاف» وغيرهما

(1)

.

قال في «الاختيارات» : (وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، أو بقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعًا.

وشروط القضاء تُعتبر حسب الإمكان، ويجب توليةُ الأمثلِ فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولَّى مع عدمٍ أنفعُ الفاسقين وأقلهما شرًّا، وأعدل المقلِّدين وأعرفهما بالتقليد، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع؛ قُدم فيما قد يظهر حكمه ويُخاف الهوى فيه الأورع، وفيما ندر حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم) انتهى

(2)

.

(1)

ينظر: الاختيارات ص 480، والإنصاف 28/ 313.

وعقد الشاطبي في الموافقات (5/ 84) فصلًا في حال من يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال؛ اتباعًا لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق، وذكر حكايات في ذلك.

ثم ذكر كلام أبي الوليد الباجي الذي ذكره المؤلف، ومن تمام كلام أبي الوليد:(وإنما المفتي مخبرٌ عن الله تعالى في حكمه؛ فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حَكَم به وأوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}).

(2)

ينظر: الاختيارات ص 480.

ص: 57

[حكم تَعرُّف المبتدئ على دليل كل مسألة]

وقول السائل وفقه الله لضبط المسائل: هل يلزم المبتدئين المتعلِّمين التَّرقِّي إلى معرفة الدليل الناصِّ على كل مسألة؟

(1)

جوابه: يُعلم مما تَقدَّم، وهو أن عليه أن يَتَّقي الله بحسب استطاعته، فيلزمه من ذلك ما يُمكِنُه، ويَسقط عنه ما يعجز عنه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.

فلا يهجم على التقليد ويخلد إلى أرضه مع قدرته على معرفة الدليل، لا سيما إذا كان قاضيًا أو مفتيًا وله مَلَكَةٌ قوية يَقوى بها على الاستدلال ومعرفة الراجح، فإن الرجل النَّبيه الذي له فهم وفيه ذكاء، إذا سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الكتب التي يُذكر فيها أقوال العلماء وأدلتهم؛ كـ «المغني» ، و «الشرح» ، و «التمهيد» لابن عبد البر، ونحو هذه الكتب؛ يحصل عنده - في الغالب - ما يَعرِف به رُجحان أحد القولين.

(1)

عُلم مما تقدم أن المتعلم المبتدئ لا يخلو من حالين:

الأولى: أن يكون في بداية طريق العلم، بحيث يعجز عن النظر والاستدلال، وذكر أن هذا ممن يجوز له التقليد.

الثاني: من تقدم قليلًا في العلم بحيث صارت له ملكة ومُكْنة على النظر والاستدلال، وبين أن التقليد لمن هذه حاله مذموم.

فإذا كان كذلك، فهل يلزم المتعلم الدُّربة على النظر والاستدلال لتتكون عنده تلك الملكة، فيبتدئ أولًا بمعرفة دليل كل مسألة، ثم يترقَّى بعد ذلك؟ أجاب المؤلف عن هذا السؤال وضمَّن جوابه بعض الشبه الواردة وأجاب عنها.

ص: 58

[إذا تبين للطالب المتمذهب الدليل المخالف لمذهبه]

فإذا كان طالب العلم مُتمذهِبًا بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلًا مخالِفًا لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب، ولم يَعلم له ناسخًا ولا معارضًا؛ فخالف مذهبه واتبع الإمام الذي قد أخذ بالدليل؛ كان مصيبًا في ذلك

(1)

، بل هذا الواجب عليه، ولم يخرج بذلك عن التقليد، فهو مقلد لذلك الإمام، فيَجْعَل إمامًا بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض.

قال في «الاختيارات» : (من كان مُتَّبعًا لإمام، فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم وأتقى، فقد أحسن.

وقال أبو العباس في موضع آخر: بل يجب عليه، وأن أحمد نصَّ عليه، ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع)

(2)

.

(1)

قوله: (في ذلك) سقط من (أ).

(2)

ينظر: الاختيارات ص 483. ونقله صاحب تيسير التحرير (4/ 255) عن القدوري الحنفي وغيره.

فلا نزاع بين العلماء في أن من خالف مذهب إمامه في مسألة لقوة الدليل وقد أخذ بذلك أحد العلماء أنه لا يقدح في عدالته، واختُلف في وجوب ذلك عليه، والذي قرره المؤلف ونقله عن شيخ الإسلام: وجوب أخذه بالدليل، وهو الذي تقدم بيانه في الواجب على القادر على الاستدلال.

وعند بعض أهل العلم: أن ذلك غير واجب عليه، بل له أن يقلِّد إمامه وله أن يعمل بالدليل. وهذا القول محجوج بما ذكره المؤلف، وبما تقدم بيانه في حكم التقليد للقادر على الاستدلال ص .... ينظر: البحر المحيط 8/ 344.

ص: 59

[جوابٌ على من منع الترجيح بحجة أنه لا يثق بنظره]

وقال أيضًا: (أكثر من يُميِّز في العلم من المتوسطين، إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصدٍ حَسَنٍ ونَظَرٍ تامٍّ، تَرجَّح عنده أحدهما؛ لكن قد لا يثق بنظره، بل يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه، والواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي تَرجَّح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد؛ كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة؛ إذا تَرجَّح عنده أحدهما قَلَّده، والدليل الخاص الذي يُرجَّح به قول على قول، أولى بالاتباع من دليل عامٍّ على أن أحدهما أعلم أو أدين؛ لأن الحق واحد ولابد، ويجب أن ينصب الله على الحكم دليلًا) انتهى

(1)

.

[الفقيه هو من يعرف الأحكام بالأدلة]

وقال الشيخ تقي الدين في بعض أجوبته: (قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»

(2)

، ولازم ذلك أن من لم يفقِّهه في الدين لم يُرد به خيرًا، فيكون التفقُّه في الدِّين فرضًا، والفقه في الدِّين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية، فمن لم يعرف ذلك لم يكن مُتفقِّهًا، لكن من الناس مَن قد يعجز عن الأدلة التفصيلية في جميع أموره؛ فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته، ويلزمه ما يقدر عليه.

(1)

ينظر: الاختيارات ص 481.

(2)

أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037)، من حديث معاوية رضي الله عنه.

ص: 60

وأما القادر على الاستدلال؛ فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقًا. وقيل: يجوز مطلقًا. وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال

(1)

.

(1)

تقدم الخلاف في حكم التقليد للقادر على الاستدلال، وتقدم بيان بعض الحالات التي يعذر فيها بالتقليد.

فمراده والله أعلم: بيان الفرق بين العاميِّ والقادر على الاستدلال، وهذا جوابٌ على اعتراض مقدَّر، وهو: أن غير المجتهد المطلق عاميٌّ وإن جلَّت مراتبهم، نص على ذلك ابن حجر الهيتمي وغيره. ينظر: الفتاوى الفقهية الكبرى 2/ 250، البحر المحيط 8/ 333.

وجوابه:

1 -

أنه قد اعترض على ذلك جماعة من الأصوليين كالزركشي في البحر المحيط، بل نص الأصوليون على إثبات درجة بين المجتهد والعامي، وهو الفقيه الذي لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، نص على ذلك الرازي والآمدي والقرافي والذهبي والزركشي وآخرون، وجميع من قال بإثبات درجة الاتباع؛ كابن عبد البر وشيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم، بل إن جماهير العلماء على إثبات الدرجة المتوسطة بين المجتهد والعامي، وأن له أحكام تخصه.

2 -

أن الحديث المذكور دل على التفريق بين الفقيه وهو من يعرف الأحكام بالأدلة، وبين العامي الذي لا يعرف الأدلة.

3 -

أن الفرق بين القادر على الاستدلال والعامي أمر معروف بالعقل والعادة، ويدل عليه الوجدان.

ثم إن تحديد من هو المجتهد أمر عَسِر إن لم يكن متعذرًا، وإن كانت شروطه معروفة عند الأصوليين، قال الرازي في المحصول (6/ 25):(واعلم أن الإنسان كلما كان أكمل في هذه العلوم التي لا بد منها في الاجتهاد كان منصبه في الاجتهاد أعلى وأتم وضبط القدر الذي لا بد منه على التعيين كالأمر المتعذر)، فتعليق النظر والاستدلال بالمجتهد دون غيره هو إغلاق لباب الاجتهاد.

ص: 61

والاجتهاد ليس هو أمرًا واحدًا لا يقبل التجزئ والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهدًا في فن أو باب أو مسألة، دون فن وباب ومسألة؛ وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه

(1)

.

(1)

هذا جوابٌ على شبهة: أن الترجيح والنظر في الأدلة من عمل المجتهد المطلق، ونحن لسنا منهم.

والجواب: أن الاجتهاد يكون مطلقًا في جميع الأبواب، وهذا من عمل المجتهد المطلق، وقد يكون في باب أو في مسألة، وهذا ما يسمى بـ: تجزؤ الاجتهاد، والمراد به: التمكُّن من استخراج بعض الأحكام دون بعض.

والذي عليه جماهير الأصوليين: جواز تجزؤ الاجتهاد، قال ابن قدامة:(فليس من شرط الاجتهاد في مسألة: بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل، بل متى علم أدلة المسألة الواحدة، وطرق النظر فيها: فهو مجتهد فيها، وإن جهل حكم غيرها، فمن نظر في مسألة المشرَّكة: يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفًا بالفرائض: أصولها ومعانيها، وإن جهل الأخبار الواردة في تحريم المسكرات، والنكاح بلا ولي؛ إذ لا استمداد لنظر هذه المسألة منها، فلا تضر الغفلة عنها، ولا يضره أيضًا قصوره عن علم النحو الذي يعرفه به قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وقس عليه كل مسألة)، وقال ابن السبكي:(فلا يشترط الفهم المذكور لغير المسألة التي يتعلق بها اجتهاده).

بل إن القول بعدم صحة تجزؤ الاجتهاد يؤدي إلى عدم وجود مجتهد أصلًا، قال شيخ الإسلام:(وهذا حال أكثر علماء المسلمين، لكن يتفاوتون في القوة والكثرة، فالأئمة المشهورون أقدر على الاجتهاد والاستدلال في أكثر مسائل الشرع من غيرهم، وأما أن يدعيَ أن واحدًا منهم قادر على أن يعرف حكم الله في كل مسألة من الدين بدليلها، فمن ادعى هذا فقد ادعى ما لا علم له به، بل ادعى ما يعرف أنه باطل)، وبنحوه قال الرازي عن المجتهد المطلق:(وإن كان جاهلًا ببعض المسائل الخارجة عنها، فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالمًا بجميع أحكام المسائل ومداركها، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر).

ولابن الزملكاني تفصيل جيد، قال:(الحق التفصيل: فما كان من الشروط كليًّا؛ كقوة الاستنباط ومعرفة مجاري الكلام وما يقبل من الأدلة وما يرد ونحوه، فلا بد من استجماعه بالنسبة إلى كل دليل ومدلول، فلا تتجزأ تلك الأهلية، وما كان خاصًّا بمسألة أو مسائل أو باب، فإذا استجمعه الإنسان بالنسبة إلى ذلك الباب أو تلك المسألة أو المسائل مع الأهلية؛ كان فرضه في ذلك الجزء الاجتهاد دون التقليد)، وبنحوه قال الزركشي.

مثال ذلك: لو نظر من عنده ملكةٌ فقهيةٌ في مسألة زكاة العسل، فنظر في أقوال العلماء فيها وأدلتها وما يتصل بها من الإيرادات والأجوبة، وغلب على ظنه ألا أدلة أخرى في المسألة، فوجد في نفسه ميلًا لأحد الأقوال، وأداه اجتهاده إلىه؛ كان في حكم المجتهد المطلق في هذه المسألة، ولو كان في مسائل البيوع غير مجتهد.

ينظر: المحصول 4/ 164 - 6/ 25، روضة الناظر 2/ 337، شرح مختصر الروضة 3/ 585، سير أعلام النبلاء 18/ 191، نفائس الأصول 9/ 3806، تيسير التحرير 4/ 250، بيان المختصر 3/ 288، منهاج السنة 2/ 244، البحر المحيط 8/ 242، نشر البنود 2/ 324، شرح الكوكب المنير 4/ 473، إجابة السائل ص 403، إرشاد الفحول 2/ 216.

ص: 62

‌[المتفقِّه غير المجتهد له حالتان:

‌1 - من يقصر نظره عن الاجتهاد التام في المسألة]

فمن نظر في مسألة تنازع فيها العلماء، ورأى مع أحد القولين نصوصًا لم يعلم لها معارضًا بعد نظر مثله فهو بين أمرين:

ص: 63

إما أن يَتَّبِع قول القائل الأخير

(1)

؛ لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية، بل مجرَّد عادة، يعارضها عادة غيره باشتغاله

(2)

على مذهب إمام آخر.

وإما أن يَتَّبِع القول الذي تَرجَّح في نظره بالنصوص الدالة عليه، وحينئذ فيكون موافقته لإمامٍ يُقاوِم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص سالمة في حقِّه عن المعارض بالعمل، فهذا هو

(3)

الذي يصلح.

وإنما تنزلنا هذا التَّنزُّل؛ لأنه قد يقال: إنَّ نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تامًّا في هذه المسألة؛ لضعف آلة الاجتهاد في حقه.

[2 - من يقدر على الاجتهاد التام في المسألة]

أما إذا قدر على الاجتهاد التام، الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النصوص؛ فهذا يجب عليه اتباع النصوص، وإن لم يفعل كان مُتَّبِعًا للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ورسوله.

[العودة إلى القسم الأول من الفقيه غير المجتهد]

بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا

(1)

في (أ): آخر

(2)

في (أ): باشتغال له.

(3)

قوله: (هو) سقط من (ب).

ص: 64

منه ما استطعتم»، والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلَّك على أن هذا القول هو الراجح؛ فعليك أن تَتَّبع ذلك، ثم إن تبيَّن لك فيما بعدُ أن للنص

(1)

معارِضًا راجِحًا؛ كان حُكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل

(2)

إذا تَغيَّر اجتهاده.

[جواب اعتراض: حكم الانتقال من قول إلى قول]

وانتقال الإنسان من قولٍ إلى قولٍ لأجل ما تبيَّن له من الحقِّ هو محمود فيه، بخلاف إصراره على قولٍ لا حجة معه عليه، وتركِ القولِ الذي ترجَّحت حُجته.

وأما الانتقال عن قولٍ إلى قولٍ لمجرد عادةٍ واتباع هوًى؛ فهذا مذموم

(3)

.

[ترك الإمام المقلَّد للنص ليس بعذر لترك الأخذ به]

(1)

في (أ): النص.

(2)

في (أ): المستقبل.

(3)

مسألة الانتقال من قول إلى قول، سواء كان المنتقل ملتزمًا لمذهب من المذاهب أو غير ملتزم، يذكرها الأصوليون بعبارات مختلفة، وقد فصل فيها المؤلف في ص ....

وتُنظر فيما يلي: الإحكام للآمدي 4/ 238، المسودة ص 472، البحر المحيط 8/ 375، بيان المختصر 3/ 369، التمهيد للإسنوي ص 528، الغيث الهامع ص 722، التيسير والتحرير 4/ 253.

ص: 65

وإذا كان الإمام المقلَّد قد سمع الحديث وتركه، لا سيَّما إن كان قد رواه أيضًا؛ فمثل هذا لا يكون عذرًا في ترك النص، فقد بيَّنا فيما كتبناه في «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» نحو عشرين عذرًا للأئمة في ترك العمل ببعض الحديث، وبيَّنا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار

(1)

.

وأما نحن فلسنا معذورين في تركنا لهذا القول، فمن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس، أو عمل بعض الأمصار، وقد تبيَّن لآخَر أن ظاهر القرآن لا يخالِفه، وأن نصَّ الحديث الصحيح مُقدَّم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل؛ لم يكن عذرُ ذلك الرجل عذرًا في حقه، فإن ظهور

(1)

شرع شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب عن شبهة يوردها المقلِّدة، وهي: أن الإمام المقلَّد مجتهد عالم بما ورد في الكتاب والسنة لا يفوته منها شيء، ولا شك أن هذه السنة بلغت الإمام ولم يعمل بها لعذر من الأعذار، وهو أعلم مني ومن غيري ممن ذكر الحديث.

وجواب الشبهة باختصار:

1 -

أن العالم إن كان ترك العمل بالحديث لعذر، فلسنا معذورين في ترك العمل به، ومجرد ترك الإمام للعمل به ليس عذرًا مقبولًا شرعًا.

2 -

أن العالم وإن كان أعلم منا، فإن الأعلم قد يفوت عليه شيء يُدركه غيره، كما وقع ذلك لعلماء الصحابة مع غيرهم.

3 -

أن هذا العالم قد خالفه عالم آخر قد يكون أعلم بالسنة منه، وليس أحدهما أولى بالتقليد من الآخر.

4 -

أن فتح هذا الباب يؤدي إلى الإعراض عن الوحي بالكلية.

وقد أفاض الأمين الشنقيطي في الجواب عن هذه الشبهة في أضواء البيان 7/ 341.

ص: 66

المدارك الشرعية للأذهان وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه، لا سيما إذا

(1)

كان التارك للحديث معتقدًا أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار من أهل المدينة النبوية، الذين يقال: إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ أو له معارض راجح، وقد بلغ مَن بعده أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه، بل عمل به طائفة منهم أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض.

[جواب ثانٍ]

وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟

كانت هذه معارضة فاسدة؛ لأن الإمام الفلاني قد عارضه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، فكما أن الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر؛ فكذلك موارد النزاع بين الأئمة، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول من هو دونهما، كأبي موسى الأشعري وغيره لمَّا احتج بالكتاب والسنة

(2)

،

وتركوا

(1)

في (أ): إن.

(2)

أخرج البخاري (346)، ومسلم (368)، من حديث شقيق بن سلمة، قال: كنت عند عبد الله وأبي موسى، فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء، كيف يصنع؟ فقال عبد الله: لا يصلي حتى يجد الماء، فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يكفيك» قال: ألم تر عمر لم يقنع بذلك، فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار، كيف تصنع بهذه الآية - يعني: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} كما في رواية مسلم-؟ فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنَّا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم، فقلت لشقيق: فإنما كره عبد الله لهذا؟ قال: «نعم» ..

ص: 67

قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية لمَّا كان معه السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«هذه وهذه سواء»

(1)

.

وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة، فقال له: إن أبا بكر وعمر يقولان، فقال ابن عباس:«يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!»

(2)

.

(1)

أخرج ابن أبي شيبة (26999)، والبيهقي في الكبرى (16285) عن سعيد بن المسيب:«أن عمر رضي الله عنه قضى في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست» .

وذكر ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري (8/ 524): أنه لم يلتفت أحد من الفقهاء إلى قول عمر؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هذه وهذه سواء» ، يعنى الخنصر والإبهام. انتهى بتصرف، والحديث أخرجه البخاري (6895)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولم أقف عليه من مسند معاوية رضي الله عنه.

(2)

أورده بهذا اللفظ: شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (20/ 215)، وابن القيم في زاد المعاد (2/ 182).

وجاء معناه عند أحمد (3121)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2378) من طريق الفضيل بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«تمتع النبي صلى الله عليه وسلم» ، فقال عروة بن الزبير:«نهى أبو بكر وعمر عن المتعة» . فقال ابن عباس: «ما يقول عُرَيَّة؟» قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: «أراهم سيهلكون أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: نهى أبو بكر وعمر» ، وحسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 66).

وجاء عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2377)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 377)، أن عروة قال لابن عباس:«ألا تتقي الله ترجعن في المتعة؟» فقال ابن عباس: «سل أمك يا عُرَيَّة» ، فقال عروة:«أما أبو بكر، وعمر فلم يفعلا» ، فقال ابن عباس:«والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثونا عن أبي بكر وعمر» ، وإسناده صحيح.

ص: 68

وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها، فعارضوه بقول عمر، فبيَّن أن عمر يرد ما يقولونه، فألحُّوُا عليه، فقال:«أَمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقُّ أن يُتَّبع أم أَمْر عمر؟!»

(1)

، مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس.

ولو فُتح هذا الباب؛ لوجب أن يُعرَض عن أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ) انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى

(2)

.

(1)

أخرجه البيهقي في الكبرى (8875)، وإسناده صحيح.

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى 20/ 212.

ص: 69

‌[هل يشترط للترجيح معرفة علم الحديث رواية

؟]

وأما سؤال السائل: عن الترقي إلى معرفة طُرُق الحديث وصحته، أم تقليد المخرِّجين للحديث في أنه صحيح أو حسن يكفيهم؟

(1)

فجوابه: أن ذلك يكفيهم.

قال في «شرح مختصر التحرير» : (ويُشترط في المجتهد أن يكون عالمًا بصحَّة الحديث وضعفه سندًا ومتنًا، ولو كان علمه بذلك تقليدًا؛ كنقله من كتاب صحيح من كتب الحديث المنسوبة إلى الأئمة؛ كمالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والدارقطني والحاكم ونحوهم؛ لأنهم أهل المعرفة بذلك؛ فجاز الأخذ بقولهم كما يؤخذ بقول المقوِّمين في القِيَم) انتهى

(2)

.

(1)

وهذه شبهة أخرى للمقلِّدة: أن القدرة على الترجيح تحتاج إلى رجل عالم بالحديث وطرقه وعلله، وهذا أمر يفتقده من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد غالبًا.

وجواب الشبهة باختصار:

1 -

أن العلم بطرق الحديث وعلله لا يشترط في المجتهد، فضلًا عن غيره من المتفقهة.

2 -

أن التمييز بين أقوال المحدثين في التصحيح والتضعيف أمر ممكن لمن لديه شيء من أهلية ذلك العلم.

3 -

أن اختلاف المحدثين الاختلاف الشديد بحيث يصعب على الناظر الترجيح بين أقوالهم نطاقه أضيق بكثير من الأحاديث التي ظاهرها الصحة أو الضعف.

(2)

ينظر: شرح الكوكب المنير 4/ 461.

ص: 70

وقال في «مسودة بني تيمية» : (العاميُّ الذي ليس معه آلة الاجتهاد في الفروع؛ يجوز له التقليد فيها عند الشافعية والجمهور، وقال أبو الخطاب: ويجوز له الرجوع إلى أهل الحديث في الخبر، وكون سنده صحيحًا أو فاسدًا، ولا يلزمه أن يتعلم ذلك بالإجماع) انتهى

(1)

.

وقال عبد الرحيم بن الحسين العراقي في «ألفيته»

(2)

:

وأخذ متن من كتاب لعمل

أو احتجاج حيث ساغ قد جعل

عرضًا له على أصول يشترط

وقال يحيى النووي أصل فقط

ثم قال المؤلف في «شرحه» : (أي: وأخذ الحديث من كتاب من الكتب المعتمدة لعمل به أو احتجاج به - إن كان ممن يسوغ له العمل بالحديث أو الاحتجاج به -؛ جعل ابن الصلاح شرطه أن يكون ذلك الكتاب مقابلًا بمقابلة ثقة على أصول صحيحة متعدِّدة مرويَّة بروايات متنوعة.

قال النووي: فإن قابلها بأصل معتمد محقق أجزأه.

(1)

ينظر: المسودة ص 458.

(2)

البيت (47) و (48) من الألفية.

ص: 71

وقال ابن الصلاح في قسم الحسن، حين ذكر أن نُسَخ الترمذي تختلف في قوله: حسن، أو حسن صحيح ونحو ذلك: فينبغي أن تصحِّح أصلَك بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه.

فقوله: «ينبغي» قد يشير إلى عدم اشتراط ذلك، وإنما هو مستحب، وهو كذلك) انتهى كلام العراقي

(1)

.

وقال أبو الحسن البكري الشافعي في كتابه «كنز المحتاج على المنهاج» ؛ لما ذكر أن مِن شروط القاضي أن يكون مجتهدًا إلا إذا فُوِّضت إليه واقعةٌ خاصة-: (فيكفي الاجتهاد في تلك الواقعة بناءً على تجزئ الاجتهاد وهو الأصح)، إلى أن قال: (وقد يحصل الاجتهاد في باب دون باب آخر، ولا حاجة لتتبع الأحاديث، بل يكفي أصل مُصحَّح اعتُنِيَ فيه بجمع أحاديث الأحكام؛ كسنن أبي داود، ولا

(2)

أن يَعرِف مواقع كلِّ باب فيراجعه عند الحاجة، ولا إلى البحث عن رواة حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته ويقظتهم، وما عداه يكتفى في رواته بتعديل إمام مشهور عُرِفت صحةُ مذهبه جرحًا وتعديلًا، ولا إلى ضبط جميع مواضع الإجماع والاختلاف، بل يكفي معرفته بعدم مخالفة قوله الإجماع؛

(1)

ينظر: شرح التبصرة والتذكرة للعراقي 1/ 146.

(2)

كذا في النسخ، والظاهر أن حرف (لا) مقحم، ويدل عليه كلام الغزالي:(ويكتفي فيه بمواقع كل باب، فيراجعه وقت الحاجة) ينظر: البحر المحيط 8/ 232.

ص: 72

لموافقته متقدم عليه أو غلبة ظن بتوليها في عصره، وكذا في معرفة الناسخ والمنسوخ) انتهى

(1)

.

وقال في «شرح الروض» للقاضي زكريا؛ لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهدًا قال: (والمجتهد من علم ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة، وعرف منهما العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والنص والظاهر، والناسخ والمنسوخ، والمتواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، وعدالة الرواة وجرحهم، وأقاويل الصحابة فمن بعدهم)، إلى أن قال: (ولا يُشترَط التبحر في هذه العلوم، بل يكفي معرفة جُمَل منها، وأن يكون له في كُتُب الحديث أصلٌ صحيحٌ يَجمع أحاديث الأحكام -أي غالبها-؛ كسنن أبي داود، فيعرف كل بابٍ، فيراجعه إذا احتاج إلى العمل به.

ويكتفي في البحث عن الأحاديث بما قَبِلَه منها السلف وتواترت أهليَّة رواته من العدل والضبط، وما عداه يكتفي في أهلية رواته بتأهل إمام مشهور عُرِفت صحة مذهبه في الجرح والتعديل والضبط

(2)

.

(1)

الكتاب غير مطبوع، وقد حقق في رسائل علمية بجامعة أم القرى باسم: هادي المحتاج إلى شرح المنهاج.

(2)

قوله: (والضبط) سقط من (أ).

ص: 73

ثم اجتماع هذه العلوم إنما يُشترَط

(1)

في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، ويجوز أن يتبعض الاجتهاد، بأن يكون العالم مجتهدًا في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه) انتهى كلام القاضي

(2)

.

فتبين بما ذكرناه من النقول: جواز الاعتماد على نقل الأحاديث من الكتب المصحَّحة، وكذلك التقليد لأهل الجرح والتعديل في تصحيح الحديث أو تضعيفه، والله أعلم.

[شبهة: الإجماع منعقد على وجوب تقليد أحد المذاهب الأربعة، وجوابها]

وأما سؤال السائل وفقه الله لفهم المسائل: حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة؛ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد

(3)

.

(1)

في (أ): تشترط.

(2)

ينظر: أسنى المطالب في شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري 4/ 278.

(3)

توضيح الشبهة: أن الإجماع قد انعقد على وجوب التمذهب بأحد المذاهب الأربعة دون غيرها، وهذه الشبهة كانت موجودة في أزمان التعصب المذهبي، بل وموجودة زمان المؤلف رحمه الله، يقول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب:(ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم؛ وإنما الشأن إذا اختلفوا هل يجب علي أن أقبل الحق ممن جاء به؛ وأرد المسألة إلى الله والرسول مقتديًا بأهل العلم؟! أو أنتحل بعضهم من غير حجة، وأزعم أن الصواب في قوله؟! فأنتم على هذا الثاني؛ وهو الذي ذمَّه الله وسماه شركًا؛ وهو اتخاذ العلماء أربابًا، وأنا على الأول أدعو إليه، وأناظر عليه، فإن كان عندكم حق رجعنا إليه وقبلناه منكم) ينظر: الدرر السنية 1/ 45.

وجواب هذه الشبهة باختصار:

1 -

أنه قد تقدم بيان حكم التمذهب، وأن جمهور العلماء على عدم وجوبه، وأن القول بالوجوب قول مبتدع، فضلًا عن أن يكون القول بالوجوب قد انعقد الإجماع عليه.

2 -

أن من حكى هذا الإجماع من المتأخرين إنما فهم كلام بعض الأئمة فهمًا خاطئًا، جرَّه إلى حكاية الإجماع على ذلك.

أما مسألة عدم جواز تقليد غير المذاهب الأربعة وانحصار الحق فيها فسيأتي الكلام عليها ص .....

ص: 74

فنقول: هذا الإجماع حكاه غير واحد من المتأخرين، وكلهم نسبوه إلى الوزير أبي المظفر يحيى بن هبيرة صاحب «الإفصاح عن معاني الصحاح» ، فإنه ذكر نحوًا من هذه العبارة، وليس مراده أن الإجماع منعقد على وجوب تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة، وأن الاجتهاد بعد استقرار هذه المذاهب لا يجوز، فإن كلامه يأبى ذلك.

[جواب الاعتراض، وبيان مراد ابن هبيرة]

وإنما أراد الردَّ على من اشترط في القاضي أن يكون مجتهدًا، وأن المقلِّد لا ينفذ قضاؤه؛ كما هو مذهب كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين، وحَمَلَ كلام من اشترط في القاضي أن يكون مجتهدًا

(1)

على ما كانت عليه الحال قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة، وأما بعد استقرار هذه المذاهب فيجوز تولية المقلِّد لأهلها، وينفذ قضاؤه.

(1)

من قوله: (وأن المقلِّد لا ينفذ قضاؤه) إلى هنا سقط من (ب).

ص: 75

وليس في كلامه ما يدل على أنه يجب التقليد لهؤلاء الأئمة؛ بحيث أنْ يُلزَم الرجل أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة، ولا يخرج عن مذهب من قلَّده كما قد يُتوهم، بل كلامه يخالف ذلك ولا يوافقه.

وعبارته في «الإفصاح» : (اتفقوا على أنه لا يجوز أن يُوَلَّى القضاءُ مَن ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز ذلك)، ثم قال: (والصحيح في هذه المسألة: أن قول من قال: لا يجوز تَوْلِيَة قاضٍ حتى يكون من أهل الاجتهاد؛ فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة التي أجمعت الأمة أن كل واحد منها يجوز العمل به؛ لأنه مستند إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالقاضي الآن، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، ولا يسعى في طلب الأحاديث وابتغاء طُرُقِها، ولا عَرَف مِن لُغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم ما لا يَعُوزُه معه معرفة ما يُحتاج إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد، فإن ذلك مما فُرِغ منه، ودَأَب له فيما سواه، وانتهى له الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين إلى ما أراحوا به من بعدهم، وانحصر الحق في أقاويلهم، ودُوِّنت العلوم، وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق.

ص: 76

فإذا عمل القاضي في أَقضيته مما يأخذه

(1)

عنهم أو عن الواحد منهم؛ فإنه في معنى مَن كان أدَّاه اجتهاده إلى قولٍ قاله.

وعلى ذلك؛ فإنه إذا خَرَج مِن خِلافهم، مُتوخِّيًا مواطن الاتفاق ما أمكنه؛ كان آخذًا بالحزم، عاملًا بالأَوْلى.

وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف تَوَخِّي ما عليه الأكثر منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد؛ فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى، مع جواز عمله أن يعمل

(2)

بقول الواحد، إلا أنني أكره له أن يكون ذلك

(3)

، من حيث إنه قد قرأ مذهب واحد منهم، أو نشأ في بلدة لم يُعرَف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم، أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء، فَقَصَر نفسه على اتباع ذلك المذهب، حتى إنه إذا حضر عنده خصمان، وكان ما تشاجرا فيه مما يُفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم؛ نحو: الوكيل بغير رضا الخصم، وكان الحاكم حنفيًّا، وقد علم أن مالكًا والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل، وأن أبا حنيفة يمنعه، فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة، من غير أن يَثبُت عنده بالدليل ما قاله، ولا أدَّاه اجتهاده إلى أن أبا

(1)

في (ب): بما يأخذ.

(2)

في (أ): علمه. مكان قوله: (عمله أن يعمل).

(3)

قوله: (ذلك) سقط من (أ).

ص: 77

حنيفة أولى بالاتباع مما اتفق الجماعة عليه، فإني أخاف على هذا مِن الله عز وجل بأنه اتبع في ذلك هواه، وأنه ليس من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وكذلك إن كان القاضي مالكيًّا، فاختصم إليه اثنان في سؤر الكلب، فقضى بطهارته مع عِلمه بأن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته.

وكذلك إن كان القاضي شافعيًّا، فاختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمدًا، فقال أحدهما: هذا منعني من بيع شاة مذكاة. فقال الآخر: إنما منعته من بيع الميتة. فقضى عليه بمذهبه وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه.

وكذلك إن كان القاضي حنبليًّا، فاختصم إليه اثنان، فقال أحدهما: لي عليه مال. فقال الآخر: كان له علي مال فقضيته. فقضى عليه بالبراءة من إقراره، مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه.

فإن هذا وأمثاله مما تُوُخِّيَ اتباع الأكثرين فيه؛ أقرب عندي إلى الإخلاص، وأرجح في العمل.

وبمقتضى هذا؛ فإن ولايات الحُكَّام في وقتنا هذا صحيحة، وإنهم قد سَدُّوا ثغرًا من ثغور الإسلام سَدُّهُ فرضُ كفاية.

ولو أهملت هذا القول ولم أذكره، ومشيت على الطريق التي

ص: 78

يمشي عليها الفقهاء، الذين يَذكر كلٌّ منهم في كتابٍ إنْ صَنَّفه، أو كلامٍ إنْ قالَهُ؛ أنَّه لا يصح أن يكون قاضيًا إلا من كان من أهل الاجتهاد، ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحُكَّام؛ فإن هذا كالإحالة والتناقض، وكأنه تعطيلٌ للأحكام وسدٌّ لباب الحكم، وأن لا يَنفُذُ حق، ولا يُكاتَب به، ولا يُقام بينة، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية، وهذا غير صحيح، بل الصحيح في المسألة أن وُلايات الحُكَّام جائزة، وأن حكوماتهم اليوم صحيحة نافذة، وولاياتهم جائزة شرعًا) انتهى كلام ابن هبيرة رحمه الله

(1)

.

[بيان ما تضمنه كلام ابن هبيرة]

[1 - تولية القاضي المقلِّد جائزة إذا تعذَّرت تولية المجتهد]

فقد تضمن هذا الكلام: أن تولية المقلِّد جائزة إذا تعذَّرت تولية المجتهد؛ لأنه ذكر أن شروط الاجتهاد ليست موجودة في الحُكَّام، وأن هذا كالإحالة، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم، فينفذ قضاء المقلد؛ للحاجة لئلا تتعطل الأحكام.

وهكذا قال غير واحد من المتأخرين - الذين يذكرون أن من شروط القاضي أن يكون مجتهدًا - يذكر هذا، ثم يذكر القول الثاني: أنه يجوز تولية المقلِّد للضرورة، كما ذكره متأخرو الحنابلة والمالكية والشافعية

(2)

.

(1)

ينظر: المسودة في أصول الفقه ص 538.

(2)

ينظر: مواهب الجليل 6/ 88، الشرح الكبير للدردير 4/ 129، التاج والإكليل 8/ 66، مغني المحتاج 6/ 265، تحفة المحتاج 10/ 113، نهاية المحتاج 8/ 240، المبدع 8/ 154، الإنصاف 28/ 301، شرح المنتهى 3/ 492.

ص: 79

[2 - أن الأولى بالقاضي المقلد اتِّباع قول الأكثر]

وتضمن أيضًا كلام ابن هبيرة: أن إجماع الأئمة الأربعة حجة، وأن الحق لا يخرج عن أقوالهم، فلا يخرج القاضي عما أجمعوا عليه

(1)

،

فإن اختلفوا؛ فالأولى أن يَتَّبع ما عليه الأكثر، وصرَّح بأنه

(1)

هذا ما قرره جماعة من العلماء، قال الزركشي:(وقد وقع الاتفاق بين المسلمين على أن الحق منحصر في هذه المذاهب، وحينئذ فلا يجوز العمل بغيرها، فلا يجوز أن يقع الاجتهاد إلا فيها) البحر المحيط 8/ 242.

ووافقه على ذلك جماعة من العلماء، وبالغ النفرواي وحكاه إجماعًا، ثم ذكر عن بعض المحققين من أهل مذهبه على خلافه، ونص الحنفية أن مذهبهم جواز تقليد من شاء من المجتهدين. ينظر: الفواكه الدواني 2/ 356، البحر الرائق 6/ 292.

ولابن رجب رسالة اسمها: (الرد على من خالف المذاهب الأربعة)، ظن البعض أنه يقرر فيها وجوب التزام مذهب من المذاهب، وهذا ما لم ينص عليه ابن رجب ولم يدل عليه كلامه، بل كلامه في غيره على النقيض، قال في رسالة أخرى له:(فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظَّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ) ينظر: الحكم الجدير بالإذاعة ضمن مجموع رسائله 1/ 245.

وإنما أراد ما أراده ابن هبيرة هنا وغيره من أن الحق منحصر في المذاهب الأربعة؛ لقاعدة مصلحية اقتضتها حكمة الله ولطفه؛ حفظًا للدين من إفتاء من شاء بما شاء ودعواه أن ثَّم قائلًا بما قاله من السلف، وقرَّر ابن رجب أن هذا كله إنما هو في غير من بلغ درجة الاجتهاد المطلق، وأما من بلغ تلك درجة ساغ له مخالفتهم، قال رحمه الله:(ومع هذا، فلم يزل يظهر من يدَّعى بلوغَ درجة الاجتهاد، ويتكلّم في العلم من غير تقليدٍ لأحد من هؤلاء الأئمة ولا انقياد، فمنهم من يسوغ له ذلك؛ لظهور صدقه فيما ادّعاه، ومنهم من رُدَّ عليه قوله وكُذِّب في دعواه، وأمَّا سائرُ الناس ممن لم يصل إلى هذه الدرجة فلا يسعهُ إلا تقليدُ أولئك الأئمة، والدخول فيما دخل فيه سائرُ الأمة)، ولما اعتُرض عليه بأن الفقهاء الأربعة يجوز أن يتفقوا على شيء ويكون الحق خارجًا عنهم، أجاب: بأنه قد منع منه طائفة، ثم قال:(وعلى تقدير تسليمه؛ فهذا إنَّما يقع نادرًا، ولا يطَّلع عليه إلا مجتهد وصل إلى أكثر مما وصلوا إليه، وهذا أيضًا مفقود أو نادر، وذلك المجتهدُ على تقدير وجوده: فرضُه اتباع ما ظهر له من الحق، وأما غيره ففرضُه التقليد).

فمراد ابن رجب من رسالته والله أعلم: ضبط فتوى المفتين، وسد باب التشهي فيه؛ طلبًا للرياسة وحبًّا في الاعتداد بالنفس وإقحامها في زمرة المجتهدين، لا أن اتفاق المذاهب الأربعة حجة شرعية لا يجوز للمجتهد بعدهم مخالفتها، وهذا ظاهر في كلامه لمن تأمله.

وقد خالف مذاهب الأئمة الأربعة في بعض المسائل جماعة من الأئمة المحققين المجتهدين، فقد ذكر السيوطي عن ابن حجر أنه قال في ترجمة محمد بن يوسف القونوي الحنفي:(صار له في آخر أمره اختيارات تخالف المذاهب الأربعة لما يظهر له من دليل) الرد على من أخلد إلى الأرض ص 103.

وقال ابن كثير عن شيخ الإسلام ابن تيمية: (ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم) البداية والنهاية 18/ 125.

ومما ينبغي الانتباه له: أن مثل هذه الاختيارات لشيخ الإسلام هي في الغالب خلاف المشهور من مذاهبهم، وإلا فقد يكون في فقهاء المذاهب من يوافقه عليها، فإنه رحمه الله يقول عن مذهب أحمد مثلًا:(ولا يوجد قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه ما يوافق القول القوي) ينظر: مجموع الفتاوى 20/ 227.

ص: 80

يُكره له أن يَقضِيَ بما انفرد به الواحد منهم عمَّا عليه الثلاثة؛ لكونه مذهب شيخه أو أهل بلده، وذكر أنه يخاف على هذا أن يكون متبعًا لهواه.

[3 - تقليد المذاهب الأربعة أولى من غيرها، ولا يجب]

وتضمَّن كلامه أيضًا: أن الإجماع انعقد على تقليد كل واحد من المذاهب الأربعة دون مَن عَداهم مِن الأئمة؛ لأن مذاهبهم مدونة قد حُرِّرَت، ونَقَّحها أتباعهم، بخلاف أقوال غيرهم من الأئمة، فلأجل هذا جاز تقليدهم، فليس في كلامه إلا حكاية الإجماع على جواز تقليدهم لا على وجوبه.

[4 - لا ينبغي الاقتصار على مذهب واحد لا يُفتى بغيره]

بل صرح بأن القاضي لا ينبغي له الاقتصار على مذهب واحد منهم لا يفتي إلا به، بل ذكر أن الأولى للقاضي أن يَتوخَّى مواطن الاتفاق إن وجده، وإلا توخَّى ما عليه الأكثر، فيعمل بما قاله الجمهور، لا بما قاله الواحد منهم مخالفًا الأكثر.

[قضية كلام ابن هبيرة: أن المقلد يجتهد في أقوال الأئمة الأربعة ولا يخرج عنها]

فَقَضِيَّة كلامه: أن المقلِّد لا يَخرُج عن أقوال الأئمة الأربعة، بل يجتهد في أقوالهم، ويتوخَّى ما عليه أكثرهم، إلا أن يكون للواحد منهم دليل؛ فيأخذ بقول من كان الدليل معه، فيكون من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} .

ص: 82

[الفرق بين المجتهد المطلق المستقل والمجتهد المنتسب والمجتهد المقيد والمقلد]

وهذا مِن جنس ما أشرنا إليه فيما تقدم: من أن المقلِّد إذا كان نبيهًا، وله مَلَكة قوية، ونظر فيما تنازع فيه الأئمة، وأمعن النظر في أدلتهم وتعليلاتهم؛ تبين له الراجح من المرجوح، وحينئذ؛ فيعمل بما تَرجَّح عنده أنه الصواب، ولا يخرج بذلك عن التقليد.

فإذا كان الرجل شافعيًّا أو حنبليًّا، ونظر في كتب الخلاف، ووجد دليلًا صحيحًا قد استدل به مالكٌ، فعمل بالدليل؛ كان هذا هو المناسب في حقه، فيجعل إمامًا بإزاء إمام، ويَسْلَم له الدليل بلا معارض، وليس هذا من الاجتهاد المطلق، بل هو من الاجتهاد المقيَّد، فهو يَتَّبع الدليل، ويُقلِّد الإمام الذي قد أخذ به.

وأما الأخذ بالدليل من غير نظرٍ إلى كلام العلماء؛ فهو وظيفةٌ للمجتهد المطلق.

وأما المقلِّد الذي لم تجتمع

(1)

فيه الشروط؛ ففرضه

(2)

التقليد وسؤال أهل العلم

(3)

.

(1)

في (ب): يجتمع.

(2)

في (أ): فغرضه.

(3)

علمنا مما تقدم أن جمهور العلماء يقسمون الناس باعتبار الاجتهاد في الأدلة إلى ثلاثة أقسام: مجتهد، وعالم لم يبلغ درجة الاجتهاد، ومقلد، وتقدم حكم كل قسم منهم.

وقسم ابن الصلاح - وتبعه ابن حمدان - المجتهد إلى أقسام أخرى باعتبار المذهب، وجميع هذه الأقسام داخل في الثلاثة المذكورة.

إلا أنهما قالا كلامًا أثار شبهة عند البعض، خلاصته: أن القسم الأول من المجتهدين هو المجتهد المستقل، وهو الذي يستقل بإدراك الأحكام من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد؛ وأن هذا القسم قد فُقد منذ زمن، قال ابن الصلاح:(ومنذ دهر طويل طُوِيَ بساط المفتي المستقل المطلق والمجتهد المستقل)، وذكر مثلهما النووي وغيره.

وفهم البعض من هذا الكلام: إغلاق باب الاجتهاد أو تضييقه، وأن الناس جميعًا يسعهم التقليد اليوم، ثم أضافوا إلى ذلك ما فهموه خطأً من قول جمهور الأصوليين من جواز خلو العصر من مجتهد، خلافًا للحنابلة القائلين بعدم جوازه.

والجواب عن هذه الشبهة:

1 -

أنهما تكلَّما عما أدركاه من ركون الناس إلى التقليد وعدم العناية بآلات الاجتهاد، قال ابن بدران:(ولا يلزم من طي البساط عدم الوجود، فإن فضل الله لا ينحصر في زمان ولا في مكان).

2 -

أن هذا الأمر لم يوافقهما عليه جماعة من العلماء من الحنابلة وغيرهم؛ كابن مفلح والمرداوي وابن النجار وابن المنير والسيوطي وغيرهم.

3 -

أن أصحاب المذاهب عدوا جماعة من المجتهد المطلق؛ كابن عبدان ومحمد بن نصر المروزيان والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد والبلقيني وتقي الدين السبكي وابن الصباغ، وهؤلاء جميعًا من الشافعية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وعدَّ السيوطي نفسه منهم، ولو أردنا استقصاء من وصف بالاجتهاد لطال الكلام.

4 -

أنهما تحدَّثا عن فرض تركه الناس، وهذا يدل على أن هذه الدرجة من الاجتهاد واجب على الأمة تحصيلها، قال ابن حمدان في معرض تأسفه على ضياع الهمم وترك هذه الدرجة من الاجتهاد:(وهو فرض كفاية قد أهملوه وملُّوه ولم يعقلوه ليفعلوه).

فينبغي أن يكون كلامه هذا مدعاةً إلى الاجتهاد في تحصيل درجة الاجتهاد للقيام بفرض الكفاية، لا أن يكون سببًا لترك أسباب بلوغ تلك الدرجة.

5 -

أن مسألة جواز خلو العصر من المجتهد، إنما هي في الإمكان وعدمه، لا في الوقوع، ولا يلزم من كون الشيء ممكنًا أن يكون واقعًا، ولذا فإن العراقي لما ذكر المسألة قال:(ذهب الأكثرون إلى جواز خلو الزمان من مجتهد مطلق ومقيد)، فأدخل المجتهد المقيد في المسألة، وهم لا يقولون بعدم وجوده.

6 -

ما ذكره السيوطي: أن مرادهم بالمجتهد الذي فُقد منذ زمن هو المجتهد المستقل الذي استقل بقواعده لنفسه، يبني عليها الفقه خارجًا عن قواعد المذهب المقررة، بل لو أراده الإنسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له، نص عليه غير واحد. انتهى كلامه.

وقال ابن برهان: (أصول المذاهب وقواعد الأدلة منقولة عن السلف فلا يجوز أن يحدث في الأعصار خلافها).

وقال ابن المنير: (إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر الوجود لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب).

وأما المجتهد المطلق المنتسب فغير مراد بكلامهم، وبين السيوطي أن الخلط جاء بسبب عدم التفريق بين المجتهد المطلق المستقل وبين المجتهد المطلق المنتسب، وصنَّف في ذلك كتابه:(الرد على من أخلد إلى الأرض)، وذكر فيه نصوص العلماء في عدم جواز خلو عصر من مجتهد، وأن الاجتهاد فرض كفاية، وذكر من حث على الاجتهاد وذم التقليد، وساق جملة من العلماء الذين وُصِفوا بالاجتهاد المطلق.

وهذا التقسيم صحيح في الجملة كما سيذكره المؤلف، فإنه ليس لأحد أن يأتي بدليل أصلي جديد بعد استقرار الأصول وقواعد الاستدلال، كأن يقول: ما اتفق عليه ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم فهو حجة، فإن هذا أمر قد فُرِغ منه، إلا أنه لا يمكن حمل كلام ابن الصلاح وابن حمدان عليه، ففي بعض كلامهما ما يأباه.

وقد بيَّن ابن جماعة رحمه الله: (إحالة أهل زماننا وجود المجتهد يصدر عن جبن ما، وإلا فكثيرًا ما يكون القائلون لذلك من المجتهدين، وما المانع من فضل الله واختصاص بعض الفيض والوهب والعطاء ببعض أهل الصفوة) الرد على من أخلد إلى الأرض ص 67.

ثم إن القول بانقطاع الاجتهاد يؤدي إلى القول بعدم فائدة علم أصول الفقه، يقول الذهبي:(يا مقلد، ويا من زعم أن الاجتهاد قد انقطع وما بقي مجتهد، لا حاجة لك في الاشتغال بأصول الفقه، ولا فائدة في أصول الفقه إلا لمن يصير مجتهدًا به، فإذا عرفه ولم يَفُكَّ تقليد إمامه؛ لم يصنع شيئًا، بل أتعب نفسه وركب على نفسه الحجة في مسائل، وإن كان يقرؤه لتحصيل الوظائف وليتعال فهذا من الوبال).

ينظر: أدب المفتي ص 78، صفة الفتوى ص 17، المسودة ص 546، الغيث الهامع ص 719، الرد على من أخلد إلى الأرض (كاملة)، المدخل لابن بدران ص 375.

ص: 83

قال عبد الله بن الإمام أحمد: (سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصرٌ بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخيَّر ما أحب منها؛ فيفتي به ويعمل به؟

ص: 86

قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم) انتهى

(1)

.

وأما إذا وجد الحديث قد عمل به بعضُ الأئمة المجتهدين، ولم يعلم عند غيره حُجَّةً يَدفع بها الحديث، فعمل به؛ كان قد عمل بالحديث وقلَّد هذا الإمام المجتهد في تصحيحه وعدم ما يعارضه، فيكون مُتَّبعًا للدليل، غيرَ خارجٍ عن التقليد.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (طالب العلم يُمكنه معرفة الرَّاجح من الكتب الكبار، التي يذكر فيها مسائل الخلاف، ويُذكر فيها الرَّاجح؛ مثل كتاب «التعليق» للقاضي أبي يعلى، و «الانتصار» لأبي الخطاب، و «عُمَد الأدلة

(2)

» لابن عقيل، و «تعليق القاضي يعقوب البرزبيني

(3)

وأبي الحسن الزاغوني».

ومما يُعرف منه ذلك: كتاب «المغني» للشيخ أبي محمد، وكتاب «شرح الهداية» لجدنا أبي البركات.

ومَن كان خبيرًا بأصول أحمد ونصوصه؛ عَرَف الرَّاجح في مذهبه في عامة المسائل، ومن كان له بصرٌ بالأدلة الشرعية؛ عَرَف الرَّاجح في الشرع.

(1)

ينظر: مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله ص 438.

(2)

في (أ): عمدة الأدلة. والمثبت هو الصواب.

(3)

في (أ): البرزيني. والمثبت هو الصواب.

ص: 87

وأحمد رحمه الله أعلم مِن غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان رحمهم الله، ولهذا لا يَكاد يوجد له قول يُخالِف نصًّا كما يوجد لغيره، ولا يوجد قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه ما يوافق القول القوي، وأكثر مفاريده التي لم يَختلِف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحًا) انتهى كلامه رحمه الله

(1)

.

وهو موافق لما ذكره صاحب «الإفصاح» ، من أن القاضي عليه أن يتوخَّى إصابة الحق، فيتوخَّى مواطن الاتفاق، فيعمل بما اتفقوا

(2)

عليه، فإن لم يكن الحكم متفقًا؛ نظر فيما عليه الجمهور إذا لم يكن مع مخالفهم دليل، فليس الناظر في كتب الخلاف ومعرفة الأدلة بخارج عن التقليد، وليس في كلام صاحب «الإفصاح» ما يقتضي لزوم

(3)

التمذهب بمذهب لا يخرج عنه، بل كلامه صريح في ضد ذلك.

[شبهة: صعوبة الاجتهاد ووجوب التزام المذهب]

وهذه شبهة

(4)

:

ألقاها الشيطان على كثير ممن يدَّعي العلم،

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى 20/ 227.

(2)

في (أ): اتُّفق.

(3)

قوله: (لزوم) سقط من (ب).

(4)

يُعلم فساد هذه الشبهة مما تقدم وما سيأتي بيانه، وهي شبهة مبنية من مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى: أن الناس قسمان: مجتهد ومقلد. وتقدم الجواب عنها ص

هامش

المقدمة الثانية: أن المقلد فرضه التقليد في جميع المسائل. وتقدم الجواب عنها أيضًا ص

هامش

، وتقدم بيان الحالات التي يجوز فيها التقليد.

المقدمة الثالثة: أن الاجتهاد أمر صعب المنال، وأنه قد انطوى بساطه منذ زمن. وتقدم الجواب عنها ص

هامش

وسيأتي مزيد إيضاح في كلام المؤلف رحمه الله.

نتيجة هذه المقدمات الثلاث: الركون إلى التقليد، قالوا: ولما كان الانتقال من قول إلى قول ذريعة إلى تتبع الرخص والعمل التشهي؛ أوجبوا التزام المذهب وحرموا الخروج عنه.

فأجاب المؤلف رحمه الله عن هذه الشبهة، وبيَّن المؤلف حال من استحوذت عليه هذه الشبهة مع النصوص، وهم على درجات، فليفتش المرء في نفسه إن كان معظمًا لمذهبه، فقلَّ أن يسلم من ذلك معظم لمذهب، وتعاهد السنة في قلبك فكم من إنسان سُلب تعظيمها وحسن متابعتها، هدانا الله إلى سواء السبيل.

ص: 88

وصاد بها أكثرهم، فظنُّوا أن النظر في الأدلة أمرٌ صعبٌ لا يَقدِر عليه إلا المجتهد المطلق، وأن من نظر في الدليل، وخالف إمامه لمخالفة قوله لذلك الدليل فقد خرج عن التقليد، ونسب نفسه إلى الاجتهاد المطلق.

واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثيرٍ، حتى آل الأمر بهم إلى أن تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، وزعموا أن هذا هو الواجب عليهم، وأن مَن انتسب إلى مذهب إمامٍ؛ فعليه أن يأخذ بعزائمه ورخصه، وإن خالف نصَّ كتابٍ أو سنةٍ.

ص: 89

فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أمته، لا يجوز الخروج عن قوله، ولا تجوز مخالفته، فلو رأوا أحدًا من المقلِّدين قد خالف مذهبه، فقلَّد إمامًا آخر في مسألة لأجل الدليل الذي استدل به، قالوا:(هذا قد نسب نفسه إلى الاجتهاد، ونزَّل نفسَه منزلة الأئمة المجتهدين)، وإن كان لم يخرج عن التقليد، وإنما قلَّد إمامًا دون إمام آخر لأجل الدليل، وعمل بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} .

[حال المتعصب مع الدليل]

فالمتعصبون للمذاهب إذا وجدوا دليلًا ردُّوه إلى نصِّ إمامهم، فإن وافق الدليلُ نصَّ الإمام؛ قبلوه، وإن خالفه؛ ردُّوه واتَّبعوا نصَّ الإمام واحتالوا في رد الأحاديث بكل حيلة يهتدون إليها.

فإذا قيل لهم: هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أنت أعلم بالحديث من الإمام الفلاني؟

مثال ذلك: إذا حكمنا بطهارة بولِ ما يؤكل لحمه، وحكم الشافعي بنجاسته، وقلنا له: قد دل على طهارته حديث العرنيين، وهو حديث صحيح

(1)

، وكذلك حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (233)، ومسلم (1671)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قدم أناس من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة «فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها» الحديث.

(2)

أخرجه البخاري (234)، ومسلم (524)، عن أنس رضي الله عنه قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، قبل أن يبنى المسجد، في مرابض الغنم» .

ص: 90

فقال هذا المنجِّس لأبوال ما يؤكل لحمه: أنت أعلم بهذه الأحاديث من الإمام الشافعي؟ فقد سمعها ولم يأخذ بها.

[جواب عن الشبهة]

فنقول له: قد خالف الشافعي في هذه المسألة مَن هو مثله أو أعلم منه؛ كمالك والإمام أحمد، وغيرهما من كبار الأئمة، فنجعل هؤلاء الأئمة بإزاء الشافعي، ونقول: إمام بإمام، وتسلم لنا الأحاديث، ونرد الأمر إلى الله والرسول عند تنازع هؤلاء الأئمة، ونَتَّبِع الإمام الذي أخذ بالنص، ونعمل بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .

فنمتثل ما أمر الله به، وهذا هو الواجب علينا، ولسنا في هذا العمل خارجين عن التقليد، بل خرجنا من تقليد إمام إلى تقليد إمام آخر؛ لأجل الحجة التي أدلى بها من غير معارض لها ولا ناسخ.

فالانتقال من مذهب إلى مذهب آخر لأمر ديني؛ بأن يتبين

(1)

له رجحان قول على قول، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الدليل؛ مُثابٌ على فعله، بل وجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه، ولا يُتَّبعُ أحدٌ في مخالفة حكم الله ورسوله؛ فإن الله فرض على الخلق طاعته وطاعة

(2)

(1)

في (أ): تبيَّن.

(2)

قوله: (طاعته) سقط من (ب).

ص: 91

رسوله صلى الله عليه وسلم في كل حال كما تقدم ذكره.

وقد ذكرنا أن الشافعي قال: (أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس).

وأما الانتقال من مذهب إلى مذهب لمجرد الهوى أو لغرض دنيوي؛ فهذا لا يجوز، وصاحبه يكون مُتَّبِعًا لهواه، وقد نصَّ الإمام أحمد: على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبًا أو محرمًا، ثم يعتقده غير واجب أو محرم بمجرد هواه.

وذلك مثل أن يكون طالبًا للشفعة بالجوار، فيعتقدها أنها حق، ويقول: مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أرجح من مذهب الجمهور، ثم إذا طلبت منه الشفعة بالجوار اعتقد أنها ليست ثابتة، وقال: مذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح.

أو مثل من يعتقد إذا كان أخًا مع جد؛ أن الإخوة تُقاسِم الجدَّ كما هو مذهب الأئمة الثلاثة، فإذا كان جَدًّا مع أخ اعتقد أن الجد يُسقِط الإخوة كما هو مذهب أبي حنيفة.

فهذا ونحوه لا يجوز، وصاحبه مذموم، بل يجب عليه أن يعتقد الحقَّ فيما له وعليه، ولا يَتَّبِع هواه، ولا يَتَتَبِع الرُّخَص، فمتبع الرخص مذموم، والمتعصب للمذهب مذموم، وكلاهما متبعٌ هواه.

ص: 92

[المتعصبون خالفوا نصوص أئمتهم في كثير من المسائل واتَّبعوا أقوال المتأخرين]

والمتعصبون لمذاهب الأئمة، تجدهم في أكثر المسائل قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قاله الآخر فالآخر، وكلَّما تأخَّر الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا أو كادوا يَهجُرون كلام من فوقه.

فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدمين هجرًا ورغبةً عنه، حتى إنَّ كُتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم فهي مهجورة.

فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في «الإقناع» و «المنتهى» ، ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد، مع أن كثيرًا من المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد، يعرف ذلك من يعرفه

(1)

.

(1)

هذا الكلام موافق لما قاله شيخ المؤلف الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في رسالته للأحسائي الشافعي:(وأكثر الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه، يعرف ذلك من عرفه) الدرر السنية 1/ 45.

وقد استشكل هذا الكلام طائفة من الحنابلة ولم يقبلوه من الشيخ، وتمسك به طائفة ممن ينبذ التمذهب بإطلاق، وليس في كلامه إشكال ولله الحمد، ولا خروج عن جادة الحق وطريق أهل العلم، وتوضيح ذلك:

أن كلام الشيخ لا يرجع إلى عموم مسائل الكتابين بلا شك، فإنه وتلاميذه وعلماء دعوته كثيرًا ما يرجعون إليهما ويفتون بما فيهما، وإنما هو راجع إلى المسائل التي أُنكِر على الشيخ مخالفة مذهب المتأخرين فيها.

ودل كلام المؤلف هنا أن مراده بقوله: (أكثر): كثير، وهذا مستعمل في اللغة، قال ابن مالك:(استعمال "أفعل" غير مقصود به تفضيل كثير)، ومنه قوله تعالى:(وهو أهون عليه)، ولذا عبَّر المؤلف أولًا بـ (أكثر)، ثم عبَّر بـ (كثير).

فيكون معنى كلام المجدد رحمه الله: إن كثيرًا مما في الإقناع والمنتهى مما أنكرتم علينا مخالفته؛ هو مخالف لنصوص الإمام أحمد.

وإنما قلنا بأن هذا هو مراد الشيخ لقوله في آخر الكلام: (عرف ذلك من عرفه)، وهذا يدل على عناية الشيخ بالكتابين واطلاعه على نصوص الإمام أحمد، وإذا كان الشيخ قد خَبَر الكتابين هذه الخبرة حتى قال مقولته هذه، فإنه يدرك ما يدركه مَن هو أقل منه خبرة بالمذهب، من أن مادة الإقناع والمنتهى مأخوذة مما جزم المرداوي به في التنقيح والإنصاف بأنه المذهب، ولم يخالفاه إلا في مسائل معدودة، وقد جزم غير واحد بأن ما نص عليه الإمام أحمد ولم يختلف فيه قوله فهو المذهب عند الأصحاب، ولذا فإن غالب ما ذَكر المرداوي بأنه المذهب تجده يقول بعده في الإنصاف:(نص عليه) يعني الإمام أحمد.

وعلى هذا، فمسائل الإقناع والمنتهى بهذا الاعتبار لا تخلو من أقسام:

الأول: مسائل نص عليها الإمام أحمد ولم يختلف فيها قوله، وهي المذكورة في الإقناع والمنتهى: فمثل هذه المسائل لم يُردها الإمام المجدد في عبارته قطعًا.

الثاني: مسائل اختلف قول الإمام أحمد فيها، والذي في الإقناع والمنتهى أحدها: فهذه لم يُرِدْها أيضًا.

الثالث: مسائل ليس للإمام أحمد فيها نص أصلًا: فهذه أيضًا غير مرادة في كلام الشيخ رحمه الله.

الرابع: مسائل ذكر في الإقناع والمنتهى أنها المذهب، وهي مخالفة لنصوص أحمد، أو مخالفة لقوله المتأخر: فهذا النوع من المسائل هو مراد الشيخ، ومثل هذا النوع من المسائل موجود بلا شك في الكتابين، وإليك من كل نوع مثالين:

فمثال ما كان مخالفًا لمنصوص أحمد:

1 -

نص في الإقناع والمنتهى على عدم صحة النكاح إلا بلفظ "إنكاح" أو "تزويج": قال شيخ الإسلام: (الذي عليه أكثر العلماء، أن النكاح ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج. قال: وهو المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله ثم قال: (ولم ينقل أحد عن الامام أحمد رحمه الله أنه خصه بهذين اللفظين)، وذكر أن أول من قال بذلك: الحسن بن حامد. ينظر: الإنصاف 20/ 94.

2 -

إذا أحرم منفردًا، ثم نوى الإمامة، فالمذهب كما في الإقناع والمنتهى: لا تصح إمامته في نفل ولا فرض، والمنصوص عن أحمد صحتها في النفل والفرض، واختاره شيخ الإسلام. ينظر: الإنصاف 3/ 377.

ومثال ما كان مخالفًا لقول أحمد المتأخر:

1 -

نص المتأخرون على وجوب التسمية في الوضوء: على أن الرواية المتأخرة عن الإمام أحمد ما قاله الخلال: (الذي استقرت عليه الروايات عنه: أنه لا بأس إذا ترك التسمية). وقال ابن رزين: (هذا المذهب الذي استقر عليه قول أحمد) ينظر: الإنصاف 1/ 274.

2 -

نص المتأخرون على جواز دفع الزكاة إلى الزوج: وهي رواية قديمة عن أحمد، قال الخلال:(هذا القول الذى عليه أحمد، ورواية الجواز قول قديم رجع عنه). ينظر: الإنصاف 7/ 306.

ثم إن مثل هذه المسائل فرَّع المتأخرون عليها تفاريع ومسائل، فتكوَّنت فروع كثير هي خلاف ما نص عليه الإمام أحمد، وبهذا يظهر صحة عبارة الشيخ ومراده، والله الهادي إلى سواء السبيل.

وهذا أمر ليس خاصًّا بمذهب الحنابلة، بل وغيره من المذاهب كذلك وأشد:

فعند الحنفية: يقول العلامة اللكنوي: (ما اشتهر أن المتون موضوعة لنقل مذهب الإمام أبي حنيفة حكمٌ أغلبيٌّ لا كلي، فكثيرًا ما ذكروا فيها مذهب صاحبيه إذا كان راجحًا) ينظر: عمدة الرعاية ص 10.

وعند المالكية: يقول الأمين الشنقيطي عن مذهب المالكية: (يجب عليه أن يتنبه تنبهًا تامًّا للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقًّا، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه، وما زاده المتأخرون وقتًا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه، لتبرأ منها، وأنكر على مُلحِقِها، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح) ينظر: أضواء البيان 7/ 373.

وعند الشافعية: يقول ابن النقَّاش الدُّكَّالي تلميذ تقي الدين السبكي: (الناس اليوم رافعية لا شافعية، ونووية لا نبوية) ينظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 3/ 132.

ثم إن الذي دعا الشيخ لقول هذه العبارة؛ ما عاصره من زمانٍ اشتد فيه التعصب، وحرم بعضهم الخروج عن المذهب، حتى إن الشيخ يقول عن بعضهم في رسالته للأحسائي:(فجزمتم أنه لا ينتفع بكلام الله وكلام رسوله إلا المجتهد، وتقولون: يحرم على غيره أن يطلب الهدى من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أصحابه)، نعوذ بالله من الخذلان.

ص: 93

[كتب متقدمي المذاهب باتت مهجورة من المتعصبين]

وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة عندهم، بل قد هجروا كتب المتوسطين، ولم يعتمدوا إلا على كتب المتأخرين، فـ «المغني» و «الشرح» و «الإنصاف» و «الفروع» ، ونحو هذه الكتب التي يذكر أهلها خلاف الأئمة أو خلاف الأصحاب لا ينظرون فيها، فهؤلاء في الحقيقة أتباع الحجاوي وابن النجار، لا أتباع الإمام أحمد

(1)

.

(1)

وجه كونه من أتباع الحجاوي لا من أتباع أحمد: أنه لما التزم ما قرره الحجاوي أو ابن النجار مطلقًا، سواء نص عليه أحمد أو كان نص أحمد على خلافه، والتزم ما تفرَّع عن ذلك من المسائل؛ كان انتسابه للحجاوي وابن النجار أولى من انتسابه لأحمد.

وأما من انتسب لمذهب أحمد الانتساب الجائز، بمعنى أنه يوافقه في طريقته في الاستدلال غالبًا، ولو خالفه في كثير من الفروع؛ كان انتسابه إلى الإمام أحمد بهذا الاعتبار أقرب إلى المعقول من انتساب الأول المزعوم، فأي الفريقين أحق بأحمد حينئذ؟!

وليس الانتساب إلى الإمام أحمد أو إلى غيره من الأئمة بقضية هامَّة عند صاحب الحق، ولكن القوم يتمدحون بانتسابهم لأحمد واعتزائهم لمذهبه، ويقدحون بطريقة أهل الحق القائمة على تعظيم النصوص والنظر فيها من أهلها، ويزعمون أنها طريقة مخالفة لطريقة أحمد وأصحابه، ومرادهم الانتقاص والتنفير غالبًا، حتى ذكر بعضهم أن إمام الدعوة ابتدع مذهبًا خامسًا.

فإذا كنتم تعيبون على من خالف مذهب المتأخرين اتباعًا للدليل، فها أنتم تخالفون الدليل تارة، ونصوص أحمد تارة أخرى التزامًا بما في الإقناع والمنتهى، فصح مشاكلةً أن يقول قائل في طريقتكم:(حجَّاويَّة لا حنبلية، ونجَّارية لا نبويَّة).

ص: 97

وكذلك متأخرو الشافعية هم في الحقيقة أتباع ابن حجر الهيتمي صاحب «التحفة» ، وأضرابه من شُرَّاح «المنهاج» ، فما خالف ذلك من نصوص الشافعي لا يعبؤون به شيئًا.

وكذلك متأخرو المالكية هم في الحقيقة أتباع خليل، فلا يعبأون بما خالف «مختصر خليل» شيئًا، ولو وجدوا حديثًا ثابتًا في الصحيحين لم يعملوا به إذا خالف المذهب، وقالوا: الإمام الفلاني أعلم منا بهذا الحديث، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .

فكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم، فلا يرجعون إلا إليها، ولا يعتمدون إلا عليها، وأما كتب الحديث؛ كالأمهات الست وغيرها من كتب الحديث وشروحها، وكتب الفقه الكبار التي يُذكر فيها خلاف الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين؛ فهي عندهم مهجورة، بل هي في الخزانة مسطورة، للتبرك بها لا للعمل، ويعتذرون بأنهم قاصرون

(1)

عن معرفتها؛ فالأخذ بها وظيفة المجتهدين، والاجتهاد قد انطوى بساطه من أزمنة متطاولة، ولم يبقَ إلا التقليد، والمقلِّد يأخذ بقول إمامه، ولا ينظر إلى دليلِه وتعليلِه

(2)

.

(1)

نهاية نسخة (ب).

(2)

تنبيهان:

التنبيه الأول: مراده بلا ريب: بيان حال بعض مقلدة المذاهب الفقهية، لا عموم من انتسب إلىها، فإن بعض المتمذهبة اقتصروا في التعلُّم والعمل على ما تأخر من مصنفات المذهب، والسبب في ذلك: فهمهم ا لخاطئ للمقصود من تصنيف أصحابها لها، وقد جرَّهم إلى هذا الفهم: التقليد المتقدم ذمُّه وبيانه.

وقد تقدم في المقدمة بيان المقصود من تصنيف المصنفات وكتابة المختصرات ص

التنبيه الثاني: ليس مراده بلا ريب: الاعراض عن كتب الفقهاء جملة وتفصيلًا، فإن هذا لا يفيده كلامه حتى من بعيد، بل إن المؤلف وشيوخه وتلاميذه في نجد من أشد الناس عناية بكتب الفقهاء، ويدل على ذلك أمور:

1 -

أن الشيخ وأهل دعوته كانوا ينتسبون إلى المذهب، قال عبد الله ابن الشيخ:(ونحن في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل) ينظر: الدرر السنية 4/ 15.

2 -

أن شيخه الشيخ محمد بن عبد الوهاب اختصر الشرح الكبير والإنصاف، ومكانة الكتابين معروفة عند الحنابلة.

3 -

أن من اطلع على فتاويهم رأى كثرة إيرادهم لكلام الحنابلة، من المغني والشرح والفروع والإنصاف وقواعد ابن رجب والإقناع والمنتهى وحواشيها وغيرها من مصنفات الحنابلة.

4 -

دقة فهمهم لكتب المتأخرين؛ كالمنتهى والإقناع والروض وغيرها، فإنه قلَّ أن يَدرُس أحد كتاب الروض المربع مثلًا إلا ورجع إلى حواشيهم، فإن غالب حواشي الروض مما كتبوه، كحاشية أبا بطين والعنقري والشثري وابن سيف وابن عيسى وغيرهم، وكتب الشيخ عبد الله أبا بطين حاشية نفيسة على المنتهى وشرحه، وقُرئ عليه شرح المنتهى مرارًا، وشرح مختصر التحرير في الأصول، وقرأ الشيخ عمر بن حسن وأخيه عبد الله المنتهى وشرحه على والديهما كاملًا، وقُرئ على الشيخ محمد بن إبراهيم الروض كاملًا وشرحه شرحًا دقيقًا.

ومن دقة فهمهم بعبارات كتب الفقهاء ما أجاب به الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن عبارة الروض، نقلاً عن صاحب النظم:(وتحرم القراءة في الحش وسطحه، وهو متوجه على حاجته)، فأجاب:(اعلم أن قوله: "متوجه"، من كلام صاحب الفروع، ومعناه: أن التحريم يتوجه إذا كان المتخلي جالساً على حاجته بهذا القيد) ينظر: الدرر السنية 4/ 147.

5 -

أنه كانت بأيديهم سائر كتب المذهب من كتب المتقدمين والمتأخرين، فيقرؤونها ويشرحونها ويحشُّون عليها.

6 -

ما قيل في تراجمهم من شدة عنايتهم بالمذهب، فمن ذلك ما قاله ابن حميد في شيخ أبا بطين:(إذا قرر مسألة يقول: هذي عبارة المقنع، مثلًا، وزاد عليها المنقح كذا ونقص منها كذا، وأبدل لفظة كذا بهذه) ثم قال: (وبموته فُقِد التحقيق في مذهب الإمام أحمد، فقد كان فيه آية، وإلى تحقيقه النهاية، فقد وصل فيه إلى الغاية) السحب الوابلة 2/ 631.

وأبا بطين من تلاميذ صاحب هذه الرسالة المباركة والشيخ عبد العزيز الحصين، وكلاهما من تلاميذ الإمام المجدد رحمهم الله جميعاً.

فلم يُرِد المؤلف في هذه الرسالة ترك الاعتناء بالمذهب وقراءة كتبه، وإنما أراد النصح لمن أعرض عن نصوص الوحيين والتزم المذهب في التعلم والتعليم والعمل والإفتاء، وعظم المذهب في نفسه أكثر من تعظيم الوحي، وصار يذم من خالف المذهب ولو أخذ بمذهب آخر الموافق للدليل، حتى عدَّ بعضهم ما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبًا خامسًا لشدة غربة السنة في زمانهم.

فمنهج أئمة الدعوة النجدية والعلماء المحققين قبلهم منهج وسط بين من ينبذ المذاهب وبين من يتعصب لها، فهم يستفيدون من الفقهاء ويتعلمون من كتبهم ويدرسونها ويدرسونها، ويعظمون الدليل ويقدمونه على غيره وإن لم يبلغ الواحد منهم مرتبة الاجتهاد، إذا كان ثَّم إمام قال به.

ص: 98

[تتمة الجواب عن الشبهة]

ولم يميزوا بين المجتهد المطلق الذي قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، فهو يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد، وبين المجتهد في مذهب إمامه، أو في مذهب الأئمة الأربعة من غير خروج عنها، فهو ملتزم لمذهب إمام من الأئمة، وينظر في كتب الخلاف، ويُمعِن النظر في الأدلة، فإذا رأى الدليل بخلاف مذهبه قلَّد الإمام الذي قد أخذ بالدليل، فهو اجتهاد مشوب بالتقليد، فينظر إلى ما اتفقوا عليه ويأخذ به، فإن اختلفوا نظر في الأدلة، فإن وجد مع أحدهم دليلًا أخذ بقوله، فإن لم يجد في المسألة دليلًا مِن الجانبين أخذ بما عليه الجمهور، فإن لم يجد ذلك، بل قوي الخلاف عنده من الجانبين؛ التزم قول إمامه إذا لم يترجح عنده خلافه.

فأكثر المقلدين لا يميزون بين المجتهد المستقل من غيره، وجعلوهما نوعًا واحدًا، وهذا غلط واضح؛ فإن من كان قاصرًا في العلم؛ لا يَستقِل بأخذ الأحكام من الأدلة، بل يسأل أهل العلم،

ص: 101

كما نص عليه الإمام أحمد رحمه الله في رواية ابنه عبد الله، وقد ذكرناه فيما تقدم

(1)

.

وأما الاجتهاد المقيَّد بمذاهب الأئمة، وتوخِّي الحقَّ بما دل عليه الدليل وبما عليه الجمهور؛ فهذا هو الذي لا ينبغي العدول عنه، وهو الذي ذكره صاحب «الإفصاح» .

[ذم لزوم التمذهب بمذهب لا يخرج عنه]

وأما لزوم التمذهب بمذهب بعينه؛ بحيث لا يخرج عنه وإن خالف نص الكتاب أو السنة، فهذا مذموم غير ممدوح، وقد ذَمَّه صاحب «الإفصاح» كما تقدم ذكره، بل قد ذمَّه الأئمة رضي الله عنهم.

قال الشافعي رحمه الله: (طالب العلم بلا حجة كحاطب ليلٍ، يَحمِل حِزمةَ حطبٍ، وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري)

(2)

.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: (لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه)

(3)

.

وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟!

(1)

ص ....

(2)

أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 157).

(3)

ينظر: إعلام الموقعين 3/ 488.

ص: 102

فقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم ابن جميل قال:(قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قومًا وضعوا كتابًا يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم. قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال: هؤلاء يستتابون)

(1)

.

وقال أبو عمر بن عبد البر: (يقال لمن قال بالتقليد: لِمَ قلت به وخالفت السلف في ذلك، فإنهم لم يقلدوا؟

فإن قال: قَلَّدتُ؛ لأنَّ كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحصها، والذي قلَّدتُه قد علم ذلك، فقلَّدت من هو أعلَم مني.

قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على شيءٍ من الكتاب، أو حكايةٍ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء؛ فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلَّدتَ فيه بعضَهم دون بعض، فما حُجَّتُك في تقليد بعضهم دون بعض وكلهم عالم، ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه؟

(1)

رواه ابن حزم في الإحكام (6/ 120)، بإسناده إلى جعفر الفريابي، ونقله ابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 470).

ص: 103

فإن قال: قَلَّدته؛ لأني أعلم أنه على صواب.

قيل له: علمت ذلك من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع؟

فإن قال: نعم. أبطل التقليد، وطُولِب بما ادعاه من الدليل.

وإن قال: قلدته؛ لأنه أعلم مني.

قيل له: فقلِّد كلَّ من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقًا كثيرًا، ولا تخص من قَلَّدتَه، إذ عِلَّتُك فيه أنه أعلم منك.

فإن قال: قلَّدتَه؛ لأنه أعلم الناس.

قيل له: فهو إذًا أعلم من الصحابة، فكفى بقولٍ مثل هذا قُبحًا.

فإن قال: أنا أُقلِّد بعض الصحابة.

قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلِّد منهم؟ ولعل من تركت منهم أفضل ممن أخذت بقوله، على أن القول لا يصح بفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.

وقد ذكر ابن مدين، عن عيسى بن دينار، عن القاسم عن مالك قال: ليس كُلَّما قال الرجل قولًا - وإن كان له فضل -؛ يُتَّبع عليه؛ لقوله عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} .

ص: 104

فإن قال: قِصَرِي وقلة علمي تَحْمِلُني على التقليد.

قيل له: أما مَن قلَّد فيما يَنزِل به أحكام شريعة عالمًا يُتَّفَق له على علمه، فيَصدُرُ ذلك عما يخبر به فمعذورٌ؛ لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله؛ لإجماع المسلمين أن المكفوف يُقلِّد من يَثِق بخبره في القبلة؛ لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.

ولكن من كانت هذه حاله، هل يجوز له الفتوى في شرائع دين الله، فيَحمِل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك يُصَيِّرها إلى غير من كانت في يده بقولٍ لا يُعرَفُ صحته، ولا قام له الدليل عليه، وهو مُقِرٌّ أن قائله يُخطِئ ويُصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه فيه؟

فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى؛ لحفظه الفروع؛ لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بذلك جهلًا وردًّا للقرآن، قال الله عز وجل:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وقال تعالى:{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .

وقد أجمع العلماء على أن ما لم يُتبيَّن ولم يُستَيقَن فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا).

ص: 105

ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «من أفتى بفتيا وهو يَعْمَى عنها؛ كان إثمها عليه» ، موقوفًا ومرفوعًا

(1)

، قال: وثبت

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»

(3)

، قال: (ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد

(4)

التقليد) انتهى كلام أبي عمر رحمه الله تعالى

(5)

.

فتأمل ما في هذا الكلام من الردِّ على من يقول بلزوم التذهب بمذهبِ المذاهب الأربعة لا يخرج عن ذلك المذهب، ولو وجد دليلًا يخالفه؛ لأن الإمام صاحب المذهب أعلم بمعناه، ويجعل هذا عذرًا له في رد الحديث، أو ترك العمل به.

وتأمَّل قوله: (لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد

(6)

التقليد)،

(1)

أخرجه ابن عبد البر (1626)، بهذا اللفظ موقوفًا.

وأخرجه أحمد (8266)، وأبو داود (3657)، وابن ماجه (53)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وحسنه الألباني.

(2)

في النسخة الخطية: وهب. والمثبت هو المذكور في جامع بيان العلم وفضله (2/ 995).

(3)

أخرجه بلفظه البخاري (5143)، ومسلم (2563)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

في النسخة الخطية: إفساد، والمثبت من جامع بيان العلم وفضله.

(5)

ينظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 994.

(6)

في النسخة الخطية: إفساد.

ص: 106

ومراده: إذا كان المقلِّد قادرًا على الاستدلال، وأما العاجز عنه فهو كالأعمى يُقلِّد في جهة القبلة، فهو معذور إذا كان عاجزًا.

وقد حكى الإمام أبو محمد بن حزم الإجماع على أنه لا يجوز التزام مذهب بعينه لا يخرج عنه، فقال:(أجمعوا على أنه لا يجوز لحاكمٍ ولا لمفتٍ تقليدَ رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله) انتهى

(1)

.

فحكاية الإجماع من هذين الإمامين -أعني: أبا عمر بن عبد البر وأبا محمد بن حزم- كافٍ في إبطال قول المتعصبين للمذهب.

ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

(2)

.

(1)

ينظر: مراتب الإجماع لابن حزم ص 50.

(2)

جاء في آخر النسخة (أ): وقع الفراغ من نسخها 1304 هـ، في 28 رجب، بقلم الحقير عبد الرحمن العبد الله الشبيلي، قد تملكها من فضل الله وكرمه: موسى بن صالح الرُّبَيِّع غفر الله له ووالديه ومشايخه وكافة إخوانه.

ص: 107